شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [باب عشرة النساء والخلع]
ش: الأصل في العشرة قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الآية، وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] .
2658 - قال ابن زيد: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيكم.
2659 - وقال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي. وتلا هذه الآية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] .
2660 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» متفق عليه.
2661 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه

(5/339)


أحمد والترمذي وصححه.
2662 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» رواه الترمذي وصححه.
2663 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة» رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب.
2664 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعى الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح» متفق عليه.

(5/340)


2665 - وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. ولهذه الأحاديث وشبهها وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قال العلماء: إن حق الزوج عليها آكد من حقها عليه.
والأصل في الخلع قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الآية.

[القسم بين الزوجات]
قال: وعلى الرجل أن يساوي بين زوجاته في القسم.
ش: هذا مما لا خلاف فيه والحمد لله، وقد تقدم قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن المعروف التسوية بينهن.
2666 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه

(5/341)


ساقطا أو مائلا» رواه الخمسة.
2667 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» رواه الخمسة إلا أحمد. إذا تقرر هذا فمن عنده نسوة لا بد له أن يبدأ بواحدة منهن، وهن متساويات في الحق، واختيار واحدة منهن تفضيل لها، وهو ممنوع منه، فيتعين أن يبدأ بواحدة بالقرعة، كما لو أراد السفر بواحدة منهن، كما شهدت به السنة، ويقسم ليلة ليلة، ولا يقسم أربعا أربعا إلا برضاهن، وفي اعتبار رضاهن في الليلتين والثلاث وجهان.
وقول الخرقي وعلى الرجل؛ يشمل المريض والمجبوب، والخصي والعنين، وهو كذلك، إذ القسم للأنس، وهو حاصل

(5/342)


ممن ذكر، ولا يدخل في كلامه المجنون، لعدم تعلق الخطاب التكليفي به، وقال أبو محمد: إن لم يخف منه طاف به الولي، وإن خيف منه فلا قسم عليه، لانتفاء الأنس، وعلى الأول قال فإن لم يعدل الولي في القسم بينهن ثم أفاق الزوج، قضى للمظلومة؛ لأنه حق ثبت في ذمته.
وقوله: أن يساوي بين زوجاته في القسم. يتناول من له زوجات وقسم بينهن، ولا نزاع في ذلك كما تقدم، أما من له زوجة واحدة، أو له زوجات ولم يقسم بينهن، فهل عليه قسم الابتداء، بأن يبيت عند الزوجة أو الزوجات ليلة من أربع؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الوطء، وفيه روايتان، ومحلهما إذا لم يترك الوطء ضرارا، أما إن تركه ضرارا فيجب القسم، والله أعلم.

قال: وعماد القسم الليل.
ش: لأن الليل للسكن والإيواء، قال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]

(5/343)


فالليل محل السكن، والنهار للمعاش ونحو ذلك، وهذا فيمن معاشه بالنهار كما هو الغالب، أما من معاشه بالليل، كالحارس ونحوه، فإن نهاره كليل غيره، وليله كنهار غيره، والنهار تبع لليل في القسم.
2668 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، وفي يومي» . وموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في النهار، ويتبع اليوم الليلة الماضية، بدليل أن أول الشهر الليل، وإن أحب أن يجعل النهار تبعا لليله الذي يتعقبه جاز، لعدم التفاوت، والله أعلم.

قال: ويقسم لزوجته الأمة ليلة وللحرة ليلتين.
2669 - ش: لما روى الدارقطني - واحتج به الإمام أحمد - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للأمة ليلة، وللحرة ليلتين.
(تنبيه) : يقسم للمعتق بعضها بحساب ذلك، والله أعلم.

(5/344)


قال: وإن كانت كتابية.
ش: أي وإن كانت الحرة كتابية يقسم لها كما يقسم للمسلمة؛ لأن القسم من حقوق الزوجية، أشبه النفقة والسكنى، وقد شمل كلام الخرقي الرتقاء والمريضة، والحائض والمحرمة، والمظاهر منها والصغيرة، وهو كذلك إذ القصد الأنس والسكن، وهو حاصل لهن، نعم شرط أبو محمد في الصغيرة إمكان وطئها، والمجد تمييزها، وشمل أيضا المجنونة، والشيخان يقيدان ذلك بما إذا لم يخف منها، أما إن خيف منها فلا قسم لها.
(تنبيه) : الحق في القسم للأمة دون السيد، فلها أن تهب ليلتها لزوجها أو لبعض ضرائرها، وليس ذلك للسيد، وزعم القاضي أن قياس قول أحمد استئذان سيد الأمة كما في العزل، والله أعلم.

قال: وإذا سافرت زوجته بغير إذنه فلا نفقة لها ولا قسم.
ش: هذا مما لا خلاف فيه ولله الحمد؛ لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد تعذر ذلك بفعلها، أشبه ما لو لم تسلمه نفسها ابتداء، والله أعلم.

قال: وإن كان هو أشخصها فهي على حقها من ذلك.
ش: إذا كان هو سفرها فهي على حقها من النفقة والقسم، لأن

(5/345)


المنع جاء من جهته، لا من جهتها، فلم يسقط حقها، كما لو أتلف المشتري المبيع لم يسقط حق البائع من الثمن.
(تنبيه) : الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ما إذا سفرها هو، أو سافرت بغير إذنه، وبقي إذا سافرت بإذنه لمصلحتها، وفي بعض نسخ الخرقي: وإذا سافرت زوجته بإذنه، وعليها شرح أبو محمد، وبالجملة في المسألة ثلاثة أوجه: (أحدها) ، وهو اختيار القاضي وأبي محمد: لا قسم لها ولا نفقة، لما تقدم في المسألة قبل، (والثاني) : هما لها، لأنه لما أذن لها كأنه رضي بإسقاط حقه، وبقاء حقها، (والثالث) : لها النفقة دون القسم، كما لو سافر عنها، والله أعلم.

قال: وإذا أراد سفرا فلا يخرج معه منهن واحدة إلا بقرعة.
ش: إذا أراد سفرا وأخذ بعض نسائه دون بعض، فإنه لا يجوز له أخذ إحداهن إلا بقرعة، لتساويهن في الحق، وحذارا من الميل.
2670 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه» . ويستثنى من ذلك إذا رضي الزوجات بسفر واحدة معه، فإنه يجوز بلا قرعة، إذ الحق لهن، نعم إذا لم يرض الزوج بها، وأراد غيرها صير إلى القرعة، والله أعلم.

(5/346)


قال: فإذا قدم ابتدأ القسم بينهن.
ش: أي إذا قدم من السفر ابتدأ القسم بين النسوة، ولم يقض للمقيمات؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لم تذكر قضاء في حديثها؛ ولأن ما يحصل للمسافر بها من السكن، يقابله ما يحصل لها من المشقة والتعب، والحديث مسكوت فيه عن القضاء، وقيل: يقضي في سفر النقلة دون سفر الغيبة، وقيل: يقضي في السفر القريب دون البعيد، ومحل الخلاف في زمان السير، أما ما تخلل السفر أو تعقبه من الإقامة، فإن أبا البركات قال: يقضيه. وأطلق، وشرط أبو محمد للقضاء أن يقيم مدة يمتنع فيها من القصر، وكلام الخرقي يشمل فيما إذا سافر بقرعة، أما إن سافر بغير قرعة فإنه يقضي للبواقي، قاله غير واحد، وقال أبو محمد: ينبغي أن يقضي مدة الإقامة لا زمان السير، والله أعلم.

قال: وإذا أعرس على بكر أقام عندها سبعا ثم دار، ولا يحتسب عليها بما أقام عندها، وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا، ولا يحتسب أيضا عليها بما أقام عندها.

(5/347)


2671 - ش: الأصل في ذلك ما في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا ثم قسم» قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2672 - وفي الدارقطني عن أنس قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة ثم يعود إلى نسائه» .
2673 - «وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، وقال: «ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، والدارقطني ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين دخل بها: «ليس بك هوان على أهلك، إن شئت أقمت عندك

(5/348)


ثلاثا خالصة، وإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي» ، قالت: تقيم معي ثلاثا خالصة» .
وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكلام غيره يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وصرح به أبو محمد في المغني، وفي الرعاية احتمال أن الأمة على النصف من الحرة، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة إنما صوروا المسألة فيما إذا تزوج امرأة على أخرى، والحديث إنما ورد في ذلك، وقد يقال: إن ذلك تنبيه على ما إذا لم يكن تحته زوجة، لأنه إذا لا يسقط حق أحد، ثم إن الحكم معلل بإزالة الاحتشام ونحوه وهو شامل.
(تنبيه) : لو أرادت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل وقضاهن للبواقي للحديث، والله أعلم.

[النشوز بين الزوجين]
قال: وإذا ظهر منها ما يخاف معه نشوزها وعظها، فإن أظهرت نشوزا هجرها، فإن أردعها وإلا فله أن يضربها ضربا لا يكون مبرحا.

(5/349)


ش: النشوز كراهة كل واحد من الزوجين صاحبه، وسوء عشرته، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع، فكأن كلا منهما ارتفع عما عليه، وإذا ظهر من المرأة ما يخاف معه نشوزها مثل أن تتثاقل إذا دعاها أو تجيب متبرمة متكرهة، وعظها بأن يذكر لها ما يلين قلبها من ثواب وعقاب، فيذكر لها ما وجب له عليها من الطاعة، وما عليها في مخالفته، لقول الله سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن أصرت على ذلك وأظهرت النشوز، بأن امتنعت من إجابته إلى الفراش، أو خرجت من بيتها بغير إذنه ونحو ذلك، هجرها في المضجع ما شاء، لقوله سبحانه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وله هجرها في الكلام، لكن فيما دون ثلاثة أيام.
2674 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» فإن أصرت على الامتناع فله أن يضربها، لقوله سبحانه: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ويضربها ضربا غير مبرح، أي غير شديد.
2675 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا

(5/350)


تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» رواه مسلم، وتقدير الآية الكريمة على هذا التقرير عند أبي محمد: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن فاضربوهن، كآية المحاربة، وفيه تعسف، ومقتضى كلام أبي البركات وأبي الخطاب أن الوعظ والهجران والضرب على ظهور أمارات النشوز، لكن على جهة الترتيب قال المجد: إذا بانت أماراته زجرها بالقول، ثم يهجرها في المضجع والكلام دون ثلاث، ثم يضرب غير مبرح، وهذا ظاهر الآية الكريمة، غايته أن الواو وقعت للترتيب، إما لأن ذلك من مقتضاه أو لدليل من خارج، وهو أن المقصود زوال المفسدة، فيدفع بالأسهل فالأسهل، فله أن يضربها ضربا غير مبرح؛ فأجاز ضربها بمجرد العصيان، وهو مقتضى الحديث السابق، وقد قاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته بعرفة. ولو ترتب الضرب على الهجران لبينه، لأنه وقت حاجة، لتفرق الناس ورجوعهم إلى أوطانهم، والله أعلم.

(5/351)


قال: والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، مأمونين برضى الزوجين وتوكيلهما، بأن يجمعا إن رأيا أو يفرقا، فما فعلا من ذلك لزمهما.
ش: قد تقدم إذا ظهر من المرأة النشوز أو أماراته، فإن خرجا من ذلك إلى العداوة، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكمين، إن رأيا المصلحة في الصلح أو التفريق بينهما فعلا، ولزم الزوجين فعلهما، لقول الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما (فعنه) ما يدل على أنهما وكيلان للزوجين، لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا، هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير، والشريف أبا جعفر، وابن البنا لم يذكروا خلافا، ونصبه أبو الخطاب؛ ولأن البضع حق للزوج، والمال حق للمرأة، وهما رشيدان، فلم يجز لغيرهما التصرف عليهما إلا بوكالة منهما، كما في غير ذلك (وعنه) ما يدل على أنهما حكمان، يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق، بعوض أو غيره، من غير رضى الزوجين، وهو ظاهر الآية الكريمة، لتسميتهما حكمين، ومخاطبتهما بقوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35] وعدم اشتراط رضى الزوجين.

(5/352)


2676 - وقد روى أبو بكر بسنده عن عبيدة السلماني، أن رجلا وامرأة أتيا عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها؛ فبعثوا حكمين، ثم قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحق، عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي. فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كذبت حتى ترضى بما رضيت به.
2677 - ويروى أن عقيلا تزوج فاطمة بنت عتبة، فتخاصما، فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فبعث حكما من أهله عبد الله بن عباس، وحكما من أهلها معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما. وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف: فلما بلغا الباب كانا قد أغلقا الباب واصطلحا، وعلى كلتي الروايتين يشترط في الحكمين

(5/353)


أن يكونا) من أهل العدالة، أما على الثانية فظاهر، وأما على الأولى فلأن الوكيل إذا كان منصوبا من جهة الحاكم فلا بد وأن يكون عدلا (وأن يكونا) عالمين بالجمع والتفريق؛ لأنهما منصوبان لذلك، وهل تشترط حريتهما؟ فيه وجهان مبنيان عند أبي محمد على الروايتين، وعن القاضي اشتراط الحرية، وصححه ابن حمدان، وذلك يمنع البناء، ويشترط (أن يكونا) ذكرين، قاله أبو محمد؛ لأن ذلك يفتقر إلى رأي ونظر، والمرأة بمعزل عنهما، وقد يقال بالجواز على الرواية الثانية، والأولى أن يكونا من أهلهما، لإرشاد الرب سبحانه لذلك، لكونهما أشفق عليهما، وأدعى لطلب الحظ لهما، ولا يجب، لأن القرابة لا تشترط في الوكالة، ولا في الحكم، وينبني على الروايتين أنه إذا غاب الزوجان أو أحدهما بعد بعث الحكمين فعلى الأولى لا ينقطع نظرهما، إذ الوكالة لا تبطل بالغيبة، وعلى الثانية فيه احتمالان، حكاهما في الهداية (أحدهما) - وقطع به أبو محمد، وأورده أبو البركات مذهبا -: ينقطع، إذ كل من الزوجين محكوم له وعليه، والقضاء للغائب لا يجوز؛ (والثاني) : لا ينقطع، إذ المغلب في الحكم الحكم على كل منهما، وإن جن الزوجان انقطع نظرهما على الأولى، بناء على أن الوكالة تبطل بالجنون على المذهب، وعلى الثانية لا ينقطع قاله أبو محمد تبعا لأبي الخطاب

(5/354)


في الهداية، وأورده أبو البركات مذهبا، وجزم أبو محمد في الكافي والمغني بامتناع الحكم، معللا بأن من شرط الحكم بقاء الشقاق، ولا يتحقق ذلك مع الجنون، ويظهر أن التعليل هنا كالتعليل في الفرع الذي قبله، والله أعلم.

[مشروعية الخلع]
قال: والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل، وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه.
ش: إذا كرهت المرأة زوجها لخلقه أو خلقه، أو دينه أو كبره ونحو ذلك، وخشيت أن لا تقوم له بما يجب له عليها، فلا بأس أن تفتدي نفسها منه بعوض، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
2678 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته؟» فقالت: نعم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة» رواه البخاري والنسائي، وفي لفظ: ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا» . ويسمى هذا خلعا، أخذا من خلع الثوب،

(5/355)


كأنها تنخلع من لباس زوجها.

قال: ولا يستحب له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
2679 - ش: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد؛» رواه ابن ماجه.
2680 - وعن أبي الزبير «أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان أصدقها حديقة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟» قالت: نعم وزيادة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما الزيادة فلا ولكن حديقته» قالت: نعم. فأخذها له وخلا سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال:

(5/356)


قد قبلت قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الدارقطني بإسناد صحيح، وقال: سمعه أبو الزبير من غير واحد.
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الاستحباب، وأنه لو أخذ أكثر مما أعطاها جاز وصح الخلع، وهذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب، لعموم: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وحملا للمنع في الحديث على الكراهة، ومنع أبو بكر من ذلك، وأوجب رد الزيادة، أخذا بظاهر الحديث، وقصرا للعام على بعض أفراده وملخصه أنه لا بد من مخالفة ظاهر، وإنما النظر في أي الظاهرين أولى بالحمل عليه، والله أعلم.

قال: ولو خالعته لغير ما ذكرناه كره لها ذلك ووقع الخلع.
ش: أي لغير البغض وكراهة منع حقه، وهو أن يكون الحال بينهما مستقيمة، والمذهب المنصوص المشهور المعروف –

(5/357)


حتى أن أبا محمد حكاه عن الأصحاب - وقوع الخلع مع الكراهة، لعموم قول الله سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] (وعن أحمد) ما يدل على عدم الجواز، قال: الخلع مثل حديث سهلة تكره الرجل، فتعطيه المهر فهذا الخلع، وظاهر هذا أن غير هذا ليس بخلع، وفيه أيضا دليل لقول أبي بكر في المسألة قبل، وإلى هذا ميل أبي محمد قال: الحجة مع من حرمه، وذلك لقول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] منع سبحانه من الأخذ مطلقا، واستثنى منه صورة، فيبقى فيما عداها على مقتضى المنع، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] مفهومه أن الجناح لاحق بها إن افتدت من غير خوف ثم أكد سبحانه وتعالى بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] .

(5/358)


2681 - وفي السنن: «أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس عليها فحرام عليها رائحة الجنة» وقوله سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] الضمير راجع إلى الصداق، وهذا الشيء منه لا بد وأن يكون بعضه، وإذا لا دليل في الآية، أو محمول على غير حال العقد، ولا يلزم من الإباحة بغير عقد الإباحة بعقد، بدليل الربا، ثم إن الله سبحانه قال: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ولا هناءة مع الكراهة، فكيف يستدل به.
ومما قد يدخل تحت كلام الخرقي إذا عضلها لتفتدي نفسها، فإنه خلع لغير ما ذكره، لكن لا نزاع عندنا في عدم صحة هذا للآية الكريمة: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] ولقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] نعم يستثنى من ذلك صور: (إحداها) : إذا زنت له أن يعضلها لتفتدي، لقوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ؛ (الثانية) : إذا ضربها على نشوزها ونحو ذلك لم يحرم خلعها

(5/359)


لذلك، لأنها إذا لم تجبه لما يجب له عليها فقد خافت ألا تقيم حدود الله؛ (الثالثة) : إذا ضربها ظلما لا لقصد الافتداء لم تحرم مخالعتها، قاله أبو محمد، وهو مقتضى كلام غيره، لأنه لم يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، نعم عليه إثم الظلم بلا ريب، وحيث قلنا بعدم صحة الخلع فإن النكاح بحاله، والعوض مردود، إلا إن جعلناه طلاقا فإنه يكون رجعيا، والله أعلم.

[الخلع طلاق أم فسخ]
قال: والخلع فسخ في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى أنه تطليقة بائنة.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة في المذهب، واختيار عامة الأصحاب، متقدمهم ومتأخرهم اعتمادا على ظاهر القرآن العظيم، فإن الله سبحانه قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وظاهره أن الخلع ليس بطلاق، وإلا يكون الطلاق أربعا، ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق، فكانت فسخا كبقية الفسوخ، (ووجه الثانية) أن الخلع من كنايات الطلاق، وقد أتى به قاصدا للفراق، وكان طلاقا كبقية الكنايات، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

(5/360)


حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خذ الحديقة، وطلقها تطليقة» ويجاب عن هذا بأنه لا نزاع في أن له أن يأخذ العوض ويطلقها، وأنه إذا أتى بلفظ الطلاق أنه يكون طلاقا، وإنما النزاع فيما وراء ذلك، والله أعلم، وعلى هذه الرواية لا كلام، أما على الأولى فهل الخلع فسخ مطلقا أو بشرط أن لا ينوي به الطلاق؟ فيه روايتان أشهرهما الثانية، وعلى كل حال متى وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق بلا ريب، وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه فسخا لم ينقص عدد الطلاق، وإلا نقصه.
(تنبيه) : ألفاظ الخلع الصريحة: خالعتك، وفاديتك، وفسخت نكاحك، وما عداها كأبنتك ونحوه كناية، والله أعلم.

قال: ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به.
2682 - ش: لأن ذلك قول ابن عمر وابن الزبير، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا

(5/361)


يعرف لهما مخالف، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاقه، كالمطلقة قبل الدخول، والمنقضية عدتها، وقوله: ولو واجهها به. يحترز من قول النعمان ومن وافقه أنه يلحقها الصريح المعنى، دون الكناية، والطلاق المزيل ككل امرأة له طالق، والله أعلم.

قال: ولو قالت له: اخلعني على ما في يدي من الدراهم، ففعل فلم يكن في يدها شيء، لزمها له ثلاثة دراهم.
ش: قد تضمن كلام الخرقي صحة الخلع بالمجهول، وهو المذهب المعمول به، لإطلاق قول الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولأن الخلع ليس بمعاوضة حقيقة، وإنما هو إسقاط لحقه من البضع، وإذا تدخله المسامحة، وقال أبو بكر: لا يصح الخلع، لأنه معاوضة، أشبه البيع، ولا تفريع على هذا، أما على الأول فمقتضى كلام الخرقي أنه إن كان في يدها دراهم فهي له وإن قلت، ولا شيء له سواها، لأن الذي خالعته عليه وهو شيء من الدراهم قد وجد، وإن لم يكن في يدها شيء فله ثلاثة دراهم، لأنه أقل الجمع حقيقة، بدليل ما لو وصى له بدراهم، ولأبي محمد احتمال أنه إذا كان في يدها دون

(5/362)


الثلاثة دراهم لزمها ثلاثة، كما لو لم يكن في يدها شيء، والذي يظهر لي أن (من) هنا لبيان الجنس، وأنه إنما له ما في يدها، أو أقل ما يتناوله الاسم إن لم يكن في يدها شيء.
واعلم أن أبا البركات له في الخلع على المجهول تحرير حسن لم أره لغيره، وملخص ما قاله في هذه الصورة أن الذي قاله الخرقي على مختاره من صحة الخلع بغير عوض، أما إن قيل باشتراط العوض فهنا يجري قول أبي بكر بالبطلان، والمشهور خلافه، وعلى المشهور هل يجب كما تقدم أو يبطل المسمى ويجب مهر المثل أو إن وجد شيء فهو له، وإلا وجب مهر المثل؟ على ثلاثة أوجه، والله أعلم.

[الخلع على غير عوض]
قال: ولو خالعها على غير عوض كان خلعا ولا شيء له.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، لأنه قطع للنكاح، فصح من غير عوض كالطلاق، ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن يوجد من المرأة رغبة عن زوجها، وتحتاج إلى فراقه فتسأله ذلك، فإذا أجابها فقد حصل المقصود منه، (والثانية) : لا يصح إلا بعوض، اختارها القاضي وجمهور أصحابه، أبو الخطاب، والشريف، والشيرازي وغيرهم، لأن الخلع الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعوض، والأصل عدم جواز ما عداه، ولأن الخلع (إن كان) فسخا فالزوج لا يملك فسخ النكاح إلا لعيبها، بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة، فلا يجتمع له العوض

(5/363)


والمعوض، (وإن كان) طلاقا فليس بصريح فيه اتفاقا، وإنما هو كناية، والكناية لا بد فيها من النية أو ما يقوم مقامها، وهو والحال هذه بدل العوض، ولم يوجد واحد منهما، فعلى هذه الرواية إن خلا عن عوض لم يقع به شيء إلا حيث نجعله طلاقا، فيكون طلاقا رجعيا، والله أعلم.

قال: ولو خالعها على ثوب ونحوه فخرج معيبا، فهو مخير بين أن يأخذ أرش العيب أو قيمة الثوب ويرده.
ش: الخلع على ثوب ونحوه له حالتان: (إحداهما) : أن يكون معينا وهو ينقسم قسمين منجزا ومعلقا، (فالمنجز) - وهو مراد الخرقي - أن يقول: خلعتك على هذا الثوب، فهذا إن لم يعلم به عيب حين العقد ثم اطلع على عيب، فإنه يخير بين أخذ أرش العيب عوضا عن الجزء الفائت، وبين رد الثوب وأخذ قيمته سليما، لأن مقتضى المعاوضة أنه إذا رد الثوب رجع في مقابله وهو البضع، لكن ذلك متعذر، لأن البينونة إذا وقعت لا ترتفع، فيرجع ببدل ما رضي به، وهو الثوب، وفيه البحث السابق في الصداق، أنه كان ينبغي أن يرجع في بدل البضع وهو مهر المثل.

(5/364)


وفي المذهب: رواية أخرى أنه لا أرش له مع إمساكه كالرواية المذكورة في البيع والصداق، (والمعلق) أن يقول: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق. وهذا المنصوص عن أحمد، وهو اختيار الشيخين، لأنه إذا اطلع فيه على عيب فلا شيء له، تغليبا للشرط، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنه كالذي قبله، تغليبا للمعاوضة؛ (والحال الثانية) : أن يكون غير معين، وهو قسمان أيضا (أحدهما) : أن يكون موصوفا بصفات السلم في الذمة، فهذا إذا سلمته إليه فوجد به عيبا (فله إمساكه) لأن غايته أنه قد رضي بدون حقه، (ورده) وأخذ بدله، لأن الذي وجب له في الذمة سليم، فيرجع إليه؛ (الثاني) : أن يكون مجهولا، كأن يخالعها على ثوب، فإن لم نشترط العوض فله أقل ما يتناوله الاسم، وإن اشترطناه فهل يصح الخلع والحال هذه؟ فيه وجهان، المذهب منهما الصحة، وعليه فهل يجب أقل ما يتناوله الاسم، أو قدر مهر مثلها؟ فيه وجهان، والله أعلم.

قال: وإذا خالعها على عبد فخرج حرا أو استحق كان عليها قيمته.
ش: لتعذر أخذه، والرجوع في البضع، وإذا فيرجع في بدل ما رضي به، وهو قيمته، وفيه الإشكال السابق، وقول الخرقي: خرج حرا أو استحق، يحترز عما إذا خالعها على ما يعلمان أنه حر أو مغصوب، فإنه لا شيء له بلا ريب، لكن هل يصح الخلع أو يكون كالخلع بغير عوض؟ فيه طريقتان للأصحاب،

(5/365)


(والأولى) طريقة القاضي في الجامع الصغير، وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، (والثانية) طريقة الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي والشيخين، والله أعلم.

قال: ولو قالت له: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة لم يكن له شيء، ولزمتها التطليقة.
ش: أما وقوع الطلاق بها فلا خلاف فيه، لأنه أتى بلفظه الصريح، وأما الألف فلا يستحق منها شيئا على المنصوص، والمجزوم به عند عامة الأصحاب، لأنها إنما بذلتها في مقابلة الثلاث، ولم تحصل، وصار كما لو قال: بعني عبديك بألف. فقال: بعتك أحدهما بخمسمائة. وفارق إذا قال: من رد عبيدي فله كذا. فرد بعضهم، فإنه يستحق بالقسط، لأن غرضه يتعلق بكل واحد من العبيد، وهنا غرضها يتعلق ببينونة كبرى وما حصلت، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يستحق ثلث الألف، كما لو قال: من رد عبيدي الثلاثة فله ألف درهم. فرد أحدهم كان له ثلث الألف، فلو لم يكن بقي من طلاقها إلا واحدة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف. فطلقها الواحدة، فالذي عليه الأصحاب هنا فيما علمت أنه

(5/366)


يستحق الألف، لأن الواحدة إذا تحصل ما تحصل الثلاث من البينونة الكبرى، فالغرض الذي طلبته المرأة حاصل لها، ولأبي محمد في المقنع احتمال أنها إذا لم تعلم ليس له إلا ثلث الألف، لأنها مع العلم معنى كلامها: كمل لي الثلاث. بخلاف ما إذا لم تعلم، فإن الألف مبذولة في الطلقات الثلاث، فتقسطت عليها، والله أعلم.

قال: وإذا خالعته الأمة بغير إذن سيدها على شيء معلوم كان الخلع واقعا، ويتبعها إذا عتقت بمثله إن كان له مثل وإلا قيمته.
ش: إذا خالعته الأمة فلا يخلو إما أن يكون بإذن سيدها أو بغير إذنه، فإن كان بإذنه صح بلا ريب، كما لو أذن لها في تجارة أو نحوها، ومحل العوض كمحله في استدانتها، يتعلق بذمة سيدها على المذهب، وإن كان بغير إذنه فهل يصح؟ فيه وجهان: (أحدهما) - وهو مقتضى المحكي عن القاضي في المجرد، وأورده أبو البركات مذهبا - لا يصح، لأن الخلع عقد معاوضة، فلم يصح منها كالبيع ونحوه، (والثاني) - وهو الذي قطع به الخرقي، والقاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في الهداية، والشريف وأبو محمد في كتبه الثلاثة - يصح، لأنه إذا صح الخلع مع الأجنبي فمع الزوجة أولى، والخلع يفارق البيع، بدليل صحته على المجهول، وبغير عوض على رواية، وغير ذلك، ويتخرج لنا

(5/367)


(وجه ثالث) : أنها إن خالعته في ذمتها صح، وعلى شيء في يدها لا يصح كبيعها، ويجوز في رواية تقدمت، وعلى القول بالصحة قال الخرقي وعامة من تبعه: تتبع بالعوض بعد العتق، لتعذر الأخذ منها في الحال، فيرجع عليها حين يسارها، وقال أبو محمد: إن وقع على شيء في الذمة فكذلك، وإن وقع على عين فقياس المذهب أنه لا شيء له، قال: لأنه إذا علم أنها أمة فقد علم أنها لا تملك العين، فيكون راضيا بغير عوض، ويلزم من هذا التعليل بطلان الخلع على المشهور، لوقوعه بغير عوض، والله أعلم.

قال: وما خالع العبد به زوجته من شيء جاز.
ش: لأنه إذا صح طلاقه من غير عوض، فبعوض أولى وأحرى.
قال: وهو لسيده.
ش: يعني عوض الخلع الذي خالع به العبد لسيده، لأنه من كسبه، وكسبه لسيده، ولم يتعرض الخرقي لمن يقبضه، وقد يقال: إن ظاهر كلامه أن السيد هو الذي يقبضه، وهو اختيار أبي محمد، وصاحب النهاية، كبقية أملاك السيد، وظاهر كلام أحمد واختاره القاضي، أن للعبد قبضه، لأنه لما ملك العقد تبعه عوضه والله أعلم.

(5/368)


قال: وإذا خالعت المرأة في مرض موتها بأكثر من ميراثه منها فالخلع واقع، وللورثة أن يرجعوا عليه بالزيادة.
ش: مخالعة المريضة صحيحة بلا ريب، كبيعها ونحو ذلك، ثم إن كان المسمى قدر ميراثها منه فأقل فلا كلام، وإن كان أزيد وقف الزائد على إجازة الورثة، لأنها إذا متهمة، لاحتمال قصدها أن يعطى الوارث زيادة على إرثه، فأشبه ما لو أقرت له، والله أعلم.

قال: ولو طلقها في مرض موته، وأوصى لها بأكثر مما كانت ترث، فللورثة أن لا يعطوها أكثر من ميراثها.
ش: هذا أيضا من مشكاة الذي قبله، لأنه إذا أوصى لها بأكثر من ميراثها فهو متهم، لأنه يريد أن تبقى أجنبية ليتوصل إلى إعطائها أكثر من ميراثها، بخلاف ما إذا كان بالثلث فما دون، فإن التهمة منتفية، انتهى، وفي بعض النسخ: ولو خالعها. وعليها شرح أبو محمد، وهي أمس وفيها دلالة على صحة خلع المريض وهو واضح، لأنه يصح طلاقه، فمخالعته أولى، والله أعلم.

قال: ولو خالعته بمحرم وهما كافران، فقبضه ثم أسلما أو أحدهما، لم يرجع عليها بشيء.
ش: تخالع الكفار صحيح، لأنه يصح طلاقهم، فصح تخالعهم كالمسلمين، ثم إن كان العوض صحيحا فواضح، وإن كان محرما - كالخمر والخنزير - فإن قبضه الزوج فقد مضى

(5/369)


حكمه، ولا شيء له وإن أسلم، كما لو تبايعا ذلك وتقابضا، ودليل الأصل قوله سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] وإن لم يقبضه فقال القاضي في الجامع الكبير: لا شيء له، لرضاه بما ليس بمال، أشبه المسلمين إذا تخالعا على ذلك، وقال في المجرد: يجب مهر المثل، لأن العوض فاسد، فرجع إلى قيمة المتلف، وهو مهر المثل، واختار أبو محمد أنه يجب قيمة ذلك عند أهله، لأنه إنما رضي بعوض، وقد تعذر العوض، فيرجع في بدله، وهذا قياس المذهب، كما لو خالعها على عبد فخرج حرا أو نحو ذلك، وفارق المسلم إذا خالع على ذلك، لأنه رضي بغير عوض، والله سبحانه أعلم.

(5/370)