شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الإجارة]
قال في المغني: إنها مشتقة من الأجر وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرا، وحدها في الوجيز بأنها: عوض معلوم، في منفعة معلومة، من عين معينة أو موصوفة في الذمة، أو في عمل معلوم. وليس بمانع، لدخول الممر وعلو بيت ونحوه، والمنافع المحرمة.
والأصل في جوازها قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقَوْله تَعَالَى حكاية عن صاحب موسى:

(4/216)


{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] الآية.
2113 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجر نفسه ثماني حجج أو عشرا، على عفة فرجه، وطعام بطنه» . رواه أحمد وابن ماجه.
2114 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في حديث الهجرة قالت: «واستأجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - وهو على دين كفار قريش، وأمناه فدفعا

(4/217)


إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» . رواه أحمد والبخاري.
2115 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ قال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» . رواه أحمد والبخاري، والإجماع على ذلك إلا ما حكي عن الأصم ولا عبرة به، والله أعلم.

(4/218)


[معلومية الأجرة والمدة في عقد الإجارة]
قال: وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة، بأجرة معلومة؛ فقد ملك المستأجر المنافع، وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد، إلا أن يشترطا أجلا.
ش: الإجارة على ضربين: (أحدهما) : أن تقع على عين موصوفة أو معينة، مدة معلومة، كأجرتك هذه الدار شهرا، ونحو ذلك.
(والثاني) : أن تقع على عمل معلوم، كبناء حائط، وخياطة ثوب، وحمل إلى موضع معين، ونحو ذلك، والمقصود هنا هو الأول.
واعلم أن الإجارة لها ثلاثة أركان:
(الركن الأول) : العاقد، ولم يذكره الخرقي لوضوحه، إذ شرط العاقد في جميع العقود كونه جائز التصرف.
(الثاني) : المعقود عليه، وهو المنفعة والأجرة؛ (أما المنفعة) : فمن شرطها أن تكون معلومة، فإذا كانت على مدة كما قال الخرقي اشترط كونها

(4/219)


معلومة، كشهر كذا ونحو ذلك، بلا خلاف نعلمه، ولو علقها على ما يقع اسمه على شيئين؛ كالعيد، وجمادى، فهل يصح وينصرف إلى الأول منهما - وهو رأي أبي محمد - أو لا يصح حتى يعين ذلك؛ وهو رأي القاضي؟ فيه وجهان.
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يشترط في المدة أن تلي العقد وهو صحيح، وإذًا لا بد من ذكر الابتداء كالانتهاء، فلو أطلق فقال: أجرتك هذه الدار شهرا، فهل يصح، ويكون ابتداؤه من حين العقد - وهو اختيار أبي محمد - أو لا يصح حتى يسمي الشهر - وهو منصوص أحمد، وبه قطع القاضي وكثيرون؟ فيه قولان.
وظاهر كلامه أيضا: أنه لا تقدير لأكثر مدة الإجارة، فتجوز إجارة العين مائة سنة وأكثر، إذا غلب على الظن بقاؤها فيها، وهذا المذهب، وقد نص أحمد على جواز عشر

(4/220)


سنين، وقيل - واختاره ابن حامد -: يتقيد ذلك بسنة، فلا يجوز أكثر منها، وقيل: بل بثلاثين سنة.
(وأما الأجرة) : فمن شرطها أيضا أن تكون معلومة كالثمن في المبيع.
2116 - وقد روي عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره» . رواه أحمد، ثم هل يشترط العلم بقدر رأس المال وصفته، أو تكفي مشاهدته؟ فيه وجهان.
(الركن الثالث) : المعقود به وهو الصيغة، وتنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وكذا ما في معناهما على الصحيح، وهل

(4/221)


تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان، أصلهما هل هي نوع من البيع أو شبيهة بالبيع.
إذا تقرر هذا وصحت الإجارة فقال الخرقي: فقد ملك المستأجر المنافع. ولا ريب في هذا.
2117 - وقد نص عليه أحمد، محتجا بأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اكترى جمالا ثم صارف الجمال، ولو لم يكن قد ملكها لم تصح مصارفته، فظاهر احتجاجه إنما هو في الأجرة، لأنها أحد العوضين، فإذا ملكت ملك الأجر، وأيضا فإن المؤجر يملك التصرف في هذه المنفعة كما يتصرف في العين، فإذا أجرها ملك المستأجر منها ما كان يملك المؤجر، وإذا ملك المستأجر المنافع حين العقد ملك المؤجر جميع الأجرة إذا، لأنها أحد العوضين فيملك بما يملك به الآخر. [إذ المعارضة مبناها المعادلة، فإذا ملك المستأجر المنفعة ملك المؤجر الأجرة] .
واعلم أن الأجرة وإن ملكت بالعقد، فإنها لا تستقر إلا بمضي المدة، ولا يستحق تسليمها إلا بعد تسليم المعقود

(4/222)


عليه، فإذا كانت على عين إلى مدة - وهو الذي ذكره الخرقي - فلا يجب تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين، وإن كانت على عمل في الذمة فلا يجب تسليم أجرته إلا بعد تسليم العمل، وعلى هذا وردت النصوص، نحو قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإن الإرضاع عمل في الذمة، فإذا سلمته وجب إيتاؤها أجرتها.
2118 - وما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره» . رواه أحمد والبخاري.
2119 - وروى أيضا في حديث له «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: «لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» رواه أحمد. فهذه النصوص ظاهرها أنها على عمل في الذمة.

(4/223)


هذا كله إن لم يوجد شرط لفظي أو عرفي يقتضي التأخير أو التعجيل، فإنه يعمل بمقتضاه، فلو أجره داره شهرا بمائة درهم تحل في آخره، أو أجره على خياطة ثوب بدرهم الآن، عمل على ذلك، وعلى هذا يحمل قول ابن أبي موسى، وإن استؤجر كل يوم بأجر معلوم، فله أجر كل يوم عند تمامه، إذ عرف الناس المطرد في ذلك، أنهم إذا استأجروا إنسانا شهرا كل يوم بكذا، فإنهم يعطونه الأجرة في آخر كل يوم، فيجري هذا مجرى الشرط، ولو لم يحمل على هذا لكان ظاهره مخالفا لقول الخرقي والأصحاب، كما أن ظاهر قول الخرقي: وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد، إلا أن يشترطا أجلا. يقتضي أن الأجرة المؤجلة لا تملك حين العقد، وفيه نظر، إذ صرح القاضي في تعليقه في الجنايات بأن الدين في الذمة غير مؤجل، بل ثابت في الحال، وإن تأخرت المطالبة به، وإذا ينبغي أن يكون تقدير

(4/224)


كلامه: وملكت عليه الأجرة، ووجب تسليمها إن سلمت العين، إلا أن يشترطا أجلا فلا يجب التسليم، فيكون الاستثناء من مقدر، والله أعلم.

قال: وإذا وقعت الإجارة على كل شهر بشيء معلوم، لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضي كل شهر.
ش: قد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحة نحو هذه الإجارة، وهو المنصوص من الروايتين، واختيار القاضي، وعامة أصحابه، والشيخين.
2120 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جعت مرة جوعا شديدا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا، فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا، حتى مجلت يداي، ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته فأكل معي منها. رواه أحمد، ووزان هذا

(4/225)


إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، فالعلم بالثمن يتبع العلم بالمثمن، كذلك هنا، العلم بالأجر يتبع العلم بالمنفعة.
(والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر، وابن حامد وفي الكافي أبو بكر، وجماعة من أصحابنا -: بطلان ذلك،

(4/226)


نظرا إلى أن المدة مجهولة، إذ «كل» اسم للعدد، فإذا لم يقدره كان مجهولا، فعلى الأولى الإجارة تلزم في الشهر الأول وتكون فيما بعده مراعاة، فلكل واحد منهما أن يفسخ عند رأس كل شهر، بأن يقول: فسخت الإجارة في الشهر المستقبل. ونحو ذلك، فلو لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه، وكذلك الثالث، هذا مقتضى كلام الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، وابن عقيل في التذكرة، وأبي محمد في كتبه، وقد صرح بذلك ابن الزاغوني فقال: تلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر، وقال القاضي: له الفسخ في جميع اليوم الأول من الشهر الثاني، وبه قطع أبو البركات، وأورده ابن حمدان مذهبا، والله أعلم.

[فسخ عقد الإجارة قبل انقضاء المدة]
قال: ومن استأجر عقارا مدة بعينها فبدا له قبل تقضيها

(4/227)


لزمته الأجرة.
ش: من شرط صحة استئجار العقار أن يكون على مدة معينة، ولا بد أيضا أن يكون معلوما برؤية، ولا تكفي الصفة، لعدم تأتيها على ذلك، إذا تقرر ذلك، فمتى بدا للمستأجر الفسخ قبل تقضي المدة لم تنفسخ، لأن الإجارة عقد لازم من الطرفين، إذ هي أحد نوعي البيع، وإذا لا يملك أحد المتعاقدين فسخه، فإذا فسخ المستأجر فوجود ذلك كعدمه، في بقاء الأجرة عليه، وفي ثبوت المنفعة له، والله أعلم.

قال: ولا يتصرف مالك العقار فيه إلا عند تقضي المدة.
ش: لا يتصرف مالك العقار فيه إذا فسخ المستأجر الإجارة أو لم يفسخها إلا إذا انقضت المدة، لما تقدم من أن الفسخ لا ينفذ، وأن المنفعة باقية على ملكه، وبطريق الأولى إذا لم يفسخ، فإن تصرف فإن كان قبل تسليم العين فقال أبو محمد: تنفسخ الإجارة. وإن كان بعده - كما إذا أكراه دارا سنة وسلمها له فسكن شهرا، ثم ترك السكنى فتصرف المالك فيها - فهل تنفسخ الإجارة فيما تصرف فيه أو لا ويكون للمستأجر عليه أجرة المثل؟ فيه احتمالان، والله أعلم.

(4/228)


قال: فإن حوله المالك قبل تقضي المدة لم يكن له أجرة لما سكن.
ش: إذا حول المؤجر المستأجر قبل انقضاء المدة المعقود عليها، لم يكن للمؤجر أجرة لما سكن، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب؛ لأنه لم يسلم إليه المعقود عليه، فلم يستحق [شيئا] ، كما لو استأجره ليحفر له عشرين ذراعا، فحفر عشرة، وامتنع من حفر الباقي، وحكى أبو محمد في المقنع احتمالا بأن عليه من الأجرة بقسطه، لأن استيفاءه حصل على وجه المعاوضة، أشبه المبيع [إذا] استوفى بعضه، ومنعه المالك بقيته، والله أعلم.

[منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها]
قال: وإن جاء أمر غالب، يحجز المستأجر [عن] منفعة ما وقع عليه العقد، لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه.
ش: قد تقدم أن المعقود عليه المنفعة، فإذا جاء أمر منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها، وكان قد انتفع،

(4/229)


فإن عليه من الأجرة بقدر ما انتفع، لحصول المعقود عليه، والتمكن من استيفائه شرعا، فأشبه ما لو استوفى جميع المنفعة، ولا يلزمه أجرة لما يستقبل، لعدم حصول المعقود عليه، إذ حصولها إنما هو باستيفائها أولا فأول، وقد تعذر ذلك، وصار هذا كما لو اشترى صبرتين، فقبض إحداهما وتلفت الأخرى بأمر سماوي قبل قبضها، ثم إن كانت أجرة المدة متساوية، وقد استوفى نصف المدة مثلا، ومنع من باقيها، فعليه نصف الأجرة، وإن اختلفت؛ كأن يكون أجرها في الصيف أكثر من أجرها في الشتاء، أو بالعكس، فإن الأجر المسمى يقسط على ذلك، فإذا قيل: إن أجرها في الصيف يساوي مائة درهم، وأجرها في الشتاء يساوي خمسين، وكان قد سكن الصيف، كان عليه بقدر ثلثي المسمى.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الأمر الغالب الذي ذكره الخرقي له صور:
(إحداها) : إذا تلفت العين، ثم إن كان تلفها قبل التسليم، أو بعده، وقبل مضي مدة لها أجر، فإن الإجارة تنفسخ، وإن كان بعد التسليم ومضي مدة لها أجر، انفسخ فيما بقي، واستقر ما مضى، وهذه الصورة مما يدل

(4/230)


عليه كلام الخرقي، لكن ليس في كلامه - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعرض للفسخ ولا لعدمه، وظاهره الفسخ.
(الصورة الثانية) : أن يحدث للعين ما يمنع استيفاء معظم المعقود عليه مع بقائها، كدار انهدمت وأرض انقطع ماؤها، ونحو ذلك، فهل تنفسخ الإجارة - وهو مقتضى كلام الخرقي، وبه قطع ابن أبي موسى، والشيرازي، وابن البنا، ذكروه في الدار، واختاره أبو محمد، لأن المقصود بالعقد قد فات، أشبه ما لو تلف - (أو لا تنفسخ) ، بل يثبت للمستأجر خيار الفسخ - وهو قول القاضي في الدار، وصححه القاضي في التعليق، لإمكان الانتفاع بالعرصة، بنصب خيمة، أو جمع حطب، ونحو ذلك، أشبه نقص العين؟ فيه وجهان، أما لو زال نفعها بالكلية، أو الذي بقي فيها لا يباح استيفاؤه بالعقد، كدابة مؤجرة للركوب، صارت لا تصلح إلا للحمل، فإن الإجارة تنفسخ وجها واحدا.
(الصورة الثالثة) : إذا غصب العين غاصب، فيخير المستأجر بين الفسخ والرجوع بما يقابل ما بقي من المدة، وبين الإمضاء ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، وخرج أبو الخطاب الانفساخ إن قيل بعدم تضمين منافع المغصوب، ويحتمله

(4/231)


كلام الخرقي هنا.
(الصورة الرابعة) : إذا حدث خوف عام، منع المستأجر من استيفاء المنفعة، أو حصرت البلد، فامتنع المستأجر من الخروج إلى الأرض المؤجرة، أو اكترى للحج فلم يحج الناس ذلك العام، ونحو ذلك، فإن للمستأجر خيار الفسخ.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لو حدث أمر لا يمنع المستأجر من منفعة ما وقع عليه العقد، كأن تعيب المعقود عليه، فإن العقد لا ينفسخ، نعم للمستأجر الخيار بين الفسخ والإمساك بكل الأجرة، ذكره ابن عقيل، وتبعه أبو محمد وغيره، قاله أبو البركات، وقياس المذهب أن له الأرش، ولا يبطل الخيار بالتأخير.
(فائدة) : لو أتلف المستأجر العين المؤجرة، ثبت ما تقدم من الفسخ أو الانفساخ، مع تضمين المستأجر ما أتلف، ومثله جب المرأة زوجها تضمن ولها الفسخ، والله أعلم.

(4/232)


قال: ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله، والأجرة على المريض.
ش: هذا أحد نوعي الإجارة، وهو الإجارة على عمل شيء في الذمة، معين برؤية أو صفة، كخياطة هذا الثوب، وبناء حائط طوله كذا وعرضه كذا، وآلته كذا، فمتى مرض المؤجر والحال هذه لزمه أن يقيم مقامه من يعمل ذلك، ليخرج من الحق الواجب في ذمته إيفاؤه، أشبه المسلم فيه، والأجرة عليه، لأنها في مقابلة ما وجب عليه، ويستثنى من ذلك ما إذا شرط عينه، كأن تخيط لي أنت هذا الثوب، فها هنا لا يقيم غيره مقامه، بل يخير المستأجر بين الفسخ، والصبر حتى يتبين الحال، والله أعلم.

[موت المكري والمكتري أو أحدهما]
قال: وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها.
ش: ولا انفساخ، لأن الإجارة عقد لازم، فلا تنفسخ بتلف العاقد مع سلامة المعقود عليه، كما لو زوج أمته ثم مات، هذا المنصوص عن أحمد، وعليه الأصحاب.
وقال أبو محمد في المستأجر، إذا لم يكن وارث، أو تعذر استيفاء وارثه، كأن اكترى للحج، ومات في الطريق: إن الإجارة تنفسخ، وزعم أن هذا ظاهر كلام أحمد وشمل

(4/233)


كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا مات الموقوف عليه، فانتقل الوقف إلى من بعده، فإن الإجارة لا تنفسخ، وهو أحد الوجهين، والوجه الآخر تنفسخ، وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا، وأومأ إليه أحمد لا للموت، بل لأن ملكه قد زال، والله أعلم.

قال: ومن استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره، إذا كان يقوم مقامه.
ش: إذا استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره، لأنه ملك المنفعة، فله أن يتصرف فيها كيف شاء، كالمشتري إذا ملك المبيع، لكن شرط إسكان الغير أن يكون ذلك الغير يقوم مقامه، كما إذا اكترى دارا للسكنى، فله أن يدفعها لمن يسكنها، لا لحداد وقصار يعمل فيها ذلك، وإن اكترى ظهرا للحمل فله أن يركبه مثله، ومن هو أخف منه، لا من هو أثقل منه، وإن اكترى دابة لحمل الحديد، فليس له أن يدفعها لمن يحمل عليها القطن، ونحو ذلك، لأن ذلك غير المعقود عليه، أو زائد عليه، فلا يجوز.

(4/234)


وقد شمل كلام المصنف إسكان الغير على وجه العارية، أو الهبة، أو الإجارة، وقد اختلف عن أحمد في الإجارة، فعنه - وهو المذهب عند الأصحاب، وظاهر كلام الخرقي -: الجواز مطلقا، لما تقدم من أنه ملك المنفعة، ومقتضى ملك المنفعة جواز التصرف فيها كالأعيان، ولأن من جاز له أن يستوفي المنفعة بنفسه جاز له أن يستوفيها بغيره، دليله مالك الرقبة.
(وعنه) : عدم الجواز مطلقا، لأنه تصرف فيما لم يدخل في ضمانه فلم يجز، كالتصرف في المكيل والموزون قبل قبضه.
(وعنه) : يجوز بمثل ما اكترى لا بأزيد، حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربح ما لم يضمن» ، فإن فعل تصدق بالزيادة نص عليه.
(وعنه) : إن عمل فيها عملا - كأن جدد عمارة ونحو ذلك - جازت الزيادة، جعلا لها في مقابلة العمل، وإلا لم تجز.
(وعنه) : إن أذن له المؤجر في الإجارة جازت، وإلا فلا، كذا الرواية فيما نقله حنبل، وكذلك حكاها

(4/235)


القاضي وغيره، وحكى أبو محمد الرواية أنه إن أذن له المؤجر في الزيادة جازت وإلا فلا، ومحل الخلاف فيما بعد القبض، أما قبله فعلى القول بالجواز ثم، فها هنا أوجه؛ (الجواز) ، (وعدمه) ، والثالث: يجوز للمؤجر دون غيره، والله أعلم.

[استئجار الظئر والأجير بطعامه وكسوته]
قال: ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، واختيار القاضي في التعليق الكبير، وجماعة.
2121 - لما «روى عتبة بن الندر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ (طس) حتى بلغ قصة موسى، فقال: «إن موسى أجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين، على عفة فرجه، وطعام بطنه» رواه أحمد، وابن ماجه، وشرع من قبلنا شرع لنا على المشهور، ولا سيما وقد ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقررا له، ويعضده وجوب النفقة والكسوة للمرضعة، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ونقل

(4/236)


عنه حنبل: أكرهه: معللا بالجهالة، وهو اختيار القاضي في بعض كتبه أظنه في المجرد، وحمل الكراهة هو وغيره على المنع، بقرينة ما علل به الإمام، والله أعلم.

قال: وكذلك الظئر.
ش: الظئر هي المرضعة غير ولدها، وقد ظأره على الشيء: إذا عطفه عليه، وحكمها في استئجارها على الرضاع بطعامها وكسوتها حكم الأجير، فيها الروايتان، إلا أن القاضي قال: لا يختلف قوله هنا في الجواز، ولهذا قيل محل الروايتين في الأجير أما الظئر فيجوز إجارتها بذلك رواية واحدة، لقضية النص.

(تنبيه) : إذا صحت الإجارة فهل قدر الطعام والكسوة ما يجب في الكفارة - حملا للمطلق من كلام الآدميين، على المقيد من كلام الشارع - أو يرجع إلى نفقة مثله وكسوته - حملا للمطلق على المتعارف، وهو الذي جزم به أبو البركات؟ فيه روايتان منصوصتان، وقال أبو محمد في المقنع والمغني، وصاحب التلخيص: يرجع في الإطعام إلى الكفارة، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله، وهو تحكم، ثم أبو محمد وغيره يخص المسألة بصورة الاختلاف، وأبو البركات لا يخصها بذلك، وكلام أحمد وقع تارة على

(4/237)


هذا، وتارة على هذا، والله أعلم.

قال: ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء الخبر، إذا كان المسترضع موسرا.
2122 - ش: الخبر ما «روى حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: «الغرة، العبد أو الأمة» ، رواه أبو داود والترمذي وصححه، والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الرضاع سبب حياته، وحفظ رقبته، فجعل الجزاء من جنس.
2122 - م - الرقبة، ليناسب الشكر النعمة، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولده والده إلا أن يجده مملوكا فيعتقه» والله أعلم.

(4/238)


قال: ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه، فعليه الأجرة المذكورة، وأجرة المثل لما جاوز.
ش: كما إذا اكترى إلى بلبيس مثلا، فجاوزه إلى الصالحية، فإن عليه الأجرة المسماة في العقد، لاستيفاء المعقود عليه متميزا عن غيره، وأجرة المثل للزائد، لأنه متعد في ذلك، فهو كالغاصب، وقد حكى ذلك أبو الزناد عن الفقهاء السبعة، وهذه الصورة متفق عليها، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في المقنع من وجوب أجرة المثل على قول، ولا ما اقتضاه كلام ابن حمدان من وجوب ما بين القيمتين على قول، وأجرة المثل على قول، فإن القاضي قال: لا يختلف أصحابنا في ذلك. وقد نص عليه أحمد، والله أعلم.

(4/239)


[حكم هلاك العين المستأجرة]
قال: وإن تلفت فعليه أيضا قيمتها.
ش: يعني إذا تلفت في مدة المجاوزة، لأنه إذا متعد، فضمنها كالغاصب، هذا إذا لم تكن يد صاحبها عليها، أو كانت يده عليها واستكرهه على ذلك، أما لو كانت يد صاحبها عليها، ولم يرض بذلك، فظاهر كلام الخرقي أنه يضمنها أيضا، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا، والشيرازي، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات، إناطة بالتعدي، وسكوت صاحبها لا يدل على الرضى، كما لو باع ملك غيره بحضرته فلم يمنعه، وقيل: إنما يضمن نصف قيمتها فقط، لأنه اجتمع عليها يدان، يد صاحبها، ويد المستأجر، وما يقابل يد المستأجر يقابل النصف، فيختص بضمان النصف، وعن القاضي في الشرح الصغير: لا ضمان، لوجود يد المالك، وعنه أظنه في المجرد: إن تلفت وهو راكبها، أو حمله عليها ضمنها، وإن تلفت وقد نزل عنها، وسلمها إلى مالكها لسقيها ونحو ذلك فلا ضمان، ووافقه في المغني على ذلك، إلا أنه استثنى فيما إذا تلفت في

(4/240)


يد مالكها بسبب تعبها من الحمل ونحو ذلك، والله أعلم.

قال: وكذلك إن اكترى لحمولة شيء فزاد عليه.
ش: مثل أن يكتريها لحمل مائة رطل، فيحمل مائة وعشرة ونحو ذلك، لأنه استوفى المعقود وزاد عليه، فيلزمه المسمى، وأجرة المثل للزائد، وضمان الدابة إن تلفت لتعديه، أو ضمان النصف، لتلفها بفعل مضمون وغير مضمون.
وحكى القاضي - وتبعه أبو محمد في المقنع - عن أبي بكر وجوب أجرة المثل في الجميع، اعتمادا على قوله فيمن استأجر أرضا لزرع شعير فزرع حنطة: إن عليه أجرة المثل للجميع، لعدوله عن المعقود عليه إلى غيره، قال في المغني: وبينهما فرق، فإن ما حصل التعدي فيه في الحمل متميز، وهو الرطل الزائد مثلا، بخلاف الزرع، فإلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى إلى موضع فجاوزه أسد، وهذا الذي قطع به في الكافي، وأبو البركات، مع أن أحمد نص في الزرع في رواية عبد الله أنه ينظر إلى ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير، فيعطى رب

(4/241)


الأرض، بيان ذلك أن يقال: أجرة مثلها إذا زرعها حنطة أن تساوي مائة درهم، وأجرة مثلها إذا زرعها شعيرا أن تساوي ثمانين، فالواجب عليه ما بين ذلك، وهو عشرون، مع المسمى في العقد، ولو اكترى لحمل حديد، فحمل قطنا، وجب أجرة المثل هنا بلا نزاع، قاله أبو محمد، والله أعلم.

قال: ولا يجوز أن يكتري لمدة غزاته.
ش: لجهالة المدة المشترط عليها، والله أعلم.

قال: فإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز.
ش: هذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قياس مسألة كل شهر بدرهم، وقد تقدمت نقلا ودليلا، والله أعلم.

قال: ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين، والمحامل، والأغطية، والأوطية، وجميع ما يحتاج إليه لم يجز الكراء.
ش: يشترط معرفة المعقود عليه كالبيع، فيحتاج الجمال إلى رؤية ما تقدم، لأن ذلك يختلف ويتباين، فاشترطت معرفته كقدر الطعام المحمول، وذكر الخرقي هذه الصورة لينبه على

(4/242)


مذهب الغير، إذ مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدم اشتراط رؤية الراكبين، وكذلك أبو حنيفة في الأوطية في حال، وكذلك الشافعي في غطاء المحمل وتبعه القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم.

قال: فإن رأى الراكبين أو وصفا له، وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز.
ش: لأن ذلك مما ينضبط بالصفة، ولذلك يصح السلم فيه، وإذا تحصل معرفته، وقال الشريف وأبو الخطاب: لا تكفي الصفة في ذلك، لاختلاف الراكب في ثقله وخفته، وحركته وسكونه، وذلك لا ينضبط بالصفة، والله أعلم.

[الأجير الخاص والمشترك]
قال: وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن.
ش: الأجير على ضربين؛ (أجير خاص) : وهو من استؤجر إلى مدة، كمن استؤجر شهرا أو يوما، لخدمة، أو بناء، ونحو ذلك، فيستحق المستأجر نفعه في جميع المدة، [سمي خاصا؛ لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة] . (وأجير

(4/243)


مشترك) : وهو الذي قدر نفعه بالعمل، كمن استؤجر لخياطة ثوب معين أو موصوف، ونحو ذلك، سمي مشتركا؛ للاشتراك في عمله، لأنه يتقبل لاثنين وأكثر.
إذا تقرر هذا فالأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله، ولا بغير فعله، ما لم يوجد منه تفريط وقصد للخيانة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وعليه الأصحاب، لأن عمله غير مضمون عليه، فلم يضمن ما تلف به كالقصاص، ولأنه نائب عن المالك، في صرف منافعه فيما أمر به، فلم يضمن إذا لم يتعد، كالوكيل، وذهب ابن أبي موسى إلى أنه يضمن ما جنت يده، وحكى عن أحمد رواية بتضمينه ما تلف بأمر خفي لا يعلم إلا من جهته، كما سيأتي في الأجير المشترك، اللهم إلا أن يعمل في بيت المستأجر فلا يضمن ما تلف بغير فعله، وعنده أنه لا فرق [بين الأجير الخاص، والأجير المشترك، والمنصوص الفرق وعليه الأصحاب.
وأما الأجير المشترك - وهو الذي ذكره الخرقي هنا - فيضمن] ما تلف بفعله، كحائك أفسد حياكته، وقصار خرق الثوب بدقه أو عصره، وطباخ أفسد طبخه، وجمال أتلف المتاع بعثرته، أو بانقطاع الحبل الذي شد به، ونحو

(4/244)


ذلك، نص على ذلك أحمد في رواية الجماعة، وعليه الأصحاب.
2123 - لما روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك. ولأن عمله مضمون عليه، وما تولد من المضمون فهو مضمون، كجناية العمد، ودليل الوصف أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل، وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد علمه لم يكن له أجر.
وظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا فرق بين أن يعمل في بيته، أو في بيت المستأجر، ولا بين أن يكون المستأجر على

(4/245)


المتاع أم لا، وصرح به القاضي في التعليق في أثناء المسألة، وابن عقيل، واختاره أبو محمد، إذ ضمانه كجنايته، وعن القاضي - أظنه في المجرد - قال في الكافي: وأصحابه، أنه إنما يضمن ما عمله في ملكه، أما ما عمله في ملك المستأجر من خياطة ونحوها، فلا ضمان عليه، ما لم يفرط، كأن يسرف في الوقود ونحوها، لأنه سلم نفسه إلى المستأجر، أشبه الأجير الخاص، وكذلك لو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة، أو راكبا على الدابة فوق حمله، لعدم زوال يد المالك، وكذلك لو كان الراكب على الدابة حرا، إذ الحر لا يضمن من جهة الإجارة، وخرج أبو الخطاب وجها بعدم الضمان رأسا، كسراية القود وإفضاء الزوجة، إذ التلف حصل من فعل مباح، والله أعلم.

(4/246)


قال: وإن تلفت من حرزه فلا ضمان عليه.
ش: ما تلف عند الأجير المشترك لا يخلو من ثلاثة أحوال:
(أحدها) : أن يكون بتفريط منه أو تعد، فيضمن كما دل عليه كلام الخرقي بطريق التنبيه، وهو واضح.
(الثاني) : ما تلف بفعله بغير تفريط منه، وقد تقدم.
(الثالث) : ما تلف بغير فعله من غير تفريط منه، كأن سرق أو حرق ونحو ذلك، والمشهور المنصوص في رواية الجماعة – وهو اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي وأصحابه والشيخين -: أنه لا ضمان عليه؛ لأنها عين مقبوضة بعقد إجارة، لم يتلفها بفعله، أشبهت العين المستأجرة.
(وعن أحمد) رواية أخرى بالضمان مطلقا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . (وعنه) ثالثة إن كان التلف بأمر ظاهر - كالحريق، واللصوص الغالبين، ونحو ذلك - فلا ضمان، وإن كان بأمر خفي كالضياع، ونحو ذلك فعليه الضمان، إناطة بالتهمة، قال صاحب التلخيص: ومحل

(4/247)


الروايات إذا لم تكن يد المالك على المال، أما إن كانت عليه فلا ضمان بحال، والله أعلم.

قال: ولا أجرة له فيما عمل فيها.
ش: قد تقدم أن ما تلف من حرز الأجير المشترك ونحو ذلك، فلا ضمان عليه فيه، وهو يشمل ما إذا تلف بعد فعله وقبله، فإذا تلف بعد فعله فهل يستحق أجرة لذلك؟ قال الخرقي: لا أجرة له، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه، كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه.
وظاهر كلام الخرقي - وتبعه أبو محمد -: أنه لا فرق بين أن يعمل في بيت المستأجر أو خارجا عنه، ولا بين أن يكون ذلك بناء أو غيره، وفصل أبو البركات ذلك، وملخص ما قاله: أنه إن كان العمل في بيت المستأجر، وكان بناء فله أجرته رواية واحدة؛ لأن تسليمه يحصل بمجرد فعله، وإن كان غير بناء فروايتان، مبناهما على أنه إذا كان في ملكه فهل العمل مسلم بمجرد عمله، أو لا بد من التسليم؟ وإن كان العمل خارج بيت المستأجر وكان غير بناء فلا أجرة له رواية

(4/248)


واحدة، إذ التسليم إذا لا يحصل إلا بالقبض، وإن كان بناء فروايتان، مبناهما على أن العادة هل جرت في البناء بقبضه في موضعه، أو أنه لا بد من التسليم فيه كغيره، وقطع القاضي في التعليق في البناء بأن له أجرته، وفي غيره لا أجرة له، ونص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور، والله أعلم.

[ضمان الحجام والختان والطبيب]
قال: ولا ضمان على حجام، ولا ختان، ولا متطبب، إذا عرف منهم حذق الصنعة، ولم تجن أيديهم.
ش: لا ضمان على من ذكر والحال هذه، لأنهم فعلوا فعلا مباحا مأذونا فيه، أشبه قطع الإمام يد السارق، أما إذا لم يكن لهم معرفة بذلك فيضمنون، لتحريم المباشرة عليهم إذا، وكذلك إن عرف منهم حذق لكن جنت أيديهم، كأن تجاوز الختان إلى بعض الحشفة، أو قطع الطبيب سلعة فتجاوزها، ونحو ذلك، لما تقدم في الأجير المشترك، وحكى ابن أبي موسى إذا ماتت طفلة من الختان فديتها على عاقلة خاتنها، قضى بذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.

(4/249)


[ضمان الراعي]
قال: ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد.
ش: لا ضمان على الراعي، لأنه مؤتمن على الحفظ، أشبه المودع، ولأنها عين قبضت بحكم الإجارة، أشبهت العين المستأجرة، أما إذا تعدى أو فرط - مثل أن تركها تغيب عن نظره، أو ضربها ضربا أسرف فيه، أو من غير حاجة إليه، أو سلك بها موضعا مخوفا، أو نام عنها أو غفل، ونحو ذلك - فيضمن، لأنه مفرط، أشبه المودع، ولو جاء بجلد الشاة مدعيا لموتها من غير بينة قبل قوله على أصح الروايتين.
وقد تضمن كلام الخرقي جواز إجارة الراعي، وهو واضح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حكاية عن صاحب موسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] الآية، وجواز إجارة الطبيب، لأنه فعل مباح مأذون فيه، أشبه سائر الأفعال المباحة، ويقدر ذلك بالمدة، لا بالعمل لعدم انضباطه، ويبين قدر ما يأتي له في كل يوم، هل هو مرة أو أكثر من ذلك، ولا يجوز التقدير بالبرء عند القاضي، وجوزه ابن أبي موسى، وكذلك أبو محمد، لكن جعله جعالة لجواز

(4/250)


جهالة العمل فيها، ويجوز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح لا الدواء اعتمادا على العرف.
وتضمن أيضا جواز إجارة الختان، وهو واضح لما تقدم، وجواز إجارة الحجام، وهو اختيار أبي الخطاب، وتبعه الشيخان.
2124 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه» [متفق عليه، وفي لفظ: «دعا غلاما منا فحجمه، فأعطاه أجره صاعا أو صاعين، وكلم مواليه أن يخففوا عنه» ] من ضريبته. رواه أحمد والبخاري.
2125 - وعن ابن عباس قال: «احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه» . رواه أحمد، والبخاري، ولأن بالناس حاجة إلى ذلك، أشبه غيره من المنافع.

(4/251)


وقال القاضي وجمهور أصحابه: لا يصح الاستئجار على الحجامة، وهو ظاهر كلام أحمد، وقال في التلخيص: إنه المنصوص. وذلك:
2126 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب» ، رواه أحمد.
2127 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي ولفظه: «شر المكاسب ثمن الكلب، وكسب الحجام، ومهر البغي» والنهي يقتضي التحريم، وكذلك الخبث، لا سيما وقد قارنه بما لا نزاع في تحريمه، وجعله شر المكاسب.

(4/252)


2128 - وقد «روى محيصة بن مسعود أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: «لا» قال: أولا أتصدق به؟ فرخص له أن يعلفه ناضحه» . رواه أحمد، وفي لفظ: «أنه استأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجارة الحجام، فنهاه عنها، ولم يزل يسأله فيها حتى قال: «أعلفه ناضحك، وأطعمه رقيقك» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وأما حديث ابن عباس فقال أحمد في رواية الأثرم: هذا تأويل من ابن عباس. وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلى طريق الصلة والإحسان، لما فعل معه، جمعا بين الأحاديث، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم: نحن نعطي كما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقول له كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تأكله. قيل له: فيشارط في الحجامة؟ قال: لم أسمع في الشرط شيئا. وعلى هذا يجوز أن يعطى من غير شرط،

(4/253)


ويطعمه رقيقه وناضحه لما تقدم، ويحرم عليه هو أكله في إحدى الروايتين، قال في رواية الأثرم: لا تأكله. وهذا اختيار القاضي، وطائفة من أصحابه.
(والرواية الثانية) : يكره. قال أبو النضر عنه: كان يذهب إلى أنه يكره، ويقول: هو شر كسب، ولا يقول: هو حرام، وإذا قيل بالتحريم في حقه، فهل يحرم في حق غيره من الأحرار؟ ظاهر كلام القاضي في التعليق، وصاحب التلخيص: التحريم، وصرح القاضي في الروايتين بالجواز اعتمادا على أن أحمد قال: أطعمه الرقيق. قال: والرقيق يحتاج أن يشتري له طعاما. وفيه نظر، وعلى القول بجواز الإجارة فيكره للحر أيضا أكله، لما تقدم من الأحاديث.

[استئجار الحجام لغير الحجامة من الفصد والختن]
(تنبيه) : يجوز استئجار الحجام لغير الحجامة، من الفصد، والختن ونحو ذلك، إذ نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كسب الحجام أي في الحجامة، كما أن نهيه عن مهر البغي أي في البغاء، والله أعلم.

(4/254)