شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب اللقيط]
ش: اللقيط فعيل بمعنى مفعول، كجريح، وطريح وقتيل، ونحو ذلك، وهو الذي يوجد
مرميا على الطرق، لا يعرف أبوه، ولا أمه، بشرط أن لا يبلغ سن التميز، أو
بلغها ولم يبلغ على المذهب، وهو من فروض الكفايات، لقول الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولأن فيه إحياء نسمة، أشبه إنجاءه
من الغرق، والله أعلم.
[حرية اللقيط]
قال: واللقيط حر.
ش: نظرا إلى الأصل، لأن الله خلق آدم وذريته أحرارا، والرق عارض.
2215 - وعن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، قال: فجئت به إلى عمر فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟
فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها. فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح.
(4/351)
فقال: كذلك؟ قال: نعم. قال عمر: اذهب فهو
حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. رواه مالك. والله أعلم.
[النفقة على اللقيط]
قال: وينفق عليه من بيت المال، إن لم يوجد معه شيء ينفق عليه منه.
ش: ينفق على اللقيط من بيت المال، إن لم يوجد معه ما ينفق عليه، لما تقدم
عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن بيت المال وارثه، فكان نفقته عليه
كقرابته، فإن تعذر ذلك،
(4/352)
فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق
عليه، حذارا من هلاكه، كإنجائه من الغرق، أما إن وجد معه شيء فإنه ينفق
عليه منه؛ لأنه محكوم له به؛ لأنه يملك، وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث،
ويورث، ويملك أن يشتري له وليه، ونحو ذلك، أشبه البالغ وإذا ينفق عليه من
ماله كغيره، ويتولى الإنفاق عليه من يحضنه على المشهور، وهو ظاهر كلام
الخرقي، واختاره ابن حامد، وابن الزاغوني، وابن البنا، وصاحب النهاية،
وغيرهم، لأن له ولاية عليه، أشبه وصي اليتيم، ولأن هذا من الأمر بالمعروف،
فلا يفتقر إلى حاكم، كإراقة الخمر، وقيل عنه ما يدل على وجوب استئذانه،
ونازع أبو محمد في دلالة ذلك، وعليها إن أنفق بدون إذنه ضمن. وقد أشعر كلام
الخرقي بأن ما وجد مع اللقيط يكون له، وهو صحيح، كالذي يوجد في يده من نقد
وغيره، أو عليه من ثياب ونحوها، أو تحته من فراش ونحوه، أو مشدودا بثيابه،
قال أبو محمد: أو ما جعل فيه كخيمة أو دار، وظاهر كلام أبي البركات
مخالفته، أو ما طرح قريبا منه، في وجه قطع به أبو البركات، وأبو محمد في
الكافي،
(4/353)
وصححه في المغني، عملا بالظاهر، وفي آخر -
وأورده أبو الخطاب مذهبا - لا يكون له كالبعيد، أو دفن تحته، على احتمال في
الهداية، كالطرح بقربه، وعلى ما أورده فيها مذهبا، وقطع به ابن البنا لا
يكون له، كالبالغ فإنه لو كان تحته دفين لم يكن له، وتوسط أبو البركات،
متابعة لابن عقيل، فجعله له بشرط طراوة الدفن، اعتمادا على القرينة، والله
أعلم.
[ولاء اللقيط]
قال: وولاؤه لسائر المسلمين.
ش: يعني ميراثه، شبهه بالرقيق لعدم معرفة نسبه، وأراد «بسائر» جميع، جريا
على قاعدته، وإنما كان كذلك لأنهم يرثون مال من مات ولا وارث له، واللقيط
كذلك، وقد دل كلام الخرقي على أن ولاءه لا يكون لملتقطه، وهو صحيح.
2216 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الولاء لمن
أعتق» وحديث عمر قيل: أراد بالولاء الولاية عليه، جمعا بين الأدلة.
2217 - وحديث «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي
لاعنت عليه» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه. قال ابن المنذر: لا يثبت.
والله أعلم.
(4/354)
قال: وإن لم يكن من وجد اللقيط أمينا منع
من السفر به.
ش: إذا لم يكن الذي وجد اللقيط أمينا - كأن كان فاسقا - منع من السفر به،
حذارا من ادعاء رقه أو بيعه، ونحو ذلك، وكذلك إن كان مستور الحال، في وجه
اختاره في الكافي، احتياطا ونظرا لجانب اللقيط، لأنا لا نأمن خيانته، وفي
آخر يجوز أن يسافر به كما يقر في يده، إذ الظاهر من حال المسلم الأمانة،
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يقر في يد الفاسق في الحضر، وهو أحد الوجهين؛
لأنه قد سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فيكون أحق به، ولأنه أهل للحفظ في
الجملة، بدليل صحة إيصائه، (والثاني) - واختاره القاضي، وأبو البركات
وغيرهما - لا يقر في يده؛ لأنه نوع ولاية، وليس من أهلها، وعلى الأول قال
أبو محمد: يضم إليه أمين يشارفه، ويشهد عليه، ويشيع
(4/355)
أمره، ليؤمن التفريط فيه، وظاهر كلام
الخرقي أنه لا يشترط شيء من ذلك، وكذلك أجراه صاحب التلخيص وغيره على
ظاهره.
ومفهوم كلامه أنه إذا كان من التقطه أمينا أقر في يده، وسافر به، أما
الإقرار في يده، فلا نزاع فيه، لحديث عمر، لكن يشترط كونه حرا، مكلفا،
مسلما، رشيدا، فلا يقر في يد عبد، وإن كان مكاتبا، لعدم تفرغه للحضانة، ولا
في يد صبي، ولا مجنون، لأنهم مولى عليهم، لا أن لهم ولاية، ولا في يد كافر
وإن أقر في يد الفاسق، لأن خطر الدين عظيم. نعم حيث حكم بكفر اللقيط أقر في
يده، لزوال المانع، ولا في يد مبذر، وإن لم يكن فاسقا، قاله في التلخيص؛
لأنه ليس بأهل للأمانات الشرعية، وأما السفر به فيجوز للأمن عليه، لكن إن
أراد السفر للنقلى، فإن كان من بدو إلى حضر جاز؛ لأنه أرفه له، وأومن عليه،
وإن كان من حضر إلى بدو منع، حذارا من المشقة، والخوف عليه، وإن كان من حضر
إلى حضر فوجهان، الجواز للاستواء، والمنع لأن ظهور نسبه في محل التقاطه
أغلب، ولم يعارض ذلك ما يرجح عليه من رفاهيته، والأمن عليه، والله أعلم.
(4/356)
[ادعى اللقيط مسلم وكافر]
قال: وإذا ادعى اللقيط مسلم وكافر، أري
القافة، فبأيهما ألحقوه لحق.
ش: إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر، أو حر وعبد، أي ادعوا نسبه، فهما سواء في
الدعوى، كما تضمنه كلام الخرقي، ونص عليه أحمد، وعليه الجمهور، لأن كل واحد
منهما لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا بالدعوى، كالأحرار
المسلمين، وحكى ابن أبي موسى وجها أن الكافر والحال هذه لا يلتفت إلى دعواه
إلا ببينة، ثم إن كان لأحدهما بينة حكم له، وإن تساووا في البينة أو عدمها
أري القافة معهما، فأيهما ألحقته به لحق.
2218 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه،
فقال: «ألم تريْ أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، فقال:
إن هذه الأقدام بعضها من بعض» رواه الجماعة، وفي رواية لمسلم وغيره «قد
غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما» وفي لفظ: قالت «دخل قائف والنبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد، وأسامة بن زيد، وزيد بن حارثة مضطجعان،
فقال: إن هذه الأقدام
(4/357)
بعضها من بعض. فسر بذلك النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعجبه، وأخبر به عائشة» ، متفق عليه.
2219 - قال أبو داود: وكان أسامة أسود، وكان زيد أبيض. فسروره - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وإخباره به، دليل الاعتماد عليه، ولأنه
يحصل غلبة الظن، أشبه البينة، ويؤيد ذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
حكم بذلك في خلافته كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولم ينكره منكر.
وقد نبه الخرقي بذكر هذه المسألة على تساوي المسلم والكافر في الدعوى،
خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تقديمه المسلم، وعلى أن القافة
تعتبر، خلافا للشافعي، واقتصاره على الاثنين يحتمل لأنه يجوز أن يلحق بهما،
ولا يلحق بأكثر منهما، وهو قول ابن حامد، قصرا على مورد النص.
(4/358)
2220 - وهو ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعا
فجعله بينهما.
2221 - وعن علي: هو ابنهما، وهما أبواه، يرثهما ويرثانه. رواهما سعيد، وقال
أحمد: حديث قتادة، عن سعيد، عن
(4/359)
عمر: جعله بينهما وقابوس، عن أبيه، عن علي:
جعله بينهما. ونص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق بثلاثة، فاقتصر القاضي على
ذلك، ومال الشيخان إلى إلحاقه بما زاد على الثلاثة؛ لأنه إذا جاز أن يخلق
من اثنين، كما شهد به قضاء الصحابة، جاز أن يخلق من ثلاثة وأكثر.
(تنبيه) : يعتبر للقائف الذكورية، والعدالة لأنه إما بمنزلة الشاهد، أو
الحاكم والمعنيان معتبران فيهما، وأن يكون مجربا في الإصابة، ليحصل الظن
بقوله، وهل يكفي قائف واحد، ومجرد خبره، تنزيلا له منزلة الحاكم، أو لا بد
من
(4/360)
اثنين، ولفظ الشهادة، تنزيلا لهما منزلة
الشاهدين؟ فيه روايتان، وفي اعتبار الحرية وجهان، بناء على الأصلين، والله
أعلم.
(4/361)
|