شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب الربا والصرف وغير ذلك]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
باب الربا والصرف وغير ذلك
ش: الربا مقصور، وأصله الزيادة، والمادة حيث تصرفت لذلك، قال الله سبحانه:
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي علت وارتفعت، وقال تعالى: {أَنْ تَكُونَ
أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي أكثر عددا، وقال تعالى:
{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] أي بمكان عال، وهو في الشرع:
زيادة في شيء مخصوص.
والصرف بيع أحد النقدين بالآخر قيل: سمي بذلك من صريفهما وهو تصويتهما في
الميزان، وقيل: لانصرافهما عن مقتضى البياعات، من عدم جواز التفرق قبل
القبض والبيع نساء.
«وغير ذلك» أي من حكم العيب إذا وجد في الصرف، وبيان العرايا، والربا نوعان
-، قد شملهما كلام الخرقي - ربا
(3/405)
الفضل، وربا النسيئة، وكلاهما محرم، وممنوع
منه في الجملة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إن لم نقل: إنها مجملة كما تقدم.
1831 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله
وما هن؟ قال: «الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق،
وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات
المؤمنات» متفق عليه.
1832 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه» ،
رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأجمع المسلمون على تحريم ربا النسيئة تحريما
لا ريب فيه، وعامتهم على تحريم ربا الفضل.
(3/406)
1833 - ووقع خلاف في الصدر الأول عن أسامة
بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير، وابن عباس وعنه اشتهر.
(3/407)
1834 - لما روى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ربا إلا في
النسيئة» رواه البخاري وقد أقر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبي سعيد أنه
سمع ذلك من أسامة.
1835 - وحديث أسامة في الصحيحين «الربا في النسيئة» وفي رواية «إنما الربا
في النسيئة» وفي أخرى «لا ربا فيما كان يدا بيد» وهذه أصرحها، ثم قد صار
إجماعا، ورجع من تقدم إلى قول الجماعة، واختلف في رجوع ابن عباس، وبالجملة
(3/408)
يشهد لقول العامة إطلاق ما تقدم.
1836 - وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر
بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا
بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» رواه
أحمد، ومسلم، وغيرهما.
(3/409)
1837 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا
تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا
الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها
غائبا بناجز» متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري «الذهب بالذهب، والفضة
بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا
بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» .
1838 - وفي الصحيح أيضا هذا المعنى من حديث فضالة بن عبيد، وأبي بكرة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحديث أسامة لا يقاوم هذه، لكثرة رواتها،
وصراحة دلالتها، إذ هي دلالة منطوق بلا ريب،
(3/410)
ثم يحمل على أنه وقع جوابا لسؤال عن
الجنسين من أموال الربا، أو مطلقا، فقال: «لا ربا إلا في النسيئة» أي في
المسئول عنه وهو الجنسان، أو أن المراد نفي الربا الأغلظ الذي ورد نص
القرآن في تحريمه بلا ريب، وهو الذي كانت العرب تعرفه، تقول للغريم إذا حل
الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي في الدين، أي تزيد.
(3/411)
1839 - وهو الذي نسخه النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، وقال عنه: «ألا إن كل ربا موضوع،
وإن أول ربا أضعه ربا عباس» وهذا كما يقال: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع
علي، ونحو ذلك، ثم لو قدر التعارض من كل وجه، فقد يقال: نسخ حديث أسامة
أولى، لورود النسخ إذا على مباح الأصل، لأن الشارع إنما منع من النساء،
وبقي التفاضل على ما كان عليه.
(تنبيه) : «لا تشفوا بعضها على بعض» أي لا يكون لأحدهما شفوف على الآخر، أي
زيادة، و «الناجز» المعجل الحاضر، والله أعلم.
قال: وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز
(3/412)
التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا.
ش: قد تقدم أن الإجماع قد انعقد على تحريم ربا الفضل في الجملة، وإن كان قد
وقع في الصدر الأول خلاف، وأجمعوا على ذلك في الأعيان الستة المذكورة في
حديث عبادة، ثم اختلفوا هل جرى الربا فيها لأعيانها أو لمعان فيها؟ فقال
داود ومتابعوه: لأعيانها، فلا يتعدى الحكم إلى غيرها، وقال العامة: لمعان
فيها، ثم اختلفوا هل عرف ذلك المعنى أم لا؟ فعن ابن عقيل في العمد أنه تردد
في المعنى، ولم يتعد الستة، لتعارض الأدلة عنده في المعنى وتكافئها، ويحتمل
هذا قول طاوس وقتادة، فإنه حكي عنهما القصر على الستة، ويحتمل أن قولهما
كقول داود، وأن عندهما أن {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]
عام، خرج منه الأعيان الستة، بقي ما عداها على مقتضى العموم، ولا يريان
تخصيص العام بالقياس.
(3/413)
وجمهور أهل العلم على معرفة العلة، وتعديها
إلى غير الستة، ثم اختلفوا فيها على سبعة أقوال، وعن إمامنا - رَحِمَهُ
اللَّهُ - من ذلك ثلاثة أقوال.
(أحدها) : - وهو الأشهر عنه، ومختار عامة أصحابه، قال القاضي: اختارها
الخرقي وشيوخ أصحابنا - أن العلة في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس،
والعلة في الأربعة الباقية كونهن مكيلات جنس، فيتعدى الحكم إلى كل موزون،
ومكيل بيع بحبسه، كالحديد، والنحاس، والحبوب، والأبازير، وغير ذلك، دون ما
لا يكال ولا يوزن من مطعوم وغيره.
1840 - لما روي عن أبي سعيد، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلا على خيبر،
فجاء بتمر جنيب، فقال: «أكل تمر خيبر هكذا؟» فقال: لا يا رسول الله، إنا
لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع
بالدراهم جنيبا» وقال في الميزان مثل ذلك، ولمسلم «وكذلك الميزان» متفق
عليه فقوله: في الميزان أي في الموزون،
(3/414)
وإلا فنفس الميزان ليس من أموال الربا.
1841 - وقال الإمام إسحاق بن راهويه: أخبرنا روح بن عبادة، حدثنا حيان بن
عبيد الله، وكان رجلا صدوقا - عن أبي مجلز، عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«التمر بالتمر» وذكر الحديث، إلى قوله: «فما زاد فهو ربا» قال: «وكذلك ما
يكال وما يوزن» وهو نص، إلا أن ابن حزم زعم أن «وما يكال وما يوزن» من قول
أبي سعيد، قال: دل على ذلك قوله: قال: وكذلك ما يكال وما يوزن. وليس في هذا
دليل، لاحتمال عود الضمير إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-،
(3/415)
وهو الأصل، ويؤيده رواية البخاري السابقة:
وقال في الميزان مثل ذلك.
1842 - وعن الحسن عن أنس وعبادة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «ما وزن مثلا بمثل، إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل
ذلك» رواه الدارقطني.
1843 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا
الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء» وهو الربا،
فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس،
والنجيبة بالإبل؟ فقال: «لا بأس إذا كان يدا بيد» رواه أحمد.
(والقول الثاني) : أن العلة في الذهب والفضة الثمنية، فلا يتعدى إلى
غيرهما، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مطعوم جنس.
1844 - لما روى معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه ثم
اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا زيادة بعض
(3/416)
الصاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك، فقال له
معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق به فرده، وقال: لا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني كنت
أسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الطعام
بالطعام مثلا بمثل» وكان طعامنا يومئذ الشعير، قيل له: فإنه ليس بمثله،
قال: إني أخاف أن يضارع، رواه مسلم والطعام يشمل كل مطعوم، ولأن الطعم وصف
شريف، إذ به قوام الأبدان، وكذلك الثمنية، إذ بها قوام الأموال، فاقتضت
الحكمة التعليل بهما.
(والقول الثالث) : العلة في النقدين الثمنية، والعلة في الأربعة الباقية
الطعم والتقدير في الجنس، فإن الأربعة مكيلة، غير أن المؤثر إنما هو
التقدير المنضبط، فيدخل فيه الوزن، فيتعدى ذلك إلى كل مطعوم مقدر بكيل أو
وزن بيع بجنسه، وهذا اختيار أبي محمد، نظرا إلى ما ذكرناه من أن هذه
الأربعة مطعومة، والمماثلة إنما تعتبر بالمعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن،
وجمعا بين الأحاديث، فنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع
الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، يحمل على ما فيه معيار شرعي، وهو الكيل أو
الوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين [ونحوه]
(3/417)
يحمل على المطعوم، توفيقا بينهما.
ويرجح الأول بأن الطعام بعض أفراد الصاع [بالصاعين] ونحو ذلك، لما تقدم من
أن المثلية لا تتحقق إلا بكيل أو وزن، وهو المدعى على القول الأول علة،
ويجاب بمخالفته له في المفهوم، وهو مبني على اعتبار مفهوم اللقب، والمذهب
اعتباره، ثم على اعتباره والحال هذه، وفيه وجهان، انتهى واتفق الكل على
اعتبار الجنس في ربا الفضل، كما نص عليه الخرقي.
1845 - إلا سعيد بن جبير، فإنه جعل الشيئين المتقارب نفعهما - كالحنطة مع
الشعير، والتمر مع الزبيب - كالجنس الواحد، وهو مردود بالنصوص السابقة.
(تنبيهات) : «أحدها» على المذهب يجري الربا في كل مكيل، وإن لم يكن مطعوما،
كالأشنان ونحوه، وفي كل موزون، وإن لم يكن كذلك، كالحديد ونحوه، ولا يجري
في
(3/418)
مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالبيض والماء
ونحوهما، والمعتبر كون جنس ذلك مكيلا أو موزونا، وإن لم يأت فيه ذلك، إما
لقلته، كتمرة، وحبة شعير ونحو ذلك، وإما لثقله، كالزبرة العظيمة من الحديد
ونحوه، وإما للعادة كلحم الطير ونحوه، فلا يجوز بيع بعض ذلك ببعض إلا مثلا
بمثل، بمعياره الشرعي، وهو الكيل أو الوزن ويحتمل قول الخرقي جواز ذلك،
لقوله: وكل ما كيل أو وزن. وهو محمول على ما جنسه الكيل أو الوزن، وهل يعم
المعمول من الموزون بأصله، أو بحاله بعد العمل؟ نص أحمد في رواية: جماعة:
أنه لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينين، ولا إبرة بإبرتين، معللا بأن
أصل ذلك الوزن، ونص في رواية جماعة أنه لا بأس ببيع ثوب بثوبين، وكساء
بكسائين، فنقل القاضي في المجرد إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما
جميعا روايتين، والمنع اختيار جماعة منهم ابن عقيل في الفصول وغيره اعتبارا
بأصله، والجواز اختيار أبي محمد في المغني، نظرا للحال الراهنة، ومقتضى
كلام القاضي في التعليق، وفي الجامع
(3/419)
الصغير، حمل النص على اختلاف حالين، فإنه
لما قال: يجري الربا في معمول الحديد ونحوه، وذكر نصه على ذلك، فأورد عليه
النص الآخر في جواز ثوب بثوبين، فقال: هذا في ثياب لا ينبغي بها الوزن، أما
الإبريسم ونحوه فإنه لا يجوز، ونحو هذا قول جماعة [وهو أوجه] فينظر في حاله
بعد العمل، فإن قصد وزنه جرى فيه الربا، وإلا فلا، وأبو محمد في الكافي نظر
إلى هذا المعني في الموزون، وقطع في منسوج القطن والكتان بأنه لا ربا فيه
وأطلق، وصاحب التلخيص جعل الروايتين فيما لا يتعين وزنه بعد عمله، أما ما
يقصد وزنه بعد عمله فجزم بوجوب التماثل فيه. انتهى. ثم إن صاحب التلخيص قال
في الفلوس - بعد أن حكى فيها الروايتين -: وسواء كانت نافقة أو كاسدة، بيعت
بأعيانها أو بغير أعيانها، وكذلك قال القاضي في الجامع الصغير، وابن عقيل،
والشيرازي وغيرهم، وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير بأنها مع نفاقها لا
تباع بمثلها إلا متماثلة، معللا بأنها أثمان فأشبهت الدراهم والدنانير، ثم
عقب ذلك بذكر الخلاف
(3/420)
في معمول الحديد، وظاهر هذا أنها مع كسادها
يجوز التفاضل فيها إن لم يعتبر الوزن، ويتلخص من ذلك أن الفلوس النافقة هل
تجري مجرى الأثمان، فيجري الربا فيها، إن قلنا، العلة في النقدين الثمنية
مطلقا، وهو ظاهر ما حكاه عن أبي الخطاب في خلافه الصغير، أو لا تجري
مجراها، نظرا إلى أن العلة ما هو ثمن غالبا، وذلك يخص الذهب والفضة، وهو
قول أبي الخطاب في خلافه الكبير؟ على قولين، فعلى الثاني لا يجري الربا
فيها إلا إذا اعتبرنا أصلها، وقلنا: العلة في النقدين الوزن، كالكاسدة،
وعلى رواية الطعم والثمنية في النقدين يجري الربا في كل مطعوم قوتا كان أو
أدما، أو فاكهة، أو دواء.
ويستثنى من ذلك الماء، على ما قطع به القاضي في الجامع الصغير، وأبو محمد
وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم، مع أنه مطعوم، قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] وعلل ذلك صاحب التلخيص بأن
أصله الإباحة، وهو منتقض بلحم الطير، وبالطين الأرمني ونحوهما، وبأنه مما
لا يتمول، وهو مردود، بأن العلة عندنا ليست المالية،
(3/421)
والقياس جريان الربا فيه على هذه الرواية،
وهو ظاهر ما في خلاف أبي الخطاب الصغير.
والمعتبر الطعم للآدميين لا لغيرهم، فلا يجري الربا في التبن ونحوه على
مقتضى كلام أبي محمد، ويجري الربا في الذهب والفضة، تبرهما ومضروبهما، وكيف
ما كانا، على المشهور، وعنه أنه منع من بيع الصحاح بالمكسرة، ولا عمل عليه،
لظواهر النصوص، وهل يجري الربا في الفلوس النافقة؟ فيه تردد تقدم، وعلى
رواية اعتبار الطعم مع الكيل أو الوزن لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا
يوزن، كالتفاح، والرمان، والسفرجل، والخوخ، والكمثرى، والأجاص، والجوز،
والأترج، والخيار والبيض، ونحو ذلك، [ولا في غير مطعوم، كالأشنان، والحديد
والرصاص، ونحو ذلك] .
(التنبيه الثاني) : قول أحمد: لا تباع سكين بسكينتين. محمول على ما إذا
اختلف الوزنان، أما إن اتحدا جاز، إذ العبرة به لا بالعدد.
(الثالث) : «سائر» استعملها الخرقي هنا، وفي قوله - بعد - وسائر اللحمان
جنس واحد. وفي مواضع بمعنى
(3/422)
«جميع» وهو خلاف اللغة المشهورة، حتى أن
بعضهم أنكر ذلك، وقد استعمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللغة المشهورة
أيضا في الغسل، في قوله: ثم يفيض الماء على سائر جسده. وكذلك في باب
المصراة.
1846 - وهي التي نطق بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
قوله لغيلان بن سلمة «أمسك أربعا، وفارق سائرهن» وعلى هذا هي مأخوذة من
السؤر، وهو البقية، وعلى الأول من سور البلد، وهو ما أحاط به، «والتمر
الجنيب» بفتح الجيم وكسر النون، وآخره باء موحدة، نوع من جيد التمر،
«والجمع» بفتح الجيم،
(3/423)
وسكون الميم، تمر مختلف، من أنواع متفرقة،
غير مرغوب فيه للاختلاط، إذ ما يخلط إلا لرداءته «والرماء» بفتح الراء
مخففا ممدودا، لغة في الربا، «ويضارع» أي يشابه «وأبي مجلز» بكسر الميم،
وسكون الجيم، وآخره زاي، «وحيان» بحاء مهملة مفتوحة، وبعدها ياء مشددة،
مثناة من تحت، والله أعلم.
قال: وما كان من جنسين جاز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة.
ش: قد تقدم أن شرط جريان ربا الفضل الجنس عند العامة، فإذا عدم الجنس امتنع
ربا الفضل، وجرى ربا النسيئة، إن اجتمع الجنسان في علة واحدة، كمكيل بمكيل،
(3/424)
وموزون بموزون، ومطعوم بمطعوم، إن علل
بالطعم، وذلك لما تقدم من حديث عبادة، وأبي سعيد يدا بيد وفي حديث أبي سعيد
«ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» .
وإن اختلفا في العلة - كمكيل مع موزون - فروايتان، (إحداهما) - وهي ظاهر
كلام الخرقي - جريانه أيضا، لحديث عبادة المتقدم «فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» (والثانية) لا يجري، لأنهما لم يجتمعا
في أحد وصفي علة ربا الفضل، فأشبه الثياب، والحيوان، كما سيأتي.
ويستثنى مما تقدم إذا كان أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء
بغير خلاف نعلمه، وإن اتحدا في الوزنية، لئلا ينسد باب السلم في الموزونات.
وقول الخرقي: يدا بيد. يقتضي وجوب التقابض في الجنسين من مالي الربا، إذا
بيع أحدهما بالآخر، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه في ذلك، إن كانت العلة
واحدة، لما تقدم من حديثي عبادة، وأبي سعيد.
1847 - وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(3/425)
«الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير
بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» متفق عليه أي:
إلا هاك وهات. كذا فهمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
1848 - ففي الموطأ: قال مالك بن أوس بن الحدثان النصري: أنه التمس صرفا
بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ
الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب
يسمع، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذكر الحديث، وهذا يمنع تأويل من ادعى أن
«يدا بيد» أي لا يكون نسيئة انتهى.
أما إن اختلفت العلة فظاهر إطلاق الخرقي وجوب التقابض أيضا، وصرح بذلك ابن
عبدوس على رواية منع النساء التي هي أيضا ظاهر كلام الخرقي، وهو ظاهر حديث
عبادة المتقدم، والمعروف عند كثير من المتأخرين - حتى أن أبا الخطاب قال:
إنه رواية واحدة - جواز التفرقة قبل القبض، وإن منعنا النساء، وحيث أوجبنا
التقابض فتفرقا قبله بطل العقد.
(3/426)
(تنبيه) : هاء وهاء بالمد، وفتح الهمزة،
وفيه أربع لغات هذه إحداهن، وفيها لغتان (إحداهما) أنها تقال بلفظ واحد
مطلقا، (وثانيتهما) تلحق بها العلامات المفرقة، فللمذكر «ها» وللمؤنث «هات»
وللاثنين «هاءآ» وللجميع «هاؤا» كالحال في «هاؤم» (اللغة الثانية) في
الأربع «هأ» بالقصر والهمزة الساكنة على وزن «خف» وفيها اللغتان
المتقدمتان، فعلى التفريق للمذكر «هأ» كخف وللمؤنث «هائي» كخافي، وللاثنين
«هاآ» كخافا، وللجمع «هاؤا» كخافوا (اللغة الثالثة) «هاء» بالمد، وكسر
الهمزة، [بلفظ واحد مطلقا، غير أنهم زادوا ياء مع المؤنث، فقالوا: هائي.
(الرابعة) بالقصر وترك الهمزة] ، حكاها بعض اللغويين، وأنكرها أكثرهم، حتى
أن الخطابي خطأ من روى من المحدثين كذلك، ومعنى «هاء وهاء» : خذ وهات في
الحال، كما قيل: يدا بيد. «وتراوضنا» تجارينا، والله أعلم.
(3/427)
قال: وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز
التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئه.
ش: قد علم من ترجمة هذه المسألة أن وضع المسألة السابقة فيما كان مكيلا أو
موزونا، وهذا والله أعلم الذي أحوج الخرقي إلى فصل المسألتين، ليفصل مسألة
الوفاق من مسألة الخلاف، وإلا فحكم المسألتين عنده واحد.
إذا عرف هذا فقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا
انتفت علة ربا الفضل، هل يجوز النساء؟ على أربع روايات (إحداهن) - وهي
اختيار القاضي وأبي الخطاب، وابن عبدوس، وأبي محمد، وغيرهم - يجوز.
(3/428)
1849 - لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص،
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشا،
فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين
إلى إبل الصدقة» ، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وصححه.
(3/429)
1850 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه باع جملا له يسمى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل، رواه مالك في موطئه،
والشافعي في مسنده.
1851 - وعن ابن عمر، ورافع بن خديج نحوه، ذكر ذلك البخاري وغيره.
(والثانية) - واختارها ابن أبي موسى، وأبو بكر، والخرقي فيما قاله القاضي،
وأبو الخطاب وغيرهما - لا يجوز.
1852 - لما روى الحسن عن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» ، رواه الخمسة وصححه
الترمذي.
(3/430)
1853 - وقد روي من حديث جابر بن سمرة رواه
عبد الله بن أحمد، ومن رواية ابن عباس، رواه البزار، ومن رواية ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعا وهو يشمل بعمومه الجنس والجنسين، ولا يضر
التكلم في بعضها، إذ الحجية تحصل بمجموعها، لتقوي بعضها ببعض، مع أن
الترمذي قد صحح الأول، وأحمد احتج به في رواية ابن إبراهيم، وحديث عبد الله
بن عمرو قضية عين، فلعل ذلك كان في بدء الإسلام، قبل نزول تحريم الربا، أو
كانت المعاملة مع أهل الحرب، جمعا بين الأدلة.
(3/431)
ومن نصر الأول رجحه بفعل الصحابة، وطعن في
الأحاديث بأن أحمد قال: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه، وقال
في حديث ابن عمر وابن عباس: إنهما مرسلان، وإن الحسن لا يصح سماعه من سمرة،
ولا يخفى أن مثل هذا الطعن لا يسقط الحجية، لما تقرر من أن المرسل حجة
عندنا، بل وعند العامة في مثل هذا الموطن لاعتضاده بحديث آخر، وبمرسل آخر،
فعلى هذه الرواية لو باع عرضا بعرض، ومع أحدهما دراهم، العروض نقدا،
والدراهم نسيئة جاز، إذ لا نساء بين الثمن والمثمن، ولو كانت الدراهم نقدا،
والعرضان أو أحدهما نسيئة لم يجز، حذارا من النسيئة في العروض، نص عليه
أحمد، وقاله القاضي وغيره (والرواية الثالثة) يحرم في الجنس الواحد، ولا
يحرم في الجنسين لأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل، فمنع النساء كالكيل
والوزن، ويحمل حديث سمرة بن جندب ونحوه على ذلك، وهو مردود بأن الجنس شرط
الجريان ربا الفضل أو محل في ذلك، لا وصف في العلة، والحمل على ما ذكر فيه
تعسف
(3/432)
(والرابعة) يحرم في الجنس الواحد متفاضلا
لا متماثلا، ولا في الجنسين.
1854 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يصلح الحيوان بالحيوان اثنان بواحد
نسيئة، ولا بأس به يدا بيد» رواه الترمذي وحسنه، ومفهومه جواز الواحد
بالواحد، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وقد قال أحمد: زاد فيه «نساء»
وليث بن سعد سمعه من أبي الزبير، لا يذكر فيه «نساء» قال أبو محمد: ويحتمل
أن الخرقي أراد هذه الرواية، قلت: وعلى هذا يكون تقدير الكلام: وما كان مما
لا يكال ولا يوزن، فجائز التفاضل فيه يدا بيد، إذا كان جنسا واحدا، ولا
يجوز نسيئة، وعلى ما قال الجماعة أنه اختيار الخرقي التقدير في الثاني: أي
ولا يجوز بيعه نسيئة، ويحتمل كلام الخرقي منع النساء مع التفاضل مطلقا،
والتقدير إذا: ولا يجوز التفاضل فيه نسيئة، وهذا يرجحه أن في اللفظ ما يدل
عليه وهو ذكر
(3/433)
التفاضل، ويبعده ما تقدم في صدر المسألة.
(تنبيه) : «القلائص» جمع قلوص، وقد تقدم في أول الكتاب، «والراحلة» [اسم
للجمل والناقة إذا كانا قويين على الأحمال والأسفار «ونفذت الإبل» أي فنيت]
، والله أعلم.
قال: ولا يباع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا العرايا.
ش: الألف واللام في الرطب لمعهود ذهني، وهو رطب يجري فيه الربا، كالرطب
والعنب، فلا يباع الأول بالتمر، ولا الثاني بالزبيب، متماثلا ولا متفاضلا.
1855 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع الرجل تمر حائطه إن
كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن
يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله» ، متفق عليه.
1856 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال
لمن حوله «أينقص الرطب إذا يبس؟» قالوا: نعم. فنهى عن ذلك» ، رواه
(3/434)
الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا السؤال إرشاد
للعلة، وهي النقص في ثاني الحال، أو انفراد أحدهما بالنقص، سؤال تقرير
وتنبيه، لا استفهام حقيقي، لعلمه بذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-. واستثنى الخرقي العرايا، وسيأتي ذلك إن شاء الله، ومفهوم كلامه جواز بيع
الرطب بالرطب، ويأتي أيضا إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا، ولا ما أصله الوزن كيلا.
ش: المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل هي المساواة في معياره الشرعي،
وهو الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، فلا يباع المكيل بجنسه، إلا كيلا،
ولا الموزون
(3/435)
بجنسه إلا وزنا، إلا إذا علم مساواته في
معياره [الشرعي] .
1857 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل،
والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» رواه
مسلم.
1858 - وفي حديث عبادة في رواية أبي داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة
تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر
بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى»
فاعتبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموزون الوزن، وفي
المكيل الكيل، فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به.
1859 - وإذا يدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل
عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» نعم لا يعتبر كيل جرت العادة به، بل يجوز
(3/436)
التعديل بإناء لم تجر العادة بالكيل به،
كما يجوز بالوضع في كفتي الميزان، ذكره في التلخيص.
ومفهوم كلام الخرقي جواز بيع المكيل بمكيل [من غير جنسه وزنا، وبيع الموزون
بموزون] من غير جنسه كيلا، وهو كذلك لحديث عبادة «فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم» .
1860 - وفي الصحيح من حديث أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأمرنا أن
نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا» ، متفق عليه،
ومن ثم اختار الشيخان وابن عقيل، وصاحب التلخيص، وغيرهم جواز بيع المكيل
بالمكيل جزافا، وبيع الموزون بالموزون جزافا، ومنع ذلك ابن أبي موسى،
والقاضي في المجرد، والشريف، وغيرهم ونص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب
وغيره.
(3/437)
1861 - لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام مجازفة، وهو محمول على الجنس الواحد،
جمعا بين الأدلة.
(تنبيه) : المرجع في الكيل إلى مكيال أهل المدينة، وفي الوزن إلى ميزان أهل
مكة، في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1862 - لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» رواه النسائي.
1863 - وهو لأبي داود من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وما
لا عرف له بهما فهل يعتبر عرفه في موضعه، أو يرد إلى أقرب الأشياء شبها به
بالحجاز؟ فيه احتمالان حكاهما القاضي في التعليق ومن بعده، وما لا أصل له
بالحجاز في كيل ولا
(3/438)
وزن، ولا له شبهه بما جرى فيه العرف،
كالثياب، والحيوان، والمعدود من الجوز، والبيض، والرمان، والقثاء، والخيار،
والخضروات، والبقول، [والسفرجل] ، والكمثرى، والخوخ ونحو ذلك، فإذا اعتبر
التماثل فيه اعتبر بالوزن، لأنه أضبط، قاله أبو محمد، وكذلك ذكر القاضي في
الفواكه الرطبة.
إذا عرف هذا فالبر والشعير مكيلان بالنص [قال أبو محمد: وكذلك سائر الحبوب،
والأبازير، والأشنان، والجص، والنورة ونحوها والتمر مكيل بالنص] [قال أبو
محمد: وكذلك سائر ثمرة النخل، من الرطب والبسر ونحوهما] ، وسائر ما تجب فيه
الزكاة كالزبيب، والفستق، والبندق، والعنب، والمشمش، والبطم، والزيتون،
واللوز.
والملح [مكيل بالنص، والذهب والفضة موزونان، قال أبو محمد: وكذلك ما
أشبههما من جواهر الأرض كالحديد، والرصاص، والصفر والنحاس، والزجاج
والزئبق] ، وكذلك
(3/439)
الإبرسيم، والقطن والصوف والكتان، وغير ذلك
[وكذلك الخبز واللحم، والشحم، والزبد، والجبن، وكذا الشمع وما أشبهه] وكذلك
الزعفران، والعصفر، والورس.
والدقيق، والسويق مكيلان عند أبي محمد، نظرا لأصلهما، وجوز القاضي بيعهما
بالوزن كالخبز، أما المائعات كاللبن، والأدهان، من الزيت، والشيرج، والعسل،
والدبس، فقال أبو محمد: الظاهر أنها مكيلة، وكذا قال القاضي في الأدهان
أنها مكيلة، وقال في اللبن: يصح السلم فيه كيلا، وعن أحمد أنه سئل عن السلف
في اللبن، فقال: نعم كيلا أو وزنا. والله أعلم.
قال: والتمور كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها.
ش: الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة [بأنواعها، والنوع هو الشامل لأشياء
مختلفة] بأشخاصها، والمراد هنا الجنس
(3/440)
الأخص، والنوع الأخص، إذ قد يكون الشيء
جنسا بالنسبة إلى ما تحته، ونوعا بالنسبة [إلى ما فوقه، وكالإنسان فإنه جنس
بالنسبة إلى الزنجي، والتركي، وغير ذلك، ونوعا بالنسبة] إلى الحيوان،
والمعتبر هنا الاتفاق في الاسم الخاص من أصل الخلقة، كالحنطة والتمر
وغيرهما، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر التمر
بالتمر، والبر بالبر وأطلق، بل ومنع من بيع الجنيب بالجمع متفاضلا كما
تقدم.
إذا عرف هذا فالأدقة والأدهان تختلف باختلاف أصولها، [فدقيق الحنطة والشعير
والفول أجناس، كما أن أصولها] كذلك، والزيت، والشيرج، ودهن بزر الكتان،
ودهن السمك، ونحو ذلك أجناس كأصولهن، ودهن الورد، ودهن البنفسج ونحوهما
جنس، إن كان أصلهما واحدا، والخلول أجناس على المذهب كأصولها، (وعنه) أن خل
العنب والتمر في حكم الجنس الواحد، وفي التلخيص وجه أن الخلول كلها جنس
واحد ولا معول عليهما، أما على المذهب فيجوز
(3/441)
بيع خل العنب بخل التمر متماثلا ومتفاضلا،
وخل التمر بخل التمر متماثلا لا متفاضلا، ويغتفر ما فيهما من الماء، لأنه
غير مقصود للمصلحة، أما خل العنب بخل الزيت فالمنصوص - وقاله القاضي وغيره
- منع بيع أحدهما بالآخر مطلقا، لانفراد أحدهما بالماء، فأشبها تمرين في
أحدهما نواه، والآخر نزع منه والله أعلم.
قال: والبر والشعير جنسان.
ش: هذا على المذهب المنصوص بلا ريب، لحديث عبادة «فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم» وللنسائي وأبي داود فيه: «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير،
والشعير بالبر، يدا بيد، كيف شئنا؛» (وعنه) ما يدل على أنهما جنس واحد،
قال: الحنطة والشعير والسلت صنف، وقال: يكره أن يبيع الحنطة بالشعير اثنين
بواحد؛ لما تقدم عن معمر بن عبد الله، وهو محمول على التورع، كما أشار هو
إليه فقال: أخاف أن يضارع. أي يشابه، ثم مع النص السابق لا يعرج على غيره،
والله أعلم.
(3/442)
قال: وسائر اللحمان جنس واحد.
ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - (والثانية) أنها أجناس
باختلاف أصولها، اختارها أبو بكر، والقاضي في تعليقه، وأبو الحسين، وأبو
الخطاب في خلافه، وابن عقيل، وأبو محمد ومبناهما - والله أعلم - على أن
الاعتبار - هل هو بحال جريان الربا فيه، وهو إذا يشمله اسم واحد، ويرجحه
نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا
مثلا بمثل، وهي كلها طعام، أو باعتبار أصوله، وأصوله مختلفة، وينقض الأول
(3/443)
بعسل النحل، وعسل القصب، والحديث محمول على
ما إذا اتفق الجنس، بدليل ما تقدم (والثالثة) أنها أربعة أجناس، لحم
الأنعام جنس، ولحم الوحش جنس، ولحم الطير جنس، ولحم دواب الماء جنس، وهي
اختيار القاضي في روايتيه، وحمل كلام الخرقي على ذلك، لأن لحم هذه
الحيوانات تختلف المنفعة بها، والقصد إليها، فجعل كل واحد جنسا، نظرا لذلك،
فعلى الثانية لحم الإبل كله جنس واحد، وكذلك البقر، وكذلك الغنم على
المشهور، ولأبي محمد احتمال بأنهما جنسان، ضأن ومعز، لتفريقه سبحانه بينهما
حيث قال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:
143] وكل ما له اسم يخصه من الوحش والطير جنس.
(تنبيهات) «أحدها» اللبن، والشحم، والأكبدة، والأطلحة، والرئات، والجلود،
والأصواف، والعظام، والرؤوس، والأكارع، ونحو ذلك مما اشتمل عليه اللحم،
فيجري فيهن ما يجري فيه من الخلاف، وكذلك مقلو البيض، لصيرورته موزونا، أما
قبل ذلك فهو معدود، فلا يجري فيه الربا على المذهب.
(3/444)
(الثاني) اللحم والشحم جنسان على المشهور،
فيخرج [بيع أحدهما بالآخر متماثلا ومتفاضلا، وعن القاضي منع] بيع أحدهما
بالآخر مطلقا.
(الثالث) اللحم الأبيض - كسمين الظهر - والأحمر جنس واحد على الأشهر، قاله
القاضي، وابن البنا، وغيرهما، وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي أنهما
جنسان، لقوله: إن اللحم لا يخلو من شحم، قال: ولو لم يكن هذا شحما لم يختلط
لحم بشحم، وفرع على قوله أن كل أبيض في الحيوان يصير دهنا جنس واحد، واختار
ذلك في المغني، وبنى على ذلك أن الألية والشحم جنس، والمشهور عند الأصحاب
أنهما جنسان، وهو الذي قاله في المقنع.
(الرابع) هل لحم رأس شيء جنس برأسه كالقلب ونحوه، أو نوع من لحم جنسه؟ فيه
وجهان.
(3/445)
(الخامس) هل يجوز بيع اللبن باللبأ؟ فيه
وجهان، حكاهما ابن البنا، وعن القاضي أنه خصهما بما إذا مست النار أحدهما،
وعند أبي محمد والسامري أنهما جنس واحد، يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلا،
لا متفاضلا ولا بعد أن تمس النار أحدهما، وعلى ما إذا مست النار أحدهما حمل
السامري وجه منع ابن البنا، والله أعلم.
قال: ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا، ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل.
ش: لا إشكال في جواز بيع ما كان رطبا، عند تناهي جفافه، من التمر، واللحوم،
وغيرهما بمثله، واختلف في بيع كل رطب بمثله رطبا، فعنه المنع مطلقا، حكاه
ابن الزاغوني، واختاره أبو حفص العكبري، وحمل كلام الخرقي عليه، لنصه عليه
في اللحم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع
الرطب بالتمر، مشيرا للتعليل بالنقص، وهذا موجود في الرطبين، لأنهما
ينقصان، يحققه أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا.
1864 - بدليل «نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الصبرة
من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر» ، رواه مسلم، وهنا يجهل
التساوي في
(3/446)
ثاني الحال، وذهب جمهور الأصحاب - القاضي،
وأبو الخطاب، والشيخان وغيرهم، وهو مقتضى مفهوم كلام الخرقي السابق، ونص
عليه أحمد في الرطب بالرطب - إلى الجواز، لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، والرطبان إذا بيعا مثلا
بمثل قد استويا في المثلية، فدخلا في عموم المستثنى، ولأنهما استويا في
الحال، على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص، فأشبها اللبن باللبن، وخرج بيع
الرطب بالتمر، لانفراد أحدهما بالنقص واشتراط عدم الجهل بالتساوي [في ثاني
الحال] لا نسلمه، بل المشترط عدمه في الحال، فكان مناط المسألة - والله
أعلم - التساوي، هل يشترط في الحال ولا يضر الجهل به في ثاني الحال، أو
يشترط حالا ومآلا؟ على قولين، إلا أنه استثنى على الثاني بيع رطب لا يجيء
منه تمر، وعنب لا يجيء منه زبيب، فإنه يجوز بيعه بمثله قبل جفافه، نظرا إلى
أن كمال ذلك في حال رطوبته، وفساده في حال جفافه، قاله في التلخيص.
(تنبيه) : اشترط القاضي والأكثرون في بيع اللحم بمثله نزع العظم، لتتحقق
المساواة المعتبرة شرعا، وكالعسل
(3/447)
بالعسل، لا يباع إلا بعد التصفية، ومال أبو
محمد إلى عدم اشتراط ذلك، وذكر أنه ظاهر كلام الإمام، وعلله بأن العظم تابع
من أصل الخلقة، فأشبه النوى في التمر، وخرج الشمع في العسل، لأنه من فعل
النحل.
[بيع اللحم بالحيوان]
قال: ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان.
ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه، كبيع لحم
بقر ببقر، ونحو ذلك.
1865 - لما روي عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، رواه
مالك في الموطأ، وأبو داود في المراسيل.
1866 - وعنه أيضا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى
عن بيع الحي بالميت» . احتج به أحمد، ورواه أبو داود في المراسيل أيضا،
وناهيك بمراسيل سعيد، مع أن الأول قد أسند من حديث ثابت
(3/448)
بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن ثابتا منكر الحديث، قاله أبو
حاتم الرازي.
1867 - وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان. ولأنه
مال ربوي، بيع بما فيه من جنسه، مع جهالة المقدار، أشبه السمسم بالشيرج،
والزيتون بالزيت [ونحو ذلك] .
واختلف في بيع اللحم بحيوان من غير جنسه، كلحم بقر بإبل، وظاهر كلام أحمد
والخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي في تعليقه، وجامعه الصغير، وأبي
الخطاب في خلافه الصغير، وغيرهم، أنه لا يجوز، نظرا لإطلاق ما تقدم.
(3/449)
1868 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أن جزورا نحرت، فجاء رجل بعناق، فقال أعطوني جزءا بهذا العناق.
فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلح هذا. رواه الشافعي، وقال:
لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك.
واختار القاضي - فيما حكاه عنه أبو محمد - الجواز، لأنه مال ربوي بيع بغير
أصله ولا جنسه فجاز، كما لو باعه بذهب أو فضة، وبعض المتأخرين بنى القولين
على الخلاف في اللحم، هل هو جنس من أجناس؟ وصرح أبو الخطاب في الانتصار
بأنهما على القول بأنه أجناس، وهو الصواب، ولهذا اختلف في بيع اللحم بحيوان
لا يؤكل، كعبد وحمار ونحوهما، قال أبو الخطاب: ولا رواية في ذلك، فيحتمل
وجهين. والجواز صرح به في خلافه الصغير، وكذا شيخه في التعليق، وابن
الزاغوني، وهو ظاهر كلام أبي جعفر، وشيخه في الجامع الصغير، والمنع أورده
ابن عقيل في
(3/450)
التذكرة مذهبا، وهو احتمال له في الفصول،
والصحيح عنده فيه كقول الأكثرين، ولم يطلع أبو محمد على المسألة صريحا،
فقال: ظاهر كلام الأصحاب الجواز. والله أعلم.
قال: وإذا اشترى ذهبا بورق عينا بعين، فوجد أحدهما فيما اشترى عيبا فله
الخيار بين أن يرد أو يقبل، ويأخذ قدر ما نقص بالعيب، إذا كان بصرف يومه،
وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه.
ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان الربا، شرع يتكلم في
الصرف، ومعنى العين بالعين أن يقول: بعتك هذه الدراهم بهذه الدنانير، ونحو
ذلك، فإذا وقع العقد كذلك، فوجد أحدهما بما اشتراه عيبا فله حالتان،
(إحداهما) أن يكون من غير جنس المعقود عليه، كالرصاص في الفضة،
(3/451)
ونحو ذلك، فهنا يبطل العقد على المذهب، كما
سيأتي إن شاء الله تعالى، (الثانية) أن يكون العيب من جنس المعقود عليه،
كالسواد في الفضة، ونحو ذلك، وهذا الذي ذكره الخرقي هنا، ولا بد من بنائه
على أصل، وهو أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا؟ فإن قلنا: لا تتعين، فحكم
ذلك حكم التصارف في الذمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإن قلنا: تتعين -
وهو المذهب، وعليه بنى الخرقي كلامه - فلواجد العيب - والحال ما تقدم -
الخيار بين الرد والإمساك بلا خلاف نعلمه، كغير الذهب والفضة من المبيعات،
فإن اختار الرد بطل العقد، ولم يكن له أخذ البدل، كما لو كان المبيع عرضا،
لأن البيع تعلق بعينه، فيفوت بفواته، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا نزاع
نعلمه أيضا، وله مع ذلك أخذ ما نقص المبيع بالعيب في الجملة، وعلى المذهب
المجزوم به عند الشيخين، وصاحب التلخيص، والسامري، وهو جار
(3/452)
على قاعدة المذهب في سائر المبيعات، من
جواز أخذ الأرش مع القدرة على الرد.
وظاهر ما أورده أبو الخطاب في الهداية مذهبا - وأحد نسخ الخرقي - أنه لا
يجوز أخذ الأرش مطلقا، لأن ذلك زيادة على ما وقع عليه العقد، وهذا قد يتوجه
من جهة الدليل، وهو قياس الرواية الضعيفة في سائر المبيعات، لأنه لا أرش مع
القدرة على الرد، فعلى الأول لا يجوز أخذ الأرش في الجنس الواحد مطلقا،
كفضة بفضة، حذارا من فوات المماثلة المشترطة.
وعن القاضي أنه خرج وجها بالجواز في المجلس، نظرا إلى أن الزيادة طرأت بعد
العقد، وأبو الخطاب في الهداية يخرج قولا بجواز أخذ الأرش، ويطلق، ويدخل في
كلامه الجنس والجنسان، وفي المجلس وبعده، وابن عقيل يحكي ذلك رواية في صورة
تلف أحد العوضين، ووجهه جعل الإمام الصنعة مقومة مع الجنس، كذلك الصفة،
وهذا ليس بشيء لأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - – وإن جعل الصنعة مقومة -
فإنه لا يجوز أخذ عوضها مع اتحاد الجنس بلا ريب، بل يمنع على هذا القول من
بيع الصحاح بالمكسرة ونحو ذلك، وأما قول القاضي فقد رده أبو محمد بأن الأرش
من العوض، بدليل أنه يخبر به في المرابحة، ويأخذ به الشفيع، وقوله: إن
(3/453)
الأرش من العوض. ليس بجيد، كما سيأتي، مع
أن هذا القول لا وجه له، لأن الأرش في المعيب عوض عن جزء من مقابله، وهو
الصحيح، إذ الثمن يتقسم على المثمن، فالعيب لم يقابله شيء فيرجع بقسطه، فلو
جاز أخذ الأرش في الجنس الواحد لكان صاحب الدينار الصحيح دفع دينارا [إلا
جزءا - وهو الأرش الذي أخذه في مقابلة العيب - وأخذ دينارا] معيبا، وإنه
عين الربا، انتهى.
ويجوز في الجنسين مطلقا، أعني قبل المجلس وبعده، على ظاهر إطلاق الخرقي،
وصاحب التلخيص، وأبي البركات، والسامري، وهو الصواب، الذي لا ينبغي على
المذهب غيره، لما تقدم من أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من الثمن، فالدافع
لأرش دينار ظهر معيبا بيع بعشرة دراهم، إنما يدفعه عوضا عن جزء من العشرة
[دراهم] تبينا عدم استحقاقه، وإذا فالعوضان في الصرف قد قبضا بكمالهما، ومع
أحدهما زيادة تبينا عدم استحقاقه لها.
وفصل أبو محمد فقال: إن كانا في المجلس جاز أخذ الأرش، إذ قصاراه تأخر قبض
بعض عوض الصرف عن بعض، وإنه جائز ما داما في المجلس، وإن تفرقا لم يجز،
(3/454)
حذارا من التفرق قبل قبض بعض الصرف، إلا أن
يجعلا أرش الفضة مثلا ثوبا، نحو ذلك فيجوز، لعدم اشتراط القبض لذلك، وهذا
منه يقتضي أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من المعيب، [فكأنه من جملة العوض،
وهذا ليس بشيء على المذهب، وإنما هو بدل ما قابل الجزء الفائت من المبيع
بالعيب] [ويدل على ذلك قطعا نسبة الأرش إلى الثمن، ولو كان عوض الجزء
الفائت من المبيع المعيب] لكان المأخوذ ما نقص بالعيب فقط، من غير نسبة إلى
ثمن ولا غيره، نعم أظن أن هذا اختيار أبي العباس ثم يلزم أبا محمد أن يقول:
بالتفرق بطل العقد، أو بطل في قدر ما يقابل العيب، لحصول
(3/455)
التفرق قبل كمال الصرف، ويلزمه أيضا أن لا
يجوز أخذ أرش عيب الفضة ذهبا، ولا أرش عيب الذهب فضة، حذارا من مسألة مد
عجوة، وهو لم يشترط ذلك، بل هذا الإلزام وارد في سائر المبيعات، فإنا إذا
أخذنا أرش ثوب بيع بعشرة دراهم درهما مثلا، كان على مقتضى قوله قد بيع جنس
فيه الربا بعضه ببعض، مع أحدهما من غير جنسهما، فكان ينبغي أن لا يجوز ذلك،
والظاهر أن الإجماع على خلافه.
إذا تحققت هذا فشرط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للتخيير المتقدم أن يكون
المردود بصرف يومه أي يوم الصرف، فلو نقصت قيمته عن يوم الصرف - كأن كان
الدينار بعشرة، فصار بتسعة - زال التخيير - وتعين الأرش، كذا فهم عنه ابن
عقيل، وأبو محمد، وهو ظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد، وقطع به
السامري، حذارا من أن يرد المبيع مع تعيبه في يده، والصحيح عند أبي محمد أن
التخيير بحاله، بناء على أن
(3/456)
تغير السعر ليس بعيب، بدليل عدم ضمانه في
الغصب، ثم لو سلم أنه عيب فظاهر المذهب - وهو الذي قاله الخرقي كما سيأتي
إن شاء الله تعالى - أن تعيب المبيع عند المشتري لا يمنع الرد، انتهى. هذا
شرح أبي محمد أو نحوه، بناء على أحد نسخ الخرقي، ولفظها: فله الخيار بين أن
يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه،
وليس فيها ذكر الأرش، إلا أنه جعل الشرط راجعا للرد، ويلزم على قوله أن في
الكلام تقديما وتأخيرا، التقدير: له الخيار بين أن يرد إذا كان بصرف يومه،
وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، أو يقبل، والظاهر جعل الشرط راجعا
للتخيير كما تقدم، حذارا من تقديم وتأخير الأصل عدمه، انتهى. ثم على هذه
النسخة قد عطف على اشتراط كون المردود بصرف يومه، كون العيب من جنس المعقود
عليه، فثبوت الخيار مشروط بشرطين، كون المردود على صرف يومه، وكون عيبه من
(3/457)
جنسه، فلو كان عيبه من غير جنسه زال
التخيير، وأما الحكم فيأتي، وهو أن الصرف يكون فاسدا.
وفي بعض النسخ - وعليها شرح ابن الزاغوني -: فله الخيار بين أن يرد، أو
يأخذ قدر ما نقص بالعيب، وهذه واضحة، وفي أخرى: له الخيار بين أن يرد أو
يقبل، إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، أو يأخذ
أرش ما نقص بالعيب، وعلى هذه النسخة يكون في الكلام أيضا تقديم وتأخير، أي
له الخيار بين أن يرد بشرط كذا وكذا، وبين أن يقبل ويأخذ الأرش، ويكون «أو»
بمعنى الواو.
وأما على النسخة التي كتبناها فالظاهر رجوع الشرط إلى الأرش، أي: له الخيار
بين أن يرد أو يقبل ويأخذ الأرش،
(3/458)
بشرط كونه على حساب يوم اصطرفا [لا على
أزيد منه، كما إذا كان الدينار يوم اصطرفا] بعشرة، فصار باثني عشر، ولا على
أنقص، كما إذا صار بثمانية، وما ذاك إلا أن الثمن ينقسم على المثمن يوم
العقد، فالفائت بالعيب فات على حساب يوم العقد، وهذا فرع من مسألة تقويم
المبيع المعيب، وقد صرحوا بأنه يقوم يوم العقد، إلا ما كان من ضمان البائع
فتقويمه يوم القبض، وعلى هذا يسلم من الاعتراض السابق، ومن دعوى تقديم
وتأخير الأصل عدمه، بقي أنه عطف على ذلك كون العيب من جنس المعقود [عليه] ،
فلو كان من غير الجنس لم يتصور أخذ الأرض كما سيأتي.
فإن قيل: ظاهر هذا أن العيب إذا كان من غير الجنس امتنع الأرش، وله القبول،
قيل: إذا حصل التصريح بخلاف
(3/459)
ذلك فلا عبرة بالظاهر، انتهى.
وقول الخرقي: فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا. يشمل العيب في الجميع وفي
البعض، وهو كذلك، إلا أنه إذا اختار إمساك الصحيح ورد العيب فهل له ذلك؟
على قولي تفريق الصفقة، والله أعلم.
قال: وإذا تبايعا ذلك بغير عينه، فوجد أحدهما [فيما اشتراه] عيبا فله
البدل، إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، كالوضوح في الذهب،
والسواد في الفضة.
(3/460)
ش: هذا هو المعبر عنه بالصرف في الذمة،
ومثاله: بعتك دينارا مغربيا، بعشرة دراهم ناصرية، ونحو ذلك، وهو جائز
عندنا، لظاهر قوله «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» فمقتضاه جواز ما عدا ذلك،
بشرط القبض في المجلس، بدليل الرواية الأخرى يدا بيد ونحو ذلك، إذا ثبت هذا
فتصارفا في الذمة، ثم وجد أحدهما بما قبضه عيبا ليس من غير جنس المعقود
عليه، بل من جنسه كما مثل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلا يخلو إما أن
يجد ذلك قبل التفرق أو بعده، فإن وجده قبل التفرق فله المطالبة بالبدل الذي
وقع عليه العقد وهو صحيح لا عيب فيه، وله الإمساك، إذ قصاراه الرضى بدون
حقه، وله أخذ الأرش في الجنسين، لا في الجنس على المذهب فيهما، وإن وجده
بعد التفرق واختار الرد فهل يبطل
(3/461)
العقد برده، وهو اختيار أبي بكر، لوجود
التفرق قبل القبض، لأن البدل إنما يأخذه عوضا عما وقع عليه العقد، أو لا
يبطل وله البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا قبله بطل العقد، وهو اختيار الخرقي
والخلال، والقاضي وأصحابه، وغيرهم، لأن القبض وقع صحيحا، وإلا لبطل العقد
بالتفرقة مطلقا، وبدله يقوم مقامه؟ فيه روايتان، وحكى عنه ثالثة: أن البيع
قد لزم، وهي بعيدة، لأنه يلزم منها إلزام العاقد بما لم يلتزمه.
فعلى الأولى إن وجد البعض رديئا فرده بطل فيه، وفي البقية قولا تفريق
الصفقة.
وعلى الثانية: له بدل المردود في مجلس الرد. انتهى، وإن اختار الإمساك فله
ذلك بلا ريب، لكن إن طلب مع ذلك
(3/462)
الأرش فقال أبو محمد - بناء على ما تقدم -:
له ذلك على الثانية لا الأولى، وأما على المحقق - وقد تقدم - فله ذلك في
الجنسين على الروايتين، إذ الذي يأخذه عوض عن جزء فات من الثمن، ولا يجوز
في الجنس الواحد مطلقا حذارا مما تقدم، والله أعلم.
قال: فأما إن كان عيب ذلك دخيلا عليه من غير جنسه، كان الصرف فيه فاسدا.
ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان العيب إذا كان من الجنس
شرع في بيانه إذا كان من غير الجنس، ثم إنه فصل
(3/463)
بين ما إذا تصارفا عينا بعين وبين ما إذا
تصارفا في الذمة، وهنا أطلق فشمل كلامه المسألتين، ثم كلامه أيضا شامل لما
قبل التفرق وبعده، وعلى ذلك جرى السامري مصرحا به، وزاعما أن أحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليه، وذكره الخرقي، والظاهر أن مستنده من كلام أحمد
إطلاق، كما هو في كلام الخرقي، وكذلك تبعه أبو العباس، حتى أنه وهم جده في
قوله: وعنه أنها لا تتعين فتبدل مع الغصب والعيب بكل حال، لشمول كلامه
للعيب من الجنس ومن غيره، وفي توهيمه بهذا الإطلاق نظر، لأنه قد تقدم له
قبل ذلك بأسطر أن المتصارفين إذا تفرقا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا من غير
الجنس بطل الصرف، فيحمل كلامه هنا على غير الصرف، توفيقا بين كلاميه.
وإذا عرف هذا فلا بد من التعرض للتفصيل، وبيان محل الوفاق من محل الخلاف،
فنقول: إذا تصارفا مثلا ذهبا بفضة عينا بعين ثم وجدا أو أحدهما عيبا من غير
جنس المعقود عليه - مثل أن ظهرت الدراهم أو بعضها رصاصا، أو الدنانير
نحاسا، ونحو ذلك - فلا يخلو إما أن نقول: إن النقود تتعين بالتعيين، أم لا،
فإن قلنا، لا تتعين. فكما لو تصارفا في
(3/464)
الذمة على ما سيأتي، وإن قلنا: تتعين - وهو
المذهب كما تقدم - فإنا نتبين فساد الصرف على المعروف المجزوم به لعامة
الأصحاب، لأن البدل متعذر، لتعلق البيع بالعين، وكذلك الرضى بالموجود، لأنه
غير ما وقع عليه العقد، فهو كما لو قال: بعتك هذه البغلة. فإذا هي حمار،
ونحو ذلك، وقيل عنه: يلزم العقد والحال هذه، تغليبا للإشارة، ولا معول
عليه، فعلى المذهب إن ظهر البعض معيبا بطل فيه، وهل يبطل في غيره؟ قولا
تفريق الصفقة، وإن تصارفا في الذمة ثم وجدا أو أحدهما العيب السابق، فإن
كان قبل التفرق رد وأخذ بدله، والصرف صحيح، وفاقا لابن عقيل، والشيرازي
وصاحب التلخيص، وأبي محمد، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، إذ المقبوض تبين أنه
غير الذي وقع عليه العقد، وظاهر إطلاق
(3/465)
الخرقي - وهو الذي قاله السامري وأبو
العباس - فساده كما بعد التفرق.
وإن كان بعد التفرق - وعليه عندي يحمل كلام الخرقي، نظرا للغالب فإنا نتبين
فساد الصرف على المذهب المحقق، لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما شرط
له القبض، ولا قبض ما يصلح أن يكون عوضا عنه، وبهذا خرج إذا كان العيب من
الجنس، لصلاحية المقبوض للعوضية عن ذلك، ولا أرش قبل التفرق ولا بعده لما
قلناه من أن المقبوض لا يصلح
(3/466)
أن يكون عوضا، وأجرى أبو محمد في الكافي
وصاحب التلخيص فيه هنا - والحال هذه - الروايتين اللتين فيما إذا كان العيب
من الجنس، إحداهما أن العقد يبطل برده، والثانية لا يبطل، وبدله في مجلس
الرد يقوم مقامه، فمجرد وجود العيب من غير الجنس عندهما بعد التفرق لا يبطل
قولا واحدا، عكس المذهب، وليس بشيء، فعلى ما اختاره أبو محمد وغيره إن وجد
العيب في البعض فقبل التفرق يبدل، وبعده يبطل فيه، وفي غير المعيب قولا
تفريق الصفقة.
واعلم أن كلام الأصحاب في هذه المسألة فيه اضطراب كثير، وقد تقدم أن أبا
العباس وهم جده فيها، مع أن في توهيمه ما فيه، وناهيك بهما، وقد بالغت في
تحريره على غاية الضعف وبالله المستعان.
وقول الخرقي: وجد. أي ظهر، فيخرج منه ما إذا علم حال العقد، والحكم فيه أن
العيب إن كان من الجنس فالعقد لازم ولا كلام.
(3/467)
نعم إن كان الصرف في جنس، والعيب في البعض،
فقد يبطله من يمنع بيع النوعين بنوع منه، وإن كان العيب من غير الجنس
والصرف في جنسين انبنى على إنفاق [المغشوشة] ، وفيه روايتان، المختار منهما
الجواز، وأبو محمد يحمل رواية الجواز على ما ظهر غشه، واصطلح عليه ورواية
المنع على ما خفي غشه، ويقع في اللبس، ونحو ذلك قال ابن عقيل في الفصول.
وإن كان الصرف في جنسين، فإن كان العيب في أحد العوضين، ويخل بالمماثلة،
ولا قيمة له، لم يجز، لإفضائه إلى عدم التماثل المشترط شرعا، وإن كان له
قيمة خرج على مسألة مد عجوة، وإن كان العيب في العوضين وتساوى العيبان
فقولان، أظهرهما عند أبي محمد الجواز، وقطع ابن عقيل في الفصول، والسامري
بالمنع.
ثم اعلم أنا قد ذكرنا أصلا بنينا عليه ما تقدم، وهو: أن النقود هل تتعين
بالتعيين أم لا؟ فنشير إلى بيان ذلك فنقول: المذهب المنصوص في رواية
الجماعة، والمعمول عليه عند الأصحاب كافة، أن النقود تتعين بالتعيين
كالعروض بالاتفاق، لأن ذلك عوض مشار إليه في العقد، فوجب أن يتعين
(3/468)
كالعروض، ولأن ما تعين في الغصب والوديعة
تعين بالعقد كالعروض، ومعنى تعين ذلك في الغصب أنه لو طولب بذلك لزمه
تسليمه بعينه، ولا يجوز العدول عنه.
1869 - ومما استدل به على ذلك أيضا حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن
بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر
بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين» .
ولو كان الذهب والفضة في الذمة لم يكن عينا بعين، وإنما يكون عينا بعين إذا
ملكت عين كل واحد منهما، وفيه نظر، إذ يلزم منه أن لا يباع الذهب بمثله إلا
عينا بعين، وقد حكي الإجماع على خلافه، والذي يظهر أن المراد من الحديث
والله أعلم حضور الطرفين المصطرف عليهما، كما يحكى عن مالك أو تعيينهما
بإقباضهما، وحضورهما في المجلس،
(3/469)
وكونهما حالين، كما يقوله أصحابنا وغيرهم،
بدليل أن في رواية أخرى في هذا الحديث يدا بيد بدل عينا بعين وكذا في رواية
أخرى يدا بيد وفي وراية أخرى «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وقول القاضي
وأبي الخطاب وغيرهما: إن رواية عبادة «يدا بيد، عينا بعين» وإن يدا بيد أن
لا يكون نسيئة «وعينا بعين» تعينهما بالتعيين، لم أرهما مجموعين في روايته،
ولا في رواية غيره، مع أنه معترض بما تقدم، انتهى.
ونقل أبو داود عن أحمد - وسأله عن عبد دفع إلى رجل مالا، وأمره أن يشتريه
فاشتراه به فأعتقه - قال: يرد الدراهم على المولى، ويؤخذ المشتري بالثمن،
والعبد حر. فظاهر هذا أنه لم يحكم بتعيينه، وإلا لبطل العقد، ولم تقع
الحرية، وتأول القاضي ذلك في تعليقه على أن قوله: اشتراه به. أي نقده في
ثمنه، واشترى في ذمته، توفيقا بين نصوصه، وأبى ذلك أبو الخطاب والجمهور،
نظرا للظاهر، ووجه ذلك أنه لا غرض في أعيان الدراهم والدنانير، وإنما الغرض
في مقدارها، فإذا عينت كان تعيينها كالمكيال والميزان، وكما لو استأجر أرضا
ليزرعها حنطة، فإن الحنطة لا تتعين، بل له أن يزرع ما
(3/470)
هو مثلها ضررا، ولأن الفراء قال في قوله
سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] الآية: الثمن ما يثبت في
الذمة. فجعل من صفة الثمن ثبوته في الذمة، ومن قال بالتعيين لم يجعلها تثبت
في الذمة، وهي ثمن قطعا، ونقض الأول بالغصوب والعواري، فإنها لا تبدل وإن
كان المعنى واحدا، وبما إذا باع قفيزا معينا من صبرة، لم يكن للبائع إبداله
بمثله من تلك الصبرة، وإن لم يتعلق به غرض، على أنا نمنع أن التعيين لا غرض
فيه، إذ قد يكون فيه غرض، وهو اعتقاد حلها ونحو ذلك، وقول الفراء لا يقبل
في الأحكام، وإنما يقبل في ما طريقه اللغة، والتعيين وعدمه حكم شرعي.
وفائدة الخلاف - على ما قال أبو الخطاب في الانتصار - أن على المذهب لا
يجوز للمشتري إبدالها، وإذا خرجت مستحقة بطل العقد، وإذا وجد البائع بها
عيبا كان له الفسخ، وإذا تلفت قبل القبض تلفت من مال البائع، بناء على
المذهب من أن المتعين، لا يفتقر إلى قبض.
وعلى المرجوح للمشتري إبدالها، ولا يبطل العقد بكونها مستحقة، ولا يفسخ
البائع بالعيب فيها، ويجب إبدالها، وإذا تلفت كانت من مال المشتري، ما لم
يقبض البائع.
(3/471)
(تنبيه) : في نسخة من التلخيص بخط الموفق
المصري فيما أظن: الثمن إن عين تعين بالتعيين، في البيع وغيره من عقود
المعاوضات، في أصح الروايتين، وينفسخ العقد بتلفه قبل القبض في كل معاوضة
محضة، كالإجارة، والصلح بمعنى البيع، وإن لم يتمحض لم ينفسخ بتلفه كالمهر،
وهذا سبق قلم منه أو من الناسخ، لأنه إذا تعين تلف من مال البائع كما تقدم،
واستقر الملك فيه، أما إن لم يتعين فيتلف من مال المشتري، وينفسخ العقد
فيه، والله أعلم.
قال: ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما.
ش: الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض كما تقدم، والقبض في المجلس شرط لصحة
العقد، نص عليه القاضي، وابن عقيل، والشيخان، وغير واحد، مع أن ابن المنذر
قد حكاه إجماعا، فقال: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين
إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، وقد شهد لذلك النصوص السابقة
«الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» وغير ذلك، والمجلس هنا مجلس الخيار في
البيع، فلا يضر طوله مع تلازمهما، فلو مشيا ولو يوما ونحوه إلى منزل أحدهما
مصطحبين صح، وقبض الوكيل يقوم مقام قبض موكله، بشرط قبضه قبل مفارقة موكله
المجلس، فإن
(3/472)
فارق الموكل المجلس فسد الصرف، وإن قبض
الوكيل في المجلس، وموت أحد المتصارفين قبل القبض يفسد الصرف، لعدم تمام
العقد، فإن قبض البعض دون البعض فلا بيع بينهما فيما لم يقبض، وفيما قبض
قولا تفريق الصفقة.
واعلم أن عبارة الخرقي هنا أجود من عبارة من قال: بطل الصرف. فإنه يوهم
وجود عقد ثم بطلانه، وليس كذلك، إذ هنا القبض بمنزلة القبول، لا يتم العقد
إلا به، والله سبحانه أعلم.
[بيع العرايا]
قال: والعرايا التي رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فيها هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أوسق، فيبيعها بخرصها
تمرا، لمن يأكلها رطبا.
1870 - ش: الرخصة التي رخصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - هي ما قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص [لصاحب العرية أن يبيعها
بخرصها من التمر، وفي رواية: رخص] في العرية، يأخذها أهل البيت بخرصها
يأكلونها رطبا» .
1871 - وعن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة بيع
الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم» .
(3/473)
1872 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - نحوهما، متفق عليهن.
إذا عرف هذا فقد اختلف في العرية لغة، فقيل: إنها نوع من العطية، خصت باسم
كالنحلة، لا بيع، قال الجوهري: العرية النخلة يعريها رجلا محتاجا، فيجعل
تمرها
(3/474)
له عاما، فعيلة، بمعنى مفعولة وأنشد لسويد
بن الصامت:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقال غيره: إنه من عراه يعروه، إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه أي أعطاه
إياها، كما يقال: سألني فأسألته. وهو نحو الأول، وعن أبي عبيد: العرية اسم
لكل ما أفرد عن جملة، سواء كان للهبة، أو للبيع، أو للأكل. ونحو
(3/475)
ذلك قال أبو بكر وغيره من أصحابنا، قال
بعضهم: سميت بذلك هنا لأنها معرية من البيع المحرم، أي مخرجة منه.
واختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في العرية التي وقع الترخيص فيها شرعا،
على نحو اختلاف أهل اللغة، فظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب التلخيص - تخصيصها
بالهبة، وهو ظاهر كلام أحمد، قال أيضا في رواية سندي، وابن القاسم: العرية
أن يهب الرجل للجار أو ابن العم النخلة والنخلتين، ما لا تجب فيه الزكاة،
فللموهوب له أن يبيعها بخرصها تمرا للمرفق.
ومختار القاضي وجمهور الأصحاب عدم اختصاصها بالهبة، بل هي عندهم [في
الجملة] شراء الرطب على رؤوس النخل، سواء كان ذلك موهوبا أو غير موهوب.
1873 - وقد روي «عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد: ما عراياكم هذه؟ فسمى
رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطبا، وعندهم فضول
من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم،
يأكلونه رطبا» ، وهذا بظاهره - إن صح - يدل لما قاله الجمهور.
(3/476)
1874 - ويرشحه ما في الصحيح من حديث سهل
«أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في بيع العرية أن تباع
بخرصها تمرا، يأكلها أهلها رطبا» ، وقد يقال: إنه لا دليل في كليهما، إذ
فيهما أنه رخص في بيع] العرايا، وليس في الحديث بيان العرايا ما هي.
1875 - ومما استدل به أيضا لقول القاضي ومن وافقه تفسير يحيى بن سعيد، أحد
رواة الحديث، فإنه قال: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات، لطعام أهله
رطبا، بخرصها تمرا.
1876 - وعورض بتفسير ابن إسحاق، فإنه فسرها بالهبة، كذا نقل عنه أبو داود،
مع أن كليهما غير صحابي، فلا حجة في
(3/477)
تفسيرهما.
وبالجملة يشترط لجوازها على كلا القولين شروط (أحدها) كونه رطبا على رؤوس
النخل، لما تقدم، أما الرطب على وجه الأرض فلا يجوز بتمر، لنهيه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، خرج منه ما تقدم بحكم
الأخذ شيئا فشيئا، لحاجة التفكه كما دلت عليه قصة محمود بن لبيد، وهذا
المعنى مفقود في الرطب المجذوذ، فيبقى فيه على المنع.
(الثاني) : كونها فيما دون خمسة أوسق.
1877 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في العرايا بخرصها، فيما دون خمسة
أوسق أو في خمسة أوسق» . متفق عليه، شك داود بن الحصين، أحد الرواة، وهذا
يخص ما تقدم من حديث زيد، ورافع
(3/478)
وسهل، وغيرهم، ويقضي عليها، فلا يجوز فيما
زاد على خمسة أوسق، على المذهب المعروف، المجزوم به، وبعض الأصحاب يقول:
رواية واحدة، وأغرب ابن الزاغوني في
(3/479)
وجيزه فلم يشترط الأوسق أصلا فيما إذا كان
المشتري هو الواهب، بأن شق عليه دخول الموهوب له وخروجه في بستانه، أو كره
الموهوب له دخول بستان غيره، ولا نظير لهذا.
أما على المذهب ففي الخمسة (روايتان) المختار منهما عند الأصحاب المنع، لأن
النهي عن المزابنة مطلق، خرج منه ما دون الخمسة بيقين، ووقع الشك في الخمسة
بيقين، فيبقى على مقتضى الأصل من المنع، (والثانية) الجواز، نظرا إلى عموم
أحاديث الرخصة، خرج منها ما زاد على الخمسة بيقين، فما عداه يبقى على مقتضى
الترخيص.
(الثالث) : كون ذلك بخرصه لا جزافا، لما تقدم من الأحاديث، وأيضا فالشارع
أقام الخرص للحاجة مقام الكيل، فلا يجوز العدول عنه، كما لا يعدل عن الكيل
فيما يشترط فيه الكيل، ثم هل الخرص على ما يؤول إليه عند الجفاف، وهو
اختيار القاضي، وأبي محمد، وصاحب التلخيص، ارتكابا لأخف المفسدتين - وهو
الجهل بالتساوي - دون أعظمهما - وهو العلم بالتفاضل - أو
(3/480)
على ما هو عليه إذا نظرا للتساوي في الحال،
ولعله ظاهر الأحاديث وقيل: إنه المنصوص هنا؟ على روايتين.
(الرابع) : كون البيع بتمر، فلا يجوز بيعها بخرصها رطبا، لما تقدم من حديثي
زيد وسهل، نعم لا إشكال في جواز البيع بنقد أو بعرض، لانتفاء المزابنة
رأسا، ويشترط في التمر المشترى به (أن يكون) كيلا لا جزافا.
1878 - لأن في البخاري عن ابن عمر عن زيد مرفوعا: «ورخص في العرايا [أن
تباع بخرصها كيلا» ، ولأن الأصل كما تقدم اعتبار الكيل من الجانبين، سقط في
أحدهما، وأقيم الخرص مقامه للحاجة، ففي الآخر يبقى على مقتضى الأصل، (وأن
يكون) التمر مثل ما حصل به الخرص، لا أزيد ولا أنقص.
1879 - لأن في الترمذي في حديث زيد: «أذن لأهل العرايا] أن يبيعوها بمثل
خرصها» .
(3/481)
(السادس) اشتراط الحلول والقبض من الطرفين
في مجلس العقد، نص عليه، لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه جميع شروطه، عدا ما
استثناه الشارع، وقبض كل منهما بحسبه، ففي النخلة بالتخلية، وفي التمر
باكتياله، فإن سلم أحدهما ثم مشى الآخر فسلم جاز. (السابع) اعتبار الحاجة،
(3/482)
لما تقدم من قصة محمود بن لبيد، وذكر
الرخصة يؤذن بذلك. ثم الحاجة [تارة] تكون للمشتري، بأن يحتاج إلى أكل
الرطب، ولا ثمن معه إلا التمر، وهذا الذي في قصة محمود بن لبيد، وهو الذي
قاله الخرقي، (وتارة) تكون للبائع، بأن يحتاج إلى أكل [التمر] ، ولا ثمن
معه إلا الرطب، وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي وطائفة من الأصحاب، ونص عليها
أبو بكر، وأبو البركات، وغيرهما، وجوازها بطريق التنبيه، لأنه إذا جاز
مخالفة الأصل لحاجة التفكه فلحاجة الاقتيات أولى، وهذا يعتمد أصلا، وهو
جواز القياس على الرخصة، وعليه المعول، إن فهمت
(3/483)
[العلة] كمسألتنا، وعن ابن عقيل أنه جعل من
صور الحاجة - إذا كانت موهوبة - أن يشق على الواهب دخول الموهوب له بستانه
وخروجه، أو يكره الموهوب دخول بستان غيره، فيجوز إذا البيع، انتهى.
ويكتفى بالحاجة المتقدمة من جهة البائع أو المشتري على المشهور، والمختار
لأبي محمد وغيره، وظاهر ما في التلخيص أنه يشترط مع حاجة المشتري المتقدمة
أن يشق على الموهوب له القيام عليها، وحكى أبو محمد عن القاضي، وأبي بكر
اشتراط [الحاجة من جانبي البائع والمشتري، والذي في (التنبيه) : العرية أن
يكون للرجل النخلة والنخلتان حملهما دون خمسة أوسق، وهو محتاج إلى التمر] ،
أو يكون إنسان يحتاج إلى الرطب ولا يمكنه شراؤه إلا بالتمر، فيتبايعان
الرطب بالتمر، وهذا صريح في الاكتفاء بالحاجة من أحد الجانبين، [نعم اشتراط
الحاجة من الجانبين] هو المقدم عند ابن عقيل.
(3/484)
(تنبيهات) : «أحدها» يتفرع على اشتراط
الحاجة من الجانبين أنه لو باع رجل عريتين [من رجلين] ، فيهما أكثر من خمسة
أوسق لم يجز، أما من اكتفى بالحاجة من أحد الجانبين فإنه ألغى جانب البائع،
ولم يعتبر إلا المشتري، فيجوز للبائع أن يبيع مائة وسق في عقود متعددة،
بالشروط السابقة، ولا يجوز للمشتري أن يشتري أكثر من خمسة أوسق، ولو في
صفقتين.
(الثاني) (هل تختص) الرخصة بعرية النخل، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار ابن
حامد، وابن عقيل، وأبي
(3/485)
محمد، اقتصارا على مورد النص، إذ غيرها لا
يساويها في الحاجة، لجمعها بين المصلحتين، التفكه والاقتيات.
1880 - ثم في الترمذي في حديث رافع وسهل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة التمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا،
فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه» .
(أو لا تختص) ، فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي، إلحاقا لذلك بعرية
النخل، بجامع الحاجة، أو يلحق العنب فقط، وهو احتمال لأبي محمد، لقوة شبهه
بالرطب في الاقتيات والتفكه على ثلاثة أقوال، وخرج أبو العباس على ذلك بيع
الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة،
نظرا للحاجة.
1881 - (الثالث) المزابنة فسرها أبو سعيد الخدري، ورافع، وسهل، ببيع الثمر
بالتمر وفي حديث سهل في الصحيح:
(3/486)
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة» .
1882 - وفسرها ابن عمر بأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان
كرما بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. متفق
عليه، زاد مسلم: «وعن كل تمر بخرصه» .
(والمزابنة) : مفاعلة، مأخوذة من «الزبن» بفتح الزاي، وإسكان الموحدة،
والزبن في اللغة الدفع الشديد، ومنه وصفت الحرب بالزبون، [لشدة الدفع فيها،
وسمي الشرطي زبنيا، لأنه يدفع الناس بعنف وشدة، ومن ذلك أيضا]- والله أعلم
- (الزبانية) ولما كان كل واحد من المتبايعين في هذه المبايعة يدفع الآخر
عن حقه سميت بذلك، «والخرص» بكسر الخاء اسم للمخروص، وبفتحها المصدر،
والرواية بالكسر، قاله القرطبي، وقال النووي: «بخرصها» بفتح الخاء وكسرها،
الفتح أشهر، فمن فتح قال مصدر، ومن كسر قال اسم للشيء المخروص، وعلى هذا
يترجح بل يتعين ما قاله القرطبي «ونهى عن بيع الثمر بالتمر» الأول بثلاث
نقط، والثاني باثنتين، والمراد بذلك - والله أعلم - بيع الرطب بالتمر،
«والرجبية» من النخل منسوبة إلى رجب،
(3/487)
جمع رجبة، كركبة وركب، قاله في الصحاح،
وقال القزاز في جامعه: ومعنى البيت: ليست هذه النخلة كريمة علينا، ولكن
نعريها الزائر والضيف، والترجيب التعظيم، وإن فلانا لمرجب، أي معظم، والله
أعلم.
قال: فإن تركها حتى تتمر بطل البيع.
ش: الضمير في «تركها» يرجع للمشتري، وهذا هو المذهب من الروايتين، إذ
بتأخره علمنا عدم الشرط، وهو عدم الحاجة إلى أكل الرطب، ولأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يأكلها أهلها رطبا أي حالها أن
يأكلها أهلها رطبا، فإذا لم يأكلها أهلها رطبا انتفت صفتها التي هي حكمة
الرخصة، ولا فرق بين الترك لعذر أو غيره، سدا للذريعة (والثانية) لا يبطل،
لاستكمال الشروط حال العقد، وعن أحمد فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم
تركها، إن قصد ذلك حال العقد بطل، وإلا لم يبطل، فيخرج هنا كذلك، والقول
بالبطلان كما دل عليه كلام الخرقي فيما إذا كانت الحاجة في الرطب للمشتري،
أما إن كانت للبائع
(3/488)
في التمر فترك المشتري لها حتى تتمر وعدمه سيان، والله أعلم. |