شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الأشربة وغيرها] [حد الشرب]
قال: ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة، إذا شربها مختارا لشربها، وهو يعلم أن كثيرها يسكر.
ش: تحريم الخمر إجماع أو كالإجماع، وقد شهد لذلك من الكتاب قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .
3206 - قال بعض المفسرين: نزل في الخمر أربع آيات، نزلت بمكة: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم «إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن ناسا منهم فشربوا وسكروا، فأم بعضهم فقرأ: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون)

(6/372)


فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه موضحة، فشكى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انتهينا يا رب» .
3207 - وفي السنن قريب من ذلك، فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] الآية، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في المائدة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: انتهينا انتهينا. رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

(6/373)


قال بعض العلماء: والتحريم في الآية من نحو عشرة أوجه، تسميتها رجسا وهو المستقذر، وجعلها من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها، وجعل الفلاح مرتبا على اجتنابها، فمن لم يجتنبها لا يفلح، وجعلها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ثم طلب الانتهاء عنها بقوله سبحانه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: جدير وحقيق أن ينتهي عن شيء جمع هذه الأوصاف.
وورد في تحريمها من السنة ما يبلغ مجموعه التواتر.
3208 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» .
3209 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» رواهما الجماعة.

(6/374)


وفي رواية لمسلم: «ومن شرب الخمر في الدنيا، ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة» .
3210 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» . قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: «صديد أهل النار» .
3211 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» رواهما أبو داود.
والأخبار في ذلك كثيرة جدا، وسيمر بك إن شاء الله تعالى طرف منها وبالغ الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تحريمها والمباعدة منها.

(6/375)


3212 - فعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اجتنبوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فلقيته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها فقالت: إنها تدعوك لشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فأسقيني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا، فقال: زيدوني. فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر. . إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه. . رواه النسائي.

(6/376)


3213 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو بني مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو نبت مكانها كلأ لم أرعه.
3214 - وما روي عن بعض الصحابة كقدامة بن مظعون، وعمرو بن معدي كرب، وأبي جندل بن سهيل، أنهم قالوا: إنها حلال تمسكا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، فتأويل منهم أخطئوا فيه، فبين لهم علماء الصحابة معنى الآية، وحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لشربها، فقيل إنهم رجعوا عن قولهم.
3215 - وقد قال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذه الآية قال: مات رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تحرم الخمر، فلما حرمت قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] .

(6/377)


3216 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالوا: يا رسول الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، رواهما الترمذي.
3217 - وفي الصحيحين من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة تحريم الخمر قال: فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] .
إذا تقرر هذا، فالاتفاق أيضا على حد شاربها في الجملة، واختلف في مقداره، وعن إمامنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك روايتان: (إحداهما) : أن مقداره ثمانون. اختارها الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم.
3218 - لما روى ثور بن زيد الديلي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار في حد الخمر، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرى أنه يجلد ثمانين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فجلد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حد الخمر ثمانين. . رواه مالك في الموطأ والدارقطني.

(6/378)


3219 - وفي الصحيح أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الناس، فقال عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخف الحدود ثمانون. فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وهذا كالإجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على الجلد ثمانين.
الرواية الثانية، وهي اختيار أبي بكر: قدره أربعون.
3220 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريد نحو أربعين. قال: وفعله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما كان

(6/379)


عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الناس، فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . متفق عليه.
3221 - وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن حضين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بالوليد قد صلى الصبح، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان؛ أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها. فقال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولّ حارها من تولى قارها؛ فكأنه وجد عليه. فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده؛ فجلده، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعد حتى بلغ أربعين. فقال: أمسك ثم قال: «جلد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» ، وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. ورواه أبو داود أيضا مختصرا قال: فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخمر» وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين، وكملها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانين، وكل سنة. وفعل كل أحد بل وقوله المخالف لفعل رسول الله -

(6/380)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملغى، واعلم أن عامة الأصحاب يحكون الروايتين كما تقدم، وأبو العباس يحكي الرواية الثانية أن الواجب أربعون، وأن الزيادة على الأربعين يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر. أو كان الشارب لا يرتدع بدونها، قال: وهذا أوجه القولين. قلت: ولا ريب أن هذا القول هو الذي يقوم عليه الدليل؛ إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب نحوا من أربعين، ولم يوقت فيه مقدارا معينا.
3222 - قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت فأجد في نفسي شيئا، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسنه، متفق عليه.
وفي رواية أبي داود: فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسن فيه شيئا، إنما هو شيء قلناه نحن.
3223 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقت في الخمر حدا» ، رواه أبو داود.

(6/381)


وإذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقت فيه قدرا معينا، وضرب نحوا من أربعين، وجب اتباع فعله، وكذلك فعل أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صدر خلافته. ولما رأى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عتو الناس وازديادهم؛ ضرب ثمانين.
3224 - قال السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإمرة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصدر من خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا، وفشوا؛ جلد ثمانين. . رواه البخاري، ووافقه الصحابة على ذلك، بل وأشاروا عليه كما تقدم.
3225 - ولما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الحدين كليهما ثمانين وأربعين كما في أبي داود، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

(6/382)


جلد أربعين، وقال: إن الكل سنة. وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه زاد فيه النفي وحلق الرأس لما كثر الشرب، مبالغة في الزجر. وهذا كله يدل على جواز الزيادة على الأربعين. اهـ.
وقول الخرقي: (ومن) ، يدخل فيه الرجل والمرأة، والحر والعبد، وسيأتي الكلام على العبد، والمسلم والكافر، ولا يخلو الكافر إما أن يكون ملتزما أو غير ملتزم، فغير الملتزم كالحربي لا حد عليه، والملتزم كالذمي والمستأمن فيه روايتان، أصحهما عند أبي محمد وأبي الخطاب في الهداية: لا حد عليه؛ لأنا صالحناهم على أن لا نتعرض لهم فيما لا ضرر علينا فيه.
(والثانية) : عليه الحد، لأنه مكلف، فجرى عليه الحد كالمسلم. وقد تنبني الروايتان على تكليفهم بالفروع، لكن المذهب ثم قطعا تكليفهم بها.
واختار أبو البركات هنا أنه إن سكر؛ حد، وإلا فلا، إناطة باعتقاده التحريم وعدمه.
وقوله (شرب) خرج على الغالب، وكذلك الحكم لو ثرد الخمر أو اصطبغ به، أو لت به سويقا، أو خلطه بطعام فأكله أو

(6/383)


استعط به، أو احتقن به، نص أحمد على أكثر ذلك، وأومأ إلى بقيتها، وكذلك إن طبخ به لحما فأكل من مرقته، قاله أبو محمد. أما إن عجن به دقيقا وخبزه فإنه لا يحد بأكله، لأن النار أكلت أجزاء الخمر، ولم يبق إلا أثره. وكذلك مختار أبي محمد في الاحتقان، كما لو داوى به جرحه، وكلامه يوهم أن ذلك رواية، ووقع في كلام أحمد أنه لو تمضمض به وجب الحد.
فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يستعط بالخمر، أو يحتقن به، أو يتمضمض أرى عليه الحد، فهم يقولون: لو أن رجلا لت سويقا بخمر، أو صب على خمر ماء كثيرا، ثم شربه؛ لم يحد، ذكر هذا النص القاضي في التعليق، وهو محمول على أن المضمضة وصلت إلى حلقه.
قال ابن حمدان في الكبرى: وكذا قيل في المضمضة به، يعني يحد. قال: وهو بعيد. اهـ.
وقوله: مسكرا قل أو كثر، يخرج به غير المسكر، وهو واضح، ويعم كل مسكر وإن قل ولم يسكر به. وهذا مذهبنا لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كل شراب أسكر فهو حرام» وحديث ابن عمر

(6/384)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» ، وحديث ابن عباس: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام» وإذا كان كل مسكر خمرا فقد دخل في آية التحريم، مع أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على تحريمه.
3226 - ودخل في وجوب الحد، بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه» ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية معاوية وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(6/385)


3227 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له المزر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أومسكر هو» ؟ قال: نعم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وإن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار» رواه مسلم والنسائي.
3228 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر آية الخمر، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت المزر؟ قال: «وما المزر» ؟ قال: حبة تصنع باليمن، قال: «تسكر» ؟ قال: نعم، قال: «كل مسكر حرام» . وفي رواية قال: «المسكر قليله وكثيره حرام» .
3229 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنهاكم عن قليل ما أسكر وكثيره» ، رواه النسائي.

(6/386)


3230 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» متفق عليه.
3231 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام» .
3232 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» . رواهما أبو داود والترمذي.
والأحاديث في الباب كثيرة، وقد صنف الإمام أحمد في ذلك كتابا كبيرا وافيا بالمقصود، وقد اختلف الناس في الحشيش: هل يحد بها، أو لا يحد؟
ومختار أبي العباس: وجوب الحد بها.

(6/387)


وقول الخرقي: وهو مختار لشربها، يعلم أن كثيرها يسكر. يعني أنه يشترط لوجوب الحد شرطان: (أحدهما) : أن يكون مختارا، فإن كان مكرها فلا حد عليه، هذا هو المذهب المعروف، والمختار من الروايتين.
3233 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» الحديث.
قال أبو محمد: وسواء أكره بالوعيد، أو بالضرب أو ألجئ إلى شربها بأن فتح فوه وصب فيه.
(والرواية الثانية) : يحد، حملا للحديث على الإكراه على الأقوال، والأفعال تؤثر ما تؤثر الأقوال، ولا نزاع أنه يجوز أن يدفع بها لقمة غص بها، إذا لم يجد مائعا سواها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
(الثاني) أن يعلم أن كثيرها يسكر، لأنه إذا لم يعلم ذلك لم يقصد ارتكاب المعصية، فهو كمن زفت إليه غير زوجته، وفي معنى ذلك من لم يعلم بالتحريم لما تقدم.
3234 - وعن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا حد إلا على من علمه. نعم مدعي ذلك إن نشأ بين المسلمين لم تقبل

(6/388)


دعواه، وإلا قبل، ولا تقبل دعوى الجهل بالحد، قاله ابن حمدان.

[موت شارب الخمر أثناء الحد]
قال: فإن مات في جلده فالحق قتله.
ش: لأنه مأذون في جلده من جهة الحق سبحانه، فإذا مات في ذلك من غير اعتداء فقتله منسوب إلى البارئ سبحانه، ولأنه حد وجب لله، فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود.
وما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شارب الخمر من قوله: لو مات وديته، محمول على التورع؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينص عليه بلفظه، وليس فيه أنه يديه من بيت المال، وقد قال هو: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلد أربعين» ، وحصل الإجماع على ذلك، فهو كبقية الحدود، ولا فرق بين أن يموت في الأربعين أو بعد الأربعين، وإن قلنا: الزيادة عليها تعزير، إذ التعزير واجب فهو كالحد.

[كيفية إقامة الحدود]
قال: ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما.
ش: هذا هو أشهر الروايتين.

(6/389)


3235 - لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لكل موضع من الجسد حظ. يعني في الحد إلا الوجه والفرج، وقال للجلاد: اضرب وأوجع، واتق الرأس والوجه، وقيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب.
(والرواية الثانية) : يضرب جالسا، لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام، واستعمل الخرقي «سائر» بمعنى جميع على قاعدته، ومراده الحدود التي فيها ضرب.
قال: بسوط.
ش: يعني أن الضرب يكون بسوط، لا بعصا ولا بغيرها، إذ الجلد إذا أطلق إنما يفهم منه الضرب بالسوط.
3236 - وقد روى زيد بن أسلم «أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: «فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: «بين هذين» فأتي بسوط قد لان وركب به فأمر به فجلد» ، وهذا بيان للجلد المأمور به في الآية الكريمة.

(6/390)


وقد دخل في كلام الخرقي حد الخمر، ولا ريب عندنا أنه يجوز الجلد فيه بالسوط لما تقدم.
3237 - وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جلد قدامة بن مظعون بسوط، ولا يتعين ذلك، بل للإمام أن يضربه بالجريد والنعال إذا رأى ذلك، لما تقدم. قاله أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات وابن حمدان. وعموم كلام الخرقي يقتضي تعين ذلك، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني، فأورده مذهبا، وهو ظاهر كلامه في الكافي، وكلام القاضي في الجامع الصغير، والشريف والشيرازي وابن عقيل وغيرهم، قالوا: يضرب بسوط. وأجاب أبو محمد عما تقدم بأنه كان في بدء الإسلام، ويرده حديث السائب بن يزيد وقد تقدم.

قال: لا جديد ولا خلق.
ش: لما تقدم عن زيد بن أسلم، ولأنه إن كان خلقا قل ألمه، وإن كان جديدا جرح، والمقصود ردعه لا قتله.
3238 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين. ومن ثم قال أحمد: لا يبدي إبطه في

(6/391)


شيء من الحدود، أي لا يبالغ في رفع يده فيبالغ في الألم، وربما قتله، وقال الأصحاب: يضرب وعليه القميص والقميصان لا الفراء ونحوها.

قال: ولا يمد ولا يربط.
ش: لأن ذلك لم ينقل عن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
3239 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ليس في ديننا مد، ولا قيد، ولا تجريد.
3240 - وفي مسلم في قصة ماعز قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له.

قال: ويتقي وجهه.
3241 - ش: لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» رواه أبو داود، واقتصر الخرقي على الوجه لهذا الحديث، وزاد غيره (الرأس) لما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (والمقاتل) حذارا من قتله، ويفرق الضرب على جميع أعضائه.

(6/392)


وهذا على رواية أنه يضرب قائما، وعلى الأخرى يضرب الظهر وما قاربه.

قال: وتضرب المرأة جالسة.
ش: لأن المرأة عورة، وجلوسها أستر لها.
3242 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما.

قال: وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف.
ش: ذكر الخرقي الحكم ودليله، وهو خشية تكشفها وهي عورة.

قال: ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر.
ش: يجلد العبد والأمة نصف جلد الحر، وذلك أربعون على اختيار الخرقي، وعشرون على اختيار أبي بكر.
3243 - لأن ابن شهاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر وكان عمر وعثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يجلدون عبيدهم في الخمر نصف حد الحر. . . رواه مالك في الموطأ،

(6/393)


ويكون سوطه دون سوط الحر، تخفيفا للصفة كما في العدد، ولأبي محمد احتمال - وهو ظاهر إطلاق جماعة - أنه كسوط الحر، لأن التنصيف إنما يتحقق إذا كان كذلك.

[حكم العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام]
قال: والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم.
ش: لا ريب أن العصير إذا غلى وقذف بالزبذ أنه حرام وإن لم تأت عليه ثلاثة أيام.
3244 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فأخذه فإذا هو ينش ويغلي فقال لي: «اضرب به الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر» رواه أبو داود والنسائي، نعم، إذا علم من شيء أنه لا يسكر فلا بأس به وإن غلى كالفقاع، إذ العلة في التحريم الإسكار، ولا إسكار فيه. ولا ريب أنه إذا لم يغل ولم يأت عليه ثلاثة أيام، أنه مباح.
3245 - لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنا ننبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سقاء غدوة فيشربه عشية، وعشية فيشربه غدوة، مختصر» . . . رواه أبو داود والترمذي

(6/394)


والنسائي، واختلف فيما إذا أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل، فمنصوص أحمد وعليه عامة أصحابه تحريمه.
3246 - لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقى الخادم، أو أمر به فصب. وفي رواية: كنا ننقع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبيب فيشربه اليوم والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر فيسقى أو يهراق» . رواه مسلم وأحمد وأبو داود، وظاهر هذا أن هذا كان دأبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعادته، لا أنه فعل ذلك في شيء، الغالب أنه يتخمر بعد ذلك.
3247 - وقد «روى الشالنجي بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل» .
»

(6/395)


3248 - وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في العصير: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث. . . حكاه أحمد. والمعنى في ذلك أن الشدة تحصل في الثلاث كثيرا، وهي خفية تحتاج إلى ضابط، فجعلت الثلاث ضابطا لها، ولم يلتفت أبو الخطاب إلا إلى الغليان، وحمل كلام أحمد على عصير الغالب أن يتخمر في الثلاث، ولأبي محمد احتمال بكراهة ذلك من غير تحريم، لأن أحمد قال في موضع: أكرهه.

[حكم النبيذ]
قال: وكذلك النبيذ.
ش: يعني أنه مباح ما لم يغل، أو يأت عليه ثلاثة أيام لما تقدم من حديث ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء.

[حكم انقلاب الخمر خلا]
قال: والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها.
ش: هذا هو المذهب المشهور المجزوم به.
3249 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: «لا» . .» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.

(6/396)


3250 - وعنه أيضا «أن أبا طلحة سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: «أهرقوها» قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: «لا» » رواه أحمد وأبو داود، فنهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التخليل، والنهي يقتضي الفساد، وأمر بإراقتها مع كونها لأيتام، ولو زال تحريمها بالتخليل لأرشده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك، حذارا من ضياع المال، لا سيما وهي لأيتام.
3251 - وقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صعد المنبر فقال: لا تحل خمر أفسدت، حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى إفسادها، ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يعتمد إفسادها، فعند ذلك يقع النهي. رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى، وهذا قاله بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر فكان إجماعا،

(6/397)


وقيل: يزول تحريمها مطلقا، لأن علة التحريم الشدة المطربة، وقد زالت فيزول التحريم، وقيل - وهو احتمال لأبي محمد - إن قصد تخليلها بنقلها من الشمس إلى الفيحاء أو بالعكس حلت لما تقدم، وإن خللت بما يلقى فيها لم تحل، لنجاسة الملقى فيها، فإذا انقلبت بقي الملقى فيها على نجاسته.

قال: وإن قلب الله تعالى عينها فصارت خلا فهي حلال.
ش: لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولزوال علة التحريم من غير فعل محرم.

[الشرب في آنية الذهب والفضة]
قال: والشرب في آنية الذهب والفضة حرام.
3252 - ش: لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليه. ولمسلم: «الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب» » .
3253 - «وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن فاستسقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة، فرماه به وقال: إني قد أمرته أن لا يسقيني فيه، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في

(6/398)


آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» متفق عليه. فنهى، والنهي يقتضي التحريم، وأخبر أن الذي يفعل هذا تجرجر النار في بطنه، أو أنه هو يجرجرها في بطنه، وعلى كليهما لا يكون ذلك إلا بفعل محرم.
(تنبيه) : «الديباج» كذا، والله أعلم.

قال: وإن كان قدح عليه ضبة فضة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس.
ش: إباحة الضبة في الجملة إجماع حكاه أبو البركات.
3254 - ويشهد له ما «روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» . . رواه البخاري، ولفظه: انصدع. وهذا يخصص حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

(6/399)


المتقدم في الآنية: «أو إناء فيه شيء من ذلك» إن صح، إلا أن البيهقي أشار للاعتراض على حديث البخاري فقال: إنه يوهم أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال: فصح بهذا السند أيضا إلى أنس وفيه: فجعلت مكان الشعب سلسلة.
3255 - «وروى أيضا عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان قد انصدع فسلسله بفضة» ، قلت: وإنما يجيء الوهم إذا ضبط الرواة (جعلت) مبنيا للفاعل، أما إن لم يضبطوا ذلك فيحتمل البناء للمفعول، وإذا لا يتعين أن يكون الفاعل هو أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الفاعل، وهذا أولى، لموافقته رواية البخاري، ثم على البناء للفاعل ليس فيه أن ذلك كان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجوز أن يكون في حياته بأمره، ثم تارة أضاف الفعل إلى نفسه لأنه الفاعل حقيقة، وتارة أضافه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمره بذلك، كما يقال: بنى الأمير المدينة، ونحو ذلك.

(6/400)


وعاصم فيه كلام، ثم قوله: فسلسله ليس فيه أن ذلك بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجوز أن يكون في حياته، وأضاف الفعل إليه كما تقدم، وبالجملة الإجماع فيه كفاية، على أنا نقول بحجية قول الصحابي، وتخصيصه للعموم. إذا تقرر هذا، فظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بضبة الفضة، وهو المذهب المنصوص اتباعا لقضية النص. (وعن أبي بكر) جواز اليسيرة من الذهب لحاجة. وظاهر كلامه أيضا أنه يشترط أن لا يباشر الضبة بالاستعمال، ولا يشرب من موضعها، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار ابن عقيل، وابن عبدوس، إذ الأصل التحريم تبعا للنص، ثم أبيح ما تدعو الحاجة إليه، فما عداه يبقى على الأصل، وقيل: يكره ذلك من غير تحريم.

(6/401)


وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، وابن البنا، وصاحب التلخيص، وأبو محمد في الكافي والمغني، ولابن تميم احتمال بالإباحة، ويحتمله كلام القاضي في تعليقه، وأبي البركات في محرره، وطائفة لسكوتهم عن ذلك. ومحل الخلاف إذا لم يحتج إلى المباشرة، أما إن احتاج إلى ذلك كلحس الطعام والشراب إذا كانت في موضعه فيباح. واختلف في شرطين آخرين (أحدهما) هل يشترط في الضبة أن تكون يسيرة، وهو المذهب، لأنها إذا تابعة في حكم العدم، أو لا يشترط، بل تجوز الكبيرة للحاجة إناطة بها - وهو اختيار ابن عقيل؟ على قولين.
(الثاني) هل يشترط أن تكون مع قلتها للحاجة، وهو المنصوص، قاله أبو البركات، وقطع به أبو الخطاب في هدايته، وابن البنا، وصاحب التلخيص فيه، قصرا للحكم على مورد الأثر، أو لا يشترط، وجزم به جماعة، نظرا لاغتفار اليسير مطلقا كما تقدم؟ على قولين، ثم على الثاني هل تكره والحال هذه، وبه جزم القاضي في تعليقه، ويحتمله كلام أحمد في رواية أحمد بن نصر، وجعفر بن محمد، قال: لا بأس بالضبة، وأكره الحلقة، أو تباح، وبه قطع ابن عقيل، والشيرازي؟ على قولين أيضا. وكلام الخرقي محتمل في الشرطين، لكن لا نعرف قائلا بجواز الكبيرة لغير حاجة بل ملخص الشرطين أن الكبيرة لغير

(6/402)


حاجة لا تباح، واليسيرة لحاجة تباح، وفي الكبيرة لحاجة واليسيرة لغير حاجة قولان.
(تنبيه) : المراد بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة، سواء كانت من حديد أو فضة، أو نحاس أو غير ذلك، لا أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذه ضرورة يباح معها الذهب ولو مفردا، كما لو احتاج إلى اتخاذ أنف من ذهب ونحو ذلك، والله أعلم.

[التعزير]
[تعريف التعزير ومقداره]
قال: ولا يبلغ بالتعزير الحد.
ش: أصل التعزير في اللغة المنع، فقوله تعالى؛ {وَعَزَّرُوهُ} [الأعراف: 157] أي منعوا أعداءه من الظفر به. وقول القائل: عزرت فلانا، إذا ضربته في معصية، أي منعته بضربي إياه من معاودة مثل ذنبه. وقال السعدي: عزرته، أي أدبته، وعزرته وقرته، فهو من الأضداد، وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، كالوطء دون الفرج، وسرقة ما لا قطع فيه، والجناية على الناس في أموالهم أو في أبدانهم بما لا قصاص فيه. . . ونحو ذلك.

(6/403)


3256 - سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قول الرجل للرجل: يا فاسق يا خبيث، قال: هن فواحش فيهن تعزير، وليس فيهن حد. ولا يشرع فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس في شارب الخمر، وفيما إذا أتى حدا في الحرم، فإن بعض الأصحاب قال: إن حده يغلظ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك. وكذلك نص أحمد، وقاله جماعة من الأصحاب فيمن شرب الخمر في رمضان: يغلظ حده، وهل يشرع فيما فيه كفارة، كالظهار، وقتل شبه العمد ونحوهما؟ فيه وجهان. إذا تقرر هذا فلا تقدير لأقل التعزير، بل هو على قدر ما يراه الإمام، إلا في وطء جارية زوجته التي أحلتها له، فإنه لا ينقص عن مائة، بل ولا يزاد عليها للنص، ويختلف باختلاف الأشخاص والأجرام، ولا يتعين الضرب فيه، بل يجوز بالحبس والإحراق إلا في وطء جارية زوجته.

(6/404)


قال في الكافي: والجارية المشتركة، ولا يجوز بقطع الطرف والجرح، وأخذ المال. قاله أبو محمد. وجوز أبو العباس التعزير بقطع الخير، والعزل عن الولايات.
3257 - مستندا لعزل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعض نوابه لما بلغه عنه أنه تمثل بأبيات في العقار.
3258 - وعنه أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه عزر فيه بالنفي وحلق الرأس، واختلف في أعلاه، فروى جماعة عن أحمد أنه لا يزاد فيه على عشر جلدات.
3259 - اعتمادا على حديث أبي بردة هانئ بن نيار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله عز وجل» ، وفي لفظ: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله تعالى» رواه البخاري، وهذا عام في كل عقوبة، خرج منه بالاستثناء حدود الله تعالى. والمتيقن من ذلك الحدود المقدرة الطرفين، فما عداها يبقى على العموم. وحكى أبو الخطاب (رواية أخرى) أنه لا يزاد على تسع جلدات، ولا يظهر لي وجهها، ونقل جماعة عن أحمد في

(6/405)


الرجل يطأ جارية بينه وبين شريكه: يجلد مائة إلا سوطا.
3260 - قال: كذا قال سعيد بن المسيب، قال الراوي: وذهب إلى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونص أيضا فيما إذا وطئ جارية زوجته وقد أحلتها له أنه يجلد مائة.
3261 - لحديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رفع إليه رجل غشي جارية زوجته، فقال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن كانت لم تحلها لك رجمتك. رواه الخمسة، فاستثنى القاضي في الروايتين هاتين الصورتين. وقال: المذهب عندي أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في هاتين الصورتين، لقضية النص. وقال: هو في خلافه، وعامة أصحابه وغيرهم: إنه يؤخذ من هذا أن كل ما كان سببه الوطء كوطء الجارية المشتركة والمزوجة، والمحرمة برضاع، ووطء الأجنبية دون الفرج،

(6/406)


وإذا كان مع امرأة في لحاف، ووطء الأب جارية ابنه، ووطء البهيمة حيث قيل بالتعزير فيهما: يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات، ما لم يبلغ به الحد في ذلك الجنس، فيجوز أن يضرب الحر مائة، ولا ينفي، وبعضهم يقول مائة إلا سوطا، أو مائة بلا نفي. وبعض الأصحاب اعتمد نص أحمد كما تقدم، ففي المشتركة مائة إلا سوطا، وفي أمة الزوجة مائة، ونص أيضا فيما إذا وطئ دون الفرج أنه يضرب مائة.
3262 - وقد نقل عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف يضربان مائة، وفرع أبو البركات على هذا في أن العبد يضرب خمسين إلا سوطا، قال ابن حمدان: وقيل خمسون، ومن قال بهذا وهم الأكثرون قالوا: إن في ما عدا الوطء يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات، ولا يبلغ به أدنى الحدود.
3263 - أخذا بما روى صالح قال: حدثني أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن أبي مروان أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب النجاشي ثمانين، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: هذا لتجريك على الله، وإفطارك في رمضان. قال

(6/407)


أبي: أذهب إليه، وظاهر كلام الخرقي أن جميع التعزيرات يجوز أن يزاد فيها على العشر، ولا يبلغ به أدنى الحدود، كذا فهم عنه القاضي وغيره. ثم أكثر الأصحاب يقولون: لا يبلغ بالحر أدنى حده وهو الأربعون أو الثمانون، ولا بالعبد أدنى حده، وهو عشرون أو أربعون. وقيل: لا يبلغ بكليهما حد العبد. وقال أبو محمد: إن كلام أحمد في وطء الأمة المشتركة ونحوها، وكلام الخرقي يحتمل أن لا يبلغ بالتعزير في الذنب حد جنسه، ويجوز أن يزيد على حد جنس آخر، وإلى هذا ميل أبي العباس، وهو أقعد من جهة الدليل.
3264 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ من بيت المال، فضربه مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة، وهذا كله دون حد جنسه وهو القطع، وحديث النعمان لم يبلغ به الحد

(6/408)


في جنسه، لأن حد واطئ جارية امرأته الرجم لإحصانه. وكذلك قصة عمر والخلفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الأمة المشتركة، وفيمن وجد مع امرأة في لحاف، ويحمل حديث أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن أحدا لا يؤدب فوق عشرة أسواط، والتأديبات تكون في غير محرم، وقوله: «إلا في حد من حدود الله تعالى» فالمراد به في المحرمات التي حرمها الله سبحانه، كما في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وذلك يشمل الحدود المقدرة وغيرها، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

[الصيال]
[حكم دفع الصائل]
قال: وإذا حمل عليه جمل صائل، فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه، فضربه فقتله فلا ضمان عليه.
ش: إذا صالت عليه بهيمة فلم يقدر على التخلص منها إلا بضربها، فله ذلك إجماعا، ولا ضمان عليه، لأنه حيوان جاز إتلافه، فلم يضمنه كالآدمي المكلف، ولأنه قتله لدفع شره، فأشبه العبد، وفارق المضطر إلى طعام الغير، حيث يضمنه فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته.

قال: ولو دخل رجل منزله بسلاح، فأمره بالخروج فلم يفعل، فله ضربه بأسهل ما يخرجه به، فإن علم أنه يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة.
ش: إذا دخل رجل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل

(6/409)


أمره بالخروج، لتعديه بالدخول، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الآية.
3265 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي، قال: «فأنشده بالله» قال: فإن أبوا علي؟ قال: «فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار» رواه النسائي. فإن خرج بالأمر لم يكن له ضربه لظاهر الحديث، ولزوال تعديه وإن لم يخرج بالأمر فله ضربه، دفعا للضرر الحاصل له بتسليط الغير عليه. وللحديث، ويضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به، لأن الزائد لا حاجة به إليه، إذ المقصود الدفع، ولهذا قلنا في البغاة لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، وقد أشار في الحديث إلى هذا حيث أمر بالإنشاد أولا، ويتفرع على هذا أنه إذا علم أنه يندفع بعصا لم يجز أن يضربه بحديدة، وكذلك لو غلب على ظنه أنه يندفع بقطع بعض أعضائه لم يكن له قتله، فلو قتله والحال هذه ضمنه، وكذلك لو ضربه فقطع يده فولى، لم يكن له ضربه ثانيا، فإن فعل فقطع رجله ضمنها فقط، وعلى هذا.

(6/410)


3266 - وقد يستشكل هذا بالحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . والأمر باللسان أسهل على المنكر عليه من التغيير باليد بكسر أو إتلاف ونحو ذلك.
3267 - وقد روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى لصا فأصلت عليه السيف، قال: فلو تركناه لقتله. وحمل أبو محمد فعل ابن عمر على قصد الترهيب، وقد يحمل على أنه خشي إن لم يبادره بذلك بادره اللص بالقتل. وفي هذه الصورة يجوز بدأته بالقتل.
(تنبيه) الخرقي ذكر الحكم فيما إذا كان مع الداخل سلاح، وأبو محمد قال في المغني: وإن لم يكن معه سلاح، ولعل كلام الخرقي أصوب إذ المسألة مفروضة عند كثير من الأصحاب فيمن دخل متلصصا أو صائلا، والغالب من حال هذين أن معهما سلاحا، أما إن دخل إنسان على غير هاتين الحالتين، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجرى

(6/411)


عليه هذا الحكم. نعم يؤمر بالخروج قطعا، فإن لم يخرج فينبغي أن يخرج بالشرط ونحو ذلك.

قال: فإن آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه.
ش: يعني إذا آل الضرب إلى نفس الداخل فلا شيء على الضارب، لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي.
3268 - وقد روي أن رجلا أضاف إنسانا من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر، فقتلته فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لا يودى أبدا.
3269 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السابق في رواية مسلم قال: «يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» .
»

(6/412)


قال: وإن قتل صاحب الدار كان شهيدا.
ش: لأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل يقتله الباغي، ولحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3270 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. . .
3271 - وقد روي من حديث بريدة رواه النسائي، ومن حديث

(6/413)


سعيد بن زيد رواه الترمذي، وأبو داود والنسائي، ولفظه: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» .

[ضمان جناية الدواب وما أفسدته من الزروع]
قال: وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها، وما أفسدت من ذلك نهارا لم يضمنوه.
ش: كذا قال جماعة من الأصحاب، منهم القاضي في الجامع الصغير، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم.
3272 - لما «روى حرام بن محيصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. قال ابن عبد البر: هذا وإن كان مرسلا فهو مشهور، حدث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء

(6/414)


الحجاز بالقبول. ولأن عادة أهل المواشي إرسالها نهارا، وحفظها ليلا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا لا ليلا، فإذا أتلفت ليلا فالتفريط من أهلها لتركهم حفظها، وإن أتلفت نهارا فالتفريط من أرباب الحوائط، لعدم حفظها، ومن التفريط منه الغرم عليه. وحكى أبو البركات رواية، وأوردها مذهبا، وقطع بها أبو الحسين في فروعه، أن الضمان إنما يجب على أرباب البهائم في الليل إذا لم يحفظوها عن الخروج فيه، لتفريطهم إذا، بخلاف ما إذا حفظوها فأفسدت، كما إذا انفلتت من الربط، أو سقط الحائط أو فتح اللص الباب ونحو ذلك، فخرجت فأفسدت فلا ضمان، لانتفاء التفريط ولعموم «العجماء

(6/415)


جبار» نعم في صورة ما إذا فتح الباب لص ونحوه الضمان على الفاتح، قاله في الكافي، واستثنى أبو البركات من عدم الضمان في النهار ما إذا أرسلت عمدا بقرب ما تفسده عادة، لقصد التعدي والحال هذه، ونحو هذا قول القاضي في موضع قال: المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعٍ، أما القرى العامرة التي لا يرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق، وطرق زرع، فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظ عن الزرع، فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على الزرع، فقد يوهم كلامه أن غير الزرع لا ضمان فيه على أربابها مطلقا، وصرح بذلك أبو محمد.
3273 - مستندا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار» ، ولم يفرق القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وأبو البركات وغيرهم بين الزرع، وغيره، ويرشحه حديث ناقة البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن الحوائط البساتين.
(تنبيه) : «العجماء» الدابة، «والجبار» الهدر الذي لا شيء فيه.

(6/416)


قال: وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال، وكذلك إن قادها أو ساقها.
ش: لإمكان حفظها والحال هذه عن الجناية، فإذا لم يحفظها الراكب أو السائق أو القائد فقد فرط، والمفرط عليه الضمان.
3274 - وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرجل جبار» رواه أبو داود، فمفهومه أن غير الرجل ليس بجبار، فيحمل على ما إذا كان معها راكب أو سائق أو قائد، وتحمل روايته في الصحيحين: «العجماء جرحها جبار» ، على ما إذا لم يكن معها أحد، وحكم ما أتلفته بفمها حكم ما أتلفته بيدها، وكلام الخرقي يشمل الليل والنهار وهو كذلك، وعلم من ذلك أن المسألة السابقة فيما إذا لم تكن في يد أحد.

(6/417)


قال: وما جنت برجلها فلا ضمان عليه.
ش: يعني راكبها، وهذا إحدى الروايتين، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، لعموم الحديث السابق.
3275 - وفي «رواية ذكرها رزين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدابة تنفح برجلها أنه جبار» . (والثانية) عليه الضمان في الحال التي يضمن فيها اليد أو الفم، قياسا للرجل عليهما، وفصل أبو البركات فجعل وطأها يضمنه من معها من راكب أو سائق أو قائد، لإمكان حفظها إذا بخلاف نفحها ابتداء، فإنه لا يضمنه، لعدم إمكان حفظها، ونحو ذلك، قاله ابن البنا قال: إن نفحت برجلها وهو يسير عليها فلا ضمان، وإن كان سائقا لها ضمن ما جنت برجلها. واتفق الشيخان على أنه يضمن نفحها لكبحها باللجام ونحوه، قال أبو البركات: ولو أنه لمصلحته، لأنه السبب في جنايتها، ومن ثم قيل: إذا كان السبب من غيره كأن نخسها ونحو ذلك، فالضمان على ذلك الغير.

(6/418)


(تنبيه) : لو أوقفها في طريق فإنه يضمن جنايتها بيدها أو رجلها، وإن لم يكن معها، قاله ابن عقيل وابن البنا، إن كان الطريق ضيقا، وإن كان واسعا فروايتان، حكاهما ابن البنا.
3276 - ومنشأهما حديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن» رواه الدارقطني، فهل يؤخذ بعمومه مطلقا، أو يحمل على ما إذا وقفها في طريق ضيق، أو حيث يضر بالمارة، لتعديه إذا بخلاف الطريق الواسع.

[الحكم لو تصادم فارسان أو رجلان فمات الرجلان أو الدابتان]
قال: وإذا تصادم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر.
ش: لأن كلا منهما ماتت دابة الآخر بصدمته، فكان عليه ضمانها كما لو أتلفها من غير صدم، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها.

قال: وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فتلفت الدابتان، فعلى السائر قيمة دابة الواقف.

(6/419)


ش: هذا الذي أورده أبو البركات مذهبا، ونص عليه أحمد، قاله أبو محمد، لأن السائر والحال هذه هو الصادم المتلف، فوجب عليه الضمان، واختار أبو محمد أنه إن كان الواقف في طريق ضيق فلا ضمان على السائر، لتعدي الواقف إذا بخلاف السائر، ويشهد لهذا حديث النعمان وقد تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أن الواقف لا يضمن السائر مطلقا، وهو منصوص أحمد، لأنه هو المتلف لنفسه أو ماله بصدمته، وقيل يضمنه مطلقا، لأنه لولاه ما تلف. وقيل: يضمنه مع ضيق الطريق، لتعديه بالوقوف إذا دون سعته، لعدم تعديه، وهو مختار أبي محمد، ومقتضى حديث النعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

قال: وإذا تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، وفي مال كل واحد منهما عتق رقبة.
ش: لأن كل واحد منهما مات من صدمة الآخر، ووجوب الدية على عاقلتيهما، لأن ذلك إما خطأ أو شبه عمد، لأنهما وإن تعمدا ذلك فالصدمة لا تقتل غالبا، ولا فرق بين البصيرين والأعميين، والبصير والأعمى والله أعلم.

قال: وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة، فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة، أو أرش ما نقصت إذا

(6/420)


أخرجت، إلا أن تكون المنحدرة غلبتها الريح فلم يقدر على ضبطها.
ش: أما كون السفينة المنحدرة إذا وقعت على المصعدة على قيم المنحدرة قيمة السفينة المصعدة إن غرقت، أو أرش ما نقصت إن خرجت من الغرق، لأن المنحدرة تنزل عليها من علو فتكون بمنزلة السائر، والمصعدة بمنزلة الواقف، وأما كونه يستثنى من ذلك إذا غلب المنحدرة ريح فلم يقدر على ضبطها، لأنه والحال هذه لا ينسب للقيم تفريط ألبتة، بخلاف ما تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أنه لو غرقت المنحدرة أنه لا شيء على قيم المصعدة، وهو كذلك كالسائر مع الواقف، نعم، يستثنى من ذلك إذا كان قيم المصعدة مفرطا بأن كان يمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فإن الضمان على المصعد، إناطة بالتفريط. . . ولهذه المسألة التفات إلى مسألة السائر مع الواقف، والله أعلم.

(6/421)