شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الجراح]
ش: الجراح جمع جراحة، بمعنى الجرح بفتح الجيم، مصدر جرحه يجرحه جرحا،
والاسم الجرح بضم الجيم، وذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجراح وإن كان
القتل يوجد بغيره لغلبة وقوع القتل به بخلاف غيره.
[أنواع القتل]
قال: والقتل على ثلاثة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
ش: القتل بحسب صفته يقع على ثلاثة أوجه، لأن الضارب إن قصد القتل بآلة تصلح
له غالبا فهذا هو العمد، وإن قصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالبا فهو شبه
العمد، وإن لم يقصد القتل فهو الخطأ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ومن تبعه
زاد قسما رابعا، وهو ما أجري مجرى الخطأ كالقتل بالسبب، وكالنائم ينقلب على
إنسان ونحو ذلك، ولا نزاع أنه باعتبار الحكم الشرعي لا يزيد على ثلاثة
أوجه، (عمد) وهو ما فيه القصاص أو الدية.
(6/46)
2899 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله
لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]
الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال: فالعفو
أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بمعروف يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه
المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:
178] فيما كتب على من كان قبلكم، رواه البخاري وغيره.
2900 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدي» .
(6/47)
(وشبه عمد) وهو ما فيه دية مغلظة، من غير
قود.
2901 - فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل شبه العمد مغلظ مثل
عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فيكون دم في
عميا، في غير ضغينة، ولا حمل سلاح» رواه أحمد وأبو داود.
(6/48)
(وخطأ) وهو ما فيه دية مخففة.
2902 - فعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون
جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر» رواه
الخمسة.
(6/49)
(تنبيه) (ينزو الشيطان) أي يثب (في عميا)
أي جهالة و (في غير ضغينة) أي ذنب أي يثير الشيطان فتنة بين قوم، فيقتل
إنسان، ولا يعرف من قتله في غير ذنب، والله أعلم.
[القتل العمد وموجبه]
قال: فالعمد أن يضربه بحديدة، أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط، أو حجر كبير
الغالب أن يقتل مثله، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أو فعل به فعلا الغالب
أنه يتلف.
ش: لما ذكر الخرقي أن القتل يقع على ثلاثة أوجه، أراد أن
(6/50)
يعرف كل واحد منها، فعرف العمد بما ملخصه
أن يقصد ضربه بمحدد، أو شيء الغالب أنه يتلف.
فقوله: ما إذا ضربه بحديدة، أي ما إذا قصد ضربه بحديدة فجرحه، وفي معنى ذلك
كل محدد من حجر أو غيره، وقوله: أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط. . .
الفسطاط هنا خيمة صغيرة، وعمودها التي تقوم عليه.
2903 - وإنما شرط الخرقي في قتل العمد الزيادة على ذلك لما روى المغيرة بن
شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط،
فقتلتها وهي حبلى، قال: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، قال: فقال
رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك
يطل. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسجع كسجع
الأعراب» قال: وجعل عليهم الدية» . رواه مسلم، ولو كان القتل بذلك عمدا
لأوجب فيه القود، ولم يجعل الدية على العاقلة، لأنهم لا يحملون عمدا
اتفاقا.
وقوله: أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله، أي في عرف الناس، ولم يقل في ظنه،
لاتهامه في ذلك، (وقوله) : أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أي إعادة تقتل
غالبا، وفي معنى ذلك إذا ضربه بخشبة صغيرة في مقتل، أو في حال ضعف قوة من
مرض، أو صغر أو كبر، أو حر أو برد، ونحو ذلك،
(6/51)
(وقوله) : أو فعل به فعلا الغالب أنه يتلف.
كأن ألقاه في ماء كثير يغرقه عادة، أو في نار لا يمكنه التخلص منها، أو في
زبية أسد، أو من شاهق، أو أنهشه كلبا أو سبعا أو حية، أو ألسعه عقربا من
القواتل، أو سحره بما يقتل غالبا، أو أطعمه طعاما بسم يقتل مثله غالبا،
ونحو ذلك.
(تنبيه) قال ابن الأثير: الفسطاط الخيمة الكبيرة، ولعله يريد باعتبار عرف
زمانه، وإن أراد أنه في اللغة كذلك، فهو محمول على ما تقدم، لما مر من
الإجماع على أن العاقلة لا تحمل العمد انتهى، وهو فارسي معرب، وفيه ست
لغات، فسطاط، وفستاط، وفساط مع ضم الفاء وكسرها فيهن، (واستهل المولود) إذا
بكى حين يولد، والاستهلال رفع الصوت، (ويطل) روي بالمثناة من تحت، وروي
بالموحدة، فعلى الأول هو من طل دمه إذا هدر، ولم يطلب بثأره، وعلى الثاني
هو فعل ماض من البطلان، (والسجع)
(6/52)
تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد،
نحو: وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. والاستفهام
لما يتضمنه السجع من الباطل، وكذلك جعله له كسجع الأعراب. وفي رواية:
الكهان. أما السجع الخالي من الباطل فليس بمذموم، لوروده في الكتاب العزيز،
وفي كلام سيدنا محمد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحو: {فِي
سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28] {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29]
{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَارًا} [نوح: 13] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] قال بعضهم:
لا يقال في القرآن أسجاع، وإنما يقال فواصل، مستدلا بما تقدم، وقد يقال:
إذا كان الإنكار للباطل فيه، فلا تمتنع التسمية، لعدم ورود الإنكار عليها.
قال: ففيه القود.
ش: أي العمد، سواء كان القتل بمحدد أو بغيره، (أما المحدد) فالقود به اتفاق
في الجملة، إذا كان الجرح بسكين
(6/53)
ونحوها، جرحا كبيرا، أما إن كان صغيرا،
كشرطة الحجام ونحوها، أو غرزة بإبرة أو شوكة، فإن كان في مقتل كالعين
والفؤاد فكذلك، إذ مثل ذلك في هذا المحل يقتل غالبا، وكذلك إن كان في غير
مقتل لكن بقي متألما حتى مات، لصلاحية السبب، مع أن الأصل عدم غيره، وإذا
كان في غير مقتل ومات في الحال فوجهان (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي -
أن فيه القود، لأن المحدد له سراية ونفوذ، وقد عضد ذلك موته في الحال،
ولهذا قيل فيه إنه لا يعتبر غلبة الظن في حصول القتل به بخلاف غيره،
(والثاني) - وهو قول ابن حامد - لا قود بذلك، لأن الظاهر أن الموت ليس منه.
وأما إذا كان بغيره فكذلك عندنا وعند الجمهور، ولإطلاق {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا
فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] «من قتل له قتيل
فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدي» ونحو ذلك.
2904 - ولخصوص ما روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن يهوديا رض
رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بالحجارة، وقال همام: بحجرين» .
(6/54)
متفق عليه. وللبخاري: قتلها على أوضاح لها.
ولا يقال: قتله
لنقض العهد، لأنه إذا كان يقتله بالسيف، ولما قتله بالرض بالحجارة دل على
إرادة المماثلة، المدلول عليها بقوله سبحانه؛ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
2905 - وما روي من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا
وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل» فمحمول على حجر
(6/55)
شبيه بالسوط والعصا وهو الصغير، جمعا بين
الأدلة.
(تنبيه) : «إما أن يقتل، وإما أن يفدي» أي يأخذ الدية، (والرض) دق الشيء
بين حجرين، وما جرى مجراهما (والأوضاح) واحدها وضح، الحلي من النقرة.
قال: إذا اجتمع عليه الأولياء، وكان المقتول حرا مسلما.
ش: أي شرط وجوب القود في العمد اجتماع جميع الأولياء على الاستيفاء، فلو
عفا بعضهم سقط القصاص، لعدم تبعيضه، وكذلك إذا كان بعضهم صغيرا أو مجنونا
أو غائبا، فإن استيفاءه يتوقف على قدوم الغائب أو توكيله، وحصول التكليف،
وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى وشرطه أيضا أن يكون
المقتول حرا مسلما، وهذا من حيث الجملة، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى.
[القتل شبه العمد وموجبه]
قال: وشبه العمد أن يضربه بخشبة صغيرة، أو حجر صغير، أو لكزة أو فعل به
فعلا الأغلب من ذلك الفعل أن لا يقتل.
(6/56)
ش: شبه العمد أن يقصد القتل بآلة لا تصلح
للقتل غالبا ولم يجرحه، كما مثل الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكما إذا نخزه
بشيء لا يقتل غالبا، أو ألقاه في ماء لا يغرقه مثله غالبا، ويسمى ذلك شبه
العمد، لأنه جمع عمدا لقصده الجناية، وخطأ لعدم صلاحية الآلة لذلك، وسمي
أيضا عمد الخطأ، وخطأ العمد لذلك.
(تنبيه) اللكز الضرب بجمع الكف في أي موضع كان من جسده، وعن أبي عبيدة:
الضرب بالجمع على الصدر.
قال: فلا قود في هذا.
ش: لحديث عمرو بن شعيب المتقدم «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا
يقتل صاحبه» وحديث: «ألا وإن في قتل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة
من الإبل» .
قال: والدية على عاقلته.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، لحديث المغيرة بن
شعبة في التي قتلت ضرتها بعمود الفسطاط (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي
بكر: تجب الدية على الجاني.
2906 - لعموم «لا يجني جان إلا على نفسه» ، ولا يخفى ضعف
(6/57)
هذا، إذ الخاص يقضي على العام، فعلى الأول
تجب مؤجلة على العاقلة بلا ريب، وعلى الثاني هل تجب على القاتل مؤجلة أو
حالة؟ على قولين لأبي بكر.
[القتل الخطأ وموجبه]
قال: والخطأ على ضربين، أحدهما أن يرمي الصيد، أو يفعل ما يجوز له فعله،
فيئول إلى إتلاف حر، مسلما كان أو كافرا.
ش: لما فرغ من تعريف العمد وشبهه، أشار إلى تعريف الخطأ، وقد تقدمت الإشارة
إلى ذلك، وهو على ضربين، خطأ في الفعل وهو الذي ذكره الخرقي، ولا ريب أن
الخطأ واضح فيه، وقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن
القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره، لا أعلمهم يختلفون فيه.
وقوله: مسلما كان أو كافرا. تنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين المسلم
والكافر، كما دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، ولا بد من تقييد
الكافر بأن يكون له عهد، كما في الآية الكريمة، وقوله: أو يفعل ما يجوز له
فعله. مفهومه أنه إذا فعل ما ليس له فعله، كأن يقصد رمي آدمي معصوم، أو
بهيمة
(6/58)
محترمة، فيصيب غيره، أن الحكم ليس كذلك،
فيكون عمدا، وهو منصوص أحمد في رواية الحسن بن محمد بن الحارث، على ما ذكره
القاضي في روايتيه، وخرجه أبو محمد على قول أبي بكر فيمن رمى نصرانيا، فلم
يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد، يجب به القصاص، والذي أورده في المغني
مذهبا أن هذا أيضا خطأ، إناطة بعدم قصد من قتل، وهو مقتضى قول المجد، قال:
أن يرمي صيدا أو هدفا أو شخصا، فيصيب إنسانا لم يقصده.
قال: فتكون الدية على العاقلة، وعليه عتق رقبة مؤمنة.
ش: الخطأ لا قود فيه اتفاقا، كما أشعر به قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] الآية،
ولأن شبه العمد إذا لم يجب القود فيه كما تقدم، ففي الخطأ أولى، وتجب الدية
فيه على العاقلة اتفاقا حكاه ابن المنذر، وقياسا على شبه العمد، وقد ثبت
بالنص، وعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، لعموم «لا يجني جان إلا على نفسه» مع
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
(تنبيه) : تقدير الآية الكريمة والله أعلم: فالواجب تحرير رقبة
(6/59)
مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، ومن يتعلق به
الواجب ليس في الآية ما يدل عليه، ولا يصح أن يقدر (فعليه تحرير رقبة مؤمنة
ودية مسلمة إلى أهله) لأن الدية ليست عليه، نعم إن قيل: الدية عليه، وأن
العاقلة تحملها عنه، صح ذلك، لكن المعروف خلافه.
قال: والوجه الآخر أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر، ويكون قد أسلم
وكتم إسلامه، إلى أن يقدر على التخلص إلى بلاد الإسلام، فيكون على قاتله
عتق رقبة مؤمنة بلا دية؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:
92] .
ش: هذا الضرب الثاني من ضربي الخطأ، وهو الخطأ في القصد، ولا نزاع في كون
هذا ونحوه خطأ، ولا نزاع أيضا في وجوب الرقبة على القاتل، للآية الكريمة،
ووقع النزاع في الدية، والمشهور عن إمامنا، ومختار عامة أصحابنا - الخرقي،
والقاضي، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم - عدم وجوبها مطلقا، لما
أشار إليه الخرقي، وهو أن الله سبحانه ذكر (أولا) قتل المؤمن خطأ، وأن فيه
الكفارة والدية، ثم ذكر (ثانيا) إذا كان من قوم عدو لنا وهو مؤمن، وأن فيه
الكفارة، ولم يذكر الدية، ثم ذكر (ثالثا) إذا كان من قوم بيننا وبينهم
ميثاق، أن فيه الكفارة والدية، فظاهر الآية الكريمة أن القسم الثاني لا دية
فيه (وعن أحمد) رواية أخرى تجب الدية على العاقلة، ودليلها يظهر من الكلام
على الآية
(6/60)
الكريمة، وذلك أن (من) في قوله {فَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] يحتمل أن تكون لبيان
الجنس، فيكون ظاهر الآية الكريمة عدم وجوب الدية فيمن تقدم ذكره، كما ذكره
الخرقي، ويلحق به من أسلم ودخل دار الحرب، للاشتراك في أنه قصد قتل حربي،
وإنما لم تجب الدية والحال هذه والله أعلم لأن الشارع له حرص عظيم على قتل
أهل الحرب من غير تثبت، إذا بلغتهم الدعوة، فلو أوجبنا الدية في هذه الحال،
ربما توقف فيمن يقتله منهم، ويحتمل - وهو الذي قدمه البغوي أن تكون (من)
ظرفية، كقوله سبحانه؛ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}
[الجمعة: 9] {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40] فإذًا معنى
الآية: فإن كان في قوم عدو لكم وهو مؤمن، وهذا يشمل ما قاله الخرقي، وما
إذا تترس الكفار بمسلم، وخيف على المسلمين إن لم يرموا فرماهم فأصاب
المسلم، وهذا رواية ثالثة لإمامنا، وللمفسرين قول آخر، وهو الذي قطع به
الزجاج، والزمخشري، أن المعنى في الآية الكريمة أن يسلم الرجل في قومه
الكفار، وهو بين أظهرهم فيقتل، ولا دية لأهله لأنهم كفار محاربون، فلا
يستحقون الدية، فانتفاء الدية كان لعدم
(6/61)
مستحقها، لا لعدم قبول المحل لها، ولهذا
أوجب الله سبحانه وتعالى بعد في من بيننا وبينهم ميثاق الدية، لوجود
مستحقها، (ومن) أيضا على هذا القول لبيان الجنس وروايتنا الثانية تتوجه على
هذا القول.
2907 - ويؤيد ذلك ما روى محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
«اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد، وهم لا يعرفونه
فقتلوه، فأراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يديه،
فتصدق حذيفة بديته على المسلمين» . رواه أحمد، وفي لفظ رواه الشافعي قال:
«فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديته» .
2908 - وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
قتل خطأ فديته مائة من الإبل» مختصر، رواه الخمسة إلا الترمذي.
(6/62)
[المماثلة بين
القاتل والمقتول من شروط القصاص]
قال: ولا يقتل مسلم بكافر.
2909 - ش: لما روى أبو جحيفة قال: قلت لعلي: يا أمير المؤمنين هل عندكم
سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما
علمته، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال: قلت:
وما في هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن
بكافر. رواه أحمد والبخاري، والنسائي والترمذي.
2910 - وعن قيس بن عباد قال: «انطلقت أنا والأشتر إلى علي بن أبي طالب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلنا له: هل عهد إليك رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا إلا
ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه، فإذا فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم،
وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو
عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا، فعليه
لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» رواه أحمد وأبو داود والنسائي، قال
بعض الحفاظ: رجاله رجال الصحيحين.
(6/63)
2911 - ولأبي داود وأحمد عن عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نحوه، وهذا نحوه يخص {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ
جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:
33] .
2912 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العمد قود، من قتل له
قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتله، وإن أحبوا الدية» على أن {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] إنما ورد - والله أعلم - في
المسلمين، بدليل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]
(6/64)
فخاطب المسلمين، ثم قال سبحانه: {فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] والكافر ليس بأخ للمسلم
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] شرع من قبلنا ولا نسلم أنه
شرع لنا، ولو سلم فقد ورد شرعنا بخلافه، ثم قد قيل: إن فيها ما يدل على
إرادة المسلمين، وهو قوله سبحانه: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] ولا كفارة للكافر ولا صدقة.
2913 - وما روى ابن البيلماني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» رواه
الدارقطني. مردود (أولا) بضعفه، فإن أحمد قال في رواية الميموني: ليس له
إسناد. وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه: الحق فيمن ذهب إلى حديث رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مؤمن بكافر» وإن
احتج بحديث البيلماني محتج فهو عندي مخطئ، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى آخر
رده، وهذا مبالغة في ضعف الحديث، وأن مثله لا يسوغ معه الاجتهاد، وقال
الدارقطني: ابن البيلماني ضعيف، لا تقوم به حجة (وثانيا) بأنه حكاية
(6/65)
فعل لا عموم له، فيحمل إن صح على أنه قتله
وهو كافر ثم أسلم.
واعترض على دليلنا بأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» لا بد فيه من تقدير، وإلا يلزم أن ذا
العهد لا يقتل في عهده مطلقا، إذ يقتل بالذمي والمعاهد، والتقدير: ولا ذو
عهد في عهده بحربي والقيد في المعطوف قيد في المعطوف عليه، وأجيب (أولا)
بالمنع، وأن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم، لا في توابعه، والعطف
في أنه لا يقتل، من غير نظر إلى تعيين من يقتل به، كما تقول: مررت بزيد
قائما وعمرو، أي ومررت بعمرو، ولا يلزم أن يكون قائما (وثانيا) أنه ليس
المراد والله أعلم أنه لا يقتل إذا قتل، بل (في) (إما ظرفية) كما هو الأصل
فيها، أي ولا ذو عهد ما دام باقيا في عهده، نبه – - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العهد لا يقتضي العصمة مطلقا، كما في الذمة، بل في
زمن العهد خاصة، (أو سببية) .
2914 - كما في الصحيح «أن امرأة دخلت النار في هرة» . أي ولا ذو عهد بسبب
عهده، نبه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك على أن العهد سبب
لعصمة الدم، وناسب ذكر ذلك هنا، لئلا يتوهم من عدم قتل المسلم بالكافر
التساهل في قتل الكافر، فبين – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
وإن لم
(6/66)
يقتل المسلم بالكافر، لكن لا يقتل المعاهد،
ما دام له عهد. انتهى.
وقول الخرقي: ولا يقتل مسلم بكافر. يستثنى منه صورتان (إحداهما) إذا قتله
أو جرحه وهو كافر ثم أسلم، فإنه يقتل به على المنصوص، نظرا لابتداء الحال،
وفيه احتمال، اعتمادا على إطلاق الحديث (والصورة الثانية) إذا قتله في
المحاربة، على إحدى الروايتين، ومفهوم كلامه أن المسلم يقتل بالمسلم،
والكافر بالكافر، وهو كذلك في الجملة، إذ لا بد من عصمة المقتول.
(تنبيه) : «فلق الحبة» هو شقها للإنبات، «وبرأ النسمة» البرء الخلق،
والنسمة كل ذي روح، «والتكافؤ» التماثل والتساوي، أي أنهم متساوون في
القصاص والدية، لا فضل لشريف على وضيع، ولا كبير على صغير، ونحو ذلك، «وهم
يد على من سواهم» أي أنهم مجتمعون يدا واحدة على غيرهم، من أرباب الملك فلا
يسع أحدا منهم أن يتقاعد عن نصرة أخيه المسلم، «ويسعى بذمتهم أدناهم» أي
أدنى
(6/67)
المسلمين إذا أعطى أمانا، فعلى الباقين
موافقته، وأن لا ينقضوا عهده «وأحدث حدثا» الحدث الأمر الحادث، والمراد هنا
الجناية والجرم، «وآوى محدثا» آواه ضمه إليه وحماه، والمحدث الذي يجني
الجناية.
قال: ولا حر بعبد.
ش: لمفهوم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] .
2915 - ولما روى الدارقطني بإسناده عن إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين،
ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة» . وإسماعيل بن عياش حجة في الشاميين على
الصحيح.
(6/68)
2916 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
«السنة أن لا يقتل حر بعبد» . رواه أحمد، وهو منصرف إلى سنة رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2917 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» رواه الدارقطني.
2918 - وروى أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن أبا بكر وعمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا لا يقتلان الحر بالعبد، ولأن القصاص لا
يجري بينهما في الأطراف، فكذلك في النفس، كالأب مع ابنه، وبهذا يتخصص
(النفس بالنفس) «العمد قود» «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ونحوه.
2919 - وما في السنن من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» وفي
رواية:
(6/69)
«ومن خصى عبده خصيناه» محمول على من قتل من
كان عبده، أراد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم أن
يبين أن إنعامه بالعتق لا يمنع القصاص، جمعا بين الأدلة ولأن في الحديث:
«ومن جدع عبده جدعناه» وقد نقل الإجماع أن ذلك لا يجب.
وعموم كلام الخرقي يقتضي أن الحر لا يقتل بالعبد، وإن كان الحر ذميا، وهو
كذلك كما سيأتي، ويستثنى من عموم كلامه إذا قتله أو جرحه وهو رقيق، ثم
أعتق، وإذا قتله في المحاربة على رواية، ومفهوم كلامه أن الحر يقتل بالحر،
وهو كذلك بلا ريب، وأن العبد يقتل بالعبد، وهو المذهب بلا ريب، لعموم قوله
سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ونقل (عنه) جماعة القصاص
بينهم إذا استوت قيمتهم، مراعاة لجانب المالية، مع إعمال القصاص في الجملة،
قال في المغني: وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر يعني
انتفاء القصاص، وكذلك ذكر أبو البركات
(6/70)
الرواية، ويستثنى من عموم المفهوم المكاتب
لا يقتل بعبده.
قال: وإذا قتل الكافر العبد عمدا فعليه قيمته، ويقتل لنقض العهد.
ش: أي أن الكافر لا يقتل بالعبد المسلم، لما تقدم من أن الحر لا يقتل
بالعبد، وهو يشمل المسلم والكافر، وإذا انتفى القصاص وجبت الدية، ودية
العبد قيمته كما سيأتي، ويقتل الكافر لنقضه العهد، إذ مما ينتقض به عهد
الكافر قتل المسلم، هذا هو المذهب المنصوص.
2920 - لما روي أن ذميا كان يسوق حمارا بامرأة مسلمة، فنخسه فرماها، ثم
أراد إكراهها على الزنا، فرفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: ما
على هذا صالحناهم، فقتله وصلبه.
2921 - وروي في شروط عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى عبد الرحمن
بن غنم أن ألحق بالشروط: من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. وقيل (عنه رواية
أخرى) لا ينتقض العهد بذلك،
(6/71)
مخرجة مما إذا قذف مسلما، قال أبو البركات:
والأصح التفرقة، وعلى هذه الرواية يؤدب بما يراه ولي الأمر.
[جناية الصبي والمجنون والسكران]
قال: والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد.
ش: لعدم جريان قلم التكليف عليهما، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى
يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» .
2922 - وقد روى الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أن مروان
كتب إلى معاوية بن أبي سفيان أنه أتي إليه بمجنون قد قتل رجلا، فكتب إليه
معاوية بن أبي سفيان أن اعقله ولا تقد منه، فإنه ليس على مجنون قود، وقد
شمل كلام الخرقي السكران، ومن شرب البنج ونحوه، وقد تقدم الكلام على ذلك في
الطلاق.
2923 - وفي الموطأ أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلغه أن مروان بن الحكم
كتب إلى معاوية أنه أتي بسكران قد قتل فكتب إليه أن اقتله.
[القصاص بين الوالد وولده]
قال: ولا يقتل والد بولده.
2924 - ش: لما روى حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
(6/72)
«سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: «لا يقاد الوالد بالولد» رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي
وهذا لفظه، وقال: وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلا، وروى البيهقي نحوه من
رواية ابن عجلان عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وصحح إسناده، وقال ابن
عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته
وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه.
2925 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تقام الحدود في المساجد،
ولا يقتل الوالد بالولد» .
2926 - وعن سراقة بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حضرت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من
أبيه رواهما الترمذي، وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «أنت ومالك
(6/73)
لأبيك» وهذه الإضافة إن لم تثبت حقيقة
الملكية فهي شبهة تدرأ القصاص، ولأن الأب سبب إيجاده، فلا يناسب أن يكون
الابن سببا في إعدامه.
قال: وإن سفل.
ش: لا يقتل والد بولده وإن سفل الولد، لأنه ولد، ومن علا والد، فيدخل فيما
تقدم، قال سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]
دخل فيه ولد الولد، وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:
78] .
قال: والأم والأب في ذلك سواء.
ش: لأنها أحق بالبر من الأب.
2927 - بدليل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رجل:
يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال:
«أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» متفق عليه، ولمسلم في رواية: من أبر. وإذا
كانت أحق بالبر اندرأ عنها القصاص
(6/74)
بطريق الأولى، وحكى أبو بكر وأبو محمد عن
أحمد قولا بوجوب القصاص على الأم لا الأب، وأخذه أبو بكر من رواية حرب في
امرأة قتلت ولدها، قال أحمد: أما الرجل إذا قتل ولده فقد بلغنا أنه لا
يقتل، ولم يبلغنا في المرأة شيء، ومنع ذلك القاضي، وقال: هذا نقل للتوقف،
لا لوجوب القصاص، فالأم لا تقتل رواية واحدة، وأخذه أبو محمد من قول أحمد
في رواية مهنا في أم ولد قتلت سيدها عمدا: تقتل. قال: من يقتلها؟ قال:
ولدها. وهذا إنما يدل على أن القصاص لا يسقط بانتقاله إلى الولد، لا أن
القصاص يجب بقتل الولد، ولذلك حكى أبو البركات الرواية، ولم يلتفت إلى
حكايتها في وجوب القود بقتل الولد.
قال: ويقتل الولد بقتل كل واحد منهما.
ش: هذا المشهور، والمختار للأصحاب، من الروايتين، لظواهر الآي، والأخبار
السالمة عن معارض، ولحديث سراقة المتقدم، ولأنه إذا قتل بالأجنبي فبهما
أولى، لعظم حرمتهما، ونقل حنبل: لا يقتل ولد بوالده، ونحوه نقل مهنا، لأنه
لا تقبل شهادته له بحق النسب، فلم يقتل به كالأب مع ابنه.
(تنبيه) : اختلف في الجد من قبل الأم يقتل ابن ابنته، وابن البنت يقتل جده
لأمه، هل حكم ذلك حكم الجد من قبل
(6/75)
الأب، وحكم الابن من الصلب، أو لا، فيجري
القصاص بينهما بلا ريب؟ على وجهين، وكلام الخرقي محتمل.
[قتل الجماعة بالواحد]
قال: وتقتل الجماعة بالواحد.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار من الروايتين.
2928 - لما في الموطأ عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة، وقال عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وفي
البخاري نحوه.
2929 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل ثلاثة برجل، ولأن فيه
سدا للذريعة، وحسما للمادة، وتحقيقا لحكمة الردع والزجر التي فيها حياتنا،
ونقل حنبل: لا تقتل الجماعة بواحد، فذكر له حديث عمر فقال: ذلك في أول
الإسلام، وفي لفظ عنه: هذا تغليظ من عمر. وحسن هذا ابن عقيل في فصوله. وذلك
لظاهر قول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] {النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .
2930 - ويروى عن معاذ أنه خالف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال: لا
(6/76)
تؤخذ نفسان بنفس. واختلف عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فعلى هذا الواجب دية واحدة بين القاتلين، وعلى
الأولى هل تجب عليهم دية لأنها بدل ما أتلفوه، وفارق القصاص، لأنه إنما وجب
سدا للذريعة، أو ديات، وهو الذي ذكره أبو بكر، وصححه الشيرازي، إذ كل واحد
كالمنفرد بالقتل، بدليل ما لو عفا عن بعضهم، لم يتجاوزه العفو.
(تنبيه) : شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كل واحد منهم صالحا للقتل
به، «والغيلة» بكسر الغين القتل خديعة ومكرا، من غير أن يعلم أنه يراد
بذلك.
قال: وإذا قطعوا يدًا قطعت نظيرتها من كل واحد منهم.
ش: لما ذكر أن الجماعة تقتل بالواحد، ذكر أيضا أن الأطراف يؤخذ منها الطرف
الواحد بأكثر منه، وهذا هو المذهب، وذلك لما تقدم من سد للذريعة، ولأنه أحد
نوعي القصاص، فأخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس.
2931 - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن شاهدين شهدا عنده
بالسرقة، فقطع يده، ثم جاءا بآخر فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الأول،
فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية الأول، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما
لقطعتكما. رواه
(6/77)
الأثرم بسنده عن الشعبي، عن علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -. وذكره الإمام أحمد في رواية الميموني (وعن أحمد) رواية
أخرى لا تقطع الأطراف بطرف واحد، كما لا تقتل الجماعة بالواحد بل أولى، إذ
النفس أشرف من الطرف، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد
المحافظة على ما دونها.
وقول الخرقي: قطعت نظيرتها، أي إذا كانت يمينا قطعنا من كل واحد منهم
اليمين، وكذلك إذا كانت يسارا قطعنا من كل واحد اليسار، ولا تؤخذ يسار
بيمين، ولا يمين بيسار، لعدم المماثلة المعتبرة شرعا، وشرط وجوب القصاص على
الجماعة في الطرف أن يشتركوا في ذهابه، على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل
صاحبه، كأن يشهدوا عليه بما يوجب قطع طرفه، ثم يرجعوا ويقولوا تعمدنا ذلك،
أو يكرهوا إنسانا على قطع طرف فيقطعون مع المكره، أو يلقوا صخرة على إنسان
فتقطع طرفه، أو يضعوا حديدة على مفصل، ويتحاملوا جميعا حتى تبين العضو،
ونحو ذلك، فإن قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص، لأن كل واحد منهم لم
يقطع اليد، ولم يشارك في قطع جميعها.
[اشتراك الأب وغيره في القتل العمد]
قال: وإذا قتل الأب وغيره عمدا قتل من سوى الأب.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمقطوع به عند عامة الأصحاب، لأن القتل
تمحض عمدا عدوانا، وإنما سقط عن
(6/78)
الأب لمعنى قام به، فلا يتعدى إلى غيره،
ولأن هذا القتل أعظم إثما وأكبر جرما.
2932 - «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن أعظم
الذنب قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك، ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»
فإذا وجب القصاص في غير هذا القتل ففيه بطريق الأولى والأحرى، وسقوطه عن
الأب لما تقدم، لا لقصور في السبب المقتضي، (والرواية الثانية) لا يجب
القصاص على غير الأب، كما لم يجب على الأب، إذ الزهوق وجد منهما، فلم يتمحض
القتل موجبا للقصاص، وهذا ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه، قال: إذا اجتمع في
القود من يقاد ومن لا يقاد فلا قود.
[اشترك الصبي والمجنون والبالغ في القتل]
قال: وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، لم يقتل واحد منهم.
ش: هذا أيضا هو المشهور من الروايتين، والمختار لجمهور الأصحاب، إذ عمد
الصبي والمجنون في حكم الخطأ، لعدم اعتبار قصدهما شرعا، وإذًا القتل لم
يتمحض عمدا عدوانا، فلم يوجب القصاص، كما لو كانا خاطئين وكقتل شبه العمد،
(ونقل ابن منصور عن أحمد) القصاص على البالغ دونهما، وهو اختيار أبي بكر
فيما حكاه القاضي، وظاهر ما في التنبيه على ما تقدم انتفاء القود، لأن فعله
لو
(6/79)
انفرد لأوجب فكذلك إذا وجد مع غيره إذ
السقوط عن الغير لمعنى اختص به.
قال: وكان على العاقل ثلث الدية في ماله، وعلى عاقلة كل واحد من الصبي
والمجنون ثلث الدية، وعتق رقبتين في أموالهما، لأن عمدهما خطأ.
ش: أما وجوب الدية عليهم أثلاثا فلأن ذهاب النفس حصل من فعلهم، والنفس فيها
دية، وهم ثلاثة، فكانت الدية عليهم أثلاثا، ولأن الدية بدل المحل المتلف،
بدليل اختلافها باختلافه، والمحل واحد، فديته واحدة، وكذلك الحكم في
المسألة السابقة، إذا عدل الولي إلى طلب المال، يجب على شريك الأب بقسطه،
كذا ذكره الشيخان، وقد يقال: يجب على شريك الأب جميع الدية، بناء على
المذهب، من أنه يقتل، وعلى رواية أن الجماعة إذا قتلوا واحدا وجبت عليهم
ديات، انتهى. وأما كون ما يلزم العاقل يكون في ماله، فلأن فعله عمد،
والعاقلة لا تحمل عمدا، وأما كون ما يلزم الصبي والمجنون يكون على
عاقلتهما، فلأن فعلهما في حكم الخطأ، والخطأ والحال هذه تحمله العاقلة،
فكذلك ما في حكمه.
وقد شمل كلام الخرقي الصبي العاقل وغيره، وهو كذلك على المشهور (وعن أحمد)
رواية أخرى في الصبي العاقل أن
(6/80)
عمده في ماله، نظرا إلى أن له قصدا صحيحا
في الجملة، بدليل صحة صلاته، ونحو ذلك، وسقوط القصاص عنه كان لعدم جريان
القلم الخطابي عليه، انتظار تكامل عقله.
وأما كون على الصبي والمجنون عتق رقبتين في أموالهما، فلأن الله سبحانه جعل
في قتل الخطأ الدية والكفارة، وهذا القتل جار مجرى الخطأ، فأعطي حكمه، وكان
مقتضى قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا يجني جان إلا على نفسه» أن ذلك على الخاطئ أو من بمعناه، لكن قام
الدليل أن الدية في ذلك على العاقلة فيبقى فيما عداه على مقتضى ما تقدم،
وهذا أيضا هو المشهور عن أحمد، بناء على أن على كل واحد من المشتركين كفارة
(وعن أحمد) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة، فعلى هذه يكون على الصبي
والمجنون ثلثي رقبة، ونبه الخرقي بوجوب الكفارة على الصبي والمجنون بوجوبها
على البالغ، وقوله: لأن عمدهما خطأ، تعليل لإسقاط القصاص في أصل المسألة،
وفي أن ما لزمهما يكون على عاقلتهما، وفي لزوم الكفارة لهما.
[القصاص بين الذكر والأنثى]
قال: ويقتل الذكر بالأنثى.
ش: لا نزاع في ذلك، لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .
(6/81)
2933 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - –: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ذكر منها: «النفس
بالنفس» ولحديث اليهودي الذي قتل الجارية، فقتله النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها وقد تقدم.
2934 - وفي كتاب عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، «ويقتل الذكر بالأنثى» رواه
مالك والنسائي؛ وإذا قتل الذكر بالأنثى فلا شيء
(6/82)
لورثته على المذهب بلا ريب، اعتمادا على
ظاهر الآية والحديث، ونقل إبراهيم بن هانئ عن أحمد: يقتل ويعطى ورثته نصف
الدية.
2935 - وروى ذلك سعيد في سننه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والظاهر
أنه مستند أحمد.
قال: والأنثى بالذكر.
ش: لا خلاف في هذا أيضا لا في القصاص ولا في الدية، إذ هو أعلى منها، أشبه
العبد يقتل بالحر.
قال: ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح.
ش: يعني من جرى بينهما في النفس قصاص، جرى بينهما في الجروح، قياسا للجروح
على النفس، فيقتص للحر المسلم والعبد، والذمي من مثلهم، ويقتص للذكر من
الأنثى، وبالعكس، ويقتص من الناقص للكامل، كالكافر بالمسلم، والعبد بالحر،
ولا يقتص من مسلم لكافر، ولا من حر لعبد، ونحو ذلك كما في الأنفس سواء،
ولهذه المسألة تتمة تأتي إن شاء الله تعالى.
(6/83)
قال: وإذا قتله رجلان أحدهما مخطئ، والآخر
متعمد، فلا قود على واحد منهما.
ش: قد تقدم هذا فيما إذا قتل بالغ وصبي ومجنون، وحكينا الخلاف، وأن المذهب
ما قاله الخرقي، وكذلك الخلاف هنا والمسألة واحدة، وكان حق الخرقي أن يقدم
هذه المسألة.
قال: وعلى العامد نصف الدية في ماله، وعلى عاقلة المخطئ نصفها، وعليه في
ماله عتق رقبة مؤمنة.
ش: قد تقدم مثل هذا سواء في مسألة البالغ والصبي والمجنون، ونزيد هنا بأن
ظاهر كلام الخرقي أن العامد لا كفارة عليه فيه، وسيصرح بهذه المسألة فيما
بعد، والله أعلم.
[دية العبد]
قال: ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات.
ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب، من الروايتين، نظرا للمالية، مع قطع
النظر عما سواها، وبيان ذلك أنه مال متقوم، فضمن بكمال قيمته بالغة ما
بلغت، كغيره من الأموال (والرواية الثانية) أنه لا يبلغ به دية الحر، نظرا
للمالية والآدمية معا، وبيان ذلك أنه ضمان آدمي، فلم يزد على دية الحر
كالحر، وذلك أن الله تعالى لما أوجب في الحر دية مقدرة، وهو أشرف من العبد،
كان ذلك تنبيها على أن العبد لا يزاد عليها، بل ينبغي أن ينقص عنها لنقصه
عنه قطعا، ولهذا الخلاف التفات إلى أن العبد هل يملك أو لا يملك إذ منشأ
الخلاف أن له شبها بالبهائم وبالأحرار، والله أعلم.
(6/84)
(تنبيه) : لم يقدر أحمد النقص على هذه
الرواية، فينبغي أن يكتفي بما يعد في العرف نقصا، والله أعلم.
[باب القود]
ش: القود القصاص، والقتل يقع على ثلاثة أضرب، (واجب) وهو قتل المحارب،
والزاني المحصن، والمرتد، وتارك الصلاة بشرطه، وكذلك في الدفع عن حرمته،
وعن نفسه في رواية، (ومباح) وهو القتل قصاصا أو دفعا عن النفس في رواية
(ومحظور) وهو القتل عمدا بغير حق، وهو من الكبائر العظام، والجرائم التي
تقرب من الشرك بالله المستعان، حتى إن العلماء اختلفوا في قبول توبة من فعل
ذلك، على قولين هما روايتان عن الإمام، وإن كان المشهور عنه وعن غيره قبول
ذلك تفضلا من الله وإحسانا، وبسط ذلك لا يليق بهذا المكان.
قال: ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها، فأبانها منه، ثم ضرب عنقه آخر
فالقاتل هو الأول.
(6/85)
ش: الحشوة بكسر الحاء وضمها الأمعاء، فإذا
قطع حشوته وأبانها منه، أو فعل به فعلا لا تبقى الحياة معه، ولا حياة
مستقرة فيه، فقد صيره في حكم الميت، فيعطى حكمه، وإذًا القاتل هو الأول،
ولا شيء على الثاني من قصاص أو دية نعم عليه التعزير، لارتكابه المحرم.
قال: ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر، فالثاني هو القاتل، لأن الأول لا يعيش
مثله، والثاني قد يعيش مثله.
ش: ضابط ذلك أن يفعل به فعلا يجوز بقاء الحياة معه، ثم يقتله آخر، فالثاني
هو القاتل، لأنه المفوت للنفس جزما، قال أبو محمد: وكذلك الحكم إذا لم يجز
بقاؤه مع الجناية، إلا أن فيه حياة مستقرة كخرق المعى وأم الدماغ.
2936 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما جرح سقوه لبنا فخرج، فعلم
أنه ميت، فقيل له: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم، وجعل الخلافة في أهل الشورى
فقبل الصحابة عهده وعملوا به.
قال: وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه، قتل ولم
تقطع يداه ولا رجلاه في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى قال: إنه لأهل أن
يفعل به كما فعل.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد، واختيار الأكثرين الخرقي وأبي بكر،
والقاضي في خلافه وفي روايتيه،
(6/86)
والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن
عقيل والشيرازي.
2937 - لما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النهبى والمثلة» ،
رواه البخاري، والمثلة تشويه خلقة القتيل، كجدع أطرافه، وقطع مذاكيره، ونحو
ذلك، وإذا فعل به مثل ما فعل فقد مثل به فيدخل في النهي.
2938 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود
إلا بالسيف» رواه ابن ماجه، إلا أن أحمد قال: ليس إسناده بجيد، ولأن القصاص
أحد بدلي النفس، فدخل في حكم النفس كالدية (والرواية
(6/87)
الثانية) نقلها الأثرم وهي أوضح دليلا،
لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] {وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ولحديث أنس بن مالك - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي
فأقر فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه
بالحجارة» ، متفق عليه، فرتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الرض على اعترافه.
2939 - وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حرق حرقناه، ومن
غرق غرقناه» وهذه الأدلة أخص من حديث المثلة، قال أبو العباس - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل؛ (فعلى هذه الرواية) متى اقتصر
على ضرب عنقه فهو أفضل، وإن قطع ما قطعه الجاني أو بعضه، ثم عفا مجانا فله
ذلك، فإن عفا إلى الدية لم يجز إذ جميع ما فعل بوليه لم يوجب إلا دية، فإن
فعل فله ما بقي من الدية، فإن لم يبق شيء فلا شيء له، (وعلى الأولى) إن فعل
به مثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه، فإن
(6/88)
قطع طرفا ثم عفا إلى الدية كان له تمامها،
وإن قطع ما يوجب دية ثم عفا لها لم يكن له شيء، وإن قطع ما يجب به أكثر من
دية ثم عفا، فهل يلزمه ما زاد على الدية، أو لا؟ فيه احتمالان، وكذلك لو
تساوى العضوان في الدية، واختلفا في المحل، كأن قطع يده فقطع الولي رجله ثم
قتله، فهل يلزمه ضمان الرجل لعدم استحقاقها له بوجه، أو لا يلزمه لتساويهما
في الضمان؟ فيه احتمالان أيضا.
ويستثنى على هذه الرواية إذا قتله بمحرم كتجريعه الخمر، واللواط، والسحر،
وفي النار خلاف.
وقول الخرقي: قبل أن تندمل جراحه، احترازا مما إذا اندملت كما سيأتي،
وقوله: قتل، أي بالسيف، لأنه الآلة التي يشرع القصاص بها.
قال: فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة.
ش: لا خلاف في هذا نعلمه في المذهب، لأنه قاتل قبل استقرار الجرح، فدخل أرش
الجراحة في أرش النفس، كما لو حصل ذلك بالسراية.
قال: ولو كانت الجراح برأت قبل قتله، فعلى المعفو عنه ثلاث ديات، إلا أن
يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين.
ش: إذا قطع يديه ورجليه وبرأ ذلك ثم قتله، فقد استقر حكم القطع، فللولي أن
يقتص من الجميع بلا نزاع، وله أن يعفو عنه ويأخذ ثلاث ديات، دية لنفسه،
ودية للرجلين، ودية
(6/89)
لليدين، وله أن يقتص منه في النفس، ويأخذ
منه دية الأطراف، وله أن يقتص منه في الأطراف ويأخذ دية النفس، وله أن يقتص
في بعض الأطراف، ويأخذ دية بعضها، إذ حكم القطع استقر، فلا يتغير حكمه
بالقتل بعد ذلك، والله أعلم.
قال: ولو رمى حر مسلم عبدا كافرا، فلم يقع به السهم حتى أسلم وعتق، فلا قود
وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية.
ش: لا نزاع في وجوب دية حر مسلم إذا مات من الرمية، لأن الإتلاف حصل لنفس
حر مسلم، واختلف في وجوب القود، فنفاه الخرقي، وتبعه القاضي، وابن حامد،
فيما حكاه تلميذه، إذ الرمي جزء من الجناية، ولا ريب في انتفاء المكافأة
حال الرمي، وإذا عدمت المكافأة في بعض الجناية، عدمت في كلها، إذ الكل
ينتفي بانتفاء بعضه.
وأثبته أبو بكر، وابن حامد فيما حكاه ابن عقيل في التذكرة، وهو ظاهر كلام
أحمد، لقوله في رجل أرسل سهما على زيد، فأصاب عمرا: هو عمد، عليه القود؛
فاعتبر الحظر في ابتداء
(6/90)
الرمي، وذلك لأنه قتل مكافئا له ظلما عمدا،
فوجب القصاص، كما لو كان حال الرمي كذلك، يحققه لو رمى مسلما فلم يصبه
السهم حتى ارتد ومات، فإنه لا قصاص عليه، وملخص ما تقدم أن سبب السبب - وهو
الرمي - هل حكمه حكم السبب الذي هو الإصابة أم لا؟ يخرج على قولين، ولهذا
شبه بما إذا تعددت الأسباب كما يذكر في مسألة التجاذب، هل يناط الحكم
بالجميع أو بآخرها؟ على قولين، فترتب الحكم على الجميع شبه قول أبي بكر،
وتعلق الحكم بالآخر، وهو المشهور، شبه قول الخرقي.
قال: وإذا قتل رجل اثنين، واحدا بعد واحد، فاتفق أولياء الجميع على القود،
أقيد لهما، وكذلك إن أراد أولياء الأول القود، والثاني الدية أقيد للأول،
وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله، وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية،
والثاني القود.
ش: إذا قتل واحد جماعة فرضي أولياؤهم بأخذه بجميعهم، أخذ بهم، لرضاهم بدون
حقهم، أشبه ما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء، وإن طلب أحدهم القصاص،
والآخر الدية، فلهم ذلك، سواء كان من رضي بالقود حقه متقدما أو متأخرا.
(6/91)
2940 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا،
وإن أحبوا أخذوا الدية» وإن تشاحوا فيمن يقتص منه منهم على الكمال، فإن
كانت حقوقهم تعلقت به في حال واحدة، قدم أحدهم بالقرعة، وإن اختلف وقت
التعلق فهل يقدم أحدهم بالقرعة، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا لتساوي
حقوقهم بالنسبة إلى البدل والمال، أو أسبقهم، لتميزه بالسبق، وبه جزم أبو
محمد؟ فيه وجهان.
[شروط القصاص في الجراح]
قال: وإذا جرحه جرحا يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه.
ش: الأصل في جريان القصاص في الجروح في الجملة الإجماع، وقد شهد له قَوْله
تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
2941 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن الربيع عمته كسرت
ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص، فقال أنس بن النضر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتكسر ثنية الربيع، والذي بعثك بالحق لا تكسر
ثنيتها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أنس
كتاب الله القصاص» فرضي القوم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» رواه البخاري،
وفي رواية مسلم أن أخت الربيع جرحت إنسانا، وأن السائل أم الربيع، ولعلهما
واقعتان.
إذا تقرر هذا فيشترط لجريان القصاص في الجروح ثلاثة
(6/92)
شروط (أحدها) إمكان القصاص من غير حيف، ككل
جرح ينتهي إلى عظم، كما في الموضحة، لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194] ثم قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194]
أي إذا اقتصصتم، وقال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ
مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فأباح لنا سبحانه أن نفعل مثل ما فعل
بنا، فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بحيف لم نفعل مثل ما فعل بنا، بل زدنا
عليه، فلم نتق الله، كما في الجناية المبتدأة (الشرط الثاني) أن يكون
الجارح ممن يؤخذ بالمجروح لو قتله، وذلك بأن يجرحه عمدا محضا، فلا قصاص في
الخطأ إجماعا، وكذلك في شبه العمد على المذهب كالأنفس، كما لو ضربه بحصاة
لا يوضح مثلها، فأوضحت، وخالف أبو بكر وتبعه الشيرازي، فأوجب القصاص في
الجروح في شبه العمد، كأن يضربه بشيء لا يقطع الطرف فيتلفه، لعموم (والجروح
قصاص) وهو منتقض بالخطأ، وله أن يجيب بأنه خرج بالإجماع، فيبقى فيما عداه
على مقتضى العموم (الشرط الثالث) التكافؤ بين الجارح والمجروح، كما تقدم في
قول الخرقي: ومن كان بينهما في النفس قصاص، فهو بينهما في الجراح. ومقتضى
كلام الشيخ أبي محمد أن قول الخرقي: ومن كان بينهما قصاص في النفس، فهو
بينهما في الجراح. وقوله بعد: إذا كان الجاني
(6/93)
ممن يقاد من المجني عليه لو قتله؛ معناهما
واحد، وقد يحمل أحدهما على التكافؤ، والآخر على اشتراط العمدية، دفعا
للتكرار، وحذارا من فوات شرط.
واعلم أن ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية الصغرى - تبعا لأبي محمد في
المقنع - أن المشترط لوجوب القصاص أمن الحيف، وهو أخص من إمكان الاستيفاء
بلا حيف، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما اشترط إمكان الاستيفاء، وتبعه
على ذلك أبو محمد في المغني، وأبو البركات، وجعل أبو البركات أمن الحيف
شرطا لجواز الاستيفاء وهو التحقيق، وعليه لو أقدم واستوفى ولم يتعد وقع
الموقع فلا شيء عليه، وكذا صرح أبو البركات، وعلى مقتضى قول ابن حمدان، وما
في المقنع، يكون جناية مبتدأة، يترتب عليها مقتضاها.
قال: وكذلك إن قطع منه طرفا من مفصل، قطع منه مثل ذلك المفصل، إذا كان
الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله.
ش: لا نزاع في جريان القصاص في الأطراف، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى:
{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] إلى آخر الآية، ويشترط لذلك ما
تقدم، وإمكان الاستيفاء هنا من غير حيف، (بأن يكون) القطع من مفصل، كالكوع
والكعب ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما له حد ينتهي إليه، كمارن الأنف وهو ما لان
(6/94)
منه، فإن كان من غير مفصل، كنصف الذراع،
ونصف الساق ونحو ذلك، فلا قصاص من ذلك الموضع بلا ريب، حذارا من الحيف
الممنوع منه شرعا.
وهل يقتص من المفصل الذي دونه، كالكوع والكعب، لرضاه بدون حقه، أشبه ما لو
رضي صاحب الصحيحة بالشلاء، أو تتعين الدية، وهو المنصوص، واختيار أبي بكر،
وحكاه في الهداية عن الأصحاب، حذارا من أن لا يفعل به مثل ما فعل به.
2942 - ولما «روي أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل،
فاستعدى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر له بالدية،
فقال: إني أريد القصاص؛ فقال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» ولم يقض له
بقصاص» ، رواه ابن ماجه؟ فيه قولان، فعلى القول الأول هل يكون للمجني عليه
أرش الباقي؟ فيه وجهان، أشهرهما لا، انتهى. (وبأن يكون) الطرفان متماثلين،
وذلك في شيئين (في الاسم الخاص) فلا تؤخذ يسار بيمين، ولا يمين بيسار، ولا
عليا من الشفة والأجفان بسفلى، ونحو ذلك. (وفي الصحة والكمال) فلا تؤخذ
صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصتها، ونحو ذلك، لانتفاء المماثلة
المعتبرة
(6/95)
شرعا، وإذًا حصل الحيف، ولا يشترط التماثل
في الرقة والغلظ، والصغر والكبر، ونحو ذلك، إذ اعتبار ذلك يفضي إلى إسقاط
المماثلة رأسا.
[لا قصاص في المأمومة ولا الجائفة]
قال: وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص.
ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من شرط وجوب القصاص في الجروح
إمكان الاستيفاء من غير حيف، ذكر جرحا في الرأس وهو المأمومة، وجرحا في
الجوف وهو الجائفة، لا يمكن الاستيفاء فيهما إلا بحيف، أو لا يؤمن في
الاستيفاء فيهما الحيف.
2943 - وقد روي عن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود في
المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» رواه ابن ماجه.
2944 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قصاص في المأمومة.
2945 - وعن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه اقتص من المأمومة،
فأنكر الناس عليه، وقالوا: ما سمعنا أحدا اقتص منها قبل ابن الزبير، انتهى.
والمأمومة هي التي تصل إلى جلدة الدماغ،
(6/96)
وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ، لأنها تجمعه،
فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة، وآمة لوصولها إلى أم الدماغ، والجائفة
هي التي تصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو نحر، أو غير ذلك، والله أعلم.
قال: وتقطع الأذن بالأذن.
ش: هذا إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ} [المائدة: 45] وكلام الخرقي يشمل كل أذن بكل أذن، ويستثنى من
ذلك أذن السميع، هل تؤخذ بأذن الأصم؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها، لنقص
أذن الأصم عنها، فأشبه اليد الصحيحة، لا تؤخذ بالشلاء (والثاني) وهو اختيار
القاضي، ومقتضى كلام الخرقي وبه قطع أبو محمد في الكافي والمغني - تؤخذ بها
منعا للنقص، إذ السمع في الرأس لا في الأذن انتهى، والأذن الصحيحة هل تؤخذ
بالشلاء؟ فيه أيضا وجهان (أحدهما) لا تؤخذ لنقص الشلاء (والثاني) - وهو
اختيار القاضي أيضا - تؤخذ بها، إذ المقصود من الأذن جمع الصوت والجمال،
وهذا حاصل فيها، فلا نقص، والأذن التامة بالمخرومة، وفيها أيضا وجهان،
تعليلهما ما تقدم، وأبو محمد والقاضي يختاران عدم الأخذ بخلاف ثم، لأن
الخرم نقص جزء ويعد عيبا، أما المثقوبة هل تؤخذ بها الصحيحة؟ فرق أبو محمد
بين أن يكون الثقب في محله كموضع القرط، أو في غير محله، ففي محله تؤخذ بها
لعدم العيب، وفي غير محله هو كالخرم، لا تؤخذ بها عنده.
(6/97)
قال: والأنف بالأنف.
ش: هذا أيضا إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى؛ {وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45] وكلام الخرقي يشمل كل أنف بكل أنف، ويستثنى من
ذلك الأنف الشام، هل يؤخذ بالأخشم، وهو الذي لا شم فيه؟ فيه وجهان (أحدهما)
لا يؤخذ نظرا لنقص الأخشم عنه (والثاني) - وهو مقتضى كلام الخرقي، واختيار
القاضي، وبه جزم أبو محمد في الكافي والمغني، يؤخذ به، لأن عدم الشم لعلة
في الدماغ، لا لنقص في الأنف، والأنف الصحيح هل يؤخذ بالأشل؟ فيه أيضا
وجهان، تعليلهما ما تقدم في الأذن الصحيحة بالشلاء، والمختار للقاضي أيضا
الأخذ، والأنف التام هل يؤخذ بالمخروم؟ فيه أيضا وجهان، تعليلهما والمختار
فيهما ما تقدم في الأذن، وينبغي أن يجري الوجهان أيضا في الثقب مطلقا،
والله سبحانه أعلم.
قال: والذكر بالذكر.
ش: لا نعلم في ذلك خلافا، وقد دل على ذلك قوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقد شمل كلام الخرقي كل ذكر بكل ذكر، ويستثنى من
ذلك ذكر الخصي والعنين، هل يؤخذ بهما الذكر الصحيح؟ على ثلاث روايات
(إحداهن) - وهو مقتضى كلام الخرقي - يؤخذ بهما، لعموم {وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ودعوى النقص ممنوعة، إذ عدم الإنزال في الخصي
(6/98)
لذهاب الخصية، والعنة لعلة في الظهر
(والثانية) وهي اختيار أبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما،
والشيرازي وغيرهم - لا يؤخذ بهما العنين، إذ العنين لا يطأ ولا ينزل،
والخصي لا يولد له ولا ينزل، فأشبها ذكر الأشل (والثالثة) يؤخذ بذكر
العنين، لأن ذلك مرض، والصحيح يؤخذ بالمريض، دون ذكر الخصي لأنه مأيوس من
إنزاله المني، فهو كالأشل، وهذا اختيار ابن حامد، وهذا الخلاف - قال القاضي
في الجامع -: مبني على اختلاف الرواية في دية ذلك، والله أعلم.
قال: والأنثيان بالأنثيين.
ش: لعموم (والجروح قصاص) والله أعلم.
قال: وتقلع العين بالعين.
ش: هذا إجماع، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
[المائدة: 45] وشمل كلام الخرقي كل عين بكل عين، ويستثنى من ذلك العين
الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، وعين الأعور إذا قلع عين صحيح، فإن عينه لا تقلع
بها، حذارا من ذهاب جميع بصره بنصف بصر.
2946 - واعتمادا على أن ذلك يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-، وفيه احتمال أن عينه تقلع، ويعطى نصف الدية
(6/99)
ولعلها من رواية قتل الذكر بالأنثى، وإعطاء
ورثته نصف الدية، والله أعلم.
قال: والسن بالسن.
ش: هذا أيضا إجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
[المائدة: 45] وحديث الربيع وقد تقدم، والله أعلم.
قال: فإن كسر بعضها، برد من سن الجاني مثله.
ش: لظاهر «حديث الربيع، أنها كسرت ثنية جارية فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص» ، ويكون القصاص بالمبرد ليأمن من أخذ زيادة،
بخلاف الكسر، فإنه لا تؤمن معه الزيادة، ويبرد من السن مثل ما ذهب من سن
المجني عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
وتعتبر المثلية بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف، والربع بالربع، ونحو ذلك، لا
بالمساحة، حذارا من أخذ جميع السن بالبعض، إذا كانت سن الجاني صغيرة، وسن
المجني عليه كبيرة، والله أعلم.
قال: ولا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين.
ش: لفوات المماثلة المعتبرة، لا يقال ينبغي أن تؤخذ اليسار باليمين، لنقص
اليسار عن اليمين، لأنا نقول منافعهما تختلف، فأشبها الرجل مع اليد، والله
أعلم.
(6/100)
قال: وإذا كان القاطع سالم الطرف، والمقطوع
شلاء فلا قود.
ش: لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعا، إذ لا نفع فيها إلا الجمال، فلا تؤخذ
بها ما كملت منفعته، كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، ومراد الخرقي بالطرف
يجوز أن يكون اليدان والرجلان، ويجوز أن يريد ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه
الأنف الأشل، والأذن الشلاء، ويكون ظاهر كلام الخرقي أحد الوجهين
المتقدمين، والله أعلم.
قال: وإذا كان القاطع أشل، والمقطوعة سالمة، فشاء المظلوم أخذها فله ذلك،
ولا شيء له غيرها، وإن شاء عفا وأخذ دية يده.
ش: يخير صاحب اليد الصحيحة التي قطعت، بين أن يعفو عن الجاني، ويأخذ دية
يده بلا ريب، وبين أن يأخذ الشلاء بيده الصحيحة لرضاه بدون حقه، أشبه ما لو
رضي المسلم بالقصاص من الذمي، والحر من العبد، ويشترط لذلك ما تقدم من
إمكان الاستيفاء من غير حيف، بأن يقول أهل الخبرة: إنا نأمن من قطعها
التلف، أما إن قالوا إنه إذا قطعها لم يأمن أن لا تستد العروق، ويدخل
الهواء إلى البدن فيفسده فلا قصاص، حذارا من الحيف الممنوع منه شرعا، وإذا
أخذت
(6/101)
الشلاء بالصحيحة بشرطه فلا شيء للمقتص على
المذهب، لئلا يجمع في العضو الواحد بين القصاص والدية، واختار أبو الخطاب
في هدايته أن له الأرش، وقد بقي من تقاسيم مسألة اليدين إذا كانتا صحيحتين
وهو واضح، وإذا كانتا أشلتين، والقصاص جار فيهما بشرط أمن الحيف، والله
أعلم.
قال: وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل، أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب أو
يبلغ الطفل.
ش: هذا هو المذهب المنصوص بلا ريب، حتى إن أبا محمد في الكافي لم يذكر
غيرها.
2947 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل
فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» أضاف القتل إلى
اختيار جميع الأهل، والصغير والمجنون من جملتهم، فإذا لم يوجد منهم
الاختيار لم يجز القتل، وحكى ابن حمدان في رعايته الصغرى رواية بأن من حضر
له الاستيفاء وعممها، وخصها الشيخان ومن رأينا كلامه بالصبي والمجنون،
وجعلوا الغائب أصلا قاسوا عليه المذهب، قال القاضي وأتباعه: قود ثابت
لجماعة معينين، لم يتحتم استيفاؤه، فلم يجز لبعضهم أن
(6/102)
ينفرد باستيفائه، أصله إذا كان بعضهم
غائبا؛ واحترزوا (بمعينين) عما إذا لم يكن له وارث، فإن للإمام الاستيفاء،
مع أن القود للمسلمين، وفيهم الصغير والمجنون، (ولم يتحتم استيفاؤه) عن
قطاع الطريق إذا قتلوا من في ورثته صغير أو مجنون، فإنهم يقتلون من غير
انتظار.
واعلم أن أصل هذه الرواية أخذها القاضي من قول أحمد في رواية ابن منصور -
في يتيم قطعت يده - فوليه بالخيار، إن شاء الدية، وإن شاء القود، أرأيت إن
مات قبل أن يندمل، ووجه الأخذ أن أحمد جوز للولي القصاص، ويلزم منه سقوط
تشفي الصغير، فكذلك هنا، إذ غايته سقوط التشفي، والعجب أن القاضي لم يذكر
هذه الرواية في محلها، بل خرج ثم على معنى هنا، وبالجملة وجه هذه الرواية
أن الصغير والمجنون في حكم المعدومين، ولأن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قتل ابن ملجم قصاصا، وفي الورثة صغار، فلم ينكر عليه، وأجيب
بوجهين (أحدهما) أنه إنما قتله لكفره، لأنه قتل عليا كرم الله
(6/103)
وجهه مستحلا لدمه، كما هو مذهب الخوارج،
ومن استحل ذلك كفر، وقد قال خبيثهم عمران بن حطان قبحه الله في ذلك يمدح
قاتله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
ولهذا كان أشهر الروايتين عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكفيرهم (والوجه
الثاني) وهو جواب أبي بكر أن عبد الرحمن بن ملجم شهر السلاح، وسعى في الأرض
بالفساد، وحارب الله ورسوله، وإذًا يتحتم قتله فيكون كقاطع الطريق إذا قتل،
والحسن هو الإمام، فقتله لذلك، ولذلك لم ينتظر الغائبين، وقد حكي الاتفاق
على وجوب انتظارهم، ونقل عبد الله: إذا كان في الأولياء صبي أو مصاب لم
يقتل حتى يشب الصغير، وإن كان
(6/104)
مصابا يصيرون إلى الدية، قال القاضي: وظاهر
هذا أنه أسقط القصاص رأسا في حق المجنون، وأثبته في حق الصغير، كما قال،
وهو محمول على أن جنونه مطبق، لا يرجى زواله.
قال: ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص، لم يكن إلى القصاص سبيل، وإن كان
العافي زوجا أو زوجة.
ش: (قد تضمن) كلام الخرقي صحة العفو عن القصاص، وهو إجماع ولله الحمد، بل
هو أفضل، لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]
وقال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] .
2948 - «وقال أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما رأيت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع إليه شيء فيه القصاص إلا أمر فيه
بالعفو» . رواه الخمسة إلا الترمذي.
2949 - وعن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –
(6/105)
قال: «ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت
لحالفا عليهن، لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي
بها وجه الله إلا زاده الله تعالى بها عزا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب
مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» رواه أحمد.
(وتضمن أيضا أن القصاص حق لجميع الورثة يرثه من يرث المال.
2950 - وذلك لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا
يرثوا منها إلا ما فضل من ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون
قاتلها» ، رواه الخمسة إلا الترمذي، ويتفرع على هذا أنه من عفا من الورثة
عن القصاص سقط، إذ القتل عبارة عن زهوق الروح بآلة صالحة، وذلك لا يتبعض،
فإذا أسقط بعض مستحقيه حقه منه سقط، لتعذر استيفائه.
2951 - وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول
فالأول وإن كان امرأة» رواه
(6/106)
النسائي، وأبو داود ولفظه: «الأولى
فالأولى» .
وقوله: وإن كان العافي زوجة، تنصيص على مخالفة مذهب الغير، وذلك لما تقدم.
2952 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل قد قتل قتيلا، فجاء
ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول - وهي أخت القاتل: قد عفوت عن
حقي. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر عتق القتيل. رواه أبو
داود (وقوله) : عن القصاص: يحترز به والله
(6/107)
أعلم عما إذا عفا عن الدية، فإنه يكون
مختارا للقود، ولم أعلم من صرح بذلك، وأظن ذلك وقع للقاضي في روايتيه،
وقال: أومأ إليه أحمد في رواية الميموني (وقوله) : لم يكن إلى القصاص سبيل،
أي طريق، ويفهم منه أن له إلى الدية سبيل، وهو كذلك، أما في حق من لم يعف
فواضح، لتعذر القصاص عليه، وذلك يوجب تعين الدية له، وأما في حق من عفا فهو
ينبني على أصل، وهو أن الواجب في قتل العمد أحد شيئين، القصاص أو الدية على
المذهب، فعلى هذا إذا عفا عن القصاص ثبتت له الدية، ويأتي إن شاء الله
تعالى تمام الكلام على ذلك.
(تنبيه) : «المقتتلين» هنا أن يطلب أولياء القتيل القود، فيمتنع القتلة،
فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك، فجعلهم مقتتلين بفتح التائين من أجل
ذلك، يقال: اقتتل فهو مقتتل، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحرب
قاله الخطابي. «وينحجزوا» أي ينكفوا عن القود، بعفو أحدهم ولو كان امرأة،
«والأول فالأول» أي الأقرب فالأقرب.
قال: وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم
ذلك، وإن أحبوا أن يقتلوا البعض، ويعفوا عن البعض، ويأخذوا الدية من
الباقين، كان لهم ذلك.
ش: إذا اشترك الجماعة في القتل فللأولياء أن يقتلوا الجميع، بناء على
المذهب، من أن الجماعة تقتل بالواحد وقد تقدم، ولهم أن يقتلوا البعض، لأنهم
إذا كان لهم قتل الجميع فقتل
(6/108)
البعض بطريق الأولى، ويعفوا عن البعض، لأن
من له قتل شخص، له العفو عنه كما تقدم، ولا يسقط القصاص عن البعض بالعفو عن
البعض، لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر، كما لو
قتل كل واحد رجلا، ويأخذوا الدية من البعض، لأن من ملك قتل شخص، ملك العفو
عنه إلى الدية كما سيأتي، وماذا يأخذ منه، هل يأخذ منه دية كاملة، أو بقسطه
من الدية، فلو كان القاتلون أربعة فعليه ربع الدية؟ فيه روايتان تقدمتا.
وقول الخرقي: ويأخذوا الدية، ظاهره وإن لم يرض الجاني، وهو يستدعي بيان
أصل، وهو أن موجب العمد ما هو؟ عن أحمد ثلاث روايات (إحداهن) ، وهو المذهب
عند الأصحاب وتقدمت الإشارة إليه موجبه أحد شيئين، القصاص أو الدية، لقوله
سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أوجب سبحانه
الاتباع بالمعروف بمجرد العفو، وهو يشمل ما إذا عفا مطلقا، وذلك فائدة أن
الواجب أحد شيئين.
2953 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان في بني إسرائيل
القصاص، ولم تكن الدية فيهم، فقال الله سبحانه لهذه الأمة: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية {فَمَنْ عُفِيَ
لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال: فالعفو أن يقبل في العمد
الدية، مختصر، رواه
(6/109)
البخاري وغيره، قال الزمخشري في قَوْله
تَعَالَى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أهل
التوراة كتب عليهم القصاص، وحرم العفو وأخذ الدية، وأهل الإنجيل العفو،
وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث، القصاص والدية والعفو،
ونحوه قال البغوي، إلا أنه قال: وأهل الإنجيل الدية.
2954 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما
أن يقتل، وإما أن يفدى» متفق عليه.
2955 - وعن أبي شريح الخزاعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أصيب بدم أو خبل -
والخبل الجراح، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، بين أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو
يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه» ثم تلا؛ {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] » رواه أحمد وأبو داود. وهذا
نص (والرواية الثانية) موجب العمد القود عينا،
(6/110)
وله العفو إلى الدية من غير رضا الجاني،
فتكون الدية بدلا عن القصاص، اختارها ابن حامد، لظاهر قول الله تعالى؛
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] .
2956 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل عمدا
فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا»
رواه أبو داود والنسائي. (والثالثة) موجب القود عينا، وليس له العفو على
الدية بدون رضا الجاني، لأن هذا متلف يجب به البدل، فكان بدله معينا، كسائر
أبدال المتلفات.
إذا تقرر هذا فكلام الخرقي جار على الرواية الأولى، إذ عليها إذا اختار
الدية كانت له بلا ريب، وكذلك إذا عفا مطلقا، أما على الثانية فلا شيء عليه
إذا عفا مطلقا، وإنما تجب له الدية إذا عفا عن القود إليها، كذا قال
الشيخان وغيرهما، وشذ الشيرازي فقال: لا شيء له أيضا على هذه الرواية، وفي
موضع
(6/111)
آخر من المبهج أيضا ظاهر كلامه موافقة
الجماعة، وعلى الثالثة لا يستحق العفو إلا برضا الجاني.
(تنبيه) : «يفدي» المراد هنا بالفدية الدية، بدليل أن في رواية أخرى: «إما
أن يودى، وإما أن يقاد» . «والصرف» التوبة «والعدل» الفدية.
قال: وإذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به، فبذل القاتل أكثر من الدية على أن
لا يقاد، فللأولياء قبول ذلك.
ش: إذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به، أي يأخذوا به القود، فبذل القاتل
أكثر من الدية، على أنه لا يقاد بالمقتول، فللأولياء قبول ذلك، لأن الحق
لهم، لا يعدوهم.
2957 - وفي الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء
المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة،
وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد القتل، ولأبي البركات
احتمال بالمنع من ذلك، وربما فهم من كلام الخرقي أن الأولياء لو رضوا بدون
الدية كان لهم ذلك، وهو كذلك بلا ريب.
قال: وإذا قتله رجل وأمسكه آخر، قتل القاتل، وحبس
(6/112)
الماسك حتى يموت.
ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، والشريف وأبي الخطاب في
خلافاتهم، والشيرازي، لظاهر قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194] الآية، والقاتل اعتدى بالقتل فيقتل، والممسك اعتدى بالحبس
إلى الموت فيحبس إلى أن يموت.
2958 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل، وقتله الآخر،
يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» رواه الدارقطني.
2959 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجلين قتل أحدهما،
وأمسك الآخر، فقتل الذي قتل، وقال للذي أمسك؛ أمسكته للموت، فأنا أحبسك في
السجن حتى تموت. رواه الأثرم والشافعي في مسنده. ولا يعرف له مخالف في
الصحابة (والرواية الثانية) يقتلان جميعا، لظاهر قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -:
(6/113)
لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولأن
القتل وجد منهما، أحدهما بالسبب، والآخر بالمباشرة، أشبه ما لو باشراه،
وأجيب عن قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد بقوله: لو تمالأ
عليه لو تشاركوا، ثم هو معارض بقول علي، وشرط قتل الممسك قصد القتل
بإمساكه، أما إن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه، ذكره أبو محمد،
وكذلك ذكر القاضي أنه إذا أمسكه للعب أو الضرب فقتله القاتل أنه لا قود على
الممسك، ذكره محل وفاق.
(تنبيه) : «أمسك ومسك» لغتان، والخرقي جمع بينهما فقال: وأمسكه آخر. وقال:
وحبس الماسك حتى يموت. والماسك اسم فاعل من مسك، واسم فاعل: أمسك، ممسك.
قال: ومن أمر عبده أن يقتل، وكان العبد أعجميا، لا يعلم أن القتل محرم قتل
السيد.
ش: الأعجمي هو الذي لا يفصح، وله حالتان، تارة يعلم أن القتل محرم وسيأتي
وتارة لا يعلم، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر الأعجمي لأنه الذي
لا يعلم غالبا، فالعجمة قرينة تصديقه، وهذا ما لم تقم قرينة تكذبه، كالناشئ
في بلاد الإسلام، وبالجملة إذا أمر السيد من هذه صفته بالقتل فقتل، فإن
السيد يقتل، لأن العبد والحال هذه كالآلة له، فإذًا السيد قد تسبب في قتله
بما يقتله غالبا، فأشبه ما لو أنهشه حية أو كلبا ونحو ذلك، ولا يقتل العبد،
لأن العبد والحال هذه معتقد الإباحة،
(6/114)
وذلك شبهة تمنع القصاص، ولأن حكمة القصاص
الردع والزجر، ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، واختلف عن أحمد فيما يفعل به
(فعنه) يؤدب ويترك، حذارا من إقدامه على ذلك مرة أخرى (وعنه) يحبس حتى
يموت.
2960 - اعتمادا على أن هذا قول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستودع السجن.
قال: وإن كان العبد يعلم حظر القتل قتل العبد، وأدب السيد.
ش: إذا كان العبد يعلم حظر القتل، فإنه يقتل إذا كان مكلفا، لأنه مباشر
مكلف، عالم بتحريم القتل، فكان موجب القتل عليه للعمومات، ولا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق، ولأن المباشرة تقطع حكم السبب، أشبه الحافر مع الدافع،
ويؤدب السيد، لتسببه بما أفضى إلى القتل، وهذه التفرقة التي قالها الخرقي
تبعه عليها أبو الخطاب والشيخان وغيرهم، وحكى الشيرازي في العبد من حيث
الجملة روايتين (إحداهما) يحبس إلى الممات ويقتل السيد، (والثانية) يقتل
(6/115)
العبد، ويؤدب السيد، ثم حكى قول الخرقي،
والله أعلم.
[باب ديات النفس]
ش: الديات واحدتها دية مخففة، وأصلها (ودي) والهاء بدل من الواو، كالعدة من
الوعد، والزنة من الوزن، تقول: وديت القتيل أديه دية ووديا. إذا أعطيت
ديته، وأتديت إذا أخذت الدية، فالدية في الأصل مصدر، سمي به المال المؤدى
إلى المجني عليه أو إلى أوليائه، كالخلق بمعنى المخلوق، والأصل في الدية
الإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}
[النساء: 92] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في النفس
مائة من الإبل» في عدة أحاديث نذكر ما تيسر منها إن شاء الله تعالى.
[دية الحر المسلم]
قال: ودية الحر المسلم مائة من الإبل.
ش: لا نزاع أن دية الحر المسلم مائة من
الإبل، وأن الإبل أصل في الدية، واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل هي
الأصل لا غير، أو معها غيرها، وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة؟ (فعنه) - وهو
ظاهر كلام الخرقي ونصبه أبو محمد في المغني للخلاف - أنها الأصل لا غير.
(6/116)
2961 - لأن في حديث عمرو بن حزم: «في النفس
مائة من الإبل» رواه النسائي ومالك في الموطأ.
2962 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: «قضى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من قتل خطأ فديته من الإبل مائة، ثلاثون
بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة ابن لبون ذكر» ، رواه أبو
داود والنسائي.
2963 - وعن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم
فتح مكة فقال: «ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من
الإبل، منها أربعون ثنية إلى بازل عامها، كلهن خلفة» رواه النسائي.
2963 - م - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الفتح على
درجة البيت، فقام في خطبته فكبر ثلاثا، ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في
الجاهلية تذكر وتدعى، من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاج،
وسدانة البيت» ثم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا
- مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» رواه أبو داود
(6/117)
والنسائي، وقال: ورواه القاسم بن ربيعة، عن
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وظاهر هذه الأحاديث أن الدية هي الإبل خاصة، ويؤيد ذلك أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين دية العمد والخطأ،
فغلظ العمد، وخفف الخطأ، ولم يرد ذلك عنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلا في الإبل.
(وعنه) أنها خمسة أشياء كل منها أصل بنفسه، الإبل، والبقر، والغنم، والذهب،
والفضة، أما في الإبل فلما تقدم، وأما في البقر والغنم فلأن في حديث عمرو
بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفا
شاة» .
2964 - وأما في الذهب والفضة فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-، «أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألفا» ، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا
لفظه، وروي عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مرسلا، قال بعضهم: وهو أصح وأشهر.
(6/118)
2965 - ولمالك في الموطأ: بلغه أن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوَّم الدية على أهل القرى، فجعلها على
أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، قال مالك: فأهل
الذهب أهل الشام، وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.
(وعنه) أنها ستة أشياء، ويضاف إلى الخمسة السابقة مائتا حلة، وهذه اختيار
القاضي وكثير من أصحابه، الشريف وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم.
2966 - لما روي عن عطاء بن أبي رباح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل
البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة،
وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد بن إسحاق» ، وفي رواية عنه عن جابر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فذكر ما تقدم، وقال: وعلى أهل الطعام شيئا لا أحفظه» . رواه
أبو داود (والرواية الأولى) أظهر دليلا، لأن
(6/119)
أحاديث هذه الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث،
وعلى تقدير مقاومتها فتحمل على أنه جعل ذلك بدلا عن الإبل، وهذا ظاهر في
حديث عمرو بن شعيب، إذ أوله: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يُقَوِّمُ دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار، أو
عدلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل، إذا غلت رفع في قيمتها، وإذا
هاجت رخصت نقص من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة، وعدلها من الورق
ثمانية آلاف درهم، قال: وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله
في شاء فألفا شاة، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير، بل هو نص
في الذهب والورق، أنه كان يعتبرهما بالإبل، وحديث ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - واقعة عين لا عموم لها، إذ قوله: جعل ديته اثني عشر
ألفا يحتمل على أنها أصل، ويحتمل على أنها بدل، والاحتمالان متقابلان،
وإذًا يترجح احتمال البدلية، لموافقته لما تقدم، والكلام على حديث عطاء
كالكلام على حديث أستاذه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفعل عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ظاهر في أن ذلك على سبيل التقويم، فهو مؤيد لما قلناه،
وأبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يختار في العمدة قولا رابعا، هو بعض
الرواية الثانية، وهو أن الدية مائة من الإبل أو ألف مثقال، أو اثنا عشر
ألف
(6/120)
درهم، وهو ظاهر في الورق، لحديث ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إن صح، فإن فيه في رواية للترمذي «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية اثني عشر ألفا» ، وليس
بظاهر في الذهب، لأن المعتمد فيه على حديث عمرو بن شعيب، وفعل عمر، وهما
ظاهران أو صريحان في أن ذلك على سبيل التقويم.
إذا تقرر هذا فعلى الرواية الثانية والثالثة إذا أحضر من عليه الدية شيئا
من الخمسة أو الستة سالما من العيب لزم قبوله، أما على الرواية الأولى فإن
من وجبت عليه الدية متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها، وإن عجز عنها انتقل
إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة المتقدمة، على اختلاف الروايتين، وكذلك
إذا لم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل، وقال أبو محمد: هذا ينبغي فيما إذا
كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لا يجدها، لكونها في غير بلده
ونحو ذلك، فإذًا ينتقل إلى غيرها، أما إن غلت الإبل كلها فلا ينتقل إلى
غيرها.
وظاهر كلام الخرقي أن الواجب الإبل من غير نظر إلى قيمة، وهذا إحدى
الروايتين، واختيار الشيخين، لظاهر حديث عمرو بن حزم، وحديث عمرو بن شعيب،
عن أبيه عن جده وغيرهما، فإنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أطلق الإبل، ولم يقيدها بقيمة، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل، وكذلك
الأحاديث التي فيها ذكر البقر والغنم والحلل، ليس فيها اعتبار قيمة، وأيضا
فإنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق
(6/121)
بين دية العمد والخطأ، فغلظ دية العمد
وشبهه، وخفف دية الخطأ، واعتبار القيمة يقتضي التسوية بينهما، وهو خلاف ما
تضمنته سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأيضا فحديث
عمرو بن شعيب نص في أنه كان يعتبر الذهب والورق بالإبل، ويقومها على
أثمانها، لا أنه كان يعتبر الإبل بغيرها من ورق أو غيره. (والرواية
الثانية) يعتبر أن لا تنقص المائة بعير عن دية الأثمان، كذلك حكى الرواية
أبو البركات، واختارها أبو بكر، نظرا إلى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قومها كذلك، فجعل على أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف
درهم، فظاهره أن قيمتها كذلك، وأجيب بأنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان
كذلك، وصرنا إليه بعد ذلك، حذارا من التنازع، وحكى أبو محمد الرواية في
الكافي أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهما، وحكى ذلك في
المقنع عن أبي الخطاب، ولا ريب أنه قطع بذلك في الهداية، وقال في المغني:
إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد، والتحقيق هو الأول، وعليه يحمل كلام
أبي الخطاب وغيره، وسيأتي في كلام أبي محمد ما يدل عليه، والقول في البقر
والغنم والحلل كالقول في الإبل على ما تقدم، كذا ذكره أبو البركات، وأبو
محمد في المغني، قال: كذا قول أصحابنا في البقر والشاء والحلل، يجب أن يكون
مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفا، فقيمة كل بقرة أو حلة ستون
درهما، وقيمة كل شاة ستة دراهم، وقال في المقنع: يؤخذ
(6/122)
في الحلل المتعارف، فإن تنازعا فيها جعلت
قيمة كل حلة ستين درهما، وهو ذهول، بل عند التنازع يقضى بالمتعارف على
المختار.
وظاهر كلام الخرقي أيضا أن الدية لا تغلظ، لا بحرم ولا إحرام ولا غير ذلك،
وكثير من الأصحاب أنه لا يعتبر أن تكون الإبل من جنس إبله، ولا إبل بلده،
واعتبر ذلك القاضي أظنه في المجرد، والقول في البقر والغنم كالقول في
الإبل.
قال: فإن كان القتل عمدا فهي في مال القاتل حالة أرباعا، خمس وعشرون بنات
مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
ش: إذا كان القتل عمدا فالإجماع على أن الدية في مال القاتل.
2967 - وقد شهد له ما روى عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده،
ولا مولود على والده» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
2968 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا
بجريرة أخيه» رواه النسائي.
(6/123)
2969 - وعن «أبي رمثة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فرأيت برأسه ردع حناء، وقال لأبي: «هذا ابنك» ؟ قال: نعم، قال:
«أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:
15] » رواه أحمد وأبو داود. وإذا وجبت في مال القاتل وجبت حالة عندنا لأنها
بدل متلف، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات، ولأن ما وجب بالعمد المحض كان
حالا كأرش الأطراف، واختلف في مقدارها (فعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو
أشهر الروايتين عنه - أنها تجب أرباعا، كما ذكره الخرقي، واختاره أبو بكر،
والقاضي وعامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا، وابن
عقيل.
2970 - لما روى الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: «كانت الدية على عهد رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعا، خمسا وعشرين جذعة،
(6/124)
وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون،
وخمسا وعشرين بنت مخاض» ، (وعنه) «أنها تجب أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون
جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها» .
2971 - وذلك لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول،
فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون
خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد القتل» رواه الترمذي. ولما
تقدم من حديث عقبة بن أوس، وعبد الله بن عمرو، وهذه الرواية اختيار أبي
محمد في العمدة، وهو الصواب، إذ حديث الزهري لا يعرف من رواه، ولو عرف لم
يقاوم هذه الأحاديث، وقد قال أحمد في رواية حنبل: الذي أذهب إليه في دية
العمد أثلاثا، وهؤلاء يقولون أرباعا خلاف الحديث، وعلى هذه الرواية هل
يعتبر في الخلفات - وهن الحوامل - كونهن ثنايا، وهن اللاتي استكملن خمس
سنين، وبه قطع القاضي في الجامع، لحديث عقبة بن أوس، أو لا يعتبر، لإطلاق
حديث عمرو بن شعيب، وهو الذي ذكره القاضي؟ فيه وجهان، ويرجح الأول بأن فيه
زيادة، فيحمل المطلق عليها، ويجاب بأن القيد ذكر نظرا للغالب، إذ الغالب
أنه لا يحمل إلا ثنية.
(6/125)
قال: فإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في
أسنانها، إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.
ش: القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء، لما تقدم من
قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل شبه العمد مغلظ مثل
عقل العمد ولا يقتل» وهي واجبة على العاقلة على المذهب، وقد تقدم ذلك في
أول كتاب الجراح، وعليه فإنها تجب عليهم في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.
2972 - نظرا إلى أن هذا يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ولا يعرف لهما مخالف، مع أن هذا قول العامة ولا عبرة بمخالفة الخوارج.
(تنبيه) : لم يتعرض الخرقي لسن غير الإبل، والحكم أنه يجب في البقر النصف
مسنات، والنصف أتبعة، وفي الغنم النصف ثنايا، والنصف أجذعة، في العمد
والخطأ على ظاهر كلام الشيخين وغيرهما، وجعل ذلك القاضي في جامعه في العمد
وشبهه، وقال في الخطأ: يحتمل أن يخفف فيجب من البقر تبيع وتبيعة ومسنة،
أثلاثا، ومن الغنم جذعة وجذع من
(6/126)
الضأن، وثنية من المعز، أثلاثا أيضا، وحكي
عنه أنه جزم بذلك في خلافه.
قال: وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل، تؤخذ في ثلاث سنين
أخماسا، عشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة،
وعشرون جذعة.
ش: لا نزاع أن دية قتل الخطأ على العاقلة، وقد تقدم، ولا نزاع أيضا في أنها
مائة من الإبل، وأنها تؤخذ منهم في ثلاث سنين، واختلف في كيفية وجوبها،
ومذهبنا أنها تجب أخماسا كما ذكره الخرقي.
2973 - لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في دية الخطأ عشرون حقة،
وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر»
رواه الخمسة، وقال أبو داود: وهو قول عبد الله. وكلام الخرقي يشمل إذا كان
المقتول امرأة أو ذميا أو جنينا، وهو قول القاضي في الخلاف والجامع.
(تنبيه) : ابتداء الحول في النفس من حين الزهوق، وفيما دونها من حين
الاندمال على المشهور، وبه قطع القاضي في
(6/127)
الجامع، وقال القاضي: ابتداؤه في القتل
الموحي والجرح الذي لم يسر عن محله من حين الجناية.
[ما تحمله العاقلة من الدية]
قال: والعاقلة لا تحمل العمد، ولا العبد، ولا الصلح، ولا الاعتراف، ولا ما
دون الثلث.
ش: لا تحمل العاقلة العمد، وإن لم توجب جنايته قصاصا، ولا العبد إذا قتله
قاتل، ولا الصلح، وهو أن يدعى عليه القتل فينكره ثم يصالح المدعي على مال،
وفسره القاضي بأن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية، ورد بأن هذا عمد،
فيدخل في الأول، ولا الاعتراف، وهو أن يقر القاتل بقتل الخطأ أو شبه العمد،
ولا ما دون ثلث الدية التامة، كدية المجوسي ونحوه.
2974 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: العمد والعبد،
والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة، رواه الدارقطني. وحكى أحمد عن ابن عباس
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثله.
(6/128)
2975 - وقال الزهري: مضت السنة أن العاقلة
لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا، رواه مالك في الموطأ.
2976 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الدية أن لا يحمل
منها شيء حتى يبلغ عقل المأمومة. ولأن الخطأ إنما جعل على العاقلة لكون
الجاني معذورا، تخفيفا عنه، ومواساة له، والعامد لا يناسب أن يخفف عنه ولا
يواسى، والعبد الواجب فيه قيمة، تختلف باختلاف صفاته، فلم تحمله العاقلة
كسائر القيم، والاعتراف ثبت بإقراره، ولا يثبت على إنسان شيء بإقرار غيره،
والصلح في معنى الاعتراف، وما دون الثلث يسير فلا يجحف به، فلا يناسب
التخفيف به، وبهذا ونحوه تتخصص العمومات المطلقة في حمل العاقلة.
(6/129)
(تنبيه) : يستثنى مما دون الثلث الجنين إذا
مات هو وأمه بجناية واحدة، فإن العاقلة تحمل ديته، وإن نقصت عن الثلث مع
دية أمه، سواء سبقها بالزهوق أو سبقته، كذا صرح به أبو البركات، وقال أبو
محمد في المغني: إذا مات قبل موت أمه لا تحمله العاقلة، نص عليه، وإن مات
مع أمه حملته العاقلة نص عليه، ومقتضى كلامه أنه لو تأخر عنها بالزهوق لم
تحمله العاقلة، وكذلك مقتضى كلامه في المقنع، قال: وإن ماتا منفردين لم
تحملهما العاقلة.
2977 - وإنما استثني ذلك في الجملة لما روى المغيرة بن شعبة قال: «ضربت
امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية، فجعل
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة
القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا
أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسجع كسجع الأعراب» قال: وجعل عليهم الدية» ، وهذا
كان بجناية واحدة، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لم يستفصل هل سبقها بالزهوق أو سبقته، ولو اختلف الحكم لبينه، فإذًا الصواب
ما قاله أبو البركات.
[جناية الرقيق]
قال: وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه.
ش: جناية العبد تتعلق برقبته، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» وسيده مخير بين أن يفديه لزوال
(6/130)
أثر الجناية إذا، وبين أن يسلمه في
الجناية، لتأديته المحل الذي تعلق به الحق برمته، هذا إحدى الروايات
(والرواية الثانية) يخير بين فدائه، أو بيعه في الجناية (والرواية الثالثة)
يخير بين الثلاثة، وإذا اختار البيع فهل يلزمه أن يتولاه إذا طلب منه ولي
الجناية ذلك، أو يكفي تسليمه للبيع فيبيعه الحاكم؟ فيه روايتان.
وقول الخرقي: وإذا جنى العبد، أي جناية أوجبت مالا، بقرينة ذكر الفداء إذ
الفداء إنما يدخل فيما فيه المال، وذلك بأن يكون خطأ أو شبه عمد، أو عمدا
لا قصاص فيه، أو فيه القصاص واختير فيه المال، وكذلك الحكم لو أتلف مالا،
وقد يدخل في لفظه، لأن الجناية تشمل الجناية على المال والبدن، والله أعلم.
قال: فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على السيد أن يفديه بأكثر من
قيمته.
ش: جناية العبد لا تخلو إما أن تكون وفق قيمته أو أكثر من قيمته، فإن كانت
وفق قيمته فلا نزاع أن السيد لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه لا حق للمجني عليه
في أكثر من ذلك، وكذلك إن كانت أقل من قيمته على المذهب المعروف لذلك، (وعن
أحمد) رواية أخرى يلزم فداؤه بجميع قيمته، وإن جاوزت دية المقتول، إذا كانت
الجناية موجبة للقود، لأنه إذا استحق إتلافه، فكان له بدله، وتشبه هذه
الرواية أنه يملكه بغير رضا
(6/131)
السيد، فيما إذا كانت الجناية كذلك، وإن
كانت أكثر من قيمته فكذلك، لا يلزم السيد أن يفديه بأكثر من قيمته إن لم
يختر فداءه بلا ريب، لأن الجناية تعلقت برقبة العبد لا غير، والسيد إنما
يؤدي بدل الرقبة، وبدل الرقبة هو القيمة، فلا يلزمه أكثر منها، وإن اختار
الفداء ففيه روايتان مشهورتان، أشهرهما وأنصهما - وهي اختيار القاضي،
والخرقي، وأبي الحسين وغيرهم - لا يلزمه إلا القيمة، لما تقدم، (والثانية)
- وهي اختيار أبي بكر - يلزمه والحال هذه أرش الجناية بالغة ما بلغت،
لاحتمال أنه إذا بيع رغب فيه راغب فتزيد قيمته، والله أعلم.
[المقصود بالعاقلة]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى
الروايتين، والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة، وكل العصبة من العاقلة.
ش: (وجه الرواية الأولى) حديث المغيرة بن شعبة، «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل دية المقتول على عصبة القاتلة، وغرة لما
في بطنها» . رواه مسلم وغيره وقد تقدم، وهذا يشمل كل عصبة، خرج منه الآباء
والأبناء.
2978 - بدليل «ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن امرأتين من هذيل
قتلت
(6/132)
إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج
وولد، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة
على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، لأنهما ما كانا من هذيل، فقال عاقلة
المقتولة: ميراثها لنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا، ميراثها لزوجها وولدها» » رواه أبو داود، وهذا يقتضي أن
الأولاد ليسوا من العاقلة، فكذلك الآباء، قياسا لأحد العمودين على الآخر،
وخرج منه الإخوة أيضا.
2979 - بدليل ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه،
ولا بجريرة أخيه» رواه النسائي، فظاهره أنه لا يؤخذ بجريرة أخيه مطلقا،
وإذا خرج الأخ والابن والأب من التحمل بقي من عداهم، وهم العمومة وأولادهم
وإن سفلوا.
(ووجه الثانية) - وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي في الجامع والقاضي
أبو الحسين، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة،
والشيرازي وغيرهم - عموم حديث المغيرة، وحديث جابر لا يقاومه، ثم لا يدل
على خروج الابن مطلقا، وحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يؤخذ
بجريرته، أي إذا كان عمدا، جمعا بين الأدلة (وعن
(6/133)
أحمد) رواية ثالثة: العاقلة جميع العصبة
إلا الآباء والأبناء، وزعم القاضي في روايتيه أنها اختيار الخرقي، لتقديمه
إياها، ولانتفاء الخلاف عنده في الإخوة، ووجه هذه الرواية يعرف مما سبق
(وعنه) رواية رابعة أن العاقلة كل العصبة إلا أبناء الجاني، إذا كان امرأة،
نص عليها أحمد فقال: لا يعقل الابن عن أمه، لأنه من قوم آخرين، وهي اختيار
أبي البركات وعليها يقوم الدليل، إذ حديث المغيرة يقتضي أن العاقلة هم كل
العصبة، وحديث جابر صريح في أن ابن المرأة لا يعقل عنها، وإذا خرج ابن
المرأة بقينا فيما عداه على العموم، ثم قد علل في الحديث خروج الولد والزوج
بأنهما ما كانا من هذيل، يعني والمرأة هذلية، فليسا من قبيلتها، والمعنى في
ذلك أن قبيلة الشخص هي التي تواليه وتنصره، بخلاف غيرها، وكذلك قال أحمد،
لأنه من قوم آخرين، ومقتضى الحديث وتعليل أحمد أن ابن المرأة إذا كان من
قبيلتها كابن ابن عمها يعقل عنها، وصرح به ابن حمدان، وظاهر كلام أبي بكر
في التنبيه أن العاقلة كل العصبة إلا الأبناء، ولعله يقيس أبناء الرجل على
أبناء المرأة، وليس بشيء (واعلم) أن أبا الخطاب في خلافه حكى عن شيخه أنه
أخذ رواية أن العاقلة العصبة إلا عمودي النسب من هذا النص، قال: وفيه نظر،
ولا شك في ضعف هذا المأخذ.
قال: وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة، ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء
من الدية.
ش: لا خلاف أن الصبي غير المميز والزائل العقل لا يحملان
(6/134)
من العقل شيئا، لأنهما ليسا من أهل النصرة،
وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وحكم المميز حكم غيره على المذهب، وحكاية
ابن المنذر تشمله، وقيل: بل حكم البالغ، (ولا ريب) أن المذهب أن الفقير لا
يحمل من العقل شيئا، حذارا من أن نخفف عن من جنى، ونثقل على من لم يجن.
2980 - وقد «روى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن غلاما
لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله إنا أناس فقراء. فلم يجعل عليه
شيئا» ، رواه أبو داود والنسائي.
(وعن أحمد) رواية أخرى أن الفقير يحمل من العقل، بناء على أنه من أهل
النصرة، كذا أطلق الرواية أبو محمد، وقيدها أبو البركات بالمعتمل، وهو حسن،
(ولا ريب) أيضا أن المذهب أن المرأة لا تحمل من العقل شيئا، لعدم التناصر
منها (وعنه) تحمل بالولاء لأنها إذا عصبة، ويخرج عليها الأم الملاعنة إذا
قلنا: إنها عصبة، وإن عمودي النسب من العاقلة أنها تعقل، وتشبه هذه الرواية
رواية أنها تلي على معتقها في النكاح، وحكم الخنثى حكم المرأة، وظاهر كلامه
أن البعيد والغائب، والشيخ والمريض، والزمن والهرم
(6/135)
يحملون كغيرهم، وهو كذلك، نعم في الزمن
والهرم وجه أنهما لا يحملان.
[حكم من وجبت عليه دية ولم تكن له عاقلة]
قال: ومن لم تكن له عاقلة أخذت من بيت المال.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر.
2981 - ففي الصحيح قال: «فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة، وفي لفظ: فوداه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده، فبعث إليهم رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة ناقة حمراء» .
2982 - وروي أن رجلا قتل في زحام، في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
ولم يعرف قاتله، فقال علي لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يا أمير
المؤمنين لا يبطل دم امرئ مسلم، فأدى ديته من بيت المال، (والرواية
الثانية) لا شيء على بيت المال، اختارها أبو بكر في التنبيه، لأن فيه حقا
للنساء والصبيان والمجانين والفقراء، ولا عقل عليهم، فلا يصرف حقهم
والمجانين والفقراء، ولا عقل عليهم، فلا يصرف حقهم فيما لا يجب عليهم، قال
أبو محمد: ولأن بيت المال ليس بعصبة، وما يصرف إليه من مال من لا وارث له
إنما يأخذه على أنه فيء، لا أنه إرث. (قلت) : وقد يكون هذا منشأ الخلاف،
وهو أن بيت المال
(6/136)
هل هو عصبة أم لا؟ لكن المشهور أنه ليس
بعصبة، والمشهور أن يدي، ولا يستقيم البناء (واعلم) أن محل الروايتين عند
أبي محمد تبعا للقاضي في المسلم، أما الذمي فإن بيت المال لا يحمل عنه
عندهما بلا خلاف، بل تكون الدية عليه على المذهب، وقيل: لا شيء عليه
كالمسلم على المذهب، وعند أبي البركات أنهما جاريتان فيهما وهو ظاهر كلام
الخرقي، وهو مما يضعف البناء، وحيث حمل بيت المال فهل ذلك في ثلاث سنين
كالعاقلة أو في دفعة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدى
دية الأنصاري في دفعة، والعاقلة التأجيل عليهم تخفيفا بهم، ولا حاجة بنا
إلى التخفيف في بيت المال؟ فيه وجهان، أصحهما الثاني، والله أعلم.
قال: فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء.
ش: إذا لم يقدر على أخذ شيء من بيت المال سقطت الدية، فلا شيء على القاتل،
على المعروف عند الأصحاب، بناء عندهم على أن الدية وجبت على العاقلة
ابتداء، فلا تجب على غير من وجبت عليه، كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب
على أحد، كذلك هاهنا، وخالفهم أبو محمد فاختار وجوبها على القاتل لعموم
قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] مع
قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يجني جان إلا على نفسه»
وسقوطها لقيام العاقلة مقامه، فإذا لم توجد عاقلة، أو وجدوا
(6/137)
وانتفى حملهم لدليل، بقيت واجبة عليه، ولأن
الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول، وبين إيجاب ديته على المتلف، لا يجوز
الأول لمخالفة إطلاق الكتاب والسنة، فيتعين الثاني، وفي كلامه - رَحِمَهُ
اللَّهُ - إشعار بأن الدية تجب على القاتل، وتتحملها العاقلة.
(تنبيه) : سميت العاقلة عاقلة لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول،
أي تشد عقلها لتسلم إليهم، ولذلك سميت الدية عقلا، وقيل سموا بذلك لإعطائهم
العقل الذي هو الدية، وقيل لأنهم يمنعون عن القاتل.
[دية الحر الكتابي]
قال: ودية الحر الكتابي نصف دية الحر
المسلم.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب.
2983 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية المعاهد نصف دية الحر» رواه أبو
داود، والنسائي ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين» وهم اليهود والنصارى، ورواه الترمذي
ولفظه: «دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن» قال الخطابي: ليس في دية أهل
الكتاب شيء أبين من هذا، ولا بأس به، وبه قال أحمد. (قلت) : وهذا يبين
الآية الكريمة.
(والرواية الثانية) ثلث دية المسلم، إلا أن أحمد رجع عنها، قال في رواية
أبي الحارث: كنت أذهب إلى حديث عمر أن دية اليهودي
(6/138)
والنصراني أربعة آلاف، ثم نزلت عن حديثه
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن ثم قال أبو بكر: المسألة رواية
واحدة، أنها على النصف. وقد بين أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مأخذه في
الروايتين، وحديث عمرو بن شعيب قد تقدم.
2984 - أما حديث عمر فهو ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كانت قيمة
الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائة
دينار، أو ثمانية آلاف درهم، قال: وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من
دية المسلم، قال: فكانت كذلك حتى استخلف عمر قام خطيبا فقال: إن الإبل قد
غلت، ففرضها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أهل الذهب ألف دينار، وعلى
أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء
ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة؛ قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها
فيما رفع من الدية، رواه أبو داود.
(تنبيه) : ولا فرق في ذلك بين الذمي منهم والمستأمن، لاشتراكهم في الكتاب
مع حقن الدم.
قال: ونساؤهم على النصف من دياتهم.
ش: لما كانت دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم، كانت نساء أهل الكتاب
على النصف من دياتهم،
(6/139)
مع أن هذا قد حكاه ابن المنذر إجماعا.
قال: وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم، لإزالة القود، هكذا حكم
عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله.
2985 - والمحكي عن عثمان رواه عنه أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري،
عن سالم عن أبيه، أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع إلى عثمان، فلم
يقتله وغلظ عليه ألف دينار. ولهذا نظائر في الشريعة (منها) سارق الثمر
والكثر يغرم بمثله مرتين، لإزالة القطع، (ومنها) الأعور إذا قلع عين صحيح،
تجب عليه دية كاملة، كما حكم به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لدرء
القصاص عنه، ويقرب من ذلك غرامة اللقطة بمثلها مرتين إذا كتمها، وكذلك أخذ
شطر مال الكاتم ماله في الزكاة على رواية.
2986 - لحديث بهز بن حكيم، وغير ذلك، وهذا ونحوه يخصص
(6/140)
عموم ما تقدم، وقول الخرقي: على قاتله
المسلم. يحترز عن قاتله إذا كان ذميا، فإن الدية لا تضعف عليه، لوجوب
القصاص عليه، والله أعلم.
[دية المجوسي]
قال: ودية المجوسي ثمانمائة درهم.
2987 - ش: لما روى الشافعي في مسنده، والدارقطني عن سعيد بن المسيب قال:
كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف
درهم، والمجوسي ثمانمائة.
2988 - ويروى ذلك أيضا عن عثمان وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» لا عموم فيه، ثم المراد به والله
أعلم في أخذ الجزية، جمعا بين الأدلة، وسواء كان المجوسي ذميا
(6/141)
أو مستأمنا، وإن قتله مسلم عمدا أضعفت
الدية عليه، لإزالة القود، نص عليه أحمد، قياسا على الكتابي فتجب ألف
وستمائة درهم.
قال: ونساؤهم على النصف من ذلك.
ش: كنساء المسلمين وأهل الكتاب، وقد حكي إجماعا والله أعلم.
[دية الحرة المسلمة]
قال: ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر
المسلم.
2989 - ش: لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل المرأة
مثل عقل الرجل، حتى يبلغ الثلث من ديته» رواه النسائي.
2990 - «وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في
إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلت: فكم في إصبعين؟ فقال: عشرون من
الإبل. قلت: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: فكم في أربع أصابع؟
فقال: عشرون. قلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟ قال سعيد:
أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: هي السنة يا ابن أخي»
. رواه مالك في الموطأ، وذكر أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة
على
(6/142)
النصف من دية الرجل. ولم أجد ذلك في حديث
عمرو بن حزم في جامع الأصول، ولا في المنتقى.
قال: وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، فإذا جاوزت الثلث فعلى
النصف.
ش: لا نزاع عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل فيما دون ثلث الدية، ففي
إصبعها عشر من الإبل، وفي الإصبعين عشرون من الإبل، وفي الثلاث أصابع
ثلاثون، ولا نزاع عندنا أيضا أنها فيما زاد على الثلث على النصف، ففي أربع
أصابع منها عشرون، وفي يدها خمس وعشرون، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب
وسعيد، واختلف هل تساوي الرجل في قدر الثلث، كالجائفة والمأمومة، ونحو ذلك؟
على روايتين (إحداهما) تساويه - وهو اختيار الشريف وأبي الخطاب في
خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، لأنه في حد القلة، بدليل جواز الوصية به
(والثانية) يختلفان، فيجب في جائفتها سدس دية الرجل - وهو اختيار أبي محمد
- لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(6/143)
سماه كثيرا قال: «الثلث والثلث كثير» ،
وحديث عمرو بن شعيب محتمل للقولين، بناء على أن الغاية هل تدخل في المغيا،
وذلك وإن كان في (إلى) الأكثر عدم الدخول، ففي (حتى) الكثير الدخول، والله
أعلم.
[دية العبد والأمة]
قال: ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة
ما بلغ ذلك.
ش: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها، فلا حاجة إلى إعادتها، ونزيد هنا
بأنه لا فرق في ذلك بين العبد القن والمدبر والمكاتب، وأم الولد، لدخول
الكل في إطلاق العبد، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما
بقي عليه درهم» .
[دية الجنين]
قال: ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو
أمة، قيمتها خمس من الإبل، موروثة عنه كأنه سقط حيا.
ش: الواجب في دية الجنين والحال هذه
غرة.
2991 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اقتتلت امرأتان
من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية
المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم؛ مختصر» متفق عليه.
(6/144)
2992 - «وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن إملاص المرأة،
وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها، فقال: أيكم سمع من النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيئا؟ قال: فقلت: أنا، قال: ما هو؟ قلت:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «فيه غرة عبد
أو أمة» قال: لا تبرح حتى تجيء بالمخرج. قال: فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة
فجئت به، فشهد معي أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: «فيه غرة عبد أو أمة» » متفق عليه. والغرة عبد أو أمة، لما تقدم من
الحديثين السابقين، وما روي «عبد أو أمة أو فرس أو بغل» وهم عند أهل العلم
بالنقل، والصحيح ما تقدم، ويشترط أن تكون قيمة العبد أو الأمة عشر دية
الأم.
2993 - لأن ذلك يروى عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فقيد إطلاق
ما تقدم، مع أنه أقل مقدر، وقدره الشارع في الجنايات، وهو أرش الموضحة،
ودية السن، فاعتبر
(6/145)
بذلك، ولا ترد الأنملة، لأنه لا نص فيها،
إنما هو اجتهاد. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قيمتها خمس من الإبل.
بناء عنده على أن الأصل في الدية الإبل، فجعل التقويم بها، وغيره من
الأصحاب مقتضى كلامه أن التقويم بواحد من الخمسة أو الستة على ما تقدم، وأن
ذلك راجع إلى اختيار الجاني، كما له الاختيار في دفع أي الأصول شاء إذا كان
موجب جنايته دية كاملة. وحكم هذه الغرة أنها موروثة عن الجنين، كأنه سقط
حيا، لأنها دية له وبدل عنه، فورثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة، وشرط
الخرقي للضمان السابق أن يسقط من الضربة ميتا، أي بسبب الضربة، بأن يسقط
عقيبها، أو يبقى بها متألما إلى أن يسقط، أما إن ضربها فماتت بحملها ولم
تلقه، أو ضرب من في بطنها شيء يتحرك فذهب فلا شيء عليه، لعدم العلم بوجوده،
والأصل براءة الذمة. وكلام الخرقي يشمل ما إذا ألقته في حياتها، أو بعد
موتها، وهو كذلك، والحكم فيما إذا ظهر بعضه ولم يظهر جميعه حكم ما إذا ظهر
جميعه، قاله أبو محمد. وقول الخرقي: وكان من حرة مسلمة؛ يريد به أن الأم
متى كانت كذلك كان الولد حرا مسلما، فيجب ما تقدم، وقد تكون الأم رقيقة
كافرة، والجنين حر مسلم، بأن يغر بأمة، أو يتزوج المسلم كتابية، فتجب الغرة
السابقة، أما إن كان الجنين رقيقا فسيأتي حكمه، وإن كان كافرا
(6/146)
كالمولود بين كتابيين ونحوهما، فإن الواجب
فيه عشر دية أمه إن ساوت الأب في الدين، أو كانت أعلى منه كنصرانية تحت
مجوسي، وإن نقصت عنه - كمجوسية تحت كتابي - وجب عشر ديتها لو كانت على دين
الأب.
(تنبيه) : الولد الذي تجب به الغرة ما تصير بن الأمة أم ولد، وما لا فلا،
وأصل «الغرة» بياض في جبهة الفرس، ومن ثم قال أبو عمرو بن العلاء: الغرة
عبد أبيض أو أمة بيضاء، ولم يعتبر ذلك الفقهاء، نظرا لإطلاق الحديث، مع
قرينة غلبة السواد على أرقاء أهل الحجاز، والغرة أيضا أول الشيء وخياره،
ومن ثم قال أصحابنا: لا يقبل في الغرة معيب، لأن ذلك ليس بخيار، وبنى على
ذلك جمهورهم أن من لم يبلغ سبع سنين لا يجزئ لأنه يحتاج إلى من يكفله ويقوم
به، فليس من الخيار، وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي الإجزاء، والله
أعلم.
قال: وإن كان الجنين مملوكا ففيه عشر قيمة أمه.
ش: هذا هو المذهب المعروف، قياسا على الجنين الحر، فإن فيه عشر دية أمه،
كذلك المملوك فيه عشر قيمة
(6/147)
أمه، إذ قيمة الأمة بمنزلة دية الحرة، وحكى
أبو الخطاب في خلافه رواية أخرى أن الواجب نصف عشر قيمة أمه، ولا عمل عليه،
ثم الواجب هنا قيمة لا عبد أو أمة لأن الرقيق الواجب فيه قيمة، بخلاف الحر
فإن الواجب فيه إما الإبل، أو أحد خمسة أشياء أو ستة.
قال: وسواء كان الجنين ذكرا أو أنثى.
ش: أما الجنين الحر فلإطلاق الحديث، وأما المملوك فبالقياس على الحر، والله
أعلم.
قال: فإن ضرب بطنها فألقت جنينا حيا، ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان
حرا، أو قيمته إن كان مملوكا، إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله، وهو أن يكون
لستة أشهر فصاعدا.
ش: أما وجوب دية الحر أو قيمة المملوك على الضارب والحال ما تقدم فلأنه مات
من جنايته، بعد ولادته لوقت يعيش لمثله، أشبه ما لو قتله بعد وضعه، وقد قال
ابن المنذر: إن هذا مما أجمع عليه كل من يحفظ عنه من أهل العلم، وتعلم
الحياة باستهلاله بلا ريب.
(6/148)
2994 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استهل المولود ورث وورث» وهل تعلم بارتضاعه، أو
تنفسه، أو عطاسه، أو نحو ذلك مما يدل على الحياة؟ فيه روايتان (إحداهما)
لا، لمفهوم الحديث السابق (والثانية) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي
محمد - نعم، لأن الارتضاع ونحوه أدل على الحياة من الاستهلال، فاستفيد من
الحديث بطريق التنبيه، أما مجرد الحركة والاختلاج فلا يدلان على الحياة،
لأن ذلك قد يكون لخروجه من مضيق فلم تتيقن حياته. وشرط الخرقي لوجوب الضمان
السابق أن يموت من الضربة أي بسببها، وذلك بسقوطه في الحال وموته، أو بقائه
متألما إلى أن يموت، أو بقاء أمه متألمة إلى أن تلقيه حيا فيموت، أما لو
ألقته ثم بقي زمنا سالما لا ألم به ثم مات فلا ضمان، ولو وضعته حيا، فجاء
آخر فقتله وفيه حياة مستقرة فهو
(6/149)
القاتل، وإن لم تكن فيه حياة مستقرة، بل
حركة كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول، ويؤدب الثاني (وشرط) أيضا أن تضعه
لوقت يعيش لمثله، وإلا فحكمه حكم الميت فيه الغرة، لعدم تصور بقائه، وبين -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوقت الذي يعيش لمثله ستة أشهر فصاعدا، لأن ذلك أقل
مدة الحمل والله أعلم.
قال: وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة، سواء كان الجنين حيا أو
ميتا.
ش: هذا قول جمهور أهل العلم، لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقال:
{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]
أي المقتول، وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمنا فهو
محكوم بإيمانه تبعا، فيدخل في الآية، وإن كان من كتابيين فهو من قوم بيننا
وبينهم ميثاق فتشمله الآية، ولأنه نفس مضمونة بدية، فوجبت فيه الرقبة
كالكبير.
قال: وإذا شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئا،
وتعتق رقبة.
ش: أما وجوب الغرة فلأن الجنين مات بجنايتها، أشبه ما لو كان الجاني غيرها،
وأما كونها لا ترث منها شيئا فلأنها قاتلة، وقد تقرر أن القاتل لا يرث
المقتول، فعلى هذا تكون الغرة لبقية الورثة، وأما كونها تعتق رقبة فلما
تقدم قبل والله أعلم.
[الحكم لو رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل
رجلا]
قال: وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق، فرجع الحجر فقتل رجلا
(6/150)
فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية.
ش: لأنه قتل حصل بفعلهم وجنايتهم، وهم ثلاثة، فوجب تثليث الدية على
عواقلهم، لأنه كما سيأتي إما خطأ، وإما شبه عمد، هذا هو المذهب المعروف
وقيل: بل تجب الدية في بيت المال، لأن ذلك من مصالح المسلمين، فإن تعذر
فعلى العاقلة، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قصدوا معينا أو لم يقصدوا، وهو
كذلك لأن قصد الواحد بالمنجنيق يندر أن يصيبه، فلا يكون عمدا، نعم مع قصد
معين أو جماعة يكون ذلك شبه عمد وقد تقدم حكمه ومع عدم القصد يكون خطأ،
واختار ابن حمدان أنه عمد إن كان الغالب الإصابة، وقول الخرقي: قتل رجلا.
يحتمل أن يكون من غيرهم، ويحتمل أن يكون منهم، وعلى هذا يكون مقتضى قول
الخرقي أن جناية الإنسان على نفسه تكون خطأ، تحملها العاقلة لورثته، وهو
إحدى الروايتين، والرواية الثانية لا شيء فيها، وقال ابن عقيل في التذكرة:
تكون عليه يدفعها إلى ورثته، والله أعلم.
قال: وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله.
ش: هذا مبني على المذهب من أن المشتركين في القتل على كل واحد منهم كفارة،
لا أن الواجب على الجميع كفارة واحدة، وقد تقدم ذلك، وتقدم أيضا أن الكفارة
تجب في مال القاتل.
(6/151)
قال: فإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة
في أموالهم.
ش: هذا هو المذهب المختار للأصحاب بلا ريب لما تقدم لأن الواجب على كل واحد
والحال هذه دون الثلث، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما تقدم، وإذا انتفى
حمل العاقلة وجبت الدية في أموالهم، لأن ذلك أثر فعلهم. قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» وتجب حالة،
لأنها بدل متلف، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات، وقد يستشكل بأن الجاني
إذا حمل دية شبه العمد كانت من ماله مؤجلة على المذهب، كذلك هاهنا قد يقال،
وحكى أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحمل ذلك، نظرا إلى أن هذه جناية واحدة
أوجبت ما زاد على الثلث، فحملته العاقلة كما لو كانوا ثلاثة، واستشهد
القاضي في روايتيه على هذه الرواية بما نقل يعقوب بن بختان عن أحمد، في قوم
رموا بالمنجنيق فرجع فقتل رجلا من المسلمين فالدية على عواقلهم والكفارة في
أموالهم. قال: وهذا يحتمل أن يكونوا ثلاثة فما دون، ويحتمل أن يكونوا أكثر
من ذلك؛ قلت: من حمل مطلق كلامه على مقيده لا ينبغي له أن يثبت هذه
الرواية، بخلاف من لم يحمل، وظاهر كلام الأصحاب أنه لا خلاف في الخمسة أن
الدية لا تكون على العاقلة،
(6/152)
وصرح بذلك ابن حمدان، وهو مما يضعف تعليل
الرواية الثانية.
(تنبيه) : الضمان في الرمي بالمنجنيق يتعلق بمن مد الحبال، ورمى الحجر، دون
من وضعه في الكفة وأمسك الخشب، إذ الأول مباشر، والثاني متسبب، والمباشرة
تقطع حكم السبب، والمنجنيق أعجمي معرب، بفتح الميم وكسرها، وحكي فيه منجنوق
ومنجليق. . . والله أعلم.
[باب ديات الجراح]
ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان ديات الأنفس شرع يتكلم على
ديات الجراحة.
قال: ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية، وما فيه منه شيئان
ففي كل واحد منهما نصف الدية.
2995 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم، عن أبيه، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لابن حزم في العقول: «إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف
إذا أوعب جدعا الدية كاملة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثله، وفي
العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر
من الإبل، وفي كل سن خمس، وفي الموضحة خمس» رواه مالك في موطئه، وهذا لفظه،
والنسائي وفي روايته: «وفي الأنف إذا أوعب جدعه بالدية، وفي اللسان الدية،
(6/153)
وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية،
وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة
نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة
خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي
السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة،
وعلى أهل الذهب ألف دينار، ذكره في رواية، وفي العين الواحدة نصف الدية،
وفي اليد الواحدة نصف الدية» ، قال ابن عبد البر: كتاب عمرو بن حزم معروف
عند العلماء، وما فيه متفق عليه إلا قليلا، انتهى. ففي هذا الحديث مما في
الإنسان منه شيء واحد الأنف، والذكر، واللسان والصلب، وغير ذلك مقيس عليها،
وفيه مما في الإنسان منه شيئان الشفتان والبيضتان، والعينان، والرجلان،
واليدان، وغير ذلك مقيس عليها وملحق بها والله أعلم.
قال: وفي العينين الدية.
ش: لما تقدم في حديث عمرو بن حزم، مع أنه إجماع، ولا فرق بين أن يكونا
صحيحتين أو مريضتين، أو حولاوين، وفي العين الواحدة نصف الدية، على مقتضى
كلام الخرقي، لما تقدم في حديث عمرو بن حزم، وعموم كلامه يقتضي شمول عين
الأعور، وهو مقتضى حديث عمرو بن حزم، والمذهب
(6/154)
أن في عين الأعور دية كاملة.
2996 - نظرا إلى قضاء الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، ولا يعرف عن غيرهم خلافهم، ولأن قلع عينه يتضمن ذهاب بصره كله،
إذ الأعور يبصر بعينه كما يبصر الصحيح، فوجبت الدية كما لو أذهب البصر من
العينين.
قال: وفي الأشفار الأربعة الدية.
ش: في الأشفار الدية، لأن ذلك هو جميع الجنس، فوجب فيه جميع الدية كاليدين
والرجلين، والأشفار فسرها أبو محمد بالأجفان، وهو مقتضى كلام غيره، وابن
أبي الفتح يجعل الشفر منبت الهدب، والجفن غطاء العين، والله أعلم.
قال: وفي كل واحد منها ربع الدية.
ش: لأنه عدد تجب الدية في جميعه، فوجب في بعضه بالقسط، كاليدين والأصابع
والله أعلم.
(6/155)
قال: وفي الأذنين الدية. . .
ش: لأنهما مما في البدن منه شيئان.
2997 - ويروى ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وادعى أبو
محمد أنه في كتاب عمرو بن حزم، ولم أره، وقد شمل كلام الخرقي الأذن الصماء،
والأذن المستحشفة، والأذن المخرومة، وهو صحيح إن قلنا: يؤخذ به السالم من
ذلك في العمد، وإلا الواجب في ذلك حكومة، والله أعلم.
قال: وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية.
2998 - ش: يروى هذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2999 - ويروى أيضا عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي السمع الدية» وقال ابن المنذر:
أجمع عليه عوام أهل العلم. ولأنه حاسة تختص بنفع، فكان فيه الدية كالبصر،
ولو ذهب السمع من أحد الأذنين وجب نصف الدية والله أعلم.
(6/156)
قال: وفي الأنثيين الدية.
ش: لحديث عمرو «في البيضتين الدية» ، ويجب في إحداهما نصفها.
قال: وفي الصعر الدية.
ش: لذهاب المنفعة والجمال، أشبه سائر المنافع.
3000 - ولأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولا يعرف له مخالف. قال: والصعر أن
يضربه فيصير الوجه في جانب.
ش: قال الجوهري: الصعر الميل في الخد خاصة، وقال أبو محمد: أصله داء يأخذ
البعير في عنقه فيلتوي له عنقه، وفي التنزيل: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ
لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير
الذي به الصعر، والله أعلم.
قال: وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية.
ش: لأنه عضو فيه منفعة كثيرة، ليس في البدن مثله أشبه سائر الأعضاء، ومنفعة
المثانة حبس البول، فإذا غيرت فقد زالت المنفعة.
قال: وفي قرع الرأس إذ لم ينبت الشعر الدية، وفي الحاجبين إذا لم ينبت
الشعر الدية، وفي اللحية إذا لم ينبت الشعر الدية.
ش: هذا هو المذهب المشهور من الروايتين، لأنه إذهاب للجمال على الكمال،
فوجبت الدية كاملة كأنف الأخشم،
(6/157)
وأذن الأصم، (والرواية الثانية) في الجميع
حكومة، لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، فأشبه اليد الشلاء، وألحق الأصحاب
بهذه الثلاثة أهداب العينين، فجعلوا فيها دية على المذهب، وفي الواحد منها
ربع الدية، كما أن في الحاجب نصفها، وقوله: إذا لم ينبت. شرط لوجوب الدية،
فلو نبتت فلا دية.
قال: وفي المشام الدية. . .
ش: قال أبو محمد: أراد الشم، انتهى. ويجوز أن يكون أراد المنخرين. وفي كل
واحد من ذلك نصف الدية، أما الأول فلأنها حاسة تختص بمنفعة، أشبهت سائر
المنافع، مع أن القاضي يدعي أن في حديث عمرو «وفي المشام الدية» ولم أر
ذلك، وأما الثاني فلأنه مما في الإنسان منه شيئان، وهو إحدى الروايتين،
والمشهور منهما، وعليها ففي الحاجز حكومة، (والرواية الثانية) فيهما ثلثا
الدية، وفي الحاجز ثلثها، اختارها أبو بكر، والله أعلم.
(6/158)
قال: وفي الشفتين الدية.
ش: لحديث عمرو «وفي الشفتين الدية» وفي كل واحدة نصف الدية على المذهب
المشهور من الروايتين، قياسا على ما في الإنسان منه شيئان.
3001 - واتباعا لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (والرواية
الثانية) في الشفة السفلى ثلثا الدية، وفي العليا ثلثها.
3002 - اتباعا لزيد بن ثابت، ولأن نفع السفلى أكثر، فناسب أن تزيد ديتها
على دية العليا.
قال: وفي اللسان المتكلم به الدية.
ش: لحديث عمرو بن حزم، وقد حكى إجماعا، وقوله: المتكلم به، يحترز به عن
لسان الأخرس، فإن الدية لا تكمل فيه، بل الواجب فيه إما ثلث الدية، أو
حكومة على اختلاف الروايتين، ويستثنى من عموم المفهوم لسان الطفل، فإن
الكلام منتف فيه، والدية واجبة فيه، نعم إن بلغ إلى حد يتحرك فيه بالبكاء
ولم يحركه فحكمه حكم لسان الأخرس، والله أعلم.
قال: وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد ثغر.
ش: في كل سن خمس من الإبل على المذهب، لما تقدم
(6/159)
من حديث عمرو بن حزم.
3003 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل إصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من
الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء» . . . رواه الخمسة إلا الترمذي، وقال
في المغني: وحكي عن أحمد أن في جميع الأسنان والأضراس دية. . قال: ويتعين
حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد، للإجماع على أن في كل سن خمسا من الإبل،
والأسنان فيها ستون بعيرا، لأنها اثنا عشر سنا، أربع ثنايا، وأربع رباعيات،
وأربعة أنياب، ففيها خمس، والأضراس فيها أربعون، لأنها عشرون ضرسا. . .
انتهى.
3004 - وقول سعيد هو أن في كل ضرس بعيرين، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال
تبعه عليه في المقنع أن الواجب في الجميع دية واحدة وأطلق، وحقق أبو
البركات هذا القول فقال: وقيل: إن قلع الكل أو فوق العشرين دفعة لم يجب سوى
الدية، وذلك لأن هذه تشتمل على منفعة الجنس، فكان الواجب فيه دية كاملة،
كبقية المنافع، ويحمل الحديث على ما إذا قلعها
(6/160)
متفرقة، أو قلع دون العشرين. وشرط وجوب ما
تقدم أن تكون قد قلعت ممن قد أثغر، وهو الذي قد سقطت رواضعه، فأما سن الصبي
الذي لم يثغر فهل يجب فيها ما يجب في سن من أثغر، لعموم الحديث، وهو اختيار
أبي الخطاب، وأبي محمد، أو لا يجب إلا حكومة وهو اختيار القاضي، ويحتمله
كلام الخرقي، لعدم مساواتها لسن الكبير، وذلك يقتضي أن ينقص عنها؟ على
روايتين، (وشرط الوجوب) في سن الصغير وغيره عدم عود مثلها، فلو نبت مثل
السن في محلها فلا شيء له، حتى لو كان قد أخذ الدية أخذت منه، كالشعر إذا
نبت، نعم لو عادت قصيرة أو متغيرة فله الأرش، (ويشترط) أيضا لوجوب أخذ
الدية الإياس من عودها، فإن رجي عودها لم تجب ديتها، والمرجع في ذلك إلى
قول أهل الخبرة، قاله أبو البركات (وعن أحمد) أنه قيد ذلك في سن الصغير
بسنة، فإذا مضت وجبت الدية، وقال القاضي: إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت
الدية وهو حسن، وإنما وقع لأحمد والقاضي التقييد في الصغير دون غيره لأن
الغالب أن سن الكبير لا يرجى عودها، فلا انتظار.
تنبيهان (أحدهما) لو مات من قلعت سنه في مدة الانتظار فهل تجب دية السن
لوجود سبب الدية. . . والأصل عدم العود، أو لا تجب، لاحتمال العود، والأصل
براءة الذمة؟ فيه قولان،
(6/161)
وأبو محمد يخصهما بسن الصغير، لأن الانتظار
عنده إنما هو فيه.
(والثاني) تجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة، لأن ذلك هو المسمى بها
سنا، وما في اللثة يسمى سنخا، ولو قلعها ابتداء بسنخها لم يجب فيها أكثر من
الدية.
قال: والأضراس والأنياب كالأسنان.
ش: أي يجب فيهم ما يجب في الأسنان، وذلك لما تقدم.
3005 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأسنان سواء الثنية والضرس سواء» رواه
ابن ماجه وهو نص، وقد تقدم لنا قويل أن في كل ضرس بعيرين ولا عمل عليه.
قال: وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة.
ش: لأنهما مما في الإنسان منه شيئان، وقد تقدم أن كل ما في الإنسان منه
شيئان فيه الدية، ولأن في ثدي المرأة جمالا ونفعا، أشبها اليدين وفي ثندوتي
الرجل جمالا كاملا، أشبها أذني الأصم، وعلى هذا في أحدهما نصفها.
قال: وفي الأليتين الدية. . .
ش: لما تقدم، قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل
(6/162)
العلم يقولون في الأليتين الدية، ولأن
فيهما جمالا ومنفعة، لأنه يجلس عليهما كالوسادتين، فأشبها اليدين، وفي
إحداهما نصفها لما تقدم.
قال: وفي الذكر الدية.
ش: لحديث عمرو بن حزم وقد تقدم، مع أنه إجماع والحمد لله، ولا فرق بين ذكر
الكبير والصغير، وإن لم يقدر أن يجامع به، لعموم الحديث، مع صلاحيته لذلك،
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ذكر العنِّين والخصي، والذكر الأشل، ولا نزاع
فيما نعلمه أن الذكر الأشل لا تكمل فيه الدية، وإنما الواجب فيه هل هو
حكومة أو ثلث ديته؟ على روايتين يأتي توجيههما في اليد الشلاء أما ذكر
الخصي والعنين ففيهما ثلاث روايات، (إحداها) وهي المشهورة حكمها حكم الذكر
الأشل، لأن منفعة الذكر الإنزال والإحبال، وذلك مفقود فيهما.
(والثانية) فيهما كمال الدية، لعموم الحديث، ولأنه عضو سليم في نفسه، فكملت
ديته كذكر الشيخ.
(والثالثة) يجب الكمال في ذكر العنين، لأنه غير مأيوس من الإنزال به
والإحبال، بخلاف ذكر الخصي.
(تنبيه) ينبني على الخلاف السابق في ذكر الخصي إذا قطع الذكر والخصيتين
معا، أو الخصيتين ثم قطع الذكر، وجبت
(6/163)
ديتان بلا ريب، ولو قطع الخصيتين أولا، ثم
قطع الذكر، وجبت دية الخصيتين، وفي الذكر روايتان، إحداهما دية، والأخرى
حكومة أو ثلث ديته، على اختلاف الروايتين في الواجب فيه إذا لم يجب فيه
كمال الدية.
قال: وفي اليدين الدية.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له حديث عمرو بن حزم، وفي إحداهما نصفها،
وقد شمل كلامه اليد الشلاء والزائدة، وسيأتي الكلام على اليد الشلاء إن شاء
الله تعالى، وحكم اليد الزائدة حكمها، وتجب الدية في قطعها من الكوع إذ
اليد إذا أطلقت في الغالب أريد بها ذلك، بدليل التيمم، وقطع السارق، وغسل
اليدين إذا قام من نوم الليل، فإن قطهما من فوق ذلك فهل في الزائد حكومة،
وهو اختيار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، وأبو الخطاب، كما لو قطعه بعد
قطعها من الكوع، أولا تجب، وهو منصوص أحمد في رواية أبي طالب، وقول القاضي
في الجامع؟ على قولين، لأن اليد في الأصل اسم لليد إلى المنكب، مع أن الأصل
براءة الذمة. وفي إحداهما نصفها إلا على رواية ضعيفة، وهو إذا لم تكن له
إلا يد واحدة ففيها دية كاملة، كعين الأعور، وعلى
(6/164)
هذه لو قطع يد من له يدان لم تقطع يده، بل
يكون عليه دية كاملة.
قال: وفي الرجلين الدية.
ش: هذا أيضا إجماع والحمد لله، وحديث عمرو بن حزم يدل عليه، وكلامه يشمل
رجل الأعرج، وهو المذهب، لأن العرج لمعنى في غير القدم، وعن أبي بكر: فيها
ثلث الدية كاليد الشلاء، ويستثنى من عموم كلامه الرجل الشلاء فإن حكمها حكم
اليد الشلاء، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وتجب دية الرجل في قطعها من الكعب،
فإن قطعها من فوق ذلك فقولان، كما تقدم في قطع اليد، وحكم قطع إحداهما حكم
قطع إحدى اليدين.
قال: وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل.
ش: لما تقدم من حديث عمرو بن حزم، وعمرو بن شعيب.
3006 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هذه وهذه سواء» . . . يعني الخنصر
والإبهام رواه الجماعة إلا مسلما، وللترمذي وصححه: «أصابع اليدين والرجلين
سواء، عشر من الإبل لكل أصبع» ويستثنى من كلامه الإصبع الزائدة، فإن فيها
ثلث ديتها، أو حكومة، على اختلاف
(6/165)
الروايتين، والله أعلم.
قال: وفي كل أنملة منها ثلث عقلها، إلا الإبهام فإنها مفصلان، ففي كل مفصل
خمس من الإبل.
ش: في كل أنملة من الأصابع ثلث عقل الإصبع لأن كل إصبع فيه ثلاث أنامل،
فديته مقسومة عليها، إلا الإبهام فإنها مفصلان، فتقسم دية الإصبع عليهما،
فيجب في كل مفصل نصف ديته، وهو خمس من الإبل.
قال: وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية، وفي المثانة إذا لم
يستمسك البول الدية.
ش: لأن كل واحد من هذين العضوين فيه منفعة ليس في البدن مثله، فوجب في
تفويت منفعته دية كاملة، كسائر الأعضاء، وحكى ابن أبي موسى رواية في
المثانة أن فيها ثلث الدية، والله أعلم.
قال: وفي ذهاب العقل الدية.
3007 - ش: لأن ذلك يروى عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن به
يتميز من البهائم، ويعرف به حقائق المعلومات، ويدخل به في التكليف، وهو شرط
في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق
من
(6/166)
بقية الحواس، وقد ادعى أبو محمد أن في كتاب
عمرو بن حزم «وفي العقل الدية» ، ولم أر ذلك، والله أعلم.
قال: وفي اليد الشلاء ثلث ديتها، وكذلك العين القائمة، والسن السوداء.
ش: هذا إحدى الروايتين عن إمامنا، واختيار عامة أصحابنا.
3008 - لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا
طمست بثلث ديتها، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء
إذا نزعت بثلث ديتها» ؛ رواه النسائي، ولأبي داود منه: «قضى في العين
القائمة السادة لمكانها بثلث الدية» .
3009 - وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في العين
القائمة إذا خسفت، واليد الشلاء إذا قطعت، والسن السوداء، إذا كسرت ثلث دية
كل واحدة منهن. (والرواية الثانية) في جميع ذلك حكومة، ولعله قال ذلك قبل
أن يبلغه الخبر، أو قبل أن يثبت عنده، وإذا لا مقدر في ذلك، ولا يمكن إيجاب
الدية فيه كاملة، لذهاب نفعه، فيجب فيه حكومة.
(6/167)
تنبيهان: (أحدهما) العين القائمة هي
الباقية في موضعها صحيحة، وإنما ذهب نظرها وإبصارها، واليد الشلاء التي
بطلت لآفة تعتريها، ومن ثم قال القاضي: الروايتان في السن السوداء التي ذهب
نفعها، أما إن لم يذهب نفعها بالكلية، ففيها ديتها كاملة، وخالفه أبو محمد
عملا بإطلاق أحمد، وبظاهر الحديث.
(الثاني) : الروايتان السابقتان جاريتان في الرجل الشلاء، والإصبع الشلاء،
والذكر الأشل، والثدي الأشل، ولسان الأخرس، ولسان الصبي الذي أتى عليه أن
يحركه بالبكاء ولم يحركه، والثدي دون حلمته، والذكر دون حشفته، والكف دون
أصابعه، وقصبة الأنف، واليد والإصبع، والرجل والسن الزوائد [وذكر الخصي
والعنين على رواية، إلا أن المختار لأبي محمد في اليد والأصبع والرجل والسن
الزوائد] أن فيها حكومة، وكذلك مختاره في الذكر، دون حشفته، والكف دون
أصابعه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على ما تقدم، إما لورود النص
فيها دون غيرها، وإما لأن مختاره وجوب الحكومة فيما عداها. واعلم أن أبا
محمد جعل من صور الخلاف هنا شحمة الأذن، وكلامه في المغني في هذا الموضع
يقتضي أن مختاره أن فيها حكومة، ولما تكلم في قطع الأذن، وأن في بعضها
بالحساب من ديتها، قال: إنه روي عن أحمد أن في شحمة
(6/168)
الأذن ثلث ديتها، وأن المذهب الأول، وعلى
هذا الثاني جرى أبو البركات، ولم يحك رواية الحكومة.
قال: وفي إسكتي المرأة الدية.
ش: الإسكتان بكسر الهمزة وفتحها شفرا الرحم، وقيل جانباه مما يلي شفريه،
وفيهما الدية، لأن فيها جمالا ومنفعة، وليس في البدن غيرهما من جنسهما،
فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، والله أعلم.
قال: وفي موضحة الحر خمس من الإبل.
ش: لما تقدم في حديث عمرو بن حزم.
3010 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الموضحة خمس من الإبل» رواه الخمسة. وقوله:
في موضحة الحر. يحترز به عن موضحة العبد، فإن فيها نصف عشر قيمته أو ما نقص
من قيمته، على اختلاف الروايتين والله أعلم.
قال: سواء كان رجلا أو امرأة.
ش: أي سواء كان المجني عليه رجلا أو امرأة، لعموم الحديث، ولما تقدم من أن
جراحها تساوي جراح الرجل إلى الثلث، ونص الخرقي على ذلك لينبه على مذهب
الشافعي
(6/169)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن موضحتها على
النصف من موضحة الرجل.
[جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث]
قال: وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت صارت على
النصف.
ش: قد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية، ونزيد هنا أن مقتضى كلامه أنها
تساويه في الثلث، وهذا اللفظ في هذا الموضع غير موجود في بعض النسخ.
قال: والموضحة في الوجه والرأس سواء.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي وعامة أصحابه، لعموم ما تقدم.
3011 - وعن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الموضحة في الرأس
والوجه سواء.
(والرواية الثانية) : في موضحة الوجه عشر من الإبل، قال القاضي: نقلها حنبل
انتهى. . . واختارها الشيرازي، وذلك لأن شينها أكثر، لظهورها، بخلاف موضحة
الرأس فإنه يسترها
(6/170)
الرأس والشعر، وأول أبو محمد هذه الرواية
بعد أن زعم أن لفظها موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها. بأن معناها أنها
أولى بإيجاب الدية، لا أنها يجب فيها أكثر، وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا
مقدر في غير موضحة الرأس والوجه من المواضح، وهو كذلك، إذ اسم الموضحة إنما
يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس، وغيرهما ليس في معناهما، لأن
شينهما أكثر، وخطرهما أعظم والله أعلم.
قال: وهي التي تبرز العظم وتوضحه.
ش: هذا بيان للموضحة أنها التي تبرز العظم أي تظهره، سميت بذلك لأنها أبدت
وضح العظم أي بياضه، ولا فرق بين قليل ذلك وكثيره، حتى لو أبدت من العظم
قدر إبرة فهي موضحة، ولو كانت كل الرأس فهي موضحة، ومن ثم قال الأصحاب: لو
شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة، لم يلزمه أكثر من أرش
الموضحة.
قال: وفي الهاشمة عشر من الإبل.
3012 - ش: لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأنها شجة فوق الموضحة، تختص
باسم، فكان فيها مقدر كالمأمومة، والله أعلم.
قال: وهي التي توضح العظم وتهشمه.
(6/171)
ش: هذا بيان للهاشمة، وسميت بذلك لهشمها
العظم، وكان ابن الأعرابي يجعل بعد الموضحة المفرشة، وهي التي يصير منها في
العظم صديع مثل الشعرة، ويلمس باللسان لخفائه، انتهى. وتختص أيضا بالرأس
والوجه كما في الموضحة، ولو هشمت العظم من غير إيضاح لم يجب أرش الهاشمة،
على مقتضى كلام الخرقي، وهو كذلك بلا ريب، وهل تجب خمس من الإبل، لأنه الذي
يخص الهشم، أو حكومة لأن زيدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يحكم إلا في
إيضاح وهشم؟ فيه وجهان.
قال: وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل.
ش: قد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وشهد له حديث عمرو بن حزم، والله أعلم.
قال: وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها.
ش: المنقلة زائدة على الهاشمة، لأنها التي توضح العظم وتهشم وتزيد في
الهشم، حتى تزيل العظام عن مواضعها، وبذلك سميت المنقلة، لنقلها العظام.
قال: وفي المأمومة ثلث الدية.
ش: لحديث عمرو بن حزم.
3013 - وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في المأمومة بثلث العقل، ثلاث وثلاثون من
الإبل، أو قيمتها من الذهب، أو الورق أو البقر، أو الشاء،
(6/172)
والجائفة مثل ذلك» ، مختصر رواه أبو داود
والنسائي.
قال: وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ.
ش: وتسمى أم الدماغ سميت بذلك لأنها تحوط الدماغ وتجمعه.
قال: وفي الآمة ما في المأمومة.
ش: الآمة والمأمومة حكمهما واحد، وهما شيء واحد، قال ابن المنذر: أهل
العراق يقولون لها الآمة، وأهل الحجاز المأمومة أي لهذه الجراحة، وسميت
بذلك لوصولها إلى جلدة الدماغ التي هي أم الدماغ.
(تنبيه) : فإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة يعني بالغين المعجمة، وفيها ما
في المأمومة، وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق الجلدة. قال القاضي: ولم يذكرها
أصحابنا لمساواتها المأمومة في أرشها. قال أبو محمد: ويحتمل أنهم تركوا
ذكرها لكون صاحبها لا يسلم غالبا والله أعلم.
قال: وفي الجائفة ثلث الدية.
ش: لما تقدم من حديث عمرو بن حزم وعمرو بن شعيب.
(6/173)
قال: وهي التي تصل إلى الجوف.
ش: وبذلك سميت، وقد خرج من كلام الخرقي إذا طعنه في خده فوصل إلى فمه، أنها
لا تكون جائفة، وهو المذهب، لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن،
ولأبي الخطاب احتمال أنه جائفة، لوصوله إلى جوفه، والله أعلم.
قال: فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر، فهي جائفتان.
3014 - ش: اقتداء بأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعن سعيد بن
المسيب أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه، فقضى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بثلثي الدية رواه سعيد بن منصور في سننه، وروى ذلك أيضا عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[حكم من وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها]
قال: ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية.
ش: معنى الفتق أن يجعل مدخل الذكر، وهو مخرج المني والحيض والولد، ومخرج
البول واحدا، وقيل: بل هو خرق
(6/174)
ما بين القبل والدبر، وبعده أبو محمد، لغلظ
الحاجز بينهما، فيبعد ذهابه بالوطء، وفي ذلك ثلث الدية.
3015 - لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية تخرق
الحاجز بين مسلك البول والذكر، فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة، ويجب ذلك
في ماله إن تعمد، بأن يعلم أنها لا تطيقه، وإن وطأها يفضيها، أما إن لم
يعلم ذلك، وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو شبه عمد، تحمله العاقلة على
الصحيح، وقيد الخرقي بالصغيرة، وفي معناها النحيفة التي لا تحتمل الوطء،
ولتخرج الكبيرة المحتملة له، فإنه إذا وطئها فأفضاها لا شيء عليه، لأنه وطء
مستحق له، فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة، أو فعل مأذون فيه ممن يصح
إذنه، فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما أفضى إلى ذلك.
وقال: زوجته لتخرج الأجنبية، فإنه إن زنا بها مطاوعة فلا شيء لها، وإن كانت
مكرهة واستمسك البول وجب ثلث الدية، وإن لم يستمسك فالدية كاملة، وإن وطئها
بشبهة فكذلك مع المهر.
قال: وفي الضلع بعير.
3016 - ش: يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الضلع بجمل،
وشرط أبو البركات لذلك أن يجبر مستقيما، ومفهوم
(6/175)
كلامه أنه لو لم يجبر مستقيما كان فيه
حكومة، ولم أر هذا الشرط لغيره، وقد حكى القاضي في روايتيه أن أحمد قال: في
الضلع بعير، وهذا لا قيد فيه.
قال: وفي الترقوة بعيران.
ش: الترقوة بفتح التاء، قال الجوهري: ولا تقل ترقوة بالضم، وهي العظم الذي
بين ثغرة النحر والعاتق، وفيها بعيران على ظاهر كلام الخرقي، فيكون في
الترقوتين أربعة أبعرة.
3017 - وهذا قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والمنصوص أن في
الواحدة بعيرا، فيكون فيهما بعيران.
3018 - وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو المذهب عند
القاضي وأصحابه، حتى إن القاضي قال: مراد الخرقي
(6/176)
بقوله: الترقوة: الترقوتان، وإنما اكتفى
بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للاستغراق، والله أعلم.
قال: وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقاله ابن عقيل في التذكرة، لما علل به
الخرقي من أنه عظمان، ففي كل عظم بعيران. والمنصوص في رواية صالح وأبي
الحارث أن في الزند الواحد بعيران، وفيهما جميعا أربعة من الإبل، وعليه
القاضي وأصحابه وحمل القاضي كلام الخرقي أيضا على الزندين.
3019 - وذلك لما روى سعيد: حدثنا هشيم، أخبرنا يحيى بن كثير، ثنا سعيد، عن
عمرو بن شعيب، أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين
ففيهما أربعة من الإبل. وظاهر كلام الخرقي أنه لا مقدر في غير هذه العظام،
وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور.
3020 - وقيل له: إذا كسرت الذراع أو الساق، فقال: يروى عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - في كل واحد فريضتان، ولا تكتبه،
(6/177)
وظاهر هذا أنه لم يأخذ به، ونص في رواية
أبي طالب أن في كسر الساق وفي كسر الفخذ بعيران، كذا في روايتي القاضي،
وظاهر كلام أبي البركات أن في رواية أبي طالب مع ذلك العضد والذراع، وأن
أحمد نص في رواية صالح أن في كل واحد من الأربعة بعيرا، قال: ورواه عن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (والرواية الثانية) اختيار القاضي وابن عقيل
وأبي الخطاب، وزاد على ذلك عظم القدم، فجعل فيه بعيرين.
(تنبيهان) : (أحدهما) حيث أوجبنا بعيرا أو بعيرين ونحو ذلك، فإن في ذلك من
البقر ونحوها بحساب ذلك، ذكره ابن عقيل.
(الثاني) الزند بفتح الزاي، قال الجوهري: موصل طرف الذراع في الكف وهما
زندان بالكوع والكرسوع، وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عند
الرسغ، والله أعلم.
[دية الشجاج التي لا توقيت فيها]
قال: قال أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والشجاج التي لا توقيت فيها
أولها (الحارصة) وهي التي تحرص الجلد يعني تشقه قليلا، وقال بعضهم: هي
الحرصة ثم (الباضعة) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم (البازلة) وهي التي
يسيل منها الدم ثم (المتلاحمة) وهي التي أخذت في اللحم، ثم (السمحاق) وهي
التي بينها وبين العظم قشرة
(6/178)
رقيقة، ثم (الموضحة) .
ش: الشجاج جمع شجة، وهي المرة إذا جرحه في رأس أو وجه، وقد تستعمل في
غيرهما، والشجاج عشر، خمس فيها مقدر، وهي الموضحة، والهاشمة، والمنقلة،
والمأمومة، والدامغة، وخمس لا مقدر فيها على المذهب المشهور، والمختار
للأصحاب من الروايتين، وهي هذه المذكورة، لعدم التقدير فيها من جهة الشرع،
وما لا مقدر فيه الواجب فيه حكومة.
3021 - ويروى عن مكحول قال: «قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الموضحة بخمس من الإبل، ولم يقض فيما دونها» .
3022 - ونقل أبو طالب عنه حكم زيد في البازلة ببعير، وفي الباضعة ببعيرين،
وفي المتلاحمة بثلاثة، وفي السمحاق بأربعة، وأذهب إليه، وهذا حكم أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما حكموا في الصيد، وهذا
اختيار أبي بكر، وحكى الشيرازي عن ابن أبي موسى أنه اختار ذلك في السمحاق،
انتهى. وعن القاضي أنه قال: متى أمكن اعتبار
(6/179)
هذه الجراحات من الموضحة، مثل أن يكون في
رأس المجني عليه موضحة إلى جانبها، قدرت هذه الجراحة منها، فإن كانت بقدر
النصف وجب نصف أرش الموضحة، وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش. وعلى هذا،
إلا أن تزيد الحكومة على ذلك، فيجب ما تخرجه الحكومة، مثاله الجراحة قدر
نصف الموضحة، وشينها ينقص قدر ثلثيها، الواجب ثلثا أرش الموضحة، وإن نقص
الشين عن النصف، فالواجب النصف، وملخصه أنه يوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة
أو قدرها من الموضحة. قال أبو محمد: وهذا لا نعلمه مذهبا لأحمد، ولا يقتضيه
مذهبه. . . انتهى. وأما تفسير هذه الشجاج وترتيبها (فأولها) الحارصة، قال
الأزهري: هي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلا ومنه: حرص القصار الثوب. أي
خرقه، بالدق، (ثم يليها) - على ما قال الخرقي، وتبعه ابن البنا - الباضعة،
وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، يعني ولا يسيل منها دم، بدليل ما ذكر بعد،
وكذلك قال الجوهري، وابن فارس: الباضعة الشجة التي تقطع الجلد، وتشق اللحم،
إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال فهي الدامية، وقال أبو محمد: الصواب
الحارصة، ثم
(6/180)
البازلة، ثم الباضعة، وقال: لعل ما في
النسخ غلط من الكتاب، قال: لأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد، ويسيل
منها دم كثير في الغالب، بخلاف البازلة، فإنها الدامعة، لقلة سيلان دمها.
3023 - قال: ولأن زيدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل في البازلة بعيرا،
وفي الباضعة بعيرين، فدل على أن الباضعة أشد، انتهى. وهذا قول الأصمعي
والأزهري، وبالجملة اتفقوا فيما علمناه على تقديم الحارصة، وتأخير السمحاق،
واختلفوا في البازلة مع الباضعة، أيهما يقدم على الأخرى - والبازلة فاعلة
من: بزلت الشجة الجلد، أي شقته فجرى الدم، يقال: بزلت الخمر. ثقبت إناءها
فاستخرجتها، فالدم محبوس في محله، كالمائع في وعائه، والشجة بزلته،
والسمحاق قشرة رقيقة فوق عظم الرأس، فإذا وصلت الشجة إليها سميت سمحاقا
باسمها، والله أعلم.
[دية ما لم يكن فيه من الجراح توقيت]
قال: وما لم يكن فيه من الجراح توقيت، ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه
حكومة.
ش: الذي فيه من الجراح توقيت كالموضحة، والمنقلة، وكذلك الأنف واللسان،
ونحو ذلك، والذي هو نظير الموقت كالهاشمة، والأليتين، ونحو ذلك، أي تقدير
من جهة
(6/181)
الشرع، وما عدا هذين، وهو ما لا موقت فيه،
ولا يمكن قياسه على الموقت، كجراح البدن سوى الجائفة، وكسر العظام سوى ما
تقدم، كخرزة الصلب والعصعص، ونحو ذلك ففيه حكومة، حذارا من أن تخلو الجراحة
من أرش.
[تعريف الحكومة]
قال: والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد
برأت، فما نقص من القيمة فله مثله من الدية، كأنه قيمته وهو عبد صحيح عشرة،
وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر ديته.
ش: قال ابن المنذر: إن هذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وإنما كان
كذلك لأن جملته مضمونة، فأجزاؤه مضمونة، كما أن المبيع إذا كان مضمونا على
البائع، كانت أجزاؤه مضمونة عليه، ولو كان مضمونا على المشتري كانت أجزاؤه
مضمونة عليه، فالأجزاء تابعة للأصل، وإذا كانت الأجزاء مضمونة، ولم يرد
فيها تقدير من جهة الشرع، فالواجب سلوك هذه الطريقة، لنصل إلى الواجب،
فيجعل الحر عبدا ليمكن تقويمه، إذ الحر ليس بمال، وغير المال لا يقوم،
فيقال: كم قيمة هذا لو كان عبدا لا جناية به؟ فيقال مثلا: مائة، ويقال: وكم
قيمته وبه الجناية؟ فيقال
(6/182)
مثلا: ثمانون. فما بينهما من القيمتين هو
الخمس، فيكون له خمس الدية، لأن ديته بمنزلة قيمته.
قال: وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص. . .
ش: يعني إنما ذكرته مثالا، وقد تزيد الحكومة على مثاله كما مثلنا، وقد
تنقص، كما لو قيل: قيمته وهو صحيح عشرة، وقيمته وبه الجناية تسعة ونصف، فما
بينهما نصف عشر قيمته، فيكون فيه نصف عشر ديته.
قال: إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه، فتكون أسهل مما وقت ديته فيه، فلا
يجاوز به أرش الموقت.
ش: يعني أن الواجب ما أخرجته الحكومة مطلقا، ويستثنى من ذلك إذا كانت
الجراحة في شيء فيه مقدر، فإنه لا يجاوز به المقدر، حذارا من أن يجب في بعض
الشيء أكثر مما يجب فيه كله، ولأن الضرر في الموضحة مثلا أكثر من الضرر في
البازلة، وشينها أعظم، فلا يناسب أن يزيد أرش البازلة على أرش الموضحة، وفي
بلوغ المقدر وجهان (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد -
يبلغ، نظرا إلى أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة، سقط الزائد على
أرش الموضحة مثلا لمخالفة تنبيه النص، ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل.
(والثاني) - وهو اختيار الشريف، وابن عقيل، وقال القاضي في جامعه: إنه
المذهب - لا يبلغه، بل ينقص عنه شيئا، حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد، حذارا من
أن يجب في البعض ما يجب في الكل، ونقضه أبو محمد بأن دية الأصابع فيها ما
(6/183)
في اليد، قال: وإن صح ما ذكر فينبغي أن
ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحدودة، ومثال المسألة لو شجه بازلة أو
سمحاقا، لم تبلغ بأرش ذلك (زيادة) على أرش الموضحة، وفي بلوغه أرش الموضحة
وجهان، وكذلك لو جرحه في بطنه جرحا لا يصل إلى الجائفة، لا يزيد أرشه على
أرش الجائفة، وفي مساواتها وجهان، وكذلك لو جرحه في أنملته جرحا لم يزد على
أرش الأنملة، وفي مساواتها على الوجهين. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
اقتصر على ذكر الرأس والوجه، ومفهوم كلامه اختصاص الامتناع بهما، فعلى هذا
يجوز أن يزيد أرش جرح الأنملة على ما فيها، وغيره من الأصحاب عدى الحكم إلى
كل ما فيه مقدر كما تقدم.
(تنبيه) : التقويم بعد البرء قياسا على أرش الجرح المقدر، فإنه لا يستقر
إلا بعد برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئا حال البرء، فعنه - وهو اختيار أبي
محمد - لا شيء فيها، إذ الحكومة لأجل جبر النقص، ولا نقص، أشبه ما لو لطم
وجهه فلم يؤثر (وعنه) وهو المنصوص، واختيار القاضي وغيره: بلى، لأن هذا جزء
من مضمون، فلم يخل عن ضمان، كما لو أتلف منه مقدرا ولم ينقصه شيئا، فعلى
هذا هل يقوم حال الجناية، أو قبيل الاندمال التام، فإن لم ينقص فحال
الجناية؟ فيه وجهان، فإن لم ينقص حال الجناية أو
(6/184)
زادته حسنا كإزالة لحية المرأة، أو سن
زائدة، فلا شيء على الأصح عند الشيخين، وقال أبو الخطاب في الهداية: يقوم
كأنه عبد كبير له لحية فذهبت، وأشانته، فما نقص لزمه من دية المرأة بقسطه،
قال: وفيه نظر. وفي السن الزائدة قال أبو محمد على هذا القول: يقوم كأن لا
سن له زائدة ولا خلقة أصلية، ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة، قال: ولو كانت
المرأة إذا قدرناها ابنة عشرين فنقصها ذهاب لحيتها يسيرا، وإذا قدرناها
ابنة أربعين تنقصها كثيرا، قدرناها ابنة عشرين كما يقوم الجرح الذي لم ينقص
بعد الاندمال أو قبله.
[دية العبد والأمة والخنثى فيما ليس فيه توقيت]
قال: وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه من الحر شيء موقت، ففيه ما
نقصته بعد التئام الجرح، وإن كان فيما جني عليه شيء موقت في الحر، فهو موقت
في العبد.
ش: لا نزاع أن ما لا مقدر فيه من الحر يضمن العبد إذا جني عليه فيه بما
نقص، لأن ضمانه ضمان الأموال، فيجب ما نقص كالبهائم، ولأنه مما يضمن
بالقيمة، وإن كثرت فيضمن بما نقص، كسائر الأموال، واختلف فيما فيه مقدر من
الحر، إذا جني على العبد فيه، (فعنه) - وهو اختيار الخلال - يضمن ما نقص
أيضا، لما تقدم.
3024 - واعتمادا من أحمد على أنه قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-
(6/185)
و (عنه) - وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر،
والقاضي وأصحابه - أن ما كان مقدرا في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته،
نظرا إلى أنه آدمي، يضمن بالقصاص والكفارة، فكان في أطرافه مقدرا كالحر،
ولأن له شبها بالآدميين وبالبهائم، كما هو مقرر في موضعه، فجعلناهم فيما لا
مقدر فيه كالبهائم، وفيما فيه مقدر كالأحرار، إعمالا لكل من الشبهين.
3025 - وقد روي هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال: ففي يده نصف قيمته، وفي موضحته نصف عشر قيمته، سواء نقصته الجناية أقل
من ذلك أو أكثر.
ش: لا تفريع على الرواية الأولى، بل الواجب النقص مطلقا، أما على مختار
الخرقي - وهو المذهب - ففي يد العبد نصف قيمته، كما في يد الحر نصف ديته
وفي موضحته نصف عشر قيمته كما في موضحة الحر نصف عشر ديته، وفي لسانه أو
ذكره، أو يديه جميع قيمته، مع بقاء الملك عليه، كما أن في الحر في كل واحد
من هذه الدية، وعلى هذا، وسواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر، إناطة
بالتقدير، وعلى هذا لو جني عليه جناية لا مقدر فيها في الحر، إلا أنها في
شيء فيه مقدر، كما لو جني عليه في رأسه أو وجهه دون الموضحة، هل يضمن بما
نقص مطلقا، وإليه
(6/186)
ميل أبي محمد اعتبارا بالأصل، أو إن نقص
أكثر من أرشها وجب نصف عشر قيمته، كالحر إذا زاد أرش شجته التي دون الموضحة
على نصف عشر ديته؟ فيه قولان، والله أعلم.
قال: وهكذا الأمة.
ش: الأمة كالعبد فيما تقدم، لأنها مال كهو.
(تنبيه) : فإن بلغت جراحتها ثلث قيمتها، فقال أبو محمد: يحتمل أن يرد
جنايتها إلى النصف، فيكون في ثلاثة أصابعها ثلاثة أعشار قيمتها، وفي الأربع
خمس قيمتها، كالحرة تساوي الرجل في جراحها إلى الثلث، فإذا زادت ردت إلى
النصف، قال: ويحتمل أن لا ترد إلى النصف؛ لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل،
إذ الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية. قلت: وهذا هو الصواب، إذ قياسها على
الحرة إنما يقتضي أن تكون فيما نقص عن الثلث تساوي الذكر من الأرقاء في
قيمته، ولا يتأتى هذا.
قال: فإن كان المقتول خنثى مشكلا ففيه نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى.
ش: كما يرث نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، ولأنه يحتمل الذكورية
والأنوثية، احتمالا واحدا، وقد يئس من انكشاف حاله، فوجب التوسط بينهما،
حذارا من ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح.
(تنبيه) : جراحه ما لم يبلغ الثلث منها الواجب فيه دية
(6/187)
ذكر، وما زاد على الثلث الواجب فيه ثلاثة
أرباعها نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى، وفي الثلث قولان، والله أعلم.
قال: وإن كان المجني عليه نصفه حرا، ونصفه عبدا فلا قود.
ش: يعني إذا كان الجاني حرا، لعدم الكفاءة المعتبرة شرعا كما تقدم، ولو كان
الجاني رقيقا وجب القود بلا ريب، لأن المجني عليه أكمل منه. وكذلك لو كان
نصفه حرا لتساويهما، ومن ثم لو كانت الحرية في القاتل أكثر فلا قود، لعدم
التساوي.
قال: وعلى الجاني إذا كان عمدا نصف دية حر، ونصف قيمته.
ش: لأنه والحال ما تقدم نصفه حر، والواجب في الحر الدية، ففي نصفه نصفها،
ونصفه رقيق، والواجب قيمة الرقيق، ففي نصفه نصفها، ويكون ذلك في مال
الجاني، لأنه عمد، والعاقلة لا تحمل عمدا.
قال: وهكذا في جراحه.
ش: يعني يجب فيه نصف ما يجب في الحر، ونصف ما يجب في العبد، ففي لسانه نصف
دية حر، ونصف قيمة عبد، وفي يده أو رجله ربع دية حر، وربع قيمة عبد. وفي
موضحته ربع عشر دية حر، وربع عشر قيمة عبد، وعلى هذا - هذا على مختار
الخرقي الذي هو المذهب، في أن العبد يضمن بالمقدر، أما على الرواية الأخرى
ففي لسانه نصف دية
(6/188)
حر، ونصف ما نقص، وفي يده أو رجله ربع دية
حر، ونصف ما نقص، وفي موضحته ربع عشر دية حر، ونصف ما نقص، والله أعلم.
قال: فإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته.
ش: أي وإن كان القتل خطأ ففي مال الجاني نصف قيمته في ماله، لأنها وجبت بدل
رقيق، والعاقلة لا تحمل رقيقا.
قال: وعلى عاقلته نصف الدية.
ش: لأنها بدل حر، والعاقلة تحمل الحر في الخطأ.
(تنبيه) : والحكم في الجراح أن ما كان عمدا كان في مال الجاني، وكذلك إن
كان خطأ ولم يبلغ الثلث، وإن بلغه فعلى العاقلة.
(6/189)
|