شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب الفدية وجزية الصيد]
قال: ومن حلق أربع شعرات فصاعدا، عامدا أو مخطئا، فعليه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين، أو ذبح شاة، أي ذلك فعل أجزأه.

(3/325)


ش: لا نزاع في وجوب الفدية بحلق الرأس في الجملة، وقد شهد لذلك [نص] الكتاب، قال سبحانه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، أي: فحلق فعليه فدية، أو فالواجب فدية.
1783 - ونص السنة، وهو ما روي عن كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به زمن الحديبية، فقال: «قد آذاك هوام رأسك؟» . قال: نعم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احلق، ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر، على ستة مساكين» . رواه الشيخان وغيرهما، وفي أبي داود قال: «أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية، حتى تخوفت على بصري، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الآية. فدعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لي: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب، أو انسك شاة» . فحلقت رأسي ثم نسكت» .
واختلفت الرواية عن أحمد في القدر الذي يتعلق به الفدية، (فعنه) - وهو اختيار القاضي وأصحابه وغيرهم - تجب في ثلاث فصاعدا، إذ بذلك يسمى حالقا، فيدخل تحت قوله

(3/326)


تعالى: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، إذ التقدير: فحلق، (وعنه) - وهو الأشهر عنه، واختيار الخرقي - لا يجب إلا في أربع فصاعدا، إذ الثلاثة آخر حد القلة، وما زاد عليه كثير، فيتعلق الحكم به دون القليل، (وعنه) - وهو أضعفها، واختيار أبي بكر - لا يتعلق إلا بخمس فصاعدا، (وزوال الشعر) بنورة أو غيره كحلقه، إناطة بالترفه، وإنما ذكر الخرقي الحلق إناطة بالغالب.
وقد دخل في كلام الخرقي شعر الرأس والبدن، ولا إشكال في تعلق الفدية عندنا بشعر البدن، لحصول الترفه به، ثم هل هو مع شعر الرأس كالشيء الواحد، فلو حلق منه شعرتين، ومن شعر الرأس شعرتين وجبت الفدية، ولو حلق منه أربع شعرات، ومن شعر الرأس أربع شعرات لم يجب إلا فدية واحدة، لأن الشعر كله جنس واحد، أو لكل واحد منهما حكم منفرد، لحصول التحلل بأحدهما دون الآخر، فلا تكمل الفدية في الصورة الأولى، وتجب في الصورة الثانية فديتان؟ فيه روايتان منصوصتان، الأولى اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، والثانية اختيار القاضي في التعليق وفي غيره، وابن عقيل.
ولا فرق في زوال الشعر بين من له عذر وهو الذي ورد فيه

(3/327)


النص، ومن لا عذر له، ولا بين العامد والناسي ونحوه، على المنصوص، والمعمول به في المذهب، إذ غاية الناسي ونحوه أنه معذور، وقد وجبت [الكفارة بالنص على المعذور، والفقه] في ذلك أنه إتلاف لا يمكن تداركه، بخلاف اللباس ونحو.
ونص أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في الصيد أنه لا كفارة إلا في العمد، فخرج القاضي ومن بعده منه هنا قولا أنه لا يجب إلا في العمد، تعلقا بظاهر آية الصيد، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، الحديث.
والفدية واحد من ثلاثة أشياء، الصوم، والصدقة، والنسك، كما نص الله عليها، وبينها من له البيان بأنها صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، ويجزئ فيها ما يجزئ في الفطرة، وغالب الروايات وردت بالتمر، ولذلك اقتصر عليه الخرقي، وورد أيضا الزبيب، كما تقدم، وفي رواية في الصحيح: «نصف صاع طعام لكل

(3/328)


مسكين» . وهو يشمل البر والشعير، ولا نزاع في وجوب نصف صاع من التمر، والزبيب، والشعير، وأما من البر فروايتان (إحداهما) كذلك، لظاهر: «نصف صاع طعام» . و (الثانية) وهي أشهرهما - يجزئ مد بر كما في كفارة اليمين وغيرها، ويخير بين الثلاثة مع العذر بلا ريب للنص.
1784 - وفي رواية أبي داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين» .
ومع عدمه فيه روايتان (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي، وإليها ميل أبي محمد - أنه كذلك، لأن الحكم يثبت فيه بطريق التنبيه، والفرع لا يخالف أصله.
(والثانية) يتعين الدم، وبها جزم ابن أبي موسى، والقاضي في جامعه وفي تعليقه، ونص عليها أحمد، ولفظه: لا ينبغي أن يكون مخيرا، لأن الله سبحانه خير الحالق لوجود الأذى، فإذا عدم الأذى عدم التخيير، ووجوب الدم مع عدم العذر للجناية على الإحرام، لا بالقياس على المعذور، والله أعلم.

قال: وفي كل شعرة من الثلاث مد من الطعام.

(3/329)


ش: لما كان الثلاث عند الخرقي هي حد القلة، ووجوب الفدية منوط بما زاد عليها، جعل في كل واحدة من الثلاث مدا من طعام، وعلى المذهب تجب الفدية في الثلاث، فيجب في الشعرتين مدان، وعلى الرواية الضعيفة لا تجب الفدية إلا في خمس، فيجب المد في كل واحدة من الأربع
وبالجملة وجوب المد في الشعرة هو المشهور من الروايات، والمختار لعامة الأصحاب؛ الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، غيرهم، نظرا إلى أن هذا لا مقدر فيه، والمد أقل ما وجب في الشرع فدية، فوجب الرجوع إليه، ولا ينتقص منه، إذ لا ضابط لذلك، ولا يزاد عليه إذ الأصل براءة الذمة.
فإن قيل: فلا يجب شيء نظرا للأصل؟ قيل: ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد
(والثانية) يجب في كل شعرة قبضة من طعام، لأنه حصل نوع تكفير، والنص عن أحمد الذي فيه هذه الرواية أن في الشعرة والشعرتين قبضة.
(والثالثة) يجب في كل شعرة درهم، أو نصف درهم، خرجها القاضي ومن بعده من ليالي منى، ويلزم على ذلك أن يخرج أن لا شيء، وأن يجب كما حكي ذلك في ليالي منى. وفي بعض الشعرة ما في كلها على الأشهر، وقيل: يجب بالقسط، والله أعلم.

(3/330)


قال: وكذلك الأظفار.
ش: الحكم في الأظفار كالحكم في الشعر سواء، في جميع ما تقدم، والجامع حصول الترفه بكل منهما، والله أعلم.

قال: وإن تطيب المحرم عامدا، غسل الطيب، وعليه دم.
ش: أما غسل الطيب فلا ريب فيه، إذ كل من فعل محظورا فإنه يجب عليه تركه، والرجوع إلى أمر ربه.
1785 - وقد ورد في غير هذا عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق، أو قال صفرة، وعليه جبة، فقال: يا رسول الله، كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله سبحانه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي، فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟» قال: «اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال - أثر الصفرة - واخلع الجبة عنك، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» . متفق عليه.
وأما وجوب الدم فلا نزاع فيه، لأنه ترفه بما منع منه، فوجبت الفدية، كحلق الرأس، وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير، وهو كذلك، وقول الخرقي: عليه دم. فيه تجوز، إذ لا يتعين الدم. بل الواجب فدية كفدية حلق الرأس كما

(3/331)


تقدم، وقوله: عامدا. يحترز به عن الناسي، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وكذلك إن لبس المخيط، أو الخف عامدا وهو يجد النعل، خلع وعليه دم.
ش: لا نزاع أيضا في وجوب الفدية بلبس المخيط، وتغطية الرأس، ولبس الخف، بالقياس على حلق الرأس.
(تنبيه) : إذا جمع الجميع، فلبس وغطى رأسه، ولبس الخف، لم تجب إلا فدية واحدة، لأن الجميع جنس واحد.
وقول الخرقي: وهو يجد النعل، احترازا مما إذا عدمه، فإنه يلبس الخف ولا شيء عليه، والله أعلم.

قال: وإن تطيب أو لبس ناسيا فلا فدية عليه.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي محمد، والقاضي في روايتيه، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، الحديث. ويلتزم العموم في المضمرات ولحديث يعلى بن أمية السابق، إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر له فدية، ولو وجبت لذكرها، إذ هو سائل عن حالة، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز، ولا يلزم الحلق، والتقليم، وقتل الصيد، لتعذر تلافيها، بخلاف ما نحن فيه
(والثانية) - واختارها القاضي في تعليقه - تجب الفدية،

(3/332)


لأنه معنى يحظره الإحرام، فاستوى عمده وسهوه، كالحلق [وقلم الظفر] ، واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الله أوجب الكفارة في قتل الخطأ، مع انتفاء القصد، فكذلك هنا، ومنع القاضي العموم في المضمرات، وجعل التقدير: رفع المأثم. وأجاب عن حديث يعلى بأن ذلك قبل تحريم الطيب، بدليل انتظاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للوحي، قال: ولا أثر للتفرقة بالتلافي وعدمه، لأن الفدية تجب لما مضى، وذلك مما لا يمكن تلافيه، انتهى.
وحكم الجاهل بالتحريم حكم الناسي، قاله غير واحد من الأصحاب، وكذلك المكره قاله أبو محمد، والله أعلم.

قال: ويخلع اللباس، ويغسل الطيب.
ش: لما تقدم من الحديث، والله أعلم.

قال: ويفزع إلى التلبية.
ش: أي يسرع إليها استذكارا للحج أنه نسيه، واستشعارا بإقامته [عليه] ، والله أعلم.

قال: ولو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل الإمام فعليه دم.
ش: أما وجوب الدم بما إذا وقف نهارا - أي: ولم يقف إلى الليل - فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف إلى الليل، وقال: «خذوا [عني] مناسككم» .
1786 - وقد قال ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. والواجب على من وقف نهارا أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار، لا أن يستمر الوقوف إلى الليل، فلو دفع قبل الغروب [ثم عاد قبل الغروب] ، فوقف إليه فلا شيء عليه، ولو لم يواف عرفة إلا ليلا

(3/333)


فلا شيء عليه.
وأما وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الإمام فاقتداء بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم لم يدفعوا إلا بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه إحدى الروايتين.
(والثانية) - وهي اختيار جمهور الأصحاب - لا دم عليه، ولا يجب الوقوف حتى يدفع مع الإمام، بل يستحب، إذ لم يثبت أن ذلك نسك، حتى يدخل تحت قوله: «خذوا عني مناسككم» .
وفي بعض النسخ: ولو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل الإمام. فلا يستفاد منه إلا مسألة واحدة، وهي الدفع قبل الإمام، ويكون وجوب الدم مشروطا بمن وقف نهارا، وأظنها أشهر، ولا يحتاج معها إلى تقدير، ولكن الأولى عليها شرح أبو محمد، والله أعلم.

قال: ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل - من غير الرعاء وأهل سقاية الحاج - فعليه دم.
ش: المبيت بمزدلفة ليلتها واجب في الجملة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه باتوا بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» . ويجب بتركه دم، نص عليه، لما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكبقية الواجبات، وقيل عنه: لا دم عليه. ولا عمل عليه.
والواجب أن لا يدفع قبل نصف الليل، ولو دفع بعده جاز، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم ضعفة أهله بعد نصف الليل.

(3/334)


1787 - «وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا ممن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» . أخرجه الجماعة.
1788 - وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تعني عندها» ، رواه أبو داود وغيره.
1789 - وعن أم حبيبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بها من جمع بليل، وفي رواية قالت أم حبيبة: كنا نفعله على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نغلس من جمع إلى منى» . رواه النسائي.
واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرعاء، وأهل السقاية، فلم يجعل عليهم مبيتا، لأن بهم حاجة إلى حفظ مواشيهم، وسقي الحاج، فلذلك رخص لهم، بخلاف غيرهم، ولم أر من صرح باستثنائهما إلا أبا محمد، حيث شرح كلام الخرقي، والله أعلم.

قال: ومن قتل، وهو محرم، من صيد البر عامدا أو

(3/335)


مخطئا، فداه بنظيره من النعم، إن كان المقتول دابة.
ش: وجوب الجزاء بقتل صيد البر على المحرم إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، الآية.
ويستثنى من ذلك ثلاثة أشياء (أحدها) إذا صال الصيد عليه، ولم يقدر على دفعه إلا بقتله، فإنه يباح له قتله ولا جزاء عليه، لأنه قد التحق بالمؤذيات طبعا، مع أنه المتعدي على نفسه، وعن أبي بكر فيه الجزاء، نظرا إلى أن قتله لحاجة [نفسه] أشبه قتله لحاجة الأكل.
(الثاني) إذا خلص الصيد من سبع، أو شبكة، ونحو ذلك، فأفضى ذلك إلى قتله، فلا ضمان فيه، نظرا إلى أنه فعل مباح مطلوب، أشبه مداواة الولي [لموليه] ونحوه، وقيل: عليه الضمان، إذ غايته أنه لم يقصد قتله، [فهو] كالخاطئ.
(الثالث) إذا قتله في مخمصة، فعن أبي بكر: لا ضمان عليه، إناطة بإباحة قتله، والمذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما وجوب الضمان، لعموم الآية، ولأن إتلافه لمحض نفع نفسه،

(3/336)


من غير تعد من الصيد، أشبه حلق الشعر لأذى برأسه. انتهى.
والصيد [الذي يتعلق به الجزاء ما كان وحشيا، مأكولا، ليس بمائي، فيخرج بالوصف الأول ما ليس بوحش كبهيمة الأنعام ونحوها، والاعتبار] في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحش وجب الجزاء، ولو توحش الأهلي فلا جزاء، ويستثنى من ذلك ما تولد بين وحشي وغيره، تغليبا للتحريم، واختلف في الدجاج السندي، والبط، هل فيهما جزاء، على روايتين، والصحيح في البط [وجوب] الجزاء، نظرا لأصله، وهو التوحش.
ويخرج بالوصف الثاني ما ليس بمأكول، كسباع البهائم، وجوارح الطير [ونحو ذلك] ، قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما جعلت الكفارة في [الصيد] المحلل أكله. واختلف في الثعلب، وسنور البر، والهدهد، والصرد، هل فيها جزاء؟ كما اختلف في إباحتها، وكذلك كل ما اختلف في إباحته، مختلف في جزائه، هذا الصحيح من الطريقتين عند أبي محمد، والقاضي وغيرهما، وقيل: لا يلزم ذلك، بل يجب الجزاء في الثعلب ونحوه وإن حرمنا أكله، تغليبا للتحريم، كما

(3/337)


وجب الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره، ومما يستثنى من القاعدة القمل، على رواية قد تقدمت، واستثنى بعض الأصحاب أم حبين، وهي دابة منتفخة البطن، تستخبث عند الأصحاب.
1790 - فأوجب فيها جديا تبعا لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه روي عنه أنه قضى فيها بذلك، والصحيح عدم استثنائها، جريا على القاعدة.
ويخرج بالوصف الثالث ما كان مائيا لقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الآية، والمائي: هو ما يعيش في الماء، ويبيض فيه، ويفرخ فيه، وإن كان يعيش في البر، كالضفدع والسلحفاة، [ونحوهما] ، وعن ابن أبي موسى أنه أوجب الجزاء في الضفدع، وعلى قياسه كل ما يعيش في البر، تغليبا للتحريم.

(3/338)


ويخرج مما تقدم طير الماء، لكونه مما يفرخ، ويبيض في البر، وإنما يدخل في الماء ليتعيش فيه، ويتكسب منه.
- واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجراد، فقيل: هو من صيد البر، لأنه يطير فيه، فهو كغيره من الطيور، ولذلك يهلكه الماء.
1791 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما يدل عليه أو أنه من صيد البحر.
1792 - ويحكى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

(3/339)


1793 - وعن عروة: هو من نثرة حوت.
1794 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجراد من صيد البحر» . وفي حديث [آخر] : «إنما هو من صيد البحر» . لكن قال أبو داود: كلا الحديثين وهم. وقال أبو بكر المعافري: ليس في الباب حديث صحيح، على روايتين. انتهى.
ولا فرق في وجوب الجزاء بقتل الصيد بين العمد والخطأ، على المنصوص المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لأنه ضمان إتلاف، فاستوى عمده وخطؤه، كغيره من المتلفات.
1795 - وأيضا «قول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع يصيبه المحرم كبشا.» وفي رواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في

(3/340)


الضبع إذا أصابه المحرم كبش» . فعلق الوجوب على إصابة المحرم، وكذلك حكم الصحابة - على ما سيأتي - يدل على ذلك.
(والثانية) يختص الضمان بالعمد، لظاهر قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ودليل خطابه أن غير المعتمد لا جزاء عليه، وأجيب بأن الآية نزلت في المتعمد، بدليل: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ، وما نزل على سبب لا مفهوم له اتفافا، انتهى.

(3/341)


والجزاء هو فداء الصيد بنظيره من النعم إن كان المقتول دابة، لقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، وهذا على قراءة من نون (جزاء) ورفع (مثل) واضح، إذ التقدير: فعليه جزاء مثل الذي قتل من النعم، أي: صفته مثل ما قتل، ف (مثل) هي نعت للجزاء. وأما على قراءة من لم ينون (جزاء) وخفض (مثل) بإضافته إليه، فقد يقال: ظاهره وجوب القيمة، إذ ينجلي إلى: فجزاء من مثل المقتول من النعم، أي: من مثل جنس المقتول من النعم، والواجب [في المقتول من النعم القيمة، فكذلك في الصيد. وهذا أولا ممنوع، لأن الحيوان قد يجب فيه مثله، بدليل وجوب المثل في الضبع ونحوه، وقد ثبت ذلك بالسنة، ثم لو سلم ثم لا نسلمه هنا، إذ ثمة الحق لآدمي، والواجب] المثلية في جميع الصفات، أو في المقصود منها، ويتعذر غالبا وجود ذلك، فلذلك عدل إلى القيمة، وهنا الحق للرب سبحانه وتعالى، والواجب المثل تقريبا، وقد وكله سبحانه إلى اجتهاد ذوي عدل منا، وتعين هذا القراءة الأخرى، إذ الأصل توافق القراءتين.
ثم إن المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك أصحابه نجوم الهدى، الذين خوطبوا بالحكم إنما حكموا بالمثل لا بالقيمة.

(3/342)


1795 - م - «فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع يصيبه المحرم كبشا، وجعله من الصيد.» رواه أبو داود وابن ماجه.
1796 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة» . قال: والجفرة، التي قد ارتعت. رواه الدارقطني.
1797 - وعن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرجل إلى جنبه: تعال حتى نحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلا فحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقال: لا. فقال: هل تعرف هذا الرجل الذي حكم

(3/343)


معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وهذا عبد الرحمن بن عوف. رواه مالك في الموطأ.
1798 - وعن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ومعاوية، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: في النعامة بدنة.
1799 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حكم في حمار الوحش ببقرة.
1800 - وعن ابن عباس، وأبي عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما حكما فيه ببدنة، لا يقال: الحكم بذلك لأنه وافق القيمة، لأنا

(3/344)


نقول: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم حكما عاما، وكذلك الصحابة، وعمر وعبد الرحمن، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لم يحضرا الظبي، ولا سألا عن صفته، ووجوب القيمة متوقف على ذلك، أما وجوب النظير في الصورة تقريبا فلا يتوقف على ذلك. انتهى.
والمرجع في النظير إلى ما حكم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أصحابه، فإن لم يكن فقول عدلين من أهل الخبرة وإن كانا قتلا، وبيان تفاصيل ذلك له موضع آخر.
وقول الخرقي: إن كان المقتول دابة. يحترز عما إذا كان طائرا كما سيأتي، فأطلق الدابة على ما في البر من الحيوان، وهو عزيز إذ الدابة في الأصل لكل ما دب، ثم في العرف للخيل والبغال والحمير، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] الآية، والله أعلم.

قال: وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه، إلا أن

(3/345)


تكون نعامة، فيكون فيها بدنة، أو حمامة وما أشبهها، فيكون في كل واحد منها شاة.
ش: هذا قسيم: إن كان المقتول دابة. وملخصه أن الطيور على أربعة أقسام (أحدها) النعامة، وسماها طيرا لأن لها جناحين، وفيها بدنة بلا ريب، لقضاء الصحابة بذلك، ولشبهها لها في الصورة (الثاني) الحمام، فيجب فيه شاة.
1801 - لأن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حكموا بذلك، ويلحق به ما أشبهه مما يعب الماء، أي:

(3/346)


يكرعه كرعا ككرع الشاة، ولا يأخذه قطرة قطرة كالعصفور ونحوه، فيجب فيه شاة، لشبهه لها في كرع الماء.
(الثالث) ما كان أصغر [من الحمام] ولم يشبهها، فتجب قيمته، لتعذر مثله من النعم.
(الرابع) ما كان أكبر من الحمام كالحبارى، والكركي ونحوهما، ففيه وجهان (أحدهما) - وهو اختيار ابن أبي موسى - يجب شاة، إذ وجوبها في الحمام تنبيه على وجوبها هنا.
1802 - مع أن ذلك يروى عن ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والثاني) - وهو ظاهر كلام أبي البركات - تجب القيمة، إذ المعروف عن الصحابة القضاء في الحمام، وإذا لم يتحقق لهذا مثل، فيرجع إلى قيمته كالعصافير.
وقول الخرقي: فداه بقيمته في موضعه، أي: بقيمة الطائر في الموضع الذي أتلفه فيه، كغيره من المتلفات، والله أعلم.

قال: وهو مخير إن شاء فداه بالنظير، أو قوم النظير بدراهم، ونظر كم يجيء به طعاما، فأطعم كل مسكين مدا، أو صام عن كل مد يوما، موسرا كان أو معسرا.
ش: يخير قاتل الصيد الذي له نظير بين التكفير بواحد من هذه الثلاثة المذكورة، موسرا كان أو معسرا، على المختار للأصحاب، والمنصوص من الروايتين، للآية الكريمة: إذ

(3/347)


أصل (أو) التخيير. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو على ما في القرآن، وكل شيء في القرآن (أو) فإنما هو على التخيير.
1803 - وهذا اللفظ يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضا، ولأنها فدية وجبت بفعل محظور، فخير فيها كفدية الأذى.
(والثانية) لا يخير، بل الجزاء مرتب، فيجب المثل، فإن لم يقدر عليه أطعم، فإن لم يجد صام، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه حكموا بالنظير، وظاهر حكمهم تعينه، وإلا لذكروا قسيميه، وبالقياس على دم المتعة، (وجوابه) بأن حكمهم بالنظير لتبيينه لا لتعيينه، والقياس فاسد، لمخالفته النص. انتهى.
والتخيير أو الترتيب بين الثلاثة على المذهب بلا ريب، (وعنه) أن ذلك بين شيئين، وأنه لا مدخل للإطعام في جزاء الصيد، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام.
1804 - ويحكى هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا عمل عليه. إذا تقرر هذا فمن أراد إخراج النظير لزمه ذبحه، لأن الله سماه هديا، والهدي يجب ذبحه، والتصدق به على مساكين

(3/348)


الحرم، لأن الله سبحانه قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، ولا يختص ذبحه بأيام النحر، بل بالحرم، ومن أراد التقويم فإنه على المشهور والصحيح من الروايتين يقوم المثل.
(والرواية الثانية) يقوم الصيد، وأيما قوم فإنه يشتري بالقيمة طعاما، ويطعمه المساكين، على المذهب أيضا من الروايتين، والرواية الأخرى يجوز أن يتصدق بالقيمة، حكاها ابن أبي موسى، وإذا أطعم أطعم كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، على المنصوص والمشهور كبقية الكفارات.
وظاهر كلام الخرقي الاجتزاء بمد مطلقا، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع، ولا يجزئ من الطعام إلا ما يجزئ في الفطرة، قاله أبو محمد هنا، وفي فدية الأذى، لكنه فسر ذلك بالبر، والشعير، والتمر، والزبيب، وقد يوهم كلام أبي البركات الاقتصار على البر والشعير والتمر، ولأبي محمد هنا احتمال أنه يجزئ ما يسمى طعاما، نظرا لإطلاق الآية.
(تنبيه) : يعتبر قيمة المثل في الحرم، لأنه محل ذبحه، ومن أراد الصيام فالذي قال الخرقي وتبعه أبو محمد في كتابه الصغير: أنه يصوم عن كل مد يوما، وحكى ذلك في

(3/349)


المغني رواية وحكى رواية أخرى أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، ثم حكى هو وصاحب التلخيص عن القاضي أنه حمل رواية المد على الحنطة، ورواية نصف الصاع على التمر والشعير، إذ الصيام مقابل بإطعام لمسكين في كفارة الظهار وغيرها، فكذلك هنا، والذي رأيته في روايتي القاضي أن حنبلا وابن منصور نقلا عنه أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، وأن الأثرم نقل في فدية الأذى عن كل مد يوما وعن كل نصف صاع تمر أو شعير يوما، [قال: وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، قال: ويمكن أن يحمل قوله: عن كل نصف صاع يوما. على أن نصف الصاع من التمر والشعير لا من البر] ، انتهى.
وعلى هذا فإحدى الروايتين مطلقة، والأخرى مقيدة، لا أن الروايتين مطلقتان، وإذا يسهل الحمل، وكذلك قطع به أبو البركات وغيره، إلا أن عزو ذلك إلى الخرقي فيه نظر. وما لا نظير له من الصيد يخير قاتله على المذهب بين أن يشتري بقيمته طعاما فيطعمه المساكين، وبين أن يصوم، والله أعلم.

قال: وكلما قتل صيدا حكم عليه.
ش: يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني والثالث، كما يجب بالأول، ولا يتداخل، على المختار، والمشهور من الروايات

(3/350)


لأنه بدل متلف، يجب فيه المثل أو القيمة، فلم يتداخل، كبدل مال الآدمي، قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ فيمن قتل، ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أو لا.
(والثانية) : إن كفر عن الأول فللثاني كفارة، وإلا يتداخلا، لأنها كفارة تجب لفعل محظور في الإحرام، فتداخل جزاؤها قبل التكفير، كاللبس، والطيب. (ويجاب) بأن هذا بدل متلف، فلم يتداخل، بخلاف ثم، فإنه لمحض [المخالفة فهو] كالحدود.
(والثالثة) لا يجب إلا جزاء الأول فقط، تمسكا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] . [ويجاب] بأن الانتقام لأجل المخالفة، وانتهاك محارم الرب سبحانه، وذلك لا يمنع وجوب البدل، ويرشح هذا أن قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ، أي والله أعلم قاصدا للفعل، غير عالم بالتحريم، وهذا هو الخاطئ، ثم قوله بعد: {وَمَنْ عَادَ} [المائدة: 95] ، أي: إلى القتل، بعد أن علم النهي، فإن الله تعالى ينتقم منه لمخالفته، والجزاء على ما تقدم، والله أعلم.

قال: ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد.

(3/351)


ش: هذا المختار من الروايات، اختاره ابن أبي موسى وابن حامد، والقاضي، وأبو الخطاب، وأبو محمد وغيرهم، لظاهر قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، أي: فالواجب مثل [ما قتل] من النعم. أو: فعلى القاتل مثله. وهذا يشمل الواحد والجماعة، ويمنع من إيجاب زائد على ذلك، ولأنه بدل متلف، فلم يجب فيه إلا جزاء واحد، كبدل مال الآدمي.
(والثانية) على كل واحد جزاء، اختاره أبو بكر، نظرا لوجود المخالفة من كل واحد منهم، وزجرا له عن فعله.
(والثالثة) إن كفروا بالمال فكالأول، لأنه إذا تمحضت بدليته، وإن كفروا بالصيام فعل كل واحد كفارة، لأنها إذا تتمحض كفارة، وهي كفارة قتل، فأشبهت قتل الآدمي على المذهب.
(تنبيهان) : «أحدهما» . هذه المسألة فيما إذا [كان] كل منهم صالحا لترتب الجزاء عليه، كما لو كانوا محرمين، أما لو لم يكن كذلك - كما إذا كان أحدهم حلالا - فإنه لا شيء عليه، ثم إن سبق الحلال بالجرح فعلى المحرم جزاؤه مجروحا، وإن سبق المحرم ضمن أرش الجرح فقط، وإن وجدت الجراحات معا فهل على المحرم بقسطه

(3/352)


كما لو كان المشارك له مثله، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، أو يكمل الجزاء عليه، لتعذر إيجاب الجزاء على شريكه؟ فيه وجهان، هذا تفصيل أبي محمد، وفيه بحث.
(والثاني) : قال القاضي وأبو الخطاب: إن المنصوص في الصوم أن على كل واحد كفارة، وأن ابن حامد قال بالاشتراك، كما لو كان التكفير بغيره، والله أعلم.

قال: ومن لم يقف بعرفة حتى يطلع الفجر من يوم النحر تحلل بعمرة.
ش: من فاته الوقوف بعرفة فهل يجب عليه أن يمضي في حج فاسد ويقضي، لأنه بالإحرام لزمه إتمامه، وتعذر الإتيان بالبعض لا يمنع الإتيان بما بقي، أو لا يجب عليه، بل

(3/353)


يتحلل منه لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذلك.
1805 - فعن سليمان بن يسار أن أبا أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج حاجا، حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله، وإنه قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم النحر، فذكر ذلك له، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت، فإذا أدركك الحج قابلا فاحجج، واهد ما استيسر من الهدي.
1806 - وعنه أيضا قال: إن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة، كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اذهب إلى مكة وطف أنت ومن معك، وانحروا هديا إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، وارجعوا، فإذا كان عاما

(3/354)


قابلا فحجوا وأهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع. رواهما مالك في الموطأ.
1807 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك.
1808 - وعن عطاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يدرك الحج فعليه الهدي، وحج من قابل، وليجعلها عمرة» . رواه ابن أبي شيبة

(3/355)


وغيره، لكنه مرسل، قيل: وضعيف؟ على روايتين المذهب منهما بلا ريب الثاني، وعليه: المذهب أيضا المنصوص أنه يتحلل بعمرة، اختاره الخرقي، وأبو بكر، والقاضي وأصحابه، والشيخان، فيطوف ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم قد حل، وهذا ظاهر ما تقدم عن عمر وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
1809 - ويروى أيضا عن ابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

(3/356)


(وعن أحمد رواية أخرى) - حكاها أبو الحسين، وأبو الخطاب، وهو قول ابن حامد -: إحرامه بحاله، ويتحلل منه بطواف وسعي، إذ هذا مقتضى الإحرام المطلق، فعلى الأولى صرح أبو الخطاب، وصاحب التلخيص وغيرهما أن إحرامه ينقلب بمجرد الفوات إلى عمرة، ولفظ أبي محمد في المغني: يجعل إحرامه بعمرة، ولا فرق بين الفوات لعذر - من مرض، أو ضياع نفقة، أو غلط عدد ونحو ذلك - أو لغير عذر من توان، أو نوم، أو تتشاغل بما لا يغني، إلا في المأثم، قال ذلك صاحب التلخيص وغيره. وقد استفيد من كلام الخرقي أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر، ولا نزاع في ذلك، وحديث عروة بن مضرس - وقد تقدم - يدل على ذلك، وكذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك» . واختلف في أول الوقت، فالمذهب عندنا أنه من طلوع الفجر يوم عرفة، لحديث عروة بن مضرس: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه» ، الحديث، واختار أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص

(3/357)


العكبريان بأن أوله زوال الشمس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حينئذ. قال: وذبح إن كان معه هدي.
ش: يعني إذا فاته الحج، وتحلل بعمرة، فإن كان معه هدي ساقه فإنه يذبحه، كما لو أحرم بعمرة ابتداء، وساق هديا، قال ابن أبي موسى وصاحب التلخيص: ولا يجزئه عن دم الفوات. وأطلقا، وقال أبو محمد في المغني: لا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء، والذي يظهر النظر في هذا الهدي، فإن كان واجبا فإنه ليس له صرف هذا الوجوب إلى وجوب آخر، وذبحه عن دم الفوات، وإن قلنا: لا قضاء عليه وإن كان تطوعا، فهذا باق على ملكه، فله أن يذبحه عن الفوات إن قيل بعدم القضاء، والله أعلم.

قال: وحج من قابل وأتى بدم.
ش: يعني يلزم من فاته الحج القضاء على الفور، والهدي، وهذا إحدى الروايات، وأصحها عند الأصحاب،

(3/358)


لما تقدم من قضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن حديث عطاء.
(والثانية) نقلها الميموني: يلزمه القضاء، ولا يلزمه الهدي، وإلا لزم المحصر هديان؛ هدي للإحصار وهدي للفوات، ولا يلزمه إلا هدي واحد
(والثالثة) نقلها أبو طالب: يلزمه الهدي لما تقدم، ولا يلزمه القضاء حذارا من وجوب الحج على إنسان مرتين، والنص قد شهد بمرة، فعلى هذا يذبح الهدي في عامه، وعلى الأول يذبحه في حجة القضاء. ومحل الخلاف في القضاء فيما إذا كان الذي فاته تطوعا، أما إن كان واجبا بأصل الشرع أو بغيره، فإنه يفعله ولا بد بالوجوب السابق.
(تنبيه) : قال أبو محمد: إذا اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج من قابل فله ذلك، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه كالعمرة، قال: ويحتمل أنه ليس له ذلك، لظاهر قول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن إحرام الحج يصير في غير أشهره. انتهى.
وهذا ظاهر في أن الإحرام لا ينقلب بمجرد الفوات بعمرة، وقد صرح أبو الخطاب بأن فائدة الخلاف أنه إذا قيل بالانقلاب له أن يدخل عليه الحج، وإذا قيل بعدم الانقلاب [كما يقوله ابن

(3/359)


حامد] لا يدخل عليه الحج، والله أعلم.

قال: وإن كان عبدا لم يكن له أن يذبح.
ش: العبد لا يلزمه هدي، لأنه في حكم المعسر، إذ لا مال له، بل هو أسوأ حالا منه، لأنه لا يملك، ولو ملك على ما عليه الفتيا، ولهذا قال الخرقي: إنه ليس له الذبح مطلقا،

(3/360)


بناء على قاعدته، من أنه لا يملك، والتكفير إنما يكون بما يملكه، إذ ذلك محنة، ولا محنة بما لا يملك، أما على الرواية الأخرى التي نقول فيها: إنه يملك، فمتى ملكه سيده مالا، وأذن له في التكفير فله ذلك، لوجود المقتضي وانتفاء المانع، هذا هو الجادة عند القاضي ومن بعده، وذهب كثير من متقدمي الأصحاب أن له التكفير بإذن سيده وإن لم نقل بملكه، بناء على أحد القولين من أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر عنه، أو أنه يثبت له ملك خاص [بقدر ما يكفر] كما نقوله في التسري، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وحيث جاز له التكفير بإذن السيد، فهل يلزمه ذلك؟ قال القاضي، وابن عقيل - وتبعه أبو محمد هنا - باللزوم، لأنه واجب، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، لا تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] .
وقال أبو محمد في الكفارات على كلتي الروايتين: لا يلزمه التكفير، وإن أذن له سيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك بما هو أبسط من هذا.
(تنبيه) : الحكم في كل دم لزم العبد في الإحرام حكم ما تقدم، والله أعلم.

(3/361)


قال: وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما.
ش: إذا انتفى الهدي في حق العبد انتفى الإطعام أيضا، إذ المعنى فيهما واحد، وإذا يتعين في حقه الصوم، ويصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما، جريا على قاعدة الخرقي من أن اليوم يقابل المد، وقد تقدم أن المذهب أنه يقابل المد من البر، أما من غيره فنصف الصاع. وقال أبو محمد: الأولى أن يكون الواجب هنا من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة، اقتداء بقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم لهبار، والله أعلم.

قال: ثم يقصر ويحل.
ش: هذا تنبيه على أن العبد لا يحلق، لا هنا ولا في موضع آخر، لأن الشعر ملك للسيد، ويزيد في قيمته، ولم

(3/362)


يتعين زواله، فلم يكن له ذلك كغير حال الإحرام، نعم إن أذن له سيده جاز، إذ الحق له، والله أعلم.

قال: وإذا أحرمت المرأة بواجب لم يكن لزوجها منعها.
ش: إذا أحرمت المرأة بحج أو عمرة فلا يخلو إما أن يكون بإذن زوجها أو بغير إذنه. فإن كان بإذنه لم يملك تحليلها بلا ريب، وإن كان ما أذن فيه تطوعا، لأنه قد أسقط حقه فيما يلزمها المضي فيه، وهذه الصورة ترد على عموم مفهوم [كلام] الخرقي، إذ مفهومه أن له منعها في التطوع مطلقا. وإن كان إحرامها بغير إذنه فلا يخلو إما إن يكون بواجب أو بتطوع. فإن كان بواجب فلا يخلو إما أن يكون وجوبه بأصل الشرع، أو بإيجابها على نفسها. فإن كان بأصل الشرع لم يملك منعها، على المذهب، كما لو صلت الفريضة في أول وقتها ونحو ذلك.
قال في التلخيص: وقيل في ذلك روايتان، [ولا فرق] بين أن تكمل شروط الحج في حقها أولا، كما إذا لم تجد الاستطاعة أو المحرم، على ظاهر إطلاق الأصحاب، وصرح به أبو محمد في شرط الاستطاعة وله فيه احتمال. أن له منعها.

(3/363)


وإن كان بإيجابها على نفسها فروايتان، ذكرهما القاضي، وصاحب التلخيص، والمنصوص منهما أنه ليس له ذلك، قال في رواية ابن إبراهيم - في المرأة تحلف بالحج والصوم، ويريد زوجها منعها، فقال -: ليس له ذلك، قد ابتليت، وابتلي زوجها. قال القاضي: حلفت، أي: نذرت.
(الثانية) خرجها القاضي من إحدى الروايتين في أن للسيد تحليل عبده، والفرق أن النذر من جهتها، أشبه التطوع.
والمذهب الأول، وبه قطع الشيخان، إذ بعد الإيجاب تحتم عليها الفعل، فهو كالواجب الأصلي. ولهذا المعنى قال القاضي: لا يمتنع أن نقول: إذا نذرت أن تحج متى شاءت: أن له تحليلها. انتهى.
وإن كان الإحرام بتطوع فروايتان: (إحداهما) -: وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد وأبي محمد - له منعها، حذارا من أن تتسبب في إسقاط واجب عليها، وهو حق الزوج، [بما ليس بواجب] ، لا يقال: بعد الإحرام قد صار واجبا، فلا فرق، لأنا نقول: وجوب حق الزوج مقدم، فاقتضى تقديمه.
(والثانية) - وهي أصرحهما - ليس له منعها، اختارها أبو بكر في الخلاف، والقاضي، وقال: تأملت كلام أحمد فوجدت أكثره يدل على ذلك، لأنها عبادة تلزم بالدخول فيها، فإذا عقدها بغير إذن

(3/364)


سيده لم يملك فسخها أصله الإيمان ولعموم {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، انتهى.
ولا نزاع عندهم فيما علمت أن إحرامها ينعقد بدون إذنه، لأن الحج عبادة محضة أشبه الصلاة والصوم.
(تنبيهان) : «أحدهما» : معنى منعها أنه يأمرها بالتحلل، فتصير كالمحصر على ما تقدم، فإن أبت أن تتحلل فله مباشرتها والإثم عليها، قاله صاحب التلخيص.
(الثاني) : إذا لم تحرم فله منعها من حج التطوع بلا نزاع، وكذلك من حج الفرض إذا لم تكمل الشروط، قاله أبو محمد [ومع استكمالها ليس له منعها من الواجب بأصل الشرع. وفي المنذور روايتان] وهذا أيضا وارد على عموم مفهوم كلام الخرقي، إذ مفهومه أنها إذا لم تحرم فله منعها مطلقا، والله أعلم.

[سوق الهدي]
قال: ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء.
ش: سوق الهدي يقع على ضربين: واجب وتطوع،

(3/365)


وسيأتي إن شاء الله تعالى، والواجب على ضربين أيضا: (أحدهما) : واجب عينه عما في ذمته، من هدي متعة، أو قران، أو نذر، أو غير ذلك، وهذا مراد الخرقي، فهذا إذا عطب دون ملحه الذي هو الحرم فهل له استرجاعه، فيصنع به ما شاء، من أكل وبيع ونحو ذلك، أم لا؟ فيه روايتان: (إحداهما) - وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى -: له ذلك، لأنه إنما أوجبه عما في ذمته، ولم يقع عنه، فيكون له العود فيه، كمن أخرج زكاة ماله الغائب، فبان أنه كان تالفا.
1810 - وقد روى سعيد: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا أهديت هديا تطوعا فعطب فانحره، ثم اغمس النعل في دمه، ثم اضرب بها صفحته، فإن أكلت أو أمرت به غرمت، وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره، ثم كله إن شئت، وأهده إن شئت، وبعه إن شئت، وتقو به في هدي آخر.
(والثانية) : -

(3/366)


ليس له ذلك، لأن حق الفقراء قد تعلق به، أشبه ما لو عينه ابتداء بنذره.
(الثاني) : من ضربي الواجب عينه ابتداء لا عما في ذمته، كأن قال: هذا لله. ونحو ذلك، فهذا إذا عطب لا يرجع فيه بلا ريب، لأنه قد صار لله تعالى، أشبه الدراهم ونحوها.
1811 - ولدخوله تحت قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تعد في صدقتك» ، الحديث، ويصنع به ما يصنع بهدي التطوع على ما سيأتي.
(تنبيه) : تعيين الهدي لا يحصل إلا بالقول، بأن يقول: هذا هدي، أو نحو ذلك، من ألفاظ النذر، على المذهب المعروف المشهور، ولأبي الخطاب احتمال بالاكتفاء بالنية، وتوسط أبو محمد فضم مع النية التقليد أو الإشعار، وحكاه مذهبا، ولا يتابع على ذلك، وقد يشهد لقوله صحة الوقف بالفعل، كما إذا بني بيته مسجدا، أو جعل أرضه مقبرة ونحو ذلك، لكن ثم لا بد من قوله وهو أن يأذن للناس في الصلاة في المسجد، أو الدفن في المقبرة، والله أعلم.

(3/367)


قال: وعليه مكانه.
ش: إذا عين واجبا عما في ذمته، فعطب دون محله، فإن عليه مكانه، إذ ما في ذمته لا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه، أشبه ما إذا أخرج الدراهم ليدفعها عن دينه، فتلفت قبل الأداء.
1812 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء، وإن كانت نذرا فعليه البدل» . وفي رواية: «ثم عطبت» ، رواه الدارقطني لكنه ضعيف، وقد رواه مالك في الموطأ من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نفسه. وقد يقال: مفهوم كلام الخرقي أن ما عطب في محله لا

(3/368)


يرجع فيه، أو ليس عليه بدله، وليس كذلك، فلا فرق بين أن يعطب في محله أو دونه، في أنه إن كان عن واجب في الذمة فلا بد من نحره صحيحا، وإن كان معينا ابتداء نحره مطلقا، والله أعلم.

قال: وإن كان ساقه تطوعا فعطب دون محله] نحره موضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يأكل منه، ولا أحد من أهل رفقته.
ش: إذا ساق هديا يقصد به التقرب إلى الله سبحانه، لا عن واجب في ذمته، أو عن واجب لم يعينه عنه كما تقدم، فإنه إذا عطب دون محله فإنه ينحره في موضعه، ويخلي بينه وبين [المساكين] ولا يأكل منه، ولا أحد من رفقته.
1813 - لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث معه بالبدن، ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليها موتا، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب بها صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» . رواه مسلم وغيره.

(3/369)


1814 - وبهذا يتقيد حديث ناجية الخزاعي قال قلت: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي، قال: «انحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بينها وبين الناس فيأكلونها» . رواه الترمذي وأبو داود.
والمعنى - والله أعلم - في منع رفقته ونفسه من الأكل ليبالغ في حفظها، لأنه إذا علم أنها إذا عطبت لا يحصل له منها نفع البتة بالغ في حفظها. وحكم الواجب المعين حكم التطوع، إلا أن بينهما فرقا، وهو أن الواجب المعين لا بد من نحره مع عطبه، فلا طريق له في رجوعه إلى ملكه، وفي التطوع وما نواه عن الواجب ولم يعينه، له أن يفسخ نيته فيه، فيرجع إلى ملكه، يصنع به ما يشاء، والله أعلم.

قال: ولا بدل عليه.

(3/370)


ش: إذا لم يلتزم شيئا في ذمته لم يلزمه بدله، والله أعلم.

قال: ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع.
ش: [وكذلك القران] وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استغنى بذكر التمتع عن القران لأنه نوع تمتع، لترفهه بأحد السفرين، وبالجملة لا نزاع في المذهب فيما علمت أنه لا يأكل من جزاء الصيد، لتمحض بدليته، ولا من المنذور لتعيينه لله، نعم أجاز أبو بكر - ومال إليه أبو محمد - الأكل من أضحية النذر، ولا نزاع أنه يأكل من هدي المتعة، وكذلك القران على المذهب، وقد تقدم «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت قارنة، وبقية نسائه كن متمتعات.
» 1815 - لأن «في حديث عائشة الطويل قالت: فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفضت، قالت: فأتينا بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسائه بالبقر» .

(3/371)


1816 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن» . رواه أبو داود. وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يأكل [منه، وهل يأكل] مما عدا ذلك، نظرا للإباحة الأصلية، ولا نص مانع، أو لا يأكل، وهو الأشهر، لأنه وجب بفعل محظور، أشبه جزاء الصيد؟ فيه روايتان، وألحق ابن أبي موسى الكفارة بجزاء الصيد والنذر، وجوز الأكل مما عدا ذلك، ويتركب من مجموع الأقوال - ما عدا جزاء الصيد والنذر، وهدي المتعة - أربعة أقوال: الجواز، وعدمه، والجواز إلا في دم الكفارة، وعدمه إلا في دم القران.
(تنبيه) : مفهوم كلام الخرقي أنه يأكل من التطوع، وهو كذلك، بل يستحب، قال سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، «وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم: ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت،

(3/372)


فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.» وهدي التطوع ما ساقه تطوعا، وكذلك ما أوجبه ابتداء، قاله أبو محمد. قال: وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه.
ش: جميع الهدايا - ما عدى جزاء الصيد، ودم الإحصار، وما وجب بفعل محظور - محلها الحرم، لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وكذلك جزاء الصيد، على المذهب بلا ريب، لقوله سبحانه: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
(وعنه) يفدي حيث القتل كبقية المحظورات، وعلى المذهب إن اضطر إليه فهل يأتي بالجزاء موضع اضطراره أو يختص بالحرم؟ فيه وجهان. وأما دم الإحصار ففيه روايتان أيضا وقد تقدمتا، والمذهب منهما عكس المذهب في الصيد. وأما ما وجب بفعل محظور - كفدية حلق الرأس، واللبس، ونحوهما - فعنه يختص بالحرم، لظاهر: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وعنه: ينحر حيث فعل.

(3/373)


1817 - لما تقدم من «حديث كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالفدية وهو بالحديبية، ولم يأمره ببعثها إلى الحرم. وفي رواية أنه قال: فحلقت رأسي ثم نسكت» . وقال القاضي، وابن عقيل، وأبو البركات: ما فعله لعذر ينحر هديه [حيث استباح] ، وما فعله لغير عذر اختص بالحرم. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما نص على الحلق مع العذر فقط، فيحتمل أن يختص الجواز به، دون غيره من المحظورات، لأن النص ورد به، فيخرج من عموم (ثم محلها) ، ويبقى فيما عداه على قضية العموم، والقاضي ومن وافقه يقيسون على الصورة ما في معناها، وهو أوجه، إذ المذهب تخصيص العموم بالقياس، [والطعام تبع للنحر ففي أي موضع قبل النحر فالطعام كذلك] .
(تنبيهات) :
«أحدها» : إنما يجب النحر في الحرم إذا قدر على إيصال الهدي إليه، إما بنفسه، أو بمن يرسله معه، فإن عجز مطلقا نحر حيث كان، كما دل عليه كلام الخرقي، لأنه فعل ما استطاع، فلا يكلف زيادة عليه، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وخرج ابن عقيل رواية - وصححها - فيمن حصر عن الخروج لذبح الهدي المنذور، أنه يذبحه في

(3/374)


موضع حصره، ولا يلزمه تنفيذه، كدم الإحصار على المذهب. «الثاني» : حيث قيل: النحر في الحرم، فإنه لا يجوز في الحل، لكنه لا يختص بمحل من الحرم، بل في أي موضع نحر من الحرم أجزأه، وحيث قيل: النحر في الحل فذلك على سبيل الجواز، على مقتضى كلام الشيخين، وظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص وطائفة الوجوب، ويحتمله كلام أحمد: وما كان من فدية حلق الرأس فحيث حلقه.
«الثالث» : مساكين الحرم من كان فيه، من أهله أو وارد إليه، من الحاج وغيرهم، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، والله أعلم.

قال: وأما الصيام فيجزئه بكل مكان.
ش: لا نزاع في ذلك.
1818 - وعن ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء. والمعنى فيه - والله أعلم - أن نفعه لا يتعدى إلى أحد، فلم يتخصص بمكان، بخلاف الهدي والإطعام، والله أعلم.

(3/375)


قال: ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه.
ش: تجزئ السبع من الغنم عند عدم البدنة بلا نزاع.
1819 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر لها، ولا أجدها فأشتريها؟ فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن.» رواه أحمد وابن ماجه.
وأما مع وجودها فقولان: «أحدهما» : واختاره ابن عقيل، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد: لا يجزئه لأنها بدل، والبدل لا يجزئ مع وجود المبدل، ولذلك جوزها الشارع عند العدم.
«والثاني» - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد -: يجزئه، لأن الشاة معدولة بسبع بدنة.
1820 - بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر السبعة بالاشتراك في البدنة فالسبع

(3/376)


شياه يعدلن البدنة شياه يعدلن البدنة، وما أجزأ فيه أحد المثلين أجزأ فيه المثل الآخر، والسؤال وقع عن حال العدم، فأجاب بالجواز، ولا مفهوم له اتفاقا، ولا نسلم أن أحدهما بدل عن الآخر. وعكس هذا من وجب عليه سبع من الغنم تجزئه البدنة إن كان في غير جزاء الصيد، لما تقدم من أنهما مثلان، أما في جزاء الصيد فلا، لأن معتمده التقويم، والله أعلم.

قال: وما لزم من الدماء فلا يجزئ فيه إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره، والله أعلم.
ش: لأنه دم مشروع إراقته، فلا يجزئ فيه إلا ما يجزئ في الأضحية، والجامع مشروعية الإراقة، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى، وبيان الجذع من الضأن، والثني من المعز قد تقدم في الزكاة، والثني من البقر: ما كمل سنتين، ومن الإبل: ما كمل خمسا، والله أعلم.

(3/377)