شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب النفقات]
[نفقة الزوجة]
قال: وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غنى لها عنه وكسوتها.
ش: نفقة الزوجة واجبة في الجملة
بالإجماع، وسنده قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا
عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]
، وقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] الآية.
2864 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديثه الطويل، «أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «اتقوا الله في
النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة
الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم وغيره.
2865 - وفي حديث هند الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، إذا تقرر هذا فقول
الخرقي: إن
(6/3)
الواجب على الزوج من النفقة ما لا غنى لها
عنه وكسوتها، أي شيئا لا يستغنى عنه، ومعناه ما لا بد لها منه، فظاهر هذا
أن الواجب عليه هو أقل الكفاية، فكأنه اعتبر حال الزوج، وقد صرح بذلك أبو
بكر في التنبيه فقال: إنها على قدر يسار الزوج وإعساره، على اجتهاد الحاكم،
وأومأ إليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد، فقال: أما نفقة خادم واحد فلا بد
منه، وهو على قدر اليسار؛ وقال في رواية أبي طالب: إذا وجد ما يطعمها
رغيفين ثلاثة، يعني لم تملك الفسخ، وذلك لظاهر قول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ
ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] إلى قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}
[الطلاق: 7] .
2866 - «وعن معاوية القشيري قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: «أطعموهن مما تأكلون،
واكسوهن مما تلبسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن» رواه أبو داود. وأومأ
(6/4)
في رواية أبي صالح أن الاعتبار بحالها،
فقال: إذا غاب عن زوجته يضرب لها في ماله بقدر نفقة مثلها؛ وذلك لحديث هند:
«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، وهو قضية عين، وقد جمع القاضي في تعليقه
بين كلامي أحمد، وجعل الاعتبار بحال الزوجين، فيفرض للموسرة تحت الموسر
نفقة الموسرين، وللفقيرة تحت الفقير نفقة الفقراء، وللمتوسطة تحت المتوسط
أو إذا كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا نفقة المتوسطين، وتبعه فيما علمت من
بعده على ذلك، جمعا بين الدليلين. قال: فإن منعها أو بعضه وقدرت له على مال
أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف، كما «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لهند، حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة
ما يكفيني وولدي، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم - وهو ما إذا منعها الواجب
عليه أو بعضه - ودليله، وهو حديث هند الذي في الصحيح عن عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -، «أن هندا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول
الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني
(6/5)
ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا
يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، وهو صريح في أن لها أن تأخذ
بغير إذنه، والحكم للواحد حكم لغيره، إما بطريق عرف الشرع كما نقوله، أو
بالقياس كما يقوله الأكثرون، وكأن المعنى في ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك،
إذ النفقة تجب كل يوم، فالمرافعة إلى الحاكم تشق أو تتعذر، فجوز الشرع أخذ
الكفاية بالمعروف، دفعا للحرج والمشقة.
قال: فإن منعها أو بعضه ولم تجد ما تأخذ منه، واختارت فراقه فرق الحاكم
بينهما.
ش: ظاهر هذا الكلام أنه منعها مع قدرته على الإنفاق، ولم تجد له مالا تأخذ
منه، ومختار أبي الخطاب في هدايته، وأبي محمد أن لها الفسخ والحال هذه، كما
اقتضاه كلام المصنف، لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر، فكان لها الفسخ كحال
الإعسار، بل أولى، إذ لا عذر هنا، بخلاف ثم.
2867 - وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في
رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة
ما مضى. واختار القاضي أنها
(6/6)
لا تملك الفسخ والحال هذه، لأن الفسخ ثم
لعيب الإعسار ولم يوجد، ولأن الموسر الممتنع في مظنة إمكان الأخذ من ماله،
بخلاف المعسر، ويؤخذ من عموم كلام الخرقي أو من تنبيهه أنها إذا لم يجد ما
ينفق عليها أصلا أن لها الفسخ، وهو المنصوص والمشهور من الروايتين،
والمختار للأصحاب، لما تقدم عن عمر، ولقول الله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وليس الإمساك مع
ترك الإنفاق إمساكا بمعروف، فيتعين التسريح.
2868 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا
خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال:
«امرأتك ممن تعول، تقول: أطعمني وإلا فارقني. جاريتك تقول: أطعمني
واستعملني. ولدك يقول: إلى من تتركني» رواه أحمد والدارقطني. قال أبو
البركات: بإسناد صحيح.
(6/7)
2869 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أيضا، عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرجل
لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: «يفرق بينهما» رواه الدارقطني.
(6/8)
2870 - وروى سعيد عن سفيان، عن أبي الزناد،
قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على زوجته أيفرق بينهما؟
قال: نعم. قلت: سنة؟ قال: سنة. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ونقل عنه) ابن منصور ما يدل على أنها لا
تملك الفسخ بالإعسار، ما لم يوجد منه غرور، فقال: إذا تزوج امرأة وهو مفلس،
ولم تعلم المرأة لا يفرق بينهما، إلا أن يكون قال لها: عندي من العروض
والأموال؛ وغرها من نفسها، إلا أن القاضي حمل هذا على الإفلاس بالصداق،
وبالجملة قد قيل في وجه ذلك: إنه حق لها عليه، فلم يفسخ النكاح لعجزه عنه
كالدين، وعلى هذه الرواية ترفع يده عنها لتكتسب ما تقتات به.
[نفقة الوالدين والأولاد]
قال: ويجبر الرجل على نفقة والديه، وولده الذكور والإناث، إذا كانوا فقراء،
وكان له ما ينفق عليهم.
ش: أما كون الرجل يجبر على نفقة والديه، وولده الذكور والإناث، فليأت
بالواجب، وبيان الوجوب أما في حق الوالدين فلقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا
اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
[النساء: 36]
(6/9)
ومن الإحسان لهما الإنفاق عليهما عند
حاجتهما إلى ذلك.
2871 - وعن كليب بن منفعة «عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أنه أتى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، من أبر؟
قال: «أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة»
رواه أبو داود، وأما في حق الأولاد فلقول الله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] «وحديث
هند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» مع أن هذا إجماع في المسألتين في
الجملة، حكاه ابن المنذر فقال: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين
الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد، وأجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال، الذين لا مال
لهم.
ويدخل في كلام الخرقي في الوالدين الأجداد والجدات وإن
(6/10)
علوا، وفي الولد ولد الولد وإن سفل، وهو
كذلك، بدليل قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] دخل فيه ولد
البنين، وقال سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] يدخل فيه الأجداد،
وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] واشترط الخرقي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجوب النفقة على من تقدم شرطين (أحدهما) أن يكون
المنفق عليهم فقراء أي لا مال لهم، ولا كسب يقوم بكفايتهم، إذ النفقة تجب
على سبيل المواساة، والغني مستغن عن المواساة، (الثاني) أن يكون للمنفق ما
ينفق عليهم، إما من مال أو صناعة ونحو ذلك، فاضلا عن نفقة نفسه وزوجته.
2872 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء
فلأهلك، وإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا
وهكذا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
2873 - وعن «طارق المحاربي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمت المدينة
وإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم على المنبر
يخطب، وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك
وأخاك،
(6/11)
ثم أدناك أدناك» رواه النسائي.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك، إلا أنه يذكر بعد أن السيد تلزمه
نفقة رقيقه، ولا يلزم ابنه نفقته، وإن كان حرا، وهو كذلك بلا ريب، فإذًا
الشروط ثلاثة (ثالثها) أن لا يكون أحدهما رقيقا، ولا بد (من شرط رابع) وهو
أن يتحد دينهما، فإن اختلف فلا نفقة لأحدهما على صاحبه، لأن النفقة مواساة
على سبيل البر والصلة، ولا صلة مع اختلاف الدين، ولأنهما غير متوارثين، فلم
تجب لأحدهما نفقة على الآخر، كما لو كان أحدهما رقيقا، ولا نزاع في اشتراط
هذا الشرط في غير عمودي النسب، وفي عمودي النسب روايتان، نص عليهما في الأب
الكافر، هل تجب عليه نفقة ولده المسلم، وخرجهما القاضي في العكس، وأبو محمد
ينصر عدم الوجوب مطلقا، عكس ظاهر كلام الخرقي، فإن ظاهره الوجوب في عمودي
النسب، لأنه لم يشترط ذلك، وعدم الوجود في غيرهم، كما هو متفق عليه، لقوله
بعد:
(6/12)
أجبر وارثه. فاشترط الإرث، فدل ذلك على
اشتراط الاتفاق في الدين، واختلف في (شرط خامس) وهو أن المنفق عليه هل من
شرطه أن يكون زمنا ونحو ذلك، أو لا يشترط ذلك؟ لا نزاع فيما علمت أن
الوالدين لا يشترط فيهما ذلك، وهو مقتضى كلام الخرقي، واختلف فيمن عداهما،
وعن أحمد ما يدل على روايتين، ومختار القاضي وأبي محمد عدم الاشتراط مطلقا،
كما هو ظاهر كلام الخرقي، إناطة بالحاجة، وتمسكا بقول «النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك» وهو واقعة عين.
[نفقة الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان
فقيرا]
قال: وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب، أجبر وارثه الذكور والإناث على نفقته
على قدر ميراثهم منه.
ش: كذلك الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيرا، فإن وارثه وإن كان
أنثى يجبر على نفقته، لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ} [البقرة: 233] أي مثل ما وجب على المولود له، ولما تقدم من حديث
جابر وطارق، وكليب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا هو المشهور من
الروايتين، (وعن أحمد) رواية أخرى لا تجب النفقة إلا على العصبات، فعلى هذا
لا تجب على العمة والخالة ونحوهما، إذ النفقة معونة، فاختصت بالعصبات
كالعقل.
2874 - وقال ابن المنذر: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حبس
عصبة
(6/13)
ينفقون على صبي الرجال دون النساء؛ وعلى
كلا الروايتين هل يشترط أن يرثهم بالفرض أو التعصيب في الحال، أو لا يشترط
ذلك، بل الشرط الإرث في الجملة؟ فيه روايتان، المختار منهما عند القاضي
وأبي الخطاب، وأبي محمد وغيرهم الأولى.
ويستثنى مما تقدم ذوو الأرحام من غير عمودي النسب، فإن النفقة لا تجب لهم،
على المنصوص والمجزوم به عند كثيرين، حتى قال القاضي: رواية واحدة؛ إذ
قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث، فهم كسائر المسلمين،
وخرج أبو الخطاب وجوبها على توريثهم، وهو قوي.
واشترط الخرقي لوجوب النفقة على الوارث أن لا يكون للمنفق عليه أب، فلو كان
له أب اختص بنفقته، لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال:
(6/14)
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] «وقال – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فجعل النفقة على أبيهم
دونها، وحيث أوجبنا النفقة على الوارث فإنها على قدر ميراثه من المنفق
عليه، لأنه لو ورث الجميع لوجب عليه الجميع، فإذا ورث البعض وجب عليه
بقدره، إذ السبب هو الإرث.
وفرع الخرقي على ذلك فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان للصبي أم وجد، فإن
على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثين، وإن كانت جدة وأخا فعلى الجدة
السدس، والباقي على الأخ، وعلى هذا المعنى حساب النفقات.
ش: لا ريب أن الأم والجد يرثان المال أثلاثا، فتكون النفقة عليهما أثلاثا،
ولا ريب أن الجدة ترث السدس، فيكون عليها من النفقة بقدر ذلك، والأخ يرث
الباقي، فيكون عليه باقي النفقة، وعلى هذا أبدا، فلو كان له أم أم وأم أب،
فالنفقة عليهما نصفين، لتساويهما في الإرث، وظاهر كلام الخرقي أنها تجب
بالقسط، وإن كان بعضهم موسرا والآخر معسرا، وهذا إحدى الروايتين (والرواية
الأخرى) : تجب على الموسر والحال هذه كل النفقة، ففي الجدة والأخ إذا كان
الأخ موسرا، والجدة معسرة، هل على الأخ خمسة أسداس النفقة حصة إرثه، أو
كلها، لأن من معه كالمعدوم؟ على الروايتين.
[نفقة الرقيق]
[نفقة المعتق إذا كان فقيرا]
قال: وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا، لأنه وارثه.
ش: هذا مبني على ما تقدم من أن الوارث تجب عليه نفقة موروثه، وحديث كليب -
وقد تقدم - صريح في ذلك،
(6/15)
ويشترط في وجوب الإنفاق الشروط المذكورة،
إذ هذا فرع مما تقدم.
قال: وإذا تزوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكا نفقتها.
ش: يلزم زوج الأمة نفقتها إن كان حرا، لأنها زوجته، فيدخل في عموم ما تقدم،
وكذلك إن كان عبدا، نظرا للعموم أيضا، ولأنه عوض واجب في النكاح، فوجب على
العبد كالمهر، ثم هل تكون في ذمة السيد، لإذنه في النكاح المفضي إلى
إيجابها، أو في رقبة العبد، إذ الوطء في النكاح بمنزلة الجناية، وجناية
العبد في رقبته، فكذلك ما يتعلق بالوطء، أو في كسب العبد؟ على ثلاث روايات،
المشهور منهن الأولى.
قال: وإن كانت تأوي بالليل عند الزوج، وبالنهار عند المولى، أنفق كل واحد
منهما مدة مقامها عنده.
ش: لأن النفقة تابعة للتمكين، والتمكين وجد للزوج في الليل، فيختص بنفقة
الليل، وتجب نفقة النهار على المولى بأصل الملك، ثم هل تجب النفقة عليهما
نصفين، قطعا للتنازع، وهو الذي جزم به أبو محمد، أو تجب نفقة الليل وتوابعه
من الغطاء والوطاء، ودهن المصباح، ونحوه على الزوج، وما يتعلق بالنهار على
السيد، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا؟ (فيه وجهان) وقد علم من هذه
المسألة أن
(6/16)
المسألة السابقة فيما إذا سلمت الأمة ليلا
ونهارا.
قال: فإن كان لها ولد لم يلزم الزوج نفقة ولده منها، حرا كان الزوج أو
عبدا، إذ نفقتهم على سيدهم.
ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وذلك لأن ولد الأمة من نمائها، فيكون لسيدها
بلا ريب، ونفقة المملوك على سيده، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن أحمد
رواية أخرى أن ولد العربي يكون حرا، وعلى أبيه فداؤه، فعلى هذا تكون نفقته
عليه.
[نفقة أولاد العبد والأمة]
قال: وليس على العبد نفقة ولده، حرة كانت الزوجة أو أمة.
ش: لأن العبد لا مال له، فتجب عليه النفقة، ولو قيل يملك فملكه ناقص، لا
يحتمل المواساة.
[نفقة ولد المكاتبة]
قال: وعلى المكاتبة نفقة ولدها، دون أبيه المكاتب.
ش: ولد المكاتبة يتبعها دون أبيه، وإن كان مكاتبا، بناء على القاعدة، من أن
الولد يتبع أمه في الحرية والرق، وإذا تبعها وقف معها، فإن عتقت بالأداء
عتق، وإن رقت رق، وإذًا نفقته عليها، لأن له حكم نفسها، ولا ريب أن نفقة
نفسها عليها، فكذلك ولدها.
قال: وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته.
ش: لأن ولده من أمته يتبعه، فيصير حكمه حكمه، فتجب عليه نفقته لما تقدم،
وتقييده بأمته؛ لأن ولده من غير أمته إما
(6/17)
أن يكون من حرة فيكون حرا، والمكاتب لا تجب
عليه نفقة قريبه الحر، لأنه وإن ملك لكنه محجور عليه في ذلك، وإما أن يكون
من مكاتبة فيتبعها، ويعطى حكمها، كما تقدم، وإما أن يكون من أمة لسيده أو
لأجنبي، فالأجنبي يتبعها في رقها وتجب نفقته على سيده، ولسيده كذلك، اللهم
إلا أن يشترط أن ولده يتبعه، فإن نفقته تجب عليه، إناطة بالتبعية، هذا هو
التحقيق تبعا لأبي البركات، ووقع لأبي محمد أن للمكاتب أن ينفق على ولده من
أمة لسيده، معللا بأنه مملوك لسيده، فينفق عليه من المال الذي تعلق به حق
سيده، وله احتمالان فيما إذا كان الولد من مكاتبة لسيده.
[باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج]
لما تقدم له أن النفقة تجب للزوجة، ذكر الحال التي تجب فيها النفقة، فقال -
رَحِمَهُ اللَّهُ -:
وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ، فلم تمنعه نفسها، ولا منعه أولياؤها لزمته
النفقة.
ش: فظاهر هذا أن النفقة تجب بالعقد ما لم تمنعه نفسها، ولا منعه أولياؤها،
وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن العقد سبب الوجوب، فترتب الحكم عليه
(والرواية الثانية) لا تجب النفقة إلا بالتسليم، أو ببذله حيث لزمه القبول،
وهو المشهور، لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، وذلك بالتمكين منه، ومع
عدم التسليم أو بذله لم يوجد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ودخلت عليه بعد مدة،
(6/18)
ولم ينقل أنه أنفق إلا بعد دخوله، ولا أنه
كان يرسل نفقة ما مضى، وفي الاستدلال بهذا نظر، فإن من شرط وجوب النفقة على
كل حال كون مثلها يوطأ، كما ذكره الخرقي، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- حين تزوجها – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت بنت ست سنين
على الصحيح، ومثلها لا يوطأ غالبا، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق من
يوطأ مثلها، ولم يقيده بسن، وكذا جماعة كثيرة من أصحاب القاضي، منهم أبو
الخطاب في الهداية، وابن عقيل، والشيرازي، وتبعهم على ذلك أبو محمد مصرحا
به، وأناط ذلك القاضي بابنة تسع سنين، وتبعه على ذلك أبو البركات، وهو
مقتضى نص أحمد، قال في رواية صالح وعبد الله - وسئل: متى يؤخذ الرجل بنفقة
الصغيرة؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ، تسع سنين، ولم يكن الحبس من قبلهم،
ففسر من مثلها يوطأ بتسع سنين، وقد يحمل إطلاق من أطلق من الأصحاب على ذلك،
فإذًا أبو محمد منفرد عنهم.
وقول الخرقي: مثلها يوطأ، يريد به - والله أعلم - في السن، فلو كان بها رتق
أو قرن، أو مرض ونحو ذلك، ومثلها في السن يوطأ، فلا يخلو إما أن يكون هذا
المانع يمنع الاستمتاع بالكلية، أو لا، فإن لم يمنعه بالكلية وجبت النفقة،
للتمكن من الاستمتاع الواجب في الجملة، وإن منع الاستمتاع بالكلية كمرض
كذلك أو إحرام ونحو ذلك، فإن لم يرج زواله وجبت النفقة، إذ لا حال لها
ينتظر، وإن رجي زواله كالإحرام ونحوه انتظر زوال ذلك، ولم تجب النفقة لأنها
والحال هذه كالصغيرة.
قال: وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت، وزوجها صغير،
(6/19)
أجبر وليه على نفقتها من مال الصبي.
ش: والحال التي وصفها أن يكون مثلها يوطأ، ولم تمنع نفسها، ولا منعها
أولياؤها، وإذا كان زوجها والحال هذه صغيرا وجبت عليه نفقتها، لأن المنع
جاء من قبل الزوج، لا من قبلها، أشبه ما لو كان غائبا، وعلى المشهور لا بد
أن تسلم نفسها، أو تبذل له ذلك، إذا تقرر هذا فالمخاطب بالنفقة هو الولي،
كما يخاطب بأداء بقية الواجبات عنه، والأداء من مال الصبي كما في بقية
الواجبات.
قال: فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما.
ش: قد تقدم الكلام على هذا، وأنه يؤخذ من كلام الخرقي تنبيها، ويؤخذ من
كلامه هنا تصريحا، ونزيد هنا بأن المفرق في الفسخ للإعسار بالنفقة هو
الحاكم، لأنه أمر مختلف فيه، والأمور المختلف فيها تقف على الحاكم.
قال: وإن طالب الزوج بالدخول، وقالت: لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي، كان ذلك
لها، ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها.
ش: إذا طالب الزوج بالدخول، وامتنعت المرأة حتى تقبض صداقها، فلها ذلك، لأن
عليها في التسليم قبل قبض صداقها ضررا، والضرر منفي شرعا، وبيان الضرر أنها
إذا سلمت نفسها قد يستوفي معظم المنفعة المعقود عليها وهو الوطء، فإذا لم
يسلم إليها عوض ذلك - وهو الصداق - لا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها،
فيلحقها الضرر، وفارق المبيع
(6/20)
إذا تسلمه المشتري، ثم أعسر بالثمن، فإنه
يمكنه الرجوع فيه، وإذا كان لها الامتناع لأجل قبض الصداق، مع بذلها
للتسليم، فلها النفقة، لأن امتناعها في الحقيقة إنما جاء من جهة الزوج،
وكلام الخرقي يشمل الصداق الحال والمؤجل، وهذا الحكم إنما هو في الحال، أما
المؤجل فليس لها الامتناع، إذ لا حق لها تطالب به، إذ حقها قد رضيت
بتأخيره، نعم لو حل المؤجل قبل التسليم، فهل لها الامتناع نظرا إلى الحال
الراهنة، أو ليس لها الامتناع إلى ما دخلت عليه ابتداء؟ فيه وجهان.
[نفقة المطلقة المبتوتة]
قال: وإذا طلق زوجته طلاقا لا يملك رجعتها، فلا سكنى لها ولا نفقة، إلا أن
تكون حاملا.
ش: إذا بانت المرأة من زوجها بطلاق أو فسخ أو غير ذلك، فلا يخلو إما أن
تكون حاملا أو حائلا، فإن كانت حاملا فلها النفقة والسكنى إجماعا، وسنده
قوله سبحانه؛ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأن الحمل ولده، ولا يمكنه
الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها، فوجب نظرا إلى أن ما يتوقف عليه الواجب
واجب، وإن كانت حائلا فلا نفقة لها على المشهور المعروف.
2875 - لما «روت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن زوجها طلقها
ألبتة وهو غائب عنها، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك
علينا من شيء. فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فذكرت ذلك، فقال: «ليس لك عليه نفقة» وفي لفظ: «ولا سكنى»
(6/21)
فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك» ، متفق
عليه.
2876 - وعن الشعبي عن فاطمة أيضا «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في المطلقة ثلاثا قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة» رواه أحمد
ومسلم، وفي رواية عنها قالت: «طلقني زوجي ثلاثا، فلم يجعل لي رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكنى ولا نفقة» ، رواه الجماعة إلا
البخاري، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] مفهومه
أنهن إذا لم يكن أولات حمل لا نفقة لهن.
وقد اعترض على خبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأن من شرط قبول خبر
الواحد أن لا ينكره السلف، وهذا الخبر قد أنكر.
2877 - فعن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود بن
يزيد كفا من حصباء فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال
(6/22)
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا نترك
كتاب الله وسنة نبينا، لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت» ، رواه مسلم
وغيره.
2878 - وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لقد عابت ذلك عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - أشد العيب، يعني حديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -، فقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك
أرخص لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود
وابن ماجه، وأخرجه البخاري تعليقا.
2879 - وعن سليمان بن يسار في خروج فاطمة قال: إنما كان ذلك من سوء الخلق،
رواه أبو داود مرسلا.
2880 - وعن ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب،
فقلت: فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت
الناس، إنما كانت لسنة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم (وقد أجيب) بأن هذا ليس
بشرط عندنا، إنما الشرط صحة الخبر، ولا ريب في
(6/23)
صحة خبرها، وقد قال أحمد في رواية إسماعيل
بن سعيد، -وسئل عن الأمور المختلفة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقد رد أحد الأمرين بعض الخلفاء، مثل حديث فاطمة بنت قيس: هل
لنا العمل بما يرد الخليفة فقال -: كان ذلك منه على احتياط، وقد كان عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقبل من غير واحد قوله وحده، ولا يكون ذلك دفعا
للآخر، ثم إنكار عمر قد طعن في صحته الإمام أحمد، قال أبو داود: وسمعت أحمد
وذكر له حديث عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا، يصح هذا عن عمر؟ قال: لا.
وقال الفضل بن زياد: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن المطلقة ثلاثا هل لها
سكنى أو نفقة، وكيف حديث فاطمة؟ فأتاني الجواب: أما الذي نذهب إليه فعلى
حديث فاطمة، وأما ما يروى عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا
لقول امرأة. فإنا نرى أن ذلك وهم ممن روى عن عمر، لأن الكتاب يطلق لعدتها،
قال: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وقال:
{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإن قيل: حديث عمر قد رواه مسلم وأبو داود،
والترمذي وغيرهم، قيل: لقد أنكره شيخهم، ومن هو أعلم بالآثار منهم، ثم يدل
على ضعفه اختلاف ألفاظه، ففي السنن ما تقدم، وقال أحمد وقد ذكر له هذا
فقال: أما هذا فلا، ولكن قال: لا نقبل في ديننا قول امرأة. وقال الدارقطني:
قوله: وسنة نبينا، غير محفوظ، لم
(6/24)
يذكرها جماعة من الثقات، ثم لو صح ذلك لم
يكن فيه حجة، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثم إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استند في إنكاره إلى كتاب
الله وسنة الرسول، ولا يعرف في سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ما يخالف خبر فاطمة، وكذلك ليس في الكتاب ما يخالفه كما تقدم
عن أحمد، فإن الآية الكريمة إنما تدل على الطلاق الرجعي، والإنفاق على
الحامل نفقة والد على ولده، لا نفقة زوج على زوجته، وقد قال محمد بن العباس
النسائي: سألت أبا عبد الله: ما تقول في حديث عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة
نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها؟ فقال: لا نعرف في كتاب الله ذكرا،
ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقال إسماعيل
بن إسحاق: نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في
كتاب الله تعالى، والذي في الكتاب أن لها النفقة إن كانت حاملا، لقوله
سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] أما غير ذات الحمل فلا يدل الكتاب إلا
على أنهن لا نفقة لهن، لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق.
(6/25)
2881 - ورضي الله عن فاطمة، فعن «عبيد الله
- وهو ابن عبد الله بن عتبة - قال: أرسل مروان إلى فاطمة فسألها، فأخبرته
أنها كانت عند أبي حفص، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أمر علي بن أبي طالب على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة
كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها،
فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملا، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» فاستأذنته في
الانتقال، فأذن لها، فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ فقال: «عند ابن أم
مكتوم» وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى مضت
عدتها، فأنكحها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة، فرجع
قبيصة إلى مروان فأخبره بذلك، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من
امرأة، فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها ذلك:
بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
[الطلاق: 1] . . . {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْرًا} [الطلاق: 1] قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث» . رواه مسلم وأبو
داود والنسائي، وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه مرسل، فقد بينت - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - أن الكتاب إنما دل على
(6/26)
ما قالت، وأما قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -: إن نقلتها إنما كان لكونها كانت في مكان وحش، فليس في حديثها ما
يدل على ذلك، ولو كان فيه لما جاز لها تركه، بل قد تقدم عنها في مسلم «أنها
قالت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المطلقة ثلاثا،
قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة» وهذا يشملها وغيرها، وقد تقدم أيضا في السنن
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نفقة لك إلا أن
تكون حاملا» فعلل استحقاقها النفقة بالحمل، ولو كان استحقاقها النفقة
بالطلاق لكان ذكر الحمل عديم التأثير، وما ذكر عن سعيد بن المسيب، وسليمان
بن يسار فالجواب عنه كذلك، ثم قد خالف عمر وعائشة ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2882 - قال أحمد: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا
نفقة لها ولا سكنى. إذا طلقت ثلاثا.
(6/27)
2883 - ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وإذا وقع التنازع بين الصحابة وجب الرجوع إلى الله وإلى الرسول.
انتهى. وفي السكنى لها روايتان (إحداهما) لا سكنى لها، وهي اختيار الخرقي،
والقاضي وغيرهما، اعتمادا على حديث فاطمة المتقدم، (والثانية) لها السكنى،
اعتمادا على قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآية، وقد
يجاب عنه بأنه في الرجعية كما تقدم، هذا كله إذا كان الطلاق بائنا كما
تقدم، أما إن كان رجعيا فلها السكنى والنفقة بلا نزاع، للآية الكريمة.
2884 - وفي «خبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «إنما النفقة والسكنى للمرأة على
زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا
سكنى» رواه أحمد. ولأنها في حكم الزوجات في الإرث والطلاق، وغير ذلك، فكذلك
في النفقة، والله أعلم.
(6/28)
[نفقة المختلعة]
قال: وإذا خالعت المرأة زوجها، وأبرأته من حملها، لم يكن لها نفقة، ولا
لولده حتى تفطمه.
ش: إذا خالعت الحامل زوجها، ولم تبرئه من حملها، فلها النفقة والسكنى كما
تقدم، وإن أبرأته من حملها - بأن جعلت ذلك عوضا في الخلع - فإنه يصح، بناء
على ما تقدم من صحة الخلع بالمجهول، ثم إن عينت مدة الحمل والكفالة إلى حين
الفطام صح، وكذلك إن أطلقت الكفالة، وينصرف عند التنازع إلى حولين، وإن
أطلقت مدة الحمل فقط انصرف إلى زمن الحمل قبل وضعه، قاله أبو محمد.
وظاهر كلام الخرقي أنه ينصرف إلى زمن الرضاع أيضا، وقال القاضي: إنما صح
المخالعة على نفقة الولد، وهي للولد دونها، لأنها في حكم المالكة لها،
لأنها المستحقة لها، وبعد الولادة تأخذ أجر رضاعها، قال: فأما النفقة
الزائدة على هذا - من كسوة الطفل ودهنه، ونحو ذلك - فلا يصح أن يعاوض به،
لأنه ليس لها، ولا هو في حكم ما هو لها، فكأنه يخصص كلام الخرقي، والله
أعلم.
[نفقة المرأة الناشز]
قال: والناشز لا نفقة لها، فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها.
ش: الناشر لا نفقة لها، لأن النفقة وجبت في مقابلة تمكينها، ومع النشوز لا
تمكين، وإن كان لها منه ولد أعطاها
(6/29)
نفقته، لأنها واجبة له فلا يسقط حقه
بمعصيتها كالكبير، وهذا يلتفت إلى قاعدة، وهو أن النفقة هل تجب للحامل
لحملها، أو لها من أجله؟ فيه روايتان، أشهرهما أنها للحمل، وهي اختيار
الخرقي، وأبي بكر، والقاضي في تعليقه، وغيرهم (والثانية) أنها لها من أجله،
واختارها ابن عقيل في التذكرة، وللخلاف فوائد (إحداها) هذه المسألة وهي
الناشز الحامل، على الرواية الأولى لها نفقة الحمل لما تقدم، وعلى الثانية
لا شيء لها لنشوزها (الثانية) إذا كانت المطلقة أمة، فعلى الأولى النفقة
على السيد، لأن الحمل ملكه، وعلى الثانية على الزوج، لأن نفقتها عليه
(الثالثة) إذا كان الزوج عبدا، فعلى الأولى لا شيء عليه، لأنه لا يلزمه
نفقة ولده، وعلى الثانية عليه النفقة لما تقدم (الرابعة) إذا كانت حاملا من
نكاح فاسد، أو وطء شبهة، أو ملك يمين، فعلى الأولى تجب لها النفقة، نظرا
للولد، وعلى الثانية لا تجب إذ لا نكاح، (الخامسة) إذا كان الزوج غائبا أو
معسرا، فعلى الأولى لا شيء لها، إذ نفقة القريب تسقط بمضي الزمان،
وبالإعسار، وعلى الثانية تثبت في ذمة الغائب وتلزم المعسر، والله أعلم.
(6/30)
[باب من أحق
بكفالة الطفل]
ش: كفالة الطفل واجبة، لأن الصبي يهلك بتركها، فوجبت كالإنفاق عليه، ويتعلق
بها حق لقرابته لما سيأتي، والله أعلم.
قال: والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت.
ش: إذا افترق الزوجان وبينهما ولد، فالأم أحق به في الجملة، إن كان طفلا،
بلا خلاف نعلمه.
2885 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن امرأة قالت: يا رسول
الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن
أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» رواه أحمد وأبو داود وهذا
لفظه.
2886 - ويروى أن أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - بعاصم لأمه أم عاصم، وقال: ريحها وشمها ولطفها خير له منك.
رواه سعيد في سننه، ولأنها أقرب الناس
(6/31)
إليه مع أبيه، وتتميز عن الأب بأنها تلي
بنفسها، والأب لا يلي بنفسه، وحكم المعتوه حكم الطفل، لاستوائهما معنى،
فاستويا حكما، ويشترط فيمن تثبت له الحضانة الحرية والبلوغ، والعقل،
والعدالة الظاهرة، والله أعلم.
[تخيير الغلام والأمة بين أبويه بعد البلوغ]
قال: وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما.
ش: أي إذا بلغ الغلام سبع سنين وهو عاقل، لما تقدم له من أن حضانة المعتوه
لأمه، والمذهب المشهور أن الغلام والحال هذه يخير بين أبويه.
2887 - لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير غلاما بين أبيه وأمه» ، رواه أحمد وابن
ماجه والترمذي وصححه، وفي رواية «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إن
زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال لها
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استهما عليه» فقال
زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به؛
مختصر» رواه أبو داود.
(6/32)
2888 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد.
2889 - وعن عمارة الجرمي قال: خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين عمي
وأمي، وكنت ابن سبع سنين أو ثمان، وروي نحو ذلك عن أبي هريرة، ولا نعرف لهم
مخالفا، ولأن الحضانة تثبت
(6/33)
لحظ الولد، فيقدم فيها من هو أشفق به، ولا
ريب أن ميل الولد إلى أحد الأبوين دليل على أنه أشفق به، فرجح بذلك، وإنما
قيدناه بالسبع لأنه إذًا بلغ حدا يعرب عن نفسه، ويميز بين الإكرام وضده،
ولأنه أول حال أمر الشرع بمخاطبته فيها (وعن أحمد) رواية أخرى أن الأم أحق
به، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب، ولا ريب أن حديث أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أخص منه فيقدم، (وعنه) رواية ثالثة الأب أحق به؛ لأنه
إذًا يحتاج إلى التأديب والتعليم، والأب أخص بذلك، ولا ريب أنها أضعفهن،
لمخالفتها الحديثين معا، وقد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الطفل
وحكم الغلام، ولم يتعرض لحكم البالغ، والحكم أنه يكون حيث شاء إن كان
رشيدا.
(تنبيه) : «يحاقني» أي ينازعني في حقي منه، والله أعلم.
قال: وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها.
ش: هذا هو المذهب المعروف، نظرا إلى أن المقصود بالحضانة حظ الولد، والحظ
للجارية بعد السبع كونها عند أبيها، لقيامه بحفظها، ولأنه وليها، وأعلم
بكفئها، ومنه تخطب وتزوج.
وفي المذهب رواية أخرى ذكرها القاضي في تعليقه أن الأم أحق بها حتى تبلغ،
ولفظها من رواية مهنا: الأم أحق بالجارية
(6/34)
حتى تستغني، قيل له: وما غنى الجارية؟ قال:
حتى تتزوج. ويستدل لذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أنت أحق به ما لم تنكحي» وبقصة ابنة حمزة.
2890 - ويرشحه أن في الحديث «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين
أحبته يوم القيامة» والله أعلم.
[الأحق بكفالة الطلفل بعد الأم]
قال: وإذا لم تكن أم أو تزوجت الأم، فأم الأب أحق من الخالة.
ش: إذا لم تكن أم أو تزوجت الأم، أو قام بها مانع من فسق ونحوه، فإن أم
الأب مقدمة على الخالة، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب،
لأنها جدة وارثة، فقدمت كأم الأم، ولأن لها ولادة ووراثة، فأشبهت أم الأم،
وعن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة يقدمان على أم الأب استدلالا
بحديث ابنة حمزة.
2891 - فعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ابنة حمزة اختصم
فيها
(6/35)
علي وجعفر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
-، فقال علي: أنا أحق بها، هي ابنة عمي، وقال جعفر: هي بنت عمي، وخالتها
تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» متفق عليه.
2892 - ورواه أحمد أيضا من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفيه:
«والجارية عند خالتها، فإن الخالة والدة» وكذلك رواه أبو داود من حديث علي
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: «إنما الخالة الأم» فجعل الخالة بمنزلة
الأم، ولا ريب أن الأم مقدمة على أم الأب، فكذلك من بمنزلتها، وهذا ظاهر في
الاستدلال، فعلى هذه الرواية قال أبو الخطاب ومن تبعه: يكون هؤلاء أحق من
الأخت من الأم، ومن جميع العصبات، وقال أبو البركات: يحتمل على هذه الرواية
تقديم نساء الحضانة على كل رجل، ويحتمل أن يقدمن إلا على من أدلين به،
ويحتمل تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته، وسائر من في جهته، وأن كل امرأة
في درجة رجل تقدم هي ومن أدلى بها عليه. انتهى.
(6/36)
وعلى الأولى ظاهر كلام الخرقي أن أم الأب
مقدمة على أم الأم، لقوله: فإن لم تكن أم، أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من
الخالة، وصرح بذلك بعد في قوله: والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم،
وخالة الأب أحق من خالة الأم؛ وهذا إحدى الروايتين، وهو أن قرابة الأب كأمه
وأخته، ومن يدلي به هل تقدم على قرابة الأم كأمها وأختها ومن يدلي بها؟ على
روايتين منصوصتين، (إحداهما) قرابة الأب مقدمة، كما يقوله الخرقي، وهو
مقتضى قول القاضي في تعليقه، وفي جامعه الصغير، والشيرازي وابن البنا،
لتقديمهم الأخت للأب على الأخت للأم، وذلك لأن التمييز له مزية في التقديم،
وقرابة الأب ساوت قرابة الأم في القرب، وتميزت عنها بإدلائها بعصبة
(والرواية الثانية) قرابة الأم مقدمة، وهو اختيار القاضي في روايتيه، وابن
عقيل في تذكرته، لتمييز قرابة الأم بإدلائها بمن تقدم على الأب وهو الأم.
وقد تضمن كلام الخرقي أن المرأة إذا تزوجت سقطت حضانتها، وهو المذهب في
الجملة بلا ريب، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أنت أحق به ما لم تنكحي» (وعنه) في الجارية خاصة لا تسقط حضانتها
بالتزويج، نظرا لحديث ابنة حمزة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قضى بها لها مع كونها كانت مزوجة، وأجيب عن هذا بأنها كانت
زوجة لقريب، وإنما تسقط الحضانة إذا كانت مزوجة بأجنبي، وهذه مسألة تستثنى
من كلام الخرقي،
(6/37)
وهو أن التزويج مسقط للحضانة إلا بقريب من
الطفل، وقيل: شرط القريب أن يكون جدا للطفل، ومقتضى كلام أبي محمد في
المغني أن من شرطه أن يكون من أهل الحضانة، وإذًا لا يحسن منه الجواب عن
الحديث، لأن جعفرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ابن عمها، وليس هو من أهل
الحضانة، وحيث قيل: إن التزويج مسقط للحضانة فذلك بمجرده من غير دخول، على
مقتضى كلام الخرقي وعامة الأصحاب، إعمالا لظاهر الحديث، ولأبي محمد احتمال
أن حقها لا يسقط إلا بالدخول، نظرا إلى المعنى المقتضي لإسقاط حقها
بالتزويج، وهو الاشتغال بالزوج والتخصيص به، وذلك منتف قبل الدخول، والله
أعلم.
قال: والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم، وأحق به من الخالة، وخالة الأب
أحق من خالة الأم.
ش: قد تقدم هذا، وأن مذهب الخرقي أن قرابة الأب تقدم على قرابة الأم، فلا
حاجة إلى إعادته، وتقدم أن عن أحمد رواية أخرى مشهورة بالعكس، ورواية أخرى
أن الخالة أحق من أم الأب، وأن على هذه الرواية تقدم الخالة على الأخت من
الأب، لتقديمها على من أدلت به.
قال: وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت، ثم طلقت عادت على حقها من كفالته.
ش: لا نزاع عندنا في ذلك، إذا كان الطلاق بائنا، لأن حقها
(6/38)
إنما زال لمعنى، وهو الاشتغال بالزوج، فإذا
طلقت زال ذلك المعنى، فتعود إلى ما كانت عليه، واختلف فيما إذا كان الطلاق
رجعيا، فظاهر كلام الخرقي - وهو الذي نصبه القاضي في تعليقه، وقطع به جمهور
أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة
- أن حقها يعود، نظرا إلى زوال اشتغالها به، لعزلها عن فراشه، وعدم القسم
لها عليه، وقال القاضي: قياس المذهب أن حقها لا يعود حتى تنقضي عدتها، بناء
على أن الرجعية مباحة، فاشتغالها بالزوج لم يزل، وعلى هذا فقول الخرقي جار
على قاعدته من تحريم الرجعية، وأبو محمد خرج الوجه الثاني من كون النكاح
قبل الدخول مزيلا للحضانة مع عدم الشغل، والله أعلم.
قال: وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر
إليها، أو يخشى عليه التلف.
ش: للزوج منع المرأة من رضاع ولدها من غيره، ومن رضاع ولد غيرها بطريق
الأولى، إذ عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان، ما لم
يضر بها، سوى أوقات الصلوات، والرضاع يفوت الاستمتاع في بعض الأوقات، فكان
له المنع، كالخروج من منزله، فإن اضطر الولد إليها، بأن لا يوجد مرضعة
سواها، أو لا يقبل الولد ثدي غيرها، وخشي عليه التلف، فليس للزوج المنع
نظرا لحفظ النفس
(6/39)
المقدم على حق الزوج، وملخصه أنه يجب
ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وقول الخرقي: من رضاع ولدها. ظاهر
سياق كلامه أنه من غيره، وإلا كان يقول: وللزوج منع المرأة من رضاع ولدها.
وفي بعض النسخ: ولدها من غيره.
قال: وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها،
فتكون أحق به من غيرها، سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة.
ش: قد دل كلام الخرقي على مسألتين (إحداهما) أن إرضاع الولد على الأب وحده،
وليس له إجبار أمه على رضاعه مطلقا، ولظاهر قوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] الآية إلى: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:
233] وقوله سبحانه: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}
[الطلاق: 6] ومتى اختلفا فقد تعاسرا (المسألة الثانية) أن الأم إذا شاءت أن
ترضعه بأجرة مثلها كان لها ذلك، وقدمت على غيرها إذا كانت مفارقة من الزوج
بلا نزاع، وكذلك إذا كانت في حباله على المشهور، وقيل: بل إذا كانت في
حباله كان له منعها بأجرة وبغيرها، ومبنى الخلاف على فهم الآية الكريمة،
وذلك لأن إرضاعه كنفقته، والجامع أن بنيته لا تقوم
(6/40)
إلا بهما، ونفقته لو كان كبيرا عليه، فكذلك
إرضاعه إذا كان صغيرا، ولظاهر الآية الكريمة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] فإن الله سبحانه جعل حكمه الشرعي أن
الوالدات يرضعن أولادهن، لكن هل المراد كل والدة، اعتمادا على عموم اللفظ،
فتدخل فيه المطلقة وغيرها، أو المراد به الوالدات المطلقات، لذكرهن في سياق
المطلقات، والسياق والسباق يخصصان؟ فيه قولان، فعلى الثاني إذا كان المراد
المطلقات فالمزوجات لم تتناولهن الآية، وإذًا للزوج منعهن من الإرضاع، نظرا
لحقه من الاستمتاع، كما له ذلك في ولد غيره، وقول الخرقي: بأجرة مثلها.
مفهومه أنها إذا طلبت أكثر من أجرة المثل لم تكن أحق به، وهو كذلك، لطلبها
ما ليس لها، فتدخل في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] نعم لو طلبت أكثر من أجرة المثل، ولم يوجد من
ترضعه إلا بمثل تلك الأجرة، فقال أبو محمد: الأم أحق، لتساويهما في الأجرة،
وميزة الأم، وقوله: فتكون أحق به. مقتضاه وإن وجد متبرعة برضاعه، وهو كذلك،
اعتمادا على إطلاق الآية الكريمة، والله سبحانه أعلم.
(6/41)
[باب نفقة
المماليك]
قال: وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد دلت عليه السنة النبوية.
2893 - فعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال لقهرمان له:
هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن
يملك قوته» رواه مسلم.
2894 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من
العمل ما لا يطيق» رواه أحمد ومسلم، والواجب له قدر كفايته من غالب قوت
البلد وأدمه لمثله بالمعروف، وكذلك الكسوة من غالب كسوة البلد لأمثال العبد
بالمعروف.
(6/42)
2895 - لأن في بعض روايات حديث أبي هريرة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بالمعروف» رواه الشافعي في مسنده، وسواء كان قوت
سيده وكسوته مثل ذلك أو أزيد، والمستحب أن يطعمه من طعامه، ويلبسه من
لباسه.
2896 - لما روى أبو ذر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده
فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم
فأعينوهم عليه» متفق عليه.
(تنبيه) القهرمان
قال: وأن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك.
ش: على السيد أن يزوج مملوكه إذا احتاج إلى ذلك، لقول الله سبحانه:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]
(6/43)
وظاهر الأمر الوجوب.
2897 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من كانت له أمة فلم
يزوجها ولم يصبها، أو عبد فلم يزوجه، فما صنعا من شيء كان على السيد. ولأن
النكاح مما تدعو الحاجة إليه غالبا، أو يتضرر بفواته، فأجبر عليه السيد
كالنفقة وقوله: إذا احتاج إلى ذلك. يخرج به من لا حاجة له إلى ذلك، كالصغير
والأمة إذا كان السيد يطؤها، وكذلك إذا سراه السيد لاندفاع حاجته.
(تنبيه) : ولا يجب التزويج إلا بطلب المملوك، لأن الحق له، فلا تعلم حاجته
إلا بطلبه، والله أعلم.
قال: فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك.
ش: إذا امتنع السيد مما وجب عليه من طعام، أو كسوة أو تزويج، وطلب المملوك
البيع، فإن السيد يجبر على ذلك، لأن بقاء الملك عليه مع الإخلال بما تقدم
إضرار بالعبد، وإزالة الضرر واجبة شرعا، والبيع طريق لزواله، فوجب دفعا
للضرر المنفي شرعا، وإنما توقف الحق على طلب العبد، لأن الحق له، فلا
يستوفى بدنه طلبه، ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا قام بالواجب عليه لا
يجبر على البيع، وإن طلب المملوك ذلك، وقد نص أحمد عليه، إذ لا ضرر يزال،
والله أعلم.
(6/44)
قال: وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز.
ش: المكاتب مع سيده في أكسابه ومنافعه ونفقته ونحو ذلك كالأجنبي، فإذا عجز
عاد كما كان قبل الكتابة.
قال: وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه.
ش: إذا لم يكن في الأمة فضل عن ري ولدها فليس لسيدها أن يرضعها لغيره،
حذارا من إضراره، لنقصه عن كفايته، وصرف اللبن المخلوق له لغيره، وإن كان
فيها فضل عن ريه جاز له أن يرضعه غيرها، لانتفاء المحذور، مع وجود المقتضي
وهو الملك.
قال: وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده.
2898 - ش: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من
راهنه، له غنمه وعليه غرمه» ونفقته من الغرم، فكانت على الراهن.
قال: وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه.
ش: هذا هو المشهور، حتى إن أبا الخطاب في الهداية وأبا محمد في المقنع،
وغيرهما قطعوا بذلك، وخرج أبو محمد قولا آخر أنه لا يرجع، بناء على رواية
النفقة على الرهن والوديعة، والجمال إذا هرب الجمال، ونحو ذلك، وكذلك أبو
البركات برد الآبق، مع جملة هذه المسائل، وذكر الخلاف، إلا أنه قيد ذلك بما
إذا نوى الرجوع، وتعذر استئذان المالك، وبعض الأصحاب لا يشترط تعذر
الاستئذان، وقد يفرق بين الآبق وغيره أن الآبق يخشى ضرره،
(6/45)
لاحتمال لحوقه بدار الحرب، وارتداده، وهذا المعنى غير موجود في غيره، والله
سبحانه وتعالى أعلم. |