شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب المفلس]
قال:
باب المفلس ش: المفلس في عرف الفقهاء من
فلسه الحاكم بالحجر عليه، وسببه أن يكثر دينه على ماله، ويطلب ذلك الغرماء،
على ما يأتي إن شاء الله تعالى، والفلس في اللغة ذهاب المال غير الفلوس،
قال ابن فارس: يقال: أفلس الرجل. إذا صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دراهم،
وقيل: هو العدم، يقال: أفلس بالحجة إذا عدمها، وقيل: هو من قولهم: تمر
مفلس. إذا خرج منه نواه، فهو خروج الإنسان من ماله، وعلى هذا سمي المفلس
مفلسا، وإن كان له مال يضيق عن دينه، لأن ماله مستحق للصرف، أشبه من لا مال
له، أو باعتبار ما يؤول إليه، لأنه يؤول إلى أنه لا شيء له.
2039 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله إن المفلس فينا من لا
درهم له ولا متاع، قال: «ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة
بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من
حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه،
(4/62)
ثم طرح في النار» فأخبرت الصحابة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - عن المفلس في عرفهم ولغتهم، وهو الذي لا شيء له، فقال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا الفلس كلا فلس، إنما الفلس
المعتبر، الذي معه الحسرة العظيمة، والفقر الدائم، هو فلس الآخرة، حتى إن
فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى.
2040 - ونحو هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس الغنى
عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس» والله أعلم.
قال: وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به.
ش: إذا ثبت على شخص دين حال ببينة أو إقرار، وماله أقل منه - قال ابن
حمدان: أو قدره، ولا كسب له، ولا ما ينفق عليه منه، أو خيف تصرفه فيه.
انتهى - فسأل
(4/63)
غرماؤه - قال في التلخيص: أو بعضهم ودينهم
أكثر من ماله، وحكى ابن حمدان ذلك قولا. انتهى - الحاكم الحجر عليه لزمته
إجابتهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ،
وباع ماله [في دينه.
2041 - فروى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ بن جبل ماله،
وباعه] في دين كان عليه، وكان معاذ شابا حليما سمحا، من أفضل شباب قومه،
ولم يكن يمسك شيئا، فلم يزل يدان، حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلم غرماءه، فلو تركوا أحدا من أجل
أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فباع لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني ماله، حتى
قام معاذ بغير شيء» .
(4/64)
2042 - وكذلك حجر عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - على الأسيفع، أسيفع جهينة.
فإذا حجر الحاكم عليه - وهو معنى تفليسه له - ترتب بذلك أحكام (أحدها) تعلق
حق غرمائه بماله، فلا يقبل إقراره عليه، ولا يصح تصرفه المستأنف فيه، إلا
بالعتق على رواية، وخرج بقيد «المستأنف» الرد بالعيب فيما اشتراه قبل
الحجر، والفسخ لخيار مشترط كذلك، فإن تصرفه في ذلك صحيح، لكن هل يتقيد
بالأحظ؟ وفي التلخيص أنه قياس المذهب بناء على إجبار المفلس على اكتساب
المال بما لا منة عليه فيه، أو لا يتقيد بذلك، وهو المشهور، لعدم استقرار
العقد إذا؟ فيه قولان، وبقيد «المال» التصرف في الذمة، وكذلك التصرف في
البضع، وفي الدم، وفي
(4/65)
النسب، (والحكم الثاني) بيع الحاكم ماله،
وقسم ثمنه بين غرمائه لما تقدم، (الثالث) : انقطاع المطالبة عنه ما دام
كذلك، لظهور عسرته، ووجوب إنظاره إلى ميسرته.
(الرابع) : أن من وجد من الغرماء متاعه بعينه عنده فهو أحق به من بقية
الغرماء، بمعنى أن له فسخ البيع، وأخذ سلعته، بشروط تذكر إن شاء الله
تعالى، وهذه مسألة الكتاب.
2043 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد
أفلس، أو إنسان قد أفلس فهو أحق به» وفي رواية متاعه بعينه متفق عليهما.
(4/66)
2044 - ومن ثم قضى بذلك عثمان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، رواه عنه البيهقي، ولقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ
- في اتباع السنة كما هو دأبه، فقال: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء، ثم
رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، رد حكم الحاكم. ومقتضى كلام الخرقي أن
الفسخ والرجوع لا يفتقر إلى حكم حاكم، وهو كذلك، لثبوت ذلك بالنص، فهو
كخيار المعتقة ومن ثم أجاز أحمد نقض حكم من حكم بخلاف ذلك، وعموم كلامه
يشمل البيع، والقرض، والدابة، والأرض المؤجرة إذا أفلس المستأجر قبل مضي
مدة لمثلها أجر، وكذلك الصداق، كأن يصدق امرأة عينا، ثم يستحق الرجوع فيها
أو في نصفها، بأن ينفسخ النكاح لسبب من جهتها كردتها، أو من جهته - كطلاقه
- وقد أفلست فإنه يرجع في عين ماله بشرطه.
(4/67)
وقوة كلام المصنف يقتضي أن الرجوع في عين
المال مختص ببيع ونحوه وجد قبل الفلس، فيخرج ما وجد بعده فلا يرجع فيه، وهو
أحد الوجوه، لدخوله على بصيرة أو تفريطه، (والثاني) : يرجع أيضا، لإطلاق
الخبر، (والثالث) : يفرق بين العلم بالفلس وعدمه، وهو حسن.
(تنبيه) : «الأسيفع» تصغير «أسفع» والسفعة في اللون السواد، والله أعلم.
قال: إلا أن يشأ تركه، ويكون أسوة الغرماء.
(4/68)
ش: يعني أن البائع إذا وجد ماله بعينه عند
من أفلس، فإنه يخير، إن شاء رجع فيه لما تقدم، وإن شاء لم يرجع، وكان أسوة
الغرماء، لأن الشارع جعله أحق به وأولى به، ولم يحتم ذلك عليه، وظاهر كلام
المصنف أنه لو بذل له الغرماء الثمن، لم يلزمه القبول، لأنه لم يستثن ذلك،
ونص عليه أحمد، لظاهر الخبر، ودفعا للمنة عنه، [نعم إن بذلوا الثمن للمفلس
فبذله له امتنع عليه الفسخ، لزوال سببه وهو عجزه عن أخذ الثمن] ، ومن ثم لو
أسقط الغرماء حقوقهم، أو وهب له مال بحيث يمكن أداء الثمن زال الفسخ، والله
أعلم.
قال: فإن كانت السلعة قد تلف بعضها، أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها، أو نقد
بعض ثمنها، كان البائع فيها كأسوة الغرماء.
ش: قد تقدم أن أحد الغرماء إذا وجد متاعه بعينه عند من فلسه الحاكم أنه أحق
به، لكن ذلك بشروط (أحدها) أن يكون المتاع باقيا بحاله، لم يتلف بعضه، فإن
تلف بعضه - كأن تلف بعض الدار، أو الثوب، أو الثمرة المبيعة
(4/69)
مع الشجرة، أو قطعت بعض أطراف العبد، ونحو
ذلك - فلا رجوع للبائع، بل يكون أسوة الغرماء، نظرا للخبر، فإنه لم يجد
المتاع بعينه، فلو تعدد المبيع، كعبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما فهل يمتنع
الرجوع رأسا، أو يرجع في الموجود، ويضرب مع الغرماء بقسط التالف من الثمن؟
فيه روايتان، ولعل مبناهما أن العقد هل يتعدد بتعدد المبيع أم لا؟ وحكم
انتقال البعض ببيع ونحوه حكم التلف، نعم إن عاد المنتقل إلى ملك المفلس فهل
هو كالذي لم يزل، أو كالذي لم يعد؟ فيه وجهان مشهوران، وحكى أبو محمد وجها
ثالثا: إن عاد بسبب جديد - كبيع أو هبة، ونحوهما فكالذي لم يعد، وإن عاد
بفسخ كالإقالة، والرد بالعيب - فكالذي لم يزل، وجعل أبو محمد من صور تلف
البعض إذا استأجر أرضا للزرع، فأفلس بعد مضي مدة لمثلها أجرة، تنزيلا للمدة
منزلة المبيع، ومضي بعضها بمنزلة تلف بعضه، وقال القاضي، وصاحب التلخيص: له
الرجوع، ويلزمه تبقية زرع المفلس بأجرة المثل، ثم هل يضرب بها
(4/70)
مع الغرماء - وهو المحكي عن القاضي - أو
يقدم بها عليهم - وهو الذي في التلخيص -؟ على وجهين.
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه فيما إذا تلف المبيع جميعه، فإنه لا
رجوع، وكذلك لو انتقل عنه، وفهم من كلامه أيضا أن نقص الصفات - كالهزال،
ونسيان صناعة ونحو ذلك - لا يمنع الرجوع، وهو كذلك، لأن المتاع موجود
بعينه، وإذا أخذ إنما يأخذ بجميع حقه، واختلف في وطء البكر، وجرح العبد، هل
هو من فقد الصفات فلا يمنع الرجوع - وبه قطع أبو بكر - أو من فقد الأجزاء
فيمنع؟ على وجهين، أما وطء الثيب فبمنزلة فقد الصفات على المشهور، وأجرى
ابن أبي موسى فيه الوجهين، وإذا قيل بالرجوع مع الجرح، فإن كان الجرح مما
لا أرش
(4/71)
له، كالحاصل بفعل بهيمة أو المفلس، ونحو
ذلك فلا شيء له مع الرجوع، وإن كان مما له أرش كالحاصل بفعل أجنبي، نظر ما
نقص من قيمته، فرجع بقسطه من الثمن، قاله أبو محمد، وقياس جعله من باب فقد
الصفات، أنه لا شيء له مطلقا.
(تنبيه) : إذا خلط المبيع أو بعضه بما لا يتميز منه - كأن كان زيتا فخلطه
بمثله، ونحو ذلك - فقال أبو محمد: يسقط حقه من الرجوع، لأنه لم يجد عين
ماله، [وقد يقال: إنه ينبني على الوجهين في أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف
أم لا؟ ولا نسلم أنه لم يجد عين ماله] ، بل وجده حكما.
(الشرط الثاني) : أن لا يزيد المتاع زيادة متصلة، كالسمن، وتعلم صناعة،
ونحو ذلك، على اختيار الخرقي، والشيرازي، ولم يعتبر ذلك الإمام في رواية
الميموني، بل جوز للبائع الرجوع بالزيادة مجانا، ومناط ذلك أن المبيع مع
الزيادة المتصلة هل خرج عن أن يكون بعينه أم لا؟ وخرج من كلام الخرقي
الزيادة المنفصلة، فإنها لا تمنع الرجوع في الجملة، بلا خلاف نعلمه بين
الأصحاب، لوجود المتاع بعينه، ثم هل تكون الزيادة للمفلس في الجملة
(4/72)
ويحتمله كلام الخرقي، لمنعه من الرجوع مع
الزيادة المتصلة، وهو اختيار ابن حامد، والقاضي في روايتيه، والشريف وأبي
الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد، لأنها نماء ملكه - أو للبائع - وهو اختيار
أبي بكر، والقاضي في الجامع، تمسكا بإطلاق أحمد - في رواية حنبل - في ولد
الجارية، ونتاج الدابة، أنه للبائع، وهو محمول - عند ابن أبي موسى، وابن
حامد، والقاضي، وأبي محمد - على ما إذا باعها حاملا؟ على قولين، فعلى الأول
لو كانت الزيادة ولد الأمة فهل يمتنع الرجوع مطلقا، لتعذر التفرقة الممنوع
منها شرعا - وهو قول ابن أبي موسى - أو لا يمتنع إلا إن امتنع البائع من
دفع القيمة، - أما إن دفع قيمة الولد فله الرجوع، - أو لا يمتنع مطلقا، بل
تباع الأم وولدها، ويصرف للبائع ما خص الأم من الثمن، على أنها ذات ولد؟
على ثلاثة أوجه.
ويدخل في قول الخرقي: أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. ما إذا زادت بصناعة،
كقصارة، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار ابن أبي موسى، (والثاني) -
وقال صاحب التلخيص: إنه المذهب - لا يمنع ذلك الرجوع،
(4/73)
ثم هل تسلم للبائع مجانا، - كالزيادة
المتصلة على المنصوص - أم عليه الأجرة؟ فيه وجهان، وقد تحرز الخرقي بقوله:
مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. عما إذا كان المتاع بابا فسمر فيه مسامير، أو
نحو ذلك، فإن الزيادة تنفصل، ويرجع البائع في عين ماله.
(الشرط الثالث) : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا، فإن قبض منه شيئا
سقط حقه في الرجوع.
2045 - لأن في الحديث في رواية لأبي داود «أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته
بعينها، عند رجل قد أفلس، ولم يقبض من ثمنها شيئا فهي له، فإن كان قضاه من
ثمنها شيئا فما بقي فهو أسوة الغرماء» وفي معنى قبض البعض الإبراء منه،
والله أعلم.
(4/74)
قال: ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف لم يكن
للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا.
ش: لأنهم غير مدعين، واليمين إنما هي على المدعي مع شاهده.
(4/75)
2046 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» واليمين لا تدخلها النيابة ومقتضى قول
الخرقي أن المفلس إذا حلف صح حلفه، وهو كذلك، وأنه إذا لم يحلف لم يجبر،
وهو كذلك، لاحتمال قيام شبهة عنده تمنعه من اليمين، والله أعلم.
[الديون المؤجلة هل تحل بالتفليس]
قال: وإذا كان على المفلس ديون مؤجلة لم تحل بالتفليس.
ش: هذا المذهب المشهور، حتى إن القاضي جعله رواية واحدة، لأن الأجل حق
للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، وعنه: يحل. حكاها أبو الخطاب، دفعا
للضرر عن ربه، (وعنه) : إن وثق لم يحل، لزوال الضرر، وإلا حل، نقلها ابن
منصور، فإن قلنا بحلوله فهو كبقية الديون الحالة، وإن قلنا بعدم حلوله،
فإنه لا يوقف لربه شيء، ولا يرجع على الغرماء به إذا حل، نعم إذا حل قبل
القسم شارك الغرماء، [وإن حل بعد قسمة البعض شاركهم أيضا، وضرب بجميع دينه،
وباقي الغرماء] ببقية ديونهم، والله أعلم.
(4/76)
قال: وكذلك في الدين الذي على الميت، إذا
وثق الورثة.
ش: أي لا يحل بالموت إذا وثق الورثة بأقل الأمرين، من قيمة التركة، أو
الدين، بكفيل مليء، أو رهن يفي بالحق، لأن الأجل حق للميت، فورث عنه كبقية
حقوقه.
2047 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقا أو مالا
فلورثته» هذا هو المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين (والثانية) وهي
(4/77)
اختيار ابن أبي موسى: يحل. لأن ذمة الميت
قد خربت، أو في حكم الخراب، لتعذر المطالبة، والورثة لم يلتزموا الدين، ولا
رضي صاحبه بذممهم، وتعلقه بالتركة فيه ضرر على الميت، لأن ذمته مرتهنة
بدينه.
2048 - كما في الترمذي وحسنه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»
(4/78)
وعلى رب الدين، لاحتمال تلف التركة، ولا
نفع فيه للورثة، لعدم تصرفهم في التركة إن قيل بتعلق الدين بها، انتهى، فإن
لم يوثق الورثة حل على المشهور والمجزوم به للشيخين وغيرهما، لغلبة الضرر،
وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار أن الوارث لا يلزمه التوثيق إذا كانت
ذمته مليئة، وإنما يلزمه إذا كان على غير مليء.
(تنبيهان) : «أحدهما» فعلى المذهب إن لم يكن له وارث فهل يحل الدين، أو لا
وينتقل المال إلى بيت المال، ويضمن للغرماء؟ فيه احتمالان ذكرهما في
الانتصار، «الثاني» لا خلاف نعلمه أن دين الميت المؤجل لا يحل بموته، وكذلك
لا يحل دين المفلس المؤجل بفلسه، والله أعلم.
قال: وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يوقفه الحاكم فجائز.
(4/79)
ش: معنى إيقاف الحاكم هو تفليسه، لأنه
بالتفليس أوقفه عن التصرف في ماله، ويحتمل أن يريد بإيقاف الحاكم له إظهار
الحجر عليه، بالمناداة عليه بأن فلانا قد حجر الحاكم عليه فلا تعاملوه،
وبالجملة ما فعله المفلس قبل تفليس الحاكم له في ماله، - من بيع، أو قضاء
بعض الغرماء، ونحو ذلك - فهو جائز، لأنه رشيد غير محجور عليه، فنفذ تصرفه
كغيره.
ومفهوم كلام الخرقي أن ما فعله في ماله بعد الحجر عليه لا يجوز، أي لا يصح
وهو كذلك، وقد تقدم، ويدخل في عموم المفهوم عتقه لبعض أرقائه، وهو إحدى
الروايتين، واختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، (والثانية) - وهي اختيار أبي
بكر في التنبيه، والقاضي والشريف -: ينفذ، وإنما قيد ذلك بالمال لأن تصرفه
في الذمة يصح مطلقا، لكن لا يشارك أصحابه بعد الحجر عليه الغرماء، والله
أعلم.
قال: وينفق على المفلس، وعلى من تلزمه مؤونته من
(4/80)
ماله، إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه.
ش: ينفق على المفلس من ماله، لأن ملكه باق.
2049 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن
تعول» وكذلك ينفق على من تلزمه مؤونته للحديث، وشرط أبو محمد للنفقة عليه
وعلى من تلزمه مؤونته أن لا يكون له صناعة تفي بذلك، والواجب من النفقة
أدنى نفقة مثله بالمعروف، وحكم الكسوة حكم النفقة، والله أعلم.
قال: ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها.
ش: لأن حاجته داعية إلى ذلك، فأشبه النفقة، والكسوة، ولابن حمدان احتمال أن
من أدان ما اشترى به مسكنا، أنه يباع، ولا يترك له، ولو كان المسكن عين
ماله بعض الغرماء أخذه بالشروط السابقة، وقد تقدم ذلك للخرقي، وحكم الخادم
المحتاج إليه حكم الدار، وقد خرج من كلام الخرقي إذا كان له داران، فإن
إحداهما تباع، لغناه عنها، وكذلك
(4/81)
لو كانت له دار واسعة، لا يسكنها مثله،
ويشترى له مسكن مثله والله أعلم.
قال: ومن وجب عليه دين فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد
بمعسرته.
ش: من وجب عليه دين فإن كان مؤجلا لم يطالب به ولم يلازم به، وإن كان حالا
فطولب به وله مال ظاهر أمر بوفائه، وإن لم يكن له مال ظاهر فذكر أنه معسر،
فإن صدقه الغريم أو لم يصدقه وقامت بينة - كما سيأتي - بذلك لم يتعرض له
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وإن لم يصدقه ولم تقم بينة بذلك، فإن علم له
مال، أو كان دينه ثبت عن مال - كالبيع والقرض - والغالب بقاؤه، أو من غير
مال كالضمان ونحوه وأقر أنه مليء، فالقول قول غريمه مع يمينه أنه لا يعلم
عسرته بدينه، وفي الرعاية أنه يحلف أنه موسر بدينه، ولا يعلم إعساره به،
فإن نكل عن اليمين حلف المفلس وخلي سبيله، وإن
(4/82)
حلف حبس المدين ليظهر حاله إلى أن يقيم
بينة - ولو بعد يوم -[تشهد بتلف أو إعساره هذا هو التحقيق، وفاقا للمجد
وغيره، وفي التلخيص أنها لا بد وأن تشهد بالتلف، وظاهر كلامه: والإعسار.
وكذا في الرعاية، قال:] تشهد بذهابه وإعساره، لا أنه لا يملك شيئا، ثم إن
شهدت بالإعسار اعتبر خبرتها بباطنه وإن شهدت بالتلف لم يعتبر ذلك، إذ التلف
يطلع عليه كل أحد، بخلاف الإعسار، وهل يحلف مع بينته؟ فيه قولان، والتحقيق
منهما - وقطع به أبو محمد في الكافي، وأبو البركات، وصححه ابن حمدان - أنها
إن شهدت بالتلف فطلب منه اليمين على عسرته وجب عليه ذلك، لأن اليمين على
أمر محتمل، خلاف ما شهدت به البينة، وإن شهدت بالإعسار فلا، لما فيه من
تكذيب البينة، وإن لم يعلم له مال، ولم يكن دينه عن مال، كعوض النكاح
وغيره، ولم يقر بالملاءة به، أو عن مال والغالب ذهابه، فالقول قوله مع
يمينه، لترجحة جانبه، إذ الأصل عدم المال، ومن ثم يرجح جانب غريمه فيما إذا
ثبت له مال إذ الأصل
(4/83)
بقاؤه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم
يفرق بين حالة وحالة والمعروف التفرقة.
وقد علم من كلام الخرقي أن البينة تسمع على الإعسار وهو كذلك.
2050 - لحديث قبيصة بن المخارق - وقد تقدم في الزكاة - «حتى يقول ثلاثة من
ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة» والله أعلم.
قال: وإذا مات فتبين أنه كان مفلسا لم يكن لأحد من الغرماء أن يرجع في عين
ماله.
ش: هذا الشرط الرابع في رجوع البائع في عين ماله، وهو أن يكون المفلس حيا،
فإن مات فلا رجوع له، سواء مات بعد الحجر عليه أو قبله فتبين فلسه.
(4/84)
2051 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: عن أبي
بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي
باعه من ثمنه شيئا، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة
الغرماء» رواه مالك في الموطأ وأبو داود، ولا يعترض بأنه مرسل، إذ المرسل
عندنا حجة مع أن أبا داود قد رواه أيضا فوصله فقال: عن أبي بكر بن عبد
الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ولفظه «وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه، اقتضى منه شيئا أو لم يقتض،
فهو أسوة الغرماء» . وقول الشافعي: إنه موجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى بالقول فهو أحق
به، وأنه يشبه أن يكون ما زاد من قوله: وإن مات. إلى آخره من رأيه لا
روايته الظاهر خلافه، وتركه الزيادة إن ثبت
(4/85)
فلعله لعدم الحاجة إلى ذكرها إذا، مع كون
الحكم لا يختل بتركها، أو لنسيانها.
2052 - واعتراضه بحديث ابن خلدة قاضي المدينة الذي رواه الطيالسي، قال:
أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه، فقال أبو
هريرة: هذا الذي قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به، إلا أن يدع الرجل وفاء.
يجاب عنه بضعفه، قال ابن المنذر: إنه مجهول الإسناد، وقال ابن عبد البر:
يرويه أبو المعتمر، عن ابن خلدة، وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم وهذا
الشرط أهمله صاحب التلخيص انتهى.
وقد بقي من شروط رجوع البائع فيما تقدم شروط، ولم يتعرض لها الخرقي (منها)
ما هو متفق عليه، ومنها ما
(4/86)
هو مختلف فيه (أحدها) أن لا يتغير المبيع
تغيرا يزيل اسمه، كأن كان حنطة فصار دقيقا، أو دقيقا فصار خبزا، أو زيتا
فصار صابونا، أو غزلا فصار ثوبا، أو ثوبا فصار قميصا ونحو ذلك، لأن المبيع
لم يبق بعينه، واختلف فيما إذا كان بذرا فصار زرعا، أو بيضا فصار فراخا
ونحو ذلك، هل يسلك به سبيل الزيادة المتصلة كالجنين إذا صار ولدا، فيجري في
الرجوع فيه الخلاف السابق، وهو رأي القاضي، وصاحب التلخيص فيه، أو سبيل ما
تقدم مما تغير اسمه بصناعة، فيمتنع الرجوع فيه، وهو ظاهر كلام أبي محمد؟
على قولين (الشرط الثاني) : أن لا يتعلق بالمبيع حق الغير، كأن يجده
مرهونا، لئلا يزال الضرر بالضرر، ولأن الحديث «من وجد متاعه عند رجل قد
أفلس» وهذا لم يجده عند المفلس، واختلف فيما إذا كان عبدا فجنى، هل يكون
تعلق الجناية به مانعا من الرجوع فيه، كما في الرهن، إذ حق الجاني مقدم على
حق الراهن، والمقدم على المقدم مقدم، أو ليس بمانع، لأن تعلق الجناية لا
يمنع التصرف في الجاني بخلاف الرهن؟ على وجهين، وكذلك اختلف فيما إذا كان
شقصا مشفوعا هل يمنع تعلق الشفعة به من الرجوع فيه،
(4/87)
لتعلق حق الشفيع به ابتداء، وهو اختيار أبي
الخطاب، أو لا يمنع، لأن بالرجوع يعود كما كان، فيزول الضرر، وهو اختيار
ابن حامد، أو إن طالب الشفيع امتنع الرجوع، لتأكد حق الشفيع بالطلب [وإن لم
يطالب] رجع؟ على ثلاثة أوجه: (الشرط الثالث) أن يكون ثمن العين المبيعة
حالا، فإن كان مؤجلا فلا رجوع للبائع، قاله أبو بكر في التنبيه، وصاحب
التلخيص فيه، لعدم تمكنه من مطالبة الثمن إذا الذي العجز عنه سبب الرجوع،
والمنصوص عن أحمد في رواية الحسن بن ثواب - وعليه الجمهور - أن هذا ليس
بشرط، لكن المنصوص أن المتاع يوقف إلى الأجل، ثم عند انقضائه يخير البائع
بين الأخذ والترك، إعمالا لحقيهما، حق البائع في الرجوع، وحق المفلس في
الأجل، وابن أبي موسى يقول: يؤخذ في الحال لعدم الفائدة في
(4/88)
الوقف (الشرط الرابع) العجز عن أخذ الثمن،
فلو تجدد للمفلس مال بعد الحجر وقبل الرجوع فلا رجوع، وقد تقدمت الإشارة
إلى هذا.
(الخامس) كون البائع حيا، فلا رجوع للورثة، لظاهر الحديث، وحكى الآمدي
رواية [أخرى] أن هذا ليس بشرط، فترجع الورثة، وهو ظاهر كلام الشيخين، لعدم
اشتراطهم [ذلك] وعلى هذا مجموع الشرائط تسعة أو ثمانية أو سبعة، والله
أعلم.
قال: ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه.
ش: كمن أراد السفر من أهل مصر إلى الحجاز، وعليه دين يحل في أول المحرم
ونحو ذلك لما يلحق الغريم من الضرر بتأخير حقه، والضرر منفي شرعا قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان الدين لا
يستحق إلا بعد مدة السفر،
(4/89)
كما إذا كان قدومه في أواخر المحرم، والدين
يحل في أول ربيع، ونحو ذلك، فإن كان السفر للجهاد منع، لما فيه من المخاطرة
بالنفس، فلا يؤمن فوات النفس، وإن كان لغير الجهاد فروايتان (إحداهما) له
منعه، لاحتمال التأخير بحدوث حادث أو غيره، فيلحق الغريم الضرر (والثانية)
: وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي - ليس له منعه، لأن الأصل بل
والغالب عدم الضرر، إذ الأصل عدم الحادث، وحيث قيل بالمنع فذلك معتبر
بتوثيق برهن يفي بالحق، أو كفيل مليء، فيزول المنع لزوال الضرر إذا.
(تنبيه) : محل الخلاف على مقتضى كلام أبي محمد في السفر الطويل والله أعلم.
(4/90)
|