شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب إحياء
الموات]
الموات، والميتة، والموتان بفتح الميم والواو: الأرض الدارسة، قاله أبو
محمد في المغني، وقال الفراء: الأرض التي لم تحي بعد.
2129 - والأصل في جوازه ما روته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عمر أرضا ليست لأحد
فهو أحق بها» قال عروة: قضى به عمر في خلافته. رواه البخاري.
2130 - وعن سعيد بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» رواه أبو داود،
والنسائي، والترمذي وقال: حسن.
(4/255)
2131 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا
ميتة فهي له» رواه أحمد والترمذي وصححه. والله أعلم.
[تملك الأرض الموات بالإحياء]
قال: ومن أحيا أرضا لم تملك فهي له.
ش: من أحيا أرضا ميتة لا يعلم أنها ملكت فهي له إلا ما يستثنى، لما تقدم من
الأحاديث.
وظاهر كلام المصنف: أنه لا يفتقر إلى إذن الإمام، وعليه الأصحاب، ونص عليه
أحمد، مستدلا بعموم الحديث وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم
الأحوال، (وظاهر كلامه) أيضا أن الذمي يملك بالإحياء كالمسلم، وهو المنصوص،
وعليه الجمهور، لعموم ما
(4/256)
تقدم، وقال ابن حامد: لا يملك الذمي
بالإحياء. وحمل أبو الخطاب قوله على دار الإسلام، قال القاضي: وهو مذهب
جماعة من أصحابنا.
2132 - لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«موتان الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم مني» وأجيب بعد تسليم صحته أنها لكم أي
لأهل داركم، جمعا بين الأدلة، والذمي من أهل دارنا، فعلى المنصوص، إن أحيا
موات عنوة لزمه عنه الخراج، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه، في أشهر
الروايتين.
(وعنه) : عليه عشر ثمره وزرعه، (وظاهر كلامه) أيضا أن موات العنوة يملك
بالإحياء، ولا شيء فيه كغيره، وهو إحدى الروايتين، واختاره القاضي، وأبو
محمد، وغيرهما، لعموم ما تقدم.
(وعنه) : ليس في أرض السواد موات، معللا بأنها لجماعة المسلمين، فلا يختص
بها أحدهم، وهذا اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى،
(4/257)
والشيرازي، وعلى هذه الرواية قال أبو
البركات: تقر في يده بالخراج، لاختصاصه بمزية، وهو السبق بالإحياء.
ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ما ملك لا يملك بالإحياء،
وهذا لا يخلو من ثلاثة أحوال:
(الأول) : أن يكون له مالك معصوم، وهذا لا إشكال أنه لا يملك بالإحياء، لما
تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
(الثاني) : أن يكون له مالك لكن غير معصوم كالحربي، فقال أبو البركات وصاحب
التلخيص، وهو ظاهر كلام القاضي: إنه يملك بالإحياء إذ لا حرمة لملكه أصلا،
وإذا تستثنى هذه الصورة من مفهوم كلام الخرقي، وقال أبو محمد: حكم دار
الحرب حكم دار الإسلام، حتى إنه جعل فيما عرف أنه ملك ولم يعرف له مالك
معين روايتين، كالمسألة التي بعده، واستدل بعموم الخبر، وبأن عامرهم إنما
يملك بالقهر والغلبة.
(الثالث) : أن يعرف أنه ملك، ولكن لا يعرف له مالك، كخراب باد أهله، ولم
يعرف لهم وارث - فعنه - وهو المشهور عنه - لا يملك بالإحياء، وهو مقتضى
كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، والقاضي، وعامة أصحابه، كالشريف وأبي
الخطاب، والشيرازي، لظاهر حديث عائشة، إذ هذه لأحد، لأنه إن كان له وارث
فهي له، وإن لم يكن له وارث فهي فيء
(4/258)
للمسلمين، وبهذا علل أحمد في رواية أبي
داود.
(وعنه) : تملك بالإحياء، عملا بعموم أكثر الأحاديث.
(وعنه) : وإن تيقنت عصمة من ملكها لم تملك بالإحياء لما تقدم، وإن شك في
عصمته ملكت، لأن المقتضي قد وجد، وشك في المانع، وهذا اختيار صاحب التلخيص،
واستثنى أبو محمد من هذا ما به آثار ملك قديم جاهلي، كمساكن ثمود ونحوهم،
فإنها تملك بالإحياء.
2133 - لما يروى عن طاوس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي بعد لكم» رواه سعيد في سننه، وأبو
عبيد في الأموال، ويحتاج كلام أبي محمد إلى بحث ليس هذا موضعه، والله أعلم.
قال: إلا أن تكون أرض ملح، أو ما للمسلمين فيه المنفعة، فلا يجوز أن ينفرد
بها الإنسان.
ش: استثنى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مما يملك بالإحياء صورتين:
(إحداهما) : أرض الملح، أي معدن الملح، فإنه لا يملك بالإحياء.
(4/259)
2134 - لما روي «عن أبيض بن حمال - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، أنه وفد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- استقطعه الملح، فقطع له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت
له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزعه منه، قال: وسأله عما يحمي من
الأراك، فقال: «ما لم تنله خفاف الإبل» رواه الترمذي وأبو داود وفي رواية
له: أخفاف الإبل قال محمد بن الحسن المخزومي: يعني أن الإبل تأكل منتهى
رؤوسها ويحمي ما
(4/260)
فوقه. ولأن هذا مما يتعلق بمصالح المسلمين
العامة، فلم يجز إحياؤه كطرق المسلمين ومواردهم، وفي معنى الملح جميع
المعادن الظاهرة، لا تملك بالإحياء، وهي ما العمل في تحصيله لا في إظهاره،
كالقار، والنفط، والبرام، والموميا، والكحل، والزرنيخ، والجص، ونحو ذلك،
وكذلك الحكم في المعادن الباطنة، وهي ما كان ظهورها بالعمل عليها، كمعادن
الذهب، والفضة، والحديد، والصفر، والفيروزج، ونحو ذلك مما هو مثبوت في
طبقات الأرض، ذكره صاحب التلخيص، وأبو محمد، وحكى أبو محمد احتمالا فيما
أظهره من المعادن الباطنة، أنه يملك بالإحياء، ويحتمله كلام أبي البركات،
ولفظه: أو ما فيه معدن ظهر قبل إحيائه، ومقتضاه أنه يمنع من إحياء موات
(4/261)
قد ظهر فيه معدن، ويستفاد منه بطريق
التنبيه أنه يمنع من إحياء معدن قد ظهر، لا من إحياء معدن لم يظهر.
(الصورة الثانية) : ما فيه المنفعة للمسلمين، وهو ما قرب من العامر، وتعلق
بمصالحه، من طرقه، ومسيل مائه، وطرح قمامته ونحو ذلك، وكذلك ما تعلق بمصالح
القرية، كمرعى ماشيتها، ومحتطبها، ونحو ذلك، وكذلك حريم البئر والنهر، ونحو
ذلك، كل ذلك لا يجوز إحياؤه.
2135 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له» ومفهومه أن من أحيا أرضا ميتة
في حق مسلم لم تكن له، ولأن ذلك من مصالح المملوك، فأعطي حكمه، فإن قرب من
العامر ولم يتعلق بمصالحه ففيه روايتان، أنصهما وأشهرهما عند الأصحاب أنه
يملك بالإحياء، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أحيا
أرضا ميتة مع انتفاء المانع، وهو التعلق بمصالح العامر، (والثانية) : لا
يملك بالإحياء، تنزيلا للضرر في المآل، منزلة الضرر في الحال،
(4/262)
إذ هو بصدد أن يحتاج في المآل، واستثنى
الأصحاب صورة ثالثة، وهي موات بلدة كفار صولحوا على أنها لهم، ولنا الخراج
عنها، فلا يملك بالإحياء، لأن مقتضى الصلح أن لا يتعرض لهم في شيء مما
صولحوا عليه، قال أبو محمد: ويحتمل أن تملك بالإحياء لعموم الخبر، والله
أعلم.
[ما يكون به إحياء الموات]
قال: وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا.
ش: ظاهر كلام الخرقي أن التحويط إحياء للأرض مطلقا، وحكاه القاضي وغيره
رواية، بل وجزم به القاضي، والشريف، وأبو الخطاب.
2136 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطا على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو
داود، ولأحمد مثله من رواية سمرة، وعلى هذا يشترط كون الحائط منيعا، مما
تجري العادة بمثله.
(4/263)
وحكى القاضي وغيره رواية أخرى أن إحياء
الأرض تعميرها العمارة العرفية لما تراد له، إذ الشارع أطلق الإحياء، فيحمل
على ما يتعارفه الناس، وحديث الحائط يحمل على صورة تقتضي العرف فيها، وهذا
اختيار ابن عقيل في التذكرة، فعلى هذا إن كان الإحياء للسكنى، فإحياؤها
ببناء حيطانها وتسقيفها، وإن جعلها حظيرة كفى بناء حائط جرت العادة به، وإن
كان للزرع فبأن يسوق إليها ماء، ويقلع أحجارها إن احتاجت إلى ذلك، أو يحبس
الماء عنها، ونحو ذلك على ما جرت به العادة في مثلها، ولا يعتبر أن يزرعها
ويسقيها، ولا أن يفصلها تفصيل الزرع، ويحوطها من التراب بحاجز، ولا أن يقسم
البيوت إن كانت للسكنى، في أصح الروايتين وأشهرهما، والأخرى يشترط جميع
ذلك، ذكرها القاضي في الخصال، وجمع أبو البركات الروايتين في أصل الإحياء،
فجعلهما رواية واحدة، فقال: بأن يحوطها بحائط، أو يعمرها العمارة العرفية،
وحكى في المقنع قولا آخر بأن ما يتكرر كل عام فليس بإحياء وما لا يتكرر فهو
إحياء، والله أعلم.
(4/264)
قال: أو يحفر فيها بئرا فيكون له خمس
وعشرون ذراعا حواليها، وإن سبق إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعا.
ش: إذا حفر في الموات بئرا للتملك، وأخرج ماءها، ملكها وملك حريمها، خمسا
وعشرين ذراعا من كل جانب، وإن سبق إلى بئر عادية، ملكها بظهور يده عليها،
وملك حريمها خمسين ذراعا، نص عليه أحمد، واختاره الخرقي، والقاضي في
التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن عقيل في
التذكرة، والشيخان وغيرهم.
2137 - لما روى الدارقطني وغيره، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا، وحريم البئر
العادي خمسون ذراعا» .
2138 - وروى أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: السنة في
حريم القليب العادي خمسون ذراعا، والبدي خمس وعشرون ذراعا. واختار أبو
الخطاب في الهداية،
(4/265)
والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد في المغني
والكافي، أن حريم البئر قدر ما يحتاج إليه في ترقية مائها، فإن كان بدولاب
فبقدر مدار الثور أو غيره، وإن كان بسانية فبقدر طول البئر، وإن كان يستقي
منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف، وعلى ذلك، إذ هذا ثبت للحاجة، فيقدر
بقدرها، وقال القاضي فيما حكاه عنه في المقنع، وحكاه عنه وعن جماعة من
الأصحاب صاحب التلخيص: حريم البئر قدر مد رشائها من كل جانب.
2139 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«حريم البئر مد رشائها» رواه ابن ماجه، وقال القاضي في الأحكام السلطانية:
له أبعد الأمرين من الحاجة أو قدر الأذرع. وقد توقف أحمد عن التقدير في
رواية حرب، والمذهب الأول.
(تنبيهان) : «أحدهما» قد تقدم أنه يملك حريم البئر بالحفر أو بالسبق، وهو
ظاهر كلام أحمد، وصرح به الخرقي، والقاضي في التعليق، وغيرهما، وعلى قياسه
أن ما
(4/266)
قرب من العامر، وتعلق بمصالحه، يكون ملكا
لأهل العامر، أو لجماعة المسلمين، وعن القاضي أن هذه المرافق لا يملكها
المحيي بالإحياء، وإنما يكون أحق بها، (الثاني) : «العادية» بالتشديد
القديمة، نسبة إلى عاد، إذ كل قديم ينسب إليهم لقدمهم، والله أعلم.
قال: وسواء في ذلك ما أحياه أو سبق إليه، بإذن الإمام أو غير إذنه.
ش: يعني أن الحريم المذكور يثبت له، سواء أحياه - كما إذا حفر بئرا في موات
- أو سبق إليه، كما إذا سبق إلى بئر عادية، وكذا أطلق أحمد، والقاضي،
وغيرهما، وعلل القاضي بأن البئر العادية مال من أموال الكفار، فتكون غنيمة
بوضع اليد عليها، قلت: وينبغي على مقتضى هذا التعليل أن تكون لجماعة
الغانمين، أو يكون السبق إليها لا بقوة المسلمين، فتكون له، وقال في
المغني: يجب أن يحمل قول الخرقي - في ملك البئر العادية - على بئر انطمست،
فجدد حفرها، أو ذهب ماؤها فاستخرجه، ليكون ذلك إحياء، أما بئر لها ماء
ينتفع بها المسلمون فلا تحتجر، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة، وقد تقدم أن
الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام، والله أعلم.
(4/267)
|