شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الحدود]
الحدود جمع حد، والحد في الأصل: المنع، ومنه قيل للبواب حدادا، لمنعه
الداخل والخارج إلا بإذن، وسمي الحديد حديدا؛ للامتناع به، أو لامتناعه على
من يحاوله.
والحد عقوبة تمنع من الوقوع في مثله، وحدود الله محارمه. قال سبحانه تعالى:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وما قدره
كجعل الطلاق ثلاثا، ونحو ذلك، قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ولعل تسمية المحارم حدودا، وكذلك المقدرات؛
إشارة إلى المنع من قربان ذلك، أو تجاوزه، والله أعلم.
[حد الزنا]
قال: وإذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة؛ جلدا ورجما حتى يموتا، في
إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى:
يرجمان ولا يجلدان.
ش: الزنا مما علم تحريمه من دين الله بالضرورة، وقد شهد له قوله سبحانه:
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}
[الإسراء: 32] ،
(6/269)
وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
[الفرقان: 69] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] .
3104 - وعده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السبع
الموبقات، وجعله من أعظم الذنب.
إذا تقرر ذلك (فالرواية الأولى) اختيار أبي بكر عبد العزيز، ونصبها الشريف
وأبو الخطاب في خلافيهما، وصححها الشيرازي، لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
[النور: 2] الآية، وهذا عام في البكر والثيب، ثم قد ورد رجم المحصن في سنة
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلا ريب، وفعله خلفاؤه من
بعده، بل وفي الكتاب العزيز.
3105 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: سمعت عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وهو على منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: إن الله بعث
(6/270)
محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها
ووعيناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا
بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله،
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من
زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو
الاعتراف، وايم الله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها. . .
متفق عليه.
وإذا ورد رجم الثيب في الكتاب وفي السنة، وورد الجلد في الكتاب، وهو يعمه
ويعم غيره، وجب الجمع بينهما، وقد أشار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
والله أعلم إلى ذلك.
3106 - ففي البخاري عن الشعبي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين رجم
المرأة ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله،
ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(6/271)
3107 - مع أن في صحيح مسلم، وسنن أبي داود
والترمذي، عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن
سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ،
وما يعترض على هذا من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يجلد ليس بنص صريح، إذ غايته أنه لم ينقل أنه جلد، وعدم النقل لا يدل على
العدم.
(والرواية الثانية) : هي أشهر الروايتين عن الأثرم، واختارها ابن حامد،
ونصرها الجوزجاني والأثرم في منتهاهما.
3108 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا
والغامدية، وامرأة من جهينة، ورجلا وامرأة من اليهود، ولم ينقل - مع كثرة
الروايات التي
(6/272)
يبلغ مجموعها التواتر المعنوي - بلا ريب -
أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلدهم.
3109 - وقال: « «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» متفق
عليه، ولم يأمر بجلدها، وهذا يبين أن هذا هو آخر الأمرين من رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أشار إلى هذا أحمد، قال الأثرم:
سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه أول
حد نزل، وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ولم يجلده، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجم ولم يجلد،
وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد نحو هذا، والذي في الآية الكريمة يحمل على
البكر.
3110 - وقد ورد في أبي داود في رواية - قال أبو السعادات: ذكرها رزين - عن
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أول ما كان الزنا في الإسلام
أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله تعالى:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15]
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ثم نزل بعد ذلك:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم نزلت آية الرجم في النور، فكان الأول للبكر، ثم
رفعت آية الرجم من التلاوة، وبقي الحكم بها، وهذا إن ثبت فيه جمع بين
الأدلة.
(6/273)
3111 - وقد عمل على ذلك عمر وعثمان -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرجما، ولم ينقل أنهما جلدا.
وتقييد الخرقي بالحر والحرة ليخرج العبد والأمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى
حدهما، وتقييد الحر بالمحصن والحرة بالمحصنة ليخرج غير المحصن كما سيأتي،
ولا نزاع في أن الإحصان شرط في الرجم، وقد شهد لذلك حديث عبادة وحديث عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3112 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ
مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني» ، وفي رواية:
«أو زنا بعد إحصان» الحديث. . . وقد تقدم ذلك.
3113 - وفي قصة ماعز أنه قال له: «أحصنت» ؟ قال: نعم، فأمر به فرجم.
والإحصان قد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب النكاح، فلا حاجة إلى إعادته.
(6/274)
(تنبيه) : الزنا الفاحشة يمد ويقصر، فالقصر
لأهل الحجاز، والمد لأهل نجد، أنشد ابن سيده:
أما الزناء فإني لست قاربه ... والمال بيني وبين الخمر نصفان
والزاني من أتى الفاحشة، وسيأتي كلام الخرقي إن شاء الله تعالى فيه، والله
أعلم.
قال: ويغسلان ويكفنان، ويصلى عليهما، ويدفنان.
ش: أما التغسيل والتكفين والدفن فاتفاق، حكاه أبو محمد.
3114 - وقال أحمد: سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شراحة - وكان
رجمها - فقال: اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم. وصلى علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - على شراحة، وأما الصلاة، فهي أيضا قول الأكثرين.
(6/275)
3115 - لما روى عمران بن حصين - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، أن «امرأة من جهينة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي،
فدعا نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها فقال: «أحسن
إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها،
قال عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم،
وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» رواه مسلم وأبو داود
والترمذي.
3116 - وفي مسلم أيضا وسنن أبي داود، من حديث بريدة في «قصة ماعز والغامدية
قال: ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت.»
3117 - وما في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على
ماعز» ،
(6/276)
فقضية عين، يحتمل أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحضره، أو اشتغل عنه لعارض، أو غير ذلك،
ولأن عموم «صلوا على من قال لا إله إلا الله» يدخل فيه من مات بحد.
قال: وإذا زنى الحر بالبكر جلد مائة جلدة، وغرب عاما.
ش: أراد بالبكر من لم يحصن، وإنما عبر بالبكر اتباعا للفظ الحديث، وقد حصل
اتفاق العلماء ولله الحمد على الجلد، بشهادة الكتاب والسنة بذلك، وجمهورهم
أيضا على القول بالتغريب، لحديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
المتقدم.
3118 - وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
قالا: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
جالس، فقال: يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله. فقال الخصم
الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قل» ، قال: إن ابني كان عسيفا على
هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني
(6/277)
الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة،
فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على
امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى
ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت
فارجمها» فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجمت» ، أخرجه الجماعة. والدلالة منه من وجهين:
(أحدهما) - وهو العمدة - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وعلى
ابنك جلد مائة وتغريب عام» .
(والثاني) : قوله: سألت أهل العلم، وأهل العلم هم جلة الصحابة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا يدل على أن هذا كان معروفا مشهورا عندهم، وقد
تأكد قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بفعله.
3119 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب وغرب» ، وأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - ضرب وغرب، وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب، رواه
النسائي. لكن قال النسائي: الصواب في هذا الحديث أن أبا بكر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، وليس فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ودعوى أن هذا زيادة على
(6/278)
النص، وهو {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}
[النور: 2] الآية، والزيادة على النص نسخ، والكتاب لا ينسخ بالسنة - ممنوع؛
أما (أولا) : فلأن النص ليس فيه تعرض لنفي التغريب إلا من جهة المفهوم،
والحنفي لا يقول به، وبالاتفاق متى عارض المفهوم نص قدم عليه.
وأما (ثانيا) : فإنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ، كما هو مقرر في
موضعه.
وأما (ثالثا) : فإنا لا نسلم أيضا أن النسخ لا يحصل بالسنة، بل يحصل
بالسنة، وإن كانت آحادا، على رواية اختارها فحل الفقهاء أبو الوفاء ابن
عقيل، والله أعلم.
قال: وكذلك المرأة.
ش: يعني أنها تجلد، ولا نزاع في ذلك، لنص الكتاب، وتغرب، وهو أيضا قول
الأكثرين ممن قال بالتغريب، ثم وعليه
(6/279)
المعول في المذهب، لعموم حديث عبادة بن
الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن ما كان حدا في حق الرجل كان حدا في
حق المرأة كسائر الحدود، واختار أبو محمد في مغنيه أنها لا تغرب، كقول
مالك، وله في كتبه الثلاثة احتمال بسقوطه إذا لم تجد محرما.
3120 - ومدركهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ؛ ولأن تغريبها بدون محرم
تضييع لها، ومعه يفضي إلى نفي من لا ذنب له، وإن كلفت بأجرته فذلك زيادة
على عقوبتها بما لم يرد الشرع به.
(تنبيه) : شرط التغريب أن يكون إلى مسافة القصر في الجملة، إذ ما دونها في
حكم المقيم، قال أبو محمد: ويحتمل كلام أحمد في رواية الأثرم أنه لا يشترط
ذلك، لقوله: ينفى من عمله إلى عمل غيره. ولا تفريع على هذا، أما على المذهب
فالرجل ينفى إلى مسافة القصر بلا ريب، وكذلك المرأة إذا كان معها محرمها،
ومع تعذره هل تنفى إلى مسافة القصر لما تقدم، أو إلى ما دونها، لحديث: «لا
تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ؟ على روايتين، هذه طريقة القاضي في
(6/280)
الروايتين، وأبي محمد في المغني، وجعل أبو
الخطاب في الهداية الروايتين فيها مطلقا، سواء نفيت مع محرمها أو بدونه،
وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع، وعكس أبو البركات طريقة المغني،
فجعل الروايتين فيها فيما إذا نفيت مع محرمها، أما بدونه فإلى ما دونها
قولا واحدا، كما اقتضاه كلامه.
قال: وإذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة، ولم يغربا.
3121 - ش: أما جلدهما فلما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها،
ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» » ، متفق عليه.
3122 - وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «خطب علي بن أبي طالب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم،
من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - زنت، فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت
إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: «أحسنت اتركها حتى
(6/281)
تماثل» » رواه مسلم وأبو داود والترمذي،
لكن قال فيه: «وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» جعله من لفظ الرسول،
والعبد في معنى الأمة، وبهذين يضعف دليل خطاب {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:
25] .
3123 - على أنه نقل عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد
بالإحصان الإسلام. وأما كونه خمسين جلدة، فلقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]
(6/282)
والعذاب الذي في كتاب الله هو جلد مائة
جلدة، ولهذا عرفه.
3124 - وعن عبد الله بن عياش قال: أمرني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أن أجلد ولائد للإمارة، أنا وفتية من قريش خمسين خمسين في الزنا.
أخرجه مالك في الموطأ.
3125 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أرسلني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمة له سوداء زنت، لأجلدها الحد، قال:
فوجدتها في دمها، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فأخبرته بذلك، فقال لي: «إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين» ، رواه عبد
الله بن أحمد في المسند.
وأما كون ذلك بلا تغريب؛ فلأن ما تقدم جميعه ليس فيه تغريب، ولو وجب لذكر،
وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والعذاب كما تقدم والله أعلم المراد
به الذي في الكتاب، ولا تغريب فيه، ثم إن التغريب في حق العبد في الحقيقة
عقوبة لسيده دونه، لما يفوته من خدمته، وما يحتاجه
(6/283)
من حفظه ونفقته، والعبد غريب أينما كان،
والعقوبة لا تشرع على غير الزاني، والله أعلم.
[الموضع الذي يجب فيه الحد في الزنا]
قال: والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر.
ش: مقصود الخرقي بهذا والله أعلم، أن الموضع الذي يجب فيه الحد في القبل
يجب فيه في الدبر، فلا فرق بين القبل والدبر، وذلك لأنه فرج مشتهى طبعا،
محرم شرعا، فأشبه القبل، ولأن الله تعالى قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية، ثم بين النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بقوله: «قد جعل الله لهن سبيلا» الحديث،
والفاحشة تشمل الوطء في القبل والدبر، وقد سمى الله الوطء في الدبر فاحشة
فقال لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] أي: الوطء في دبر
الرجل، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى تعريف الزاني الذي
يترتب عليه الحد السابق بما ذكره.
وفي قوله (الفاحشة) إشعار بأن شرط الإتيان في القبل أو الدبر أن يكون حراما
محضا، فيخرج بالأول الوطء الحلال، ووطء الشبهة، كمن وطئ امرأته في دبرها أو
أمته الوثنية، أو أمة لبيت المال وهو حر مسلم، أو من ظنها زوجته، أو بنكاح
(6/284)
باطل اعتقد صحته، أو لم يعلم بالتحريم لقرب
عهده بالإسلام ونحو ذلك، وقد تضعف الشبهة فيجري الخلاف، كمن وطئ أمته وهي
مزوجة، أو مؤبدة التحريم، أو أمة والده، مع علمه بالتحريم، أو وطئ في نكاح
أو ملك مختلف في صحته مع علمه بالتحريم، ونحو ذلك، وبيان ذلك وشرحه على ما
ينبغي له محل آخر، إلا أنه لا بد أن يطأ بفرج أصلي، في فرج أصلي، وأن يغيب
الحشفة أو قدرها، فلو جامع الخنثى بذكره، أو جامع في قبله فلا حد، وقد فهم
من كلام الخرقي أنه لا حد بالإتيان دون الفرج، ولا بإتيان المرأة المرأة،
وهو كذلك والله أعلم.
[حكم اللواط]
قال: ومن تلوط قتل بكرا كان أو ثيبا، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى،
حكمه حكم الزاني.
ش: (الرواية الأولى) اختيار الشريف.
3126 - لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من
وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه الخمسة إلا
النسائي، قال الترمذي: وكذا روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(6/285)
وهو شامل للبكر والثيب، لكن الحديث من
رواية عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-، وقد اختلف في عمرو بن أبي عمرو، فعن ابن معين ومالك: تضعيفه، وعن أحمد
وأبي حاتم وغيرهما: ليس به بأس.
3127 - ورواه أبو أحمد ابن عدي من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة عن ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ولفظه: «في الذي يعمل عمل قوم لوط، وفي الذي يؤتي في نفسه، وفي
الذي يقع على ذات محرم، وفي الذي يأتي
(6/286)
البهيمة يقتل» ، وقد اختلف أيضا في
الاحتجاج بعباد بن منصور.
3128 - وقد روى أبو أحمد أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يعمل عمل قوم
لوط فارجموه الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعا» لكنه ضعفه، وبالجملة هذه
الأحاديث يقوي بعضها بعضا، إذ ليس فيها متهم بكذب وسوء الحفظ يزول
بتتابعها، مع أن الجارحين لم يبينوا سبب الجرح، وقد قال يحيى بن سعيد: عباد
بن منصور ثقة، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، وهذا يدل على أن
تضعيفهم له كان بسبب خطئه في رأيه، ويقوي الحديث عمل راويه عليه.
(6/287)
3129 - فعن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في البكر يؤخذ على اللوطية يرجم. رواه
أبو داود، ثم عمل الصحابة على ذلك.
3130 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن عليا أحرقهما، وأبا
بكر هدم عليهما حائطا، ذكر ذلك أبو السعادات في جامع الأصول، ولذلك احتج
أحمد بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقيل: إن الصحابة أجمعوا على
قتله، وإنما اختلفوا في صفته.
(ووجه الرواية الثانية) أنه فاحشة، فكان كالفاحشة بين الرجل والمرأة.
3131 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى
الرجل الرجل فهما زانيان» ، وإذا كان زنا دخل في عموم الآية، والأخبار
السابقة والأحاديث السابقة لم تثبت.
(6/288)
وقول الخرقي: بكرا كان أو ثيبا، أي محصنا
كان أو غير محصن، وإنما أراد لفظ حديث عبادة، والله أعلم.
[إتيان البهيمة]
قال: ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية ابن منصور، واختيار الخرقي، وأبي بكر، لأنه أتى
محرما لا حد فيه ولا كفارة، وذلك مقتضى للتأيب.
وقوله: وأحسن أدبه، أي يبالغ فيه لشدة تحريمه، إذ قد اختلف في قتل فاعل
ذلك، وورد فيه ما يدل على ذلك، وذلك يقتضي المبالغة في تحريمه، وإنما لم
يحد لأن الحديث الذي ورد فيه قد تكلم فيه، وقياسه على الوطء في فرج المرأة
متعذر، إذ ليس بمقصود، يحتاج في الزجر عنه إلى حد، بل يكتفى بالباعث
الطبعي، إذ النفوس الشريفة بل وغيرها تنفر من ذلك.
(ونقل عنه) حنبل: يحد حد الزاني، كذا حكى القاضي في روايتيه، والشيخان
وغيرهما يحكون الرواية: أن حده حد اللوطي، يعني هل يرجم مطلقا، أو يحد
(6/289)
حد الزاني، وهذه اختيار القاضي والشيرازي،
وأبي الخطاب والشريف في خلافيهما.
3132 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها»
رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وراويه عمرو بن أبي عمرو راوي حديث: «من
وجدتموه يعمل عمل قوم لوط» الحديث، فهذا لازم للقائل ثم بالقتل.
3133 - إلا أنه هنا قد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه
قال: ليس على الذي يأتي البهيمة حد، رواه أبو داود والترمذي، وذلك يوهن
روايتيه مع ما فيهما، والله أعلم.
(6/290)
قال: وقتلت البهيمة.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وبه قطع أبو الخطاب في الهداية،
وأبو محمد في الكافي، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، لما تقدم من
الحديث، وهو وإن تكلم فيه فذلك لا يبلغ اطراحه بالكلية، بل هو صالح لأن
يؤثر شبهة في درء الحد الذي يندرئ بالشبهة، ولا يؤثر في غيره لعدم درئه
بالشبهة.
(والرواية الثانية) : لا تقتل، لأن المعتمد في ذلك على الحديث، والحديث لم
يثبت، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان
لغير مأكلة، فيدخل في عمومه،
(6/291)
وظاهر كلام أبي البركات، أن قتلها لا يشرع
على هذه الرواية، وعن أبي بكر أنه توسط فقال: الاختيار قتلها، وإن تركها
فلا بأس، (ومحل هاتين الروايتين) إذا قلنا بتعزير الفاعل، أما إذا قلنا
بحده حد اللوطي؛ فإنها تقتل بلا نزاع، كذا ذكره أبو البركات وهو واضح، لأنا
إذا اعتمدنا على الحديث، وهو أخص من النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة،
وكلام الخرقي يشمل المملوكة والمأكولة وغيرهما، وهو كذلك ولم يتعرض الخرقي
- رَحِمَهُ اللَّهُ - لأكلها إن كانت مأكولة، وأحمد كره ذلك، فخرج لأصحابه
فيه وجهان:
(أحدهما) - ويحتمله كلام الخرقي -: الجواز، لعموم: {أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وغير ذلك.
(والثاني) - وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وقطع به الشريف وأبو الخطاب
في خلافيهما، وشيخهما في الجامع، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي -:
المنع، لأنه حيوان مأمور بقتله، وكل ما أمر بقتله لا يجوز أكله، كما هو
مقرر في موضعه، ولعل الخلاف في ذلك مبني على علة قتلها، فقيل: لئلا يعير
فاعلها لذكره برؤيتها.
3134 - فروى ابن بطة بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» قالوا: يا رسول
الله
(6/292)
ما بال البهيمة؟ قال: «لئلا يقال هذه وهذه»
، وقيل: لئلا تلد خلقا مشوها، وبه علل ابن عقيل، وعلى هذين يباح الأكل،
وقيل القتل لئلا تؤكل.
3135 - «قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما ذكر الحديث: ما
شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في ذلك شيئا، ولكن أراه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها، وقد
فعل بها ذلك» . . رواه أبو داود والترمذي، واعلم أن محل الخلاف حيث شرعنا
قتلها، أما إن لم نشرعه فلا ريب في جواز أكلها، والله أعلم.
[ما يثبت به حد الزنا]
قال: والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات، وهو بالغ صحيح
عاقل، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، أو يشهد عليه أربعة رجال من
أحرار المسلمين عدول، يصفون الزنا.
ش: ملخص ذلك أن الحد لا يجب إلا بأحد شيئين؛ إقرار أو بينة، فإن ثبت بإقرار
اشترط أن يقر أربع مرات، فلو أقر دونها لم يجب الحد.
(6/293)
3136 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «أتى رجل من أسلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إن الآخر قد زنى، يعني
نفسه، فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال له ذلك، فأعرض،
فتنحى الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه، فقال: «أهو به جنون» ؟
قال: لا، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به
فارجموه» متفق عليه.
3137 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا، فأعرض عنه، حتى شهد
على نفسه أربع شهادات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أبك جنون» ؟ قال: لا، قال: «أحصنت» ؟ قال: نعم، فأمر به فرجم» . . رواه
أبو داود والترمذي والنسائي. وظاهر هذا: أن الحكم مرتب على الأربعة، وقد
جاء أصرح من هذا.
3138 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء ماعز إلى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا مرتين، فطرده،
ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: «شهدت على نفسك أربع مرات، فاذهبوا به
فارجموه» .
(6/294)
3139 - وعن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه
قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له
أبي: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بما
صنعت، لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه فقال:
يا رسول الله إني زنيت، فأقم علي كتاب الله؛ حتى قالها أربع مرات، قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك قد قلتها أربع مرات فبمن» ؟
قال: بفلانة. قال: «هل ضاجعتها» ؟ قال: نعم، قال: «هل باشرتها» ؟ قال: نعم،
قال: «هل جامعتها» ؟ قال: نعم، قال: فأمر به أن يرجم» ، وذكر الحديث. . .
رواهما أبو داود، وهذا ظاهر وصريح في أن الأربع علة في ترتب الحكم عليها.
3140 - وفي المسند «أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له
بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك إن اعترفت
الرابعة رجمك؛ وقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنيس:
«واغد يا أنيس إلى
(6/295)
امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ونحو ذلك
واقعة عين، إذ يحتمل أنه أحاله على ما عرفه من شرط الاعتراف، وكذلك قول عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرجم حق على من أحصن، إذا قامت البينة، أو كان
الحبل أو الاعتراف، يرجع إلى الاعتراف المعهود كالبينة، وشرط اعتبار
الإقرار أن يكون من مكلف، وهو العاقل البالغ، فلو أقر المجنون أو الصبي فلا
عبرة بإقرارهما، إذ لا حكم لكلامهما، وقد رفع القلم عنهما.
3141 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «رفع القلم
عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى
يبرأ» رواه أبو داود.
3142 - وفي الحديث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال لماعز: «أبك جنون» ؟ قال: لا، وفي رواية في الصحيح أنه سأل قومه:
«أتعلمون بعقله بأسا، تنكرون منه شيئا» ؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل،
من صالحينا فيما نرى» ، انتهى.
(6/296)
ومما في معنى المجنون من زال عقله بنوم، أو
إغماء، أو شرب دواء، أو سكر، هذا ظاهر كلام الخرقي، وأقره عليه أبو محمد،
وجزم بذلك.
ومقتضى كلام أبي البركات: جريان الخلاف فيه، وفي بعض نسخ الخرقي: وهو صحيح
بالغ عاقل، وعلى ذلك شرح القاضي وأبو محمد، وفسر القاضي ذلك بحقيقته، وهو
الصحة من المرض، فلا يجب على مريض في حال مرضه، وإن وجب عليه أقيم عليه بما
يؤمن به تلفه، وهذا فيه نظر، فإن الحد إما أن يجب ويؤخر استيفاؤه إلى حين
صحته، أو يجب ويستوفى منه على حسب حاله، فعلى كل حال ليس الصحة شرطا
للوجوب، قاله أبو محمد.
ويحتمل أن يريد بالصحيح الذي يتصور منه الوطء، فلو أقر بالزنا من لا يتصور
منه الوطء؛ كالمجبوب، فلا حد عليه، وهو كالذي قبله، لأن هذا فهم من قوله:
عاقل.
(قلت) : ويحتمل أن يريد بالصحيح الناطق فلا يقبل إقرار الأخرس، لأنه إن لم
تفهم إشارته فواضح، وإن فهمت فهي محتملة، وذلك شبهة تدرأ الحد، وهذا احتمال
لأبي محمد، والذي قطع به القاضي الصحة، ويحتمل أن يريد بالصحة الاختيار،
وأراد الصحة المعنوية فلا يصح إقرار المكره، ولا نزاع في ذلك. واعلم أنه
يشترط في الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة.
3143 - وفي قصة ماعز «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال له: «أنكتها» ؟ قال: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «حتى غاب ذلك منك في
(6/297)
ذلك منها» ؟ قال: نعم، قال: «كما يغيب
الميل في المكحلة والرشاء في البئر» ؟ قال: نعم، قال: «هل تدري ما الزنا» ؟
قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا» . . رواه أبو
داود.
3144 - وفي الصحيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قال: لما أتى
ماعز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «لعلك قبلت أو
غمزت أو نظرت» ؟ قال: لا يا رسول الله، قال: «أنكتها» ؟ قال: لا يكني، قال:
نعم، فعند ذلك أمر برجمه» ، انتهى.
ولا يعتبر أن يكون في مجالس، لأن أكثر الأحاديث ليس فيها تعريض لذلك،
ويعتبر في استقرار الإقرار دوامه، أن لا ينزع عنه حتى يتم عليه الحد،
وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، انتهى.
وإن ثبت الزنا بالبينة اعتبر أن يكون أربعة، وهذا إجماع في الجملة والحمد
لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}
[النساء: 15] الآية، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} [النور: 4] ،
(6/298)
وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
3145 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن سعد بن عبادة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلا، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم» رواه مسلم ومالك في
الموطأ. اهـ.
ويعتبر في الأربعة شروط: (أحدها) : أن يكونوا رجالا، فلا يقبل فهم امرأة،
ولا خنثى مشكل بحال، لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكرين، فظاهره الاكتفاء
بأربعة، فلو أقمنا المرأتين مقام الرجل خرجنا عن ظاهر الآية لاشتراط خمسة.
(الثاني) : أن يكونوا من المسلمين، فلا تقبل شهادة أهل الذمة، كما لا تقبل
روايتهم، ولا أخبارهم الدينية.
وسواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي، ولا عبرة برواية حنبل في قبول
(6/299)
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض.
(الثالث) : أن يكونوا أحرارا، فلا تقبل شهادة العبد، للاختلاف في شهادته في
سائر الحقوق، وذلك يؤثر شبهة في عدم قبوله في الحد، لاندرائه بالشبهة.
(وعن أحمد) لا يشترط ذلك، ولعله أظهر، لدخوله في عامة النصوص. (الرابع) :
أن يكونوا عدولا، فلا تقبل شهادة فاسق، كما لا يقبل خبره، وكبقية الشهادات
بطريق الأولى. وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية، ولا مستور
الحال، وإن قبلناه في الأموال، احتياطا لهذا الباب وتضييقا له.
(الخامس) : أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأيناه غيب ذكره في حشفته أو قدرها في
فرجها؛ لما تقدم عن ماعز، وإذا اعتبر ذلك في الإقرار ففي البينة أولى.
3146 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت اليهود برجل وامرأة
منهم زنيا، فقال: «ائتوني بأعلم رجل منكم» فأتوه بابني صوريا فنشدهما: «كيف
تجدان أمر هذين في التوراة» ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم
رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال: «فما يمنعكم أن
ترجموهما» ؟ قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ فدعا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(6/300)
بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره
في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - برجمهما» . . رواه أبو داود.
وهل يعتبر مع ذلك أن يذكروا (المكان) لاحتمال الاختلاف، فتكون شهادة أحدهم
على غير الفعل الذي شهد به الآخر، (والمزني بها) لاحتمال الاختلاف في
إباحتها، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لماعز:
«فبمن» ؟ وهو اختيار القاضي، أو لا يعتبر ذلك، كما لا يعتبر في الإقرار،
ولهذا لم يذكر المكان في قصة اليهود، ولا المزني بها في أكثر الأحاديث،
وهذا اختيار ابن حامد؟ على وجهين، وأجراهما أبو البركات في الزمان والمكان،
وهو واضح، وكلام أبي محمد يقتضي أنه لا يشترط ذكر الزمان بلا خلاف.
(السادس) : أن يشهدوا كلهم في مجلس واحد، ذكره الخرقي في غير هذا الموضع،
فقال: إن جاء الأربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم، قبلت
شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة، وعليهم الحد.
3147 - وذلك لما روي أن أبا بكرة ونافعا، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المغيرة بن شعبة بالزنا، ولم يشهد
(6/301)
زياد، فحد الثلاثة، ولو لم يشترط المجلس لم
يحدهم، لجواز أن يكملوا أربعة في مجلس آخر، وفيه نظر، لأن قرينة حالهم
تقتضي أنه لا رابع لهم إلا زياد، ولا يشترط مجيئهم جملة، بل شهادتهم في
مجلس واحد، وفي قصة المغيرة أن أبا بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال
لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرأيت لو جاء آخر فشهد أكنت ترجمه؟ قال
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إي، والذي لا إله إلا هو، والذي نفسي بيده،
والله أعلم.
[الرجوع عن الإقرار بالزنا]
قال: ولو رجم بإقراره، فرجع قبل أن يقتل كف عنه، وكذلك إن رجع بعد أن جلد،
وقبل كمال الحد خلي عنه.
3148 - ش: لأن في الصحيح وفي السنن من رواية أبي هريرة ونعيم بن هزال
وغيرهم: «أن ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وجد مس الحجارة
(6/302)
فر، وفي رواية: خرج يشتد، فضرب حتى مات،
وذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا
تركتموه» وفي هذا تحضيض على تركه، وفي رواية: «لعله أن يتوب فيتوب الله
عليه» ، وفي هذا دليل على تركه وقبول رجوعه.
3149 - وفي حديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو
رجعا بعد اعترافهما، أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما
رجمهما عند الرابعة. . رواه أبو داود. ولأن ذلك شبهة، والحد يدرأ بها، ولأن
الإقرار أحد بينتي الحد، فسقط بالرجوع، كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد.
إذا تقرر هذا فصفة الرجوع عن الإقرار أن يقول: كذبت في إقراري، أو لم أفعل
ما أقررت به، ونحو ذلك، فإذا يجب الكف عنه، ومتى قتل ضمن والحال هذه، لزوال
إقراره صريحا، فكأنه لم يقر وضمانه بالدية فقط، للاختلاف في صحة رجوعه،
وذلك شبهة دارئة للقصاص، ولو هرب، أو قال:
(6/303)
ردوني إلى الإمام ونحو ذلك ترك أيضا، لكن
متى قتل والحال هذه فلا ضمان على قاتله؛ لأن ذلك ليس بصريح في رجوعه، ولذلك
والله أعلم لم يضمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا من
قتله.
وقول الخرقي: ولو رجم بإقراره، فيه أشعاره بأنه لو رجم بالبينة ثم رجع أو
هرب لم يسمع منه، وهو كذلك بالإجماع فيما أظن، والله أعلم.
[تكرار الزنا هل يوجب تكرار الحد]
قال: ومن زنا مرارا ولم يحد فحد واحد.
ش: حكى ذلك ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم، في مسألتي المنطوق
والمفهوم، ولأن قوله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] يشمل من زنى مرة،
ومن زنى مرارا، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الأمة: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها» ، يقتضي أن من زنا بعد أن حد
يحد ثانيا.
[تحاكم أهل الذمة إلينا في الزنا]
قال: وإذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بما حكم الله عز وجل علينا
به.
ش: أما الحكم عليهم بما حكم الله علينا به؛ فلا ريب فيه،
(6/304)
قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] {وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] ، وقال تعالى: {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
[المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] .
وهل الحكم بينهم (على طريق الوجوب) ، ويحتمله كلام الخرقي، للآية الأولى،
(أو على طريقة التخيير) وهو المشهور، للآية الثانية، إذ صدرها: {فَإِنْ
جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]
وكالمستأمنين، (أو إن اتحدت ملتهم خير) ؛ لأن الآية وردت في اليهود، وملتهم
واحدة، وإن اختلفت وجب، كما لو تحاكموا مع مسلم، (أو يخير للآية) إلا أن
يتظالموا في حقوق الآدميين، فيجب دفعا للظلم الواجب دفعه على كل أحد، لا
سيما على الحكام المنتصبين لذلك، وهو مختار أبي البركات؟ على أربع روايات،
وهل يحكم آن ويعدى آن خبرناه بطلب أحدهما، أو لا بد من اتفاقهما
كالمستأمنين؟ على روايتين، والله أعلم.
[حد القذف]
قال: وإذا قذف بالغ عاقل حرا مسلما أو حرة مسلمة
(6/305)
بالزنا، جلد الحد ثمانين جلدة إن طالب
المقذوف، ولم تكن للقاذف بينة.
ش: القذف محرم بالإجماع، للأذى الحاصل به المأمور بانتفائه شرعا، وقد نص
الله تعالى ورسوله على القذف بالزنا، لتأكد تحريمه، قال سبحانه:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقال
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [النور: 23] .
3150 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع
الموبقات» قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل
النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف،
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه.
ويجب الحد بالقذف بالزنا بالإجماع، للآية الكريمة، ووجوبه بشروط أربعة:
اثنان منها في القاذف، واثنان في المقذوف؛ فأما اللذان في القاذف:
(فأحدهما) : أن يكون مكلفا، وهو العاقل البالغ، إذ غيرهما لا يتعلق به حكم
خطابي، لرفع القلم عنه، فلا حد على مجنون، ولا مبرسم، ولا نائم، ولا سكران،
على ظاهر كلامه، وعموم كلام غيره
(6/306)
يقتضي أنه على الروايتين، ولا على صبي.
(الثاني) : أن لا يكون له بينة بما قاله على المقذوف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية، شرط
سبحانه للجلد عدم البينة، وفي معنى البينة الإقرار من المقذوف، فإن كان
القاذف زوجا اشترط شرط ثالث، وهو عدم لعانه، فإن لاعن فلا حد عليه، لقوله
سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية.
وأما الاثنان اللذان في المقذوف: (فأحدهما) : أن يكون محصنا، والمحصن هنا
فسره الأصحاب بالحر المسلم العاقل، العفيف عن الزنا، الذي يجامع مثله، وفي
اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان، وكذلك في اشتراط بلوغه روايتان، وهذا
قد يؤخذ من كلام الخرقي مفرقا، فالحرية والإسلام نص عليهما هنا، والعفة عن
الزنا تؤخذ من الشرط الثاني في القاذف.
وكونه يجامع مثله يذكره بعد، واقتصاره على ذلك يفهم منه أنه لا يشترط
البلوغ، والعقل يؤخذ من نفيه الحد عن قاذف الطفل، والسلامة من وطء الشبهة
لا يشترطها، وبيان ذلك، أما الحرية والإسلام، فلأن العبد والكافر حرمتهما
ناقصة، فلا ينتهض لإيجاب الحد، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة،
وغيرهما ليس في معناهما، وأما العقل فلأن غير العاقل لا يعير بالزنا، لعدم
تكليفه، والحد إنما
(6/307)
وجب دفعا للعار عن المقذوف، وأما العفة عن
الزنا؛ فلأن غير العفيف لا يشينه القذف، والحد إنما وجب من أجل ذلك، وقد
أسقط الله تعالى الحد عن القاذف إذا كانت له بينة بما قال، وأما كونه مثله
يجامع؛ فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف، لتحقق كذب القاذف، والقذف إنما وجب
لذلك، وأقل من يجامع مثله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكرا، أو تسع سنين إن
كان أنثى، كذا ذكر أبو محمد تبعا لظاهر كلام الخرقي.
وأما اشتراط البلوغ على رواية قيل: إنها مخرجة، وليست بمنصوصة. فلأن غير
البالغ غير مكلف أشبه المجنون.
وأما عدم اشتراطه على أخرى - وهو مقتضى كلام الخرقي، وقطع بها القاضي
والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة - فلأن
ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه. ويعير بذلك، ولهذا جعل
عيبا في الرقيق، وأشبه البالغ.
وأما اشتراط السلامة من وطء الشبهة وعدمه، فلعل مبنى ذلك على أن وطء الشبهة
هل يوصف بالتحريم أم لا، وقد تقدم عن القاضي أنه وصفه بالتحريم، وأن ظاهر
كلام الخرقي وجماعة عدم وصفه بذلك، وكذلك ظاهر كلام جماعة هنا أنه لا يشترط
السلامة من ذلك.
(تنبيه) : ظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط العدالة، بل لو كان المقذوف
فاسقا لشرب خمر ونحوه أو لبدعة، ولم
(6/308)
يعرف بالزنا، فإن الحد يجب بقذفه، وقال
الشيرازي: لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة.
(الشرط الثاني) : في المقذوف مطالبته بالقذف، لأنه حق له، فلا يستوفى بدون
طلبه كبقية حقوقه.
وهذا سواء قلنا: إنه للقاذف محض حق له، كما هو المنصوص، والمختار للأصحاب،
أو قلنا: هو حق الله تعالى، وليست بالبينة، لأنه أذى للآدمي فيه حق، قطعا
للأذى الحاصل له، مع أن مقتضى كلام أبي البركات نفي الخلاف رأسا، والقطع
بأنه حق للآدمي، وهو الصواب، وبيان ذلك له محل آخر، وتعتبر استدامة الطلب
إلى إقامة الحد، فلو طالب ثم عفى عن الحد سقط، على المذهب وعلى الرواية
المحكية بأنه حق لله تعالى لا يسقط بالعفو.
(تنبيهان) : أحدهما: إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم حتى يبلغ ويطالب،
لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ، وليس لوليه المطالبة، حذارا من فوات التشفي،
ولو قذف غائبا اعتبر قدومه وطلبه، إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته، فيقام
على المذهب، وقيل: لا، لاحتمال عفوه، ولو قذف عاقلا فجن أو أغمي عليه قبل
الطلب، لم يقم حتى يفيق ويطالب، فإن
(6/309)
كان قد طالب ثم جن أو أغمي عليه جازت
إقامته.
(الثاني) : يستثنى مما تقدم الوالد لا يحد بقذف ولده، والله أعلم.
قال: وإن كان القاذف عبدا أو أمة جلد أربعين، بدون السوط الذي يجلد به
الحر.
ش: الإجماع على وجوب الحد على العبد بقذف المحصن، لشمول الآية الكريمة له،
ثم مقدار الحد إن كان القاذف حرا ثمانون للآية الكريمة، وإن كان القاذف
عبدا فأربعون، جعلا له على النصف من الحر، لأن ذلك مما يتبعض.
3151 - وقد قال أبو الزناد: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية ثمانين،
قال أبو الزناد: فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك، فقال: أدركت عمر
بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء هلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في
فرية أكثر من أربعين. . رواه مالك في الموطأ.
3152 - وقال سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: حضرت عمر
بن عبد العزيز جلد عبدا في فرية ثمانين، فأنكر ذلك من حضره من الناس
والفقهاء، وهذا كنقل الإجماع
(6/310)
من الصحابة، والإنكار على من خالفهم، وهو
يخص عموم الآية، وإن كان القاذف نصفه حرا فبحساب ذلك، على ظاهر كلام أحمد،
لأن ذلك مما يتبعض، وقيل: هو كالعبد، لأن الإجماع إنما انعقد على الثمانين
في الحر، فيبقى فيما عداه على أصل براءة الذمة، ولو قيل بالعكس لاتجه،
لشمول الآية الكريمة للجميع، خرج منه العبد لأقوال الصحابة، فما عداه على
العموم.
واشترط الخرقي أن يكون جلد العبد بسوط دون الذي يجلد به الحر، تخفيفا للصفة
كما خفف في القدر، ولأبي محمد احتمال بتساويهما، وهو ظاهر كلام جماعة من
الأصحاب، لأنه على النصف، ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة.
قال: وإذا قال له: يا لوطي، سئل عما أراد، فإذا قال: أردت أنك من قوم لوط،
فلا شيء عليه، وإن قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، فهو كمن قذف بالزنا.
ش: إذا قال له: يا لوطي، فعند الخرقي - وهو إحدى الروايتين عن أحمد -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن هذا ليس بصريح في القذف،
(6/311)
لاحتماله له ولغيره، إذ يحتمل أنه منهم أي
ينسب إليهم. وإذا احتمل واحتمل، والحد يدرأ بالشبهة، مع أن الأصل براءة
الذمة، لم يحكم بأنه صريح، وعند ذلك يسأل عما أراد، فإن فسره بما لا يوجب
الحد، كما إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، أي تنسب إليهم، فلا حد عليه، لأنه
فسر كلامه بما يحتمله مما لا يوجب حدا، وإن فسره بما يوجب الحد، كما إذا
قال: أردت أنك تأتي الذكران؛ وجب الحد عندنا بلا ريب، لوجوب حد الزنا على
فاعل ذلك كما تقدم، وهذا هو الضابط، وهو أن كل ما وجب حد الزنا بفعله، وجب
الحد بالقذف به، وما لا، فلا، ومن ثم خرج الخلاف إذا قذفه بإتيان بهيمة،
انتهى.
وكذلك إن فسره بما يشمل الوطء
(6/312)
وغيره، كقوله: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط؛
لأن من أشهر أعمالهم إتيان الذكران.
(وعن أحمد) لا يقبل تفسيره في حال الغضب، لأن القرينة تكذبه، والمنصوص عن
أحمد في رواية الجماعة - وعليه عامة الأصحاب - أن ذلك صريح في القذف، فلا
يقبل قوله بما يحيله، لأن هذا اللفظ إذا أطلق لا يكاد يفهم منه إلا إتيان
الذكران، وإرادة الانتساب إلى قوم لوط بعيدة جدا؛ إذ الظاهر أو القطع بأنهم
لم يبق منهم أحد، والاحتمال البعيد وجوده كعدمه، ومن ثم بعد الشيخان قول
الخرقي، فعلى هذا إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الذكران،
فهل يقبل منه، نظرا إلى أنه من باب إطلاق العام، وإرادة الخاص، وهو سائغ
كثيرا، أو لا يقبل، لمخالفته الظاهر؟ فيه وجهان.
أما على قول الخرقي فيقبل منه بطريق الأولى، لأنه إذا قبل منه صرف اللفظ عن
مقتضاه عرفا، فلأن يقبل منه إطلاق العام وإرادة الخاص أولى، هذا هو
التحقيق، تبعا لأبي البركات. وأبو محمد في مغنيه يبني الوجهين على روايتي
الصراحة وعدمها، فإن قلنا صريح لم يقبل، وإلا قبل، والله أعلم.
قال: وكذلك من قال يا معفوج.
ش: هذا التشبيه (يحتمل) أن يرجع إلى أصل المسألة السابقة، فعلى هذا إن فسره
بما لا يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك معفوج دون الفرج ونحوه، قبل منه
عند الخرقي، ولم يقبل منه عند غيره، وعلى هذا جرى الشيخان.
(6/313)
(ويحتمل) أن يرجع إلى قوله: فهو كمن قذف
بالزنا، فيجب الحد، ولا يقبل التفسير. ولعله أظهر، إذ المعفوج مفعول من عفج
بمعنى نكح، فهو بمعنى منكوح أي موطوء.
(تنبيه) : قد أخذ من كلام الخرقي في هذه المسألة، وفي التي قبلها أن الحد
لا يجب إلا بلفظ صريح، كقوله: يا زاني، أو يأتي باللفظ الحقيقي في الجماع،
أما الألفاظ المحتملة كقوله لامرأة: يا قحبة، أو لرجل: يا مخنث، أو يقول
لعربي: يا نبطي، يا فارسي، أو يعرض بالزنا، كأن يقول لمن يخاصمه: ما أنت
بزان، ما يعرفك الناس بالزنا، يا حلال ابن الحلال، ونحو ذلك، فلا يجب به
الحد، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، وأبي محمد.
(والثانية) : يجب الحد بجميع ذلك في الجملة، وهي اختيار القاضي، وكثير من
أصحابه في التعريض، وتحقيق الروايتين وتوجيههما له محل آخر، والله أعلم.
قال: ولو قذف رجل فلم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف، لم يزل الحد عن
القاذف.
(6/314)
ش: نظرا إلى أن شرط وجوب الحد وهو الإحصان
قد وجد، فلا عبرة بما يطرأ بعده، وصار هذا كما لو سرق عينا ثم ملكها، ونحو
ذلك، وفي قوله: فلم يقم عليه الحد حتى زنى إشعار بأنه لو ثبت أنه كان زنى
قبل القذف أن الحد يزول عن القاذف، وهو كذلك، لتبين زوال شرط الوجوب، والله
أعلم.
قال: ومن قذف عبدا أو مشركا، أو مسلما له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون
تسع سنين؛ أدب ولم يحد.
ش: قد تقدم أن من شرط وجوب الحد إسلام المقذوف، وحريته، وكونه يجامع مثله،
أو بالغ على ما تقدم، مع العقل، والعفة عن الزنا، والسلامة من وطء الشبهة
على وجهيه، فمتى عدم واحد من هذه انتفى الوجوب، وإذا يؤدب زجرا عن عرض
المعصوم، وكفا له عن أذاه.
(وعن أحمد) : لا يؤدب لقذف كافر، والأول المذهب بلا ريب، ولا عبرة بإيراد
ابن حمدان في الكبرى المذهب الثاني، جعل الأول قويلا، (وعن أحمد) في أم
الولد إذا كان لها ولد يحد قاذفها، وبه قطع الشيرازي، وقيل: يحد العبد بقذف
العبد، ولا عمل على ذلك.
(6/315)
(تنبيه) : لا يحد والد لقذف ولده، نص عليه
في رواية ابن منصور وأبي طالب، وهل يؤدب؟ لفظه في رواية ابن منصور: لا يحد،
فيحتمل أنه يؤدب، ولفظه في رواية أبي طالب: ليس عليه شيء، لا يؤخذ لابن من
أبيه حد، فيحتمل أنه لا يؤدب، وهو أظهر، وهل حكم الأم حكم الأب؟ فيه وجهان،
أصحهما - وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي، وابن البنا - أن حكمها حكمه،
وحكم الجد والجدة، وإن علوا حكم الأب، قاله ابن البنا والله أعلم.
قال: ومن قذف من كان مشركا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك؛ لم يلتفت إلى
قوله، وحد إذا طالب المقذوف.
ش: نظرا إلى الحالة الراهنة، وهو إذا مسلم، فيدخل في الآية الكريمة، ولو
كان قال: زنيت وأنت مشرك، فهل يحد أو لا يحد؟ على روايتين، أصحهما وأنصهما
الثاني، وعليها إذا قال: أردت قذفي في الحال، فأنكره، فهل يحد، وهو اختيار
القاضي، أو لا يحد، وهو اختيار أبي الخطاب؟ فيه وجهان، وأبو محمد يحكي
الروايتين فيما إذا قال: زنيت في شركك، ولعل مدرك ذلك أنه وصل قوله بما
يبطله، ومدرك الأول أن الواو هل هي للحال أو عاطفة؟ وقوله: إذا طالب
المقذوف، زيادة إيضاح، وإلا لا بد من شروط الوجوب في كل موضع، والله أعلم.
قال: وكذلك من كان عبدا.
ش: أي إذا قذفه بعد أن أعتق وقال: أردت أنه زنى وهو عبد.
(6/316)
لم يلتفت إلى قوله، كالمسألة السابقة،
لأنهما متساويان معنى، فتساويا حكما، والله أعلم.
[الحد في قذف الملاعنة]
قال: ويحد من قذف الملاعنة.
ش: لأن لعانها لم يثبت زناها، فإحصانها باق.
3153 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الملاعنة أن لا ترمى، ولا يرمى ولدها، ومن
رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» ، رواه أبو داود، والله أعلم.
قال: وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إن كانت الأم في حال الحياة.
ش: لأن الحق لها، فلا يطالب به غيرها، ولا فرق بين أن يتعذر الطلب منها
لجنونها ونحو ذلك، أو لا يتعذر، لما فيه من فوات التشفي المقصود قطعا.
وقول الخرقي: إذا كانت الأم في حال الحياة، مفهومه أن للولد المطالبة إذا
ماتت الأم، وهذا بشرط أن تطالب الأم على المذهب المنصوص، وعلى تخريج لا
يشترط الطلب، واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال، وإلا جامع
المسألة بأن الحي ليس لوارثه المطالبة بموجب قذفه في
(6/317)
حياته، وله ذلك بعد مماته بشرطه، ثم من
يرثه هل هم جميع الورثة، وهو ظاهر كلام أبي محمد، وبه قطع القاضي في خلافه
فيما أظن، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور، أو يختص به من سوى الزوجين،
وهو قول القاضي في موضع آخر، أو تختص به العصبة؟ على ثلاثة أقوال، والله
أعلم.
قال: وإذا قذفت أمه وهي ميتة، مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، حد القاذف
إذا طالب الابن وكان حرا مسلما.
ش: دفعا للحقوق العار بالابن، فإنه والحال هذه يلحقه العار، بخلاف ما إذا
كانت الأم في الحياة، فإن معظم العار لاحق بها، وقول الخرقي: وهي ميتة،
مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، إذا طالب الابن، وكان حرا مسلما؛ تنبيه
على أن شرط الوجوب من الإحصان والمطالبة إنما يشترطان في الولد نظرا إلى أن
القذف في الحقيقة كأنه له، لا في الأم.
(تنبيه) : جعل أبو البركات ذكر الخرقي الأم هنا على سبيل المثال، فقال: إن
حد قذف الميت يثبت لجميع الورثة حتى الزوجين؛ نص عليه، وقال في موضع: يختص
به من سواهما، وقيل تختص به العصبة، وأبو محمد عدى ذلك
(6/318)
إلى الأمهات بطريق القياس، معللا بالقدح في
النسب كالمسألة قبل، وحكى فيمن يرث قذف الميت الأقوال الثلاثة في القذف
الموروث، والقاضي في الجامع الصغير قطع بأن الوارث هنا جميع الورثة، وأبو
محمد والشيرازي وابن البنا اقتصروا على الأم، معللين بالقدح في النسب،
واقتصر على ذلك.
ولا خلاف عنده أنه لو كان المقذوف جده أو أخاه ونحوهما من الأقارب عدا
الأمهات أن الحد لا يجب، لانتفاء القدح في النسب والأقوال التي ذكرها أبو
البركات جارية عنده في القذف الموروث، والمنصوص والله أعلم إنما هو فيه،
فإن القاضي في تعليقه جزم فيه بأنه لجميع الورثة، معتمدا على قول أحمد في
رواية ابن منصور في رجل قذف يهودية أو نصرانية، ولها ولد مسلم، أو زوج
مسلم، يقام عليه الحد. قال: فقد جعل للزوج حقا فيه. اهـ.
وأبو محمد يوافق في هذه الصورة أنه لجميع الورثة على ظاهر كلامه، والله
أعلم.
[قذف أم النبي]
قال: ومن قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل، مسلما كان أو كافرا.
ش: لأن ذلك قدح في نسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعريض
لسبه وتنقيصه، وذلك موجب للقتل لما تقدم، وقوله: قتل؛ ظاهره، ولا يستتاب،
وهو إحدى الروايتين، وهو المذهب، وقد تقدم ذلك، وكذلك الروايتان فيما إذا
أسلم الكافر هل يسقط عنه
(6/319)
القتل أم لا، والخلاف في سقوط القتل، أما
توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة بلا ريب، والله أعلم.
[قذف الجماعة بكلمة واحدة]
قال: ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد
واحد إذا طالبوه، أو واحد منهم.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، نظرا إلى أن الحد إنما وجب بإدخال المعرة
على المقذوف بقذفه، وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف في قوله، ولأن الذين
شهدوا على المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تضمن قولهم قذف امرأة، ولم
يحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا حدا واحدا.
(وعن أحمد) : لكل واحد حد، نظرا إلى أن كل واحد مقذوف، والبراءة من المقذوف
بحد كامل.
(والرواية الثالثة) : إن طلبوا جملة فحد واحد وإلا فحدود، لأنهم إذا
اجتمعوا على طلبه وقع الحد للجميع، بخلاف ما إذا تفرقوا، فإن طلب أحدهم لا
يكون طلبا من الآخر، ولا مسقطا لحقه، وعلى المذهب: الحق واجب لهم على سبيل
البدل، فأيهم طلب به استوفى، ولم يكن لغيره الطلب، وإن أسقط أحدهم فلغيره
طلبه واستيفائه، لأن المعرة عنه لم تزل.
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قذف الجماعة بكلمات أن لكل واحد حدا، وهو
المذهب المشهور من الروايتين، لأن ظهور كذبه في أحد اللفظين لا يدل على
كذبه في اللفظ
(6/320)
الآخر، وبهذا فارق ما إذا كان بكلمة واحدة،
ولأنها حقوق لآدميين، فلم تتداخل كالديون.
(والرواية الثانية) : إن طلبوا جملة فحد واحد، لوقوع الحد إذا لهم
كالأيمان، وإلا فحدود، والله أعلم.
[إقامة الحد في الحرم]
قال: ومن أتى حدا خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج
من الحرم، فيقام عليه الحد.
ش: من حل دمه بقصاص أو ردة، أو غير ذلك، أو وجب عليه حد لسرقة، أو شرب خمرة
ونحوه، ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه ذلك فيه، ولكن لا يبايع، ولا
يشارى، ولا يطعم ولا يسقى، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه؛ هذا هو المشهور
من الروايتين عن الإمام أحمد، والمختار لأصحابه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] أي: الحرم، وهو خبر بمعنى الأمر، أي
آمنوا من دخل الحرم، أو خبر عما استقر في حكم الشرع.
3154 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم
مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها
دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن
لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد
الغائب» متفق عليه.
وفي لفظ: «وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت إلى حرمتها، فلا يسفك فيها
(6/321)
دم» . والحجة فيه من وجهين: (أحدهما) : أنه
حرم سفك الدم بها وأطلق، وتخصيص مكة بذلك يدل على أن الدم الحلال مراد، وهو
المراد، إذ سفك الدم الحرام لا يختص بمكة، مع أن اللفظ الآخر نكرة في سياق
النفي، فيعم كل دم.
(الثاني) قوله: وإنما حلت لي ساعة من نهار، والذي أحل له سفك دم حلال، منع
منه الحرم وأحل له، ثم عادت الحرمة، وبهذا تتقيد إطلاقات قطع السارق، وجلد
الزاني، ونحو ذلك، وما وقع في الحديث من قوله: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا،
ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» ، هو من قول عمرو بن سعيد الأشدق، يدفع به
الحديث المتقدم، وقوله هو المدفوع.
(والرواية الثانية) : يجوز استيفاء كل شيء ما عدا القتل، لأن الحديث إنما
صرح فيه بسفك الدم، وغير النفس لا يقاس عليها، لعظم النفس، والمذهب الأول،
وعليه لا يبايع ولا يشارى، ولا يطعم ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله
(6/322)
واخرج، ليؤخذ منك الحق الذي عليك، ليكون
ذلك وسيلة إلى استيفاء ما عليه، إذ لا يجوز تركه بالكلية.
3155 - وتبعا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال ذلك، رواه
عنه الأثرم، إذا تقرر هذا فالخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما نص على الحد؛
لأنه إذا منع في الحد، فالقتل، وقطع الطريق بطريق الأولى، أو يقال: كلها
حدود، لأن الله تعالى حدها وشرعها.
(تنبيه) : إذا استوفي منه في الحرم وقع الموقع مع الإساءة.
قال: وإن قتل أو أتى حدا في الحرم، أقيم عليه الحد في الحرم.
ش: لأنه لما انتهك حرمة الحرم انتهكت حرمته، وقد قال الله تعالى: {وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] إلى قوله: {الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194] .
3156 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من أحدث حدثا في الحرم
أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، رواه الأثرم.
(6/323)
(تنبيه) : التعريف في الحرم لمعهود ذهني،
وهو حرم مكة، أما حرم مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فلا يمنع من إقامة حد ولا قصاص فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(6/324)
|