شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب الرجعة]
ش: الرجعة بفتح الراء وكسرها، مصدر رجع يرجع رجعة ورجعة، والأصل فيها قول
الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] والمراد به الرجعة عند العلماء، وأهل التفسير،
وقال سبحانه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] قيل: أمسكوهن برجعة.
2739 - وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ابن
عمر أن يراجع امرأته لما طلقها وهي حائض» .
(5/443)
2740 - «ولما طلق حفصة نزل عليه جبريل -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالأمر بمراجعتها» ، مع أن هذا إجماع والحمد لله.
قال: والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة، وتحرمها الثلاث من الحر،
والاثنتان من العبد.
ش: أما كون الزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة، فإجماع من أهل العلم،
لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]
وإذا لم تكن عليها عدة فهي بائن بمجرد
(5/444)
الطلاق، وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء
عدتها، وأما كون الثلاث أي بكلمة واحدة من الحر تحرمها فلما تقدم، وإنما خص
غير المدخول بها بالتحريم بالثلاث، لشهرة الخلاف فيها، بخلاف ما بعد
الدخول، فإن الثلاث تحرمها في صورة بالإجماع بلا ريب، وهو ما إذا فرقها،
للآية الكريمة، وكذا إذا جمعها على قول العامة كما تقدم، وبالجملة متى حكم
بوقوع الثلاث على الزوجة حرمت بذلك بلا ريب، ويرتفع التحريم بأن تنكح زوجا
آخر بشروطه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الخرقي ما يشير إلى ذلك،
وفرق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الحر والعبد، بناء على ما تقدم له
قبل، من أن الحر يملك ثلاثا، والعبد اثنتين، والله أعلم.
قال: وإذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بها أقل من ثلاث، فله عليها الرجعة ما
دامت في العدة.
ش: أجمع أهل العلم على هذا بشرط أن لا يكون الطلاق بائنا، بأن يكون بعوض أو
يقول لها: أنت طالق طلقة بائنا؛ ونصححه على رواية أو يخالعها بغير عوض،
ونقول بصحته، وأنه طلاق، وأجمعوا أيضا على أنه لا رجعة له إذا انقضت العدة،
وسند الإجماعين قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى: {وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]
(5/445)
أي في مدة القروء فالآية الكريمة دالة
بمنطوقها على منطوق كلام الشيخ، وبمفهومها على مفهومه.
وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه لا يعتبر رضى المرأة في
الرجعة، ولا ريب في ذلك، للآية الكريمة، ولقوله سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فخاطب الأزواج بذلك، فإن قيل: قوله سبحانه:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] يقتضي
بظاهره أن لغيرهن حقا، قيل: الأحقية والحقية كلاهما بالنسبة إلى الزوج،
فإذا أراد إصلاحا - كما نطقت به الآية الكريمة - فهو أحق، وإن لم يرد
إصلاحا فله حق، فتصح منه الرجعة مع النهي عن ذلك.
قال: وللعبد بعد الواحدة ما للحر قبل الثلاث.
ش: قد تقدم أن العبد لا يملك إلا اثنتين، فهو ليس له الرجعة إلا بعد
الواحدة، أما بعد الاثنتين فقد استوفى عدد طلاقه، وبانت منه زوجته.
قال: ولو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا كان له مراجعتها قبل أن تضع
الثاني.
ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فجعل سبحانه الأجل وضع الحمل، والحمل
يتناول
(5/446)
الولدين وأكثر، وإذا كان الأجل وهو العدة
باقيا فله الرجعة، لبقاء العدة، وبطريق الأولى لو وضعت بعض الولد، كان له
الارتجاع قبل وضع بقيته.
[ما تحصل به الرجعة]
قال: والمراجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت امرأتي.
بلا ولي يحضره، ولا صداق يزيده، وقد روي عن أحمد رواية أخرى تدل على أن
الرجعة تجوز بلا شهادة.
ش: الرواية الأولى عزيت إلى اختيار الخرقي، وأبي إسحاق ابن شاقلا في
تعاليقه، ونص عليها أحمد في رواية مهنا، لقول الله سبحانه:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] أمر وظاهر الأمر الوجوب،
ولأنه استباحة بضع مقصود، فوجبت الشهادة فيه كالنكاح (والثانية) نص عليها
في رواية ابن منصور، واختارها أبو بكر، والقاضي وأصحابه، الشريف وأبو
الخطاب، وابن عقيل والشيرازي وغيرهم، لإطلاق: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإذا يحمل الأمر في الآية الكريمة
على الاستحباب، جمعا بينهما، وأيضا فالله سبحانه قال: {وَأَشْهِدُوا}
[البقرة: 282] وليس فيه
(5/447)
ما يقتضي المقارنة للرجعة، فلو أشهد بعد
الرجعة وفى مقتضى الآية، والإشهاد بعد الرجعة مستحب بالإجماع، فكذلك عند
الرجعة، حذارا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد، ولأنها لا
يشترط لها الولي، فلم تشترط لها الشهادة كالبيع، وما قيل في قياس الأولى
أنها استباحة بضع فغير مسلم، إذ الرجعية مباحة على الصحيحة كما سيأتي.
إذا تقرر هذا فجعل أبو البركات هاتين الروايتين على قولنا بأن الرجعة لا
تحصل إلا بالقول، وهو واضح، أما إن قلنا: إنها تحصل بالوطء فكلامه يقتضي
أنه لا يشترط الإشهاد رواية واحدة، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف، وهو ظاهر
كلام القاضي في التعليق، قال: لما أورد عليه أن الوطء لا يكون رجعة: لأن
الله سبحانه أمر بالشهادة، والشهادة لا تتأتى على الوطء، فأجاب: ليس في
الآية ما يقتضي المقارنة، فيطأ ثم يشهد، فأورد عليه أن هذا إشهاد على
الإقرار بالرجعة، وليس بإشهاد على الرجعة، فأجاب: الله سبحانه أمر
بالإشهاد، وأطلق، (ومقتضى) كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرجعة
محصورة في القول، لقوله: والمراجعة أن يقول. فلا تحصل بالوطء ولا بغيره،
(وهذا إحدى الروايات) عن أحمد، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والظاهر من الإشهاد إنما هو
(5/448)
على القول، وقد تقدم جواب القاضي عن هذا،
وأيضا فالرجعة تراد لإصلاح الثلم الداخل في النكاح، ونفس النكاح لا يقع
بالفعل، كذلك إزالة ما دخله من الثلم (والرواية الثانية) أن الرجعة تحصل
بالوطء وإن لم ينو، اختارها ابن حامد، والقاضي وأصحابه، لإطلاق قَوْله
تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:
228] والرد حقيقة في الفعل، بدليل: رددت الوديعة. وأيضا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وحقيقة الإمساك
في الفعل أيضا، ولأنها مدة معلومة، خير بين القول الذي يبطلها، وبين تركها
حتى تمضي المدة، فقام الوطء فيها مقام القول، كالبيع بشرط الخيار، والمعنى
فيهما أن كلا منهما وطؤه دليل على رغبته في الموطوءة، واختيار رجوعها إليه
(والرواية الثالثة) وهي اختيار أبي العباس: إن نوى الرجعة بالوطء حصلت،
للعلم برغبته فيها، وإلا لم تحصل.
وعلى القول بحصول الرجعة بالوطء لا تحصل بالقبلة ولا باللمس، نص عليه أحمد
في رواية ابن القاسم، وعليه
(5/449)
الأصحاب، وإن كانا لشهوة، وخرج القاضي
وغيره رواية بحصول الرجعة بذلك، بناء على ثبوت تحريم المصاهرة بهما، وخرجها
أبو البركات من نصه في رواية ابن منصور على أن الخلوة تحصل بها الرجعة،
قال: فاللمس ونظر الفرج أولى، وقد حكى أبو الخطاب عن الأصحاب أنهم قالوا:
إن الرجعة تحصل بالخلوة، واختار هو أنها لا تحصل، وتبعه على ذلك أبو محمد
في المغني وغيره، إلا أن مقتضى كلامه في المقنع أن أحمد نص على أن الخلوة
لا تحصل بها الرجعة، وليس كذلك فإن نص أحمد في رواية ابن القاسم إنما هو في
اللمس والقبلة، إذ الرجعة لا تحصل بهما، ونصه في الخلوة أن الرجعة لا تحصل
بها، وقد يقال: إن في كلام الأصحاب تهافتا، حيث قالوا: إن الرجعة لا تحصل
بالقبلة ونحوها وقالوا: إنها تحصل بالخلوة، ويجاب بأن الخلوة عندهم بمنزلة
الوطء، بدليل تقرر الصداق، ووجوب العدة بها، ونحو ذلك، فكذلك في حصول
الرجعة.
واعلم أن الأصحاب مختلفون في حصول الرجعة بالوطء، هل هو مبني على القول بحل
الرجعية أم مطلقا، على طريقتين للأصحاب (إحداهما) - وهي طريقة الأكثرين،
منهم القاضي في روايتيه وفي جامعه وجماعة - عدم البناء (والثانية) - وهي
مقتضى كلام أبي البركات، ويحتملها كلام القاضي في التعليق - البناء، فإن
قلنا: الرجعية مباحة حصلت الرجعة بالوطء، وإن
(5/450)
قلنا: محرمة. لم تحصل، وهذه طريقة أبي
الخطاب في الهداية، قال: لعل الاختلاف مبني على حل الوطء وعدمه، وقد تضمن
هذا أن في حل الرجعية خلافا، وهو كذلك كما تقدمت الإشارة إليه، والمذهب
المشهور المنصوص حلها، وعليه عامة الأصحاب، لإطلاق: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] والرجعية من
نسائه، بدليل لو قال: نساؤه طوالق، فإنها تطلق، وأيضا قَوْله تَعَالَى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] فسماه
الله تعالى بعلا، والبعل تباح زوجته، فكذلك هنا، والرد إلى ما كانت عليه،
لزوال الثلم الحاصل بالطلاق، ولأنها في حكم الزوجة في الإرث واللعان، وغير
ذلك، فكذلك في الحل، وأومأ أحمد في رواية أبي داود إلى التحريم، فقال: أكره
أن يرى شعرها، فأخذ من ذلك القاضي ومن تبعه رواية بالتحريم، وهي ظاهر كلام
الخرقي حيث قال فيما تقدم: لأنه متيقن للتحريم، شاك في التحليل، لأنه طلاق،
فأثبت التحريم كالذي بعوض، أو معتدة فحرم وطؤها كالمعتدة التي قال لها: أنت
بائن. انتهى، وقد تقدم أنه مما يبنى على ذلك حصول الرجعة وعدمها، ومما
ينبني عليه المهر إذا وطئها، إن قلنا مباحة
(5/451)
فلا مهر، وكذلك إن قلنا محرمة وطاوعته، أما
إن أكرهها وقلنا محرمة فثلاثة أوجه (الوجوب) مطلقا، وهو ظاهر ما جزم به أبو
الخطاب في الهداية (وعدمه) وبه قطع القاضي في التعليق، وفي الجامع الصغير،
والشريف في خلافه، وإليه ميل أبي محمد (والثالث) التفرقة إن راجعها لم يجب،
وإلا وجب، وبه قطع أبو محمد في المقنع، أما الحد فلا يجب بوطئها بلا ريب،
وإن قلنا بالتحريم، وينبغي أن يلحق النسب به بلا نزاع، لاندراء الحد، قال
أحمد: كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد، ووقع في كلام أبي البركات في
الطلاق ما قيل: إنه يقتضي قولين، بناء على الحل وعدمه، وليس بالبين. انتهى.
وصرح الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه لا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق،
وهو إجماع والحمد لله، وظاهر القرآن يشهد له، وهل يبطل الرجعة التواصي
بالكتمان، نص في رواية أبي طالب على البطلان، وخرج عدمه من نصه على عدم
البطلان بذلك في النكاح.
[الخلاف بين الزوجين في الرجعة]
قال: وإذا قال: ارتجعتك. فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك. فالقول قولها مع
يمينها، إذا ادعت من ذلك ممكنا.
ش: قول المرأة مقبول في عدتها في الجملة، لقول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:
228] قيل: المراد الحمل والحيض، ولولا أن قولها مقبول في ذلك لما حرم عليها
(5/452)
كتمانه، ثم إذا اختلفت هي والزوج هل راجعها
في العدة أم لا؟ فلا يخلو إما أن يكون في وقت حكم بأنه من عدتها، أو في وقت
حكم بانقضاء عدتها فيه، أو في وقت محتمل لهما، فالأول قول الزوج بلا ريب،
لأنه يملك الإنشاء فملك الإقرار، فإذا قال في العدة: راجعتها أمس أو منذ
كذا. قبل قوله، وفي الثاني: القول قولها بلا ريب أيضا كذلك، فإذا قال بعد
انقضاء عدتها: كنت راجعتها. وأنكرته، فالقول قولها، لأنه لا يملك الإنشاء،
فلا يملك الإقرار.
وفي الثالث لا يخلو إما أن تسبقه بالدعوى أو يسبقها بالدعوى، أو يتداعيا
معا، فإن سبقته بالدعوى كأن قالت في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها: قد انقضت
عدتي. فيقول هو: كنت راجعتك. فالقول قولها بلا خلاف نعلمه، لأن خبرها
والحال هذه بانقضاء عدتها مقبول، فبقولها: انقضت عدتي. حكم بانقضاء عدتها،
فدعواه بعد ذلك غير مقبولة، لانتفاء إنشائه، وإذا ينتفي إخباره أيضا.
وإن سبقها بأن قال والحال ما تقدم: راجعتك. فتقول هي: انقضت عدتي قبل
رجعتك. ففيه قولان (أحدهما) - وهو الذي قاله الخرقي، وتبعه عليه الشيرازي
-: القول قولها، لظاهر قول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وإطلاقها
يقتضي أن قولها مقبول مطلقا (والثاني) - وبه قطع أبو الخطاب في الهداية،
واختاره القاضي وغيره - القول قول الزوج، لما تقدم فيما إذا سبقته هي، وعلى
هذا القول
(5/453)
إذا تداعيا معا فهل القول قولها، لترجح
جانبها، أو قول من تقع له القرعة لتساويهما؟ (وجهان) .
وقول الخرقي: ما إذا ادعت من ذلك ممكنا. يلتفت إلى قاعدة، وهو ما الممكن في
انقضاء العدة؟ (فإن كانت) العدة بالأقراء فأقل ما يمكن انقضاء العدة تسعة
وعشرون يوما ولحظة، إن قيل: القرء الحيض، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما، وإن
قيل: خمسة عشر فثلاثة وثلاثون يوما ولحظة، وإن قيل: القرء الطهر، وأقل
الطهر ثلاثة عشر يوما، فثمانية وعشرون يوما ولحظتان، وإن قيل: الطهر خمسة
عشر، فاثنان وثلاثون يوما ولحظتان، إلا أن المنصوص عن أحمد أن المرأة إذا
ادعت انقضاء عدتها بالأقراء في شهر لا يقبل قولها إلا ببينة، وظاهر قول
الخرقي القبول مطلقا، لأنه أناط ذلك بالإمكان، (وإن كانت) العدة بوضع
الحمل، وادعت وضع ولد تام فالممكن ستة أشهر فأزيد منذ إمكان الوطء بعد
العقد، وإن ادعت سقطا فالممكن ثمانون يوما، (وإن كانت) بالأشهر فهو أمر
محدود معروف، والنزاع فيه إنما ينبني على أول وقت الطلاق، والقول قول الزوج
في ذلك، فإذا قال: طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك. وقالت: بل طلقتني في شوال،
فلا رجعة لك. فالقول قوله، إذ الأصل بقاء النكاح، وعكس هذا لو ادعى أنه
طلقها في شوال، لتسقط النفقة، وقالت هي: بل في ذي الحجة، فالقول قولها،
نظرا إلى الأصل أيضا، إذ الأصل بقاء وجوب النفقة، فكذلك إذا لم يكن لها
نفقة، لأنها تقر على
(5/454)
نفسها بما هو أغلظ، وحيث قيل: القول قولها،
فأنكرها الزوج، فهل تجب عليها اليمين، وهو اختيار الخرقي، وأبي محمد لعموم
«اليمين على المدعى عليه» أو لا تجب وقال القاضي: إنه قياس المذهب، إذ
الرجعة لا يصح بذلها، فأشبهت الحدود، وعن أحمد ما يدل على روايتين، وعلى
الأول إن نكلت لم يقض بالنكول، قاله القاضي، ولأبي محمد احتمال أن يستحلف
الزوج، وله الرجعة بناء على القول برد اليمين على المدعى عليه. انتهى.
قال: ولو طلقها واحدة، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية، بنت على ما مضى من
العدة.
ش: لأنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة، فلم يجب بهما أكثر من واحدة،
كما لو والى بينهما، وكذلك الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما،
ونحو ذلك انتهى.
قال: ولو طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم، فاعتدت ثم نكحت غيره،
وأصابها ردت إليه، ولا يطأها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين، والرواية
الأخرى: هي زوجة الثاني.
(5/455)
ش: الرواية الأولى هي المذهب بلا ريب،
لأنها زوجته، نكحها نكاحا صحيحا، فردت إليه، كما لو غصبها غاصب.
2741 - ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2742 - (والثانية) تروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقول الخرقي: ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم. لأنه إذا لم يشهد فإن
قلنا: الإشهاد شرط لصحة الرجعة؛ فقد فات الشرط، فتبطل الرجعة، وتكون زوجة
الثاني بلا ريب، وإن قيل: إنه ليس بشرط، فالنكاح صحيح في الباطن، لكن لا
يقبل قوله في ذلك، لا على الزوج، ولا على المرأة، لأنه لا يملك الإنشاء فلا
يملك الإقرار، ثم ينظر في الزوج والمرأة فإن صدقاه كان كما لو قامت به
البينة، وإن صدقه الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه، فتبين منه، وعليه
للمرأة مهرها، إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله، لأنه لا يصدق على
المرأة في إسقاطه حقها، ولا تسلم المرأة للمدعي لما تقدم، ويكون القول
قولها، وهل هو مع يمينها؟ على وجهين، وإن صدقته المرأة وحدها لم يقبل قولها
على الزوج الثاني، في فسخ نكاحه، لكن
(5/456)
متى زال نكاحه ردت إلى الأول، لأن المنع من
الرد كان لحق الثاني وقد زال، ولا يلزم المرأة مهر الأول، على ما أورده
الشيخان مذهبا، لاستقراره لها، أشبه ما لو قتلت نفسها، وألزمها القاضي له
بالمهر لإقرارها، بحيلولتها بينه وبين بضعها، وهذا قياس المنصوص في الرضاع،
وهو اختيار القاضي أيضا ثم، واختيار الشيخين ثم أيضا عدمه، جريا على
قاعدتهم، فإن مات الأول والحال هذه، وهي في نكاح الثاني، فقال أبو محمد:
ينبغي أن ترثه، لإقراره بزوجيتها، وتصديقها له، وإن ماتت لم يرثها، لتعلق
حق الثاني بالإرث، وإن مات الثاني لم ترثه لإنكارها صحة نكاحه.
قلت: ولا يمكن من تزويج أختها، ولا تزويج أربع سواها انتهى؛ وقول الخرقي:
من حيث لا تعلم. لأنها إذا علمت لم يصح نكاح الثاني بلا خلاف، وقوله:
فاعتدت، لأنها إذا لم تعتد فلا ريب في بطلان نكاح الثاني، وقوله: ثم نكحت
غيره وأصابها. لأنه إذا لم يدخل بها فلا خلاف أنها زوجة الأول، لأن بالدخول
حصل للثاني مزية، فلذلك قدم في رواية مرجوحة، وقوله: ولم يصبها حتى تنقضي
عدتها. يعني إذا ردت إلى الأول بعد إصابة الثاني لها، لم يصبها حتى تنقضي
عدتها من الثاني، لتعلم براءة رحمها.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا طلقها وانقضت عدتها منه، ثم أتته فذكرت
أنها نكحت من أصابها، ثم طلقها أو مات عنها،
(5/457)
وانقضت عدتها منه، وكان ذلك ممكنا، فله أن
ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح، وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم
ينكحها حتى يصح عنده قولها.
ش: ملخص الأمر أن الأحكام تناط بغلبة الظن كثيرا، والمرأة مؤتمنة على
نفسها، وعلى ما أخبرت به عنها، ولا سبيل إلى ذلك على الحقيقة إلا من جهتها،
فوجب الرجوع إلى قولها، كما لو أخبرت بانقضاء عدتها، ومقتضى قوله أنه إذا
لم يعرف منها الصدق والصلاح لا يقبل قولها، وهو كذلك، لأنه لم يوجد ما يغلب
على ظنه صدقها، والأصل التحريم، فيبقى عليه، ومقتضى كلامه أنه يرجع إلى قول
المرأة، إذا كانت بالصفة المتقدمة، وإن أنكر الزوج الذي ادعت إصابته لها،
ولو قال الزوج الأول: أنا أعلم أن الثاني ما أصابها. لم تحل له، إذ لا غلبة
ظن مع العلم بالتحريم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(5/458)
|