شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الظهار]
ش: الظهار مشتق من الظهر، وخص الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا جومعت، فأنت علي كظهر أمي. أي ركوبك للنكاح حرام علي، كركوب أمي للنكاح، قال ابن أبي الفتح: وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وكأنه يريد في الأصل، وإلا فالظهار في الاصطلاح أعم من هذا، والأصل فيه قول الله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وما بعدها، ومن السنة ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهو محرم، قال الله سبحانه: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وأكد ذلك بقوله تعالى بعد: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وهذا اتفاق والحمد لله، والله أعلم.

[قول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي]
قال: وإذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كظهر امرأة أجنبية. أو أنت علي حرام، أو حرم عضوا من أعضائها فلا يطأها حتى يأتي بالكفارة.
ش: قد اشتمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مسائل (إحداها) إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أنه يكون مظاهرا،

(5/478)


وهذا إجماع والحمد لله، ولذلك قدمه الخرقي، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه زوجته بغير أمه ممن تحرم عليه على التأبيد، كأخته وإن كانت من الرضاع ونحو ذلك، إناطة بالتحريم المؤبد، (المسألة الثانية) إذا قال: أنت علي كظهر أجنبية. وفيه روايتان (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، وجماعة من الأصحاب على ما حكى القاضي، واختاره القاضي أيضا في موضع - يكون مظاهرا، لأنه أتى بالمنكر من القول، أشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد، أو شبهها بمحرمة، أشبه ما لو شبهها بالأم (والرواية الثانية) - وهي اختيار ابن حامد، والقاضي في التعليق، والشريف، والشيرازي، وأبي بكر، على ما حكاه عنه أبو محمد - لا يكون مظاهرا، لأنه شبهها بمن تحل له في حال، أشبه ما لو شبهها بزوجة له أخرى محرمة، أو حائض أو نفساء، ونحو ذلك، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه امرأته بأخت زوجته ونحوها، لأن تحريمها تحريم مؤقت، وعلى هذه الرواية هل يلغى، أو تجب فيه كفارة يمين؟ على روايتين. (المسألة الثالثة) إذا قال: أنت علي حرام؛ فعن أحمد - وهي اختيار الخرقي - أنه ظهار وإن نوى غيره، فيكون صريحا، لأن معناه معنى الظهار، لأن: أنت علي كظهر أمي. معناه أنت علي حرام كتحريم ظهر أمي. ولأنه أتى بالمنكر من القول والزور في زوجته، أشبه ما لو قال: أنت علي كظهر أمي.

(5/479)


2753 - وقد ذكر ذلك إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والرواية الثانية) أنه ظاهر في الظهار، فعند الإطلاق ينصرف إليه لما تقدم، وإن نوى يمينا أو طلاقا انصرف إليه، لاحتماله لذلك (والثالثة) أنه ظاهر في اليمين، فعند الإطلاق ينصرف إليها، وإن نوى الطلاق أو الظهار انصرف إلى ذلك لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الآية إلى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهذا قد حرم ما أحل الله له، فدخل في الآية.

(5/480)


2754 - وكذا فهم الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: إذا حرم الرجل فهي يمين يكفرها؛ وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] متفق عليه، وفي لفظ أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي على حراما. فقال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] أغلظ الكفارة عتق رقبة؛ رواه النسائي (المسألة الرابعة) إذا حرم عضوا من أعضائها، كأن قال: يدك علي حرام. أو يدك علي كيد أمي. أو كظهرها، ونحو ذلك، فالمذهب المنصوص المشهور أنه يكون مظاهرا، لأن التحريم إذا ثبت في العضو سرى في الجميع، لامتناع تحريم البعض وحل البعض، وصار ذلك كما لو طلق يدها ونحو ذلك. (وفي المذهب رواية أخرى) لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة امرأته، اتباعا للنص، وكما لو حلف لا يمس عضوا منها، والعضو الذي يكون به مظاهرا هو الذي يكون به مطلقا، وما لا فلا. (المسألة الخامسة) أنه في جميع هذه الصور لا يطأ حتى يكفر، وكذلك في كل موضع حكم بظهاره فيه، وهو إجماع إذا كان التكفير بالعتق أو الصيام، وقد شهد به النص وهو قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 3 - 4]

(5/481)


واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا كان التكفير بالإطعام، (فعنه) - وهو اختيار أبي بكر، وأبي إسحاق ابن شاقلا - يجوز الوطء قبل التكفير، تمسكا بظاهر الكتاب، فإن الله تعالى ذكر عدم التماس في العتق والصيام، ولم يذكره في الإطعام، فاقتصرنا على مورد النص، (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في خلافه وفي روايتيه، والشريف وأبي محمد وغيرهم - لا يجوز، لأن الله سبحانه لما ذكر عدم المسيس في العتق والصيام، مع أن الصيام تطول مدته، كان ذلك تنبيها على انتفاء المسيس في الإطعام.
2755 - وعن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر؟ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» رواه الخمسة إلا أحمد، وصححه الترمذي، ومن جملة ما أمره الله به الإطعام

(5/482)


(المسألة السادسة) الظهار يختص بالزوجة على ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه أحمد، وجزم به جماعة من الأصحاب، حتى قال القاضي في روايتيه: رواية واحدة. فعلى هذا لا ظهار من أمته، ولا أم ولده، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فخص سبحانه الظهار بالنساء، ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله.
2756 - قال أحمد: قال أبو قلابة وقتادة: إن الظهار كان طلاقا في الجاهلية. والطلاق قطعا لا يؤثر في الأمة كذلك الظهار، واختلف عن أحمد فيما يلزمه، (فعنه) وهو المشهور والمختار: تلزمه كفارة يمين، لأنه تحريم لمباح من ماله، فكان عليه كفارة يمين، كتحريم سائر ماله، (ونقل عنه) أبو طالب: ليس في الأمة ظهار، ولكن حرام، فعليه الكفارة، قيل له: كفارة الظهار؟ قال: نعم. قال أبو بكر: كل من روى عنه ليس عليه فيها كفارة الظهار، إنما هو كفارة يمين، إلا ما رواه أبو طالب، قال: ولا يتوجه على مذهبه. انتهى، وخرج أبو

(5/483)


الخطاب والشيخان قولا أنه لا شيء فيه، قال أبو الخطاب: من قوله فيما إذا ظاهرت المرأة من زوجها: إنه لا شيء عليها؛ إذ هذا ليس بظهار، فتجب فيه كفارته، وليس بيمين فتجب فيه كفارتها (المسألة السابعة) حيث حرم الوطء قبل التكفير هل يحرم الاستمتاع قبله؟ على روايتين (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي - يجوز، لأن التماسس في الآية الكريمة كناية عن الوطء، وإذا كانت الكناية مرادة فالحقيقة غير مراده (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر، والقاضي في خلافه، وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم - لا يجوز.
2757 - لأن في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السابق: «لا تقربها حتى تفعل ما أمر الله به» رواه النسائي عن عكرمة مرسلا، وقال فيه: «فاعتزلها حتى تقضي ما عليك» وقد ادعى القاضي أن المراد بالمسيس في الآية الكريمة حقيقته، وأن الوطء إنما ثبت بالسنة، وفيه بعد.

[موت المظاهر أو الزوجة قبل التكفير]
قال: فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة، فإن تزوجها لم يطأها حتى يكفر، لأن الحنث بالعود وهو الوطء،

(5/484)


لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث.
ش: اعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد بنى ما بدأ به على أصل، وهو العود ما هو؟ وقال: إنه الوطء. وهذا إحدى الروايتين، نص عليه أحمد، فقال في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] قال: الغشيان، إذا أراد أن يغشى. وقال أيضا: مالك يقول: إذا أجمع لزمته الكفارة؛ فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه الكفارة.
2758 - إلا أن يذهب إلى قول طاووس: إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق؛ ولم يعجب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول طاووس، وهو اختيار الشيخين، لأن قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي لقولهم، فـ (ما) والفعل في تأويل المصدر، أي لقولهم، والمصدر في تأويل المفعول، أي مفعولهم ومقولهم الذي امتنعوا منه وهو الوطء، وقرينة هذا العود، إذ هو فعل ضد قوله، ومنه الراجع في هبته، هو الراجع في الموهوب، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي، والمظاهر مانع لنفسه من الوطء، فالعود فعله، ولأن الظهار يمين مكفرة، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان (والثانية) وبها قطع القاضي وأصحابه: أنه العزم على الوطء،

(5/485)


قال القاضي: ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، منهم الأثرم، فقال: العود أن يريد أن يغشى، فيكفر قبل أن يمسها، وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة: تلزمه الكفارة إذا أجمع على الغشيان، فذكر له قول الشافعي أنه الإمساك، فلم يعجبه، وذلك لأن التكفير بنص الكتاب والسنة يجب قبل الوطء، وهو مسبب عن الوطء على القول الأول، لأن به يجب، والمسبب لا يتقدم على السبب، فإذا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي يريدون العود (فتحرير) أي فالواجب تحرير، وهذا كما في قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] وهو كثير، (ومن قال) بالأول أجاب بأن التكفير شرط الحل، كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة من مريدها، وملخصه أن لنا إخراجا ووجوبا، فإخراج الكفارة يجب عند إرادة الوطء، فهو مسبب عن الإرادة، ووجوب الكفارة - بمعنى استقرارها في ذمته - يجب بالوطء.
إذا تقرر هذا انبنى عليه ما تقدم، وهو ما إذا ماتت أو مات، أو طلقها قبل الوطء، فعلى القول الأول لا تجب الكفارة، لأن وجوبها بالوطء ولم يوجد، وعلى القول الثاني إن وجد ذلك بعد العزم وجبت لوجود العود، وإلا لم تجب، كذا فرعه أبو البركات على قول القاضي وأصحابه، وزعم أبو محمد

(5/486)


عن القاضي وأصحابه أنهم على قولهم لا يوجبون الكفارة على من عزم ثم مات أو طلق إلا أبا الخطاب، فإنه قال بالوجوب، فعلى القول بأن الكفارة على المطلق قبل الوطء وإن عزم، إذا عاد فتزوجها فحكم الظهار باق، فلا يطأ حتى يكفر، لإطلاق الآية الكريمة، فإن هذا قد ظاهر من زوجته ثم أراد العود إليها، فدخل تحت: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ولأن الظهار يمين مكفرة، فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء، وبنى ذلك القاضي على أصلنا من أن النكاح الثاني ينبني على الأول، وأن الصفة لا تزول بالبينونة.
وقد دل كلام الخرقي على أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار، ولا بالإمساك بعده، ولا بإعادة القول ثانيا، وقوله: لأن الحنث بالعود وهو الوطء. تعليل لأن الكفارة لا تلزم بالموت، ولا بالطلاق قبل الوطء، وقوله: لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث؛ تعليل لقوله: فلم يطأها حتى يكفر. هذا الذي يظهر لي والله أعلم.

[الظهار من الأجنبية]
قال: ولو قال لامرأة أجنبية: أنت علي كظهر أمي؛ لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار.
ش: هذا منصوص أحمد، وعليه أصحابه، وقال: ليس هو بمنزلة الطلاق.

(5/487)


2759 - وذلك لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال - في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي. فتزوجها، قال -: عليه كفارة الظهار. ولأنها يمين مكفرة، فصح انعقادها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يصح، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] والأجنبية ليست من نسائه، ولأنه نوع تحريم، فلم يتقدم النكاح كالطلاق. وأجيب عن الآية بأنها خرجت مخرج الطلاق، وعن القياس بالفرق من وجهين (أحدهما) أن الطلاق حل قيد النكاح، ولا حل قبل العقد، والظهار تحريم للوطء، وذلك قد يتقدم على العقد كالحيض (والثاني) أن الطلاق يزيل المقصود من النكاح فلم يصح، وهذا لا يزيله وإنما يعلق الإباحة على شرط. انتهى، وكذلك الحكم إذا عمم فقال: كل النساء على كظهر أمي. والله أعلم.

قال: وإذا قال: أنت علي حرام، وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء، وإن تزوجها، لأنه صادق، وإن أراد في كل

(5/488)


حال لم يطأها إن تزوج حتى يأتي بالكفارة.
ش: أما إذا أراد بقوله: أنت علي حرام. الإخبار عن حرمتها في الحال، فلا شيء عليه، لما علل به من أنه صادق، إذ قد وصفها بصفتها، ولم يقل المنكر من القول والزور، وأما إذا أراد تحريمها في كل حال فهو مظاهر، لأن من جملة الأحوال إذا تزوجها، ولفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة بلا ريب، فكذلك في الأجنبية، ولو أطلق فلا شيء عليه، لاحتماله للإنشاء وللإخبار، فلا يتعين أحدهما بغير تعيين. والله أعلم.

[ظاهر من زوجته وهي أمة فلم يكفر حتى ملكها]
قال: ولو ظاهر من زوجته وهي أمة، فلم يكفر حتى ملكها، انفسخ النكاح، ولم يطأها حتى يكفر.
ش: أما انفساخ النكاح فلا ريب فيه، لعدم اجتماع ملك اليمين وملك النكاح، وإذا يغلب الأقوى وهو الملك، ويبطل النكاح، وأما الوطء فقال الخرقي: لا يطأها حتى يكفر؛ واختاره ابن حامد والقاضي وغيرهم، لشمول الآية الكريمة له، وهي: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وهذا قد ظاهر من امرأته، فدخل في الآية وقال أبو بكر في الخلاف: يبطل حكم الظهار، وتحل له، وعليه كفارة يمين، كما لو تظاهر منها وهي أمته، لأنها خرجت عن الزوجات، وصارت ملك يمينه، فأعطيت حكم

(5/489)


ذلك، وخرج أبو البركات قولا أنها تحل له بملك اليمين بلا كفارة، مع عود الظهار لو عتقت أو بيعت ثم تزوجها، ولعله مخرج مما إذا ظاهر من أمته لا شيء عليه، وأن الصفة تعود، وبيانه أنه إذا ظاهر منها وهي زوجته، ثم ملكها، فقد زالت الزوجية، وملك اليمين لا يؤثر الظهار فيه شيئا، فيصير كما لو علق طلاق زوجته على شيء، ثم أبانها وفعل المحلوف عليه، فإنه لا شيء عليه، كذلك هنا، تحل له بملك اليمين، ولا شيء عليه، ثم بعد ذلك إذا أعتقها أو باعها ثم تزوجها عاد الظهار، كما تعود الصفة.

[ظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة]
قال: ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة، لم يكن عليه أكثر من كفارة واحدة.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، حتى أن أبا محمد نفى الخلاف في المذهب.
2760 - اتباعا لقول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما قالا كذلك، رواه عنهما الأثرم، ولا نعرف لهما مخالفا، وكما لو حلف بالله تعالى

(5/490)


على ذلك، وحكى أبو البركات رواية أخرى أن عليه لكل واحدة كفارة. لأنه قد وجد الظهار والعود فيها، فأشبه ما لو أفردها.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو تظاهر منهن بكلمات كان عليه لكل واحدة كفارة، وهو إحدى الروايات، واختيار ابن حامد، والقاضي وأبي محمد وغيرهم، لأنها أيمان لا يحنث في أحدها بالحنث في الأخرى، فلا تكفرها كفارة واحدة، كما لو كفر ثم ظاهر، (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي بكر - عليه كفارة واحدة.
2761 - قال أبو بكر: اتباعا لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن كفارة الظهار حق لله تعالى، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد (والرواية الثالثة) إن كان في مجالس فكفارات، وإن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة، نقلها الفضل بن زياد، والله أعلم.

[كفارة الظهار]
قال: والكفارة عتق رقبة.
ش: لا نزاع في هذا، وقد شهد له الكتاب العزيز قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] أي فالواجب تحرير رقبة، أو فعليه تحرير رقبة، والله أعلم.

(5/491)


قال: مؤمنة.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار جمهور أصحابه، الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم، حملا للمطلق في آية الظهار، على المقيد في كفارة القتل، لاتحاد الحكم.
2762 - ولما روى «معاوية بن الحكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت لي جارية فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أين الله؟» قالت: في السماء. فقال: «من أنا» فقالت: أنت رسول الله. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم والنسائي، فعلل عتقها عما عليه بأنها مؤمنة (والرواية الثانية) لا يشترط إيمانها، بل تجزئ وإن كانت كافرة، نص عليها في اليهودي والنصراني، واختارها أبو بكر، أخذا بإطلاق الكتاب، وهاتان الروايتان يجريان في كل رقبة واجبة، من نذر أو كفارة، ما عدا كفارة القتل، فإن الإيمان شرط فيها بلا نزاع للنص، والله أعلم.

(5/492)


قال: سالمة من العيوب المضرة بالعمل.
ش: لأنه لحظ فيه تمليك منافعه، وخروجه من حيز العدم، إلى حيز الوجود، ومع الضرر بالعمل لم يحصل ذلك، فعلى هذا لا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا مقطوع اليد أو الرجل، أو أشلهما، أو إبهام اليد، أو سبابتها أو الوسطى، أو الخنصر والبنصر من يد واحدة، وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، بخلاف قطع غيرها من الأنامل، ولو كان الجميع، ولا يجزئ المجنون، ولا المريض غير مرجو البرء، كالسل، بخلاف المرجو البرء، ولا النحيف العاجز عن العمل، ويجزئ الأعرج، والمجدع الأنف والأذن، والمجبوب والخصي، والأعور على أصح الروايتين، وهل يجزئ الأخرس مطلقا، وهو الذي حكاه القاضي في التعليق، وأبو الخطاب عن أحمد، أو لا يجزئ مطلقا، وهو الذي حكاه أبو محمد منصوصا له، أو إن كان به صمم لم يجزئ وإلا أجزأ، وهو اختيار القاضي، وجماعة من أصحابه، وعليه حمل نص أحمد بالإجزاء، أو إن فهمت إشارته أجزأ وإلا فلا، وهو مختار أبي محمد، أو إن انتفى عنه الصمم، وفهمت إشارته أجزأ وإن وجد أحدهما منع، وهو اختيار أبي البركات، على خمسة أقوال، وهذا كله على المعروف من

(5/493)


المذهب، وقد حكى ابن الصيرفي في نوادره رواية بإجزاء الزمن والمقعد، فيخرج في عامة هذه الصور قول بالإجزاء، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر، والله أعلم.

قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
ش: إذا لم يجد رقبة يشتريها، أو وجدها ولم يجد ما يشتريها به، أو وجد ما يشتريها به لكن بزيادة كثيرة، أو مجحفة بماله، أو وجدها ولكن احتاجها لخدمة ونحو ذلك، فالكفارة صيام شهرين متتابعين، لقوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] والله أعلم.

قال: فإن أفطر فيهما من عذر بنى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ.
ش: الإجماع على وجوب التتابع في الشهرين، لشهادة الكتاب، وقد تقدم ذلك، وكذلك السنة.
2763 - «فعن خويلة بنت مالك بن ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك» فما برح حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» فقالت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين» قالت: يا رسول الله إنه شيخ

(5/494)


كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكينا؟» قالت: ما عنده من شيء يتصدق به؟ قال: «فإني سأعينه بعرق من تمر» قلت: يا رسول الله فإني سأعينه بعرق تمر آخر. قال: «قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» والعرق ستون صاعا» ؛ رواه أبو داود.
إذا تقرر هذا فمعنى التتابع أن يوالي بين صيام أيامهما، ولا يفطر فيهما، ولا يصوم عن غير الكفارة، ولا يشترط نية التتابع، وإنما يشترط فعله، ومتى أفطر فيهما من غير عذر ابتدأ، لإخلاله بالشرط وهو التتابع، وكذلك إن صام عن نذر أو قضاء، أو كفارة أخرى لذلك، فلو كان النذر أياما من كل شهر كأيام البيض، أو يوم الخميس قدم الكفارة عليه، وقضى ذلك بعدها، إذ لو وفى بنذره لانقطع التتابع، لا يقال: هذا

(5/495)


الزمن المنذور متعين للصوم، فلا يقطع التتابع كصوم رمضان، لأنا نقول: الزمان لا يتعين، بدليل صحة صوم آخر فيه، بخلاف زمن رمضان، وإن أفطر لعذر فلا يخلو إما أن يكون موجبا أو مبيحا، فإن كان موجبا كالفطر للحيض والمرض المخوف، أو فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما، أو لكونه يوم عيد، ونحو ذلك لم ينقطع التتابع، لأنه مضطر إلى ذلك، ولا صنع له فيه، أشبه إذا كان الفطر للحيض، ودليل الأصل الإجماع، وإن كان العذر مبيحا - كالسفر، والمرض غير المخوف - فثلاثة أوجه (أحدها) - وهو ظاهر كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد - لا يقطع، لأنه عذر أباح له الفطر، أشبه ما لو أوجبه (والثاني) يقطع، لأن له مندوحة عنه، أشبه ما لو أفطر بغير عذر (والثالث) - وهو اختيار القاضي، وجماعة من أصحابه - يقطع السفر لأن إنشاءه باختياره ولا يقطع المرض، لأن حصوله بغير اختياره، وهو ظاهر كلام أحمد، بل زعم القاضي أنه منصوصه.
وقد دخل في كلام الخرقي إذا أفطرت الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، ودخل أيضا من أفطر لجنون أو إغماء، ولا نزاع في ذلك، وكذلك من أفطر لإكراه أو نسيان، كمن وطئ كذلك، أو خطأ كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا، وهو

(5/496)


أحد الوجهين أيضا، وقطع به أبو البركات، نعم قد يستثنى منه كلامه من أكل ناسيا لوجوب التتابع أو جاهلا به، أو ظنا منه أنه قد أتم الشهرين، فإن تتابعه قد ينقطع، قاله أبو محمد.

قال: فإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صومه، وابتدأ الشهرين.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أصحابه، الخرقي، والقاضي، وأصحابه كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا، وابن عقيل وغيرهم، والشيخين، لقول الله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] أوجب سبحانه صوم الشهرين بشرطين (أحدهما) تقديم الشهرين على المسيس (والثاني) إخلاؤهما عن المسيس، فإذا وطئ في خلالهما فقد فات أحد الشرطين وهو تقديمهما عليه، وبقي الشرط الآخر يمكنه أن يأتي به فيستأنف الصوم، فيخلو الشهران عن المسيس فوجب ذلك، كمن أمر بشيئين فعجز عن أحدهما وقدر على الآخر، يسقط ما عجز عنه، ويلزمه ما قدر عليه (والرواية الثانية) لا ينقطع التتابع بذلك، لأنه وطء لم يصادف محل الصوم، أشبه ما لو وطئ غير التي ظاهر منها، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم بالذي قلبه، وهذا متحقق وإن وطئ ليلا، وكذلك الروايتان إذا وطئها نهارا ناسيا، قاله غير واحد، وخرجهما أبو محمد فيما إذا وطئها وقد أبيح له الفطر لمرض ونحوه.

(5/497)


واعلم أن ظاهر كلام أبي محمد في المقنع أن شرط عدم انقطاع التتابع فيما إذا وطئ ليلا أن يطأ ناسيا، وهو غفلة منه، فلا يعتبر بذلك.
(تنبيه) أخذت الرواية الأولى من قول أحمد في رواية ابن منصور: إذا تظاهر فأخذ في الصوم فجامع يستقبل؛ وأخذت الثانية من قوله في رواية الأثرم - وسئل عن المظاهر إذا صام بعض صيامه، ثم جامع قبل أن يتمه، كيف يصنع؟ قال: يتم صومه. والروايتان مطلقتان كما ترى، ولكن الأصحاب حملوهما على ما تقدم والله أعلم.

قال: فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
ش: إذا لم يستطع صوم الشهرين على الصفة الواجبة فكفارته إطعام ستين مسكينا بالإجماع، وقد شهد لذلك ما تقدم من الكتاب والسنة، وسواء عدم الاستطاعة (لكبر) كما تقدم في قصة أوس بن الصامت، (أو شبق) .
2764 - لما «روى سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان

(5/498)


ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر على أن أنزع؛ فبينما هي تخدمني من الليل إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، وقلت لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بأمري؛ فقالوا: والله لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك؛ فخرجت حتى أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته خبري، فقال لي: «أنت بذاك؟» فقلت: أنا بذاك. فقال: «أنت بذاك؟» فقلت: نعم، ها أنا ذا فأمض في حكم الله، فأنا صابر له. قال: «أعتق رقبة» فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: «فصم شهرين متتابعين» قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟ قال: «فتصدق» قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا عشاء. قال: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك» فرجعت إلى قومي فقلت لهم: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة والبركة، وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي؛ قال: فدفعوها إلي» . رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، انتهى،

(5/499)


(أو مرض) وإن رجي زواله، لدخوله تحت الآية الكريمة، لا لسفر، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا بد من تعدد المساكين، وتأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الكفارات.
(تنبيه) : فرقا. أي خوفا، والله أعلم.
قال: مسلما.
ش: من شرط المسكين المدفوع إليه في الكفارة أن يكون مسلما، على المنصوص والمختار للأصحاب، فلا يجوز الدفع لذمي، لأنه كافر، فلم يجز الدفع إليه كالحربي والمستأمن، إذ هو مال يجب دفعه إلى الفقير بالشرع، فلا يدفع إلى أهل الذمة كالزكاة، وحكى الخلال في جامعه رواية بالجواز، قال القاضي: ولعله بنى ذلك على جواز عتق الذمي في الكفارة، وذلك لأنه مسكين، فدخل تحت: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] .
(تنبيه) بحث الأصحاب وكلامهم يقتضي أن الخلاف في الذمي، وأنه لا نزاع أن الحربي لا يدفع إليه، وكذلك نص أحمد في جواز عتق الكافر إنما هو في اليهودي والنصراني.

(5/500)


قال: حرا.
ش: أي ومن شرط المسكين أن يكون حرا، فلا يجوز دفعها لعبد ولا أم ولد ونحوها، لعدم حاجتهم، لوجوب نفقتهما على سيدهما، وظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب، ويأتي ذلك في الكفارات إن شاء الله تعالى، ويدخل في كلام الخرقي في المسكين الفقير، لأنه مسكين وزيادة، وكذلك الغارم لإصلاح نفسه، لأنه محتاج. والله أعلم.
قال: لكل مسكين مد من حنطة، أو نصف صاع من تمر أو شعير.
2765 - ش: أما كونه مدا من حنطة فلما روى الإمام أحمد قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: «أطعم هذا، فإن مدي شعير مكان مد بر» » .
2766 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي سلمة، «عن سلمة بن صخر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا، فقال: «أطعمه ستين مسكينا وذلك لكل مسكين مد» رواه الدارقطني، وللترمذي معناه.

(5/501)


2767 - ثم هذا قول زيد وابن عباس، وابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأما كونه نصف صاع تمر أو شعير فلما تقدم من أن مدي شعير مكان مد بر.
2768 - وفي أبي داود قال: وذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال - يعني العرق - زنبيلا يأخذ خمسة عشر صاعا؛ وإذا العرقان ثلاثون صاعا، فيكون لكل مسكين نصف صاع تمر، انتهى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على البر والشعير والتمر، وقال غيره يجزئ هنا ما يجزئ في الفطرة فإن كان قوت بلده غير ذلك كالأرز والذرة، فهل يجزئه، وهو اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، أو لا يجزئه، وهو اختيار القاضي؟ فيه قولان، وكذلك القولان في إجزاء الخبز، إلا أن القاضي وأصحابه هنا وافقوا على الإجزاء.
(تنبيه) المكتل الزنبيل، وقيل القفة، وهما بمعنى واحد، وقيل القفة العظيمة، والعرق قد فسره أبو سلمة بن عبد الرحمن، بأنه يسع خمسة عشر صاعا، وفي حديث خويلة قالت: والعرق ستون صاعا. وفي رواية: العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا؛ قال

(5/502)


أبو داود: وهذا أصح. يعني من كونه ستين صاعا، قال بعضهم: والاختلاف في قدره يدل على أنه يختلف، فيكون بعضه أكبر من بعض، وهو بفتح العين والراء، وسكن بعضهم الراء، والزنبيل بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة مخفف، فإن كسرت الزاي شددت فقلت زبيل، أو قلت زنبيل، سمي زنبيلا لأنه ينقل فيه الزبل للسماد.

قال: ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق، وبنى على ما مضى من صيامه.
ش: قد تقدم أنه إذا ترك صوم الكفارة لعذر أنه لا يضره ويبني، فإذا صام من أول شعبان ففي رمضان يترك الصوم للكفارة، لأن هذا الزمن متعين لرمضان، ثم يفطر يوم العيد، فبعد ذلك يكمل، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة فإنه يفطر يوم الأضحى وأيام التشريق، ثم يبني، وإذا قلنا يجوز صوم أيام التشريق عن الفرض مطلقا فإنه لا يفطر أيام التشريق.

[كفارة العبد في الظهار]
قال: وإن كان المظاهر عبدا لم يكفر إلا بالصوم.

(5/503)


ش: هذا يدل على صحة ظهار العبد، ولا ريب في ذلك، لشمول الآية الكريمة له، وإذا صح ظهاره فكفارته الصيام، لأنه لا يجد الرقبة، لأنه معسر، وأسوأ حالا منه، فيدخل تحت: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] وظاهر كلام الخرقي أن كفارته الصيام وإن أذن له سيده وهو - والله أعلم - بناء على قاعدته، من أنه لا يملك وإن ملك، ومن لا ملك له لا مال له يكفر به، ومن الأصحاب من يقول: يجوز أن يكفر بالمال بإذن السيد، وإن لم نقل إنه يملك، وهو ظاهر كلام أبي بكر، وطائفة من متقدمي الأصحاب، وإليها ميل أبي محمد، ولهم مدركان (أحدهما) : أنه يملك القدر المكفر به ملكا خاصا (والثاني) : أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر، أما إن قلنا يملك، أو أذن له سيده في التكفير بالمال، فلا نزاع أن له أن يكفر به، ثم هل له ذلك على سبيل الوجوب أو الجواز؟ فيه تردد للأصحاب، وأيما كان فله على هذا التكفير بالإطعام، وهل له التفكير بالعتق؟ فيه روايتان (إحداهما) : نعم، اختارها، أبو بكر، ومال إليها أبو محمد كالإطعام (والثانية) : لا، لأنه يقتضي الولاء، والولاء يقتضي ولاية الإرث، وليس العبد من أهل ذلك، ومن أصحابنا من بناهما على الروايتين في المعتق في الكفارة، إن قلنا: عليه الولاء لم يكن له العتق، وإن قلنا:

(5/504)


لا ولاء عليه، صح تكفيره بالعتق، وإذا جوزنا له التكفير بالعتق، فأذن له سيده في إعتاق نفسه عن كفارته جاز ذلك، على مقتضى قول أبي بكر، فإنه حكى فيما إذا أذن له في العتق وأطلق، هل له أن يعتق نفسه، لأن رقبته تدخل في الإطلاق، أو ليس له ذلك، لأن خطابه بالإعتاق قرينة على إرادة غيره.
(تنبيه) : إذا أذن له سيده في الإعتاق وأطلق، وجوزنا له عتق نفسه، فلا بد أن تكون رقبته أقل رقبة تجزئ في الكفارة، لأنه إذا أعتق غيره لا بد أن يكون كذلك، لأنه وكيل، فيجب عليه التصرف بالأحظ.

قال: وإذا صام فلا يجزيه إلا شهران متتابعان.
ش: قد تقدم أن كفارة العبد الصيام، وإذا فحكمه في ذلك حكم الحر في أنه يصوم شهرين متتابعين، لدخوله في الآية الكريمة، من غير قيام ما يقتضي التخصيص.

[حكم الوطء قبل الكفارة في الظهار]
قال: ومن وطئ قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصيا.
ش: لمخالفة أمر ربه سبحانه، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وهذا قد مس، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وقد تقدم.

قال: وعليه الكفارة المذكورة.
ش: إذا خالف ووطئ استقرت عليه الكفارة المتقدمة، لأنه

(5/505)


ظاهر وعاد، فيدخل تحت {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية.
2769 - وروى النسائي عن عكرمة، أن «رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها قبل أن أكفر؛ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: «فاعتزلها حتى تقضي ما عليك» ولهذا أيضا قال الأصحاب: ليس له الوطء ثانيا حتى يأتي بالكفارة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة، وهو كذلك لما تقدم.
2770 - وفي الترمذي وابن ماجه عن سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال: «كفارة واحدة» وهو إن صح نص.

[حكم ظهار المرأة من زوجها]
قال: وإذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي. أو أنت علي حرام. لم تكن مظاهرة، ولزمها كفارة الظهار، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور.

(5/506)


ش: أما كون المرأة لا تكون مظاهرة بذلك فهذا هو المعروف والمشهور، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب، حتى أن القاضي قال في الروايتين: رواية واحدة؛ لتخصيص الله سبحانه الظهار بالرجال قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] الآية، ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة، يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجال كالطلاق، وحكى ابن شهاب، وأبو يعلى ابن أبي حازم رواية أخرى أنها تكون مظاهرة، وقالا: اختارها أبو بكر، وزاد ابن أبي حازم: والقاضي، والشريف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا في ذلك بكفارة الظهار، وسببها الظهار، فدل على أنها تكون مظاهرة، وقياسا لأحد الزوجين على الآخر، وعلى هذا تجب كفارة الظهار بلا ريب، أما على المذهب (فعنه) - وهو المشهور، واختيار الخرقي والقاضي، وجماعة من أصحابه كالشريف، وأبي الخطاب والشيرازي، وابنه أبي الحسين - يلزمها كفارة ظهار.
2771 - قال أحمد مثل حديث عائشة بنت طلحة، وهو ما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم، أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي. فسألت أهل المدينة، فرأوا عليها الكفارة.

(5/507)


2772 - وروى علي بن مسلم، عن الشيباني، قال: كنت جالسا في المسجد أنا وعبد الله بن معقل المزني، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فسألته من أنت؟ فقال: مولى لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها، خطبها مصعب بن الزبير، فقالت: هو علي كظهر أبي إن تزوجته. ثم رغبت فيه بعد، فاستفتت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يومئذ كثير، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه، فأعتقتني وتزوجته؛ رواهما سعيد مختصرين. (وعنه) - وهو اختيار أبي محمد -: عليها كفارة يمين، لأنه ليس بظهار، فلا يوجب كفارته كسائر المنكر من القول، وتجب كفارة يمين، لأنه تحريم مباح، أشبه تحريم سائر الحلال (وعنه) لا شيء عليها، لأنه ليس بظهار فتجب فيه كفارته، ولا يمين فتجب كفارتها، وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فإنما تجب بالحنث، وهو الوطء إن قلنا تجب كفارة يمين، وكذلك إن قلنا كفارة ظهار فلا تكون مظاهرة، صرح بذلك القاضي وغيره، بشرط أن لا تكون مكرهة، وإن قلنا تكون مظاهرة، فقيل: بالعزم على التمكين، حكاه ابن أبي حازم فيما أظن، قال ابن عقيل: رأيت بخط أبي بكر: العود التمكين.
(تنبيه) عليها التمكين قبل التكفير، قاله الشيخان، لأن ذلك حق عليها، فلا يسقط بيمينها، قال أبو محمد: وحكي

(5/508)


عن أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير كالرجل، قال: وليس بجيد. لأن ظهار الرجل صحيح، وظهارها غير صحيح، قلت: قول أبي بكر جار على قوله من أنها تكون مظاهرة، وقال أبو البركات: إنها ليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع، مع قوله: إنها تمكنه، وإنها غير مظاهرة، وذلك لأنه الذي في يدها، وهي قد منعت نفسها منه.

[تكرر الكفارة بتكرار الظهار]
قال: وإذا ظاهر من نسائه مرارا فلم يكفر فكفارة واحدة.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، القاضي، والشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم، لأنه لفظ تتعلق به كفارة، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى، ولأن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود، فإذا وجدت قبل التكفير تداخلت كالحدود (وعنه) تجب كفارات ما لم ينو التأكيد أو الإفهام، لأن الظهار مع العود قد وجدا، فتجب الكفارة كما بأول مرة، وأبو محمد في الكافي يحكي هذه الرواية إن نوى الاستئناف تكررت، وإلا لم تتكرر، وهو ظاهر كلام القاضي في روايتيه وليس بجيد، فإن مأخذ هذه الرواية في الرجل يحلف على شيء واحد أيمانا كثيرة، فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة، وحكى أبو محمد في المقنع الرواية إن كرره في مجالس فكفارات، ولا أظنه إلا وهما، والله أعلم.

(5/509)