شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب المساقاة]
المساقاة مفاعلة من السقي؛ سميت بذلك لاحتياج أهل الحجاز إلى السقي من الآبار.
وهي في الاصطلاح قال أبو محمد: عبارة عن أن يدفع الرجل شجره إلى آخر، ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه، بجزء معلوم له من ثمره، وليس بجامع، لخروج ما يدفعه إليه ليغرسه ويعمل عليه، ولا بمانع، لدخول ما له ثمر غير مقصود كالصنوبر.
2108 - والأصل في جوازها ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «عامل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر» ، متفق عليه.
2109 - وقال البخاري: قال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث أو الربع، وزارع علي، وسعد بن مالك، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل

(4/208)


أبي بكر، وآل عمر، وآل علي قال: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، ومثل هذا لا يقصر عن رتبة الإجماع. والله أعلم.

(4/209)


قال: وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم، بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر.
ش: تجوز المساقاة في النخل والكرم، وكل شجر له ثمر مقصود، لعموم ما تقدم من حديث ابن عمر، ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة على الشجر، فأشبه النخل والكرم، ويشترط أن يكون بجزء مشاع معلوم، كالثلث، والربع، والعشر، ونحو ذلك، للحديث، لا على صاع أو آصع، أو ثمرة نخلة بعينها، لما فيه من الغرر، إذ يحتمل أن لا يحصل إلا ذلك فيتضرر رب الأصل، ويحتمل أن يكثر الحاصل فيتضرر العامل.

(4/210)


2110 - وفي الصحيحين «عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما الورق فلم ينهنا» . ولا على جزء مبهم كنصيب ونحوه، للغرر المنهي عنه شرعا.
ومقتضى كلام الخرقي: أن التسمية تكون للعامل، لأن المالك يستحق بالأصل، فلو كانت التسمية للمالك - كأن قال: لي النصف - فهل تصح، ويكون الباقي للعامل، أو لا تصح؟ فيه وجهان، ومقتضى كلامه أنها لا تصح على ما لا ثمر له، وهو صحيح، إذ ليس منصوصا عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، وكذلك ما له ثمر غير مقصود، نعم إن قصد ورقه كالتوت، أو زهره كالورد ونحوه، فقال أبو محمد: القياس جواز المساقاة، عليه، لأنه في معنى المنصوص، وقد يقال: إن المنصوص يشمله، وقوله: الثمر «أل» بدل من المضاف إليه، أي من ثمرتها، فلو شرط له ثمرة نخل غير التي ساقاه عليها لم يصح، وكذلك لو جعل

(4/211)


له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها، لمخالفة ذلك لموضوع المساقاة، والله أعلم.

قال: ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم.
ش: إذا شرط له جزءا معلوما - كالربع مثلا - ومائة درهم لم يصح، لأنه في معنى شرط آصع، إذ يحتمل أنه لا يحدث من النماء ما يساوي تلك الدراهم، فيتضرر رب المال، وبطريق الأولى لو شرط له دراهم منفردة عن جزء لما تقدم، ولمخالفة موضوعها، والله أعلم.

[المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض]
قال: وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض.
ش: المزارعة دفع الأرض إلى من يزرعها، ويعمل عليها بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها لما تقدم من حديث ابن عمر، وقصة أبي جعفر.
2111 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف» ، رواه أحمد، وابن ماجه. والله أعلم.

(4/212)


قال: إذا كان البذر من رب الأرض.
ش: المشهور عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما قال الخرقي أنه يشترط كون البذر من رب الأرض، وعلى هذا عامة الأصحاب، حتى إن القاضي وكثيرا من أصحابه لم يذكروا خلافا، لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كله من أحدهما، كالمساقاة والمضاربة.
ونقل عنه مهنا ما يدل على جواز كون البذر من العامل، واختاره أبو محمد.
2112 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها» ، رواه البخاري، «ولمسلم وأبي داود والنسائي: دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شطر ثمرتها» . وقد تقدم عن عمر أنه

(4/213)


قال: وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. والله أعلم.

قال: وإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز، وكانت للمزارع أجرة مثله.
ش: إذا اتفقا على أن رب الأرض يأخذ مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز، لأنه بمنزلة ما لو اشترط آصعا معلومة، إذ ربما لا تخرج هذه الأرض إلا مقدار البذر، فيذهب عمل العامل مجانا، وإذا يفسد هذا الشرط، ويفسد به العقد، لأنه يعود بجهالة نصيب كل منهما، وإذا فسد العقد كان الزرع لصاحب البذر، لأنه عين ماله، سيما والأرض أرضه، وعليه للعامل أجرة مثله، لأنه إنما دخل للعمل ولم يسلم له، والله أعلم.

قال: وكذلك تبطل إن أخرج المزارع البذر، ويصير الزرع للمزارع، وعليه أجرة الأرض.
ش: هذا تصريح منه بالبطلان في المسألة السابقة، وإنما بطلت المزارعة هنا - إذا أخرج المزارع البذر - لما مر من أن شرط صحة المزارعة كون البذر من رب الأرض، فإذا فات الشرط؛ فات المشروط، وإذا يصير الزرع للمزارع،

(4/214)


لأنه عين ماله، وعليه أجرة الأرض، لأن ربها إنما بذلها بعوض ولم يسلم له، والله سبحانه أعلم.

(4/215)