شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب المرتد]
ش: المرتد في اللغة الراجع، وفي الشرع الراجع عن دين الإسلام، إلى دين
الكفر، والأصل فيه قوله سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] الآية.
3061 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«من بدل دينه فاقتلوه» والله أعلم.
[استتابة المرتد]
قال: ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا، دعي إليه
ثلاثة أيام، وضيق عليه، فإن رجع وإلا قتل.
3062 - ش: الأصل في قتل المرتد في الجملة ما روى عبد الله بن مسعود -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «لا
(6/232)
يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا
الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس،
والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه الجماعة.
3063 - وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أشرف يوم الدار، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:
زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق فقتل به» ، فوالله ما
زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلوني»
. . . رواه النسائي والترمذي، ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة لهذا.
(6/233)
3064 - «وعن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة
فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: لو كنت أنا
لم أحرقهم، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا
تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم لقوله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه الجماعة إلا مسلما، وللترمذي فيه:
فبلغ ذلك عليا فقال: صدق ابن عباس، وأدوات الشرط يدخل فيها المؤنث على
الصحيح.
3065 - وروى أبو أحمد بن عدي من «حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قال: ارتدت امرأة عن الإسلام، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعرض عليها الإسلام فأبت أن تقبل» ، فقتلت. لكن
قال: هذا يرويه عبد الله بن عطارد بن أذينة الطائي، ولا يتابع عليه، وهو
منكر الحديث.
(6/234)
3066 - وما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء» ، فعام في الردة وفي
غيرها، وما تقدم خاص في الردة، فيخص كما خص بالثيب الزانية، وبالقاتلة، هذا
إذا لم نقل من أول الأمر إنه خاص بالسبب الذي ورد عليه، وهو نساء أهل
الحرب، وهو الظاهر.
3067 - وما في الدارقطني عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقتل المرأة إذا
ارتدت» فمن رواية عبد الله بن عيسى الجزري، عن عفان، وقد قال العلماء
بالحديث: إنه كذاب يضع الحديث على عفان وغيره. إذا تقرر هذا فيشترط لصحة
الردة التكليف، بأن يكون عاقلا بالغا، إذ غير المكلف لا يتعلق به حكم
خطابي.
3068 - وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن
المجنون
(6/235)
حتى يفيق» » فعلى هذا لا تصح ردة من زال
عقله بنوم أو إغماء، أو مرض أو شرب مباح، وفي السكران ونحوه خلاف يأتي إن
شاء الله تعالى، ولا ردة غير مميز، وفي المميز خلاف أيضا، ويشترط لقتل
المرتد حيث صحت ردته أن لا يرجع إلى الإسلام، أما إن رجع إلى الإسلام فإنه
لا يقتل، لزوال المقتضي للقتل وهو الردة، وقد قال الله تعالى: {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
[الأنفال: 38] .
3069 - وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها» وهذا قد أسلم وقد تاب، فاقتضى
أن ينقطع ما قبل ذلك، ولا نزاع في هذا في غير الزنديق، ومن تكررت ردته، ومن
سب الله تعالى، ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والساحر،
أما في هؤلاء الخمسة ففيهم روايتان (إحداهما) تقبل توبتهم كغيرهم، وهي ظاهر
كلام الخرقي هنا في الجميع، واختيار الخلال في الساحر، ومن تكررت ردته
والزنديق، وآخر قولي أحمد في الزنديق، قال في رواية أبي طالب: أهل المدينة
يقولون: يضرب عنقه ولا يستتاب، وكنت أقوله ثم هبته، ليس فيه حديث، واختيار
القاضي في روايتيه فيمن تكررت ردته، وظاهر كلامه في تعليقه في ساب الله
(6/236)
تعالى، وذلك لما تقدم.
3070 - وفي الموطأ «أن رجلا سار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس يشهد أن لا إله إلا
الله» ؟ قال: بلى ولا شهادة له. قال: «أليس يصلي» ؟ قال: بلى ولا صلاة له.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أولئك الذين نهاني
الله عن قتلهم» » .
3071 - وفي الحديث: «يقول الله تعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن
يشتمني، يجعل لي صاحبة وولدا» ، وبالاتفاق متى أسلم
(6/237)
ذلك وتاب قبل منه.
(والثانية) لا تقبل، وهي اختيار أبي بكر، والشريف وأبي الخطاب، وابن البنا،
والشيرازي في الزنديق، وقال القاضي في التعليق: إنه الذي ينصره الأصحاب،
واختيار أبي الخطاب في خلافه في الساحر، وقطع به القاضي في تعليقه،
والشيرازي في ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخرقي
لقوله في من قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قتل
مسلما كان أو كافرا.
(أما في الزنديق) فلأنه كان مظهرا للإسلام، مسرا للكفر، فإذا وقف على ذلك
منه، فأظهر التوبة، لم يزد على ما كان منه قبلها، وهو إظهار الإسلام، ولأنه
ربما أفسد عقائد المسلمين في الباطن، وفي ذلك خطر وضرر عظيم، ولقصة علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بزنادقة فأحرقهم، والظاهر أنه لم يستتبهم،
ويجاب بأن قصة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واقعة عين، مع أنه قد يكون من
مذهبه أن الاستتابة لا تجب، وما تقدم ليس بقانع في إهدار دم ناطق
بالشهادتين.
(وأما فيمن تكررت ردته) فلأن تكررها قرينة تكذبه في توبته، ولقول الله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا} [النساء: 137] الآية.
(6/238)
3072 - وروى الأثرم بإسناده أن رجلا من بني
سعد مر على مسجد بني حنيفة، فإذا هم يقرؤون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر ذلك له، فبعث إليهم فأتي بهم،
فاستتابهم فتابوا، فخلوا سبيلهم إلا رجلا منهم يقال له ابن النواحة، قال:
قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك قد عدت فقتله، ويجاب بأن الدماء
تحقن بالشبهة، لا أنها تراق بها.
3073 - وعن الآية بأن قتادة قال: نزلت في اليهود، آمنوا بموسى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كفروا بعبادتهم العجل، ثم آمنوا بالتوراة
ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
(6/239)
3074 - وعن مجاهد {ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا} [النساء: 137] أي ماتوا عليه، فإذا هذا ليس مما نحن فيه.
3075 - وعن قصة ابن مسعود بأن أبا داود رواه عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد
الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالكوفة فقال ما بيني وبين أحد من العرب
حنة وإني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد
الله فجيء بهم فاستتابهم غير، وهذا يبين أنه إنما قتله تحقيقا لقول رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أنك رسول لقتلتك» ،
فكأنه استوجب عنده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القتل، وإنما
منعه الرسالة، وقد زالت.
(6/240)
3076 - (وأما في الساحر) فلما روى جندب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «حد الساحر ضربة بالسيف» ، رواه الدارقطني والترمذي، وقال:
الصحيح عن جندب موقوف.
3077 - وعن بجالة بن عبدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت كاتبا لجزء بن
معاوية عم الأحنف بن قيس فأتانا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل
موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس،
وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا ثلاث سواحر، وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في
كتاب الله. رواه أحمد وأبو داود.
(6/241)
3078 - وفي الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن
بن سعد بن زرارة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بلغه أن حفصة زوج النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي الله عنها قتلت جارية لها سحرتها
وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت وظاهر هذه الآثار القتل بكل حال.
3079 - ويروى أن ساحرة طافت في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهم متوافرون، تسألهم هل لها من توبة، فما أفتاها أحد إلا ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال لها: إن كان أحد من أبويك حيا
فبريه، وأكثري من عمل البر ما استطعت، ويجاب بأن
(6/242)
قصة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لا
يعرف من رواها، مع أن الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قد جعل
لها توبة، وغير ذلك وقائع أعيان.
(وأما في من سب الجناب) الرفيع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
3080 - فلما روى الشعبي عن «علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يهودية كانت
تشتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فخنقها رجل
حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دمها» ،
رواه أبو داود.
3081 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أعمى كانت له أم ولد
تشتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فينهاها فلا
تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة، جعلت تقع في النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ المعول فوضعها في بطنها، واتكأ
عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فجمع الناس
(6/243)
فقال: «أنشدكم الله رجلا فعل ما فعل، لي
عليه حق» قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أنا
صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي
منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك
وتقع فيك، فأخذت المعول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا اشهدوا أن دمها هدر»
رواه أبو داود والنسائي، واحتج به أحمد في رواية عبد الله.
(وأما فيمن سب الله سبحانه) فبالقياس على ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق الأولى، قال أبو محمد: والخلاف في قبول توبتهم
في الظاهر من أحكام الدنيا، من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم،
وأما قبول الله في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنا وظاهرا فلا اختلاف
فيه، فإن الله تعالى قال في حق المنافقين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] انتهى. واعلم أن الروايتين في ساب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان كافرا، ويكون ذلك نقضا
لعهده، فيقتل وإن أسلم، والروايتين
(6/244)
في الساحر حيث يحكم بقتله بذلك، وإنما يحكم
بقتله بالسحر حيث كفر به وكان مسلما، أما إن كان السحر مما لا يكفر به، أو
يكفر به والساحر من أهل الكتاب، فإنه لا يقتل.
3082 - «لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقالت له عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله أفلا
أحرقته؟ قال: «لا» .
» 3083 - وفي البخاري «أن ابن شهاب سئل أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال:
بلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صنع له ذلك
فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب» ، (وعنه) ما يدل على قتله كما تقدم
عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(6/245)
إذا تقرر ذلك فكل موضع قلنا: لا تقبل
التوبة فلا استتابة، لعدم فائدتها، وكل موضع قلنا بقبول التوبة فإنه لا
يقتل حتى يستتاب، احتياطا للدماء.
3084 - وعن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه قال:
قدم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في زمن خلافته رجل من أهل
اليمن من قبل أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان عاملا له،
فسأله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الناس، ثم قال: «هل فيكم من مغربة
خبر» قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا
عنقه. قال: فهلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه، لعله
يتوب ويراجع أمر الله تعالى، اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.
. . رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده. . . وهل ذلك على سبيل
الاستحباب، لظاهر «من بدل دينه فاقتلوه» .
3085 - وفي حديث «لأبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «اذهب إلى اليمن» ثم أتبعه معاذ بن
جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(6/246)
فلما قدم عليه ألقى له وسادة، وقال: انزل؛
وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: لا
أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله» . . . متفق عليه، ولأحمد: قضى الله
ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه، وظاهر ذلك من غير استتابة، وإنكار عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحمل على الاستحباب، لأنهم كانوا ينكرون في
المستحب، أو على الوجوب، وهو المذهب عند الأصحاب، لظاهر قصة عمر، وحديث
جابر الذي رواه ابن عدي، وبذلك يتقيد ما تقدم، على أن في حديث أبي موسى
الأشعري في رواية أبي داود: وكان قد استتيب قبل ذلك بعشرين ليلة أو قريبا
منها، فجاء معاذ: فدعاه فأبى، فضرب عنقه، إلا أن أبا داود قال: قد روي هذا
الحديث من طرق، وليس فيه ذكر الاستتابة، انتهى.
(6/247)
ويستتاب ثلاثا اتباعا، لقول عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: هلا حبستموه ثلاثا، ويضيق عليه، لقوله أيضا: وأطعمتموه
كل يوم رغيفا، والله أعلم.
[أحكام الزنديق]
(تنبيه) : «الزنديق» هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، وهو الذي كان يسمى
منافقا في الصدر الأول، و «رجز مسيلمة» و «حنة» هنا بمعنى الأحنة، وهي
العداوة، قال الجوهري: ولا تقل حنة، وقال الهروي: هي لغة رديئة، وقد جاءت
«ومغربة خبر» بكسر الراء وفتحها، وأصله من الغرب وهو البعد، المعنى: هل من
خبر جديد، جاء من بلد بعيد، «والموثق» المأسور المشدود في الوثاق من حبل أو
قيد، و «الوسادة» المخدة.
قال: وكان ماله فيئا بعد قضاء دينه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في كتاب الفرائض وهو أن المرتد متى مات أو قتل على
ردته فماله فيء، على المشهور من الروايات، لا لورثته ولا لأهل الدين الذي
اختاره، وزاد هنا أن ذلك بعد قضاء دينه، لأنه حق واجب عليه، وأولى ما يؤخذ
من ماله. واعلم أن كلام الخرقي يعتمد أصلا، وهو أن أملاك المرتد لا تزول
بنفس الردة، وهذا هو المشهور من الروايتين. والمختار لعامة الأصحاب، وعليه
هل لا تزول إلا بالموت، أو يتبين بالموت زوالها من حين الردة، فيكون مراعى؟
فيه روايتان
(6/248)
أيضا، واختلف الأصحاب هنا في التصحيح،
وعليها تقضى ديونه مطلقا.
(والرواية الثانية) في الأصل تزول أملاكه بنفس الردة، وهي اختيار أبي بكر،
وعليها فلا تقضى ديونه، كذا قال القاضي في الجامع الصغير، وأطلق، وظاهر
كلام أبي البركات أن الذي يمنع على هذه الرواية قضاء الدين المتجدد، وأما
اللازم له قبل الردة فيقضى على الروايات الثلاثة. . . والله أعلم.
[استتابة تارك الصلاة]
قال: وكذلك من ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل، جاحدا
تركها أو غير جاحد.
ش: قد تقدمت هذه المسألة بأتم من هذا اللفظ، في باب حكم من ترك الصلاة، وقد
يقال إنه إنما أعادها هنا لينبه على أن الزكاة والصوم والحج ليسوا كذلك،
وفيه نظر، لأنه من ترك واحدا من الثلاثة جاحدا كفر بلا ريب. نعم إذا تركها
غير جاحد، فالمختار لعامة الأصحاب عدم الكفر، ثم عن أحمد في الزكاة ثلاث
روايات، ثالثهن إن قاتل عليها كفر، وإلا لم يكفر، وعنه في الصوم روايتان،
وللأصحاب في الحج ثلاث طرق، فأبو محمد يقول لا يكفر بحال، ومقابله أبو بكر
(6/249)
يقول يكفر بكل حال، قال في الخلاف: من تخلف
عن الإقرار بالتوحيد، مع القدرة عليه، وعن الصلاة بعد الإقرار والقدرة على
عملها، وإيتاء الزكاة بعد الإقرار بوجوبها عليه، وصوم رمضان بعد الإقرار
والقدرة عليه، وكذلك الحج، فعند أحمد أنه مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل،
وقال أيضا: لا فرق بين الصوم والصلاة والزكاة والحج، لأن هذا كله فرض
كالتوحيد، وتوسط أبو البركات فقال: إن أخره إلى وقت يغلب على ظنه موته
قبله، أو عزم على تركه بالكلية كفر وإلا فلا.
[ذبيحة المرتد]
قال: وذبيحة المرتد حرام، وإن كانت ردته
إلى دين أهل الكتاب.
ش: أما إذا لم تكن ردته إلى دين أهل الكتاب فاتفاق والحمد لله، وأما إذا
كانت إلى دين أهل الكتاب فهو قول العامة، لأنه لا يقر على دينه، أشبه
الوثني، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب في الجزية، ولا في النكاح، ولا
في الاسترقاق، فكذلك في الذبيحة.
[الحكم بإسلام الصبي]
قال: والصبي إذا كان له عشر سنين، وعقل الإسلام فأسلم فهو مسلم.
ش: هذا هو المذهب المعروف، والمختار لعامة الأصحاب، حتى إن جماعة منهم أبو
محمد في المغني وفي الكافي جزموا بذلك.
3086 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا
إله إلا الله دخل الجنة» .
(6/250)
3087 - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . . .
الحديث.
3088 - وفي الصحيحين «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انطلق مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في رهط من أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِبَلَ ابن
صياد، حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد
يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ظهره بيده، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لابن صياد: «أتشهد، أني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -» ، فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن
صياد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتشهد أني رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فرفضه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «آمنت بالله وبرسوله» » وذكر الحديث،
فعرض عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام وهو
دون البلوغ، وعرضه (عليه) يقتضي صحته منه.
3089 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه
لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا» ، رواه أحمد والإعراب
(6/251)
منه يحصل قبل البلوغ، وقد جعله إذا إما
شاكرا وإما كفورا ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم صغيرا.
3090 - قال عروة: أسلم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن ثمان سنين. .
. أخرجه البخاري في تاريخه، فاعتبر ذلك الصحابة ومن بعدهم - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - وعد من السابقين.
3091 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كان علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أول من أسلم من الناس بعد خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
-، رواه أحمد.
3092 - وعن عمرو بن مرة عن أبي حمزة، عن رجل من الأنصار، قال: سمعت زيد بن
أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: أول من أسلم علي؛ قال عمرو بن مرة:
فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله
(6/252)
عنه. . . رواه أحمد والترمذي وصححه، وجمع
العلماء بين الأقوال فقالوا: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء
خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -. وحكى أبو محمد في المقنع، وأبو البركات رواية بعدم صحة
إسلام الصبي، لأنه ليس بمكلف، أشبه الطفل، أو قول يثبت به حكم، فلم يصح منه
كالهبة، ولحديث: «رفع القلم عن ثلاث» وأجيب بأن الطفل لا يعقل بخلاف هذا،
وعدم صحة الهبة ونحوها حذارا من لحوق الضرر به، وهذا محض مصلحة، ولهذا قلنا
على الصحيح: تصح وصيته، والحديث ظاهره أنه لا يكتب عليه شيء، والإسلام يكتب
له لا عليه، (فعلى المذهب) شرطه أن يعقل الإسلام قطعا، بأن يعلم أن الله
ربه لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، إذ من لا يعقل كلامه لا يدل على
شيء، وهل يحد مع ذلك بسن. حكى ابن المنذر عن أحمد أنه لا يحد، وإليه ميل
أبي
(6/253)
محمد؛ إذ المقصود عقل الإسلام، والسن لا
مدخل له في ذلك، ولأن قوله في الحديث: «حتى يعرب عنه لسانه» يقتضي أن الحكم
منوط بذلك فقط.
3093 - وقد روى البخاري في تأريخه عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قتل علي
وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وهذا يقتضي أنه أسلم وله نحو ست سنين، لأنه أسلم
في أول المبعث، وعاشر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد
مبعثه ثلاثا وعشرين سنة، وعاش علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد وفاته -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو الثلاثين، (وعن أحمد) يشترط أن
يكون ابن سبع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مروهم بالصلاة لسبع» ، فدل
على أن ذلك حد لأمرهم، وظاهره صحة عباداتهم، والإسلام هو أول العبادات
ورأسها، (وعنه) وهو الذي اعتمده الخرقي: يشترط أن يكون ابن عشر، لتوجه
الضرب إذا، ولم يتعرض الخرقي لردته، لكنها تفهم من المسألة الآتية، وفيها
أيضا روايتان، لكن الخلاف هنا أشهر، ولهذا كثير من الأصحاب
(6/254)
جزم ثم بالصحة، وحكى الخلاف هنا، ومن ثم
جمع أبو البركات كلام الأصحاب، وحكى فيها ثلاث روايات (الثالثة) يصح
الإسلام دون الردة، وإليها ميل أبي محمد، نظرا إلى قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» ، والمذهب عند الأصحاب الصحة، لحديث
جابر المتقدم، ولأن من صح إسلامه صحت ردته كالبالغ.
(تنبيهان) : أحدهما إذا صححنا إسلام الصبي، أو لم نصحح ردته فلا ريب أنه
يحال بينه وبين أهل الكفر، وكذلك إن لم نصحح إسلامه، أو صححنا ردته، حذارا
من فتنته، ورجاء ثبوته على الإسلام، أو عوده إليه حين بلوغه.
(الثاني) : «الأطم» البناء المرتفع، «وحتى يعرب عنه لسانه» أي يبين عنه.
قال: فإن عاد وقال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت إلى مقالته، وأجبر على
الإسلام.
ش: إذا حكم بإسلام الصبي فرجع، وقال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت إلى قوله على
المشهور، وأجبر على الإسلام، لأنه عاقل صح إسلامه، فلا يلتفت إلى قوله،
كالبالغ إذا أسلم ثم قال: لم أنو الإسلام على المذهب، ولأنه قد ثبت عقله
للإسلام ومعرفته، فلا يبطل ذلك بمجرد دعواه كالبالغ،
(6/255)
(وعنه) يقبل منه، فلا يجبر على الإسلام.
قال أبو بكر: هذا قول محتمل، لأن الصبي في مظنة النقص، فجاز أن يكون صادقا،
والدماء يحتاط لها.
قال: ولا يقتل حتى يبلغ.
ش: يعني إذا أقام على رجوعه، فإنه يصير مرتدا، لكن لا يقتل حتى يبلغ، لأن
القتل عقوبة متأكدة، فلا تجب على الصبي كالحد، وحذارا من قتله بأمر محتمل.
قال: ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام، فإن ثبت على كفره قتل.
ش: قد تقرر أنه لا يقتل حتى يبلغ، فإذا حكم الردة لم يتعلق به إلا بعد
البلوغ، فتكون الاستتابة بعده.
[حكم الأولاد إذا ارتد الزوجان ولحقا بدار
الحرب]
قال: وإذا ارتد الزوجان فلحقا بدار الحرب، لم يجر عليهما ولا على أحد من
أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق.
ش: لا يجوز استرقاق المرتد، رجلا كان أو امرأة، وإنما ذكر الخرقي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى الزوجين والله أعلم، لأجل ذكر الأولاد، وذلك
لعموم ما تقدم: «من بدل دينه فاقتلوه» ، «قضى الله ورسوله أن من رجع عن
دينه فاقتلوه» ونحو ذلك، وإذا جاز استرقاقه وبقاؤه لم يقتل، وأدوات الشرط
كما تقدم تشمل
(6/256)
المذكر والمؤنث، وأما أولاد المرتدين فمن
ولد قبل الردة لم يسترق، لأنه مسلم تبعا لأبيه، فلا يتبعه في الردة، لأن
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقد تبعوهم في الإسلام، فلا يتبعونهم في الكفر،
وإذا لا يسترقون صغارا، لأنهم مسلمون، ولا كبارا لأنهم إن ثبتوا على
إسلامهم فواضح، وإن ارتدوا فحكمهم حكم آبائهم كما تقدم، ومن علقت به أمه
بعد الردة وولدته بعدها جاز استرقاقه على ظاهر كلام الخرقي، ومنصوص أحمد في
رواية الفضل بن زياد، واختيار أبي بكر في الخلاف، والقاضي وأبي الخطاب،
والشريف وابن البنا والشيرازي وغيرهم، لأنه مولود بين أبوين كافرين، لم
يسبق عليه حكم الإسلام، أشبه ما لو كان أبواه كافرين أصليين، واختار ابن
حامد أنه لا يجوز استرقاقه، وحكاه رواية، لأنه لا يقر بالجزية، فلا يسترق
كأبيه، ولعل ابن حامد إنما أخذ
(6/257)
الرواية من عدم إقراره بالجزية، وإن علقت
به في الإسلام ووضعته في الردة فعند أبي البركات وأبي محمد في الكافي حكمه
حكم ما لو وضعته في الإسلام، وهو التحقيق، لانعقاده مسلما، وكلام الخرقي
يوهم العكس، وقد أقره أبو محمد في المغني على ظاهره، معللا بأن أكثر
الأحكام إنما تتعلق بالوضع، فكذلك هذا، وقد وقع نحو هذه العبارة للخرقي في
النكاح، وقد تقدم ذلك.
قال: ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الإسلام بعد البلوغ،
استتيب ثلاثا، فإن لم يتب قتل.
ش: أما من امتنع منهما أو من أولادهما الذين حكم عليهما من الإسلام، فلا
إشكال في قتلهم إذا لم يتوبوا، كبقية المرتدين، وقوله: الذين وصفت، يعني
الذين ولدوا قبل الردة، وقوله: بعد البلوغ، لما تقدم من أن حكم الردة إنما
يتعلق بالصبي بعد البلوغ، ومفهوم كلام الخرقي أن أولادهم الذين ولدوا بعد
الردة لو امتنعوا من الإسلام لم يقتلوا، وتحت هذا صورتان (إحداهما) اختاروا
كفرا لا يقر أهله عليه بالجزية، فهنا لا ريب في قتلهم.
(الثانية) اختاروا كفرا يقر أهله عليه بالجزية، فهنا روايتان، حكاهما أبو
البركات، وأبو محمد في المقنع (إحداهما) وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار
القاضي في روايتيه، يقرون بالجزية، لأنهم ولدوا بين كافرين، ولم يسبق لهم
حكم الإسلام، فجاز إقرارهم بالجزية
(6/258)
كأولاد الحربيين.
(والثانية) ، وهي اختيار أبي بكر، وبها قطع أبو محمد في الكافي، وأبو
الخطاب في الهداية، لا يقرون بالجزية، لأنهم أولاد من لا يقر على كفره، فلا
يقرون بالجزية كالولد الذي قبل الردة. ولهذا الخلاف التفات إلى أن من تهود
أو تنصر بعد المبعث هل يقر بالجزية أم لا. . .؟ وسلك أبو محمد في المغني
طريقة لم نرها لغيره، فقال: إذا وقع أبو الولد في الأسر بعد لحوقه بدار
الحرب، فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب، وإن بذل الجزية وهو في دار الحرب، أو
وهو في دار الإسلام، لم يقر بها، لانتقاله إلى الكفر بعد نزول القرآن.
قال: ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له.
3094 - ش: لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من
الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» ، رواه
البخاري وأحمد وقال فيه: «ما من رجل مسلم» ، وهو يشمل ما إذا كانوا من
كافرة.
(6/259)
3095 - قال البخاري وكان ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه،
ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ومن علوه التبعية له، (وظاهر كلام
الخرقي) أن هذا الحكم ثابت للصغير ما لم يبلغ، وهو المنصوص والمشهور، لحديث
أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، وقيل في المميز: لا يحكم بإسلامه
حتى يسلم بنفسه كالبالغ، لأنه يصير مستقلا بنفسه، ولعله يلتفت إلى أن
المميز يصح إسلامه، فصار كالبالغ، لكن المذهب صحة إسلام المميز، والمذهب
التبعية إلى البلوغ، ومراد الخرقي بالأبوين الأبوان الأدنيان الحقيقيان،
ولا يتبع الصغير جده ولا جدته في الإسلام.
قال: وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له من الميراث، وكان مسلما بموت
من مات منهما.
ش: أما كون الصغير يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه الكافرين على المشهور
والمختار للأصحاب من الروايتين.
3096 - فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مولود إلا يولد على
الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة
جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ، ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَةَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية. وفي رواية: «قالوا:
يا رسول الله
(6/260)
أفرأيت من يموت منهم وهو صغير؟ قال: «الله
أعلم بما كانوا عاملين» متفق عليهما. فجعل تهوده وتنصره وتمجسه بسبب أبويه،
فإذا ماتا فقد فات السبب، وكذلك إذا مات أحدهما إذ لا ريب أن الشيء يفوت
بفوات جزئه، ومتى فات السبب بقي على أصل الفطرة التي خلقه الله عليها، وهي
الإقرار بالربوبية والوحدانية. (والرواية الثانية) : لا يحكم بإسلامه، لأنه
ثبت كفره، ولم يوجد منه إسلام، ولا ممن هو تابع له، فوجب إبقاؤه على ما كان
عليه، ولأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا
عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الإسلام لموت أبيه، مع
أنه لا يخلو زمنهم من موت بعض أهل الذمة عن يتيم، والحكم في موت الأبوين
كالحكم في موت أحدهما. وهل حكم المميز حكم البالغ أو حكم الطفل؟ فيه
القولان السابقان.
(6/261)
وكلام الخرقي يشمل الموت في دار الحرب ودار
الإسلام، وهو قويل بعده أبو البركات، وعموم الحديث يقتضيه، والذي أورده أبو
البركات مذهبا - وبه قطع أبو محمد في المغني - اختصاص الحكم بدار الإسلام،
إذ قضية الدار الحكم بإسلام أهلها، خرج منه الطفل الذي له أبوان، فإذا عدما
أو أحدهما؛ بقي على الأصل.
وأما كونه يقسم له من ميراث من مات من أبويه الذي جعل مسلما بموته، فلأن
المانع من الإرث وهو الإسلام لم يتحقق وجوده حين الإرث، إذ بالموت انتقل
الإرث وحصل الإسلام. فالمانع إنما تحقق وجوده لما انتقل الإرث، أما وقت
الانتقال فلم يتحقق، لا سيما ومن قاعدتنا على المشهور أن من أسلم قبل قسم
الميراث قسم له.
وقد استشكل على هذا نص أحمد في الكافر: إذا مات عن حمل منه أنه لا يرثه،
والقاضي أظنه في المجرد حمل هذا على أنها وضعته بعد قسم الميراث، وجعل أنها
متى وضعته قبل ذلك ورث كما في هذه المسألة. وأبو البركات جرى على المنصوص
في الموضعين، وأشار للفرق بأن الحمل حكم بإسلامه قبل وضعه، والإرث لا يحكم
له إلا بانفصاله، وقد يقال: الظاهر من كلام الأصحاب أنا نتبين بوضعه حيا
إرثه، فالإرث حصل له أيضا من حين موت أبيه، فهو كهذه المسألة، والظاهر أن
هذه شبهة القاضي، فيجاب بأنه على كل حال المانع قد تحقق قبل الحكم بإرثه،
فلم يحصل شرط
(6/262)
إرثه إلا والمانع قد تحقق، فانتفى الإرث
لوجود المانع.
(تنبيه) : «الفطرة» والله أعلم.
[حكم من شهد عليه بالردة فأنكر]
قال: ومن شهد عليه بالردة فقال: ما كفرت، فإن شهد أن لا إله إلا الله، وأن
محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء.
ش: من شهد عليه بالردة فأنكر، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده
ورسوله لم يكشف عن شيء مما شهد عليه، ولم يكلف الإقرار بما نسب إليه.
3097 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» .
3098 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة،
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله»
(6/263)
متفق عليهما، ولأن هذا يثبت به إسلام
الكافر الأصلي، فكذا هذا.
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يلتفت مع ذلك إلى ما شهد عليه به، ولو كان إنكار
فرض، أو إحلال محرم، وحمل أبو محمد كلامه على من كفر بجحد الوحدانية أو
الرسالة أو هما، أما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما
جحده.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكفي والحال ما تقدم جحده للردة، وهذا والله
أعلم كأنه مقصود الخرقي من ذكر هذه المسألة، لينص على مخالفة بعض الحنفية،
وذلك لأنه بالبينة قد بان كفره، فلم يحكم بإسلامه بدون الشهادتين، كالكافر
الأصلي.
3099 - وقد روى الأثرم بإسناده، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي
برجل عربي قد تنصر، فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله، وأتي برهط يصلون وهم
زنادقة، قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول، فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا
دين الإسلام، فقتلهم ولم يستتبهم، ثم قال: تدرون لم استتبت النصراني؟
استتبته لأنه أظهر دينه، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة، فإنما
قتلتهم لأنهم جحدوا، وقد قامت عليهم البينة.
(6/264)
ومقتضى كلام الخرقي: أن حصول الشهادتين كاف
في إسلام المرتد، وهو كذلك، وكذلك كل كافر، ولا يشترط أن يقول مع ذلك: وأنا
بريء من الدين الذي كنت عليه، لما تقدم.
3100 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للغلام اليهودي:
«يا غلام، قل: لا إله إلا الله، وأني رسول الله» .
3101 - «وقوله لعمه أبي طالب: «أدعوك إلى كلمة أشهد لك بها عند الله، لا
إله إلا الله، وأني رسول الله» . نعم من كفر بجحد
(6/265)
فرض، أو تحريم أو تحليل، أو نبي أو كتاب،
أو رسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غير العرب
ونحو ذلك، فلا بد مع الشهادتين أن يقر بالمجحود به، لأن الشهادتين كانت
موجودة منه قبل ذلك.
ومفهوم كلام الخرقي: أنه لا يكتفى بأشهد أن محمدا رسول الله عن كلمة
التوحيد، وهو (إحدى الروايات) ، وهو مقتضى ما تقدم من الأحاديث. . .
(والثانية) : يكتفى بذلك.
3102 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن يهوديا قال لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أشهد أنك رسول الله، ثم مات، فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» ،
ذكره أحمد في رواية مهنا محتجا به، ولأن الإقرار برسالة النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتضمن الإقرار بوحدانية الرب سبحانه، لتصديقه
الرسول فيما جاء به.
(والثالثة) : إن كان ممن يقر بالتوحيد كأكثر اليهود اكتفي بذلك، لأن
بانضمام تصديقه بالرسالة إلى ما عنده من
(6/266)
التوحيد يكمل إسلامه، وإن لم يقر بالتوحيد
كالنصارى ونحوهم، لم يكتف بذلك، لأن الجاحد جحد شيئين، فلا يزول جحده لهما
إلا بالإقرار بهما، وهذه الرواية اختيار أبي محمد.
ومفهوم كلام الخرقي أيضا: أنه إذا قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم، لم يكتف
بذلك، ونص القاضي وابن البنا على الاكتفاء بذلك عن الشهادتين، لتضمنهما
إياها.
3103 - وقد «روى المقداد أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من
الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال:
أسلمت، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه
بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها» . رواه
مسلم.
قال أبو محمد: ويحتمل أن هذا فيمن كفره بغير جحد فرض، أو كتاب أو نحو ذلك،
أما من كفره بذلك فلا نكتفي منه بقوله: أنا مسلم أو مؤمن، لأنه قد يعتقد أن
الإسلام ما هو عليه، إذ أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون.
[حكم من أقر بالردة ثم رجع أو أنكر]
(تنبيه) : لو أقر بالردة ثم رجع، أو أنكر، قبل منه بدون تجديد إسلام، على
ما قطع به ابن حمدان في رعايتيه، وأبو محمد، لما أورد عليه ذلك في أصل
المسألة قال: يحتمل أن
(6/267)
يقول فيه كمسألتنا، وإن سلمنا فالفرق أن
هنا ثبت بقوله، فقبل رجوعه عنه، وثم ثبت بالبينة فلا يقبل رجوعه كالزنا،
والله أعلم.
[حكم ردة السكران]
قال: ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته،
فإن مات في سكره مات كافرا.
ش: هل تصح ردة السكران؟ فيه روايتان تقدمتا في طلاقه، إلا أن أبا محمد
كلامه ثم يوهم عدم صحة طلاقه، وكلامه هنا بالعكس، وربما أشعر كلام الخرقي
بذلك. وبالجملة متى لم تصح ردته فلا كلام. وإن صحت فلا يقتل حتى يفيق من
سكره، ليكمل عقله، ويفهم ما يقال له، وتزول شبهته؛ ولأن القتل جعل للزجر،
ولا يحصل الزجر في حال سكره، ويتم له ثلاثة أيام من وقت صحوه، كما قلنا في
الصبي من حين بلوغه.
هذا الذي أورده أبو البركات مذهبا، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل
الثلاث من وقت ردته، وتبعه على ذلك أبو محمد، لأن مدة سكره لا تدوم غالبا
أكثر من ثلاثة أيام، بخلاف الصبي، فعلى هذا لو استمر سكره أكثر من ثلاثة
أيام، فقال أبو محمد: لا يقتل حتى يصحو ويستتاب عقيب صحوه، فإن تاب، وإلا
قتل في الحال.
(تنبيه) : والحكم في إسلامه في سكره كالحكم في ردته، والله سبحانه وتعالى
أعلم.
(6/268)
|