شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الطلاق]
ش: الطلاق لغة التخلية، يقال: طلقت الناقة. إذا سرحت حيث شاءت، وجلس فلان في الحبس طلقا، إذا كان بغير قيد، والإطلاق الإرسال، وهو في الشرع راجع لذلك، لأنه حل قيد النكاح، ومن حل نكاحها فقد خليت، ويقال: طلقت المرأة وطلقت، بفتح اللام وضمها، تطلق بضم اللام فيهما، طلاقا وطلقة، والله أعلم.

[طلاق السنة والبدعة]
قال: وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها.
ش: طلاق السنة ما أذن فيه صاحب الشرع، وعكسه طلاق البدعة، ولا خلاف أن المطلق على هذه الصفة مطلق للسنة، قاله ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما، والأصل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله سبحانه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .

(5/371)


2683 - قال ابن مسعود في تفسيرها: طاهرا من غير جماع، ونحوه عن ابن عباس.
2684 - وفي الصحيحين «أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» ، وفي رواية في الصحيحين أيضا: «ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى» .
وقول الخرقي: طاهرا. يخرج الحائض، وقوله: من غير جماع، يخرج الطاهر المصابة في الطهر، ولا نزاع أن طلاق هاتين للبدعة، وقد دل عليه ما تقدم، وقوله: واحدة ويدعها حتى تنقضي عدتها؛ يحترز عما لو طلقها أكثر من واحدة في طهر، أو طلق في كل طهر طلقة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

(5/372)


قال: ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يصبها فيه كان أيضا للسنة، وكان تاركا للاختيار.
ش: هذا (إحدى الروايتين) عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
2685 - لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة؛ وفي رواية: طلقها ثلاثا. الحديث.
2686 - وكذلك «امرأة رفاعة قالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي؛» وظاهره وقوع الثلاث بكلمة واحدة.
2687 - وفي حديث المتلاعنين في الصحيح «قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي رواية لأبي داود: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنفذه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - ولم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر ذلك، ولو لم يكن للسنة لأنكره، (والرواية الثانية) وهي أنصهما أن جمع الثلاث بدعة، وهذا اختيار أبي بكر، وأبي حفص، والقاضي والشريف، وأبي الخطاب والشيرازي،

(5/373)


والقاضي أبي الحسين وأبي محمد، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1 - 2] ثم قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] ومن طلق ثلاثا لم يبق له أمر يحدث، ولم يجعل له مخرجا ولا يسرا.
2688 - قال مجاهد: كنت عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس؛ وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) رواه أبو داود.

(5/374)


2689 - وعن محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟» رواه النسائي.
2690 - وأما حديث فاطمة بنت قيس ففيه في مسلم وأبي داود والنسائي أنها قالت: إن أبا حفص طلقها آخر ثلاث تطليقات، وفي رواية أخرى لهم: أنه بعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها. وهذا يبين أن رواية: طلقها ثلاثا. أو طلقها ألبتة، يعني أنه استوفى عدد طلاقها، وكذلك يحمل حديث ركانة، مع أنه لم

(5/375)


يكن بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ينكر عليه، وأما حديث المتلاعنين فالمنع من الثلاث إنما كان حذارا من سد الباب عليه، والملاعنة تحرم على التأبيد، فلا حاجة للمنع من الثلاث، (وعلى هذه) فهل المحرم جمع الثلاث في طهر واحد، فلو فرقها في ثلاثة أطهار لم يكن محرما، أو لا فرق بين أن يجمعها في طهر واحد أو في ثلاثة أطهار؟ على روايتين (إحداهما) : أن المحرم الجمع، لظاهر حديث ابن عمر الصحيح: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس» ؛ (والثانية) : لا فرق بين الجمع والتفريق، في أن الجميع بدعة.
2691 - لما روى الدارقطني عن الحسن قال: «حدثنا عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرأين، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر، فتطلق لكل قرء» قال: فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراجعتها، ثم قال: «إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك» فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: «لا، كانت تبين منك وتكون معصية» .

(5/376)


2692 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها. رواه النجاد، وحديث ابن عمر محمول على حصول رجعة بعد الطلاق، وإذًا الطلاق بعد الرجعة للسنة بلا ريب، ويتلخص أن في المسألة ثلاث روايات. (الثالثة) : الجمع في الطهر الواحد بدعة، والتفريق سنة.
واعلم أن بين الشيخين نزاعا في فرع آخر، وهو لو طلقها طلقتين، فعند أبي محمد أنه للسنة وإن كان الجمع بدعة، لكن الأولى عنده أن يطلق واحدة، وعند أبي البركات أنه كما لو جمع الثلاث، والله أعلم.

(5/377)


(تنبيه) : أكثر الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق في الحيض تطويل العدة، وخالفهم أبو الخطاب فقال: تطليقه في زمن رغبته عنها، قال أبو العباس: وقد يقال: إن الأصل في الطلاق النهي عنه، فلا يباح إلا وقت الحاجة، وهو الطلاق الذي تتعقبه العدة، لأنه لا بد من عدة، والعلة في منع الطلاق في الطهر المصاب فيه احتمال الحمل، فيحصل الندم، ولهذا إذا استبان حملها أبيح الطلاق، والعلة في جمع الثلاث سد الباب عليه، وعدم المخرج له، كما أشار إليه الكتاب العزيز، واختلف الأصحاب في الطلاق في الحيض، هل هو محرم لحق الله تعالى، فلا يباح وإن سألته، أو لحقها فيباح بسؤالها؟ على وجهين، (والأول) : ظاهر إطلاق القرآن والسنة، وأما جمع الثلاث فمحرم عند من حرمه لحق الله تعالى، فلا يباح بسؤالها بلا نزاع نعلمه، والله أعلم.

قال: وإذا قال لها أنت طالق للسنة؛ وكانت حاملا أو طاهرا طهرا لم يجامعها فيه؛ فقد وقع الطلاق، وإن كانت حائضا لزمها الطلاق إذا طهرت، وإن كانت طاهرة مجامعة فيه فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة لزمها الطلاق.
ش: اللام في (للسنة) للوقت، فإذا قال لها: أنت طالق للسنة، أي لوقت السنة، فإذا كانت طاهرا غير مجامعة في ذلك

(5/378)


الطهر، فقد وقع الطلاق، لوجود ظرفه، وهو وقت السنة، وكذلك إن كانت حاملا.
2693 - لأن في مسلم والسنن من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ؛ وفي لفظ: «إذا طهرت أو وهي حامل» » ، وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة، ولأن المطلق والحال هذه داخل على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد معه الندم. انتهى، وإن كانت حائضا فهذا ليس بوقت للسنة، فلم يوجد ظرف الطلاق، فإذا طهرت وجد وقت السنة، فتطلق، وكذلك إن كانت طاهرة مجامعة في الطهر، لم يوجد ظرف الطلاق، ثم هذا الطهر يتعقبه الحيض، وهو أيضا وقت للبدعة لا للسنة، فإذا طهرت منه وجد وقت السنة فتطلق لوجود ظرفه.
وظاهر كلام الخرقي أن بمجرد الطهر يوجد وقت السنة، وإن لم تغتسل، وهذا هو المذهب، وقيل: لا يوجد حتى تغتسل، ولعل مبنى القولين على أن العلة في المنع من طلاق الحائض إن قيل تطويل العدة، وهو المشهور أبيح الطلاق بمجرد الطهر، وإن قيل الرغبة عنها لم يبح حتى تغتسل، لمنعها منه قبل الاغتسال، والله أعلم.

(5/379)


قال: ولو قال لها: أنت طالق للبدعة، وهي في طهر لم يصبها فيه، لم يقع الطلاق حتى يصيبها أو تحيض.
ش: هذه الصورة عكس التي قبلها، فإذا قال لزوجته: أنت طالق للبدعة. معناه لوقت البدعة، فإذا كانت في طهر لم يصبها فيه فهذا ليس بوقت للبدعة فلا تطلق، فإذا أصابها أو حاضت فقد وجد وقت البدعة فتطلق، هذا قول الأصحاب، واختار أبو البركات أنه إذا قال لها: أنت طالق للبدعة، وهي في زمن السنة أنها تطلق طلقتين في الحال إن قلنا: الجمع بدعة، لأنه لما لم يكن في وقت بدعة فالظاهر أنه لم يرد البدعة إلا من حيث العدد، ومعناه: أنت طالق طلاقا للبدعة. أي موصوفا بأنه للبدعة، وإذا تطلق طلقتين، لأنه طلاق موصوف بالبدعة، والله أعلم.

قال: ولو قال لها وهي حائض ولم يدخل بها: أنت طالق للسنة، طلقت من وقتها، لأنه لا سنة فيه، ولا بدعة.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وأشار إلى علته بأنه لا سنة في هذا الطلاق، أي طلاق غير المدخول بها ولا بدعة، وقد حكى ذلك ابن عبد البر إجماعا في غير العدد، وذلك لما تقدم من أن العلة في المنع من الطلاق في الحيض طول العدة، وفي

(5/380)


الطهر المجامع فيه خوف الندم بظهور الحمل، وغير المدخول بها لا عدة عليها، ولا ارتياب في حقها، ولو عكس فقال لغير المدخول بها: أنت طالق للبدعة، وهي طاهر طلقت في الحال لذلك، وكذلك حكم الآيسة والصغيرة، لا سنة لطلاقهما ولا بدعة، وكذلك الحامل المستبان حملها، على أشهر الروايتين، لما تقدم، والرواية الثانية تثبت سنة الوقت للحامل، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، وهو ظاهر كلام الخرقي السابق، ولهذا لم يقل إذا قال لها: أنت طالق للبدعة، أنها تطلق إذا كانت حاملا، وعلى هذا إذا قال للحامل أنت طالق للبدعة؛ لم تطلق في الحال، حتى يوجد نفاس أو حيض.
(تنبيه) : وقول الخرقي: لا سنة فيه ولا بدعة، أي من حيث الوقت، وكذا من حيث العدد على مختاره، وعلى الرواية الأخرى تثبت لهم السنة من حيث العدد، والله أعلم.

[طلاق السكران]
قال: وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع.
ش: طلاق الزائل العقل لجنون أو إغماء أو طفولية لا يقع.
2694 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» رواه أبو داود.

(5/381)


2695 - وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه. ذكره البخاري في صحيحه، مع أن هذا قد حكي إجماعا والحمد لله، وقد يدخل في كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - النائم، وهو أيضا بالإجماع، وقد شهد له النص.
ومما يدخل في كلام الخرقي من تعاطى ما يزيل عقله لغير حاجة، كالبنج ونحوه، وقد اختلف المذهب في هذا، فألحقه ابن حامد وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد بالسكران، وفرق أحمد بينهما، فألحقه بالمجنون، ووجه القاضي الفرق بأن الغالب من الناس أنهم يشربون لغير المعصية، بخلاف المسكر، والحكم يتعلق بالغالب، ولأن كثيرا ممن يشرب المسكر يظهر زوال العقل مع إثباته، فحكم بإيقاع الطلاق سدا للذريعة، بخلاف متعاطي البنج ونحوه، ومما قد يلحق بالبنج الحشيش الخبيثة، وأبو

(5/382)


العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر، حتى في إيجاب الحد، ويفرق بينها وبين البنج، بأنها تشتهى وتطلب، فهي كالخمر، بخلاف البنج، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس وطلبها، والله أعلم.

قال: وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في طلاق السكران روايات، إحداهن: لا يلزمه الطلاق، ورواية: يلزمه، ورواية يتوقف عن الجواب، ويقول: قد اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.
ش: الرواية الأولى اختيار أبي بكر، وابن عقيل فيما أظن، ونص عليها أحمد صريحا في رواية جماعة، بل هي آخر قوليه على ما حكى عنه الميموني، قال: أكثر ما فيه عندي أنه لا يلزمه الطلاق، فقيل له: أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه، قال: بلى ولكن أكثر ما عندي أنه لا يلزمه.
2696 - وذلك لقول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق.

(5/383)


2697 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. ذكرهما البخاري في صحيحه، وقال أحمد: حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرفع شيء فيه، وهو أصح، يعني من حديث علي، وقال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه.
2698 - وقد جاء في حديث بريدة في «قصة ماعز أنه قال: يا رسول الله طهرني. قال: «مم أطهرك؟» قال: من الزنا. فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أزنيت؟» قال: نعم. فأمر به فرجم» . رواه مسلم والترمذي وصححه، وهذا ظاهر في أن وجود ريح الخمر منه

(5/384)


يمنع من ترتب الحكم عليه، ويجعله في حكم المجنون، ولأنه زائل العقل، أشبه المجنون والنائم، ولأن شرط التكليف العقل وهو مفقود، ولا أثر لزوال الشرط بمعصيته، بدليل أن من كسر ساقه جاز أن يصلي قاعدا، ولا قضاء عليه، وكذلك لو ضربت المرأة بطنها فنفست، سقطت عنها الصلاة، (والرواية الثانية) اختارها الخلال والقاضي، وعامة أصحابه، الشريف وأبو الخطاب، والشيرازي وغيرهم.
2699 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، ذكره البخاري في صحيحه.
2700 - وروى ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن، وطلحة

(5/385)


والزبير، فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة؛ فقال عمر: هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجعله الصحابة في حكم الصاحي، بدليل أنهم أوجبوا عليه حد المفتري، ولأن كثيرا ممن يتعاطى ذلك يظهر زوال العقل مع ثباته، فعومل معاملة الصاحي، سدا للذريعة.
ولا يخفى أن أدلة الرواية الأولى أظهر، إذ الحديث الأول وكذلك قصة ابن وبرة لم يذكر من رواهما، ولا يعرف صحتهما.
2701 - ثم يضعف قصة ابن وبرة أن مذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن السكران إنما يجلد أربعين، وما ذكره البخاري عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: كل الطلاق جائز. فغايته عموم (والرواية الثالثة) نص عليها فيما أظن في رواية حرب، وقد ذكر وجه توقفه، وهو اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي التحقيق

(5/386)


لا حاجة إلى ذكر هذه الرواية، لأن أحمد حيث توقف فللأصحاب قولان، وقد نص على القولين، فاستغني عن ذكر رواية التوقف، واعلم أن الروايتين المتقدمتين يجريان في عتقه ونكاحه، وبيعه وردته، وسائر أقواله، وقتله وسرقته، وكل فعل يعتبر له العقل (وعنه) أنه كالمجنون في أقواله، وكالصاحي في أفعاله، لأن تأثير الفعل أقوى من تأثير القول؛ ولهذا قلنا على رواية: إن الإكراه لا يؤثر في الأفعال (وعنه) رابعة أنه في الحدود كالصاحي، وفي غيرها كالمجنون، قال في رواية الميموني: تلزمه الحدود، ولا تلزمه الحقوق، وهذه اختيار أبي بكر، فيما حكاه عنه القاضي، ويلزم أن يقول اختياره في الطلاق عدم الوقوع، وذلك سدا للذريعة، وحذارا من أن تنتهك محارم الله بالاحتمال، ويشهد لها أيضا قصة ابن وبرة إن صحت، (وعنه) رواية خامسة أنه فيما يستقل به مثل عتقه وقتله وغيرهما كالصاحي، وفيما لا يستقل به - مثل بيعه ونكاحه ومعاوضته - كالمجنون، حذارا من أن يلزم غيره بقوله شيء، حكاها ابن حامد، قال القاضي: وقد أومأ إليها في رواية البرزاطي، وقد سأله عن طلاق السكران فقال: لا أقول في طلاقه شيئا، قيل له: فبيعه وشراؤه؟ قال: أما بيعه وشراؤه فغير جائز.

(5/387)


قلت: ونقل عنه إسحاق بن هانيء ما يحتمل عكس هذه الرواية، فقال: لا أقول في طلاق السكران وعتقه شيئا، ولكن شراؤه وبيعه جائز.
(تنبيه) : السكر الذي يقع الخلاف فيه أن يخلط في كلامه، ولا يعرف فعله من فعل غيره، ونحو ذلك، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فجعل سبحانه علامة زوال السكر علمه بما يقول، ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ونحو ذلك، لأن ذلك لا يخفى على المجنون، والله أعلم.

[طلاق الصبي]
قال: وإذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه.
ش: هذه إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار عامة أصحابه، الخرقي وأبي بكر، وابن حامد، والقاضي وأصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل.
2702 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال: فصعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: «يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» رواه ابن ماجه والدارقطني.

(5/388)


2703 - ولما يروى من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» المغلوب على عقله؛ (والثانية) : لا يقع طلاقه حتى يبلغ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، وتقييد الخرقي الصبي بالعاقل ليخرج من لم يعقل، ولا نزاع في ذلك، ولينيط الحكم بالعقل، وكذا أكثر الروايات، وهو اختيار القاضي وغيره، (وعنه) تقييد ذلك بابن عشر، وهو اختيار أبي بكر، لجعله حدا للضرب على الصلاة ونحوها، ومعنى عقل الطلاق أن يعرف أن النكاح يزول به، ويلزم من هذا أن يكون مميزا، والله أعلم.

[طلاق المكره]
قال: ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء.
2704 - ش: لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه.

(5/389)


2705 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا طلاق ولا عتاق في غلاق» رواه أبو داود وهذا لفظه، وأحمد وابن ماجه، ولفظهما «في إغلاق» قال المنذري: وهو

(5/390)


المحفوظ. قال أبو عبيد والقتيبي: معناه في إكراه. وقال أبو بكر: سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا: يريد الإكراه، لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه، وقد تقدم قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز.
2706 - وعن قدامة بن إبراهيم، أن رجلا على عهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدلى يشتار عسلا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل، فقالت: ليطلقها ثلاثا، وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والإسلام فأبت، فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر ذلك له، فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق. رواه سعيد بن منصور، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ويستثنى

(5/391)


من هذا إذا كان الإكراه بحق، كإكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص، إذا لم يف، وإكراه الرجلين اللذين زوجهما وليان، ولم يعلم السابق منهما، لأنه قول حمل عليه بحق فصح، كإسلام المرتد.
وقول الخرقي: ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء. ظاهره وإن نوى به الطلاق، وهو أحد القولين، نظرا إلى أن اللفظ مرفوع عنه بالإكراه، فإذا تبقى نيته مجردة، (والقول الثاني) أنه بمنزلة الكناية، إن نوى به الطلاق وقع وإلا لم يقع، حكاهما أبو الخطاب في الانتصار، وكذلك حكى شيخه عن أحمد ما يدل على روايتين، وجعل الأشبه الوقوع، وكذلك أورده أبو محمد مذهبا، ولا نزاع عند العامة أنه إذا لم ينو الطلاق، ولم يتأول بلا عذر، أنه لا يقع، ولابن حمدان احتمال بالوقوع والحال هذه، والله أعلم.

قال: ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب، مثل الضرب، أو الخنق أو عصر الساق، وما أشبهه، ولا يكون التواعد إكراها.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي وجمهور أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، وقال: كما فعل بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2707 - وكأنه يشير إلى «قصة عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فروي أن المشركين أخذوه فأرادوه على الشرك، فأعطاهم، فانتهى إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو

(5/392)


يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينيه، ويقول: «أخذك المشركون فغطوك في الماء، وأمروك أن تشرك بالله ففعلت، فإن أمروك مرة أخرى فافعل ذلك بهم» » رواه أبو حفص، ووجه الدليل منه أن الرخصة وردت في مثل ذلك، فاقتصرت عليه، ولأن التواعد غير محقق، وغايته ظن، ولا يترك بالظن أمر متيقن (والرواية الثانية) يكون التواعد إكراها، اختارها ابن عقيل في التذكرة، وأبو محمد، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الذي اشتار العسل، ولأن الإكراه إنما يتحقق بالوعيد، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه وإنما يباح الفعل المكره عليه دفعا لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد، (فعلى الرواية الأولى) شرط الضرب أن يكون شديدا، أو يسيرا في حق ذي مروءة، على وجه يكون إخراقا، ومما يشبه الضرب، وعصر الساق القيد والحبس الطويلان، وأخذ المال الكثير، زاد في الكافي: والإخراج من الديار لا السب ونحوه رواية واحدة، قاله في المغني، وجعل في الكافي الإخراق ممن يغض ذلك منه إكراها، وفي تعذيب الولد قولان، وضبط أبو البركات ذلك

(5/393)


بأن يكون مثله يتضرر بذلك تضررا بينا، ولا بد أن يستدام مع الفعل التوعد بذلك، (وعلى الرواية الثانية) شرط التواعد أن يكون بما تقدم من قادر يغلب على ظنه فعله إن خالفه، وعجزه عن دفعه وهربه واختفائه، وهل يستثنى على هذه الرواية التهديد بالقتل فيكون إكراها، لأنه لا يمكن تداركه بعد وقوعه؟ استثناه القاضي في الروايتين، وقال: يجب أن يقال: يكون إكراها، رواية واحدة، وتبعه المجد، وزاد قطع الطرف، ولا شك أن المعنى فيهما واحد، وتبعه المجد، وزاد قطع الطرف، ولا شك أن المعنى فيهما واحد، وظاهر كلام أبي محمد في كتبه عدم استثنائه، وقد أورد على القاضي في التعليق فشمله، وأجاب بالفرق بما تقدم، ثم قال: على أن هذه الرواية لا فرق بين القتل وغيره، على ظاهر كلام أحمد في رواية صالح والمروذي، والله أعلم.

(5/394)