شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الوقوف
والعطايا]
(الوقوف) جمع وقف كفلس وفلوس، يقال: وقف. على الأفصح وأوقف. على لغة،
ويقال: أحبس، وحبس، وحبس. ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لعمر: «إن شئت حبست أصلها» .
(والعطايا) جمع «عطية» كخلايا وخلية، ومعنى الوقف قال أبو محمد، وصاحب
التلخيص: إنه تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وأرادا: مع شروطه المعتبرة،
وحده غيرهما فأدخل الشروط في الحد، ويحتاج إلى بسط.
2140 - والأصل في جوازه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاثة أشياء، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو
له» رواه مسلم وغيره.
(4/268)
2141 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: «أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضا
بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: «إن شئت حبست
أصلها، وتصدقت بها» فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في
الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها
أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقا، غير متمول - وفي لفظ: غير متأثل -
مالا» : رواه الجماعة.
2142 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذو مقدرة إلا وقف. وقال أحمد في
رواية
(4/269)
حنبل: قد وقف أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوفهم بالمدينة ظاهرة، فمن رد الوقف فإنما
رد السنة. وأما العطية فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
[حكم من وقف على قوم وأولادهم وعقبهم ثم آخره
للمساكين]
قال: ومن وقف في صحة من عقله وبدنه على قوم، وأولادهم، وعقبهم، ثم آخره
للمساكين، فقد زال ملكه عنه.
ش: إذا وقف في صحة من عقله - بأن لا يكون مغلوبا على عقله بجنون، أو إغماء
أو غيرهما - وفي صحة من بدنه - بأن كان غير مريض - وقفا متصلا كما ذكر
الخرقي، فإن ملك الواقف يزول عن العين الموقوفة، على المشهور المعروف،
المختار من الروايتين؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، أشبه
الهبة والبيع، (والرواية الثانية) : أنه باق على ملك الواقف، لقوله: -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» فعلى
الأول ينتقل الوقف إلى الموقوف عليه،
(4/270)
على المشهور المختار أيضا من الروايتين،
كالهبة والبيع، إلا أن يكون الموقوف عليه مما لا يملك، كالمسجد ونحوه، فإن
الملك في الوقف ينتقل إلى الله تعالى، (والرواية الثانية) : يكون ملكا لله
تعالى، حكاها غير واحد؛ وهي ظاهر اختيار ابن أبي موسى، قياسا على العتق،
بجامع زوال الملك على وجه القربة، وفرق بزوال المالية ثم، بخلاف هنا.
وتلخص أن في المسألة ثلاثة أقوال: (ملك) للموقوف عليه، وهي المذهب، (ملك)
لله تعالى، (ملك) للواقف وبنيه، وللخلاف فوائد: (منها) لو كان الموقوف
ماشية لم تجب زكاتها على الثانية، وكذلك على الثالثة، لضعف الملك، وهو
انتقاء التصرف في الرقبة والمنفعة، ووجبت على الموقوف عليه على الأولى، على
ظاهر كلام الإمام، واختيار القاضي في التعليق، وأبي البركات، وغيرهما،
وقيل: لا تجب، لضعف الملك، اختاره صاحب التلخيص وغيره، (ومنها) : أرش
جنايته، يلزم الموقوف عليه على الأولى، لانتفاء التعلق بالرقبة لامتناع
البيع، وعلى الثانية
(4/271)
هل يجب في بيت المال أو في الغلة؟ فيه
وجهان، قلت: وعلى الثالثة يحتمل أن يجب على الواقف، ويحتمل أن يجب في
الغلة، (ومنها) إذا كان أمة ملك الموقوف عليه تزويجها على الأولى، والحاكم
على الثانية، لكن يشترط إذن الموقوف عليه، قاله في التلخيص، قلت: والواقف
على الثالثة، لكن بإذن الموقوف عليه (ومنها) النظر حيث أطلق يكون للموقوف
عليه، على الأولى، وللحاكم على الثانية، وبه جزم ابن أبي موسى، قلت:
وللواقف على الثالثة (ومنها) الشفعة لا تستحق على الثانية، قلت: وكذا على
الثالثة، وفي استحقاقها على الأولى وجهان (ومنها) نفقة الوقف، تجب حيث
شرطت، ومع عدمه في الغلة، ومع عدمها على من الملك له، قاله في التلخيص،
قلت: فعلى الثانية تجب في بيت المال، هذا في الحيوان لحرمته، أما العقار
فلا تجب عمارته إلا على من يريد الانتفاع به (ومنها) إذا وطئها الموقوف
عليه، فلا حد عليه للملك أو شبهه، وتصير أم ولد على الأولى، لا على الثانية
والثالثة، والله أعلم.
(4/272)
وظاهر كلام الخرقي أن ملك الواقف يزول عن
الوقف وإن لم يخرجه عن يده، وهو المشهور المختار المعمول به من الروايتين،
لعموم قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمر: «لا يباع
أصلها، ولا يوهب، ولا يورث» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، أشبه
العتق (وعنه) لا يلزم ويزول الملك عنه إلا بالإخراج عن يده، اختاره ابن أبي
موسى؛ لأنه تبرع بشيء لم يخرج عن المالية أشبه الهبة، (وظاهر كلامه) أيضا
أنه لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه، ولا خلاف في ذلك إن كان على غير
معين كالمساكين، أو على من لا يتصور القبول منه كالمساجد، أما ما كان على
آدمي
(4/273)
معين، ففي اشتراط القبول وجهان، قال ابن
حمدان في الصغرى وابن المنجا: ثم إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى
الموقوف عليه، إن قلنا: ينتقل. اشترط، وإن قلنا: لا. فلا، والظاهر أنهما
على القول بالانتقال، إذ لا نزاع بين الأصحاب أن الانتقال إلى الموقوف عليه
هو المذهب، مع اختلافهم في المختار هنا، وشبهة الخلاف تردده بين التمليك
والتحرير، وقد تقدم ذلك، لكن الأصحاب مترددون في التعليل، وينبغي اتباع سنن
واحد.
وقول الخرقي: في صحة من عقله وبدنه. احترز به عن الوقف في المرض، وسيأتي
بيانه إن شاء الله تعالى، وقوله على قوم. إلى آخره، يحترز به عن المنقطع،
وسيأتي إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
[انتفاع الواقف بالوقف]
قال: ولا يجوز أن يرجع إليه شيء من منافعه.
ش: يعني أنه إذا صح الوقف كما تقدم فإن منافعه تنتقل إلى الموقوف عليه بلا
نزاع لما تقدم، ولا يصير للواقف فيها حق، إذ هذا وضع الوقف، والأدلة تشعر
بذلك، نعم
(4/274)
إن وجدت فيه صفة الاستحقاق استحق كأحد
المستحقين، كمن وقف مسجدا فإنه يستحق الصلاة فيه، أو مقبرة فإنه يملك الدفن
فيها، أو سقاية فيملك الشرب منها، ونحو ذلك.
2143 - وفي النسائي والترمذي - وحسنه - عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة وليس بها
ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع
دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟» «فاشتريتها بصلب مالي. والله أعلم.
(4/275)
[الحكم فيمن
وقف وقفا وشرط أن يأكل منه]
قال: إلا أن يشترط أن يأكل منه، فيكون له مقدار ما اشترط.
ش: إذا وقف وقفا وشرط أن يأكل منه، أو يسكنه مدة حياته، أو مدة معلومة صح،
نص عليه.
2144 - محتجا بما روى أن في صدقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر.
2145 - ولأن في حديث عمر: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو
يطعم صديقا، غير متمول» ، وكان عمر هو الوالي عليها إلى أن مات.
(4/276)
2146 - ويروى عن ابن عمر وزيد بن ثابت -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما وقفا داريهما وسكناهما مدة حياتهما.
والظاهر أن ذلك عن شرط، والله أعلم.
قال: والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإناث من أولاد البنين،
بينهم بالسوية، إلا أن يكون الواقف فضل بعضهم.
ش: إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم كما تقدم، وشرط الأكل منه، فإن الفاضل
بعد الأكل يكون بين القوم وأولادهم، وعقبهم يشارك الآخر الأول، إذ الواو
للجمع المطلق لا للترتيب، ويكون بين الذكور والإناث بالسوية، إذ هذا قضية
الاشتراك، كما لو أقر لهم بشيء، ولهذا لما شرك الله بين ولد الأم في الثلث
كان بينهم بالسوية، نعم إذا فضل الواقف بأن جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، أو
بالعكس اعتبر تفضيله، كما لو جعله على أحدهم دون الآخر.
وقول الخرقي: من أولاد البنين، نص منه على أنه إذا وقف على قوم وأولادهم
وعقبهم دخل فيه ولد البنين، ولا خلاف في هذا نعلمه، ومفهوم كلامه أنه لا
يدخل فيه ولد
(4/277)
البنات، وهو أشهر الروايات، نص عليها في:
ولد ولدي لصلبي. واختاره القاضي في التعليق والجامع، والشيرازي، وأبو
الخطاب في خلافه الصغير، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] الآية، ولم يدخل فيه ولد البنات وقال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولأن ولد الهاشمية ليس بهاشمي، ولا ينتسب إلى أبيها شرعا ولا عرفا، وبهذا
علل أحمد، فقال: لأنهم من رجل آخر، (والرواية الثانية) : يدخلون فيه،
اختاره أبو الخطاب في الهداية، لأن البنات أولاده، فأولادهن أولاد أولاده
حقيقة، وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ}
[الأنعام: 84] إلى قوله: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] وهو من ولد بنته.
(4/278)
2147 - وفي البخاري وغيره أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر فقال: «إن ابني هذا سيد،
ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» » يعني الحسن.
2148 - وعن أسامة بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال لعلي: «وأما أنت يا علي فختني، وأبو ولدي» (والثالثة) يدخلون إلا أن
يقول: على ولد ولدي لصلبي. فلا يدخلون، وهذه الرواية اختيار أبي بكر، وابن
حامد، حكاه عنهما أبو
(4/279)
الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المقنع،
والقاضي فيما حكاه عنه صاحب التلخيص، وفي الروايتين للقاضي، والمغني أنهما
اختارا الرواية الثانية، وفي الخصال لابن البنا أن ابن حامد اختار الثانية،
وأبا بكر الثالثة، وكذا في المغني القديم فيما أظن، ومحل الخلاف مع عدم
القرينة أما مع القرينة فالعمل لها، ولهذا قيل في عيسى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - والحسن: إنهما إنما دخلا مع الذكر، والكلام مع الإطلاق، والله
أعلم.
قال: وإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين.
ش: يرجع إلى شرط الواقف في الجمع والترتيب وغير ذلك، كما يرجع إليه في شرط
الوقف، ففي المسألة السابقة جمع بين القوم وأولادهم وعقبهم بواو الجمع،
فقلنا: يشترك فيه الجميع، وفي الثانية رتبه بثم، فقلنا بترتيبه بعد من
تقدم، ويوقف استحقاقه على انقراضهم، ويدخل الفقراء في لفظ المساكين، وكذلك
كل موضع اقتصر فيه على ذكر أحد
(4/280)
اللفظين، فإنه يتناول القسمين، أما لو جمع
بين اللفظين آتيا بما يقتضي التمييز بينهما، كأن قال: وقفت على الفقراء
والمساكين نصفين. ونحو ذلك. فإنه يجب التمييز بينهما وقسم الوقف بينهما
نصفين، ولو قال: على] الفقراء والمساكين. ولم يقل نصفين، فالحكم كالزكاة،
يجوز الدفع إليهما، والاقتصار على أحدهما على المشهور، وعلى الرواية الأخرى
لا بد وأن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف، والله أعلم.
قال: وإذا لم يجعل آخره للمساكين، ولم يبق ممن وقف عليه أحد، رجع إلى ورثة
الواقف في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية
الأخرى يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف.
ش: قد تضمن هذا الكلام صحة الوقف المعلوم الابتداء، المنقطع الانتهاء، وهذا
مذهبنا، لأن مصرفه معلوم كما سيأتي، فصح كما لو صرح بالمصرف، إذ المطلق
يحمل على العرف، وإذا صح وانقرض من وقف عليه - كما لو وقف على ولده
وأولادهم [فانقرضوا]- فإنه يصرف إلى جميع ورثة الواقف، يقسم على قدر
مواريثهم منه، على إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي الكافي
أنها ظاهر المذهب،
(4/281)
لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس
ببره، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابدأ بنفسك ثم بمن
تعول» .
2149 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك إن تدع ورثتك
أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» .
2150 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صدقتك على غير رحمك
صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة» (والراوية الثانية) يختص به أقرب العصبة،
لأنهم أحق أقاربه ببره.
2151 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بمن تعول، أمك
وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» رواه النسائي. (والرواية الثالثة) :
يجعل
(4/282)
في بيت المال، يصرف في مصالحهم، وهي أنص
الروايات عنه؛ لأنه مال لا مستحق له، أشبه مال من لا وارث له، (والرواية
الرابعة) وبها قطع القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو جعفر، وإليها
ميل أبي محمد - يصرف في المساكين، لأنهم أعم جهات الخير، ومصرف الصدقات،
وحقوق الله تعالى، من الكفارات ونحوها.
وإذا قلنا: يرجع إلى أقارب الواقف الجميع أو العصبة، فإنه يشمل غنيهم
وفقيرهم، على ظاهر كلام الخرقي والإمام، وبه قطع أبو البركات وغيره، إذ
مصرف الوقف كذلك، واختار القاضي في الروايتين أنه يختص الفقراء منهم، إذ
القصد بالوقف البر والصلة، والفقراء أولى بهذا المعنى من غيرهم، ومن رجع
إليه فإنه يرجع إليه وقفا، لأن الملك قد زال عنه بالوقف، فلا يعود، ملكا
إلى الورثة، قطع بذلك القاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات، وغيرهم، وزعم في
المغني أن أحمد نص عليه، وقال: ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم إرثا،
ويبطل الوقف، وقال ابن أبي موسى: إن دفع إلى جميع الورثة رجع إرثا، بخلاف
الرجوع إلى العصبة، وهذا مقتضى ما في المقنع، وكلام الخرقي عكسه، وحيث
قلنا، يصرف إلى الأقارب فانقرضوا، أو لم
(4/283)
يوجد له قريب، فإنه يصرف إلى بيت المال؛
لأنه مال لا مستحق له، نص عليه أحمد في رواية ابن إبراهيم، وأبي طالب،
وغيرهما، وقطع به [أبو الخطاب] وأبو البركات، وقال ابن عقيل في التذكرة،
وصاحب التلخيص، وأبو محمد: يرجع إلى الفقراء، والمساكين، إذ القصد بالوقف
الصدقة الدائمة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أو صدقة جارية
وقال ابن أبي موسى: يباع ويجعل ثمنه للمساكين، - ثم قال ابن الزاغوني:
الخلاف في الرجوع إلى الأقارب، - أو إلى بيت المال، أو إلى المساكين - مختص
بما إذا مات الواقف، أما إن كان حيا فانقطعت الجهة فهل يعود الوقف إلى ملكه
أو إلى عصبته وذريته؟ فيه روايتان.
[أحوال الوقف]
(تنبيه) : الوقف له أربعة أحوال (الأول) : متصل الابتداء والانتهاء، وهو
الذي بدأ به الخرقي (الثاني) : منقطع الانتهاء، وهو الذي ثنى به الخرقي،
ولا إشكال في صحة كليهما (الثالث، والرابع) منقطع الابتداء متصل الانتهاء،
(4/284)
متصل الابتداء والانتهاء، منقطع الوسط، كأن
وقف على من لا يجوز كعبد، ثم على من يجوز كالمساكين، أو وقف على ولده، ثم
عبده، ثم على المساكين، والمذهب صحتهما، وقيل بالبطلان، بناء على تفريق
الصفقة، وعلى الأول هل يجعل من لا يجوز الوقف عليه كالمعدوم، فيصرف إلى من
يجوز الوقف عليه، أو يعتبر فيصرف مدة وجوده مصرف المنقطع، ثم إذا انقرض لمن
يجوز الوقف عليه؟ فيه وجهان، وله تقاسيم أخر ليس هذا موضع بيانها، والله
أعلم.
[وقف المريض مرض الموت]
قال: ومن وقف في مرضه الذي مات فيه، أو قال: هو وقف بعد موتي. ولم يخرج من
الثلث، وقف منه بقدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة.
ش: الوقف تبرع بلا تردد، فيعتبر من الثلث، كالهبة، والعتق، فإذا وقف في
مرضه المخوف المتصل بالموت، على غير وارث، نفذ منه الثلث فما دون بلا نزاع،
ما لم يمنع من ذلك مانع كالدين، ووقف ما زاد على الثلث فما دون
(4/285)
على إجازة الورثة، [كالوصية سواء، وكذلك
إذا قال: هو وقف بعد موتي. ينفذ منه الثلث فما دون، ويقف الباقي على إجازة
الورثة] كالتدبير.
وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوقف المعلق بالموت، وهو اختيار أبي الخطاب في
خلافه الصغير، وأبي محمد، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد.
2152 - وأنه احتج بأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصى، فكان في وصيته:
هذا ما وصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدث به حدث أن ثمغا صدقة. رواه
أبو داود، وقال القاضي - أظنه في المجرد - وأبو الخطاب في الهداية، وابن
البنا في الخصال، لا يصح، إلحاقا له بالهبة. والأولون ألحقوه بالصدقة
المطلقة، ثم على قولهم هل يصح الوقف المعلق على شرط في الحياة؟
(4/286)
فيه وجهان، والمختار عند أبي محمد، وأبي
الخطاب البطلان، وشبهة الخلاف تردد الوقف بين التحرير والتمليك كما تقدم،
وقال ابن حمدان -: من قبله - إن قيل الملك لله تعالى صح التعليق، وإلا فلا.
وقد شمل كلام الخرقي صحة وقف الثلث في مرض الموت، أو بعد الموت، على الورثة
أو بعضهم، وهو أشهر الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأنصهما،
واختيار القاضي في التعليق وغيره، وأكثر الأصحاب.
2153 - والأصل في ذلك ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف على
ورثته. وعلى هذا اعتمد أحمد، وعلى أنهم لا يبيعون ذلك، ولا يهبونه، وإنما
ينتفعون به، قلت: فكأنه عتق الوارث (وعنه) ما يدل على منع ذلك، وإذا يقف
على إجازة الورثة، كالوقف على غيرهم، وهذا اختيار أبي حفص العكبري، قال
القاضي: فيما وجدته معلقا عنه، واختيار أبي
(4/287)
محمد إلحاقا له بالهبة، وادعى أبو محمد أن
وقف عمر كان على جميع الورثة، قال: والنزاع في الوقف على البعض، قال:
ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ذلك، قلت: ونص أحمد في رواية الحسن بن محمد
الترمذي وغيره صريح بخلاف ذلك، والله أعلم.
[خراب الوقف]
قال: وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف،
وجعل وقفا كالأول.
ش: إذا تعطل الوقف، وصار بحيث لا يرد شيئا، أو يرد شيئا لا عبرة به، ولم
يوجد ما يعمر به، فإن الناظر فيه يبيعه، ويشتري بثمنه ما فيه منفعة، يرد
على أهل الوقف، نص عليه أحمد، وعليه الأصحاب.
2154 - لما اشتهر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى سعد لما
بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين،
واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال بالمسجد مصل. وهذا بمحضر من
الصحابة، ولم يظهر
(4/288)
خلافه، فيكون إجماعا، ولأنه تجب المحافظة
على صورة الوقف ومعناه، فلما تعذر إبقاء صورته، وجبت المحافظة على معناه.
2155 - نظرا إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم
بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ويشهد له إذا عطب الهدي دون محله، فإنه يذبح
تحصيلا لما أمكن. وحكى في التلخيص عن أبي الخطاب أنه لا يجوز بيع الوقف
مطلقا، وهو غريب لا يعرف في كتبه.
وقول الخرقي: وجعل وقفا. مقتضاه [أنه] لا يصير وقفا بمجرد الشراء، بل لا بد
من إيقاف الناظر له، ولم أر المسألة مصرحا بها، وقيل: إن فيها وجهين.
ومقتضى كلامه أنه لو بقي فيه نفع لم يجز بيع، وإن كان غيره أجود منه، وصرح
به أبو محمد وغيره، إذ الأصل
(4/289)
المنع، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: لا يباع أصلها ترك ذلك حيث خيف من ضياعه وفواته رأسا، نعم إن
كان النفع لا يعد نفعا فوجوده كالعدم.
وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يشتري من جنس الوقف، وهو كذلك، إذ القصد
النفع، نعم يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها، ومن
هنا الفرس الحبيس إذا بيع اشتري بثمنه ما يصلح للجهاد.
وقد علم من كلام الخرقي أنه لا يجوز بيع الوقف إذا لم يخرب، وهو كذلك بلا
ريب.
2156 - قال ابن عمر: «إن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله
أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: «إن شئت
حبست أصلها، وتصدقت بها «فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا
تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على
من وليها
(4/290)
أن يأكل منها بالمعروف ويطعم، غير متمول» .
رواه الجماعة، والله أعلم.
[الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو]
قال: وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو،
بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد.
ش: حكم الفرس الحبيس إذا صار لا يصلح إلا للطحن ونحو ذلك أنه يباع ويشترى
بثمنه ما يصلح للغزو، أو يعان به في فرس، نص عليه أحمد لما تقدم، (وعنه)
أنه يصرف ثمنه في مثله أو يصرف على الدواب الحبيس، قال: لا يباع الفرس
الحبيس إلا من علة، إذا عطب يصير للطحن، ويصير ثمنه في مثله، أو ينفق ثمنه
على الدواب الحبيس. وظاهره التخيير بين الأمرين، وقد يحمل قوله: ينفق الثمن
على الحبيس. على ما إذا تعذر شراء المثل، وكذلك رأيت صاحب التلخيص حكى النص
فقال: إنه نص على أن الفرس الحبيس إذا هرم يباع، وإذا أمكن أن يشترى بثمنه
فرس اشتري، وجعل حبيسا، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس، والله أعلم.
قال: وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق ففيه الزكاة، وإذا صار الوقف
للمساكين فلا زكاة فيه.
(4/291)
ش: إذا كان الوقف شجرا فأثمر، أو أرضا
فزرعت. وكان الوقف على قوم بأعيانهم، فحصل لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب
ففيه الزكاة، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فيما سقت
السماء العشر» ونحوه، ولأن الملك تام في الثمرة والحب، وهو متعلق الزكاة،
وإن حصل في يده دون نصاب فلا شيء عليه، نعم إن حصل في يد الجميع نصاب وجبت
الزكاة. على رواية تأثير الخلطة في غير الماشية، وإن كان الوقف على قوم غير
معينين كالمساكين فلا زكاة، إذ شرط وجوبها الملك حين الوجوب، والمسكين إنما
يملك بالدفع، نعم على رواية تأثير الخلطة في نحو ذلك ينبغي أن تجب الزكاة
والله أعلم.
[ما يجوز وقفه وما لا يجوز]
قال: وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف - مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب -
فوقفه غير جائز.
ش: من شرط ما يوقف أن يكون عينا يجوز بيعها، ويدوم نفعها مع بقائها، فلا
يصح الوقف في الذمة كعبد ودار، ولا ما لا يجوز بيعه، إذ الوقف يعتمد نقل
الملك، فلا بد
(4/292)
وأن يكون الموقوف مما يقبل النقل، فلا يجوز
وقف الكلب، وأم الولد، ووقف الحر نفسه، وإن جازت إجارته، ولا وقف الموصى له
بخدمة عبد ذلك العبد، لعدم الملك له في الرقبة، ولا وقف أحد هذين العبدين،
وفيه احتمال كالعتق، ولا ما لا يدوم نفعه كالرياحين ونحوها، وبطريق الأولى
ما لا منفعة فيه كالعين المستأجرة، إذ الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة،
وفي الأول لا تحبيس، وفي الثاني [لا منفعة] ، نعم إن وقفها بعد مدة الإجارة
[إذا انقضت] ، صح إن قيل يصح تعليق الوقف على شرط في الحياة، ولا ما يذهب
بالانتفاع به، كالمأكول، والمشروب، والشموع، والدراهم، والدنانير للتصرف
فيها، أو مطلقا، أما لو وقفها للوزن فقال في التلخيص:
(4/293)
يصح كإجارتها لذلك. وقال أبو محمد: لا يصح،
لأن ذلك ليس من المرافق العامة. ويصح وقف الحلي عند العامة؛ لأنه من
المقاصد المهمة.
2157 - وقد روي أن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ابتاعت حليا بعشرين
ألفا فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته. قال أبو الخطاب [في
الهداية] : ونقل الأثرم وحنبل: لا يصح. قال في المغني: وأنكر حديث حفصة.
قال في التلخيص: وهو محمول على رواية منع وقف المنقول. قلت: ذكر القاضي في
التعليق رواية الأثرم وحنبل، ولفظها: لا أعرف الوقف في المال. فإن لم يكن
في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر، والله أعلم.
قال: ويصح الوقف فيما عدا ذلك.
ش: يصح [الوقف] فيما عدا ما ذكرناه، من العقار، والحيوان، والأثاث،
والسلاح، [ونحو ذلك] ، على المذهب المعروف، وقد تقدم حديث عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - في وقف العقار.
(4/294)
2158 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا، فإن شبعه، وروثه، وبوله، في
ميزانه يوم القيامة حسنات» رواه أحمد والبخاري.
2159 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق خالد: «قد احتبس
أدراعه وأعتاده في سبيل الله» «ونقل حنبل والأثرم عنه: إنما الوقف للدور
والأرضين، على ما وقف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-. قال ابن عقيل: وظاهر هذا حصره على العقار، إعمالا لمقتضى «إنما» وذلك هو
الذي يتأبد حقيقة، بخلاف غيره، والله أعلم.
[وقف المشاع]
قال: ويصح وقف المشاع.
(4/295)
2160 - ش: في النسائي وابن ماجه عن ابن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن المائة سهم التي بخيبر، لم أصب مالا قط أعجب إلي
منها، قد أردت أن أتصدق بها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: احبس أصلها وسبل ثمرتها» . والله أعلم.
(4/296)
[الوقف على ما
ليس بقربة]
قال: وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل.
ش: من شرط الموقوف إذا كان على جهة أن يكون معروفا، كالمساكين، والمساجد،
والقناطر، والمارين بالكنائس ونحو ذلك، أو برا كالأقارب، مسلمين كانوا أو
ذمة، نظرا لمعنى الوقف، إذ وضعه ليتقرب به إلى الله تعالى، وفي قصة عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يشعر بذلك، فلا يصح فيما ليس بقربة، سواء كان
مأثما كالكنائس، والبيع، وكتابة التوراة والإنجيل، وإن كان الواقف ذميا،
والمغنين، ونحو ذلك، أو غير مأثم، كالأغنياء، ولهذا جعل الله الفيء مقسوما
بين ذي القربى، واليتامى، ومن سماه الله سبحانه، حذارا من أن تتداوله
الأغنياء، قال سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقيل المشترط أن لا يكون معصية، ولا
يشترط القربة، فيصح على الأغنياء.
(4/297)
أما الوقف على أهل الذمة، كأن قال: وقفت
على النصارى، أو على نصارى هذه البلدة، ونحو ذلك، فمقتضى كلام أبي البركات
وصاحب التلخيص أنه لا يصح، لأن الجهة جهة معصية، بخلاف الوقف على أقاربه من
أهل الذمة لأنها جهة بر، وفي المغني: يصح الوقف على أهل الذمة، لأنهم
يملكون ملكا محترما، أشبهوا المسلمين.
2161 - ولأن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقفت
على أخ لها يهودي. وفيه نظر، إذ العلة ليست الملك المحترم، بل كون ذلك قربة
وطاعة، ووقف صفية على قريبها المعين، ولا إشكال في صحة ذلك، لما فيه من
البر، بل لو كان معينا وليس بقريب صح أيضا، لأن المعين يقصد نفعه،
ومجازاته،
(4/298)
ونحو ذلك، بخلاف جهة أهل الذمة، فإنها جهة
معصية انتهى.
ومن شرط الموقوف عليه إذا كان غير جهة، أن يكون معينا يملك ملكا محترما،
فلا يصح على مجهول كرجل، ولا على أحد هذين، كالهبة، قال في التلخيص: ويحتمل
الصحة، بناء على أنه لا يفتقر إلى قبول، ولا على من لا يملك، كالحمل،
والبهيمة، وكذلك العبد؛ لأنه وإن قيل إنه يملك لكن ملكه كالعدم، وفي
المكاتب وجهان، لتردده بين الحر والعبد القن، ولا على مرتد، ولا حربي، لعدم
احترام ملكهم، ويصح على الحر المعين، وإن كان ذميا أو فاسقا، والله أعلم.
(4/299)
[شرط الهبة
والصدقة فيما يكال أو يوزن]
قال: ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه.
ش: لما فرغ المصنف من الكلام على الوقوف شرع في الكلام على العطايا، وهي
جمع عطية، كخلية وخلايا، والعطية الشيء المعطى، وحدها: تمليك عين في الحياة
بلا عوض، وهي جنس، أنواعه الصدقة، والهبة، والهدية، فإن كان القصد بها
التقرب إلى الله تعالى لمحتاج فهي صدقة، وإن حملت إلى المهدى إكراما وتوددا
فهدية، وإلا فهبة، إذا تقرر هذا فإن هبة غير المعين - كقفيز من صبرة، ورطل
من زبرة، ونحو ذلك - تفتقر إلى القبض بلا نزاع وفي المعين ثلاث روايات،
(الافتقار) ، (وعدمه) - وهو مختار القاضي وعامة أصحابه - (والتفرقة) بين
صبر المكيل والموزون فتفتقر إلى القبض دون غيرهما، وهو مختار الخرقي، وأبي
محمد، ومدرك الخلاف أن من قصر الحكم على غير المعين قال: مقتضى العموم عدم
الافتقار.
(4/300)
2162 - بدليل قوله: - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العائد في هبته كالعائد في قيئه» خرج منه غير
المعين.
2163 - بدليل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أبا بكر
الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان نحلها جداد عشرين وسقا من ماله
بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا،
ولو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على
كتاب الله. رواه مالك في الموطأ، وجداد عشرين وسقا غير معين، قال أحمد:
حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شيء مجهول وإذا يبقى في ما عداه
على مقتضى العموم.
2164 - ويؤيد هذا ما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
أنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم
(4/301)
تقبض. ومن ألحق صبر المكيل والموزون بذلك
قال: فيها أيضا نوع شياع وإبهام فتلحق به.
2165 - ومن عمم الحكم في الجميع استدل بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه قال: ما بال قوم ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي،
وفي يدي. وإذا مات هو قال: قد كنت نحلته ولدي. لا نحلة إلا نحلة يحوزها
الولد دون الوالد، فإن مات ورثه.
2166 - وأرى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الوالد يجوز لولده [إذا
كانوا صغارا] .
(4/302)
2167 - وقال بعض العلماء: اتفق أبو بكر
وعمر، وعثمان، وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على أن الهبة لا تجوز إلا
مقبوضة.
(تنبيه) : حيث افتقرت الهبة إلى القبض فهل ذلك لصحتها، أو للزومها وملكها،
أو للزومها فقط؟ ظاهر كلام الخرقي وطائفة من الأصحاب الأول، قال أبو الخطاب
في الانتصار - في البيع بالصفة -: القبض ركن في غير المتعين، لا ينبرم
العقد بدونه، وقال في موضع آخر: إن الزيادة قبل القبض للواهب. وهذا مقتضى
كلام القاضي في المجرد أيضا، حيث جعلها تبطل بموت الواهب قبل القبض، قال في
التلخيص: كان القاضي يجعل القبض كجزء من السبب مثل القبول، ومقتضى كلام أبي
محمد في الكافي، وأبي البركات بل صريحه الثاني، ومقتضى كلام صاحب التلخيص
الثالث؛ لأنه قال بعد كلام القاضي المتقدم في المجرد: والمذهب لا يقتضي
ذلك، إذ الملك
(4/303)
ينتقل في بيع الخيار على الصحيح، وقال
أيضا: إن الزوائد الحاصلة بعد العقد وقبل القبض للمتهب بشرط اتصال القبض،
لكن شرطه اتصال القبض يقتضي القول الثاني، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل
أيضا القول الثاني والثالث، وكلام أحمد ظاهره الثاني، قال في رواية حنبل:
إذا تصدق على رجل بصدقة - دار أو ما أشبه ذلك - فإذا قبضها الموهوب له صارت
في ملكه. وكلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يحتمل القولين
الأولين، أما القول الثالث: فضعيف، ولا يعرف مصرحا به، والله أعلم.
قال: وتصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما تصح في البيع.
ش: تصح الهبة في غير المكيل والموزون، وقد تقدم ذلك، وقوله: إذا قبل. تصريح
بأنه لا بد في الهبة من القبول، ولا إشكال في ذلك، إذ هو أحد ركنيها، أشبه
الإيجاب، ويقوم ما يدل عليهما مقامهما، اختاره ابن عقيل، وأبو محمد
وغيرهما.
(4/304)
2168 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا
أتي بطعام سأل عنه، فإن قالوا: صدقة: قال لأصحابه: «كلوا» ولم يأكل، وإن
قالوا: هدية. ضرب بيده، فأكل معهم» ، وعن القاضي، وأبي الخطاب: لا تصح
بالمعاطاة. وقوله: كالبيع. أي أنه تتوقف صحته على القبول، ومراده كالبيع
مطلقا، لا كالبيع في المكيل والموزون، إذ لا نزاع أن القبول في البيع ليس
بشرط في الصحة إلا في التصرف، وقد يؤخذ من كلام الخرقي أن [من] شرط صحة
القبول تأخره عن الإيجاب، كما أن ذلك بلا نزاع. رتبته، وهذا إحدى
الروايتين، والله أعلم.
قال: يقبض للطفل أبوه أو وصيه بعده، أو الحاكم، أو أمينه بأمره.
ش: يقبض للطفل أبوه، لما تقدم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أو وصيه
بعده؛ لأنه يقوم مقامه، أو الحاكم إذا
(4/305)
مات الأب من غير وصي، أو لم يكن أهلا
كالفاسق [ونحوه] ، إذ الحاكم ولي من لا ولي له، أو أمين الحاكم بأمره؛ لأنه
يقوم مقامه.
ومقتضى كلام الخرقي أنه ليس لغير هؤلاء القبض، وهو المشهور، وقيل: للأم
وبقية أقاربه ممن يقوم على الطفل القبض إن عدموا هؤلاء.
وقد تضمن كلامه أنه ليس للطفل القبض، وهو صحيح، لفقد الأهلية، والطفل غالبا
يطلق على غير المميز، وقد يطلق عليه، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا
بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] الآية، وكلام الخرقي
محتمل للأمرين، وفي صحة قبض المميز وجهان طباقا للاحتمالين، لكن يصح بإذن
وليه بلا ريب، والله أعلم.
[المفاضلة بين ولده في العطية]
قال: وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده، كما أمر النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ش: المشروع في عطية الأولاد التسوية بينهم.
(4/306)
2169 - لما روي عن النعمان بن بشير -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «اعدلوا بين أبنائكم» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي ويسوي
بينهم على قدر ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، اقتداء بقسمة الله تعالى،
وقياسا لحال الحياة على حال الموت.
2170 - قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله فإن خالف ولم يسو
بينهم أمر برد ذلك، أو إعطاء الآخر حتى يستووا.
2171 - لما «روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أباه أتى
به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني نحلت ابني
هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال: فارجعه. متفق عليه، ولفظ مسلم:
تصدق علي أبي ببعض ماله، وفي رواية: لا تشهدني على جور، وإن لبنيك عليك من
الحق أن تعدل بينهم» .
وظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يسوي بينهم، وإن اختص بعضهم
بمعنى يقتضي الاختصاص كزمانة، أو
(4/307)
عمى، أو اشتغال بعلم، ونحو ذلك، أو بمعنى
يقتضي المنع كفسوق، ونحو ذلك، ونص عليه أحمد في رواية يوسف ابن موسى، وهو
ظاهر كلام الأكثرين؛ لعموم حديث النعمان بن بشير، ولأنهم سواء بالإرث،
فكذلك في عطيته في حياته، (وعنه) ما يدل على جواز تفضيل أحدهم أو اختصاصه
لمعنى مما تقدم، لقوله في تخصيص أحدهم في الوقف: لا بأس به إذا كان للحاجة،
وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. وهذا اختيار أبي محمد، وعليه حمل حديث أبي
بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وظاهر كلامه أن الذي يجب التعديل بينهم هم الأولاد فقط، وبه قطع أبو محمد
في كتبه، إذ الأصل تصرف الإنسان في ماله كيف شاء، خرج منه الأولاد بالخبر،
ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل بشيرا: هل لك وارث
غير ولدك أم لا؟ وقال أبو الخطاب، وأبو البركات، وصاحب التلخيص وغيرهم:
حكمهم حكم الأولاد، يسوي بينهم على قدر مواريثهم، فإن لم يفعل رجع على ما
تقدم، وفي التلخيص أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليه، لأن المنع من ذلك
كان خوف قطيعة الرحم والتباغض، وهذا موجود في الأقارب، والله أعلم.
(4/308)
قال: فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له،
إذا كان ذلك في صحته.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختارها الخلال، وأبو
بكر، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن
ظاهره أنه خصها بذلك، وأنها لو كانت حازته لم يكن لهم الرجوع، وكذلك عموم
قول عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد.
(والثانية) : للورثة الرجوع، كما كان له الرجوع؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جورا.
2172 - وفي رواية لمسلم: «وإني لا أشهد إلا على حق» وغير الحق، والجور، لا
يختلف بالحياة والموت، فلا يطيب أكله، ويجب رده.
2173 - وقد روى سعيد في سننه أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، وخرج
إلى الشام فمات بها، ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو بكر وعمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى قيس بن
(4/309)
سعد، فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما
يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال قيس: لم أكن لأغير شيئا صنعه سعد،
ولكن نصيبي له.
وقول الخرقي: إذا كان في صحته، احترازا مما إذا كانت العطية في مرض موته،
فإن ذلك لا ينفذ، ويكون كالوصية له، تقف على إجازة الورثة، نعم إن كانت
العطية في المرض ليسوي بينهم فهل يجوز؟ فيه احتمالان، أولاهما الجواز؛ لأنه
طريق لفعل الواجب، لا سيما إذا قلنا: للورثة الرجوع. والله أعلم.
[الرجوع في الهبة]
قال: ولا يحل لواحد أن يرجع في هبته، ولا لمهد أن يرجع في هديته، وإن لم
يثب عليها.
2174 - ش: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العائد في هبته كالعائد يعود في
قيئه» متفق عليه، ولأحمد، والبخاري ليس لنا مثل السوء، وفي رواية لأحمد قال
قتادة: ولا أعلم القيء إلا حراما.
(4/310)
2175 - وعن طاوس أن ابن عمر، وابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رفعاه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد
فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي عطية [ثم يرجع فيها] ، كمثل الكلب، أكل
حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه» رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
وعموم كلام الخرقي يشمل المرأة، فليس لها أن ترجع في ما وهبته لزوجها، وهو
إحدى الروايات، واختيار أبي بكر، لعموم ما تقدم، ولقوله تعالى: {إِلَّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}
[البقرة: 237] (والثانية) : للمرأة الرجوع مطلقا، نقلها الأثرم.
2176 - واحتج لها بأن في الحديث «إنما يرجع في المواهب النساء، وشرار
الأقوام» (وعنه ثالثة) ، إن وهبته مخافة غضبه،
(4/311)
أو إضرار بها، بأن يتزوج عليها، ونحو ذلك
رده إليها؛ لأنها لم تطب نفسا به، وإن لم يكن سألها، فتبرعت به فهو جائز،
حكى الروايات الثلاث أبو محمد، وعندي أن الثالثة لا تدل إلا على صحة هبتها
وعدمها.
وكلام الخرقي أيضا يشمل الأب، فمقتضى كلامه أنه ليس له الرجوع، وهو إحدى
الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقلها عنه المروذي في كتاب الزهد،
لعموم حديث ابن عباس المتفق عليه، وقال أبو محمد: ظاهر كلامه الرجوع، وأخذه
من قوله: وإذا فاضل بين ولده في العطية أنه يرد ذلك. وفيه نظر، وبالجملة
فهذا هو المشهور، واختاره
(4/312)
جماعة من الأصحاب لما تقدم من حديث ابن
عباس الذي في السنن. وهو مخصص لحديثه الآخر، (وعنه رواية ثالثة) اختارها
أبو محمد، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة، إن غرّ بها قوم، كأن رغب الناس
بسببها في معاملته، أو مناكحته فلا رجوع، لما فيه من الضرر [بالغير] المنفي
شرعا، وإلا فله الرجوع لما تقدم.
(وعنه رابعة) إن زادت العين زيادة متصلة فلا رجوع، لاتصالها بملك الولد،
وإلا فله الرجوع، ونقل عنه حنبل: أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها
الابن، أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئا من ذلك؛
لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة. ونحو ذلك نقل المروذي، قال أبو حفص: تحصيل
المذهب أنه لا يرجع فيما دفع لغير الولد، هبة كان أو صدقة، ويرجع فيما وهبه
لابنه، ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة. وهذا اختيار ابن أبي موسى.
2177 - لعموم قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: «لا تعد
في صدقتك» وقد فهم عمر العموم.
(4/313)
2178 - فروى مالك في الموطأ عنه قال: من
وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها،
ومن وهب هبة، أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها.
وأبو محمد صرح بأنه لا فرق بين الصدقة وغيرها، مستدلا بأن في الصحيح في
حديث النعمان بن بشير: تصدق علي أبي ببعض ماله. . . القصة، وصرح بذلك
[أيضا] القاضي في المجرد وهو ظاهر إطلاق جماعة.
(4/314)
وشرط الرجوع حيث جوزناه (أن تكون العين)
الموهوبة باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه ثم عادت إليه بعقد، أو إرث
فلا رجوع، وإن رجعت إليه بفسخ فثلاثة أوجه؛ ثالثها: إن كان كخيار المجلس أو
الشرط رجع، وإلا فلا، (وأن لا يتعلق) بها حق يمنع تصرف الابن، كالرهن، وحجر
الفلس، والكتابة إن لم يجز بيع المكاتب، ثم إن زالت هذه التعلقات جاز له
الرجوع، لزوال المانع.
وقوله: وإن لم يثب عليها. تنصيص على مخالفة من قال: إن لم يثب عليها رجع.
وهو مشعر بأن الهبة لا تقتضي ثوابا، وهو كذلك، وإن كانت من الأدنى للأعلى.
(تنبيه) : هذا الحكم يختص بالأب، فليس للأم الرجوع فيما وهبته لولدها، على
المنصوص والمختار، وقيل: لها الرجوع كالأب. والله أعلم.
[العمرى نوع من الهبة]
قال: وإذا قال: داري لك عمري، أو هي لك عمرك. فهي له ولورثته من بعده.
ش: العمرى نوع من الهبة، تفتقر إلى ما
تفتقر إليه الهبة من الإيجاب، والقبول، والقبض، وهي مأخوذة من العمر،
ومعناها كما قال الخرقي أن يقول: داري - أو فرسي ونحو ذلك - لك عمري، أو
مدة حياتي، أو لك عمرك،
(4/315)
أو حياتك. ونحو ذلك، فتصح، وتكون للمعمر،
ولورثته من بعده.
2179 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العمرى ميراث لأهلها» وفي لفظ
جائزة لأهلها متفق عليه.
2180 - وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته، لا ترقبوا، من أرقب
شيئا فهو سبيل الميراث» ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
2181 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قضى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرى لمن وهبت له، متفق عليه، وفي لفظ:
«أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا
وميتا، ولعقبه» رواه مسلم.
(4/316)
وظاهر كلام الخرقي في العمرى أنها تكون
للمعمر ولورثته، وإن شرط المعمر رجوعها إليه، أو إلى ورثته عند موت المعمر،
فيبطل الشرط، ويصح العقد، وهو إحدى الروايات عن أحد، لعموم ما تقدم، ولأن
فيها «لا ترقبوا، من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث» والرقبى معناها:
الرجوع إلى المرقب إن مات المرقب.
2182 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا من الأنصار أعطى أمه
حديقة من نخل حياتها، فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء قال جابر:
فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسمها
بينهم ميراثا.» رواه أحمد.
(والرواية الثانية) يصح العقد والشرط، فتكون للمعمر إذا مات المعمر.
2183 - إعمالا لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون على
شروطهم» .
(4/317)
2184 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-: إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت. فإنها ترجع إلى
صاحبها. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. (وعنه) يبطل العقد والشرط؛ لأنه شرط
منهي عنه، إذ الجاهلية كانوا يفعلون ذلك.
2185 - فنهى الشارع عنه بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا
تعمروا، ولا ترقبوا» والنهي يقتضي الفساد، وإذا يفسد العقد، لاختلاف الرضى
بدونه، والله أعلم.
قال: وإذا قال: سكناها لك عمرك. كان له أخذها أي وقت أحب؛ لأن السكنى ليست
كالعمرى والرقبى.
ش: هذه هبة منفعة، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم
إلا في قدر ما قبضه واستوفاه، وقوله: لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى قد
تقدم بيان العمرى وأما الرقبى فهي هبة ترجع إلى المرقب إذا مات المرقب،
(4/318)
ومعناها أنها لآخرهما موتا، وحكمها حكم
العمرى المشروط رجوعها إلى المعمر، فيها الروايات، سواء أطلق فقال: أرقبتك
هذه. أو صرح بموضوعها فقال: هي لآخرنا موتا، والله أعلم.
(4/319)
|