شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب القطع في السرقة]
ش: وهو مشروع بشهادة النص والإجماع، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] .
3157 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» والله أعلم.

[مقدار النصاب في السرقة]
قال: وإذا سرق ربع دينار من العين، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو قيمة ثلاثة دراهم طعاما كان أو غيره، وأخرجه من الحرز قطع.
ش: لا نزاع عندنا أن القطع لا يكون إلا في نصاب، فلا قطع في القليل.
3158 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» .
وفي رواية قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» متفق عليهما. . وفي رواية قال: « «اقطعوا في ربع

(6/325)


الدينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» ، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهما. رواه أحمد، وهذا يقيد إطلاق الآية الكريمة.
3159 - ويصرف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» عن ظاهره، أن المراد بذلك ما يساوي ثلاثة دراهم.
3160 - ففي الحديث قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، وأن من الحبال ما يساوي دراهم. وهذا نقل للإجماع، أو قول قريب منه، أو أن المراد البيضة والحبل على ظاهرهما، وأن ذلك وسيلة إلى القطع، لأنه إذا سرق التافه تدرج إلى ما هو أعلى منه، إلى أن يسرق نصابا فيقطع.
واختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قدر النصاب، ولا نزاع عندنا أن الفضة أصل في القطع وفي التقويم، وأن أقل نصابها ثلاثة دراهم.
3161 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع يد السارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وفي رواية:

(6/326)


ثمنه ثلاثة دراهم» . رواه الجماعة. والأصل عدم القطع فيما دون ذلك، إذ قد علم أن إطلاق الآية الكريمة ليس بمراد.
3162 - وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: إن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم، فقومت بثلاثة دراهم، من صرف اثني عشر درهما بدينار، فقطع عثمان يده. . رواه مالك في الموطأ، وهذا ظاهر في أن التقويم حصل بهما.
واختلف عن أحمد في المذهب: هل هو أصل في القطع بنفسه؟
(فعنه) : نعم، وهو المذهب، لحديث عائشة المتقدم.
(وعنه) : لا، ولعل ذلك يحتج له برواية أحمد في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المتقدم: وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، فعلى هذه يقوم بالدراهم، فما يساوي منه ثلاثة دراهم قطع به، وإن لم يبلغ ربع الدينار، [وما لم يساو ثلاثة دراهم لم يقطع به، وإن بلغ ربع دينار] ، (وعلى المذهب) أقله ربع دينار، فلو كان دونه وساوى ثلاثة دراهم لم يقطع، لعموم حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «لا قطع إلا في ربع دينار» ، ثم على هذا هل هو

(6/327)


أصل في التقويم، وهو اختيار ابن عقيل في تذكرته، وأبي محمد في كافيه، لأنه أحد النقدين، فكان التقويم به كالأجزاء، وأن ما كان أصلا في القطع، كان أصلا في التقويم كالأجزاء، أو ليس بأصل في التقويم، وإنما الأصل الدراهم، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشيرازي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا؛ لأن التقويم في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حصل بها، وكذلك عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوم بها؟ على روايتين؛ فعلى الأولى متى بلغت قيمة المسروق أدنى النصابين قطع.
وعلى الثانية الاعتبار بالدراهم فقط؛ وسواء كان المسروق طعاما أو غيره، بعد أن يكون مالا، لما تقدم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولما سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث الثمر. وإنما يجب القطع إذا أخرج ذلك من حرز مثله.
3163 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمر المعلق، فقال: «من أصاب منه بفيه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة؛ فلا شيء عليه» . رواه الترمذي والنسائي، وأبو داود، وزاد: «ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» ، وللنسائي في رواية قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في كم تقطع اليد؟ قال: «لا تقطع في تمر معلق، فإذا ضمه

(6/328)


الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا ضمها المراح قطعت» » .
3164 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في تمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» رواه مالك في الموطأ، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القطع في التمر المعلق، وفي حريسة الجبل، لعدم الحرز فيهما، وأوجب القطع فيما ضمه الجرين أو المراح، لوجود الحرز فيهما، والأحراز تختلف باختلاف الأموال، وبيان ذلك له محل آخر.
هذا بيان كلام الخرقي مجملا، أما بيانه مفصلا فقوله: وإذا سرق، يخرج منه المنتهب والمختلس، والغاصب والخائن، فلا قطع على واحد منهم.

(6/329)


3165 - لما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» رواه الخمسة وصححه الترمذي؛ ولأن الله ورسوله إنما أوجب القطع على السارق، وهؤلاء ليسوا بسارقين، ويخرج منه أيضا جاحد العارية، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن شاقلا، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لما تقدم من أن الشارع إنما أوجب القطع على السارق، وجاحد العارية ليس بسارق، ولدخوله في الخائن، وقد أسقط عنه الشارع القطع.
(والرواية الثانية) وهي أشهرهما، وبها قطع القاضي في جامعه، وأبو الخطاب والشريف في خلافيهما، وابن البنا وغيرهم: يقطع.
3166 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل» ، ثم قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطيبا فقال:

(6/330)


«إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» رواه مسلم وغيره.
وفي رواية قالت: «استعارت امرأة - تعني حليا - على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي، فباعته، فأخذت، فأتي بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال» . . . رواه أبو داود والنسائي.
3167 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها فقطعت يدها» . . رواه أبو داود والنسائي وقال فيه: «كانت تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده، وفي رواية: كانت تستعير الحلي للناس وتمسكه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتتب هذه إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ على القوم» ثم قال: «قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها» ، وهذه الألفاظ منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو صريح في أن القطع كان لجحد العارية، وتسميتها

(6/331)


سارقة في الصحيح؛ دليل على أن جاحد العارية يسمى سارقا، والاعتبار بالتسمية الشرعية. اهـ.
ويخرج من كلامه أيضا الطرار، وهو الذي يبط الجيب أو غيره، ويأخذ منه، وهذا أيضا إحدى الروايتين.
(والثانية) : يقطع، وإليها ميل أبي محمد، وبني القاضي في روايتيه الخلاف على أن الجيب والكم هل هما حرز مطلقا، أو بشرط أن يقبض على كمه، ويزر جيبه، ونحو ذلك.
وقوله: ربع دينار من العين، أو ثلاثة دراهم من الورق؛ ظاهره أن يكون ذلك خالصا من الغش، أما إن كان فيه غش، فلا قطع حتى يبلغ ما فيه نصابا، وهل يكفي وزن التبر منهما، أو تعتبر قيمته بالمضروب؟ فيه وجهان، المذهب منهما الأول.
وقوله: أو قيمة ثلاثة دراهم، قد تقدم أن من مذهب الخرقي أن الذهب أصل في القطع، وليس بأصل في التقويم، ثم إن أبا محمد قال: إذا قومنا بذلك قومنا بالمضروب، لأن الإطلاق إنما ينصرف إليها دون المكسرة.
وقوله: طعاما كان أو غيره. قد تقدم أنه يشترط أن يكون مالا، ليخرج الحر، ولا نزاع في ذلك في غير النائم والمجنون، أما فيهما فروايتان، ويدخل في ذلك العبد، بشرط أن يكون صغيرا أو نائما، أو مجنونا، أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره.

(6/332)


وقد استثني من ذلك ما لا يتمول عادة كالماء ونحوه، والمحرم كالصليب ونحوه، والتابع لغيره كإناء الخمر ونحوه، على خلاف في الجميع، واستقصاء ذلك له محل آخر.
وقوله: وأخرجه من الحرز، مفهومه أنه لو أتلفه في الحرز، أو أكله أنه لا قطع عليه، وهو كذلك، نعم لو ابتلع جوهرا ونحوه وخرج به ففي القطع ثلاثة أوجه، ثالثها: إن خرج قطع وإلا فلا.
وقوله: وأخرجه، سواء أخرجه بنفسه، أو كان الإخراج ينسب إليه، كأن تركه في ماء فخرج به، أو على دابة فخرجت به، أو دفعه لمجنون فأخرجه، ونحو ذلك، ومقتضى كلامه أن الإخراج يترتب الحكم عليه، ولو ملكه بعد ذلك بهبة أو غيرها وهو كذلك.
(تنبيه) : «الخبنة» ما تحمله في حضنك، وقيل: هو ما تأخذه في خبنة ثوبك، وهو ذيله وأسفله.
«والجرين» : موضع التمر الذي يجفف فيه، مثل البيدر للحنطة.
«والمجن» : الترس.
«وحريسة الجبل» : فعيلة بمعنى مفعولة، أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع، لأنه ليس بموضع حرز.
«والمراح» بضم الميم: الموضع الذي تأوي إليه الماشية ليلا.
«والخائن» : اسم فاعل من خان، وهو يشمل الخيانة في الوديعة وفي غيرها.
«والمنتهب» : اسم فاعل من انتهب الشيء استلبه ولم يختلسه.
«والمختلس» : اسم فاعل من اختلس الشيء اختطفه. قاله ابن فارس.
«والسرقة» : فسرها أبو محمد بأنها

(6/333)


أخذ المال في وجه الخفية والاستتار، قال: ومنه استراق السمع، وقال: إن الاختلاس نوع من الخطف والنهب، وإنما المختلس يختفي في ابتداء اختلاسه، بخلاف السارق، والله أعلم.

[ما لا قطع فيه في السرقة]
قال: إلا أن يكون المسروق ثمرا أو كثرا فلا قطع فيه.
ش: الكثر جمار النخل، وهذا الاستثناء من قوله: طعاما كان أو غيره. أو من قوله: وأخرجه من الحرز، لأنه إذا كان في بستان محوط، وأخرجه منه، يتوهم أنه محرز، فلذلك استثناه، والأصل في عدم القطع بذلك حديث عمرو بن شعيب، المتقدم.
3168 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا قطع في ثمر ولا كثر» رواه الترمذي والنسائي، وأبو داود. وقد علم مما تقدم أنه لا فرق بين أن

(6/334)


يكون ذلك في بستان محوط أو غيره، واستثنى من ذلك أبو محمد ما إذا كانت النخلة أو الشجرة في دار محرزة، فسرق منها نصابا، فإن عليه القطع.
(تنبيه) : ويغرم ذلك بمثليه للخبر، ثم إن بعض الأصحاب اقتصر على ذلك.
وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم عدوا ذلك إلى الماشية تسرق من المرعى، إذا لم تكن محرزة، واقتصروا على ذلك، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب في حريسة الجبل، وكذلك الحديث الذي في الموطأ، وأن أبا بكر عدى ذلك إلى كل ما سرق من غير حرز، أنه يغرم بمثليه.
وحكى أبو البركات ذلك نصا، قياسا على ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب.

(6/335)


3169 - وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أراك تجيعهم، ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم؛ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أعطه ثمان مائة درهم. . . رواه مالك في الموطأ، واحتج به أحمد، فأوجب غرامة مثليها، لما أسقط القطع، ومقتضى هذا الحديث، وكذلك مقتضى حديث عمرو بن شعيب أن المسروق متى فات القطع فيه، إما لعدم حرزه، أو عدم بلوغه نصابا، أو لشبهة ونحو ذلك؛ أنه يغرم بمثليه، وهذا مقتضى احتجاج أحمد، وإذا يتلخص في المسألة أربعة أقوال، هل يختص غرامة المثلين بالثمر والكثر، أو بهما وبالماشية، أو بكل ما سرق من غير حرز، أو يتعدى ذلك لكل ما سقط فيه القطع، وهو أظهر، ثم هل يجب مع غرامة المثلين تعزير؟ أوجبه ابن عقيل في تذكرته، وأكثر الأصحاب لم يذكروا ذلك.

(6/336)


[محل القطع وكيفيته في السرقة]
قال: وابتداء قطع يد السارق أن تقطع يده اليمنى.
3170 - ش: لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3171 - وفي الموطأ عن القاسم بن محمد أن رجلا من اليمن أقطع اليد والرجل قدم المدينة، فنزل على أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه وقطع يده، وكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنه بيت حليا لأسماء بنت عميس، فافتقدوه، فجعل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل دويرة الرجل الصالح، ثم وجدوا الحلي عند صائغ، فزعم أن الأقطع جاء به، فاعترف الأقطع أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقطعت شماله، فقال أبو بكر: والله إن دعاءه على نفسه أشد عندي من سرقته، وهذا يدل على أن عادتهم كان البداءة باليمين.
3172 - وفي قراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وهذا إن ثبت فهو

(6/337)


حجة عندنا على المشهور، ولأنها آلة السرقة غالبا، فناسب عقوبته بإزالتها، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك اتفاقا، والله أعلم.

قال: من مفصل الكف.
ش: حكى ذلك أبو محمد أيضا اتفاقا، ولأنه اليقين، وما زاد عليه مشكوك فيه.
3173 - وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطعه من المفصل» ، أي السارق.
قال: وتحسم.
ش: الحسم غمس اليد في زيت مغلى بعد القطع، لتشتد أفواه العروق، لئلا ينزف الدم فيموت.
3174 - والأصل فيه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق قد سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن

(6/338)


هذا قد سرق. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما إخاله سرق» فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه، ثم ائتوني به» فقطع فأتي به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «تب إلى الله» فقال: تبت إلى الله، فقال: «تاب الله عليك» رواه الدارقطني، ورواه عبد الرزاق من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا، وهل الزيت من بيت المال، أو من مال السارق؟ فيه وجهان، المجزوم به منهما عند أبي محمد أنه من بيت المال، وابن حمدان بنى على أنه احتياط له، أو من تتمة الحد.

[حكم السارق إذا عاد للسرقة بعد القطع]
قال: فإذا عاد قطعت رجله اليسرى.
ش: أما قطع رجله فلما يأتي في المسألة الآتية، مع الأمن من المحذور الذي في قطع الثالثة.
3175 - مع أن ذلك قول العامة، منهم أبو بكر وعمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وناهيك بهم.

(6/339)


3176 - وما روى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع على السارق بعد قطع يمينه» فمنقطع، مع أنه والله أعلم مخالف للإجماع، وأما كونها اليسرى فلأنه أرفق به، لتمكنه من المشي على خشبة ونحو ذلك، بخلاف ما لو قطعت اليمنى، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في المحاربين، فقال: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] والله أعلم.

(6/340)


قال: من مفصل الكعب.
ش: كما في اليد.
قال: وحسمت.
ش: لما تقدم في اليد، والله أعلم.
قال: فإن عاد حبس ولا تقطع غير يد ورجل.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي وأبي بكر، وأبي الخطاب في خلافه، وابن عقيل والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لعموم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] إلى قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] وهذا محارب لله ورسوله، فشملته الآية، وقد أشار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى ذلك.
3177 - فروى سعيد: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أتي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن تقطع رجله. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى آخر الآية، وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله، فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إنما تعزره، أو تودعه السجن، فاستودعه السجن، ولأن ذلك بمنزلة إهلاكه، فإنه لا يمكنه أن يتوضأ، ولا يغتسل، ولا يتحرز من نجاسته،

(6/341)


ولا يزيلها عنه، ولا يدفع عن نفسه، ولا يأكل ولا يبطش، وبذلك علل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3178 - فروى سعيد: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذا وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل من جنابته؟ بأي شيء يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه، فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده جلدا شديدا ثم أرسله.
(والرواية الثانية) : تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة.
3179 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسارق فقال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: «اقطعوه» فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع ثم جيء به في الثالثة فقال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع ثم أتي به الرابعة فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه» قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه

(6/342)


بالحجارة.» رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي. وروى النسائي نحو ذلك أيضا من رواية الحارث بن حاطب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك، كما تقدم عنه.
3180 - وكذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكاه عنه أحمد، واحتج به، وهما اللذان أمرنا بالاقتداء بهما، وقد أجاب أبو محمد عن الحديث بأنه في شخص استحق القتل، بدليل الأمر بقتله في أول مرة، وقد يقال على هذا بأنه إذا كان مستحق القتل، فكيف جاز تأخيره، مع أنه إذا اجتمع مع القتل غيره سقط، واستوفي القتل، فكيف قطع، والذي يظهر في الجواب عن الأمر بالقتل أن هذا مما علم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقيقة الأمر فيه، وأن أمر هذا يؤول إلى القتل ولا بد، وأنه لا يجيء منه خير، فهو كالصبي الذي قتله الخضر، الذي طبع كافرا.
3181 - وفي النسائي ما يشعر بهذا، فروى عن الحارث بن حاطب «أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق،

(6/343)


قال: «اقطعوا يده» قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا الخامسة، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم بهذا، حين قال اقتلوه، ثم دفعه إلى فتية من قريش، منهم عبد الله بن الزبير، وكان يحب الإمارة. فقال: أمروني عليكم، فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه» . اهـ.
والذي يظهر الرواية الثانية إن ثبتت الأحاديث، فإن النسائي ضعف حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، فعلى المذهب فيمنع من تعطيل منفعة الجنس، وهما اليدان والرجلان، وهل يمنع من تعطيل عضوين من شق؟ على وجهين.
(وعلى الثانية) لا أثر لذلك، فعلى هذا من سرق وهو أقطع اليد اليسرى، والرجل اليمنى، قطعت يده اليمنى على الثانية دون الأولى، لإفضائه إلى تعطيل منفعة الجنس، وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط، قطعت يمينه على

(6/344)


الثانية دون الأولى. لكن في قطع رجله اليسرى وجهان، بناء على تعطيل منفعة الشق، واستقصاء التفريع له محل آخر.
(تنبيه) : أطلق الخرقي الحبس، وتبعه الشيخ، وقال القاضي في الجامع، والشيرازي وابن البنا: يحبس حتى يحدث توبة، وقال ابن حمدان: يحبس ويعزر حتى يتوب، والله أعلم.

قال: والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء.
ش: الاتفاق في الحر والحرة بشهادة النص بذلك. قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية، ولفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه قطع سارق رداء صفوان، وقطع المخزومية، أما العبد والأمة فهو قول العامة، لعموم النص، ولما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرقيق الذين سرقوا الناقة.
3182 - وروى القاسم عن أبيه أن عبدا أقر بالسرقة عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقطعه. رواه أحمد.
3183 - وعن نافع أن عبدا لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سرق وهو آبق، فبعث به إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده، فقال سعيد: لا تقطع يد الآبق، فقال له ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ فأمر به

(6/345)


ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقطعت يده.
3184 - وكذلك قضى به عمر بن عبد العزيز أيضا، رواه مالك في الموطأ.
3185 - وقطعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يد عبد. . رواه مالك أيضا في الموطأ. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر، فكانت حجة.
ويدخل في الحر المسلم والكافر، فيقطع الذمي بسرقة مال المسلم، وكذلك يقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي. أما الحربي الذي لا أمان له فلا يقطع المسلم بالسرقة من ماله، ولا هو بسرقة مال المسلم، فإن كان له أمان قطع المسلم بسرقة ماله. وهل يقطع هو بسرقة مال المسلم؟ فيه وجهان: أصحهما:

(6/346)


يقطع.
والثاني وهو اختيار ابن حامد: لا يقطع، ويدخل في العبد العبد الآبق، وذلك لعموم ما تقدم، ويؤيده قصة ابن عمر.
3186 - أما ما رواه الدارقطني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع، ولا على الذمي» فقال: الصواب أنه موقوف، والله أعلم.
قال: ويقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها.
3187 - ش: لما روي عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد؛ فقد وجب» رواه النسائي وأبو داود.
3188 - «وعن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي، ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به ليقطع، فأتيته فقلت: تقطعه من أجل ثلاثين درهما، أنا أبيعه وأنسيه ثمنها. قال: «فهلا كان قبل أن تأتيني به» ، زاد في

(6/347)


أخرى: إني قد وهبتها له» . . رواه النسائي.
وهذا يدل على أن ملك العين المسروقة بعد الرفع إلى الحاكم لا يؤثر، بخلاف ما قبله. وكذلك قيد أبو محمد المسألة، بل وزاد: والمطالبة بها؛ وإن كان كلام الخرقي مطلقا.
وقوله: بعد إخراجها يحترز عما لو وهبت له السرقة قبل إخراجها، فإنه لا قطع قطعا، والله أعلم.

قال: ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم، فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع.
ش: اعتبارا بحال الإخراج، لأنه به كمل السبب، ولعموم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والله أعلم.

(6/348)


قال: وإذا قطع فإن كانت السرقة قائمة ردت إلى مالكها.
ش: هذا اتفاق ولله الحمد، لأنها عين ماله، ولا مقتضي لنقله عنه، والله أعلم.

[تلف الشيء المسروق]
قال: وإن كانت متلفة فعليه قيمتها، موسرا كان أو معسرا.
ش: أما إن كانت تالفة وقد قطع، فعليه مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت متقومة، كما لو أتلفها من غير سرقة، ولأن القطع والغرم حقان لمستحقين، فجاز اجتماعهما، كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المسألة فيما إذا قطع، لأن النعمان يقول: إذا كانت تالفة إذا فلا غرم عليه، وقال: موسرا كان أو معسرا، لأن مالكا يوافق النعمان في المعسر، ونحن في الموسر، والله أعلم.

[قطع النباش]
قال: وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع.
3189 - ش: يروى هذا عن عائشة وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،

(6/349)


ولأنه أخذ للمال على وجه الخفية، فدخل في مسمى السارق، وإذا يدخل في الآية الكريمة، والأحراز تختلف باختلاف الأموال، ألا ترى أن حرز الباب تركيبه في موضعه.
3189 - م - وقد روى أبو داود «عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: لبيك، فقال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت، يكون البيت فيه بالوصيف، يعني «القبر» ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «عليك بالصبر» » ، قال حماد: فبهذا قال من قال بقطع يد النباش، لأنه دخل على الميت بيته، والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا، فلو سرق لفافة رابعة من على الرجل، أو التابوت الذي هو فيه، ونحو ذلك لم يقطع، لعدم مشروعيته.
وقوله: أخرج من القبر، فلو أخرجه من اللحد فلا قطع، والله أعلم.

[القطع في سرقة المحرم كالخمر الخنزير والميتة وآلات اللهو]
قال: ولا يقطع في محرم.

(6/350)


ش: كالخمر والخنزير والميتة ونحو ذلك، لأن له سلطانا على ذلك، لإباحة الشرع إزالته، ولأنه غير مال، أشبه الحشرات، وبذلك علل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الميموني، فيمن سرق لذمي خمرا أو خنزيرا: لا يقطع، ليس لهما قيمة عندنا. اهـ.
وقد يتخرج لنا قول أن الذمي يقطع بسرقة خمر الذمي، بناء على أنها مال لهم، ولهذا قلنا بتضمينها على الذمي للذمي على تخريج، وقد يقال بعدم التخريج، لقيام الشبهة، وهو وقوع الخلاف في ذلك، وقد يدخل في كلام الخرقي إذا سرق صليبا، أو صنم ذهب ونحو ذلك، وهو قول القاضي، وخالفه تلميذه أبو الخطاب، فأوجب القطع. والله أعلم.

قال: ولا في آلة لهو.
ش: كالطنبور، والمزمار، والشبابة ونحو ذلك، وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا، لأنه آلة للمعصية بالإجماع؛ فأشبه الخمر، ولأن الشارع سلطه عليه، حيث جعل له إفساده وزواله.

(6/351)


3190 - ودليل الأصل «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكسر دنان الخمر، وشق زقاقه» ، مع أنه يمكن زوال المحرم وتبديده، وقد حرق موسى العجل، وقذفه في البحر، ولم يكتف بحرقه ودفع الحلي إلى أربابه، والله أعلم.

[القطع في سرقة الأب والأم من ولدهما]
قال: ولا يقطع الوالد فيما أخذه من مال ولده، لأنه أخذ ما له أخذه.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم، وذكر دليله، وهو أنه أخذ ما له أخذه، ومن أخذ ما له أخذه لا يقطع، لأنه أخذ مباحا له.
3191 - ودليل ذلك ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه الخمسة.

(6/352)


3192 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: «مالك لأبيك» » رواه ابن ماجه، وروى أحمد نحوه من حديث عمرو بن شعيب، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تعليله قصور، لأنه لو أخذ ما ليس له أخذه، كما إذا كان الأخذ يضر بالولد لم يقطع، ثم إن جواز الأخذ مختص بالأب الأدنى، وعدم القطع يتناول الأب وإن علا، فإذا توجيه ذلك أن له فيه شبهة، وهو وجوب نفقته أو نحو ذلك، والله أعلم.

قال: ولا تقطع الوالدة فيما أخذت من مال ولدها.
ش: لما تقدم في الأب الأعلى، ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الآخر، وكذلك أمها وإن علت، واقتصار الخرقي على الوالد والوالدة يخرج به غيرهما، ولا نزاع أن هذا المذهب في غير الابن، لظاهر الكتاب، فإن قيل: فالنفقة تجب لغير هؤلاء، فيصير له في المال شبهة، وإذا لا قطع، قيل: النفقة وإن وجبت لبعضهم لكن وجوبها لمن تقدم أقوى، ثم إن القرابة التي بينهما لا تمنع قبول الشهادة، فلا تمنع القطع، بخلاف الوالدين.
وجرى الشيرازي على مطلق الشبهة، فلم ير القطع على ذي الرحم المحرم، أما الابن فالمذهب المجزوم به عند القاضي والشيخين والشيرازي، وابن عقيل والشريف، وأبي الخطاب

(6/353)


وابن البنا أنه لا يقطع بسرقة مال أبيه وإن سفل، لأن بينهما قرابة تمنع من قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلم يقطع بماله كالأب، ولأن النفقة تجب على الأب حفظا للابن، فلا يناسب إتلافه حفظا لماله، وكلام الخرقي يوهم القطع، وهو رواية حكاها ابن حمدان، وهو مقتضى ظواهر النصوص، والله أعلم.

[حكم سرقة العبد من مال سيده]
قال: ولا العبد فيما سرق من مال سيده.
3193 - ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء رجل إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بغلام له، فقال: اقطع يده، فإنه سرق مرآة لامرأتي. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قطع عليه، هو خادمكم أخذ متاعكم. . رواه مالك في الموطأ.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، ولا يعرف لهما

(6/354)


مخالف، ولأن له فيه شبهة، وهو وجوب النفقة، والمدبر، وأم الولد، والمكاتب كالقن.

[ما يثبت به حد السرقة]
قال: ولا يقطع السارق إلا بشهادة عدلين أو إقرار مرتين.
ش: أما كونه لا يقطع إلا بشهادة عدلين فلعموم قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، أما قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فنزلت في سياق الأموال، فاقتصر على ذلك، وغير المال من النكاح والحدود ونحوهما ليس في معناه، لأن ذلك يحتاط له ما لا يحتاط للمال، ومن الاحتياط له عدم قبول المرأة، لضعف عقلها، وسرعة نسيانها، وأما قطعه بشهادتهما فللآية الكريمة أيضا، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع يد السارق تجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع، ويشترط في الشاهدين أن يكونا رجلين لما تقدم، مسلمين وإن كان السارق ذميا، حرين على المذهب، عدلين وإن قبلنا مستور الحال في الأموال، احتياطا للأموال، ويشترط مع ذلك أن يصفا السرقة والحرز، وجنس النصاب وقدره، والمسروق منه، ليزول الاختلاف في ذلك.
وأما كونه يقطع بإقرار مرتين، ولا يقطع بما دونهما.
3194 - فلما روى أبو أمية المخزومي، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص فاعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول

(6/355)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما إخالك سرقت» ؟ قال: بلى، مرتين أو ثلاثا، قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوه» » مختصر. . رواه أحمد وأبو داود، ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره.
3195 - وعن القاسم بن عبد الرحمن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين. حكاه أحمد في رواية مهنا، واحتج به؛ ولأنه حد يتضمن إتلافا، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا، قال أبو محمد: ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب، والحرز، وإخراجه منه.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين الحر والعبد، وهو المذهب بلا ريب، كبقية الحدود.
وروى مهنا عن أحمد: إذا أقر العبد أربع مرات أنه سرق قطع، وظاهر هذا اعتبار أربع مرات، ليكون على النصف من الحر.
قال: ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع.
ش: لأنه حد لله ثبت بالاعتراف، فقبل رجوعه عنه كحد

(6/356)


الزنا، وهذا بخلاف ما لو ثبتت سرقته بالبينة، فإن رجوعه لا يقبل كالزنا سواء، هذا إن شهدت البينة على الفعل، أما إن شهدت على إقراره بالسرقة ثم جحد، فقامت البينة بذلك، فهل يقطع نظرا للبينة، أو لا يقطع نظرا للإقرار؟ على روايتين حكاهما الشيرازي.
(واعلم) أن هذا الذي ذكره الخرقي من أن القطع لا يثبت إلا بإقرار مرتين، وأنه إذا رجع عن الإقرار قبل منه؛ مختص بالقطع، أما المال فيكفي في ثبوته مرة، وإذا رجع عنه لم يقبل رجوعه، والله أعلم.

[اشتراك الجماعة في السرقة]
قال: وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص، والمعنى في ذلك أن الشارع له نظر إلى حفظ الأموال كالأنفس، فكما أن في الأنفس تقتل الجماعة بالواحد سدا للذريعة، فكذلك في الأموال، واختار أبو محمد في مغنيه عدم القطع إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، لأن كل واحد لم يسرق نصابا، فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد.
3196 - ويرجح ذلك ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» رواه ابن ماجه.

(6/357)


3197 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي، وقال: وروي موقوفا وهو أصح. اهـ.
3198 - وروي نحو ذلك عن غير واحد من الصحابة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون المسروق ثقيلا، يشترك الجماعة في حمله، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءا، ونص عليه أحمد والأصحاب، لاشتراكهم في الهتك والإخراج، ولهذا أيضا قلنا: لا فرق إذا هتكا الحرز بين

(6/358)


أن يدخلا معا، أو يدخل أحدهما فيخرج بعض النصاب، ثم يدخل الآخر فيخرج باقيه، والله أعلم.

قال: ولا يقطع وإن اعترف بالسرقة أو قامت بينة، حتى يأتي مالك المسروق فيدعيه.
ش: هذا المذهب المختار للخرقي، والقاضي وأصحابه، لأن المال مما يباح بالبذل، فيحتمل أن مالكه أباحه له، أو وقفه على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه ونحو ذلك، فاعتبرت المطالبة لتزول الشبهة، ويرشح هذا ما تقدم في المسألة قبل، وقال أبو بكر في الخلاف: لا تشترط المطالبة، وهو قوي، عملا بإطلاق الآية الكريمة، وعامة الأحاديث، فإنه ليس في شيء منها اشتراط المطالبة ولا ذكرها، ولو اشترطت لبين ذلك وذكرها، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والإخلال بما الحكم متوقف عليه، وإنه لا يجوز.
(تنبيه) : وهل يفتقر إلى المطالبة في القطع بالكفن كسائر المسروقات، ويكون المطالب ورثة الميت، أو لا يفتقر، لأن

(6/359)


الطلب شرع لاحتمال كون المسروق مملوكا للسارق. وقد يئس من ذلك هنا؟ فيه احتمالان، أظهرهما الثاني. والله أعلم.

(6/360)