شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الحجر]
الحجر في اللغة المنع [والتضييق] ومنه سمي الحرام حجرا، قال تعالى:
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] أي حراما محرما، ويسمى
العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته، قال تعالى:
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] أي عقل، وهو في الشرع
منع خاص وهو: منع الصبي، والمجنون، والسفيه، من التصرف في مالهم مطلقا،
ومنع العبد، والمكاتب، والمريض والراهن والولي، ونحوهم من تصرف خاص، ثم
الحجر تارة لحق نفسه، كالحجر على الصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا الذي عقد
الباب لأجله، وتارة لحظ غيره، وهو ما عدا ذلك.
والأصل في مشروعية الحجر قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] الآية
وأضيفت الأموال إلى الأولياء لأنهم القائمون عليها،
(4/91)
المدبرون لها، وقال تعالى: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية، وإذا ثبت الحجر على هذين، ثبت على المجنون
بطريق التنبيه. والله أعلم.
قال: ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ.
ش: هذا مما لا خلاف فيه في الجملة، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، ويشهد له
قول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، ولأن الحجر كان لمعنى، فيزول بزوال ذلك
المعنى، وهل يعتبر مع ذلك حكم الحاكم؟ أما في المجنون فلا يعتبر لظهوره،
وأما في غيره فثلاثة أوجه (ثالثها) يعتبر في حجر السفيه دون الصبي، وهو
الصحيح عند الشيخين وغيرهما.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه إنما حكم على الصبي، وحكم المجنون والسفيه
حكمه، فيدفع إلى المجنون إذا عقل، وإلى السفيه إذا رشد، وحكم حاكم على
الصحيح، وقد يقال: إن كلامه يشمل الثلاثة، إذ الرشد لا بد منه فيها، وإذا
تقدير كلامه: ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله، فإن كان صبيا فإذا بلغ، وفيه
شيء.
(4/92)
ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أنه لا يدفع المال قبل البلوغ والرشد، وهو صحيح ولو صار شيخا، لأن الله
تعالى شرط للدفع ذلك، والمشروط عدم عند عدم شرطه.
2053 - وروى الجوزجاني في كتابه المترجم قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر
شيخ من قريش، ذي أهل ومال، فلا يجوز له أمر في ماله دونه، لضعف عقله.
ويستفاد من كلامه بطريق الإشارة أنه يحجر على الصبي ونحوه، وقد تقدم ذلك
والله أعلم.
[علامات البلوغ في حق الغلام والجارية]
(تنبيه) : البلوغ يحصل في حق الغلام والجارية بالاحتلام، وهو خروج المني
الدافق بلذة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ
الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] .
2054 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن
ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم» .
(4/93)
وبنبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل، وفرج
المرأة، وحول الفرجين إن كان خنثى.
2055 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حكم سعد بن
معاذ في بني قريظة، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأمر بأن يكشف عن
مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت ألحق بالذرية، وقال له
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد حكمت بحكم الله من فوق
سبعة أرقعة» .
2056 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى عامله أن لا تأخذ
الجزية إلا ممن جرت عليه الموسى.
(4/94)
2057 - وباستكمال خمس عشرة سنة «لأن ابن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت
عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . متفق عليه.
2058 - وفي مسند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عمر بن عبد العزيز
أخبر بذلك، فكتب إلى عامله: أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة.
2059 - وتزيد الجارية بالحيض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» .
وأما الحمل فهو دليل إنزالها، فيحكم ببلوغها إذا ولدت منذ ستة أشهر، لأنه
اليقين، إذ الولد إنما يخلق من مائهما، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}
[الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7]
.
(4/95)
قال صاحب التلخيص فيه: فإن كانت ممن لا
توطأ كأن طلقها زوجها، وأتت بولد لأكثر مدة الحمل من حين طلاقه، فيحكم
ببلوغها قبل المفارقة.
(تنبيه) : هل الإنزال من أحد فرجي الخنثى المشكل علم على بلوغه؟ فيه وجهان.
(أحدهما) : لا، لأن لا يكون إلا من أحدهما وهو مشكوك فيه، والثاني نعم، قال
في التلخيص: لأن الاعتبار عندنا بالانتقال، وهذا مختار أبي محمد، لكنه لا
يعتبر هذا [البناء، وفي الحيض] أيضا، فأما إن حاض وأنزل فإنه يحكم ببلوغه
عند القاضي، وصاحب التلخيص وقيل: لا. والله أعلم.
قال: وكذلك الجارية وإن لم تنكح.
ش: حكم الجارية حكم الغلام، عند الخرقي، وأبي محمد، فيدفع إليها مالها إذا
رشدت وبلغت، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]
الآية، ومنصوص الإمام أحمد. في رواية أبي طالب أنه لا يدفع إليها بعد
بلوغها ورشدها، حتى تتزوج وتلد، أو يمضي عليها حول في بيت زوجها، وهذا
(4/96)
مختار أبي بكر والقاضي، والشيرازي، وابن
عقيل في التذكرة.
2060 - لما روى سعيد بن منصور في سننه، عن شريح أنه قال: عهد إلي عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت
زوجها حولا أو تلد ولدا. وعلى هذا إن لم تتزوج فقال القاضي: عندي أنها يدفع
إليها مالها إذا عنست، أي كبرت وبرزت للرجال.
قال أبو محمد: ويحتمل دوام الحجر عليها مطلقا. والله أعلم.
قال: والرشد الصلاح في المال.
ش: هذا المشهور المعروف في المذهب، اتباعا لتفسير ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
(4/97)
2061 - فإنه قال في قوله سبحانه: {فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] : يعني صلاحا في أموالهم. ولأن
العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام، فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في
الدنيا، فعلى هذا إذا كان مصلحا لماله، دفع إليه ماله، وإن كان مفسدا
لدينه، كمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة، أو يغتاب الناس، ونحو ذلك، نعم إن
كان فسقه يلزم منه تبذير المال، كمن يشتري الخمر، أو المغنيات، ونحو ذلك -
فليس برشيد، لا لفسقه، بل لعدم حفظه، وذهب ابن عقيل إلى أن الرشد الصلاح في
المال وفي الدين، قال: وهو الأليق بمذهبنا وقولنا، بحسب الذرائع، واستدل
لذلك بالآية الكريمة، فإنها نكرة في سياق الشرط فتعم والله أعلم،
قال: فإن عاوده السفه حجر عليه.
ش: إذا فك الحجر عن المحجور عليه بشرطه، فعاود السفه أو جن أعيد الحجر
عليه، نظرا إلى دوران الحكم مع العلة.
(4/98)
2062 - ويروى أن عبد الله بن جعفر ابتاع
بيعا، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لآتين عثمان ليحجر عليك. فأتى
عبد الله بن جعفر الزبير، فقال: قد ابتعت بيعا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير
المؤمنين عثمان، فيسأله الحجر علي. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى
علي عثمان، فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه. فقال الزبير:
أنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير.
(تنبيه) : الذي يحجر هنا هو الحاكم لا غير، ولا ينفك الحجر إلا بحكمه على
الصحيح والله أعلم.
قال: فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله.
ش: من عامل السفيه بعد الحجر عليه ببيع أو قرض، أو غيرهما لم تصح معاملته
لأنه محجور عليه، أشبه المجنون،
(4/99)
ثم ما أخذ منه يجب انتزاعه إن كان باقيا،
أو بدله إن كان تالفا، وما أخذه السفيه رد على مالكه إن كان باقيا، وإن كان
تالفا فهو من ضمان مالكه، علم بالحجر أو لم يعلم، إذ مع العلم هو المتلف
لما له، حيث دفعه لمن ليس من أهل الدفع، وسلطه عليه، ومع عدم العلم هو
المفرط، حيث عامل من لم يعرف، واختار ابن عقيل وجوب الضمان على السفيه،
لكونه من أهل الضمان، سيما مع عدم العلم بالحجر، (وخرج) بقيد المعاملة
شيئان (أحدهما) ما قبضه السفيه بإذن مالكه، لكن من غير أن يسلطه عليه، كما
لو أودعه، أو أعاره فأتلف ذلك، أو تلف بتفريطه، فقال القاضي: يضمن، نظرا
إلى أن المالك لم يسلطه على ذلك، بخلاف القرض ونحوه، وقيل: لا يضمن، لأن
المالك مفرط، حيث دفع المال لفاقد الأهلية، ولعل منشأ الخلاف هل يصح
استحفاظه أم لا؟ لكن مقتضى كلام أبي البركات أن محل الخلاف فيما أتلفه، أما
ما تلف بتفريطه فإنه من ضمان مالكه بلا نزاع، لأنه مفرط، حيث دفعه في غير
حرز، (الثاني) : ما أخذه بغير اختيار صاحبه، وأتلفه،
(4/100)
كأن غصب أو جنى، فإن عليه ضمانه، لانتفاء
التفريط من المالك، والله أعلم.
[إقرار المحجور عليه]
قال: وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا، أو طلق زوجته لزمه ذلك.
ش: إذا أقر المحجور عليه لسفه بما يوجب حدا، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر،
أو قصاصا كالقتل العمد، أو قطع اليد ونحو ذلك لزمه ذلك، لأنه تصرف في غير
مال، والحجر إنما وقع على المال، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك،
وكذلك إذا طلق زوجته صح طلاقه، لكونه غير مال، وبطريق الأولى إذا خالع،
وحكم المفلس حكم السفيه، والله أعلم.
قال: وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره.
(4/101)
ش: لئلا يزول معنى الحجر، وقياسا على الصبي
والمجنون، ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره من الأصحاب أنه
يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه، لأنه مكلف، وإنما منع من إعمال ما أقر
به الحجر، وقد زال، فيلزمه ما أقر به، واختار أبو محمد أنه لا يلزمه مطلقا،
إذ المنع من نفوذ إقراره في حال الحجر عليه حفظ ماله، ودفع الضرر عنه،
ونفوذه بعد فك الحجر عليه يلزم منه تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وحكم
ما يوجب الدين - كجناية الخطأ والغصب، ونحو ذلك - حكم الدين والله سبحانه
أعلم.
(4/102)
|