شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب بيع الأصول والثمار]
ش: «الأصول» جمع أصل، كفلس وفلوس والمراد هنا الأشجار «والثمار» جمع ثمر، كجبل وجبال، وواحدة الثمر ثمرة، وجمع الثمار ثمر، ككتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار كعنق وأعناق، والله أعلم.

قال: ومن باع نخلا مؤبرا - وهو ما قد تشقق طلعه - فالثمرة للبائع متروكة في رؤوس النخل إلى الجذاذ، إلا أن يشترطها المبتاع.
ش: من باع نخلا مؤبرا فإن ثمرته تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع.

(3/489)


1883 - على نص حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» متفق عليه وتكون للبائع متروكة في النخل إلى الجذاذ، ولا يلزمه قطعها في الحال، إذ النقل والتفريغ جار على العرف، كما لو باع دارا له فيها قماش ونحو ذلك، فلا يلزم بالنقل ليلا، ولا جمع دواب البلد لذلك، بل إنما ينقله على المعتاد، والمعتاد في الثمرة أخذها عند جذاذها، والمرجع في ذلك إلى العادة، فإن كان نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره، إلا أن تجري العادة بأخذه بسرا، أو يكون بسره خيرا من رطبه، فإنه يجذه حين استحكام حلاوة بسره، وإن كان فاكهة فأخذه حين [يتناهى] إدراكه، ويجذ مثله، وإن قيل: إن بقاءه خير له، فلو أصابت الثمرة آفة، بحيث لم يبق في بقائها فائدة، فهل يجب تفريغ الأشجار منها في الحال، لعدم الفائدة في بقائها إذا؟ فيه احتمالان، ولو خيف على الأصول ضرر كثير - كالجفاف ونحوه - فهل يجبر أيضا رب الثمرة على القطع حفظا للأصول، أو لا، لأن رب الأصول دخل على ذلك؟ فيه وجهان أيضا، وإن احتاجت الثمرة مدة بقائها على الأصول إلى سقي لم يلزم المشتري، لأن البائع لم يملكها من جهته، لكنه لا يملك منع البائع منه إن احتاجت إليه الثمرة،

(3/490)


وإن أضر بالأصل، لاقتضاء العقد البقاء، وكذلك إن احتاجت الأصول إلى سقي، لم يملك صاحب الثمرة منع ربها، وإن أضر بثمرته كذلك أيضا.
ومفهوم كلام الخرقي أن الثمرة إذا لم تؤبر فهي للمشتري بإطلاق العقد، وهو مفهوم الحديث أيضا.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما حكم على النخل إذا أبر جميعه، أما إذا أبر بعضه فلم يتعرض له، والحكم أن النخلة الواحدة، ما لم يؤبر منها يتبع ما أبر، فيكون الجميع للبائع، بلا خلاف نعلمه، وكذلك الحكم في النوع عند ابن حامد، حذارا من سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، والمنصوص أن لكل حكم نفسه نظرا لظاهر الحديث، فعلى الأول هل الجنس كالنوع، فيتبع النوع الذي لم يؤبر النوع الذي أبر جميعه وبعضه، ويكون الجميع للبائع إذا بيع جميع الجنس، أم لكل حكمه؟ فيه قولان، أشهرهما الثاني، أما الحائطان فلا يتبع أحدهما الآخر، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة بدو الصلاح في البعض، ويأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى بما هو أتم من هذا.

(3/491)


(تنبيه) : أصل التأبير التلقيح، وهو وضع الذكر في الأنثى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فسره بالتشقق، لأن الحكم عنده منوط به، وإن لم يلقح، لصيرورته في حكم عين أخرى، وعلى هذا فإنما أنيط الحكم - والله أعلم - في الحديث بالتأبير لملازمته للتشقق غالبا، وهذا الذي قاله الخرقي هو أشهر الروايتين، وقد بالغ أبو محمد فقال: إنه لا اختلاف فيه بين العلماء.
(والثانية) : لا بد من التلقيح بعد التشقق وإلا يكون للمشتري، عملا بظاهر الحديث، وتمسكا بالمقتضى اللغوي، والله أعلم.

قال: وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد.
ش: أي ظاهر كالتين ونحوه، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع، لأنه قد صار كعين أخرى إلا أن يشترطه المبتاع، وإن لم يظهر فهو للمشتري، قياسا على ما تقدم، لمساواته له في المعنى، والأصحاب قد قسموا الشجر على أضرب ليس هذا موضع بيانها، والله أعلم.

(3/492)


قال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك لم يجز، وإن اشتراها على القطع جاز.
ش: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بدون أصلها له ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن تباع بشرط التبقية، فلا يصح إجماعا.
1884 - لما رواه عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع، وفي رواية قال: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه» .
1885 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر حتى تزهو، قلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: حتى تحمر وتصفر» .
قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه» وفي رواية: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لم يثمرها الله فبم تستحل مال أخيك» متفق عليه.

(3/493)


1886 - وروي نحو ذلك من حديث جابر، وأبي هريرة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
(والثاني) : أن يشتريها بشرط القطع في الحال، فيجوز في قول العامة، لأمن المفسدة التي علل بها صاحب الشريعة، وهو منع الله الثمرة، واستحلال مال أخيه بغير شيء، وهنا الأخذ في الحال، فالاستحلال بما أخذ في الحال.
(الثالث) : اشتراها وأطلق، وهذا لم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للحكم عليه بنفي ولا إثبات، وفيه قولان للعلماء، هما روايتان عن إمامنا، أشهرهما - وبه جزم الشيخان والأكثرون - لا يصح، لأن الإطلاق يقتضي النقل على ما جرت به العادة، والعادة في الثمرة كما تقدم قطعها إذا بدا صلاحها، فصار كأنه مشروط عدم القطع.
(والثانية) : يصح إن قصد القطع، ويلزم به في الحال، نص عليها في رواية عبد الله، حملا على عرف الشرع والحال

(3/494)


هذه، وتصحيحا لكلام المكلف ما أمكن، والشيرازي يحكي رواية بالصحة من غير اشتراط قصد القطع، وما حكاه السامري عن ابن عقيل في التذكرة - أنه ذكر في هذه المسألة أربع روايات - ليس بجيد، إنما حكى ذلك - على ما اقتضاه لفظه - فيما إذا شرط القطع ثم ترك، انتهى، أما بيعها مع أصلها فيجوز إجماعا، لأنها إذا تتبع الأصل، فأشبهت الحمل مع أمه، وأس الحيط، وأيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» .
وإن بيعت لمالك الأصل - كما إذا باع أصولها بعد أن أبرت، ولم يشترطها المشتري، ثم باعها له، وكذلك لو وصى بنخل مؤبر ثم باع الورثة الثمرة للموصى له - فوجهان (أحدهما) : يصح، وهو اختيار السامري، وصاحب التلخيص فيه، لأنه اجتمع الأصل والثمرة للمشتري، فأشبه ما لو اشتراهما معا (والثاني) : - وهو

(3/495)


ظاهر كلام الخرقي - لا يصح، لعموم الحديث، ولأنه لا متبوع ولا تابع، وعلى هذا لو شرط القطع صح، قال أبو محمد: ولا يلزم الوفاء بالشرط، لأن الأصل له، ومقتضى هذا أن اشتراط القطع حق للآدمي، وفيه نظر، بل هو حق لله تعالى كما سيأتي.
(تنبيهان) : (أحدهما) : الزرع قبل اشتداده كالثمرة قبل بدو صلاحها، يجري فيها ما تقدم.
1887 - ولمسلم وأبي داود، والترمذي، في رواية في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» .
1888 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» ، رواه أبو داود والترمذي.
(الثاني) : «الزهو» قد فسره أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،

(3/496)


وفيه لغتان: زهى يزهو، وأزهى يزهي، حكاهما أبو زيد، قال الأصمعي: لا يقال النخل يزهو. وإنما يقال: يزهي، قال الخطابي: هكذا روي الحديث. يعني «يزهو» ، والصواب في العربية «تزهي» قال ابن الأثير: وهذا القول منه ليس عند كل أحد، فإن اللغتين قد جاءتا عند بعضهم، وبعضهم لا يعرف في النخل إلا «أزهى» ، انتهى وابن الأعرابي فسر «زهى يزهو» بمعنى: ظهر. «وأزهى يزهي» إذا احمر أو اصفر، «والحب» الطعام، واشتداد الحب قوته وصلابته، والله أعلم.

قال: فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع.
ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمختار من الروايات للأصحاب الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وغيرهم، لعموم نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو، خرج منه صورة اشتراط القطع، وفعله عقب العقد بما هو كالإجماع فيبقى فيما عداه على مقتضى النهي، ولأنه أخر قبضا مستحقا لله تعالى، فأبطل العقد، كتأخير [قبض] رأس مال السلم والصرف.

(3/497)


والمعتمد في المسألة سد الذرائع، فإنه قد يتخذ اشتراط القطع حيلة، ليسلم له العقد، وقصده الترك، والذرائع معتبرة عندنا في الأصول وقد عاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب السبت بما عاقبهم به، لما نصبوا الشباك يوم الجمعة، حيلة على الصيد بها يوم السبت، وعاقب أصحاب الجنة بما عاقبهم، لما قصدوا حرمان الفقراء، والتحيل على إسقاط حق الله سبحانه، ونهى سبحانه عن سب الآلهة التي تدعى من دون الله، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب الله جل وعلا، بقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
1889 - وامتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتل المنافقين، حذارا من أن يقال: إن محمدا يقتل أصحابه.

(3/498)


1890 - ومنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سائق الهدي أن يأكل منه هو أو أحد من رفقته إذا عطب دون محله، حذارا من أن يقصر في علفه ويفرط فيه.
1891 - ومنع القاتل من الإرث، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى تعجيل الميراث.
1892 - وأمر عمر بقتل الجماعة بالواحد، سدا للذريعة أيضا، وأدلة هذا الأصل كثيرة، وقد عمل إمامنا على ذلك في كثير من المسائل. (والرواية الثانية) لا يبطل البيع، نظرا إلى أن المبيع بحاله، وغاية الأمر أنه انضاف إليه غيره، وذلك لا يقتضي البطلان، بدليل ما لو اشترى حنطة فاختلطت بأخرى ولم تتميز، (والثالثة) : نقلها أبو طالب - إن قصد الحيلة فسد البيع، لمقارنة النهي للعقد إذا، وإن لم يقصد

(3/499)


الحيلة لم يفسد، لخلو العقد عن النهي ظاهرا وباطنا، وقد اختلف الأصحاب في هذه الرواية والتي قبلها، فأثبتها ابن عقيل وغيره، وتأول الثالثة شيخه فقال: معناها ما إذا لم يقصد الحيلة وهو أسهل، يعني أنه لا يأثم، وإن قصد الحيلة أثم، قال: وإلا فهما يتفقان في حكم الصحة والبطلان، إذ ما يبطل العقد لا فرق فيه بين القصد وعدمه، قال: فمحصول المذهب فيه روايتان، وأبو محمد تأول الثانية على ما إذا لم يقصد الحيلة، ومع القصد يبطل البيع عنده رواية واحدة، ومحل الخلاف عنده مع عدم القصد، وطريقته أخص الطرق، كما أن أعم الطرق طريقة ابن عقيل. (وحيث قيل) بالفساد فإن المبيع بزيادته للبائع، نص عليه أحمد، ويرد الثمن، لأنه قد تبين عدم الشرط المصحح للعقد، فبطل من أصله. (وحيث قيل) بالصحة فهل يشترك البائع والمشتري في الزيادة، لحدوثها عن ملكيهما، أو يتصدقان بها استحسانا للاختلاف؟ فيه روايتان منصوصتان، وحمل القاضي في

(3/500)


روايتيه وفي تعليقه كلا النصين على الاستحباب، وجعل الزيادة للمشتري، هذا هو التحقيق في النقل، وفاقا لنصوص الإمام وللقاضي في التعليق، وأبي البركات، وحكى ابن الزاغوني وأبو محمد وغيرهما رواية أن البائع يتصدق بالزيادة على القول بالبطلان، وكأنهم تبعوا القاضي في روايتيه، فإنه زعم أن حنبلا روى ذلك عن الإمام، وفيه نظر، فإنه صرح في التعليق بأن حنبلا وابن سعيد اتفقا على الصحة، إلا أن ابن سعيد [قال] : يشتركان، وحنبلا قال: يتصدقان، وفي الكافي رواية بالشركة على القول بالبطلان أيضا، وكأنه أخذها من قول ابن أبي موسى: وقيل عنه. ويتلخص من ذلك أن على القول بالبطلان ثلاثة أقوال، كما ذلك على القول بالصحة.
ومعنى التصدق بالزيادة أو الاشتراك فيها أن ينظر كم قيمتها وقت العقد، وكم قيمتها بعد الزيادة، فما بينهما محل التردد،

(3/501)


فإذا قيل - مثلا - قيمتها وقت العقد مائة، ثم صارت قيمتها بعد الزيادة مائتين، فالصدقة أو الشركة له بالمال الزائد.
ثم من المباشر للصدقة فيها؟ قد تقدم أن على رواية البطلان يتصدق بها البائع، أما على رواية الصحة فظاهر نص الإمام كما سيأتي أنهما يتصدقان بها، وقال ابن الزاغوني: لا تدخل في ملك واحد منهما، ويتصدق بها المشتري.
(تنبيه) : ترجم الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المسألة إذا ترك حتى بدا الصلاح، وكذا القاضي وجماعة، وكذا وقعت نصوص أحمد الذي حكم فيها بالبطلان، أما نصاه اللذان حكم فيهما بالصحة، فقال فيهما: إذا كبرت وزادت، قال في رواية ابن سعيد: لا يشتري الرطبة إلا جزة، فإن تركها حتى تطول وتكبر كان البائع شريكا للمبتاع في الثمن، إلا أن يكون يسيرا، قدر يوم أو يومين، وكذلك النخل، ومن ثم استثن ابن عقيل من كون البائع يشارك المشتري الزمن اليسير، تبعا لنص الإمام انتهى، وقال في

(3/502)


رواية حنبل: إذا باعه زرعا على أن يجزه، أو نخلا على أن يصرمه، فتركه حتى زاد، فالزيادة لا يستحقها واحد منهما، ويتصدقان بها، فقد يقال بتقرير نصوصه، فالبطلان إذا بدا الصلاح، والصحة إذا لم يبد، والله أعلم.

قال: وإن اشتراها بعد أن يبدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز.
ش: الأصل في ذلك ما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيعها حتى تزهو، ونحو ذلك.
1893 - وعن عمرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة» ، رواه مالك في الموطأ.
ودلالة هذه الأحاديث من أوجه (أحدهما) : أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيا النهي بغاية، فبوجودها يزول النهي، ويبقى على أصل الإذن في جواز البيع (الثاني) أن ما بعد الغاية والحال هذه يعطى

(3/503)


عكس حكم ما قبلها، وإلا فذكر الغاية إذا وعدمها سيان، وما قبلها لا يجوز إلا بشرط القطع، فما بعدها يجوز وإن شرط الترك، (الثالث) : أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل المنع بعلة، وهي الخوف من تلفها، ووقوع العاهة بها، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وإذا بدا الصلاح زالت العلة غالبا، فيزول المنع انتهى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على ما إذا اشتراها بشرط القطع، ليصرح بمخالفة الخصم، ويفهم منه بطريق التنبيه صورة الوفاق، وهي ما إذا أطلق.
(تنبيهان) : «أحدهما» بدو الصلاح في شجرة صلاح لجميعها، بلا خلاف أعلمه بين الأصحاب، وكثير منهم يقول: رواية واحدة، واختلف في صلاح بعض النوع، هل يكون صلاحا [لسائر ذلك النوع الذي في القراح؟ فيه روايتان، أشهرهما عن الإمام: لا يكون صلاحا له كما لا يكون صلاحا] لقراح آخر، وهذا اختيار أبي بكر في الشافي، وابن شاقلا في تعاليقه، واستدل له ابن شاقلا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حتى يبدو صلاحه» وقال: وهو يقتضي الكل

(3/504)


بدلالة قَوْله تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فإنه يقتضي الكل لا البعض (والثانية) : - وهي اختيار الأكثرين، ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي وأصحابه وغيرهم - يكون صلاحا كما في النخلة الواحدة [إذ سوء المشاركة والاختلاط موجود في النوع، كما في النخلة الواحدة] ، وخرج بذلك قراح آخر، واختلف القائلون بهذه الرواية في النوع - كالبرني مثلا - هل يكون صلاحا لسائر الجنس الذي في القراح؟ فقال القاضي، وابن عقيل، وأبو محمد والأكثرون: لا يكون صلاحا، وقال أبو الخطاب: يكون صلاحا، وهو ظاهر النص الآتي.
ولا نزاع أن المذهب أن صلاح الجنس لا يكون صلاحا لجنس آخر، وكذلك صلاح نوع من بستان، لا يكون صلاحا لنوع آخر من بستان آخر، وعنه أن بدو الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه.

(3/505)


(الثاني) نص أحمد في الرواية الأولى: إذا احمر بعضه وبعضه أخضر، يباع الذي بلغ، وهذا يشمل النخلة والنخلات، لكن القاضي قال: يجب أن يحمل هذا على أنه لا يكون صلاحا لنخلة أخرى، أما النخلة فيكون صلاحا لها رواية واحدة، ونصه في الثانية، في بستان بعضه بالغ، وبعضه غير بالغ: بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمن القائلين بالرواية الثانية، من قصر الحكم على الغلبة، كالقاضي في تعليقه، وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات، تبعا لهذا النص، ومنهم من سوى بين القليل والكثير، كابن أبي موسى مصرحا به، وأبي الخطاب وغير واحد، تبعا - والله أعلم - للنص المحكي أخيرا، ويتلخص في المسألة ثلاث روايات، (الثالثة) الفرق بين الغلبة وغيرها، ثم كلا النصين اللذين حكم فيهما الإمام بالصلاح يشملان النوع، والجنسين، كما يقوله أبو الخطاب، عكس المشهور.
واعلم أن معنى: ما لم يبد صلاحه في حكم ما بدا صلاحه، في جواز بيعه مع ما بدا صلاحه تبعا له، فلو أفرد بالبيع فوجهان، وحكاهما القاضي في المجرد، فيما لم يؤبر من النوع، إذا أفرد بالبيع أن ثمرته تكون للبائع، إن قيل: إن ما لم يؤبر تبع لما أبر، وخالفه ابن عقيل فقال: إن الثمرة

(3/506)


- والحال هذه - تكون للمشتري قولا واحدا، والله أعلم.

قال: فإن كانت ثمرة نخل فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة، وإن كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه، وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيه النضج.
ش: لما أناط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز البيع ببدو الصلاح فسره وبينه، بأنه ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمرة النخل، وذلك لما تقدم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى تحمر وتصفر.
1894 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع الثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح؟ قال: حتى تحمار وتصفار ويؤكل منها» .
1895 - وسأل سعيد بن فيروز ابن عباس عن بيع النخل، فقال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل، وحتى يوزن، قال فقلت: وما يوزن؟ فقال رجل عنده:

(3/507)


حتى يحزر» . متفق عليهما، وصلاح ثمرة الكرم أن تتموه، أي يجري فيها الماء الحلو وتلين، وكذلك ما سوى ثمرة النخيل والكرم، صلاحه أن يبدو فيه النضج لصلاحيته، وكذلك الذي قبله للأكل، وإذا يدخل في معنى الأحاديث السابقة، وعلى هذا أيضا ينبغي أن يحمل كلام الخرقي في ثمرة النخل، أنه لا بد مع احمرارها واصفرارها من صلاحيتها للأكل، وفاقا لحديث جابر وابن عباس، وكذلك جعل أبو البركات الضابط في جميع الثمار أن يطيب أكلها، ويظهر فيها النضج، وأبو محمد جعل ما يتغير لونه عند صلاحه، كالأجاص، والعنب الأسود، صلاحه تغير لونه كثمرة النخل، والضابط الذي ذكره أبو البركات أجود.
(تنبيهان) : «أحدهما» اختلف الأصحاب فيما يؤكل صغارا وكبارا، كالقثاء والخيار، ونحوهما، فقال القاضي وابن عقيل: صلاحه تناهي عظمه، وقال أبو محمد: أكله

(3/508)


عادة. وتوسط صاحب التلخيص فقال: صلاحه التقاطه عرفا، وإن طاب أكله قبل ذلك.
(الثاني) «تشقح» بضم التاء وإسكان الشين، وتخفيف القاف، مضارع «أشقح» وقد فسره جابر، و «تحزر» بتقديم الزاي على الراء، أي تخرص، وفي بعض الأصول بتقديم الراء، قيل: إنه تصحيف، والله أعلم.

قال: ولا يجوز بيع القثاء والخيار، والباذنجان، وما أشبهها إلا لقطة لقطة.
ش: لا يجوز بيع الخيار، والباذنجان، وما أشبه ذلك - كالقثاء والبطيخ - إلا لقطة لقطة، لأن الزائد على ذلك غير معلوم، فلم يجز بيعه، لعدم العلم به.
واعلم أن هذه الأشياء عند جمهور الأصحاب أصولها كالشجر النابت، وثمرتها كثمرته، فتباع أصولها مطلقا، وثمرتها قبل بدو صلاحها [معها] ، أو لمالكها على وجه، أو بشرط القطع، أو مطلقا بشرطه على رواية، وبعد بدو الصلاح يباع الموجود منها واختار صاحب التلخيص المنع

(3/509)


من بيع ثمارها قبل بدو صلاحها إلا بشرط القطع، وإن بيعت مع أصولها، لتعرضها للآفة مع الأصول إلا إن بيعت مع الأرض، أو لمالكها، وقياس قوله أن أصولها لا تباع صغرة إلا إذا أمنت العاهة، إلا أن تباع مع الأرض أو لمالكها، أو بشرط القطع، والله أعلم.

قال: وكذلك الرطبة كل جزة.
ش: حكم الرطبة وما ثبت أصوله في الأرض ويؤخذ دفعة بعد دفعة - كالنعنع، والهندباء، ونحو ذلك - حكم الخيار، والباذنجان، لا يباع إلا الموجود منه جزة جزة، بشرط القطع في الحال، إذ ما لم يظهر معدوم، والموجود متى ترك ولم يقطع اختلط بغيره، وإذا يفضي إلى مشاجرة ونزاع، وذلك مما لا يرضاه الشارع.
(تنبيه) : حكم بيع الخيار ونحوه، والرطبة ونحوها - إذا بيع بشرط القطع، ثم ترك حتى طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى ولم يتميزا - حكم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، إذا بيعت بشرط القطع، ثم تركت حتى بدا صلاحها على ما تقدم، قال غير واحد: ونص أحمد وقع في رواية ابن

(3/510)


سعيد في الرطبة إذا تركها حتى طالت بالصحة، وأظن أن ذلك وقع لابن عقيل أيضا.
أما إن اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها، فحدثت ثمرة أخرى للبائع، فإن تميزتا فلا كلام، وإن لم تتميزا اشتركا بقدر ما لكل منهما، فإن لم يعلم القدر وقف الأمر حتى يصطلحا، هذا رأي ابن عقيل، وأبي محمد وهو الصواب، بخلاف الثمرة قبل بدو صلاحها ونحوها، لارتكاب النهي ثم، وسدا للذريعة، لئلا يتخذ ذلك حيلة لما هو ممنوع منه شرعا، وأجرى أبو الخطاب في ذلك الروايتين اللتين في الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال القاضي: إن كانت الثمرة للبائع، فحدثت أخرى، قيل لكل منهما: اسمح بنصيبك. فإن فعل أجبر الآخر على القبول، وإن امتنعا فسخ العقد، وإن اشترى ثمرة فحدثت أخرى لم يقل للمشتري اسمح، إذ الثمرة كل المبيع، ويقال للبائع ذلك، فإن سمح أجبر المشتري على القبول، وإلا فسخ العقد، قال ابن عقيل: ولعل هذا القول لبعض أصحابنا، فإني لم أجده معزيا إلى أحمد، والله أعلم.

(3/511)


قال: والحصاد على المشتري.
ش: الحصاد قطع الزرع، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كأنه استعمله في جميع ما تقدم، لأن الجميع قطع، وإنما كان ذلك على المشتري لأنه لتفريغ ملكه عن ملك البائع، وأنه عليه كنقل الطعام ونحوه، وفارق الكيل والوزن والذرع والعدد، فإنهن من تمام التسليم، وذلك على البائع، والتسليم هنا حصل بالتخلية، والله أعلم.

قال: فإن شرطه على البائع بطل البيع.
ش: اختلف الأصحاب أولا في جواز هذا الشرط، فذهب جماعة منهم - كأبي بكر، وابن حامد، والقاضي وجماعة من أصحابه وغيرهم - إلى جوازه، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن البيع لا يبطله شرط واحد، ولأن قصاراه أنه بيع وإجارة، وإنهما جائزان منفردين، فجازا مجتمعين، وذهب الخرقي إلى منعه، وهو الذي أورده ابن أبي موسى مذهبا، لأنه اشترط العمل في المبيع قبل ملكه، أشبه ما

(3/512)


لو استأجره ليخيط له ثوب زيد إذا ملكه، وأجيب بأن في مسألتنا حصلت الإجارة والملك معا، ومثل ذلك لا يمنع، على المنصوص في جواز رهن المبيع على الثمن، بخلاف ما تقدم، وعلى هذا القول هل يبطل البيع لبطلان الشرط؟ فيه روايتان حكاهما ابن أبي موسى.

(3/513)


والخرقي قطع بالبطلان، فيحتمل أن مذهبه بطلان البيع بالشرط الفاسد، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وابن عقيل، ويحتمل أن يخص البطلان هذا الشرط، وهو المرجح عند أبي محمد.
(تنبيه) : خرج أبو الخطاب وجماعة من أتباعه من قول الخرقي عدم صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع مطلقا، وأبو البركات وصاحب التلخيص ذكرا ذلك رواية، فيحتمل أن مستندهما ذلك، ويحتمل أنهما اطلعا على نص، وتردد أبو محمد في التخريج، والأرجح عنده عدمه، وقصر كلام الخرقي على هذه المسألة وشبهها مما يفضي إلى التنازع، فإن البائع يريد القطع من أسفل، ليبقى له بقية، والمشتري يريد الاستقصاء ليزيد له ما يأخذه، وإنما ترجح ذلك عنده لما تقدم من إفضاء ذلك إلى التنازع، وليوافق المذهب [في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع، إذ القاضي قد قال: إنه لم يجد بما قال الخرقي رواية في المذهب] لأن الخرقي قال بعد: والبيع لا يبطله شرط واحد.

(3/514)


وجميع ذلك معترض، أما الإفضاء إلى التنازع فممنوع، إذ القطع على ما جرت به العادة، كما لو لم يشترطه عليه، وأما موافقة المذهب فإن المذهب أيضا عند الأكثرين صحة هذا الشرط، والقاضي إنما كلامه فيه، وأما قول الخرقي فلا بد من تخصيصه بهذا الشرط، أو بشرط منفعة البائع في المبيع.
وبالجملة يتلخص في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ثلاثة أقوال، (الصحة) مطلقا، وهو المختار للأكثرين، والمنصوص عن الإمام.
1896 - محتجا بأن محمد بن مسلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من نبطي جزرة حطب، وشارطه على حملها، (والمنع) مطلقا، (والمنع) في جز الرطبة وما في معناها، والصحة فيما عدا ذلك، ثم محل الخلاف إذا كانت المنفعة معلومة، أما إن جهلت لهما أو لأحدهما فإنه لا يصح اشتراطها بلا نزاع نعلمه، والله أعلم.

(3/515)


[الاستثناء في البيع]
قال: وإذا باع حائطا واستثنى منه صاعا لم يجز، فإن استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز.
ش: لا نزاع فيما نعلمه في جواز الثنيا كانت معلومة، ولم تعد على المستثني بجهالة، كما إذا باع حائطا واستثنى منه نخلة بعينها أو نخلات كذلك، ونحو ذلك.
1897 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة، والثنيا إلا أن تعلم» ، رواه النسائي، والترمذي وصححه، وهذه الثنيا معلومة، فصحت بمقتضى الحديث، ولأن مثال ذلك إذا كان في الحائط مائة نخلة مثلا، واستثنى نخلة منه فقال: بعتك تسعا وتسعين.

(3/516)


ولا إشكال أيضا في منع الثنيا إذا كانت مجهولة، كما لو قال - والحال ما تقدم -: إلا نخلة، أو إلا جزءا من الثمرة، ونحو ذلك، للحديث أيضا، ولأن جهالة المستثنى تفضي إلى جهالة المستثنى منه، ومن شرط المبيع كونه معلوما.
1898 - بدليل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر، ونحو ذلك.
واختلف فيما إذا باع حائطا واستثنى منه صاعا، أو صبرة لا يعلمان قفزانها واستثنى منها قفيزا، ونحو ذلك، أو باع حائطا واستثنى ثلث ثمرته أو ربعها، أو صبرة واستثنى سبعها أو ثمنها ونحو ذلك، على ثلاثة روايات، (إحداهما) : الصحة في الجميع، اعتمادا على الحديث، إذ الثنيا والحال هذه

(3/517)


معلومة، وقد قيل: إنه إجماع أهل المدينة، (والثانية) : - وهي اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى - عدم الصحة في الجميع، لأن الثنيا والحال هذه تفضي إلى جهالة المبيع، وبيانه أن المبيع والحالة هذه إنما علم بالمشاهدة، وبعد إخراج المستثنى تختل المشاهدة، وإذا يدعى تخصيص الحديث لذلك (والثالثة) : يصح في: إلا ثلثها، إلا سبعها، ونحو ذلك، إذ معناه، بعتك ثلثيها، بعتك ستة أسباعها، وهو معلوم، ولا يصح في: إلا صاعا، إلا قفيزا، ونحو ذلك، لما تقدم من أن المصحح للبيع - والحال هذه - الرؤية، وبإخراج الصاع ونحوه تختل، وهذه الرواية اختيار القاضي وجماعة من أصحابه، وأبي محمد وغيرهم.
واختلف الأصحاب فيما إذا باع نخلة واستثنى منها صاعا ونحو ذلك، فأجرى أبو محمد فيه الخلاف، وقطع القاضي في شرحه، وفي جامعه الصغير بالصحة، معللا بأن الجهالة هنا يسيرة فتغتفر، بخلاف ثم، وكذا وقع نص أحمد في رواية حنبل بالصحة، وتردد القاضي في التعليق

(3/518)


فيه، هل يجري على ظاهره، لما تقدم من قلة الجهالة، أو يحمل على الرواية التي قال فيها ثم بالصحة.
واختلفوا أيضا فيما إذا قال: بعتك هذا الحيوان إلا ثلثه، أو إلا ربعه، ونحو ذلك، فأجازه أبو محمد، وابن عقيل، كما لو قال في الصبرة: إلا ثلثها، ومنع ذلك القاضي في المجرد، قال: على قياس قول الإمام في الشحم، ورد بأن الشحم مجهول، ولا جهالة هنا، وحمل ابن عقيل كلام شيخه على أنه استثنى ربع لحم الشاة، لا ربعها مشاعا، ثم اختار الصحة في ذلك أيضا، والله أعلم.

[وضع الجوائح]
قال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فلحقتها جائحة من السماء رجع بها إلى البائع.
ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه في وضع الجوائح في الجملة.
1899 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق؟» وفي رواية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وللنسائي في رواية أخرى «من باع ثمرا فأصابته

(3/519)


جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا، علام يأكل أحدكم مال أخيه المسلم» ولأن الثمار على رؤوس الأشجار تجري مجرى الإجارة، لأنها تؤخذ شيئا فشيئا كالمنافع، ثم المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمار، لا يقال: المنافع قبل مضي المدة غير مقبوضة، بخلاف الثمار فإنها مقبوضة، لأنا نقول: كلاهما في حكم المقبوض من وجه، ولهذا جاز التصرف في كل منهما على المذهب، ثم لا نسلم أن الثمرة مقبوضة القبض التام، بدليل أنها لو تلفت بعطش كانت من ضمان البائع، فلا ترد صحة التصرف فيها، فإنا نمنعه على رواية اختارها أبو بكر، فيما حكاه عنه ابن شاقلا.
1900 - وقال: إنه قول زيد بن ثابت، وإن سلمناه فالإجارة، يجوز التصرف فيها، وإذا تلفت كانت من ضمان المؤجر.

(3/520)


1901 - وقد اعترض على هذا بالحديث الصحيح «أن رجلا أصيب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقوا عليه» ، قال: فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» ولو كان الضمان على البائع لكانت المصيبة عليه، وأجيب بأن هذا واقعة عين، فيحتمل أنه أصيب بعد حرزها وقبضها القبض التام.
1902 - واعترض أيضا بحديث عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: «ابتاع رجل ثمرة حائط في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعالجه وقام فيه، حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع له أو يقيله، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تألى فلان أن لا يفعل خيرا» رواه أحمد ومالك في الموطأ

(3/521)


وظاهره أن الوضع غير واجب على البائع، وإلا لطلب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البائع، وأمره بذلك، وأنكر عليه حلفه، وامتناعه من الواجب، وقد أجيب بأن الجائحة هنا يحتمل أن تكون بفعل آدمي والضمان عليه، ويحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه ينزجر بقوله، ويخرج من الحق، فلم يحتج إلى طلبه.
1903 - ويشهد لذلك ما في المسند أن الرجل بلغه، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن شئت الثمن كله، وإن شئت ما وضعوا، فوضع عنهم ما وضعوا.
1904 - وفي الموطأ فسمع بذلك رب الحائط، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، هو له ويحتمل أنه كان قبل الأمر بوضع الجوائح، على أنه ليس في الحديث أن الثمرة أصابتها جائحة، مع أن الحديث مرسل، ثم يضعفه اختلاف ألفاظه، وما في المغني من أن المرأة قالت: فأذهبتها الجائحة، وأنه متفق عليه [الظاهر] أنه وهم.

(3/522)


واعترض أيضا بالأحاديث الصحيحة من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى تزهو، وقوله: «أرأيت إن لم يثمرها الله بم تستحل مال أخيك؟» ولو كان الضمان على البائع لما استحل مال أخيه، وهذا أقوى ما اعترض به.
وقد أجاب عنه القاضي بأن معناه: بم تستحل جواز الأخذ، فهو إنكار على البائع في أخذ الثمن، نظيره قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] ولا يخفى أن ظاهر اللفظ خلاف هذا.
والذي يظهر لي عدم القول بوضع الجوائح، وأن ذلك كان أولا، حين كانوا يتبايعون الثمار قبل بدو الصلاح.
1905 - بدليل ما قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان الناس في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كثرت عنده الخصومة -: «إما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر» كالمشورة يشير بها، لكثرة خصومتهم، رواه البخاري، وأبو داود، وزاد: «يتبايعون

(3/523)


الثمار قبل بدو صلاحها» ، وهذا بين في أنهم كانوا يتبايعون الثمار [قبل بدو صلاحها، وأن الجوائح ما كانت توضع، وإلا لم يكن في الخصومة فائدة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع ذلك، بأن منع البيع] قبل بدو الصلاح.
ولا تفريع على هذا، أما على المذهب، فهل توضع الجوائح مطلقا، عملا بعموم الحديث، وهو اختيار جمهور الأصحاب، إلا القدر اليسير الذي لا بد من تلفه غالبا، قال أحمد: لا أقول في عشر تمرات، ولا عشرين تمرة، وما أدري ما الثلث؟ أو لا يوضع إلا أن أتلفت الثلث فصاعدا، وهو اختيار الخلال، لأن اليسير مغتفر إذ لا بد من تلف ما غالبا، وما دون الثلث يسير.

(3/524)


1906 - بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثلث، والثلث كثير» ؟ على روايتين، وقيدهما ابن عقيل وصاحب التلخيص بما بعد التخلية، وظاهره أن قبل التخلية الكل على البائع، ثم على الثانية: عل يعتبر الثلث بالقدر أو بالقيمة؟ فيه قولان. ومعنى وضع الجوائح أن الثمرة إذا تلفت أو بعضها قبل الجذاذ كان ذلك من ضمان البائع على المذهب، فيرجع المشتري عليه بالثمن أو ببعضه حسب التالف. وعلى الرواية الأخرى إن أتلفت دون الثلث فمن ضمان المشتري، وإن أتلفت الثلث فصاعدا فمن ضمان البائع، وإن تعيبت الثمرة ولم تتلف خير المشتري بين الإمضاء والأرش، وبين الرد وأخذ الثمن كاملا.

(3/525)


ثم الجائحة التي هذا حكمها ما لم يكن بفعل آدمي، كالريح، والمطر، والجراد، والبرد، ونحو ذلك، أما ما كان بفعل آدمي كالحاصلة من قطاع الطريق، ونهب الجيوش، ونحو ذلك، فإن المشتري مخير بين فسخ العقد، ومطالبة البائع بالثمن، وبين إمضائه ومطالبة المتلف بالبدل، قاله القاضي وغير واحد، واختار أبو الخطاب في الانتصار أن الضمان - والحال هذه - يستقر على المشتري، فيلزم العقد في حقه، ثم يرجع هو على المتلف، وفي التلخيص وغيره أن في إحراق اللصوص، ونهب الحرامية والجيوش وجهان، يعني هل هو من الجائحة أم لا؟ وكأن مرادهم خلاف أبي الخطاب وشيخه، انتهى.
وقول الخرقي: اشترى الثمرة. الألف واللام للعهد، أي: الجائز بيعها، وذلك بعد بدو صلاحها مطلقا، وقبله بشرط القطع، (وقوله) : دون الأصل، يخرج به ما إذا اشتراها

(3/526)


مع الأصل، فإن ضمانها يستقر عليه، لحصولها تابعة لما ضمانه عليه، وهو الأرض. (وقوله) : ولحقتها جائحة من السماء. يخرج به الجائحة من آدمي، وكذا قال أبو البركات، وظاهره كقول أبي الخطاب. (وقوله) : رجع بها على البائع. هذا فيما قبل تناهي الثمرة، أما إن جذت فلا نزاع في استقرار العقد، ولزوم الضمان للمشتري، وكذلك إن حصل تناهيا، لأن التفريط إذا من المشتري، وكذلك إن تمكن من قطعها ولم يقطعها، فيما إذا بيعت قبل الصلاح بشرط القطع، قاله أبو البركات، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، وهو احتمال له في التعليق، لما تقدم، وزعم فيه أن ظاهر كلام الإمام الوضع أيضا، اعتمادا على إطلاقه، ونظرا إلى أن القبض لم يحصل.

(3/527)


ثم قول الخرقي: اشترى الثمرة. يشمل ثمرة النخل وغيرها، وأحمد قال - فيما حكاه عنه ابن عقيل -: إنما الجوائح في النخل، فظاهره إخراج ثمرة الشجرة، لكن قال القاضي: إنما أراد إخراج [الزرع] ، والخضروات إذ لا فرق يظهر بين الشجر، والنخل.
ويخرج من قول الخرقي وأحمد ما عدا الثمار، من الزرع، والخضروات، فلا وضيعة في ذلك، بل ضمانه على المشتري، وهذا أحد احتمالي القاضي: وقال: إنه الأشبه، بعد أن قال: إنه لا يعرف الرواية في ذلك، وفرق بأن الزرع لا يباع من غير شرط القطع إلا بعد تكامل صلاحه، فإذا تركه بعد فقد فرط، والثمرة تباع بعد بدو الصلاح، وقبل تكاملها على الترك، فلا تفريط. (والثاني) : وبه قطع أبو البركات حكم ذلك حكم الثمرة بالقياس عليها.
(تنبيهان) : «أحدهما» : ليس من الجائحة إذا استأجر أرضا للزراعة فزرعها ثم تلف الزرع بغرق أو نحوه، نص عليه

(3/528)


أحمد، وقاله الأصحاب، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منفعة الأرض، وقد استوفيت بالزراعة، والتلف حصل لمال المستأجر، فهو كما لو استأجر بهيمة لحمل متاع، فحملته فتلف أو سرق.
(الثاني) : «الجائحة» في اللغة واحدة الجوائح، وهي الآفات التي تصيب الثمار فتتلفها، يقال: جاحهم الدهر يجوحهم، واجتاحهم، إذا أصابهم مكروه عظيم، «وتألى» حلف، و «الدمان» بفتح الدال، [وتخفيف الميم] ، عفن يصيب النخل فيسوده، و «المراض» داء يقع في الثمرة فتهلك، يقال: أمرض الرجل. إذا وقع في ماله العاهة، و «القشام» هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا، و «إما لا» أصله، إن ما لا. فأدغمت

(3/529)


النون في الميم، والمعنى: إن لم يفعل فليكن هذا. وتمال إمالة خفيفة، والله سبحانه أعلم.

[تلف المبيع قبل القبض]
قال: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون، أو معدود، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، فإذا تلف فهو من مال المشتري.
ش: المبيع على ضربين، متميز، وغير متميز، فغير

(3/530)


المتميز قسمان (أحدهما) مبهم تعلق به حق توفية، كقفيز من هذه الصبرة، ورطل من هذه الزبرة، ونحو ذلك، فهذا يفتقر إلى القبض، على المذهب المعروف، المقطوع به عند عامة الأصحاب، حتى إن بعضهم يقول: رواية واحدة.
1907 - لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع» . ذكره البخاري من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تعليقا،

(3/531)


واحتج به أحمد، وقول الصحابي: مضت السنة. ينصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يدل بمفهومه على أن المبيع من مال البائع، وفي كلام أبي محمد ما يقتضي حكاية رواية بعدم افتقار ذلك إلى القبض، ولا يتابع عليها.
(القسم الثاني) : مبهم لم يتعلق به حق توفيه، كنصف العبد، وربع الإناء، وسدس القربة، ونحو ذلك، فاختلف كلام صاحب التلخيص فيه، ففي البلغة أنه كالذي قبله، قال: وإنما يفترقان في أنه لو تلفت الصبرة إلا قفيزا منها تعين أنه المبيع، بخلاف الجزء المشاع. وفي التلخيص في البيع وفي الرهن جعله من المتميزات، فيه الخلاف الآتي. والمتميز قسمان أيضا: (أحدهما) : ما تعلق به حق توفية، كبعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم، وهذا الثوب على أنه عشرة أذرع. فالمشهور عند الأصحاب - وبه قطع أبو البركات وغيره - أنه كالمبهم الذي تعلق به حق توفية، إناطة بها، قال في التلخيص: وخرج بعض الأصحاب فيه وجها أنه كالعبد والثوب، بناء على أن العلة ثم اختلاط المبيع بغيره. قلت:

(3/532)


وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، وذكر له قول الثوري: كل شيء ليس فيه كيل، ولا وزن، ولا عدد، فخراجه، وحمله، ونقصه على المشتري، وكل بيع فيه كيل، أو وزن، أو عدد، فلا بد للبائع أن يوفيه. فقال أحمد: أما العدد فلا، ولكن كل ما يكال ويوزن فلا بد للبائع أن يوفيه، لأن ملكه قائم فيه.
(القسم الثاني) متميز لم يتعلق به حق توفية، كالعبد، والدار، والصبرة، ونحو ذلك من الجزافيات، ففيه روايات.
(إحداهن) - وهي الأشهر عن الإمام، والمختار لجمهور الأصحاب - عدم افتقار ذلك إلى القبض، لمنطوق ما تقدم عن ابن عمر.
1908 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى «أن الخراج بالضمان» رواه الخمسة، أي: حاصل أو ثابت بسبب

(3/533)


الضمان، وفي رواية: «أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» رواه أحمد، وأبو داود، وظاهره أن المبيع المتعين من ضمان المشتري، لأنه جعل خراجه له، بسبب أن ضمانه عليه.
(والثانية) : افتقار ذلك إلى القبض، حكاها جماعة، منهم أبو الخطاب في الانتصار، وأخذها من قول أحمد في

(3/534)


رواية الأثرم: إن الصبر لا تباع حتى تنقل. قال: وهي معينة كالعبد والثوب. وأظهر من هذا أخذها من رواية مهنا، في من تزوج امرأة على غلام بعينه، ففقئت عين الغلام ولم تقبضه فهو على الزوج، وهذه قال في التلخيص: إنها اختيار ابن عقيل، والذي في الفصول تصحيح الأولى، ثم إنه حكى عن أبي بكر ما يقتضي تأويل الثانية، واختار هو أنها على ظاهرها، وأن عليها لا يكون الضمان على المشتري، وهذا ليس منه اختيارا للرواية، إنما فيه إثباتها، نعم هو يختار أنه لا يجوز التصرف في ذلك قبل قبضه.
1909 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: ابتعت زيتا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» ، رواه أحمد، وأبو داود.

(3/535)


1910 - وعن «حكيم بن حزام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، إني أبتاع هذه البيوع، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال «يا بن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه» رواه البيهقي في سننه.
(والرواية الثالثة) : أن المفتقر من ذلك إلى القبض هو الطعام، وإن كان غير مكيل ولا موزون، على ظاهر ما نقله أحمد بن الحسين الترمذي، وقد سأله عن بيع الفاكهة قبل القبض، فقال: في هذا شيء إن خرج مخرج الطعام، لأن الحديث في الطعام، وأصرح من هذا رواية الأثرم، وسأله

(3/536)


عن قوله: نهى عن ربح ما لم يضمن. قال: هذا في الطعام وما أشبهه، من مأكول، أو مشروب، فلا تبعه حتى تقبضه، ونحوه نقله المروذي، وهذه الرواية قال ابن عبد البر: إنها الأصح عن إمامنا، وإليها ميل أبي محمد بل ظاهر كلامه إناطة الحكم بها، وعدم النظر إلى كون المبيع مبهما أو مما تعلق به حق توفية، أو غير ذلك.
1911 - وقد استدل لها بما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» .
1912 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه» ، وفي رواية: حتى يكتاله. متفق عليهما.
1913 - وفي مسلم نحوهما من حديث جابر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

(3/537)


وهذه الأحاديث شاملة بمنطوقها لكل طعام، ومفهومها أن غير الطعام ليس كذلك، وهو في معنى مفهوم الصفة، لأنه اسم مشتق، لا اسم جامد كزيد ونحوه.
(والرابعة) : المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل والموزون، بشرط أن يكون مطعوما، قال في رواية مهنا: كل شيء يباع قبل قبضه، إلا ما كان يكال أو يوزن، مما يؤكل أو يشرب.
(والخامسة) : - وهي ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه - المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل أو الموزون، أخذا من نصه في رواية الأثرم: أن الصبر لا تباع حتى تنقل.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أناط الحكم بالمكيل، والموزون والمعدود، وظاهره خلاف هذه الأقوال، فيكون قولا سادسا، ويحتمل أنه أراد ما تعلق به حق توفية، وهو أولى، وفاقا للمذهب المنصوص. والله أعلم.

(3/538)


واعلم أن أكثر هذه الروايات وأدلتها أخذت من المنع من البيع قبل القبض، أو هو من كون الضمان على البائع، وهو مبني على ما يقوله أكثر الأصحاب، من أن المنع من البيع، ولزوم الضمان للبائع، متلازمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(3/539)


والمذهب عند العامة أن الذي يفتقر إلى القبض هو ما تعلق به حق توفية دون غيره.
إذا عرف هذا فالمفتقر إلى القبض يكون قبله من ضمان البائع، ولا يجوز لمشتريه التصرف فيه كما سيأتي، وما لا يفتقر إلى قبض من ضمان مشتريه، وله التصرف فيه، سواء قدر على القبض أو لم يقدر، لكن متى منعه البائع منه بعد المطالبة، واتساع الوقت للتسليم، ضمن ضمان غصب، لا ضمان عقد، وليس اللزوم من أحكام القبض، على المذهب كما تقدم، ولا الضمان وعدمه مرتبا على اللزوم، وقول السامري: إذا تم العقد بغير خيار، أو بخيار وانقضت مدته من غير فسخ، فإن كان المبيع غير متميز. إلى آخره، يوهم ترتب الضمان على اللزوم وليس بشيء، وكذلك ليس الملك من أحكام القبض هنا، بل يحصل الملك بمجرد العقد، على المذهب كما تقدم، نص عليه أحمد في رواية محمد بن موسى، في من اشترى قفيزا من طعام من جملة أقفزة، فهو من مال البائع، [فقيل له: أليس قد ملكه المشتري؟ فقال: بلى ولكن هو من ضمان البائع] انتهى، وإذا ما حصل من نماء في يد البائع فهو أمانة في يده للمشتري، إذ النماء تابع للملك.

(3/540)


ومعنى تضمين البائع ما تقدم أنه إن تلف بأمر سماوي بطل العقد فيه، وكان من مال البائع، فيلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإلا فلا شيء له، قال القاضي وغيره: على قياس قوله في الثمرة إذا تلفت قبل أخذها بآفة سماوية، وإن تلف بفعل من جهة آدمي، فإن كان المشتري فقد استقر العقد، وتلف من ماله، وإن كان البائع أو أجنبيا خير المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن إذا كان قد دفعه، وبين إمضائه ومطالبة متلفه بعوضه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن تلف البائع يبطل العقد. وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي بطلان العقد مطلقا، ونص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، في رجل باع ثوبا من رجل، ثم باعه من آخر قبل التفرق، ولما يسلمه للأول، واستهلكه البائع، أخذ بخلاصه، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه، فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن فعليه المثل، وظاهر هذا أن التلف إذا كان من جهة البائع ضمنه، ولم يبطل العقد، ولا يخير المشتري، ويتلخص من هذا أن في تلف البائع ثلاثة أقوال، والقاضي قال: يجب أن يحمل هذا النص على أنه اختار الإمضاء، أما إن اختار

(3/541)


الفسخ فله ذلك، كما إذا ظهر على عيب بعد القبض، فإنه يخير بين الإمضاء وبين الفسخ. (قلت) : وليس هذا نظير المسألة، إنما نظيرها أن يظهر على عيب بعد التلف، وإذا لا تخيير على المعروف، انتهى.
والعوض مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن لم يكن مثليا، كما نص عليه أحمد، وقاله جماعة، ووقع لأبي البركات وجماعة أن الواجب القيمة، فقيل: مرادهم كما تقدم، وأرادوا بالقيمة البدل الشرعي. وكان شيخنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورضي عنه - القاضي موفق الدين ينصر أن المراد القيمة على ظاهرها، انتصارا للمجد، إذ هو في كلامه أظهر منه في كلام غيره، ونظرا إلى تحقيقه، ويعلله بما ملخصه: أن الملك هنا استقر على المالية، فلذلك وجبت القيمة، والمثلية

(3/542)


لم يستقر الملك عليها، فلذلك لم تجب، ونص ابن سعيد يقطع النزاع. والله أعلم.
(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا اختلط ما تقدم بغيره ولم يتميز، فإنه يبنى على أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ فيه وجهان، ومحل ذلك كتاب الغصب، ولو تلف بعض المبيع بآفة سماوية انفسخ في قدره، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، قال في التلخيص: والذي قطع به الشيخان عدم الفسخ في الباقي، لكن يخير المشتري، لتفريق الصفقة عليه، ثم ظاهر كلام أبي محمد أنه يخير بين قبول كل المبيع ناقصا ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وظاهر كلام غيره أن التخيير في الباقي، وأن التالف يسقط ما قابله من الثمن، وإن كان تلف البعض بفعل المشتري كان ذلك بمنزلة قبضه له، وإن كان بفعل البائع أو أجنبي، خير المشتري بين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وبين الإمضاء والرجوع على المتلف بعوض ما أتلف، أما إن تعيب ولم يتلف، فإن كان بفعل البائع أو أجنبي، فالمشتري بالخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء ومطالبة المتلف بالأرش، وإن كان بغير فعل آدمي، خير بين أخذه ناقصا، ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بالثمن، قاله أبو محمد، وصاحب التلخيص، فلو كان المبيع دارا فتلف سقفها قبل

(3/543)


القبض، وقلنا: إنها من ضمان البائع، على الرواية الضعيفة، فهل ذلك بمنزلة العيب، كما لو تلفت يد العبد، أو بمنزلة تلف البعض كأحد العبدين؟ فيه وجهان.
(الثاني) : في معنى ما يتعلق به حق توفية - وإن لم يكن هو - المبيع برؤية أو صفة متقدمة، فإنه من ضمان بائعه حتى يقبضه المبتاع، ذكره ابن أبي موسى وغيره، والله أعلم.

قال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه.
ش: قد تقدم أن جمهور الأصحاب جعلوا المنع من البيع والضمان متلازمين، وأن الافتقار إلى القبض علم عليهما، فكل ما افتقر إلى القبض فضمانه على بائعه، ومشتريه ممنوع من بيعه قبل قبضه، وما لا فلا.

(3/544)


1914 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ربح ما لم يضمن» ، ومنع من بيع أشياء حتى تقبض، والظاهر أن منعه من ذلك حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وإذا إنما يبقى النظر في الممنوع من بيعه قبل قبضه، هل هو كل شيء، كما في حديثي زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، وأحاديث المنع من بيع الطعام بعض أفراد ذلك، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، إذ لا ريب أن أحاديثه أثبت، ورواته أكثر، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه ما تعلق به حق توفية، فقط ما دل عليه قول ابن عمر تضمنه أن المنع من البيع،

(3/545)


وتضمين البائع متلازمان، ويحتمله حديث عائشة في المتعين؟ انتهى.
وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول أن المنع من البيع غير ملازم للضمان، لأنه حكى أن ما تعلق به حق توفية من ضمان البائع، وفي غيره من المتعينات - كالعبد والصبرة ونحوهما - روايتان، ثم قال: إذا ثبت أن المبيع المتعين من ضمان مشتريه، فهل يصح بيعه قبل قبضه؟ نقل الأثرم: لا يجوز بيع الصبرة قبل قبضها. ونقل ابن القاسم ما يدل على الجواز، ثم حكى الخلاف أيضا في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوما، وفي المطعوم إذا لم يكن مكيلا، وهذا أيضا ظاهر ما حكى السامري عن القاضي، فإنه حكى عنه في الصبرة هل هي من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ على روايتين [وأنه هل يجوز للمشتري التصرف فيها قبل القبض؟ على روايتين] قال: الأقيس جواز التصرف، لأنه لم يتعلق به حق توفية، ولو تلف قبل القبض كان من مال المشتري، فهو كالعبد، وظاهر كلاميهما أن الخلاف في جواز التصرف على القول بالضمان، والذي يظهر لي من جهة الدليل عدم التلازم، وأن المتعينات من ضمان المبتاع لظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقول ابن عمر، وغيرها

(3/546)


من ضمان البائع، لمفهوم قول ابن عمر، وأن جميع الأشياء يمنع من بيعها قبل قبضها، لحديث زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، إذ الذي منع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، انتهى.
(تنبيهات) : «أحدها» : عموم كلام الخرقي المنع للبائع ولغيره، وهو كذلك انتهى، (الثاني) : حيث جوزنا البيع قبل القبض فباع قبل أن يقبض، فالمشتري الثاني مخير بين أن يطالب به الأول، وبين أن يطالب به الثاني، والثاني يطالب الأول (الثالث) : بيان القبض يأتي إن شاء الله تعالى للخرقي في الرهن، فلنتكلم عليه ثم، والله أعلم.

قال: والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع.
ش: الشركة في المبيع بيع بعضه بقسطه من الثمن، بأن يقول: أشركتك في نصفه بنصف الثمن، أو في سدسه بسدس الثمن، ونحو ذلك، والتولية فيه بيع جميعه بكل الثمن، وهما نوعان من أنواع البيع، فما ثبت في البيع ثبت فيهما، وقد ثبت المنع من البيع قبل القبض فيما تقدم، فكذلك فيهما، ومثلهما بيع المرابحة، نحو: رأس مالي فيه

(3/547)


مائة، بعتك بها وربح عشرة، والمواضعة، كأن يقول والحال هذه: ووضيعة عشرة. والصلح بمعنى البيع، كأن يقر له بمائة فيعطيه عنها عرضا، ونحو ذلك، والهبة بثواب، لأن المغلب فيها حكم البيع، على المذهب، والإجارة، لأنها بيع في الحقيقة، ويتصور ذلك في الأواني الموزونة، وفي المبهم في الموزون، كرطل من صنجة حديد، وفي المعين على رواية اعتبار القبض فيه، وعليها التزويج كالإجارة، قاله في التلخيص، والقسمة حيث قيل إنها بيع، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الشركة والتولية على سبيل التمثيل، أما الحوالة فقد منع الخرقي منها فيحتمل لأنها عنده بيع، ويحتمل وإن قيل: إنها عقد مستقل. لأنه تصرف في المبيع المفتقر إلى القبض قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، ويكون الخرقي قد نبه بهذه الصورة على بقية التصرفات، وهذا أوفق لعبارة القاضي،

(3/548)


وأبي الخطاب وغيرهما، لقولهم: يجوز التصرف في المبيع المتعين قبل قبضه، ولا يجوز فيما لم يتعين قبل قبضه، إلا أن القاضي وأبا الخطاب وقع في أثناء كلامهما استثناء العتق يريدان على القول بأن جميع الأشياء تفتقر إلى القبض، وقد صرح باستثناء العتق أيضا صاحب التلخيص وغيره، وحكى صاحب التلخيص عن القاضي وابن عقيل أنهما ذكرا في موضع أن رهن ما افتقر إلى القبض يصح بعد قبض الثمن، لأن قبضه قد صار مستحقا من غير خلاف، وخرج هو على ذلك الهبة بغير ثواب، وفي هذا التعليل نظر، لأن مقتضاه جواز كل التصرفات في المفتقر إلى القبض بعد قبض ثمنه، لاستحقاق قبضه، والله أعلم.

قال: وليس كذلك الإقالة، لأنها فسخ، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإقالة بيع.
ش: أي ليست الإقالة كالتولية والشركة ونحوهما، لما علل به من أنها فسخ، والممنوع منه إنما هو البيع وما في معناه، (والرواية الثانية) الإقالة بيع، أي في معناه، فتلحق بالتولية والشركة ونحوهما، وقد فهم من كلام الخرقي وتعليله إناطة الحكم بالبيع وما في معناه، وإذا ظاهره مخالف لما تقدم من قول القاضي وغيره.

(3/549)


(تنبيه) : المشهور من الروايتين - وهو اختيار جمهور الأصحاب، القاضي، وعامة أصحابه، وأبي الحسين، وأبي محمد، وحكاه عن أبي بكر - الذي قدمه الخرقي، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، يقال: أقالك الله عثرتك. أي أزالها.
1915 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادما أقاله الله عثرته» رواه أبو داود،

(3/550)


والرفع والإزالة غير البيع، إذ هو عقد، وهي رفع له فهما ضدان، ومن ثم لا يحصل أحدهما بلفظ الآخر، وجازت الإقالة في المسلم فيه، مع الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه، وعللها بأنها إزالة ملك إلى مالك، ويريد فيه بعوض على وجه التراضي، وإذا هي في معنى البيع، فتلحق به.
وللخلاف فوائد، (منها) أن على الأول يجوز قبل القبض فيما يعتبر له القبض، ولا يحتاج إلى كيل ثان، وحكى أبو محمد عن أبي بكر أنه لا بد فيها من كيل ثان إقامة للفسخ مقام البيع، والذي في التنبيه إيجاب الكيل على القول بأنها بيع، لا على القول بأنها فسخ، (ولا تجوز) إلا بمثل الثمن، (ولا تستحق) بها شفعة، (ولا يحنث) بفعلها فيما إذا حلف لا يبيع فأقال، (ويكون النماء) للبائع، قاله القاضي في الجامع الصغير، وعلى الثانية تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين، أما وجوب الاستبراء على البائع إذا عادت إليه بإقالة فالذي قطع به أبو بكر في التنبيه وجوبه على القول بأن الإقالة بيع، وكذلك الشيرازي قطع بالوجوب، وقاله وبنى المسألة على أن

(3/551)


الإقالة بيع، ومقتضى كلاميهما عدم الوجوب إن لم يقل إنها بيع، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم، وابن بختان، وجوب الاستبراء مطلقا، ولو قبل القبض، وهو مختار القاضي وجماعة من أصحابه، إناطة بالملك، واحتياطا للأبضاع، ونص في رواية أخرى أن الإقالة إن كانت بعد القبض والتصرف وجب الاستبراء، وإلا لم يجب، وكذلك حكى الرواية القاضي، وأبو محمد في الكافي، والمغني، وكأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينظر في هذه إلى انتقال الملك، إنما نظر إلى الاحتياط.
والعجب من أبي البركات، حيث لم يذكر: قبل التفرق، مع جودته وتصريح الإمام به، لكنه قيد المسألة بقيد لا بأس به، وهو بناؤها على القول بانتقال الملك، أما لو كانت الإقالة في بيع خيار، وقلنا: ولم ينتقل الملك. فظاهر كلامه أن الاستبراء لا يجب، وإن وجد القبض، ولم يعتبر أبو البركات أيضا القبض فيما إذا كان المشتري لها امرأة، بل حكى فيها الروايتين وأطلق، وخالف أبا محمد في تصريحه بأن المرأة بعد التفرق كالرجل، ونص أحمد الذي فرق فيه بين التفرق وعدمه وقع في الرجل، والله أعلم.

(3/552)


قال: وإذا اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها.
ش: وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وقال ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . وهذا يقال: إنه استفيد مما تقدم، بناء على أن مراد الخرقي بالكيل ما تعلق به حق توفية وغيره، وهو ظاهر ما شرح عليه أبو محمد وغيره، وقد يقال بالمنع هنا، وإن قيل: إنه من ضمان المشتري، اتباعا لإطلاق النص.
(تنبيه) : «الصبرة» قال الأزهري: هي الكومة المجموعة من الطعام. قال: وسميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض. والله أعلم.

قال: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة.
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعليه الأصحاب،

(3/553)


حذارا من تغرير المشتري وغشه، إذ البائع لا يفعل ذلك غالبا - والحال هذه - إلا لذلك، والغش حرام.
1916 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» .
1917 - وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه» وهذا نص في المسألة، وعن مالك

(3/554)


- رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على كراهة ذلك وإساءة فاعله، من غير تحريم، إذ المشتري يحتاط لنفسه، فلا يشتري ما يجهله، وإذا اشترى مع الجهل فالتفريط منسوب إليه، وعلى هذه الرواية البيع صحيح لازم، نص عليه، أما على الأولى فهل يفسد البيع لأجل النهي، وبه قطع أبو بكر في التنبيه، وطائفة من الأصحاب، أو لا يفسد، وهو قول القاضي، وكثير من أصحابه، إذ قصاراه أنه تدليس، وهو غير مفسد، بدليل حديث المصراة؟ فيه وجهان، ثم على القول بالصحة إن علم المشتري بعلم البائع فلا خيار له، لدخوله على بصيرة، وإن لم يعلم فله الخيار كالتدليس، ولو انفرد المشتري بالعلم دون البائع فحكمه حكم انفراد البائع بذلك، في أنه ينهى عن الشراء، وإذا اشترى ففي صحة شرائه الخلاف السابق، أما مع علمهما فعموم كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك أيضا، وقد غالى أبو بكر فجزم

(3/555)


بالبطلان فيه، وهو أحد الوجهين على القول بالبطلان مع علم أحدهما، حكاهما في التلخيص، وأما مع جهلهما فيصح البيع بلا تردد، كما فهم ذلك من كلام الخرقي، وقد دل عليه حديث ابن عمر وغيره. ولا فرق عندنا بين عين الأثمان والمثمنات.
ولا يشترط معرفة باطن الصبرة، دفعا للحرج والمشقة، اعتمادا على تساوي أجزائها غالبا، بخلاف الثوب ونحوه، وشرط أبو بكر في التنبيه لجواز بيع الصبرة تساوي موضعها، فإن لم يتساو لم يجز، إلا أن يكون يسيرا يتغابن بمثله، وعامة الأصحاب لا يشترطون ذلك، وعندهم أنه إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر ونحو ذلك مما يتغابن بمثله في مثلها، ولم يعلم به المشتري، فله الخيار بين الرد والإمساك، كما لو وجد باطنها رديئا، نص عليه أحمد، ولابن عقيل احتمال أنه يرجع بمثل ما فات، إذا أمكن تحقيق ذلك أو حزره، وإن بان تحتها حفرة تأخذ العين المذكورة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها، فلا خيار للمشتري، وللبائع الخيار إن لم يعلم، ولأبي محمد احتمال أنه لا خيار له، إذ الظاهر علمه بذلك، ولابن عقيل احتمال أنه يأخذ منها ما حصل في الانخفاض، حتى يتساوى وجه الأرض، واختار صاحب

(3/556)


التلخيص أن حكم الأولى حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة، وحكم الثانية حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر، والله أعلم.

قال: وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز.
ش: لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، وقدر ما يقابل كل جزء من المبيع من الثمن معلوم، فصح للعلم بالعوض.
1918 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه أجر نفسه كل دلو بتمرة، وجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتمر فأكل» ، والله أعلم.

(3/557)