شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الوصايا]
ش: الوصايا جمع وصية، كالعطايا جمع عطية، قال الأزهري: سميت الوصية وصية لأن الميت لما أوصى وصل ما كان فيه من أيام حياته، بما بعده من أيام مماته، والأصل فيها قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
2222 - وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» رواه الجماعة.
2223 - وعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم، عند وفاتكم زيادة في حسناتكم، ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم» رواه الدارقطني.

(4/362)


[الوصية للوارث]
قال: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة.
2224 - ش: عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي.

(4/363)


2225 - وعن عمرو بن خارجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، رواه الخمسة إلا أبا داود، وصححه الترمذي.
2226 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» .
2227 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» رواهما الدارقطني.

(4/364)


وقول الخرقي: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة. ظاهره أن الوصية صحيحة، موقوفة على إجازة الورثة، فتكون إجازتهم تنفيذا، وهذا هو المشهور المنصور في المذهب، حتى إن القاضي في التعليق، وأبا الخطاب في خلافه الصغير، وأبا البركات، وجماعة لم يذكروا في المسألة خلافا، اعتمادا على حديثي ابن عباس وعبد الله بن عمرو، فإن مقتضاهما أن الوصية للوارث صحيحة، إذا أجازت الورثة، (وعنه) ما يدل على أن الوصية باطلة، أخذا من إطلاقه في رواية حنبل: لا وصية لوارث. وفيه نظر، فإذا إجازة الورثة ابتداء عطية، اعتمادا على أن

(4/365)


الصحيح في الرواية كما تقدم «لا وصية لوارث» وظاهره نفي الوصية مطلقا، وللخلاف فوائد، (منها) إذا قلنا: إنها تنفيذ. لزمت بدون القبول والقبض، وإن اعتبرنا القبض في الهبة، وتصح مع جهالة المجاز، ومع كون المجاز وقفا على المجيز، وإن قلنا: وقف الإنسان على نفسه لا يصح. ولو كان المجاز عتقا، كما لو تأخر العتق عن وصايا استغرقت الثلث، وقلنا: يبدأ بالأول فالأول على المذهب. فإن ولاءه للموصي؛ لأنه المعتق، فتختص به عصبته، ولو كان المجيز والد المجاز له، كما لو وهب ثلث ماله، ثم وصى لأخيه بماله، فأجاز ذلك الأب، لم يكن له الرجوع في المجاز به؛ لأنه ليس بهبة منه، وهو إنما يرجع فيما وهبه لولده، ولو جاوز المجاز الثلث زاحم ما لم يجاوزه، كما لو كان ثلثه مثلا خمسين، فأوصى لرجل بمائة درهم، ولآخر بخمسين، ولآخر بخمسين، وأجاز الورثة الجميع، فإن المال - وهو المائة وخمسون - يقسم بينهم أرباعا، لأن الوصية صحت في الجميع. وعلى الرواية الأخرى تنعكس هذه الأحكام، فلا بد من القبول والقبض في المجاز، حيث اعتبرنا القبض في الهبة،

(4/366)


لافتقارها إليهما، ويشترط كون المجاز معلوما، إذ العلم شرط في صحة الهبة، ولو كان المجاز وقفا على المجيز، كما لو وقف داره على ورثته، وهما ابناه، فأجازا ذلك، لم يصح إن لم يصح وقف الإنسان على نفسه، لأن الوقف حصل منهما، ولو كان المجاز عتقا كان ولاؤه للمجيز؛ لأنه المعتق حقيقة لا للموصي، ولو كان المجيز والد المجاز له، جاز له الرجوع فيما أجازه له؛ لأنه هبة منه، ولو جاوز المجاز الثلث لم يزاحم ما لم يجاوزه، ففي الصورة التي ذكرناها ثم، يقسم المال بين المجاز لهم أثلاثا، لأن لصاحب المائة منها خمسون، والخمسون الزائدة على الثلث هبة مبتدأة من المجيزين، ولم يحصل لهم شيء يهبونه، وقد يقال: إن عدم المزاحمة إنما هو في الثلثين، لأن الهبة تختص بهما، والمجيز يشرك بينهما فيهما، أما الثلث فيقسم بينهم على قدر أنصابهم.
وعلى الروايتين يعتبر إجازة المجيز في مرضه من ثلثه، أما على الرواية الثانية فواضح، وأما على الأولى فلأنه تمكن من أخذ المال، وقد وجد سببه في حقه، فتسببه في إسقاطه بمنزلة

(4/367)


تلفه، أشبه ما لو حاباه في بيع له فيه خيار، ثم أجازه في مرضه، فإن محاباته تعتبر من الثلث.
واعلم أنه يستثنى من كلام الخرقي الوصية بالوقف على الوارث، فإنه يلزم في الثلث فما دون، على رواية وقد تقدمت، والله أعلم.

[الوصية لغير الوارث بأكثر من الثلث]
قال: ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز، وإن لم يجيزوا رد إلى الثلث.
ش: لا تجوز الوصية لوارث مطلقا، [لما تقدم] ، ولا لأجنبي بزائد على الثلث.
2228 - لما روي «عن سعد بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني من وجع اشتد به، فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: «لا» قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» رواه الجماعة، فإن خالف ووصى للأجنبي بأكثر من الثلث، وأجاز ذلك الورثة نفذ، لأن

(4/368)


الحق لهم لا يعدوهم، وهل إجازتهم تنفيذ - بناء على أن الوصية صحيحة - أو ابتداء عطية - بناء على أنها باطلة؟ على ما تقدم من الخلاف في التي قبلها، وإن لم يجيزوا صح الثلث فقط، لما تقدم من حديث سعد، وحديث أبي الدرداء: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، وشرط نفوذ إجازتهم وردهم أن يكون بعد موت الموصي، لأن الحق إنما يثبت لهم إذا، أما قبل ذلك فلا عبرة بذلك؛ لأنه تصرف في الحق قبل ثبوته.
قال: ومن أوصي له وهو في الظاهر وارث، فلم يمت الموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة، لأن اعتبار الوصية بالموت.
ش: إذا أوصى لشخص في الظاهر أنه وارث - كما إذا أوصى لأحد أخويه من أبويه ثم تجدد له ولد - فإن الوصية والحال هذه صحيحة ثابتة، لأن الأخ عند الموت غير وارث، والاعتبار في الوصية بالموت؛ لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث، والموصى له، وقد فهم من تعليل الخرقي عكس هذه الصورة وهو ما إذا أوصى لغير وارث، فصار عند الموت وارثا، كما إذا أوصى لأحد أخويه وله ابن، ثم مات الابن قبل أبيه، فإنا تبينا أن الوصية

(4/369)


لوارث، فلا تكون ثابتة، بل تقف على الإجازة لما تقدم.

[ما تبطل به الوصية]
قال: وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية.
ش: لأن الوصية عطية بعد الموت، وقد صادفت المعطى ميتا فلم تصح، كما لو وهب لميت، وقد فهم من هذا أن الوصية لا تصح لميت، [وهو صحيح] لأنه ليس بأهل للملك، أشبه البهيمة.

قال: وإن رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي بطلت الوصية.
ش: لأنه أسقط ما له أخذه فيسقط، كما لو عفى عن شفعته بعد البيع، ومراد الخرقي - والله أعلم - إذا كان الرد

(4/370)


قبل القبول، أما لو كان بعد القبول والقبض فإن الرد لا يصح، والوصية بحالها، لاستقرار ملكه عليها، وكذلك لو كان بعد القبول وقبل القبض، على ظاهر كلام جماعة من الأصحاب وأورده أبو البركات مذهبا، وقال أبو محمد في المغني: إن كان الموصى به مكيلا، أو موزونا صح الرد وبطلت الوصية، لعدم استقرار الملك، وإن كان غيرهما ففي صحة الرد وعدمه قولان، بناء على اعتبار القبض في ذلك وعدمه، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو وجد الرد قبل الموت لم يصح ولم يعتبر، وهو صحيح، إذ الحق إنما يثبت له بالموت، والله أعلم.

قال: وإن مات قبل أن يقبل [أو يرد] قام وارثه في ذلك مقامه، إذا كان موته بعد موت الموصي.
ش: إذا مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد قام وارثه في الرد والقبول مقامه، في إحدى الروايتين، نقله عنه صالح، واختاره الخرقي، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك حقا فلورثته» والقبول حق للمورث، فثبت للوارث، كبقية الحقوق، (والرواية الثانية) لا يقوم الوارث مقامه، ويبطل

(4/371)


حقه من القبول عليها، نقلها عبد الله، وابن منصور، واختارها ابن حامد، والقاضي، والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي، وغيرهم؛ لأنه عقد يفتقر إلى القبول، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد كالهبة، ولأنه خيار لا يعتاض عنه، أشبه خيار الشفعة، وخياري الشرط والمجلس على المذهب، ولهذا قال القاضي: إن هذا قياس المذهب. وحكى الشريف، وأبو الخطاب وجها أنها تنتقل والحال هذه إلى الوارث بلا قبول، نظرا - والله أعلم - بأن القبول لما تعذر ممن له الإيجاب سقط اعتباره، لمكان العذر، كما لو كانت الوصية للمساكين.
وقول الخرقي: إذا كان موته بعد موت الموصي. احترازا مما إذا كان موته قبل موت الموصي وقد تقدم، وقد أشعر كلامه بأن الوصية والحال هذه لا تملك إلا بالقبول، ولا خلاف نعلمه عندنا في ذلك، إذا كانت لآدمي معين، [إلا الوجه المحكي قبل، وذلك لأنها هبة بعد الموت، فافتقرت إلى القبول كالهبة في الحياة، قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الهبة والوصية واحد. ولو كانت الوصية لآدمي غير معين] كالمساكين، أو لغير آدمي كالمساجد، فلا قبول إناطة بالعذر.

(4/372)


وربما أشعر كلامه أيضا بأن القبول لا تشترط الفورية فيه، بل يصح وإن تراخى، وهو صحيح، والله أعلم.

[حكم من أوصى له بسهم من ماله]
قال: وإذا أوصى له بسهم من ماله أعطي السدس، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: يعطى سهما مما تصح منه الفريضة.
ش: الرواية الأولى اختيار القاضي، وأصحابه الشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي وغيرهم.
2229 - لأن ذلك يروى عن علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة.
2230 - ويروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أوصى لرجل بسهم من المال، فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس» .

(4/373)


2231 - وعن إياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السدس. فعلى هذا يعطى سدسا كاملا، إن لم تكمل فروض المسألة، وإن كملت أعيلت به، وإن عالت أعيل معها، قال أحمد في رواية حرب، وابن منصور: له السدس إلا أن تعول الفريضة، فيعطى سهما من العول. والرواية الثانية ظاهر كلام الإمام في رواية الأثرم، وأبي طالب، لأن «سهما» ينصرف إلى سهام فريضته، أشبه ما لو قال: فريضتي كذا وكذا سهما، لك منها سهم. وعلى هذا يعطى سهما مما تصح منه الفريضة، مضافا إليها، وعن أحمد (رواية ثالثة) اختارها الخلال وصاحبه: له مثل

(4/374)


ما لأقل الورثة، والأقل منها هو اليقين، ثم إن أبا البركات وجماعة من أصحابه على إطلاق هاتين الروايتين، نظرا لإطلاق الإمام، وقيدهما أبو محمد - متابعة للقاضي - بأن لا يزيد السهم أو النصيب على السدس، فإن زاد عليه ردا إليه. ولنذكر أمثلة تتضح بها المسألة، فلو مات رجل وخلف أما وبنتين، وأوصى بسهم من ماله، فعلى الرواية الأولى تكمل به المسألة، إذ مسألتهم أصلها من ستة، ترجع بالرد إلى خمسة، فيزاد إليها السهم الموصى به وهو السدس، فتصير من ستة، وكذلك على الثانية والثالثة، ولو كانت المسألة أما وأختا، فهي من خمسة، للأم الثلث سهمان،

(4/375)


وللأخت النصف ثلاثة، فيضاف إليها السدس على الأولى، فتكمل المسألة، وكذا على الثانية، وعلى الثالثة يضاف إليها مثل نصيب الأم؛ لأنه أقل نصيب وارث له إذا فتصير من سبعة، وعلى رأي القاضي يكون له السدس، لأن النصيب زاد عليه، ولو كانت المسألة ابنتان وأبوان، فهي من ستة، وتعول بالسهم الموصى به إلى سبعة، على الروايات الثلاث [ولو كانت المسألة أختان لأبوين، وأختان لأم، وأم، فأصلها من ستة، وتعول إلى سبعة، وتعول بالسهم الموصى به إلى ثمانية، على الروايات الثلاث] أيضا، ولو كانت المسألة ثلاث أخوات لأبوين، وأخوان وأختان لأم، وأم، فهي من ستة، وتعول إلى سبعة أيضا، فعلى الرواية الأولى تعول بالسهم الموصى به وهو السدس إلى ثمانية، وتصح من ثمانية وأربعين، للأخوات للأبوين أربعة وعشرون، وللأخوة والأخوات للأم اثنا عشر، وللأم ستة، وللموصى له ستة، وعلى الثانية تصح المسألة من اثنين وأربعين، يزاد إليها السهم، فتصير من ثلاثة وأربعين،

(4/376)


وعلى الثالثة تصح أيضا من اثنين وأربعين، يزاد إليها أقل أنصباء الورثة، وهو سهمان، فتصير من أربعة وأربعين، ولو كانت المسألة زوجا وابنا، فعلى الرواية الأولى تصح من اثني عشر، للزوج ثلاثة، وللموصى له بالسهم اثنان، والباقي للابن، وكذلك على رأي القاضي على الروايتين الأخيرتين، وعلى رأي المطلقين تصح من خمسة، والله أعلم.

[الحكم لو أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه]
قال: وإذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه، كان له مثل ما لأقلهم نصيبا.
ش: لأن الأقل هو المتيقن، وما زاد مشكوك فيه.
قال: كأن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، وهم ابن، وأربع زوجات، فتكون صحيحة من اثنين وثلاثين سهما، للزوجات الثمن، وهو أربعة، وما بقي فللابن، فزد في سهمان الفريضة مثل حظ امرأة من نسائه، فتصير الفريضة من ثلاثة وثلاثين سهما، للموصى له سهم، ولكل امرأة سهم، وما بقي فللابن.
ش: هذا مثال للمسألة، وهو واف بالمقصود، وإنما صحت المسألة من اثنين وثلاثين، لأن أصلها من ثمانية، للزوجات

(4/377)


الثمن، وهو واحد، غير صحيح عليهن، فتضرب أربعة في ثمانية، فتصير من اثنين وثلاثين، ثم تعمل كما ذكره الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو كانت المسألة زوجا وأبوين وابنا، صحت من اثني عشر، للزوج الربع، ولكل واحد من الأبوين السدس اثنان، والباقي للابن، فتزيد عليها مثل نصيب أقل الورثة، وهو أحد الأبوين، فتصير من أربعة عشر، هذا إن اختلفت أنصباء الورثة، فإن اتفقت كان له مثل نصيب أحدهم، فإذا خلف ثلاثة بنين، فمسألتهم من ثلاثة، فتزيد عليها مثل نصيب أحدهم، فتصير من أربعة، ولو سمى الوارث فسيأتي إن شاء الله تعالى، ولو قال: مثل نصيب أكثر ورثتي. كان له مثل نصيب ذلك الوارث، مضافا إلى المسألة، ففي مثال الخرقي يكون له ثمانية وعشرون سهما، لأنها أكثر نصيب وارث وهو الابن، فتضاف إلى المسألة، فتصير من ستين، وفي الثانية يكون له خمسة، فتصير المسألة من سبعة عشر، ولو كانت الوصية بنصيب وارث معين له كابنه مثلا، ولم يقل: بمثل نصيبه. فهل يصح ويجعل كما لو صرح بالمثلية؟ وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، ومال إليه الشيخان، محافظة على تصحيح كلام المكلف بحمله على حذف مضاف، وهو المثل، أو لا يصح؟ وعزاه أبو

(4/378)


محمد إلى القاضي، وأظنه قاله في المجرد، نظرا إلى الحقيقة، وإذا لا يصح لأن نصيب الوارث ليس له التصرف فيه، والله أعلم.

قال: وإذا خلف ثلاثة بنين، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم، كان للموصى له الربع.
ش: لأن له مثل نصيب أحدهم مضافا إلى المسألة؛ لأنه جعل الوارث أصلا، وجعل للموصى له مثله، فاقتضى أن يساويه ولا يزيد عليه، ولو كان البنون أربعة، كان للموصى له الخمس، وعلى هذا، فلو خلف ابنين وأوصى لاثنين بمثل نصيبهما كانت المسألة من أربعة، والله أعلم.

[الحكم فيمن أوصى بعدة وصايا والمال لا يكفي]
قال: وإذا أوصى لزيد بنصف ماله، ولعمرو بربع ماله، ولم تجز الورثة، فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم، لعمرو سهم، ولزيد سهمان.
ش: قد تقدم أن للإنسان أن يوصي بالثلث لغير الوارث، وما زاد على ذلك يقف على إجازة الورثة، فإذا أوصى لزيد بنصف ماله، ولعمرو بربعه، وخلف ابنين فأجازا، فأصل المسألة من أربعة، وتصح من ثمانية، لزيد النصف أربعة،

(4/379)


ولعمرو الربع اثنان. ولكل ابن واحد، وإن ردا أخذت النصف والربع ثلاثة، من مخرجهما وهو أربعة، وتجعل الثلاثة ثلث المال، فتصير المسألة من تسعة، وإنما قسم الثلث بينهما على قدر نصيبهما لأن الموصي فاضل بينهما فلم يسو بينهما، كالوصية بثلث وربع، وهذا لأن على قاعدتنا أن الوصية صحيحة، فالمتبع فيها لفظ الموصي، ويخرج على قول لنا - أن الوصية بما زاد على الثلث باطلة - أن الموصى له بالنصف لا يضرب بأكثر من الثلث، لبطلان الزائد على ذلك، وهو قول الحنفية، وإذا يؤخذ الثلث والربع من مخرجهما اثني عشر، وذلك سبعة، فيجعل ثلث المال، فتكون المسألة من أحد وعشرين، وعلى هذا فقس، والله أعلم.

قال: وإذا أوصى لولد فلان فهو للذكر والأنثى بالسوية.
ش: قد حكي الاتفاق على ذلك، إذ الاسم يشمل الجميع، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] نفى الذكر والأنثى جميعا، ويدخل الخنثى أيضا في ذلك؛ لأنه ولد، ولا يدخل ولد بناته اتفاقا، وهل يدخل فيه ولد بنيه؟ فيه روايتان.

(4/380)


قال: وإن قال لبنيه. كان للذكور دون الإناث.
ش: أي لبني فلان أو لبني، لاختصاص الاسم بهم دون الإناث، قال سبحانه: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] وهذا إذا لم يكونوا قبيلة، فإن كانوا قبيلة - كما إذا أوصى لولد هاشم، أو بني تميم - دخل فيه الذكر والأنثى، والخنثى، لأن ذلك اسم للقبيلة ذكرها وأنثاها، قال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وقال: {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] ولا يدخل فيه ولد بناتهم من غيرهم، لأنهم لا ينسبون إليهم.

[الوصية بالحمل وللحمل]
قال: والوصية بالحمل وللحمل جائزة، إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالوصية.
ش: أما الوصية بالحمل فجائزة إذا كان مملوكا وعلم وجوده، أو حكم به حال الوصية، كما سيأتي بيانه إن شاء

(4/381)


الله تعالى، إذ غايته أنه غرر، وذلك لا يمنع صحة الوصية كعتقه، وذلك لأن نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر مختص بالبيع، وما في معناه، حذارا من أكل مال الغير بالباطل. واشترط كونه مملوكا لأن الوصية بملك الغير باطلة، واشترط العلم أو الحكم بوجوده، وإلا لاحتمل حدوثه، فلا تتعلق الوصية به، نعم لو وصى بما تحمل جاريته ونحوها صحت، لأن لفظه مستقبل. وأما الوصية للحمل فجائزة أيضا، قياسا على إرثه، بجامع انتقال المال من الإنسان بعد موته بغير عوض، بل أولى، لصحتها للمخالف في الدين والعبد، بخلاف الإرث، وشرط صحتها أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية، ليعلم وجوده حال الوصية، إذ التمليك لا يصح لمعدوم، كذا قال الجمهور، ومنهم أبو محمد في الكافي، وفي المغني قيده بأن تضعه لستة أشهر فما دون، وليس بجيد، لأنها إذا وضعته لستة أشهر احتمل حدوثه حال الوصية، فلم تصادف الوصية موجودا يقينا، وقد انعكس ذلك على ابن المنجا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى فقال: لا بد من ذكر ستة أشهر، معتمدا على ما في المغني، ومعللا بأنها إذا

(4/382)


وضعته لستة أشهر علم وجوده حال الوصية، وقد تقدم رده. انتهى، أما إن وضعته لأكثر من ذلك لم تصح الوصية له على مقتضى كلام الخرقي، وأورده أبو البركات مذهبا؛ لأنه لا يعلم وجوده حال الوصية، وسبب الانتقال إلى الورثة قد وجد يقينا، فلا يزول عنهم بالشك والاحتمال، وقيل: إن وضعته لزوج أو سيد ولم يلحقهما نسبه إلا بتقدير وطء قبل الوصية صحت؛ لأنه والحال هذه قد حكم بوجوده ظاهرا حال الوصية، إذ حال المسلم إنما يحمل على الصلاح، وإلا فلا لما تقدم، وهذا الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني، لكنه لم يفصح بتنقيح الحكم. واعلم أن من شرط الوصية بالحمل وللحمل أن تضعه حيا، إذ الميت لا يصح تملكه ولا تمليكه، والله أعلم.

قال: وإذا أوصى بجارية لبشر، ثم أوصى بها لبكر، فهي بينهما.
ش: لأن الأصل بقاء وصية الأول، فالظاهر أنه يسوي بينهما في الاستحقاق، فإذا تقسم العين بينهما مع وجودهما،

(4/383)


لاستوائهما في سبب الحق، ويختص بها أحدهما مع موت الآخر، لزوال المزاحمة، والله أعلم.

قال: وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر. كانت لبكر.
ش: لأن هذا دليل على الرجوع في وصية الأول، والوصية بها للثاني، فعمل على مقتضاه، بخلاف التي قبلها، فإنه يحتمل الرجوع والاشتراك في الاستحقاق، والأصل عدم الرجوع. وقد تضمن هذا صحة الرجوع في الوصية، وهو إجماع إلا في الرجوع بالوصية بالعتق، فإن في الرجوع فيه خلافا ومذهبنا جوازه، والله أعلم.

قال: ومن كتب وصيته ولم يشهد فيها حكم بها، ما لم يعلم رجوعه عنها.
ش: إذا كتب وصيته ولم يشهد فيها، وعرف خطه، فإنه ينفذ ما فيها، ما لم يعلم رجوعه عنها، نص عليه أحمد، واعتمده الأصحاب، لما تقدم من حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا

(4/384)


ووصيته مكتوبة عند رأسه» وظاهره إفادة الكتابة وإن لم يشهد بما فيها، ولأن ذلك طريق يغلب على الظن صحة الوصية، أشبه الشهادة بها، وخرج ابن عقيل، وأبو البركات رواية بعدم الصحة، أخذا من قوله فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدوا بما فهيا. أنه لا يصح، وقد يفرق بأن الشهادة شرطها أن تقع على العلم، وما في الوصية والحال هذه غير معلوم، فلا تصح الوصية به، أما لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإمام ما يمنعه، ثم بعد ذلك يعمل بالخط بشرطه، ولهذا قال ابن حمدان: ومن وجدت وصيته بخطه صحت، نص عليه، وقيل: لا. فلو ختمها وأشهد بما فيها لم يصح، نص عليه، وقيل: بلى. انتهى، أما إن عين للشاهد ما فيها فلا إشكال في صحة ذلك، والعمل عليه، ما لم يعلم الرجوع عنها. والله أعلم.

[الوصية في مرض الموت]
قال: وما أعطى في مرضه الذي مات فيه فهو من الثلث.
ش: ما أعطى في مرضه الذي مات فيه - من عتق، وهبة مقبوضة، ومحاباة، وصدقة، ووقف، وإبراء - فهو من

(4/385)


الثلث، لما تقدم في حديث أبي الدرداء «إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، مفهومه المنع مما زاد على الثلث.
2232 - وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» وشرط المرض أن يكون مخوفا، قاطعا بصاحبه، كذات الجنب، والرعاف الدائم، والقيام المتدارك ونحوها، فإن كان غير مخوف كالرمد، ووجع ضرس، والصداع، ونحوه، فحكمه حكم الصحيح، عطيته من رأس المال، وإن اتصل به الموت، وكذلك إن كان مخوفا، لكنه لم يقطع بصاحبه، كالجذام، والسل في ابتدائه، ونحوهما على الصحيح من

(4/386)


الروايتين وقد تضمن كلام الخرقي أن عطية الصحيح من رأس ماله، ولا نزاع في ذلك، والله أعلم.

قال: وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر.
ش: يعني تكون عطيتها من الثلث لدخولها في شهور ولادتها، ووجود الخوف عليها، والمشهور من الروايتين أنها لا تصير عطيتها من الثلث إلا إذا ضربها المخاض، لأنها إذا يتحقق الخوف عليها، بخلاف ما قبل ذلك، والله أعلم.

[وصية الصبي المميز]
قال: ومن جاوز العشر سنين فوصيته جائزة إذا وافق الحق.
ش: تصح وصية من لم يبلغ على المذهب المنصوص.
2233 - لما روي أن صبيا من غسان، له عشر سنين، أوصى لأخوال له، فرفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأجاز وصيته. رواه سعيد.

(4/387)


2234 - وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، أن عمرو بن سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن هاهنا غلاما يفاعا، لم يحتلم، وورثته بالشام، وهو ذو مال، وليس له هاهنا إلا ابنة عم له، فقال عمر: فليوص لها. فأوصى لها بمال يقال له: «بئر جشم» ، قال عمرو بن سليم فبعت ذلك بثلاثين ألفا، وابنة عمه التي أوصى هي أم عمرو بن سليم، قال أبو بكر: وكان الغلام ابن عشر، أو اثنتي عشرة سنة، وهذه قضية في مظنة

(4/388)


الشهرة، ولأنه تصرف تمحض نفعا للصبي، من غير ضرر يلحقه عاجلا ولا آجلا، أشبه صلاته وإسلامه، وبهذا فارق الهبة لأن الضرر قد يلحق بها في الآجل. وفي المذهب وجه آخر: لا تصح وصيته حتى يبلغ؛ لأنه تبرع بالمال، أشبه هبته، وعلى المذهب، فلا بد أن يكون مميزا، إذ غير المميز في معنى المجنون، فلا عبرة بكلامه، ثم من الأصحاب من لم يقيد ذلك بسن، كالقاضي وأبي الخطاب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني، ومنهم من قيده بعشر، كالخرقي، وابن أبي موسى، وأبي بكر فيما حكاه عنه الشريف، نظرا لمنصوص أحمد في رواية حنبل وصالح، فإنه قيد الغلام بعشر، والجارية بتسع، اعتمادا على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال الشريف، ومن الأصحاب من قيده بسبع وهو رواية أخرى عن أحمد، وحكى ابن المنذر عن الإمام التقييد باثنتي عشرة سنة.

(4/389)


وقول الخرقي: إذا وافق الحق. قيد في جميع الوصايا، وإن كانت من بالغ، وإنما نص على ذلك هنا اتباعا لمنصوصات الإمام، وذلك لأنه في مظنة مخالفة الحق، بخلاف البالغ، والله أعلم.

قال: ومن أوصى لأهل قرية، لم يعط من فيها من الكفار إلا أن يذكرهم.
ش: يعني والله أعلم من المسلمين، نظرا إلى أن حال المسلم يقتضي بر المسلم، ومنع الكافر، والعام كثيرا ما يطلق ويراد به الخصوص، وقد قام دليل ذلك وهو قرينة الحال، فعلى هذا لا يعطى من فيها من الكفار، وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنهم لا يعطون وإن لم يكن فيها إلا مسلم واحد، لجواز إطلاق العام، وإرادة الواحد، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] أريد به واحد، ومال أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنهم يعطون، نظرا إلى أن إطلاق العام وإرادة واحد قليل، مع ما انضم إلى ذلك من مخالفة العموم.

(4/390)


ولا نزاع في دخول الكفار، إذا صرح بذلك، إذ لا اعتبار لمقتضى الحال مع التصريح بخلافه، وكذلك لو تعذر الحمل على الخصوص، كما إذا لم يكن في القرية مسلم أصلا، وحكم الكافر إذا أوصى لأهل قريته كذلك، في أنه يدخل كافرها الموافق له في دينه، وفي دخول كافرها المخالف له في دينه احتمالان، ولا يدخل مسلمها لما تقدم، وقيل: يدخل، حذارا من كون الإسلام سببا للمنع من غير نص يمنعه، والله أعلم.

[الوصية بجميع المال]
قال: ومن أوصى بكل ماله - ولا عصبة له ولا مولى - فجائز، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يجوز إلا الثلث.
ش: الرواية الأولى نص عليها في رواية المروذي [وحرب] ، واختارها القاضي، والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي، وأبو محمد، وغيرهم، لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» علل المنع بخشية فقر الوارث، وهذا لا وارث له يخشى فقره.

(4/391)


2235 - واعتمد أحمد على أن ذلك يروى عن ابن مسعود. (والثانية) : نص عليها في رواية ابن منصور.
2236 - معتمدا على أن ذلك قول زيد، ومعللا بأن بيت المال له عصبة، وهو مفهوم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، قال أبو الخطاب في الانتصار: وهي صريحة في منع الرد، وتوريث ذوي الأرحام. وقول الخرقي: ولا عصبة له ولا مولى. تبع فيه لفظ أحمد في رواية المروذي: فإنه قال: إذا لم يكن له عصبة أو مولى فله أن يضع ماله حيث شاء. وغيرهما يترجم المسألة: إذا

(4/392)


أوصى من لا وارث له. لأن ذا الفرض يأخذ البعض بالفرض، والباقي بالرد، فهو كالعاصب، ولهذا منع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا أن يوصي بأكثر من الثلث، نعم، إن كان ذو الفرض لا يرد عليه، - كالزوجين - جازت الوصية فيما زاد عن نصيبه على المذهب، والله أعلم.

قال: ومن أوصى لعبده بثلث ماله، فإن كان العبد يخرج من الثلث عتق، وما فضل من الثلث بعد عتقه فهو له، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة.
ش: إذا أوصى لعبده بثلث ماله صح، لأنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله، فصحت كما لو صرح بذلك، ثم إن كان العبد يخرج من الثلث - كما إذا كان ثلثه مائة، وقيمة العبد مائة أو دونها - عتق، لأنه يملك من كل جزء من

(4/393)


المال ثلثا مشاعا، ومن جملة المال نفسه، فيملك ثلثها، وإذا يعتق ذلك الجزء، لتعذر ملك نفسه، ويسري إلى بقيته، كما لو أعتق بعض عبده؛ بل أولى، فإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء فهو له، لأنه قد صار حرا وإن لم يخرج من الثلث، عتق منه بقدر الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة، لما تقدم. قيل: ومفهوم كلام الخرقي أنه لو أوصى له بمعين كمائة درهم، أو ثوب أنه لا يصح، وهو المشهور من الروايتين، ثم قال أبو محمد في الكافي: على رواية الصحة يشترى العبد من الوصية فيعتق، وما بقي فهو له، قلت: محافظة على تصحيح كلام المكلف ما أمكن، إذ تصحيح الوصية يستلزم ذلك، وإلا فكأنه وصى للورثة ببعض مالهم، ولا فائدة في ذلك، وبنى الشيرازي الروايتين على تمليك العبد إذا ملك، ثم قال: وعلى رواية الصحة تدفع المائة إليه، فإن باعه الورثة بعد ذلك فالمائة لهم، وتعليل أبي محمد في المغني يقرب من ذلك، والله أعلم.

قال: وإذا قال: أحد عبدي حر. أقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة فهو حر إذا خرج من الثلث.
ش: القرعة لها مدخل في العتق، لما تقدم من حديث عمران

(4/394)


بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا قال: أحد عبدي أو عبيدي حر. ولم يعينه، أقرعنا بينهم، إذ تعيين أحدهم ترجيح بلا مرجح، ثم من خرجت عليه القرعة فهو حر، إذ هذا فائدة القرعة، وشرط نفوذ عتقه أن يخرج من الثلث، لما تقدم من أن الإنسان ليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة والله أعلم.

قال: وإذا أوصى أن يشتري عبد زيد بخمسمائة فيعتق، فلم يبعه سيده، فالخمسمائة للورثة.
ش: لأنه قد تعذر إعمال الوصية فبطلت، كما لو مات الموصى له قبل موت الموصي، أورد الوصية، وإذا بطلت كان المال للورثة، وقول الخرقي: فلم يبعه سيده. يشمل إذا لم يبعه مطلقا، أو لم يبعه بالخمسمائة، وفي معنى ذلك حيث تعذر شراؤه، إما بموته أو غير ذلك، والله أعلم.
قال: وإن اشتروه بأقل، فما فضل فهو للورثة.
ش: لأن مقصود الموصي العتق وقد حصل، وكما لو وكل في شرائه في حياته بثمن معين، فاشترى بدونه، فإن الفاضل له، كذلك هنا، وحكى في المغني احتمالا بأن الخمسمائة تكون لزيد، وفرق في المغني فقال: إن كان ثم قرينة تقتضي إرفاق سيده بالثمن - كما إذا كان صديقا له،

(4/395)


أو ذا حاجة، أو كان يعلم أن العبد يحصل بدون ذلك - فإن الثمن جميعه يدفع إلى السيد، كما لو صرح بذلك، وإن عدمت القرائن كان كما تقدم، والله أعلم.

قال: وإذا أوصى لرجل بعبد لا يملك غيره، وقيمته مائة ولآخر بثلث ماله، وملكه غير العبد مائتا درهم، فأجاز الورثة ذلك، فلمن أوصى له بالثلث ثلث المائتين، وربع العبد، ولمن أوصى له بالعبد ثلاثة أرباعه.
ش: إنما كان للموصى له بالثلث ثلث المائتين، لأن المائتين من ماله، وقد أوصى له بثلثه، فلا معارض له، فيستحق ثلثها، وإنما كان له ربع العبد، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه، لأن مقتضى وصية صاحب الثلث أن يكون له ثلث العبد، ومقتضى وصية صاحب العبد أن يكون له جميعه، فقد تضمنت الوصية قسمة العبد على أربعة أثلاث، وهو أربعة أرباع، وليس طرح وصية أحدهما بأولى من الأخرى، فيجعل الثلث ربعا كمسائل العول.

(4/396)


قال: وإن لم يجز ذلك الورثة فلمن أوصى له بالثلث سدس المائتين، وسدس العبد، لأن وصيته في الجميع، ولمن أوصى له بالعبد نصفه، لأن وصيته في العبد.
ش: إذا لم يجز الورثة ما تقدم، فقال الخرقي وجمهور الأصحاب: للموصى له بالثلث سدس المائتين، وسدس العبد، وللموصى له بالعبد نصفه، لأن الوصية ترجع في الرد إلى الثلث، وثلث المال - والحال هذه - مائة، والوصية مائتان، ثلث المال قدره مائة، والعبد قيمته مائة، نسبة الثلث الذي هو مائة، إلى الوصية التي هي مائتان بالنصف، فمن أوصى له بشيء رجع إلى نصفه، نظرا إلى مقتضى المسمى في الوصية، فللموصى له بالثلث سدس المائتين، لأنه نصف ثلثها، وسدس العبد، لأنه نصف ثلثه، واستحقاقه

(4/397)


الربع في الإجازة كان للمزاحمة العارضة، وقد زالت، وللموصي له بالعبد نصفه، لأن الوصية له بكله. واختار أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لصاحب الثلث خمس المائتين، وعشر العبد، ونصف عشره، ولصاحب العبد ربعه وخمسه، وخرجه أبو البركات وجها، لأن الموصى له بالعبد في الحقيقة إنما أوصى له بثلاثة أرباعه، لأنه أوصى لآخر بثلثه، والموصى له بثلثه، إنما أوصى له حقيقة بربعه، لأنه أوصى لآخر بكله، وإذا يقسم الثلث بينهما على ذلك، نظرا إلى مقتضى الوصية لو أمكن إعمالها بالإجازة، وعلى هذا يقسم الثلث بينهما على حسب مالهما في الإجازة، والذي لهما العبد وثلثا المائتين، مجموع ذلك مائة وستة وستون درهما، وثلثا درهم، نسبة الثلث إلى ذلك ثلاثة أخماسه، فمن له شيء في الإجازة، له ثلاثة أخماسه في الرد، فالموصى له بالثلث له ثلث المائتين، وهو ستة وستون درهما، وثلثا درهم، فيعطى ثلاثة أخماس ذلك، وهو أربعون درهما، وقدر ذلك خمس المائتين، وله من العبد ربعه، وقيمة ذلك خمسة وعشرون درهما، فله ثلاثة أخماسه، وهو خمسة عشر درهما، قدر ذلك من العبد عشره، ونصف عشره، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه،

(4/398)


وقيمة ذلك خمسة وسبعون درهما، ثلاثة أخماس ذلك خمسة وأربعون درهما، قدر ذلك من العبد ربعه وخمسه. وطريقة العمل في ذلك على قول الأصحاب أن يجعل لكل واحد من أصل وصيته بقدر نسبة الثلث إلى مجموع الوصيتين، وعلى قول أبي محمد يجعل لكل واحد من الذي حصل له في حال الإجازة بقدر نسبة الثلث إلى مجموع ما حصل لهما فيها، وعلى هذا لو كانت الوصية بالنصف مكان الثلث، ففي حال الإجازة لصاحب النصف نصف المائتين، وثلث العبد، ولصاحب العبد ثلثاه، وفي حال الرد على قول الأصحاب مجموع الوصيتين مائتان وخمسون درهما، نسبة الثلث إلى ذلك خمسه فلكل واحد من أصل وصيته خمساها، فللموصى له بالنصف خمسا المائة، وهو أربعون درهما وخمس العبد، وقدره عشرون درهما، وللموصى له بالعبد خمساه، وهو أربعون درهما، وعلى قول أبي محمد إذا نسبت الثلث إلى مجموع ما يحصل لهما في الإجازة وهو مائتا درهم، كان النصف، فيكون لكل واحد نصف الذي يحصل له في الإجازة، فصاحب النصف يحصل له من المال المائة، فله نصفها، ويحصل له من العبد ثلثه، فله نصفه وهو السدس، وصاحب العبد يحصل له في الإجازة ثلثاه، فله نصف ذلك وهو الثلث، وعلى هذا فقس، والله أعلم.

(4/399)


قال: ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية، ولا يجاوز به أربعة آباء «، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى» .
ش: إذا أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى، لأن كليهما من قرابته، ويكون بينهما بالسوية، لأنه شرك بينهما فيه، أشبه ما لو أقر لهما، ويعطى الغني كالفقير، لدخوله في لفظ القرابة، ثم قيل - وهو احتمال لأبي محمد، وكلام ابن الزاغوني في الوجيز يقتضي أنه رواية - يشمل كل قريب له من جهة أبيه وأمه، نظرا لمقتضى اللفظ، إذ قرابته اسم جنس مضاف، فيشمل كل قريب له، والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يتناول أقاربه من جهة أمه بشرط أن يصلهم في حال حياته، إذ صلته لهم في حياته قرينة بره لهم بعد مماته، والمشهور عنه اختصاص هذا اللفظ بقرابته من جهة أبيه، لأن العرف في القرابة إذا أطلق إنما ينصرف لذلك، ولهذا - والله أعلم - لم يعط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقاربه من جهة أمه من سهم ذوي القربى. ثم على هذا (هل يشمل) ولده وولد أبيه وإن علا، اعتمادا على العموم.

(4/400)


2237 - ولما روى مسلم وغيره عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] الآية قال أبو طلحة: يا رسول الله، أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك أني قد جعلت بيرحاء لله. قال: «فاجعلها في قرابتك» فجعلها في حسان بن ثابت، وأبي بن كعب وبين حسان وأبي طلحة ثلاثة آباء، وبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء» ، والظاهر أن جعله كان بحضرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعلمه، وأيضا فقد دل على أن عرفهم ذلك. (ولا يتجاوز) بها أربعة آباء، فإذا أوصى لقرابة زيد مثلا، أو وقف عليه تناول ولده، فزيد أب، وتناول أباه،

(4/401)


وجده، وجد أبيه، وأولادهم، ولا يزاد على ذلك، وهو اختيار الخرقي، والقاضي، وعامة أصحابه، لما استدل به الخرقي، من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى، لأن الله سبحانه لما قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] يعني قرابته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين قرابته، ولم يجاوز بني هاشم.
2238 - ففي البخاري وغيره «عن جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، قال: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» قال جبير: ولم يقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل شيئا، وفي رواية في السنن: لما قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى من خيبر، وذكر القصة» ، وهذا خرج مخرج البيان للمسمى في الآية الكريمة، وإذا يحمل المطلق من كلام الناس على المطلق من كلام الشارع، ويختص بما اختص به و «هاشم» هو

(4/402)


الأب الرابع، والأب الثالث عبد المطلب، والأب الثاني عبد الله، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الأب الأول. (أو لا يتجاوز) بها ثلاثة آباء. نظرا إلى أن الولد لا يدخل في ذلك، ولهذا لم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى لولده شيئا؟ فيه ثلاث روايات، وشذ ابن الزاغوني في وجيزه، فجعل الأب الرابع عبد مناف، فعلى هذا لا يدفع للولد، وهو مخالف للفظ الخرقي وغيره.
(تنبيهان) «أحدهما» قد تقدم أن الولد والوالد يدخلان في لفظ القرابة، وصرح بذلك القاضي، والشيرازي، وابن عبدوس، وأبو الخطاب في خلافه، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره، وعبارة الشيخين توهم خلاف ذلك، قال في المغني: الوصية لأولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، وقال في المحرر: اختص بولده وقرابة أبيه وإن علا.

(4/403)


«الثاني» قال أبو محمد في المغني والكافي: إذا أوصى لأقرب قرابته، وله أب وأم إنهما سواء، وفيه نظر، إذ الأم لا تدخل في لفظ القرابة على المذهب، فكيف تكون من أقربهم، وقد نبه على هذا أبو البركات حيث قال: والأخ من الأب والأخ من الأم إن أدخلناه في القرابة سواء، والله أعلم.

قال: وإن قال: لأهل بيتي. أعطي من قبل أبيه وأمه.
ش: المنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لفظة «أهل بيته»

(4/404)


بمنزلة لفظة «قرابته» قال في رواية عبد الله: إذا أوصى بثلث ماله لأهل بيته، هو بمثابة قوله: لقرابتي.
2239 - واستدل على ذلك فيما حكاه عنه ابن المنذر بأن قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لي، ولا لأهل بيتي» فجعل سهم ذوي القربى لهم، عوضا عن الصدقة التي حرمت عليهم، فكان ذوو القربى الذين سماهم الله تعالى، أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة.
2240 - وذكر حديث زيد بن أرقم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أذكركم الله في أهل بيتي» قال: قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، أهله وعشيرته الذين حرمت عليهم الصدقة بعده، آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. وفرق

(4/405)


الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين لفظ: القرابة، وأهل البيت، فجعل الأول مختصا بأقاربه من جهة أبيه على ما تقدم، وجعل الثاني يشمل القريب من جهة الأب والأم، نظرا إلى أن اللفظ يشملهم، عرفا، يقال: بيت فلان كذا. يريدون أقاربه من جهة أبيه وأمه، وأناط الشيرازي الحكم هنا بمن كان يصله في حياته، فقال: يعطى من كان يصله في حياته من قبل أبيه وأمه. والله أعلم.

قال: وإذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة فما فضل رد في الحج.
ش: إذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة مثلا حج عنه، لأن الحج جهة قربة، فإن فضل من الخمسمائة شيء، رد في

(4/406)


الحج إلى أن ينفد، على المذهب المعروف، إعمالا لمقتضى اللفظ، وحكى الشيرازي رواية أن الباقي للورثة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يدفع إلى من يحج إلى قدر ما يحج به، لقوله: فما فضل. وصرح به غيره، لأنه تصرف بمقتضى النظر، فلا يزاد فيه على ذلك، ولو كانت الخمسمائة لا تكفي للحج، فهل يعان بها فيه، أو يحج بها من حيث تبلغ، أو يخير؟ ثلاثة أقوال، وشرط نفوذ هذه الوصية أن تخرج الخمسمائة من الثلث، فإن لم تخرج نفذ منها قدر الثلث، ووقف الباقي على إجازة الورثة، هذا إن كان الحج تطوعا، وإن كان واجبا فالذي يحتسب من الثلث ما زاد على نفقة المثل للفرض، والله أعلم.

قال: وإن قال: حجة بخمسمائة. فما فضل فهو لمن يحج.
ش: اعتمادا على مقتضى لفظه، إذ مقتضاه دفع جميع الخمسمائة إلى من يحج حجة واحدة، كأنه قصد إرفاق من يحج، والله أعلم.

قال: وإن قال: حجوا عني حجة. فما فضل رد إلى الورثة.

(4/407)


ش: لأن الذي أوصى به حجة فقط، فما فضل عنها فهو للورثة، وقوله: فما فضل: يجوز أن يريد ما فضل [من الثلث، ويجوز أن يريد ما فضل] من المدفوع إليه، أي عن النفقة التي أنفقها، بناء على المشهور، من أنه لا يجوز الاستئجار على الحج، والله أعلم.

قال: ومن أوصى بثلث ماله لرجل، فقتل عمدا أو خطأ، وأخذت الدية، فلمن أوصى له بالثلث ثلث الدية، في إحدى الروايتين، والأخرى ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.
ش: الرواية الأولى اختيار القاضي وغيره، بناء على أن الدية تحدث على ملكه، تنزيلا لسبب الوجوب، منزلة مسببه وهو الوجوب، ولا شك أن السبب وجد في حياته وصار هذا كما لو نصب شبكة، فوقع فيها صيد بعد موته، فإنه يكون له، يحقق ذلك أن تجهيزه يخرج منها بلا نزاع، وعلى هذا يكون لمن أوصى له بالثلث ثلثها، كما لو ورث مالا قبل موته، (والثانية) ليس لمن أوصى له بالثلث شيء منها،

(4/408)


بل تكون للورثة، يقتسمونها على قدر مواريثهم، بناء على أن الدية تحدث على ملكهم.
(تنبيه) بنى أبو البركات الدين على الروايتين، [إن قلنا له، قضيت منها ديونه، وإن قلنا للورثة فلا، وظاهر كلام أبي محمد في المغني يقتضي أن ديونه تقضى منها على الروايتين] كتجهيزه، نظرا إلى أن الوجوب إنما وجد بالموت، والميت ليس أهلا للملك، ولذلك زالت أملاكه بموته، والله أعلم.

قال: وإذا أوصى لرجل، ثم أوصى بعده إلى آخر، فهما وصيان، إلا أن يقول: قد أخرجت الأول.
ش: أما إذا أخرج الأول من الإيصاء إليه فقد انعزل، وصار الثاني هو الوصي وحده، وأما إذا لم يخرجه فهما وصيان، لما تقدم فيما إذا أوصى لبكر بجارية، ثم أوصى بها لبشر، وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للموصي عزل الموصى إليه، وهو واضح، لأنه نائب عنه، أشبه وكيله. قال: وإذا كان الوصي خائنا جعل معه أمين.
ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى، جمعا بين نظر الموصي وحفظ المال، (والثانية) لا تصح

(4/409)


الوصية إلى فاسق أصلا، وهي اختيار القاضي، وعامة أصحابه، الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، لأنه ليس بأهل للشهادة، أشبه المجنون، (والرواية الثالثة) تصح الوصية إليه مطلقا، ولا يفتقر إلى أمين، حكاها أبو الخطاب في خلافه. لأنه أهل للائتمان في الجملة، بدليل جواز إيداعه، فلو طرأ فسقه بعد موت الموصي، فعند أبي محمد أنه على الروايتين في الوصية إليه ابتداء، ثم مختار القاضي [أيضا] وغيره البطلان، وعند أبي البركات أنه يبدل بأمين بلا نزاع، نظرا إلى أن الموصي في الابتداء قد رضيه واختاره، والظاهر أنه إنما فعل ذلك لمعنى رآه فيه، إما لزيادة حفظه، أو إحكام تصرفه، ونحو ذلك، مما يربو على ما فيه من الخيانة، بخلاف ما لو طرأ فسقه، فإن حال الموصي يقتضي أنه إنما رضي بعدل ولا عدل، وعكس ذلك القاضي في روايتيه، فإنه حمل رواية ضم الأمين إليه على ما إذا طرأ الفسق. وقال: ولا يختلف المذهب أنه لا يصح إليه ابتداء، فكأنه نظر إلى أن الدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الابتداء.

(4/410)


ولنشر إلى شروط الموصى إليه فنقول: من شرطه أن يكون «عاقلا» بلا نزاع، «مسلما» إن كان الموصي مسلما، وكذلك إن كان كافرا في وجه، وفي آخر: يصح إلى كافر إن كان الموصي كافرا، لكن يشترط عدالة الموصى إليه في دينه عند أبي محمد، وظاهر كلام أبي البركات أنه على الروايتين، «بالغا» في رواية، وفي أخرى - وقال القاضي: إنها قياس المذهب: - لا، وعليها قال أبو البركات: إذا كان مراهقا. وقال أبو محمد: إذا جاوز العشر. «مستور الحال» على المذهب وقد تقدم، ولا تعتبر الذكورية، ولا الحرية، ولا البصر، ولا المعرفة بالتصرف، نعم، إذا كان عاجزا ضم الحاكم إليه أمينا، ويعتبر وجود الشروط عند العقد والموت في وجه، وفي آخر عند الموت فقط، والله أعلم.

قال: وإن كانا وصيين فمات أحدهما، أقيم مقام الميت أمين.

(4/411)


ش: إذا أوصى لرجلين، فليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، لحصول التشريك بينهما، إلا أن يجعل لكل واحد منهما التصرف منفردا، فعلى هذا لو مات أحدهما أو جن أقام الحاكم مقامه أمينا، لأن الميت لم يرض بتصرف الآخر وحده، وكذلك إن ماتا في وجه، لأنه لم يرض بتصرف واحد، وفي آخر يجوز أن يقيم واحدا، لأن الأمر رجع إليه، أشبه ما لو لم يوص، ولو كان قد جعل لكل واحد التصرف منفردا، فمات أحدهما لم يبدل، لاستقلال الآخر بالتصرف، والله أعلم.

قال: ومن أعتق في مرضه أو بعد موته عبدين لا يملك غيرهما، وقيمة أحدهما مائتان، والآخر ثلاثمائة، فلم تجز الورثة، أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان عتق منه خمسة أسداسه، وهو ثلث الجميع، وإن وقعت على الآخر عتق منه خمسة أتساعه.
ش: قوله: ومن أعتق في مرضه. أي منجزا، أو بعد موته. أي مدبرا. وقوله: أقرع بينهما، «إشارة» إلى أن العتق في المرض يعتبر من الثلث، وكذلك التدبير على المذهب بلا ريب، كبقية الوصاية، وشذ حنبل فنقل عنه نفوذه من رأس المال إن وجد في الصحة، نظرا إلى الحال الراهنة، «وإشارة» بأن العتق والحال هذه يكمن في واحد

(4/412)


«وتصريح» بدخول القرعة، والأصل في ذلك كله حديث عمران بن حصين المتقدم، وإذا أقرعنا فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، عتق منه خمسة أسداسه، وهو ثلث الجميع، إذ ثلث الجميع مائة وستة وستون وثلثا درهم، وذلك قدر خمسة أسداسه، وإن وقعت على الآخر الذي قيمته ثلاثمائة، عتق منه خمسة أتساعه، وهي الثلث، مائة وستة وستون درهما وثلثا درهم، إذ كل تسع منه ثلاثة وثلاثون درهما، وثلث درهم.
قال: لأن جميع ملك الميت خمسمائة، وهي قيمة العبدين، فتضرب في ثلاثة، فأخذ ثلثه خمسمائة، فلما أن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، ضربناه أيضا في ثلاثة، فصيرناه ستمائة، فصار العتق فيه خمسة أسداسه، وكذلك يفعل بالآخر إذا وقعت عليه القرعة.
ش: هذا بيان لعمل المسألة، ولأن العتق في الأول خمسة أسداسه، وفي الثاني خمسة أتساعه، وذلك لأن صورة المسألة أن جميع ملك الميت خمسمائة، فتضرب في ثلاثة، ترتفع إلى ألف وخمسمائة، لأنها لو لم تضرب ربما وقع فيها

(4/413)


كسر فتشق النسبة إليه أو تتعذر، فإذا بلغت ألفا وخمسمائة، أخذ ثلثها وهو خمسمائة، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، ضربناه في ثلاثة، كما ضربنا المجموع، فترتفع إلى ستمائة، ثم تنسب الثلث إليه وهو الخمسمائة، تجد العتق فيه خمسة أسداسه، إذ كل سدس مائة درهم، وإن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة، فعلنا به أيضا كذلك، ضربناه في ثلاثة فارتفع إلى تسعمائة، ثم نسبنا منه الثلث، وهو الخمسمائة، تجدها خمسة أتساعه.
قال: وكل شيء يأتي من هذا الباب فسبيله أن يضرب في ثلاثة، ليخرج بلا كسر.
ش: فلو كانت قيمة أحد العبدين ثلاثمائة، والآخر أربعمائة، جمعتهما، وذلك سبعمائة، فجعلتها ثلث المال، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة، ضربت في ثلاثة، ترتفع إلى تسعمائة، ثم تنسب إليه السبعمائة يكن العتق منه سبعة أتساعه، وإن وقعت على الذي قيمته أربعمائة، ضربته في ثلاثة، ترتفع إلى ألف ومائتين، وإذا نسبت إليه السبعمائة، كان العتق فيه ثلثه وربعه، وعلى هذا فقس، والله أعلم.

(4/414)


قال: وإذا أوصى بعبد من عبيده لرجل، ولم يسم العبد، كان له أحدهم بالقرعة، إذا كان يخرج من الثلث، وإلا ملك منه بقدر الثلث.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن أبي موسى، لأن الجميع سواء بالنسبة إلى الاستحقاق، فكان له أحدهم بالقرعة، كما لو كان ذلك عتقا، (والثانية) - واختارها أبو الخطاب، والشريف في خلافيهما، والشيرازي - يعطيه الورثة ما أحبوا، لأن لفظه تناول عبدا، والأقل هو اليقين، فيكون هو الواجب، وما زاد فهو مشكوك فيه، وإذا ما تدفعه الورثة هو الواجب أو أزيد، فيلزم قبوله، وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوصية بالمجهول، وهو واضح، لما تقدم من أن الغرر لا ينافيها. وقول: من عبيده. يخرج ما إذا قال: بعبد. وأطلق، فإنه يصح ويعطى أي عبد كان، لكن يشترط كونه ذكرا، هذا عند أبي محمد، نظرا للعرف، وعند

(4/415)


القاضي لا يشترط، نظرا للحقيقة، وقوله: ولم يسمه. يخرج ما إذا سماه، فإنه يستحقه بشرطه بلا نزاع، واشتراط الخروج من الثلث واضح وقد تقدم.
قال: وإذا أوصى له بشيء بعينه - فتلف بعد موت الموصي لم يكن للموصى له شيء.
ش: إذا أوصى له بشيء بعينه - كهذا العبد ونحوه - فتلف بعد موته، وقبل القبول، لم يكن للموصى له شيء، حكاه ابن المنذر إجماعا، وذلك لأن الموصى له إنما يستحق بالوصية وهي في معين، فتذهب بذهابه، وبطريق التنبيه إذا تلف قبل موت الموصي.

قال: وإن تلف المال كله إلا الموصى به فهو للموصى له.
ش: نص على هذا أحمد، لأن حق الورثة تعلق بما عدا المعين، وقد تلف، فيتلف على ملكهم، أما المعين فلم يتعلق حقهم به، ولذلك كان للموصى له أخذه بغير رضاهم.

قال: ومن أوصي له بشيء فلم يأخذه زمانا، قوم وقت الموت، لا وقت الأخذ.
ش: اعلم أنا نذكر أولا أصلا، ثم نذكر هذه المسألة، لأن

(4/416)


بعضهم بناها عليه، فنقول: اتفق أصحابنا فيما علمت على أن شرط ثبوت الملك للموصى له القبول بعد الموت، ثم اختلفوا متى يثبت الملك له، فالمذهب عند أبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الملك لا يثبت له إلا عقب القبول، وهو مقتضى قول القاضي، وعامة أصحابه، قال أبو الخطاب في الهداية: وأومأ إليه أحمد فقال: الوصية والهبة واحد. واختار أبو بكر في الشافي أن الملك مراعى، فإذا قبل تبينا أن الملك ثبت له من حين الموت، وحكى الشريف عن شيخه أنه قال: إنه ظاهر كلام الخرقي. ولعله أخذه من هذه المسألة، قال في التعليق: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، فيمن أوصي له بشيء فلم يأخذه زمانا، قال سفيان: يحسب على الموصى له بقيمته يوم يأخذه، قال أحمد: له يوم أوصى. قال: فظاهر هذا أن الملك حصل بالسبب السابق. وقوله: يوم أوصى. معناه يوم تعتبر قيمته حين الموت، لأنه حين الوصية باق على ملك الموصي، فلا تعتبر قيمته إذا، ثم على الأول هل يبقى الملك بعد موت الموصى له، فيتوفر بنمائه ثلثه - وهو مقتضى قول الشريف، وأبي الخطاب في

(4/417)


خلافيهما - أو يكون الملك للورثة ثم ينتقل إلى الموصى له إذا قبل - وهو اختيار أبي محمد، وابن البنا، والشيرازي؟ فيه وجهان وتلخص أن في الملك بين الموت والقبول ثلاثة أوجه، للميت، للورثة، للموصى له.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إن التقويم يعتبر بحال الموت، لا بحال الأخذ، وكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، فيحتمل أنه بناء منهما على أن الملك يكون مراعى، وأن الموصى له إذا قبل ثبت ملكه من حين الموت، أما إن قلنا: إن الملك لا يثبت إلا حين القبول، فيعتبر التقويم إذا، وإلى هذا جنح أبو البركات، مع زيادة تحقيق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويحتمل أن هذا الحكم جار على جميع الوجوه، وهو مقتضى كلام أبي محمد، فإنه حكى الخلاف في الأصل، ثم ذكر هذه المسألة، وقال: لا أعلم فيها خلافا. وقال أبو العباس: إن قول الخرقي هو قول

(4/418)


قدماء الأصحاب، وإنه أوجه من قول جده، يعني بالبناء، فعلى هذا الاعتبار في التقويم بحال الموت سعرا وصفة، فعلى هذا إذا قوم الموصى به حال الموت، فخرج من الثلث، كان للموصى له، وإن زاد حين القبول، حتى لم يخرج من الثلث، ولو لم يخرج من الثلث حال الموت، كان له منه بقدر الثلث، وإن زاد سعره أو صفته، حتى خرج من الثلث حال القبول، وذلك لأن تأخير القبول حصل بتفريط من الموصى له، فهو كتأخير المشتري قبض المبيع المعين، [بعد التمكن من قبضه، والمذهب أن مجرد التمكن من القبض في المبيع المعين] ونحوه ينقل الضمان، فكذلك التمكن من القبول في الوصية، إذ القبول فيها بمنزلة القبض في غيرها، وإن قلنا بالرواية الأخرى في البيع ونحوه، وأن الضمان لا ينتقل إلا بالقبض، فهذا في المعاوضات على ضعف، أما الشركة ونحوها فنفس التمييز كاف، ولأن الموصى به مباح للموصى له، وقد امتنعت الورثة من التصرف فيه - وإن قلنا الملك لهم أو للميت - لأجل حق الموصى به، فأشبه العبد الجاني، والتركة المستغرقة بالدين، وإن قلنا: انتقلت إلى الورثة، فإنه لو أخر استيفاء حقه حتى

(4/419)


نقص العبد أو التركة كان النقص عليه، ولم يكن له حق في غير ذلك، كذلك هاهنا، وقد قال أبو الخطاب في الانتصار وطائفة من الأصحاب: إن تعلق حق الغرماء بالتركة لتعلق الموصى له بالموصى به هل يمنع من الانتقال؟ على روايتين، ولأن الموصى له وإن لم يملك، لكن له حق التملك، فأشبه ربح المضاربة قبل القسمة، إن قلنا: لا يملك إلا بها. على رواية، ونصف الصداق بعد الطلاق، إن قلنا: لا يدخل في ملك الزوج إلا باختياره على وجه، والمغانم قبل القسمة إن قلنا: لا تملك إلا بها. على وجه أيضا، فإن جميع هذه الصور الضمان على من له حق التملك، كذلك هاهنا، ولا يقال: القبول هاهنا بمنزلة القبول في الهبة والبيع، لأن التملك في الوصية حق ثابت، لا يمكن أحدا فسخه بعد الموت، فهو كربح المضاربة، وقبول البيع والهبة حق غير ثابت، لإمكان إبطاله، ولهذا قال الخرقي: إن خيار القبول في الوصية ينتقل إلى الورثة وإن كان خيار قبول البيع والهبة لا ينتقل اتفاقا.

(4/420)


وأيضا فإن العدل الشرعي أن لا تفضل الوصايا على الورثة بزيادة على الثلث، لا في الملك، ولا في القبض، فإذا أوصى بعبد، وله عبدان آخران، فالعدل أن نقص العبدين كما هو على الورثة، كذلك نقص العبد على الموصى له لا يقال: يلزم على هذا أن الملك مع الزيادة يكون للورثة والضمان على الموصى له، لأنا نقول: ليس هذا ببدع. كما نقول: ضمان الثمر على الشجر على البائع، والزيادة للمشتري، والعين المؤجرة ضمانها على المؤجر، والربح للمستأجر. انتهى، وقال أبو البركات: إن قلنا: إن الملك يتبين ثبوته للموصى له من حين الموت، فإن الموصى به يقوم بسعره يوم الموت، على أدنى صفاته من حين الموت، إلى حين القبول، وإن قلنا: إن الملك لا يثبت إلا عقب القبول، وأنه قبل للورثة أو للميت. اعتبر التقويم وقت القبول سعرا وصفة، وبيان ذلك أما السعر فلأنه إنما اعتبر حال الموت على الأول، لأنا تبينا بالقبول دخوله في ملكه حين الموت، وإذا تكون زيادة السعر ونقصها عليه، لأن زيادة السعر ونقصه لا تضمن مع بقاء العين المستحقة، وإن ضمنت العين، كما في الغصب وغيره على المشهور، وأما على الوجهين الآخرين، فلأن الملك إنما حصل له بالقبول، فقبل القبول لا يقوم

(4/421)


عليه، كما قبل الموت اتفاقا، وأما نقص الصفة أما على الوجهين الآخرين فواضح، لأن الملك للورثة أو للميت، والزيادة لهما، فكذلك النقص عليهما، إذ الخراج بالضمان، وأما على الوجه الأول فلأن الموصى له لا يضمن إلا بالقبول، كما أن غيره لا يضمن إلا بالتمكين من القبض أو بحقيقة القبض على الخلاف، وذلك لأن القبول لا يرد إلا على عين موجودة، لأنه وإن أثبت الملك من حين الموت، فلا بد من بقائه إلى حينه، إذ ثبوت الملك قبله تبع لثبوته في حينه فما ليس بموجود لا يقبل، لتعذر الملك فيه، ولهذا لو تلفت العين الموصى بها قبل القبول، امتنع القبول فيها، فكذلك إذا تلف بعضها، ولا ضمان أيضا على الورثة، بحيث يحسب من الثلثين، لأن الورثة لم يملكوا ذلك، فأشبه ما لم يمكنهم قبضه وأولى. فإن قيل: يلزم على هذا أن تكون الزيادة للموصى له، والنقص ليس عليه. قلنا: كذا ما اشترى بصفة أو رؤية متقدمة، هو مضمون على البائع، حتى يتبين أنه على ما رئي أو وصف، فلو زاد في هذه المدة كانت الزيادة للمشتري، وقد ذكر أبو البركات نحو هذا في الصداق

(4/422)


أيضا، فقال: إذا تعذر الرجوع في نصف عينه، فإنه يرجع بنصف قيمته يوم الفرقة، على أدنى صفاته من يوم العقد، إلى يوم القبض، إلا المتميز إذا قلنا: يضمنه بالعقد، فتعتبر صفته وقت العقد، وذلك لأن مع التعذر إنما يستحق نصف القيمة يوم الفرقة، فيعتبر السعر إذا، وأما صفة المقوم فإن كان قد زاد بعد العقد وقبل القبض لم يستحق نصف قيمة الزيادة، لحدوثها على ملك الزوج، وإن كان قد نقص فهو مضمون عليها، لعدم التمكن من القبض، المقتضي لضمان الزوج. قال أبو العباس: واعلم أن تحرير هذه العبارة هنا، وفي الصداق، له دون غيره، وإن كان قد ذكره غير واحد متفرقا في الصداق، ويؤخذ من تعليل بعضهم هنا، قال: وهو متوجه في الصداق، أما هنا ففيه نظر، لأن المملوك بالوصية، كالمملوك بالإرث، لا يتوقف تمام الملك فيهما على قبض، وإن تلف تلف من ضمانهما، بخلاف المملوك بالعقود، كالبيع ونحوه، لا يتم الملك فيها إلا بالتمكن من القبض، وإذا تلفت تلفت من ضمان الذي خرجت من ملكه، وأيضا فإن بالقبول يتبين أن الملك كان للموصى،

(4/423)


له، وإذا يكون التالف قبل القبول من ملكه، إذ لم يفت فيه إلا بالقبض، والقبض غير مؤثر، بدليل ما لو قبل وأخر القبض. والله أعلم.

[حكم من أوصى بوصايا وفيها عتاق فلم يف الثلث بالكل]
قال: وإذا أوصى بوصايا وفيها عتاق، فلم يف الثلث بالكل، تحاصوا في الثلث، وأدخل النقص على كل واحد بقدر ما له في الوصية.
ش: هذا هو المشهور، المختار للأصحاب من الروايتين، للاشتراك في سبب الاستحقاق، ولا مزية لأحدهم على الآخر، فعلى هذا لو وصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمعين قيمته مائة، وبعتق عبد قيمته خمسون، وثلثه مائة درهم، فإنك إذا نسبت الثلث إلى مجموع الوصايا، وجدته خمسيها، فكل من له شيء له خمساه، (والرواية الثانية) يقدم العتق، لترجحه بما فيه من حق الله تعالى، وحق الآدمي وتشوف الشارع إليه، ولو لم يكن في الوصايا عتاقة تحاصوا فيها بلا نزاع. والله أعلم.

قال: وإذا أوصى بفرس في سبيل الله، وألف درهم تنفق عليه، فمات الفرس، كانت الألف للورثة، وإن أنفق بعضها رد الباقي إلى الورثة.

(4/424)


ش: لتعذر العمل بالوصية في الجميع أو في البعض، وإذا يرجع إلى الورثة، لأن سبب استحقاقهم قائم، وإنما منعوا لمعارض وقد زال، ويحتمل أن تنفق الألف على فرس آخر في السبيل، إذ المقصود من مثل هذه الوصية الجهة، لا ذات الفرس، وصار كما لو وصى بألف في الحج، فإنه يصرف في حجة بعد أخرى حتى ينفد، والله سبحانه أعلم.

(4/425)