شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب اللعان]
ش: اللعان مصدر: لاعن لعانا. إذا فعل ما ذكر، أو لعن كل واحد من الاثنين الآخر، قال أبو محمد: مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا، وقال القاضي: لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا، فتحصل اللعنة عليه. انتهى، قال الأزهري: وأصل اللعن الطرد والإبعاد، يقال: لعنه الله أي باعده. والأصل في اللعان قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] إلى قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] .
2773 - وعن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عاصم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر، فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله

(5/510)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها؛ فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو وسط الناس، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأت بها» قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ؛ قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين. رواهما الشيخان، وأبو داود وهذا لفظه.

قال: وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة، فقال لها: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين. ولم يأت بالبينة، لزمه الحد إن لم يلتعن، مسلما كان أو كافرا، حرا كان أو عبدا.
ش: الكلام على هذه المسألة أولا من جهة الإجمال، وثانيا من جهة التفصيل.
فأما من جهة الإجمال فإذا قذف الرجل زوجته التي هذه صفتها بما ذكر، ولم يأت بالبينة لزمه الحد، فإن التعن سقط عنه الحد، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، أوجب سبحانه الحد على رامي المحصنات إن لم يأت

(5/511)


بالبينة، وهو شامل للأزواج وغيرهم، ثم خص الأزواج بعد ذلك باللعان، تنبيها على أن اللعان قائم مقام البينة في إسقاط الحد.
2774 - ويشهد لهذا ما في السنن عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة وإلا حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك» مختصر، رواه البخاري وأبو داود، والترمذي وابن ماجه.
وأما من جهة التفصيل فقول الخرقي: إذا قذف الرجل زوجته، إلى آخره يقتضي أن اللعان إنما يشرع بين الزوجين، وهو اتفاق في الجملة، أما قذف غير الزوجين فالواجب فيه إما الحد إن كانت المرأة محصنة، أو التعزيز إن لم تكن محصنة، لما تقدم من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] إلى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] دل على أن كل رام يلزمه الحد، وأن الزوج له مع عدم البينة شيء آخر وهو اللعان، وكذلك لا لعان بقذف الأمة، وإن كان بينهما ولد، لأن اللعان، إنما ورد في الزوجات،

(5/512)


ويدخل في الزوجة الرجعية، لأنها زوجة، وكذلك من قذفها ثم أبانها، لأن القذف ورد على زوجته، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق يا زانية ثلاثا؛ لأن قذفها حصل قبل بينونتها، ويستثنى من الأجنبية إذا قذفها في نكاح فاسد، أو أبانها ثم قذفها بزنا في النكاح، أو في العدة أو قال لها: أنت طالق ثلاثا يا زانية، فإن في هذه الصورة إن كان بينهما ولد لاعن لنفيه، للحاجة إلى ذلك، وإن لم تكن زوجة، لإضافة ذلك إلى الزوجية، وإلا حد ولم يلاعن، ويستثنى من الزوجة إذا قذف زوجته بزنا قبل النكاح، فإنه يحد ولا يلاعن على المذهب مطلقا، لإضافة القذف إلى حالة البينونة (وعنه) يلاعن مطلقا، نظرا إلى أنها زوجته، فيدخل في الآية الكريمة (وعنه) إن كان ثم ولد لاعن لحاجته إلى نفيه، وإلا لم يلاعن، انتهى، وقوله: البالغة الحرة المسلمة. إلى آخره، بيان لصفة الزوجين الذين يصح لعانهما، وقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك، فروي عنه أن من شرطهما أن يكونا مكلفين، وإن كانا ذميين، أو رقيقين أو فاسقين، أو كان أحدهما كذلك، لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وهذا شامل لكل زوج وزوجة، خرج منه غير المكلفين، لأن هذا لا يخلو من حد أو تعزير، وذلك لا يتعلق إلا بمكلف، وبنى القاضي وغيره ذلك على أن اللعان يمين، واليمين لا يشترط لها إسلام ولا حرية، ولا عدالة، ودليل ذلك افتقار اللعان إلى اسم الله تعالى.
2775 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» وهذه الرواية هي اختيار القاضي في تعليقه، وجماعة

(5/513)


من أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، واختيار أبي محمد أيضا وغيره (وعنه) يشترط التكليف الإسلام والحرية والعدالة، فلا لعان إلا من مسلمين حرين عدلين، وعلله أحمد بأنه شهادة، وذلك لوجود لفظ الشهادة فيه، ولأن الله سبحانه قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] فجعلهم شهداء (وعنه) رواية ثالثة: لا يصح اللعان إلا من المحصنة وزوجها المكلف، ولا لعان في قذف يوجب التعزير، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ثم قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية، وظاهره المحصنات (وعنه) لا لعان بقذف غير المحصنة، إلا لولد يريد نفيه، وهذا اختيار القاضي في المجرد، نظرا للحاجة لنفي الولد، وظاهر كلام الخرقي الثالثة، لأنه اعتبر في الزوجة البلوغ والحرية والإسلام، ولم يعتبر ذلك في الزوج، والقاضي والشريف وأبو الخطاب قالوا: إن اختياره الثانية.
واعلم أن في كلام الخرقي تساهلا، لأنه قال: لزمه الحد إن لم يلتعن، مسلما كان أو كافرا. والحد إنما يجب بقذف المسلمة، والكافر لا يكون زوجا لمسلمة، وقد يحمل على ما إذا أسلمت فقذفها في عدتها، فإن هنا يلزمه الحد وإن كان كافرا، وله أن يلتعن لإسقاطه إن كان بينهما ولد كما تقدم. انتهى، وقوله:

(5/514)


فقال لها: زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين، بيان للألفاظ التي يصير بها قاذفا، ويترتب عليها اللعان، ولا يشترط أن يضيف ذلك إلى الرؤية، لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولا أن يقذفها بزنا في القبل، بل لا فرق بين القبل والدبر، ولو قذفها بغير الزنا، أو بزنا لكن في غير الفرج فلا حد ولا لعان، ولو لم يقذفها بالزنا أصلا، بأن قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني. ونحو ذلك، فيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله: ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن، تقدم الكلام عليه أولا، وظاهر كلامه أنه إذا قدر على البينة له أن يلتعن وهو كذلك، لأنهما بينتان، فكان له الخيرة في أيهما شاء والله أعلم.

قال: ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته.
ش: يعني لا يعرض له في طلب حد ولا لعان حتى تطالبه زوجته، لأن ذلك حق لها، فلا يقام إلا بطلبها، كبقية حقوقها، ولا يملك وليها المطالبة، وإن كانت صغيرة أو مجنونة، أو أمة، لأنه حق ملحوظ فيه التشفي، فليس لغير من هو له طلبه كالقصاص، فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها، ولا ولد لم يكن له ذلك بلا نزاع عندنا، وكذلك مع وجود الولد على أكثر نصوص الإمام أحمد، لأنه أحد موجبي القذف، فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد، واختار القاضي أن له اللعان وحده، لأجل نفي الولد، لحاجته إلى ذلك، وجعله أبو البركات قياس رواية أنه يلاعن إذا نفى الولد، ولم يرمها بالزنا، بأن قال: لم تزن والولد ليس ولدي. ونحو ذلك، كما سيأتي، وهكذا الخلاف في كل موضع تعذر فيه اللعان من جهتها، كما

(5/515)


إذا أعفته عن المطالبة أو صدقته أو أقام بينة بزناها، أو قذفها وهي محصنة فجنت، أو وهي مجنونة بزنا قبل الجنون، أو وهي خرساء أو ناطقة ثم خرست ولم تفهم إشارتها.

[تحريم الملاعنة على الملاعن على التأبيد]
قال: فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا.
ش: إذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما، حرمت الملاعنة على الملاعن على التأبيد، فلا يجتمعان أبدا على المذهب بلا ريب.
2776 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمتلاعنين: «حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» . قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها» متفق عليه.
2777 - وعن سهل بن سعد في «قصة المتلاعنين: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقال: «لا يجتمعان أبدا» .
2778 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا» .

(5/516)


2779 - وعن علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان» . رواهن الدارقطني.
وشذ حنبل عن أصحابه فنقل عن أحمد أنه إذا أكذب نفسه حلت له، نظرا إلى أن اللعان الذي وجد كأن لم يكن بالتكذيب، وقد اختلف نقل الأصحاب في هذه الرواية، فقال القاضي في الروايتين: نقل حنبل: إن أكذب نفسه زال تحريم الفراش، وعادت مباحة كما كانت بالعقد الأول؛ وقال في الجامع والتعليق: إن أكذب نفسه جلد الحد، وردت إليه، وظاهر هذا أنه من غير تجديد عقد، وهو ظاهر كلام أبي محمد، قال في الكافي والمغني: نقل حنبل: إن أكذب نفسه عاد فراشه كما كان؛ زاد في المغني: وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق الحاكم، فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله؛ وفيما قاله نظر، فإنه إذا لم يفرق الحاكم فإن قيل: الفرقة حصلت باللعان، فهو كتفريق الحاكم، وإن قيل: لا تحصل إلا بتفريق الحاكم، فلا تحريم حتى يقال حلت له، والذي يقال في توجيه ظاهر هذا النقل أن الفرقة إنما استندت للعان، وإذا

(5/517)


أكذب نفسه كأن اللعان لم يوجد، وإذا يزول ما ترتب عليه، وهو الفرقة وما نشأ عنها وهو التحريم.
وأعرض أبو البركات عن هذا كله فقال: إن الفرقة تقع فسخا متأبد التحريم (وعنه) إن أكذب نفسه حلت له بنكاح جديد، أو ملك يمين إن كانت أمة، وقد سبقه إلى ذلك الشيرازي، فحكى الرواية أنها تباح بعقد جديد. انتهى.
فعلى المذهب متى وقع اللعان بعد البينونة أو في نكاح فاسد، فهل يفيد الحرمة المؤبدة، لأنه لعان صحيح، أو لا يفيدها، لأن الفرقة لم تحصل به؟ على وجهين.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفرقة بينهما لا تحصل إلا بتفريق الحاكم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافاتهم، وابن البنا وأبي محمد، وأبي بكر فيما حكاه القاضي في التعليق.
2780 - لما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» . رواه الجماعة.
2781 - «وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رجل قذف امرأته. قال: فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أخوي بني عجلان، وقال: «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب» يرددها ثلاث مرات، فأبيا ففرق بينهما» . متفق عليه، ولو

(5/518)


حصلت الفرقة بمجرد اللعان لما احتيج إلى فرقة.
2782 - وقد تقدم في حديث سهل بن سعد «أن عويمرا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - قال الزهري: فكانت تلك سنة المتلاعنين، وفي رواية في الصحيح: «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وفي لفظ لأحمد ومسلم: فكان فراقه إياها سنة المتلاعنين؛ وظاهره يقتضي أن طلاقه وقع، ولو وقعت الفرقة لما وقع، وقوله: فكانت تلك سنة المتلاعنين يعني التفريق بينهما، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بحديث سهل على أن الفرقة تقع بمجرد اللعان، فقال في رواية ابن القاسم وقد سئل: متى تنقضي الفرقة بينهما؟ فقال: أما في حديث سهل فقال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق. وأما حديث ابن عمر فإنه يقول: فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما؛ وابن عمر أعرف بالحديث، لأن سهلا كان له خمس عشرة سنة، وابن عمر كان رجلا؛ ووجه الدليل من هذا أن قوله: فكانت تلك سنة المتلاعنين. أي الحكم بالفرقة باللعان، ثم يرشح هذا القول أن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، وهذه الرواية عزاها أبو محمد إلى اختيار أبي بكر، وظواهر الأحاديث تدل على الأولى وهي المذهب، وعليها لا يحتاج الحاكم إلى استئذانها، ولو لم يفرق كان النكاح بحاله، قاله أبو محمد، وعلى كلتيهما لا يحصل التفريق قبل تمام اللعان بينهما، لأن النصوص إنما وردت بالتفريق بعد لعانهما.

(5/519)


(تنبيه) فرقة اللعان فسخ لا طلاق، نص عليه، والله أعلم.

[تكذيب الملاعن نفسه]
قال: وإن أكذب نفسه فلها عليه الحد.
ش: إذا أكذب نفسه لزمه ما عليه من وجوب الحد، ولحوق النسب، ولم يثبت ما عليه من عود حلها له، على المذهب كما تقدم، لأن بإكذاب نفسه تبين أن لعانه كذب، وإذا يجب الحد.
2783 - وقد روى الدارقطني بإسناده عن قبيصة قال: قضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها، ثم اعترف وهو في بطنها، حتى إذا ولد أنكره، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجلد ثمانين جلدة، لفريته عليها، ثم ألحق به ولدها، وإنما لم يثبت الحل حذارا من أن يثبت له بمجرد قوله حل، ولما كان من مذهب الخرقي أن اللعان لا يشرع إلا في قذف المحصنة اقتصر على الحد، أما على قول غيره من أنه يشرع وإن لم تكن محصنة، فيقول: أو التعزير إن لم تكن محصنة. والله أعلم.

[ما يترتب على اللعان]
قال: وإن قذفها وانتفى من ولدها، وتم اللعان بينهما

(5/520)


بتفريق الحاكم، انتفى عنه إذا ذكره في اللعان.
ش: إذا ولدت المرأة ولدا لحق زوجها.
2784 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش» ولا ينتفي عنه إلا باللعان على الصفة التي ذكرها الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما سيأتي بيانه.
2785 - وذلك لما تقدم في حديث ابن عمر الصحيح: «أن رجلا لاعن امرأته، وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» .
2786 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين هلال وامرأته قال: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» رواه أحمد وأبو داود،

(5/521)


واختلف بماذا ينتفي (فعنه) بتمام لعانهما (وعنه) بنفي الحاكم مع ذلك، وهذا الخلاف كالخلاف في الفرقة، بماذا تحصل (وعنه) ثالثة تقف الفرقة على حكم الحاكم، فإذا فرق انتفى الولد، لأن قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالأم. ظاهره أن نفي الولد مرتب على التفريق، وخرج أبو البركات قولا آخر، أن الولد ينتفي بلعان الزوج وحده، وكأنه خرجه من القول: إن تعذر اللعان من جهة المرأة، يلاعن الزوج وحده لنفي الولد.
وقول الخرقي: وإن قذفها وانتفى من ولدها. لأن عنده كما سيأتي أن من شرط اللعان القذف، وقوله: وتم اللعان بينهما.
يحترز عن مذهب الغير أن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج، كالتخريج المتقدم، وقوله: وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم، الظاهر أن الباء فيه للمعية، أي مع تفريق الحاكم، لا للسببية، إذ تفريق الحاكم ليس سببا لتمام اللعان، بل تمامه بألفاظه المشترطة كما سيأتي، وقوله: انتفى عنه إذا ذكره في اللعان، يعني أنه يشترط لنفي الولد أن يذكره في اللعان، فلو لم يذكره لم ينتف، وهذا مختار القاضي وأبي محمد وغيرهما، لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلا لاعن

(5/522)


امرأته وانتفى من ولدها، ولأن غاية اللعان أن يثبت زناها، وذلك لا يوجب نفي الولد، كما لو أقرت به. وعلى هذا يشترط أن يذكره في الألفاظ الخمسة، وحكى أبو محمد تبعا للقاضي في روايتيه عن أبي بكر في الخلاف أنه لا يشترط ذكره، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم في لعان هلال وامرأته، وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يدعى ولدها لأب، وليس في القصة أنه ذكر الولد في اللعان، ولم يعرج أبو البركات على هذا الخلاف، بل جزم أنه لا بد أن يتناوله اللعان، إما صريحا بأن يقول في لعانه: وما هذا الولد ولدي. وإما ضمنا، بأن يقول من قذفها بزنا في طهر لم يصبها فيه وأنه اعتزلها حتى ولدت: أشهد بالله أني لصادق فيما ادعيت به، ونحو ذلك، واعلم أنه يشترط لنفي الولد باللعان أن يتقدمه إقرار به، أو ما يدل عليه، والله أعلم.
قال: فإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد.
ش: قد تقدم أنه إذا أكذب نفسه ثبت ما عليه من الحد، ولحوق الولد، لأن نفقته تجب عليه، وكلام الخرقي يشمل وإن كان الولد ميتا وله مال، وهو كذلك، والله أعلم.

قال: وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن.
ش: منصوص أحمد في رواية الجماعة أنه لا يصح نفي

(5/523)


الحمل، وقال: ربما لم يكن شيئا، لعله يكون ريحا، وعلى هذا عامة الأصحاب، معتمدين بأنه يكون ريحا، وقد يكون غيره، فيصير نفيه مشروطا بوجوده، ولأن الأحكام التي ينفرد بها الحمل تقف على ولادته، بدليل الميراث والوصية، وغير ذلك، وهذا حكم ينفرد به الحمل، فدخل في القاعدة، وفارق وجوب النفقة على الحامل، وكونها لا توطأ حتى تضع وغير ذلك، لأن هذه أحكام تتعلق بحيوان حامل، لا ينفرد بالحمل، فعلى هذا لا بد أن ينفيه عند وضعها له ويلاعن، ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أنه يصح نفيه، وهو اختيار أبي محمد، لأن في حديث سهل: «وقضى أن لا يدعى ولدها لأب» ، ولعان هلال وامرأته كان قبل الوضع، كما جاء في غير حديث.
2787 - وجاء مصرحا في حديث سهل وكانت حاملا.
2788 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن على الحمل» ، رواه أحمد. وينبني على هذا الخلاف في استلحاقه، فعلى الأول لا يصح، وقد نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم، وعلى الثاني يصح. والله تعالى أعلم.

(5/524)


قال: ولو جاءت امرأته بولد، فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم، ولا حد عليه لها.
ش: أما كون الولد والحال ما تقدم ولده، فلأنه ولد على فراشه، وقد قال: «الولد للفراش» وأما كونه لا حد عليه فلأن شرط وجوب الحد القذف ولم يوجد، وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له اللعان لنفي الولد، وهذا اختيار القاضي في الروايتين، وأبي محمد، لأن اللعان الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعد القذف، ولا قذف هنا، فينتفي اللعان، إذ الأصل الانتفاء مطلقا، إلا فيما ورد به الشرع، (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر، وابن حامد، والقاضي في تعليقه وفي روايتيه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وأبي البركات: له ذلك، لأن مشروعية اللعان لشيئين، نفي الحد والولد، ولا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر، ولو سلم أن أصل مشروعيته لنفي الحد، فليشرع لأجل الولد من باب الأولى، إذ ضرر الولد يتأكد، ويلزم منه مفاسد عظيمة، لا يوجد بعضها في الحد، فكيف بمجموعها.
(تنبيهان) : أحدهما ذكر أبو البركات من صور الروايتين إذ

(5/525)


قال صورة الخرقي، ولم يقل: ولم تزن. ولم يجعله قاذفا، أو قال: وطئت بشبهة، أو مقهورة بنوم أو إغماء أو جنون أو إكراه، وحكى اختيار الخرقي في الجميع، وأبو محمد في المغني قطع فيما إذا قال: وطئت بشبهة أنه لا لعان. وحكى الخلاف فيما إذا قال أكرهت على الزنا. وهذا ظاهر كلام القاضي، لأنه استدل لاختيار الخرقي بأن من رمى أحد الواطئين لم يكن له أن يلاعن، كما لو قذف الزوجة دون الواطئ، فقال: وطئك فلان بشبهة، وكنت عالمة أنه أجنبي. وأجاب عن ذلك في التعليق بأنه إنما لم يكن له اللعان لجواز نفي الولد عنه، بعرضه على القافة، وأبو محمد يقول في هذه الصورة التي جعلها القاضي محل وفاق: له اللعان، وينصب الخلاف مع القاضي، وضابط الباب أنه متى قذف بالزنا، بأن تضمن قذفه رميها ورمي واطئها، شرع اللعان بلا ريب، وعكسه إن لم يقذفها، ولا قذف واطئها، فهنا لا لعان عند أبي محمد في المغني، والقاضي، ولا خلاف، وعند أبي محمد في المقنع وأبي البركات فيه الروايتان، والصحيح عند أبي البركات مشروعية اللعان، وهذا الذي اقتضى لأبي البركات أن يقول: وهو أصح عندي. أي في جميع الصور، وإن قذف واطئها دونها، بأن قال: أكرهت على الزنا. ونحو ذلك، فهنا يجري الخلاف بلا ريب، والمصحح عند القاضي ومن تقدم مشروعية اللعان، خلافا للخرقي، وأبي محمد، وإن قذفها دون الواطئ، كما إذا قال: وطئك فلان بشبهة. وكنت عالمة، فعند القاضي هنا لا خلاف أنه لا يلاعن،

(5/526)


ومختار أبي محمد أنه يلاعن، وكلام أبي البركات محتمل لجريان الخلاف، وأن الصحيح عنده مشروعية اللعان، ومناط المسألة عند القاضي أن لا يكون له طريق إلى نفي الولد إلا اللعان، والمناط عند أبي محمد والخرقي أن يقذف زوجته بالزنا، والمناط عند أبي البركات أنه يحتاج إلى نفي الولد، وإن أمكن نفيه بالعرض على القافة، ونحو ذلك، لأن القافة قد تتعذر، وقد يشتبه الأمر عليها، ونحو ذلك.
(التنبيه الثاني) حيث شرع اللعان في هذه الصور فإن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج وحده، ذكره أبو البركات، والله أعلم.

[اللعان الذي يبرأ به من الحد]
قال: واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم: أشهد بالله لقد زنت. ويشير إليها، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها، حتى يكمل ذلك أربع مرات، ثم يوقف عند الخامسة ويقال له: اتق الله، فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فإن أبى إلا أن يتم فليقل: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فيما رماها به من الزنا، وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب. أربع مرات، ثم توقف عند الخامسة، وتخوف كما يخوف الرجل، فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فيما رماني به من الزنا، ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما.
ش: هذا بيان لصفة اللعان، والأصل فيه في الجملة الآية الكريمة، وقد تقدمت.

(5/527)


2789 - «وعن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يا أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان، قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعا بالمرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7] ثم ثنى بالمرأة فشهدت: {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ - وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8 - 9] ثم فرق بينهما» ، متفق عليه.
وظاهر كلام الخرقي أن جميع ما ذكره تتوقف صحة اللعان عليه، فيكون شرطا فيه، ونحن نتكلم عليه مفصلا، فأما كون ذلك بمحضر الحاكم فلا بد منه.
2790 - لأن في «قصة هلال أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أرسلوا إليها، فتلا عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الدنيا

(5/528)


أهون من عذاب الآخرة، فقال هلال: والله لقد صدقت عليهما، فقالت: كذب. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاعنوا بينهما» » وظاهره أنه كان بحضوره، وكذلك بقية الأحاديث، تدل على ذلك، نعم لو كانت المرأة خفرة، بعث الحاكم من يلاعن بينهما، إذ هو نائب عنه، ونائبه قائم مقامه، وأما كون الزوج يقول: أشهد بالله أربع مرات. فللآية الكريمة والحديث، وأما كونه يقول: لقد زنت. فلأن الذي يشهد به هو زناها، وأما كونه يشير إليها فلتتميز عن غيرها، وهذا إذا كانت حاضرة، فإن كانت غائبة أسماها ونسبها، حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها، وهذا كله شرط، وقيل لأحمد: كيف يلاعن؟ قال: على ما في كتاب الله، يقول أربع مرات: أشهد بالله إني فيما رميتها به من الزنا لمن الصادقين. وهو ظاهر النصوص، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى استغنى عن ذلك بقوله: لقد زنت. لأن معناهما واحد، قال أبو محمد: واتباع لفظ النص أولى وأحسن.
2791 - وأما كون الزوج يوقف بعد الرابعة، ويقال له ما ذكر، فلأن في «حديث هلال لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاعنوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد. فشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر، وإن هذه الموجبة التي

(5/529)


توجب العذاب. فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] ثم قيل لها: اشهدي. فشهدت: {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] » الحديث رواه أبو داود وأحمد، وهو ظاهر النصوص، وهذا الإيقاف والموعظة مستحبان عند الأصحاب، لأنهما ليسا في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الصحيح، وإنما فيه الموعظة أولا، وأما كونه إن لم يرجع وأبى إلا أن يتم فليقل: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا، للآية الكريمة والحديث، وهذا أيضا شرط، إلا أنه لو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد أو بالغضب ففي الإجزاء ثلاثة أوجه (ثالثها) الاجتزاء بالغضب لا بالإبعاد، وفي إبدال لفظه أشهد بأقسم أو أحلف وجهان، أصحهما: لا يجزئ: وقال الوزير ابن هبيرة من أصحابنا: من اشترط من الفقهاء أنه يزاد بعد قوله: {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] : فيما رميتها به من الزنا. اشترط في نفيها عن نفسها: فيما رماني به من الزنا. ولا أراه يحتاج إلى ذلك، لأن

(5/530)


الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط، وأما كون المرأة تقول بعد ذلك: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، أو لقد كذب. على ما قال الخرقي إلى آخره، فلما تقدم، وهو كله أيضا شرط إلا الموعظة والإيقاف كما في الرجل، وإذا أبدلت الغضب باللعنة لم يجز، لأن الغضب أبلغ، وإن أبدلت الغضب بالسخط فوجهان، وقد تضمن كلام الخرقي أن لعان الزوج مقدم، وهو كذلك، فلو ابتدأت المرأة لم يعتد بذلك، وكذلك الترتيب في الألفاظ شرط، واعلم أن من شرط اللعان أيضا الإلقاء من الحاكم أو نائبه، فلو ابتدأ الرجل من غير إلقاء لم يعتد به، كما لو حلف من غير أن يأذن له الحاكم، أو شهد من غير سؤال، والله أعلم.

قال: فإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد، فإذا قال: أشهد بالله لقد زنت، يقول: ما هذا الولد ولدي. وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده.
ش: قد تقدم أنه يشترط لنفي الولد ذكره في اللعان، وأنه لا ينتفي إلا بذلك، على مختار الخرقي، ثم إن الخرقي اكتفى بأن يقول: وما هذا الولد ولدي. وتبعه على ذلك أبو محمد، وقال القاضي: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا، وليس هو مني. يعني خلقا وخلقا، والله أعلم.

قال: فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها، والزوجية بحالها.
ش: أما انتفاء الحد عنها فلا نعلم فيه خلافا في مذهبنا، لأن

(5/531)


الحد يدرأ بالشبهة، ونكولها شبهة، لأنه يحتمل أن يكون لشدة حيائها، أو لعقدة على لسانها، أو غير ذلك، وهذا شبهة فدرأت الحد.
2792 - ويرشح هذا قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الحد على من زنا وقد أحصن، إذا كانت بينة، أو كان الحمل أو الاعتراف، وظاهره أنه لا حد بغير ذلك، وقول الله سبحانه: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] يحتمل أن يراد بالعذاب الحد، ويحتمل أن يراد الحبس، ويحتمل أن يراد غيره، فلا يثبت الحد بالاحتمال، وأما كون الزوجية بحالها فلأن الفرقة إنما تحصل بالتعانهما، ولم يوجد ذلك.
وظاهر كلام الخرقي أنه يخلى سبيلها، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، لأن هذا لعان لم يوجب حدا، فلم يوجب حبسا، كما لو لم تكمل البينة، (والثانية) : وهي اختيار القاضي، وأبي علي بن البنا، والشيرازي وغيرهم - أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] فإذا لم تشهد لم يندرئ العذاب عنها، وإنما قلنا: العذاب الحبس لآية النساء وهي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية إلى {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وإنما لم يقل إنه الحد حذارا

(5/532)


من ارتكاب الأثقل بالاحتمال، ومقتضى كلام الخرقي أن الولد لاحق له، وهو كذلك، والله أعلم.

قال: وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات.
ش: يعني لا حد عليها، لأنه لم يثبت بلعانه كما تقدم، ولا بإقرارها المذكور، إذ شرط ثبوت الحد عليها بالإقرار أن تقر أربعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والزوجية بحالها كما تقدم، وحكم هذه حكم من نكلت على ما تقدم، في حبسها أو تخليتها، وفي أن الولد لاحق بالزوج على المنصوص، وقد تقدم فيه قول آخر أن للزوج أن يلتعن وحده لنفيه، وحكى ابن حمدان قولا أنها إذا أقرت بعد النكول ثلاثا أنها تحد، وكأن مدركه أن شهادة الرجل بمنزلة شاهد، فقد وجد بلعانه ربع النصاب، وبإقرارها ثلاثة أرباعه، ويلزم على هذا لو أقرت ثلاث مرات، وشهد شاهد أنها تحد، ولا أعرف النقل في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/533)