شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب السلم]
ش: يقال: سلم وأسلم، وسلف وأسلف، والسلم والسلف عبارتان عن معنى واحد، قاله
الأزهري وغيره، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم، لأن السلف يقال على
القرض، ولذلك بوب الخرقي وغيره السلم، دون السلف، وهو نوع من البيع، ينعقد
بما ينعقد به، وبلفظه، ويشترط له ما يشترط له، ويزيد شروطا يأتي بيانها إن
شاء الله تعالى، وهو جائز بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
2004 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن السلف المضمون
إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية، وفي رواية: إن
الله قد أحله في كتابه، وأذن فيه، وقال الآية، رواهما البيهقي في سننه. ولا
ريب أن الآية الكريمة شاملة له.
(4/3)
2005 - وفي الصحيحين عنه قال: قدم رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في الثمار
السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل
معلوم» أقر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وبين شرطه،
والله أعلم.
[شروط السلم]
قال: وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز.
ش: يشترط للمسلم فيه شروط، دل كلامه هنا منها على شرطين (أحدهما) : أن يكون
مما يتأتى ضبطه بالصفة، ليوجد شرط المبيع، وهو العلم به، فعلى هذا يصح
السلم في المكيل، والموزون، والمذروع، ونحوها، لتأتي الصفة على ذلك، وقد
أقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السلف في الثمار،
وقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» .
2006 - وروى البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، قالا:
كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان
يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير،
(4/4)
والزبيب، في كيل معلوم إلى أجل معلوم،
فقلت: أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. وأجمع
المسلمون على جواز السلم في الثياب، وعلى جوازه في الطعام، قاله ابن
المنذر، ولا يصح فيما لا ينضبط بالصفة، كجوهر، وما فيه أخلاط مقصودة لا
تتميز، كمعجون، وثمن مغشوش، وحامل من حيوان، وشاة لبون، على الصحيح فيها،
وفي الرؤوس، والجلود - والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط، ونحو ذلك، وكذلك
ما يجمع أخلاطا تتميز، كالخفاف، والقسي، والنبل المريش، والثوب المنسوج من
نوعين، والمعدود
(4/5)
المختلف، كالحيوان، والبيض، والرمان، ونحو
ذلك، واللحم المشوي، والمقلي، والمطبوخ - خلاف، وبسط ذلك له محل آخر.
ويشترط في الصفة أن تكون بحيث يعرف بها المبيع عرفا، لما تقدم، فيصفه بما
يختلف به الثمن غالبا، فيذكر جنسه كتمر، ونوعه كبرني، وبلده كعراقي، وقدره
كصغار أو كبار، وحداثته كحديث، وجودته كجيد، أو عكسهما كقديم ورديء، ولا
يصح: أجود، ويصح: أردى، على أصح الوجهين، وقد يزاد على هذه، أو ينقص منها،
بحسب المسلم فيه وليس هذا موضع استقصاء ذلك.
(4/6)
(الشرط الثاني) : كونه في الذمة، فلا يصح
في عين، لأن لفظ السلم والسلف للدين.
2007 - «وعن رجل من أهل نجران قال: قلت لابن عمر: أسألك عن السلم في النخل،
قال: أما السلم في النخل فإن رجلا أسلم في نخل لرجل، فلم يحمل ذلك العام،
فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «بم يأكل
ماله؟ فأمره فرده عليه، ثم نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه» ، رواه
أبو داود وغيره.
2008 - وفي الصحيح «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: نهي
عن بيع النخل حتى يبدو صلاحه» . وقيل: إن أهل المدينة كانوا يسلمون في ثمار
نخيل بأعيانها، فلما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نهاهم عن ذلك، وقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» الحديث، والله أعلم.
(4/7)
قال: إذا كان كيل معلوم أو وزن معلوم، أو
عدد معلوم.
ش: هذا (الشرط الثالث) : وهو أن يقدر المسلم فيه: بكيل معلوم عند العامة،
إن كان مما يكال، أبو بوزن كذلك إن كان مما يوزن، لما تقدم من حديث ابن
عباس، أو بعدد، أو ذرع كذلك، قياسا على ما تقدم، ولأنه عوض ثبت في الذمة،
فاشترط معرفة قدره كالثمن، ولا يتعين ما عيناه من كيل العامة، ونحوه على
المذهب، لعدم الفائدة في ذلك، وهل يفسد به العبد؟ فيه وجهان، ولا يصح بإناء
أو صنجة غير معلومين عند العامة، لاحتمال هلاك ذلك، وإذا يتعذر المسلم فيه،
وذلك غرر، ولا حاجة إليه، ومن ثم اشترط أن يكون المكيال والميزان - وكذلك
الوصف - بلغة يفهمها غير المتعاقدين، فإن فهمها عدلان دون أهل الاستفاضة
كفى على المقدم، لارتفاع التنازع بالرجوع إليهما انتهى.
ومقتضى ما تقدم أنه لا يصح السلم فيما يكال وزنا، ولا فيما يوزن كيلا، وهو
المشهور، والمختار للعامة، ونص عليه الإمام في المكيل لا يسلم فيه وزنا
قياسا كالربويات، وكالمذروع وزنا وعكسه، فإنه لا يصلح اتفاقا، وعنه ما يدل
- واختاره أبو محمد، ويحتمله كلام الخرقي - أنه يجوز،
(4/8)
لحصول معرفة القدر، ومقتضى كلام الخرقي أنه
يسلم في جميع المعدودات عددا، ولا ريب في ذلك في الحيوان، أما في غيره
فثلاثة أقوال، وزنا، عددا، ما تقارب كالجوز، والبيض، عددا، وما تفاوت
كالبطيخ، والرمان، والبقول، وزنا، والله أعلم.
قال: إلى أجل.
ش: هذا (الشرط الرابع) وهو أن يكون مؤجلا على المذهب المعروف، لما تقدم في
حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فإنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر، والأمر للوجوب.
2009 - قال القرطبي في شرح مسلم: لا سيما على رواية من روى: «من أسلم فلا
يسلم إلا في كيل معلوم» إلى آخره انتهى.
2010 - وفي سنن البيهقي عن ابن عباس أنه قال: اضرب له أجلا. ولأن السلم
إنما جاز رخصة، لأنه للارتفاق لأنه
(4/9)
بيع معدوم، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل،
والله أعلم.
قال: معلوم بالأهلة.
ش: يشترط في الأجل كونه معلوما، لما تقدم من الحديث، ولقول الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فلا يصح إلى نزول المطر، أو قدوم
زيد، ونحو ذلك، وهل يصح إلى الحصاد ونحوه، أو إلى نفس العطاء، - لتقارب
الزمن - أو لا يصح، لتقدم ذلك وتأخره.
2011 - وهو قول ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، واختاره
عامة الأصحاب؟ فيه قولان، وقيل: محل الخلاف في الحصاد إذا جعله إلى زمنه،
أما فعله فلا يصح، واختلف
(4/10)
أيضا فيما إذا علقه باسم يتناول شيئين
كربيع، ويوم النفر، هل يصح ويتنزل على أول يوم، وبه قطع في المغني، أو لا
يصح، [وهو الذي أورده في التلخيص مذهبا؟ وفيما إذا قال: شهر كذا. هل يصح.
ويتعلق بأوله، وهو اختيار أبي محمد، أو لا يصح رأسا، وفيما إذا قال مثلا:
أول رمضان أو آخره، هل يصح ويتعلق بأول جزء، وآخر جزء، أو لا يصح] ، لأن
أول الشهر يعبر به عن النصف الأول، وكذا الآخر، وهو احتمال لصاحب التلخيص؟
على قولين في الجميع. انتهى.
ثم ظاهر كلام الخرقي - وكذلك ابن أبي موسى وابن عبدوس - أن علم ذلك لا غير
بالأهلة، بأن يجعل حلوله في أول جزء من رمضان، أو يوم عاشوراء، أو إلى شهر
رجب، ونحو ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التأقيت: بهن، قال تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فعلى هذا لا يصح تأقيت بعيد من أعياد الكفار
مطلقا، وقال القاضي وغيره: إن كان مما يتقدم ويتأخر - كعيد السعانين
للنصارى، ونحو ذلك - لم يصح، وإلا صح، كالنيروز ونحوه.
(4/11)
(تنبيه) : يشترط للأجل شرط آخر، وهو أن
يكون له وقع في الثمن، بحيث يختلف به السعر، ومثل ذلك أبو محمد في الكافي
بالشهر، ونصفه، لا اليوم ونحوه، وكثير من الأصحاب يمثل بالشهر، والشهرين،
فمن ثم قال بعضهم: أقله شهر. نعم يصح كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما
يأخذ منه كل يوم قدرا معلوما، كالخبز، واللحم، ونحو ذلك، نص عليه، والله
أعلم.
قال: موجودا عند محله.
ش: هذا (الشرط الخامس) وهو كون المسلم فيه عام الوجود في وقت حلوله غالبا،
لوجوب تسليمه إذا، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، فإن الغالب عدم تسليمه، فلم
يصح
(4/12)
بيعه، كالآبق ونحوه، وذلك كالسلم في العنب
والرطب في الصيف، لا في الشتاء، لندرة وجودهما فيه، وفي معنى ذلك إذا أسلم
في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، ونحو ذلك لاحتمال جائحة ذلك، وقد حكى
الجوزجاني الإجماع على كراهة ذلك، قال ابن المنذر: إن المنع منه كالإجماع،
وقال أبو بكر في التنبيه: إن كان قد بلغ، وأمنت عليه الجائحة صح. قلت: وهو
حسن إن لم يحصل إجماع، إذ الغالب له التسليم إذا، ثم حديث ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم، أنه نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه،
يشهد لذلك.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط [وجوده حال العقد، وهو كذلك، وكذلك لا
يشترط] عدمه، وهو الصحيح من الوجهين، حكاهما ابن عبدوس، والله أعلم.
قال: ويقبض الثمن كاملا وقت السلم، قبل التفرق.
(4/13)
ش: هذا (الشرط السادس) وهو خاتمة الشروط
عنده، وهو أن يقبض رأس مال السلم قبل التفرق عن مجلس العقد، حذارا من أن
يصير بيع دين بدين.
2012 - فيدخل تحت النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وقد استنبط ذلك الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
أسلف فليسلف» قال: أي فليعط. قال: لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما
سلفه فيه، قبل أن يفارق من سلفه. انتهى ولأنه لا يجوز شرط تأجيل العوض فيه،
فلم يجز
(4/14)
التفرق فيه قبل القبض كالصرف، وإن قبض
البعض ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وهل يبطل في المقبوض - وهو ظاهر كلام
الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، لقوله: إذا أسلفه دراهم، فخرج بعضها رديئا
فالسلم كله باطل - أو لا يبطل وهو المشهور؟ فيه روايتا تفريق الصفقة، والله
أعلم.
(تنبيه) : المجلس هنا كمجلس الصرف، وكلاهما كمجلس الخيار، هذا مقتضى كلام
الأصحاب، ووقع للقاضي في الجامع الصغير أنه إذا تأخر قبض رأس مال السلم
اليومين والثلاثة، لم يصح العقد، والله أعلم.
قال: ومتى عدم شيء من هذه الأوصاف بطل.
ش: الإشارة إلى الأوصاف المتقدمة، وهذا هو شأن الشروط يعدم المشروط عند
عدمها، أو عدم بعضها، ولو قال الخرقي: فسد العقد. كما قال في الصرف: ومتى
افترق المتصارفان فسد العقد. لكان أولى، لئلا يوهم وجود عقد ثم بطلانه.
(4/15)
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك،
وقد تقدم أن في اشتراط عدم المسلم فيه حين العقد خلاف، وكذلك في اشتراط وصف
رأس المال، والعلم بقدره إذا كان مشاهدا وجهان، (أحدهما) - وهو قول القاضي،
وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص، وغيرهم - اشتراطه، كما لو كان في الذمة، ولأنه
عقد يتأخر تسليم المعقود عليه، فوجب معرفة رأس ماله، ليرد بدله، كالقرض
والشركة، وعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال جوهرا ونحوه، لعدم تأتي الصفة
عليه (والثاني) - وإليه ميل أبي محمد - لا يشترط، كما في بيوع الأعيان،
وكذلك في اشتراط ذكر مكان الإيفاء تردد، فالقاضي لا يشترطه مطلقا، ويقول -
في مثل البرية ونحوها -: يوفي في أقرب الأماكن إلى مكان العقد، وابن أبي
موسى، وصاحب التلخيص، يشترطانه في البرية ونحوها، واتفق الفريقان على عدم
الاشتراط حيث أمكن الوفاء في محل العقد، نعم لو شرطه في غيره - والحال هذه
- صح شرطه، على أصح الروايتين، ولم يصح في الأخرى، وبها قطع أبو بكر في
التنبيه، والقاضي، وأبو الخطاب أطلقا الروايتين، فيشمل كلامهما ما إذا
شرطاه في محل العقد أيضا وهو ضعيف، والله أعلم.
(4/16)
[بيع المسلم فيه قبل قبضه]
قال: وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد.
ش: بيع المسلم فيه قبل قبضه - من بائعه
مثل أن يسلم إليه في أردب قمح، فيأخذ عنه فولا، أو شعيرا أو دراهم، أو نحو
ذلك - فاسد.
2013 - لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف في شيء فلا يصرفه
إلى غيره» رواه أبو داود إلا أنه ضعيف، والمعتمد على نهيه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن.
(4/17)
2014 - وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال: خذ
رأس مالك ولا ترده في سلعة أخرى، رواه البيهقي في سننه، (وعنه) فيمن أسلم
في بر، فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكانه جاز، ولم يجز أكثر
من ذلك، وحمله أبو محمد على رواية أن البر والشعير جنس، ولكن بيعه من غير
بائعه لا يصح، للنهي عن ربح ما لم يضمن، وبيع الطعام قبل قبضه، والله أعلم.
قال: وكذلك الشركة فيه، والتولية، والحوالة به، طعاما كان أو غيره.
ش: أي فاسد كالبيع، أما الشركة والتولية فلأنهما نوعان من أنواع البيع،
فيثبت لهما حكمه، وأما الحوالة فلأنها إما بيع أو فيها شائبته، فلم تجز
كالبيع، والحوالة تارة تقع عليه، كما إذا أحال المسلم بما عليه من قرض، أو
بدل متلف، على المسلم إليه، وهنا قد حصل التصرف في المسلم فيه قبل قبضه،
أشبه بيعه، ثم الحوالة وقعت على غير مستقر، وتارة تقع به، كأن يحيل المسلم
إليه، بما عليه من السلم، على
(4/18)
من له عليه مثله، من قرض، أو بدل متلف،
وهذه صورة الخرقي، وهنا لا يظهر لي وجه المنع، والله أعلم.
قال: وإذا أسلم في جنسين ثمنا واحدا، لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس.
ش: مثل أن يسلم دينارا مثلا في أردب قمح، وأردب فول، فلا يصح حتى يبين قسط
كل واحد منهما من الدينار، كأن يقول مثلا: ثلثه عن الفول، وثلثاه عن
الشعير، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، إذ لا يؤمن
الفسخ بتعذر أحدهما، فلا يعرف ما يرجع به، فيفضي إلى التنازع المطلوب عدمه
(والرواية الثانية) يجوز وإن لم يبين قسط ما لكل منهما كبيوع الأعيان،
ولهذه المسألة التفات إلى معرفة رأس مال السلم وصفته، ولعل الوجهين ثم من
الروايتين هنا، وأبو محمد لما لم يطلع على الرواية الثانية خرج هنا وجها من
الوجه [ثم] ، إن ابن أبي موسى، وأبا بكر وغيرهما [منعوا] من ذلك إذا أسلم
في خمسة دنانير، وخمسين درهما، في أردب حنطة، فقالوا: لا يجوز حتى يبين حصة
ما لكل واحد منهما [من الثمن، وخالف أبو محمد فقال بالجواز هنا، وهو
(4/19)
الصواب، إذ بتعذر المسلم فيه يرجع] بقسطه
منهما، والله أعلم.
قال: وإذا أسلم في شيء واحد، على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة
فجائز.
ش: مثل أن يسلم إليه عشرة دراهم في قنطار خبز، يأخذ منه كل يوم عشرة أرطال،
أو في عشرين رطل لحم، يأخذ كل يوم رطلين، ونحو ذلك، لحصول الرفق الذي لأجله
شرع السلم، والله أعلم.
قال: وإذا لم يكن السلم كالحديد، والرصاص، وما لا يفسد، ولا يختلف قديمه
وحديثه، لم يكن عليه قبضه قبل محله.
ش: السلم أي المسلم فيه، تسمية للمفعول بالمصدر، كتسمية المرهون رهنا،
والمسروق سرقة، ونحو ذلك، ولا يخلو المسلم فيه إما أن يؤتى به في وقته، أو
بعده، أو قبله،
(4/20)
فإن أتي به في وقته [أو بعده لزم قبوله،
وإن تضرر المسلم بذلك، وإن أتي به قبل وقته] فإن كان في قبضه ضرر ولو مآلا
- لكونه مما يتغير، كالفاكهة ونحوها، أو لكون قديمه دون حديثه كالحبوب، أو
كان مما يتغير قبل الوقت المشترط، أو لكونه مما يحتاج في حفظه إلى مئونة
كالحيوان ونحوه، أو كان مما يخاف عليه إذا من ظالم، ونحو ذلك - لم يلزم
المسلم قبوله، لأن عليه في ذلك ضررا، وإنه منفي شرعا، قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان مما لا ضرر في قبضه -
كالحديد، والرصاص، إذ لا فرق بين قديمه وحديثه، وكان الوقت آمنا، ولا مئونة
لحفظه - لزمه قبوله، لأن غرضه حاصل مع زيادة منفعة لا ضرر عليه فيها، فأشبه
زيادة الصفة على المذهب، وهذا كله إذا أتى به على صفته، فإن أتى به على غير
صفته فإن كان دونها جاز قبوله مع اتحاد الجنس، ولم يلزم، وإن كان فوقها
واختلف الجنس لم يجز كما تقدم، وإن اتحد الجنس والنوع لزم القبول على
المذهب بلا ريب، وقيل: لا يلزم بل يجوز، وقيل: لا يجوز، [وعلى المذهب فإن
اختلف النوع فهل يلزم القبول، وهو قول القاضي والمجد، أو لا يلزم، وهو
(4/21)
قول أبي محمد، أو لا يجوز] ويحكى رواية؟
على ثلاثة أقوال، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يأخذ رهنا ولا كفيلا من المسلم إليه.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر في التنبيه، وابن عبدوس، إذ وضع
الرهن الاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من ذمة الغريم، والمسلم فيه
لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، ولا من ذمة الضامن، حذارا من أن يصرفه إلى
غيره، وإنه منهي عنه، وفيه نظر، لأن الضمير في «لا يصرفه» راجع للمسلم فيه،
وإذا يشتري ذلك من ثمن الرهن ويدفع ولا محذور، وكذلك يشتريه الضامن ويسلمه،
وإذا لم يصرف إلى غيره (والثانية) - وهي الصواب إن شاء الله تعالى، واختيار
أبي محمد، وحكاها القاضي في روايتيه عن أبي بكر -: يجوز ذلك، لقول الله
تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}
[البقرة: 282]
(4/22)
إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
[البقرة: 283] وقد شهد ترجمان القرآن أن السلم مراد منها وداخل فيها، فهي
كالنص فيه، والكفيل كالرهن بجامع التوثقة.
2015 - ومن ثم روى البيهقي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه
كان لا يرى بأسا بالرهن والقبيل في السلم، وروى نحو ذلك عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
2016 - وحكاية أبي محمد الكراهة عنهما في الرهن والكفيل، يحتمل أنه رواية
أخرى عنهما.
(4/23)
2017 - وقد استدل على ذلك أيضا بما في
الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي
طعاما، ورهنه درعا من حديد» ، وليس بالبين، ومقتضى كلام الأصحاب أنا إذا
منعنا أخذ الرهن لم يجز وإن تراضيا بذلك، وأنا إن جوزناه كان كبقية الرهون،
يلزم بالقبض، أو بمجرد العقد إن لم يكن معينا على رواية، وإذا لم يلزم، ولم
يقبض فللمسلم الفسخ، وقال ابن عبدوس: ليس للمسلم طلب رهن، فإن شرطاه لم
يلزم المسلم إليه الدفع إلا أن يشاء، والله أعلم.
(4/24)
|