شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الجهاد]
ش: لا ريب في مشروعية الجهاد والحث عليه.
3277 - وقد روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» متفق عليه.
3278 - وعن أبي عبس الحارثي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» رواه البخاري والترمذي والنسائي.

(6/422)


3279 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» رواه أحمد والترمذي.
3280 - وعن ابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجنة تحت ظلال السيوف» رواه أحمد والبخاري. . .
3281 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه» قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه» قال في الثالثة: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» رواه مسلم.

(6/423)


3282 - وللبخاري من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» مختصر. والأحاديث في فضله كثيرة جدا، وكيف لا وبه قيام الدين.

[حكم الجهاد]
قال: والجهاد فرض على الكفاية.
ش: هذا قول عامة أهل العلم، لقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] إلى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] الآية. وهذا يدل على أن القاعد بلا ضرر غير آثم مع جهاد غيره.

(6/424)


3283 - وفي الصحيحين عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله تعالى) قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا فلانا» فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) وخلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله أنا ضرير، فنزلت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الآية.
» 3284 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] ، و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] قال: نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . . . رواه أبو داود. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه. وعلى هذا تحمل

(6/425)


الأوامر المطلقة؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] ، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] ونحو ذلك.
3285 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» رواه أبو داود.
3286 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» رواه أبو داود والنسائي.
3287 - وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» رواه مسلم وغيره.

(6/426)


وابن المبارك يقول في هذا الحديث: نرى أن ذلك كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(تنبيه) : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:
(أحدها) إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ، وقَوْله تَعَالَى؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] إلى قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] .
(الثاني) إذا استنفره الإمام، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] إلى قوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] .
3288 - وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .
(الثالث)

(6/427)


إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم، والنفير إليهم، لأنهم في معنى حاضري الصف فتعين عليهم كما يتعين عليه لعموم: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] الآية. . . ولم يذكر أبو محمد في الكافي والمقنع تعينه إلا في موضعين، إذا حضر الصف، وإذا حضر العدو بلدة، وكلام ابن المنجا يقتضي أن «حصر» بالصاد المهملة، لأنه قال: ولأن البلد إذا حصر قرب شبه من فيه بمن حضر الصف، وإنما هو بالمعجمة، فإن عبارته في الكافي والمغني كما تقدم.

قال: إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
ش: هذا تفسير لفرض الكفاية، وهو يشترك وفرض العين أن الجميع مخاطبون به على الصحيح، وأن الكل إذا تركوه أثموا وقوتلوا عليه، كما في فرض العين سواء، ويخالفه في أنه إذا قام البعض به سقط عن الباقين، بخلاف فرض العين كالصلاة ونحوها، فإنه لا يسقط عن البعض بفعل البعض، قال أحمد في رواية حنبل: الغزو واجب على الناس كلهم، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم، والفرض في ذلك موقوف على غلبة الظن، فإذا غلب على الظن أن الغير يقوم بذلك سقط

(6/428)


عن الباقين، كما إذا كان ثم جند لهم ديوان لذلك، وفيهم كفاية، أو قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة للقاء العدو، ونحو ذلك. وإن غلب على الظن أن لا قائم به وجب على كل أحد القيام به.
(تنبيه) : إذا قام بفرض الكفاية طائفة، ثم قام به أخرى، فهل يقع فعل الثانية فرضا؟ فيه وجهان، وكلام ابن عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محتمل.

[فضل الجهاد]
قال: قال أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد.
ش: روى ذلك عن أحمد جماعة، قال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل. وقال في رواية الفضل بن زياد: ما من أعمال البر أفضل منه، وذلك لما تقدم في فضله، وقد تقدم حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وقيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه» .
3289 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشعب فيه عيينة من ماء عذبة،

(6/429)


فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تفعل، فإن مقام أحدكم يوما في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» .
3290 - وعن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر الله له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه» رواهما الترمذي، وقال في الثاني: حسن صحيح غريب.

(6/430)


3291 - وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أي الناس أفضل؟ قال: «رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه» قال: ثم من؟ قال: «ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره» .
» 3292 - وفيهما أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الحج المبرور» .» 3293 - وفيهما أيضا «عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: حدثني بهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو استزدته لزادني» .
3294 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا

(6/431)


أخبركم بخير الناس؛ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله» . . . رواه الترمذي وحسنه.
3295 - وعن النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] إلى آخرها. رواه مسلم. ولأن فيه إعلاء كلمة الله سبحانه، وبذل المهجة، ونفعه يعم جميع المسلمين.

[غزو البحر أفضل أم غزو البر]
قال: وغزو البحر أفضل من غزو البر.
3296 - ش: روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن رسول

(6/432)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «أناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة» مختصر رواه مسلم.
3297 - وعن أم حرام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيدين» رواه أبو داود.
3298 - وفي حديث رواه ابن ماجه: «شهيد البحر مثل شهيد البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض

(6/433)


الأرواح، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، يغفر لشهداء البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين» .
وقد دل كلام الخرقي على مشروعية الغزو في البحر، وقد دل عليه ما تقدم، والله أعلم.

[الغزو مع الإمام البر والفاجر]
قال: ويغزى مع كل بر وفاجر.
3299 - ش: روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا» » مختصر.
3300 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله، إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار» رواهما أبو داود.

(6/434)


(تنبيه) : قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة على المسلمين. فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه، إنما ذلك على نفسه.
3301 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» .

قال: ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو.
ش: نص أحمد على ذلك، مستدلا بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] الآية، وهذا إذا لم يكن ثم عذر، فإن كان ثم عذر بكون الأبعد أخوف، أو الأقرب مصالحا، ونحو ذلك، فلا بأس بتقديم الأبعد.

(6/435)


[مدة الرباط في سبيل الله]
قال: وتمام الرباط أربعون يوما.
3302 - ش: يروى هذا عن أبي هريرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
3303 - وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوما» ، أما أقل الرباط فقال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط.
3304 - وعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» رواه أحمد والنسائي والترمذي.

(6/436)


3305 - ولأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» .
3306 - وفي مسلم عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» .

(6/437)


[إذن الوالدين في الجهاد]
قال: وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما.
3307 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذنه في الجهاد؟ قال: «أحي والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» » رواه الجماعة.
3308 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «هل لك أحد باليمن» ؟ قال: أبواي. قال: «أذنا لك؟» قال: لا. قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» » رواه أبو داود.
3309 - وعن معاوية بن جاهمة «أن جاهمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أردت الغزو، وقد جئت

(6/438)


أستشيرك، فقال: «هل لك من أم» ؟ قال: نعم. قال: «فالزمها، فإن الجنة عند رجليها» » رواه النسائي. وهذا نص في المنع منه بدون إذنهما وجوازه بإذنهما. وقول الخرقي: مسلمين. وكذلك إذا كان أحدهما مسلما، إذ يجب بر الواحد منهما كما يجب برهما. وحديث جاهمة في أحدهما، وعموم كلام الخرقي يشمل وإن كانا رقيقين، ويؤيد ذلك عدم الاستفصال من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: لا يعتبر إذنهما إذا كانا رقيقين، وبه قطع أبو البركات، لعدم ولايتهما، أشبها المجنونين، ويخرج به ما إذا كانا كافرين، وهو كذلك، لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره كانوا يجاهدون بدون إذن آبائهم، وقوله: تطوعا. المراد به إذا لم يتعين عليه الجهاد، وسماه تطوعا لأن فرض الكفاية له شبه بالتطوع، لسقوطه عن البعض بفعل البعض. ويخرج منه ما إذا تعين عليه، وقد صرح به حيث قال: وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما.

قال: وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لأبويه.
ش: أي إذا خوطب به على التعيين، لأنه والحال هذه تركه

(6/439)


معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله، وقد قال سبحانه وتعالى في حقهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] .
3310 - نزلت في سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] الآية.

قال: وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها.
ش: كالحج، والصلاة في الجماعة، وطلب العلم الواجب، ونحو ذلك، لمساواتها للحج معنى، فتساويا

(6/440)


حكما وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الحج والصلاة في الجماعة، معللا بالفرضية.
3311 - وما أحسن ما قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسئل عن البر والعقوق، قال: البر أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك به، ما لم يأمراك بمعصية الله، والعقوق أن تهجرهما وتحرمهما.

[قتال أهل الكتاب والمجوس قبل الدعوة للإسلام]
قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس، ولا يدعون، لأن الدعوة قد بلغتهم.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وعلته، وهو أن الدعوة قد بلغتهم، فلا حاجة إليها ثانيا.
3312 - وفي الصحيحين «عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، حدثني به عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكان في ذلك الجيش» .

(6/441)


[دعوة عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا]
قال: وتدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا.
3313 - ش: لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ما قاتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوما قط إلا دعاهم» . رواه أحمد.
3314 - ولمسلم وغيره «من حديث بريدة قال: «إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» وذكر الحديث إلى آخره.
3315 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى كسرى وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم

(6/442)


إلى الله تعالى» . رواه مسلم وليس هذا بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا من الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج على الغالب، إذ لو كان في عبدة الأوثان من بلغته الدعوة لجاز قتالهم من غير دعوة، ولو كان في أهل الكتاب ونحوهم من لم تبلغه الدعوة لدعوا قبل القتال، فالحكم منوط بالبلوغ وعدمه. قال أحمد: الدعوة قد بلغت وانتشرت، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة، لم يجز قتالهم قبل الدعوة، وعن أحمد ما يدل على أن اليوم لا يجب أن يدعى أحد، وأن الدعاء كان في ابتداء الإسلام.
قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب، حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام. ولا أعرف اليوم أحدا يدعى، قد بلغت الدعوة كل أحد، والروم قد بلغتهم الدعوة، وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام، وإن دعا فلا بأس. وعلى هذا حديث

(6/443)


ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإذًا تكون الدعوة مستحبة مطلقا.
3316 - وقد «روى سهل بن سعد أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر قال: «أين علي» ؟ فقيل: إنه يشتكي عينيه فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرئ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: «على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» متفق عليه، وأهل خيبر كانت الدعوة قد بلغتهم.

قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ش: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، ومن اتخذ التوراة والإنجيل كتابا، كالسامرة والأفرنج ونحوهم، والمجوس عباد الشمس والقمر، فهؤلاء يقاتلون على أحد شيئين الإسلام أو الجزية. . . وهذا والله أعلم اتفاق، وقد شهد له (أما

(6/444)


في أهل الكتاب) ومن دان بدينهم، فقوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
3317 - وعن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران وكانوا نصارى. رواه أبو عبيد في الأموال.
3318 - (وأما في المجوس) فلما «روى بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فأتى كتاب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس، ولم يكن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها من مجوس هجر» . رواه البخاري وغيره.
3319 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه «، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في

(6/445)


أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده.
3320 - «وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لعامل كسرى: أمرنا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية» ، رواه أحمد والبخاري. ومقتضى كلام الخرقي أن المجوس ليسوا أهل كتاب، لعطفهم على أهل الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة، وهو كذلك، ويدل عليه قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» فدل على أنهم غيرهم. وقال الله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] فدل على أن الكتاب إنما أنزل على طائفتين فقط، وهم اليهود والنصارى، ومما يرشح ذلك توقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أخذ الجزية منهم، ولو كان لهم كتاب لما توقف، لدخولهم في الذين أوتوا الكتاب، المأمور بأخذ الجزية منهم.

(6/446)


3321 - وما يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لهم كتابا، فقال أبو عبيد: لا أحسبه محفوظا، ثم عموم كلام الخرقي يشمل أهل الكتاب والمجوس من العرب وغيرهم، وهو كذلك لما تقدم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من أهل نجران وهم من العرب.
3322 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية» . رواه أبو

(6/447)


داود، وهو عربي من غسان.
3323 - ولا يغرنك ما روى أبو داود في المراسيل عن الحسن، قال: أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقاتل العرب على الإسلام، ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام، فإن أبوا فالجزية؛ إذ مراسيل الحسن عند أهل العلم بالحديث من أضعفها، وقول الخرقي: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. تبع فيه لفظ الآية. قال أبو الخطاب: يمتهنون عند أخذها، ويطال قيامهم، وتجر أيديهم.

قال: ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
ش: هذا هو المذهب المعروف، لعموم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ونحو ذلك. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث،

(6/448)


خرج من ذلك أهل الكتاب والمجوس بالآية الكريمة وبالحديث، فيبقى فيما عداه على العموم، ثم في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» دليل على أن أهل الكتاب هم المختصون ببذل الجزية وإلا فليس للتخصيص فائدة. ومما يرشح ذلك أيضا توقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيهم حتى أخبره عبد الرحمن بما أخبره، ولو جاز أخذ الجزية من كل كافر لم يكن لتوقفه معنى. (وعن أحمد) رواية أخرى: يقبل من جميع الكفار، إلا عبدة الأوثان من العرب، لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق، فأقروا بالجزية كالمجوس. وقد دخل في كلام الخرقي أهل الصحف، كصحف إبراهيم وشيث ونحو ذلك، وهو المذهب بلا ريب، لعدم دخولهم في الكتاب إذا أطلق، ولهذا قال سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، ولأنها مواعظ، لا أحكام فيها، وقيل: يقر أهلها بالجزية، لأنه يصدق أنه نزل لهم كتاب.

(6/449)


قال: وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا.
ش: هذا أحد الصور الثلاث التي يتعين الجهاد فيها، وهو ما إذا نزل العدو بالبلد، وقد تقدم ذلك، والدليل عليه، ونزيد هنا بأنه لا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ البلد، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال، ونحو ذلك.

قال: المقل منهم والمكثر.
ش: يعني أن العدو إذا نزل بالبلد وجب على كل أحد الخروج إليه، سواء كان غنيا يقدر على الزاد، أو فقيرا لا يقدر على ذلك، إذ العدو نازل على البلد، فلا حاجة إلى ذلك، فإن كان قريبا من البلد دون مسافة القصر اشترط الزاد، ولم تشترط الراحلة.

قال: ولا يخرجون إلى العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه، فلا يمكنهم أن يستأذنوه.
ش: لا يجوز الخروج إلى العدو إلا بإذن الأمير، إذ أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلته ومكامنه، فاتبع رأيه في ذلك، إلا أن يتعذر استئذانه، كطلوع عدو غالب عليهم بغتة، ويخافون شره إن استأذنوه فإن إذنه إذًا يسقط، ارتكابا لأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
3324 - «وقد أغار الكفار على لقاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصادفهم سلمة

(6/450)


بن الأكوع خارجا من المدينة، فتبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «خير رجالنا سلمة بن الأكوع» وأعطاه سهم فارس وراجل» .
(تنبيه) لا يكون الإذن العام كالنفير مثلا إذنا لمن منعه الإمام قبل ذلك. وقال: لا تصحبني، نص عليه أحمد.

[دخول النساء مع المسلمين إلى أرض العدو]
قال: ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا امرأة طاعنة في السن، لسقي الماء ومعالجة الجرحى، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ش: لا تدخل النساء مع المسلمين أرض العدو، حذارا من ظفر العدو بهن، واستحلال ما حرم الله منهن مع أنهن لسن من أهل القتال، إذ الغالب عليهن الجبن والخور.
3325 - وقد روى البخاري «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: استأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهاد، فقال: «جهادكن الحج» ويجوز دخول المرأة الكبيرة لسقي الماء، ومعالجة الجرحى.

(6/451)


3326 - «لما روي عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى» .
3327 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى» . رواه أحمد ومسلم. وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو ظاهر كلام أبي البركات، قال: يلزم الإمام أن يمنع المخذل والمرجف والنساء. وجعله في المغني مكروها، وجوز للأمير خاصة أن يدخل بالمرأة الواحدة إذا احتاج إليها، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرع بين نسائه فتخرج معه من تقع عليها القرعة.

(6/452)


[ما يجب على الجند تجاه الأمير في الجهاد]
قال: وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب، ولا يبارز علجا، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا بإذنه.
ش: لأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو، ومكامنهم وقوتهم، فإذا خرج إنسان أو بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو فيأخذوه، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك، أو يكون ضعيفا لا يقوى على المبارزة فيظفر العدو به، فتنكسر قلوب المسلمين. بخلاف ما إذا أذن، فإنه لا يأذن إلا إذا انتفت المفسدة، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] الآية. وقد فهم من كلام الخرقي جواز المبارزة بإذن الأمير، وهو قول العامة، وقد شاع وذاع مبارزة الصحابة في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعده.
3328 - قال قيس بن عباد: سمعت أبا ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقسم قسما أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر، حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة. . . متفق عليه.

(6/453)


3329 - وكذلك قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] رواه البخاري.
3330 - ويروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة، سوى من شاركت فيه. وقد صرح الخرقي بأن المبارزة بدون إذن حرام، وظاهر كلام أبي محمد في المغني الكراهة، قال: ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن.

قال: ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له، فإن لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو.
ش: من أعطي شيئا ليستعين به في الغزاة فله حالتان (إحداهما) أن يعطى لغزوة بعينها، فهذا إذا غزا وفضلت فضلة فهي له، لأن المقصود أن يغزو هذا المعين هذه الغزوة، والدفع على سبيل المعاونة، أشبه ما لو وصى أن يحج عنه فلان بألف.

(6/454)


3331 - وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا أعطى شيئا للغزو يقول لصاحبه: إذا بلغت وادي القرى فشأنك به. (الثانية) أن يعطى للغزو مطلقا، أو للنفقة في سبيل الله، فهذا إذا غزا وفضلت منه فضلة أنفقه في غزاة أخرى، لأن الدفع لجهة قربة، فلزم صرف جميعه فيها، كما إذا أوصى أن يحج عنه بألف، وهذه المسألة غير مسألة الدفع في الزكاة.

قال: وإذا حمل الرجل على دابة فإذا رجع من الغزو فهي له، إلا أن يقول: هي حبيس فلا يجوز بيعها إلا أن تصير في حال لا تصلح للغزو، فتباع وتجعل في حبيس آخر.
ش: إذا حمل الرجل على دابة للغزو، فإذا رجع من الغزو فالدابة له، كالنفقة المدفوعة إليه.
3332 - «وقال عمر: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في

(6/455)


صدقته كالعائد في قيئه» متفق عليه. وهذا يدل على ملكه له، ولولا ذلك لما باعه، ولم يفرق الخرقي هنا بين أن يدفعه ليغزو عليه غزوة معينة، أو للغزو وأطلق، وقياس ما تقدم التفرقة، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو صرح له بالعارية أو بالحبسية، ونحو ذلك فإنه يعمل على ذلك، ففي العارية يرد إلى مالكه، وفي الحبسية يجعل في الحبس، ولا يجوز بيعه، لما تقدم في الوقف من أنه لا يجوز بيع العين الموقوفة إلا أن يئول الفرس إلى حال لا يصلح للغزو، فإنه يباع ويجعل في حبيس آخر، وقد تقدم ذلك في الوقف.

قال: وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله، أو كان في مكان لا يصلى فيه، جاز أن يباع ويصير في مكان ينتفع به.
ش: يعني وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله، أو كان في مكان لا ينتفع به، كأن ينتقل أهل القرية عنه، أو يخاف في الذهاب إليه من اللصوص ونحو ذلك، فإنه يجوز بيعه على المذهب المشهور، قال أحمد في رواية صالح: يحول المسجد خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، قال القاضي: يعني إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه. ونص على بيع عرصته في رواية عبد الله، وذلك لما تقدم في جواز بيع الوقف،

(6/456)


وبيع الفرس الحبيس، وقد بالغ أحمد في رواية أبي داود، فقال في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، فامتنع بعضهم من ذلك، فقال: ينظر إلى قول أكثرهم، وقد أخذ القاضي بظاهر اللفظ، وأن أهل المسجد لهم رفعه، وجعل سقاية تحته، لحاجتهم إلى ذلك، وأبى ذلك ابن حامد، وحمل كلام أحمد على مسجد أراد أهله إنشاءه ابتداء، واختلفوا كيف يعمل، وفي هذا التأويل بعد من اللفظ. (وعن أحمد) رواية أخرى في أصل المسألة أن المساجد لا تباع، ولكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر، لإمكان بقاء العين مع صرفه في جهة المسجدية، ولذلك قلنا على المذهب أنه إذا لم يمكن إنشاء مسجد بالثمن صرف في شقص مسجد. (تنبيه) يكون البائع لذلك الإمام أو نائبه، نص عليه، وكذلك المشتري بالثمن، وكذلك كل وقف لا ناظر له.

قال: وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها.
ش: سيأتي الكلام على الأضحية إن شاء الله تعالى في بابها.

(6/457)


[ما يفعله الإمام بالأسرى]
قال: وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم، وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض، وإن رأى فادى بهم، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم، وإن رأى استرقهم، أي ذلك رأى أن فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل.
ش: يخير الإمام في الأسرى بين أربعة أشياء في الجملة، القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، أما القتل فلعموم: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجال بني قريظة، وهم بين الستمائة والسبعمائة، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وفيه تقول أخته:

(6/458)


ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
3333 - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو سمعت شعرها لما قتلته» . (وأما المن والفداء) فلقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] .
3334 - «وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من جبال التنعيم، عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلما فأعتقهم، فأنزل الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] إلى آخر الآية» رواه مسلم وغيره.

(6/459)


3335 - وعن جبير بن مطعم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» رواه البخاري وغيره.
3336 - وثبت في الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة» .
3337 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.»

(6/460)


3338 - وعن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، قالت: فلما رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رق لها رقة شديدة. وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها» ؟ قالوا: نعم» . رواهما أبو داود.
3339 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل» ، رواه أحمد والترمذي وصححه.
3340 - (وأما الاسترقاق) فلما روي «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولها فيهم، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هم أشد أمتي على الدجال» ، قال: وجاءت صدقاتهم

(6/461)


فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه صدقات قومنا» قال: وكان سبية منهم عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل» » متفق عليه.
3341 - وعنها أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «لما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت حلوة ملاحة، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فجئتك أستعينك على كتابتي؛ قال: «فهل لك في خير من ذلك» ؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضي كتابتك، وأتزوجك» ؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: «قد فعلت» قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج جويرية ابنة الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها» . رواه أحمد واحتج به، وهذا التخيير تخيير مصلحة واجتهاد، لا تخيير تشهي فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة تعينت عليه، لأنه ناظر للمسلمين،

(6/462)


فوجب عليه فعل الأصلح كولي اليتيم، ومتى تردد فقال أبو محمد: القتل أولى. (وقوله) : فادى بهم، أي بمسلم، ولا نزاع في جواز ذلك، لما تقدم من حديث عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (وقوله) : وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم. هذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي، وأبي البركات، وأبي محمد في المغني، وغيرهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى أهل بدر بالمال بلا ريب. وحكى أبو محمد في المقنع رواية أنه لا تجوز المفاداة بمال، وحكاها أبو الخطاب في هدايته وجها، لأن الله سبحانه عاتب نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك ونزل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى} [الأنفال: 67] الآية.
3342 - «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ما ترون في هؤلاء الأسارى» ؟ قال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ترى يا ابن الخطاب» ؟ قال: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكنني فنضرب أعناقهم، فتمكن

(6/463)


عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء؛ لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» شجرة قريبة منه، وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ، فأحل الله لهم الغنيمة» . رواه أحمد ومسلم. (وأجيب) بأن العقاب كان على أخذ المال ابتداء، ثم إن الله سبحانه أقر ما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحل لهم الغنيمة كما في الحديث.
3343 - قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لما كان يوم بدر وأخذ - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفداء - فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى

(6/464)


قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] من الفداء عذاب عظيم ثم أحل لهم الغنائم» . . . رواه أبو داود. إذا تقرر هذا، فاعلم أن هذا التخيير الذي ذكره الخرقي هو في الأحرار المقاتلة، أما الأرقاء فإن الإمام يخير بين قتلهم إن رأى ذلك لمضرة بقائهم ونحو ذلك، أو تركهم غنيمة كالبهائم، وأما النساء والصبيان فيصيرون أرقاء بنفس السبي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترقهم إذا سباهم، وأما من يحرم قتله غير النساء والصبيان - كالشيخ الفاني، والراهب، والزمن، والأعمى - فقال أبو محمد في الكافي والمغني: لا يجوز سبيهم لتحريم قتلهم، وعدم النفع في اقتنائهم. (وحكى عنه) ابن المنجا أنه قال في المغني: يجوز استرقاق الشيخ والزمن، ولعل هذا في المغني القديم، وحكى أيضا عن الأصحاب أنهم قالوا: كل من لا يقتل - كالأعمى ونحوه - يرق بنفس

(6/465)


السبي، وأما أبو البركات فجعل من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان، وظاهر كلامه أن من لا نفع فيه لا يسبى، وهذا هو أعدل الأقوال.

(تنبيه) : إذا أسلم الأسير تعين رقه، نص عليه أحمد، وعليه الأصحاب، لأنه أسير يحرم قتله، أشبه المرأة، وقال أبو محمد في الكافي: يسقط القتل، ويخير فيه بين الثلاثة الأخر، لأن القتل امتنع لمانع، وهو «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ونحوه، فيبقى ما عداه على الأصل.
3344 - وفي مسلم وغيره «عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، فأتاه قال: «ما شأنك» فقال: بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء، فقال: «أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف» ثم انصرف عنه فناداه فقال: يا محمد يا محمد، قال: «ما شأنك» ؟ قال: إني مسلم. قال: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح» ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد، فأتاه فقال؛ «ما شأنك» ؟ فقال: إني جائع وظمآن فأسقني. قال: «هذه حاجتك» ففدي بعد

(6/466)


بالرجلين» . (وأجاب) القاضي بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أنه علم من حاله أنه كان منافقا، وفيه نظر، وأجاب أبو محمد في المغني بأن هذا لا ينافي رقه، فإن رقيق المسلمين يجوز أن يفادى بهم، ويعترض على هذا بأنه إذا صار رقيقا فكيف ترك موثوقا، ثم إنه إنما تجوز المفاداة برقيق المسلمين بإذنهم على قوله، وليس في الحديث إذن، ويجاب بأن ترك ذكر الإذن في الحديث لا يدل على عدمها، ثم لو ثبت أنه لم يستأذنهم فذلك لعلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم راضون بما يفعله.

قال: وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة.
ش: طريق من استرق منهم، والمال الذي أخذ منهم على إطلاقهم طريق الغنيمة، في أنه يخمس، ثم تقسم أربعة أخماسه بين الغانمين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، لأنه مال غنمه المسلمون، أشبه الخيل والسلاح.

قال: وإنما يكون له استرقاقهم، إذا كانوا من أهل الكتاب، أو مجوسا، فأما من سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من

(6/467)


بالغي رجالهم إلا الإسلام أو السيف أو الفداء.
ش: يعني أن الذين يجري عليهم الاسترقاق هم الذين يقرون بالجزية، وهم أهل الكتاب والمجوس. أما من عداهم من مشركي العرب والعجم، فالمنصوص عن أحمد - في رواية محمد بن الحكم وإليه ميل أبي محمد، وهو الصواب - جواز استرقاقهم، واحتج بحديث جويرية وقد تقدم.
3345 - وقال: لا أذهب إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس على عربي ملك. قد سبى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العرب في غير حديث. وأبو بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين سبى بني ناجية.
3346 - ونقل عنه ابن منصور، وقد سئل عن قول عمر رضي

(6/468)


الله عنه في العربي يتزوج الأمة فولدت: لا يسترقون يفديهم.
قال: لا أقول في العربي شيئا، قد اختلفوا فيه، فتوقف عن الجواب، فيخرج له قول بعدم الجواز، وابن حامد قال: في المسألة روايتان، وتبعه من بعده على ذلك، وكأن مستند المنع قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه لا يقر بالجزية فأشبه المرتد. وهذه الرواية هي اختيار الخرقي، والشريف، وابن عقيل في التذكرة والشيرازي.
(تنبيه) : أبو محمد وأبو الخطاب ومن تبعهما يحكون الخلاف كما تقدم في غير أهل الكتاب والمجوس، وأبو البركات جعل مناط الخلاف فيمن لا يقر بالجزية، فعلى قوله نصارى بني تغلب يجري فيهم الخلاف، لعدم أخذ الجزية منهم، ويقرب من هذا قول القاضي في الروايتين، فإنه حكى الخلاف في مشركي العرب من أهل الكتاب، ثم حكى كلام الخرقي، وكلام أحمد في رواية محمد بن الحكم، فيمن لا كتاب له، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن لم يكن عنه نص بالمنع

(6/469)


إلا رواية ابن منصور، فليس له توقف إلا في العرب، وهو لم يعلل بعدم الإقرار بالجزية، حتى يؤخذ بعموم علته في كل من لا يقر بالجزية من العجم ونحوهم.

[حكم النفل من الغنيمة]
قال: وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام - كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدأته الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس.
ش: النفل في اللغة الزيادة، ومنه نفل الصلاة، زيادة على فرضها، وقَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] فيعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو ولد ولد إبراهيم وهو زائد على ما طلبه إبراهيم من الولد. إذا تقرر هذا فينبغي للإمام أو نائب الإمام إذا غزا غزاة أن يبعث أمامه سرية تغير على العدو، ويجعل لها الربع بعد الخمس، أو تغير خلفه إذا رجع، ويشترط لها الثلث بعد الخمس، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما جعل لها، ثم قسم الباقي على الجيش والسرية معا، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3347 - فعن حبيب بن مسلمة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته» ، رواه أحمد وأبو داود.

(6/470)


3348 - وعن عبادة بن الصامت مثله، ولم يقل: بعد الخمس. . . رواه أحمد والترمذي.
3349 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله واجب» .
3350 - وعنه أيضا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية قبل نجد، فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا، ونفلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرا بعيرا.» . . متفق عليهما، وهذا على سبيل الندبية، فللإمام أن لا ينفل شيئا، وأن ينفل ما دون ذلك، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: كان ينفل بعض من يبعث من السرايا، وقال: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفلهم بعيرا بعيرا، (وهل له) أن ينفل ذلك بلا شرط، وهو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر الأحاديث، أو ليس له ذلك إلا بشرط، وهو الذي ذكره في المغني، لأن مع عدم الشرط تتعلق جميع حقوق الغازين بالمال، فلا يخص بعضهم ببعضه؟ على روايتين. (وهل له) أن يزيد على الثلث، لا يجوز له

(6/471)


بلا شرط رواية واحدة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه زاد على ذلك، وهل له ذلك بالشرط، لأن زيادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقصه يدل على أن ذلك غير مقدر، أو ليس له ذلك، وهو ظاهر كلام الخرقي، وبه قطع أبو محمد لما تقدم؟ على روايتين.

قال: ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه.
ش: يعني أنه إذا جاء بعض السرية بشيء فنفله، ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله، فإن من نفل يرد على من لم ينفل من السرية، لما علله الخرقي، من أن بقوة من لم ينفل صار المال لمن نفل.

[استحقاق القاتل للسلب]
قال: ومن قتل منا واحدا منهم مقبلا على القتال فله سلبه.
ش: القاتل يستحق السلب في الجملة بلا ريب.
3351 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» متفق عليه، رواه أبو قتادة وغيره، إذا علم هذا فيشترط لاستحقاقه شروط (أحدها) أن يغرر بنفسه في قتله في حال الحرب، بأن يقتله حال المبارزة، أو والحرب قائمة، ونحو ذلك، قال أحمد: السلب للقاتل إنما هو في المبارزة،

(6/472)


لا يكون في الهزيمة.
3352 - لما «روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نفلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر سيف أبي جهل وكان قتله» . رواه أبو داود.
3353 - وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق، فأجهز عليه، كذا روي معنى ذلك في أبي داود وغيره، ولو لم يكن التغرير شرطا لدفع إليه السلب أجمع، فعلى هذا لو رمى بسهم إلى صف الكفار، فقتل فلا سلب له، لعدم التغرير، وكذلك لو حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه، فلا سلب لهم، ويكون غنيمة لذلك، وكذلك إذا قتله اثنان على المنصوص في رواية حرب، (وعن القاضي) : هو لهما؛ لعموم «من قتل قتيلا» واستثنى أبو محمد ما إذا قتله اثنان، وكانت ضربة أحدهما أبلغ في قتله من الأخرى، أن السلب يكون له.

(6/473)


3354 - مستدلا «بأن أبا جهل ضربه معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه، فقال: «أيكما قتله» ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: «هل مسحتما سيفيكما» ؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله» وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح» ، متفق عليه. وهذا يحتمل أن يكون كما قاله أبو محمد، ويحتمل أنه نفل السلب لمعاذ بن عمرو وإن لم يستحقه، ويكون في هذا دليل على أن للإمام أن ينفل بعض الغانمين. ومن صور التغرير أن يكون المقتول مقبلا على القتال، فإن كان مدبرا فلا سلب له، لعدم التغرير في قتله، ولأن المسلمين قد كفوا شره بانهزامه، فأشبه ما لو كان مأسورا، واستثنى أبو محمد من ذلك ما إذا انهزم والحرب قائمة، فأدركه إنسان فقتله فإن سلبه له.
3355 - معتمدا على «أن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل طليعة الكفار وهو منهزم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل الرجل» ؟ قالوا: سلمة بن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع» » ، والحديث في الصحيحين، ومن صوره أيضا أن يكون الكافر ممتنعا، فإن كان مثخنا بالجراح، وقتله إنسان فلا شيء له، لعدم التغرير، وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك، (واعلم) أن جماعة من الأصحاب يجعلون كل واحد من هذه

(6/474)


شرطا، والذي يظهر أنها كلها ترجع إلى التغرير، والإشارة إلى هذا الشرط في قول الخرقي: مقبلا على القتال. (الشرط الثاني) أن يقتل الكافر، كما في الحديث «من قتل قتيلا» أو يثخنه بجراح يصيره في حكم المقتول، لأنه إذا صار في حكم الميت، ولو قطع أربعته، وقتله آخر فسلبه للقاطع، [لا أعلم فيه خلافا] ، لأنه الذي كفى المسلمين شره، وصيره في حكم الميت. وكذلك لو قطع يديه أو رجليه على وجه لذلك، وعلى آخر هو للقاتل، لعموم الحديث، وعلى ثالث هو غنيمة، كما لو اشترك اثنان في قتله، وكذلك الأقوال الثلاثة فيما إذا قطع يده ورجله، ثم قتله آخر، والمنصوص أنه غنيمة، وهو المقدم في التي قبلها أيضا، ولو قطع يدا أو رجلا ثم قتله آخر، فالسلب للقاتل على ما قطع به أبو البركات، وحكاه في المغني احتمالا، لأنه الذي كفى المسلمين شره، وقطع في الكافي بأنه غنيمة، كما لو اشترك اثنان في قتله، وهذا الذي أورده في المغني مذهبا، ولو أسره فقتله الإمام فلا شيء له من السلب، على المذهب المنصوص لعدم القتل. (الشرط الثالث) أن يكون القاتل ممن له حق في الغنيمة، فإن لم يكن له فيها حق أصلا، كالمخذل والمرجف، والمعين

(6/475)


على المسلمين فلا شيء له لأنه ليس من أهل الجهاد، وإن كان له فيها حق لكن إرضاخ لا إسهام، كالصبي والمرأة ونحوهما، فهل يستحق السلب إذا قتل، لعموم الحديث، وبه قطع أبو محمد، أو لا يستحقه، لأن السهم آكد منه للإجماع عليه وهو لا يستحقه، فالسلب أولى؟ (الشرط الرابع) أن يكون المقتول من المقاتلة، فإن كان شيخا فانيا، أو صبيا، أو امرأة، ونحو ذلك ممن قد نهي عن قتله، لم يستحق قاتله سلبه، بلا خلاف نعلمه، فإن قاتل هؤلاء فهل يستحق قاتلهم سلبهم، وبه قطع أبو محمد، لجواز قتلهم إذا، أو لا يستحق سدا للذريعة؟ فيه وجهان.
(تنبيه) : قال أبو محمد: إذا بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب، لأنه عاص، وكذلك كل عاص كمن دخل بغير إذن، (وعن أحمد) فيمن دخل بغير إذن يؤخذ منه الخمس، وباقيه له كالغنيمة، قال: ويخرج في العبد مثله، قلت: قد يقال تعلق الحق بالغنيمة آكد للإجماع عليها، بخلاف السلب، فإن منهم من يجعله كالنفل، لا يستحق إلا بالشرط، ثم قال: إنه لا يشترط في استحقاق

(6/476)


السلب أن تكون المبارزة بإذن الإمام، لعموم الخبر، ولأن كل من قضي له بالسلب في عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل أنه أذن له في المبارزة، (قلت) : وهذا يتمشى على قوله، من أن الإذن في المبارزة مندوب إليه لا واجب، أما على ما يقوله الخرقي وغيره فلا.

قال: غير مخموس.
ش: يعني أن القاتل يستحق السلب إذا وجدت شروطه من غير تخميس، لعموم ما تقدم.
3356 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل رجلا فله سلبه» فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم» . رواه أحمد وأبو داود، «وفي لفظ: «من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه» قال: فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلا» . رواه أحمد، وفيه دليل على أن من شرط استحقاق السلب التغرير في القتل، وأن المشتركين في القتل لا يستحقان السلب كما تقدم.

(6/477)


3357 - «وعن عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخمس السلب» ، رواه أحمد وأبو داود. ومقتضى كلام الخرقي أن السلب يكون من أصل الغنيمة، لا من خمس الخمس، وهو كذلك لإطلاق الحديث.

قال: قال ذلك الإمام أو لم يقل.
ش: يعني أن السلب يستحقه القاتل، اشترط ذلك الإمام أو لم يشترطه، هذا هو المنصوص المشهور، والمذهب عند عامة الأصحاب، واختار أبو بكر أنه لا يستحقه إلا من شرطه له الإمام، وحكى ذلك غير واحد من الأصحاب رواية عن أحمد، وأخذها القاضي في الروايتين من قول أحمد في رواية حرب: ليس له ذلك إلا أن يكون قتاله بإذن الإمام، وهذا المأخذ لا يدل على المدعى، وبالجملة مدرك الخلاف في ذلك أن قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من قتل قتيلا فله سلبه» هل ذلك بيان لشرع عام، أو مختص بتلك

(6/478)


الواقعة، فلا يستحق إلا بالشرط، وكذلك حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسلب للقاتلين، كسلمة بن الأكوع وغيره، هل ذلك لاستحقاقهم إياه مطلقا، أو من باب النفل؟ ويرجح الأول أن الأصل عدم التخصيص، وبيان الشرع العام، ثم إن أبا قتادة كان قد قتل القتيل قبل أن يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» » وأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلبه، ولو كان إنما يستحق بالشرط لما أعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلب.
3358 - «قال أبو قتادة: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه، وضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لك يا أبا قتادة» ؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن

(6/479)


الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدق فأعطه إياه» » متفق عليه. لا يقال: فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليه السلب من غير بينة ولا يمين، لأنا نقول: قد شهد له واحد، وقد يكتفي في مثل ذلك بالواحد، لتعذر إقامة اثنين، أو يكون قبول الواحد إذا خاصا بأبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3359 - وما في مسلم والمسند «عن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عوف بن مالك، فأخبره فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه سلبه» ؟ قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه» فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستغضب فقال: «لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استرعى إبلا وغنما، فرعاها ثم تحين سقيها، فأوردها حوضا، فشرعت فيه، فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم، وكدره لهم» » فقيل: منع رسول الله

(6/480)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلب عقوبة، ويرد أنه عاقب من لم يذنب، والله أعلم.

قال: والدابة وما عليها من آلتها من السلب، إذا قتل وهو عليها، وكذلك جميع ما عليه من الثياب والسلاح والحلي وإن كثر، فإن كان معه مال لم يكن من السلب، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر في الدابة أنها ليست من السلب.
ش: في الدابة ثلاث روايات (إحداها) أنها من السلب مطلقا، أعني سواء كان يقاتل عليها أو ممسكا بعنانها.
3360 - أما إذا كان يقاتل عليها فلما «روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجت مع زيد بن حارثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس أشقر، عليه سرج مذهب، وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب

(6/481)


للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. وذكر الحديث إلى آخره. . .» رواه أحمد وأبو داود، وأما إذا كان ماسكا بعنانها فلأنها معدة للقتال عليها، متمكن من ذلك، فأشبهت سيفه أو رمحه الذي في يده. (والثانية) : ليست من السلب مطلقا، اختارها أبو بكر، لأن السلب اسم لما كان على البدن، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معديكرب: فأخذ سواريه ومنطقته، يعني ولم يذكر فرسه. (والثالثة) : إن قاتل عليها فهي من السلب، لما تقدم في حديث عوف، وإن كان ممسكا بعنانها فليست من السلب، لما تقدم في دليل الثانية، خرج منه إذا كان يقاتل عليها، لفهم الصحابة، فيبقى ما عداه على مقتضى اللغة، وهذه الرواية أعدل الأقوال، وهي اختيار الخرقي، والخلال، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي: إن اختيار الخلال الرواية الثانية كتلميذه، فإنه وهم، ولا نزاع أن التي في بيته أو مع غلامه أو مجنوبة ونحو ذلك لا تكون من السلب، وحيث حكم بالدابة أنها من السلب فكذلك ما عليها من آلتها، من سرج ولجام ونحو ذلك، لا ما كان محمولا عليها من دراهم

(6/482)


ونحو ذلك، إذا علم حكم الدابة، فالذي هو سلب عندنا بلا ريب ما كان على المقتول، من ثياب كعمامة، ودرع ومغفر ونحو ذلك، وسلاح كرمح وسيف، وسكين ونحو ذلك، وحلي كتاج وأسورة ونحوهما، لأن ذلك يدخل في اسم السلب. فشمله قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» .
3361 - وفي حديث عمرو بن معديكرب أنه حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه فصرعه، فنزل إليه فقطع يده، وأخذ سوارين كانا عليه، ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة، فسلم ذلك له، فأما المال الذي معه في كمرانه أو خريطته فليس من السلب، وكذلك خيمته ورحله، ونحو ذلك مما ليس في يده، لأن ذلك لا يدخل في مسمى السلب، فلا يتناوله الحديث.

(6/483)


[إعطاء الأمان للكفار]
قال: ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه.
ش: يصح إعطاء الأمان للكفار في الجملة بالإجماع، فيحرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، قال الله تعالى؛ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقد شاعت الأحاديث بذلك.
3362 - «قالت أم هانئ أخت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: «من هذه» ؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأم هانئ» ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» قالت أم هانئ: وذلك ضحى» . . . متفق عليه.
3363 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» . . . رواه البخاري والنسائي،

(6/484)


وقال) «من قتل قتيلا من أهل الذمة» .
3364 - وعن صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آبائهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» رواه أبو داود. إذا تقرر هذا فيشترط لمعطي الأمان أن يكون (مسلما) ، ولهذا قال الخرقي: منا. فلا يصح أمان الكافر، وإن كان ذميا.
3365 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم» رواه أحمد، وهو بعض حديث في الصحيح، فقيد ذلك بالمسلمين

(6/485)


(عاقلا) فلا يصح من مجنون، ولا طفل، ولا مغمى عليه، لأن كلامهم غير معتبر، وكذلك السكران، قاله أبو محمد، ويخرج فيه قول (مختارا) فلا يصح من مكره بلا ريب، وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان (إحداهما) - وهي أنصهما وأشهرهما - لا يشترط، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، والشيرازي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو بكر، وقال: رواية واحدة، حاملا لرواية الاشتراط على غير المميز، وهو مقتضى كلام شيخه، وذلك لعموم الحديث، إذ هو من المسلمين. (والثانية) - ويحتملها كلام الخرقي - يشترط، لأنه غير مكلف، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم غيره كالمجنون، فعلى الأولى من شرطه أن يكون عاقلا، قاله جماعة وبعضهم يقول: مميزا، وقيده الخلال بابن سبع، بشرط أن يعقل التخيير بين أبويه، (ولا فرق) بين الرجل والمرأة بالإجماع، لحديث أم هانئ.
3366 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المرأة لتأخذ على القوم» يعني تجير على المسلمين، رواه الترمذي، (ولا بين) الحر والعبد، لعموم الحديث.

(6/486)


3367 - وقد جاء أن عبدا أعطى أمانا، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إن العبد المسلم رجل من المسلمين، ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولا بين المطلق والأسير، والأجير والتاجر وغيرهم، لعموم الحديث.

قال: ومن طلب الأمان ليفتح الحصن ففعل، فقال كل واحد: أنا المعطى، لم يقتل واحد منهم.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية أبي طالب وأبي داود، وإسحاق بن إبراهيم، في قوم في حصن استأمن عشرة، ونزلت عشرة عشرة، فيقولوا: لنا الأمان، فيؤمنون كلهم ولا يقتل واحد منهم، مع أن هذا والله أعلم اتفاق، لأنه اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه، فحرم الكل، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وهل يجوز استرقاقهم؟ فيه قولان (أحدهما) - وهو ظاهر كلامه السابق - لا، لما تقدم. (والثاني) : يقرع بينهم، فيخرج واحد بالقرعة، ويسترق الباقون، لأن الحق لواحد منهم،

(6/487)


فعين بالقرعة، كما لو أعتق عبدا من عبيده وأشكل، وهذا القول عزاه الشيخان وغيرهما إلى أبي بكر، والذي في الروايتين أن أبا بكر قال: من أصحابنا من قال: يقرع بينهم، وأن أبا بكر قال: ظاهر كلام أحمد أنه لا يسترق واحد منهم، وذكر كلام أحمد السابق.

قال: ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارسا، فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة، فله سهم راجل، ومن دخل راجلا فأحرزت الغنيمة وهو فارس، فله سهم فارس.
ش: نفق فرسه أي مات، وكذلك يقال في كل دابة، ولا يقال لغيرها إلا مجازا، والاعتبار في الاستحقاق بحال الإحراز، فإن أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل، وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس، ولا عبرة بما قبل ذلك، قال أحمد: أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى، إن كان فارسا ففارس، وإن كان راجلا فراجل.
3368 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. اهـ - وذلك لأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك، فكان الاعتبار به بخلاف غيره.

(6/488)


[سهم الفارس والراجل في الجهاد]
قال: فيعطى ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.
ش: أي يعطى الفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.
3369 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم للفرس سهمين، وللراجل سهما» . متفق عليه، وفي رواية لأبي داود وأحمد: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه» .
3370 - وعن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام خيبر للزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعة أسهم، سهم للزبير، وسهم لذي القربى بصفية بنت عبد المطلب أم الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وسهمان للفرس. .» . رواه النسائي.
3371 - «وعن أبي عمرة عن أبيه قال: أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهما، وأعطى

(6/489)


الفرس سهمين» ، رواه أحمد وأبو داود.
3372 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين» .
3373 - وعن خالد الحذاء قال: لا يختلف فيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم» رواهما الدارقطني.
3374 - ولا يعارض الأحاديث هذه حديث مجمع بن حارثة الأنصاري قال: «قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ثمانية عشر سهما، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما» . . . رواه أبو داود، لترجحها عليه بكثرة رواتها، وأعلميتهم، وأصحيتها، ولذلك قال أبو داود: حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أصح، قال: وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فرس، وإنما كانوا مائتي فرس، ثم إن حديث مجمع يحتمل أنه أعطى الفارس

(6/490)


سهمين لفرسه، والراجل سهما، أي صاحبه، توفيقا بين الكل.

قال: إلا أن تكون فرسه هجينا، فيكون له سهمان، له سهم، ولهجينه سهم.
ش: الهجين الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، وعكسه يسمى المقرف، فإن كان أبواه غير عربيين فهو البرذون، وهذه الثلاثة حكمها واحد، ولهذا قال أبو محمد: أراد الخرقي بالهجين ما عدا العربي، واختلف في هذه (هل يسهم لها) وهو المذهب، كما يسهم لمن أبواه عربيان بالإجماع. ويسمى العتيق، لدخولها في قَوْله تَعَالَى: والخيل وفي مسمى الفرس، وقد قال الصحابة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفرس سهمين، (أو لا يسهم لها) لأنها لا تعمل عمل العراب، فأشبهت البغال، (أو إن أدركت) العراب أسهم لها مثل العربي، لأنها من الخيل، وقد عملت عمل العراب فأعطيت حكمها، وإن لم تدركها لم يسهم لها، لأنها كالبغال إذا؟ على ثلاث روايات، وحيث قلنا:

(6/491)


يسهم لها. فهل يسهم لها كما يسهم للعربي سهمان، وهو اختيار الخلال، لما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفرس سهمين، وهذه من الأفراس، أو لا يسهم لها إلا سهم، وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل، وأبي محمد.
3375 - لما «روى مكحول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفرس العربي سهمين، وأعطى الهجين سهما» ، رواه سعيد، وأبو داود في المراسيل، وروي موصولا عن مكحول، عن زياد بن حارثة، عن حبيب بن سلمة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عبد الحق: والمرسل أصح. ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل، فيكون سهمه أرجح، وقول الصحابي: أسهم للفرس سهمين. حكاية واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل أنه لم يكن في تلك الخيل غير عربي، وهو الظاهر، لقلتها عند العرب؟ على روايتين.

قال: ولا يسهم لأكثر من فرسين.
ش: يعني أن الرجل إذا كان معه أفراس، أسهم لفرسين منها فقط، لأن به إلى الثاني حاجة، لاحتمال موت الواحد، وضعفه بإدامة ركوبه.
3376 - وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى

(6/492)


أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب.
3377 - وعن الأوزاعي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس» . . . رواهما سعيد في سننه.

قال: ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان.
ش: (هل يسهم) للبعير مطلقا، وهو منصوص أحمد في رواية مهنا، واختيار القاضي، وجمهور أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل. وحكاه في الهداية عن الأصحاب، لقول الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ولأنه حيوان يسابق عليه بعوض، فجاز أن يسهم له كالخيل (أو لا يسهم له) وهو اختيار أبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد في المغني، وأورده في المقنع، وكذا أبو البركات مذهبا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه

(6/493)


أنه أسهم لغير الخيل، مع أنه لم تخل غزوة من غزواته من الإبل، ولو أسهم لها لنقل، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر عليه، فلم يسهم له كالبغل والحمار، (أو إن قدر) على غيره لم يسهم له، وإلا أسهم له لمكان العذر، وهو منصوص أحمد في رواية الميموني، واختيار الخرقي، وابن البنا، على ثلاثة أقوال، وحيث أسهم له فهل يسهم له سهم واحد، وهو قول العامة، لأنه لا يساوي الخيل قطعا، فاقتضى أن ينقص عنها، أو حكمه حكم الهجين، وهو مقتضى قول أبي محمد في المغني، وقول القاضي في الأحكام السلطانية؟ على قولين، وشرط أبو محمد في استحقاق السهم له أن يشهد الوقعة عليه، ويمكن القتال عليه، قال: فأما الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئا، لأنه أدنى حالا من الراجل.
(تنبيه) : ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة لا يسهم لها على المذهب المعروف، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه لم ينقل عنهم أنهم أسهموا لشيء من ذلك، وجعل القاضي في الأحكام السلطانية حكم الفيل حكم البعير، وهو حسن.

قال: ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في قسمه.

(6/494)


ش: لأنه والحال هذه ملك الحاضرون الوقعة الغنيمة واستحقوها، فالميت بعد ذلك مات عن حق، فيكون لورثته، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مات عن حق فلورثته» . ومفهوم كلام الخرقي أنه لو مات قبل ذلك لا حق له، وهو كذلك، لعدم الملك. وهذا هو مناط المسألة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

قال: ويعطى الراجل سهما.
ش: هذا اتفاق والله أعلم، وقد استفاضت الأحاديث بذلك.

[الرضخ للعبد والمرأة في الجهاد]
قال: ويرضخ للمرأة والعبد.
ش: الرضخ قال الجوهري: العطاء ليس بالكثير، والمراد هنا إعطاء شيء دون السهم من غير تقدير.
3378 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلا يضرب لهن» .
3379 - وعنه أيضا أنه كتب إلى نجدة الحروري: سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس؟ وإنه لم يكن لهما سهم معلوم، إلا أن يأخذا من غنائم القوم، رواهما

(6/495)


أحمد ومسلم.
3380 - وعنه أيضا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش» . . . رواه أحمد.
3381 - وما روي عن الأوزاعي قال: «أسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصبيان بخيبر» ، رواه الترمذي.
3382 - وكذلك قول بعض الصحابيات - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -: أسهم لنا في خيبر، كما أسهم للرجال. رواه أحمد وأبو داود

(6/496)


محمولان إن صحا على الإرضاخ، وقولها: كما أسهم للرجال، أي أعطانا كما أعطى الرجال، فالتشبيه في الإعطاء، لا في القدر، وحكم الصبي المميز حكم العبد، يرضخ له كما يرضخ له، لتساويهما معنى، وهو كونهما ليسا من أهل القتال، فتساويا حكما.
3383 - وعن سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة؛ والمدبر، والمكاتب، والمعلق عتقه بصفة كالقن، لأنهم عبيد، أما المعتق بعضه فقال أبو بكر: يرضخ له بقدر ما فيه من الرق، ويسهم له بقدر الحرية، لأن ذلك مما يتبعض، فأشبه الميراث. وظاهر كلام أحمد - على ما قال أبو محمد - أنه يرضخ له فقط، لعدم وجوب القتال عليه، ومن ثم قلنا في الخنثى المشكل أنه يرضخ له، ولأبي محمد احتمال أنه يعطى نصف سهم، ونصف رضخ كالميراث، قال: فإن انكشف حاله فتبين أنه رجل أعطي تمام السهم، لأنا تبينا أنه أخذ دون حقه.

[إعطاء الكافر من الغنيمة إذا قاتل مع المسلمين]
قال: ويسهم للكافر إذا غزا معنا.
ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي، والخلال وصاحبه والقاضي، وجماعة من أصحابه الشريف، والشيرازي وابن عقيل وغيرهم.
3384 - لما روى الزهري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لقوم من اليهود

(6/497)


قاتلوا معه.» رواه الترمذي وأبو داود في المراسيل، ولفظه: استعان بناس من اليهود فأسهم لهم، ولأن الكفر نقص في الدين، فلم يمنع السهم كالفسق، (والثانية) لا يسهم له، بل يرضخ له، لأنه من غير أهل الجهاد، فأشبه المرأة والعبد، وقد يمنع من هذا لمخاطبته بالفروع على الصحيح. وقول الخرقي: غزا معنا. لم يشترط أن يكون بإذن الإمام، وشرط ذلك الشيخان، وأبو الخطاب، لأنه غير مأمون، فأشبه المخذل، وكون المشهور أنه يسهم له، مع أن المشهور فيما أظن أنه لا يستعان به، قد يتناقض.

قال: وإذا غزا العبد على فرس لسيده، قسم للفرس وكان للسيد، ويرضخ للعبد.

(6/498)


ش: أما الرضخ للعبد فلما تقدم، وأما القسم للفرس فلأنه فرس حضر الوقعة، وقوتل عليه، فاستحق السهم، كما لو كان السيد راكبه، وفارق فرس الصبي ونحوه حيث لا يستحق السهم، لأن الفرس له، فإذا لم يستحق السهم لنفسه فلفرسه أولى، والعبد الفرس لغيره، وكأن الخرقي أشار إلى هذا التعليل بقوله: وكان للسيد، وإلا فالرضخ الذي يدفع للعبد هو للسيد.

قال: وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مددا أو هربا من أسر حظ.
ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أن الغنيمة تملك بالإحراز على ظاهر كلام الخرقي، لأن به يحصل تمام الاستيلاء، فعلى هذا إذا جاء مدد بعد ذلك، أو انفلت أسير فلا شيء له، لأنه حصل بعد ملك الغنيمة. وإن وجد قبل ذلك شاركهم (وعن القاضي) أن الغنيمة تملك بانقضاء الحرب، وإن لم تحرز، وهو الذي اعتمده أبو البركات في محرره، لأنها إذا حصل الاستيلاء عليها، فملكت كسائر المباحات، فعلى هذا إذا جاء المدد أو الأسير بعد انقضاء الحرب فلا شيء له وإن لم تحرز الغنيمة.
3385 - وقد روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة

(6/499)


قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف، قال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة فقلت: لا تقسم لهم يا رسول الله. فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر متحدر من رأس ضأن. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجلس يا أبان» ولم يقسم لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود، والبخاري تعليقا، وهذا ظاهره أنه بعد الإحراز.
3386 - وما «جاء عن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمنا فوافقنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين افتتح خيبر، فأسهم لنا؛ أو قال: أعطانا منها شيئا؛ وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم» . محمول على أنهم

(6/500)


قدموا وقت الفتح، قبل الإحراز، أو أن هذا كان خاصا بهم.

[إعطاء الطليعة والجاسوس والرسول من الغنيمة]
قال: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الوقعة أسهم له.
ش: وذلك كالطليعة والجاسوس والرسول.
3387 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام - يعني يوم بدر - فقال: «إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، وأنا أبايع له» فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهم، ولم يضرب لأحد غاب غيره» ، رواه أبو داود.
3388 - وعنه أيضا قال: أما «تغيب عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت مريضة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لك أجر رجل وسهمه» رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه، ولأنه في مصلحتهم، فأشبه السرية مع الجيش.

[التفريق بين الوالد وولده والوالدة وولدها في السبي]
قال: وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده، ولا بين الوالدة وولدها.
ش: يعني لا يفرق بينهم في القسم.

(6/501)


3389 - أما بين الوالدة وولدها فلما روي عن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي.
3390 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرق بين والدة وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، ورد البيع» . رواه أبو داود، مع أن هذا إجماع فيها مع ولدها الطفل، وأما بين الوالد وولده فلأنه أحد الأبوين فأشبه الأم، ولما سيأتي في الأخوين، وإذا منع التفريق بين الأخوين فبين الأب وولده أولى، والله أعلم.

قال: والجد في ذلك كالأب، والجدة كالأم.
ش: لأنه إذا منع التفريق بين الأخوين فبين الجد وابن ابنه والجدة وابن ابنها أولى، ويقال من الأعز من الولد وولد الولد، ولأنهما يقومان مقام الأبوين في الحضانة، والميراث، والنفقة، فكذلك في تحريم التفريق، ولا فرق بين الجد والجدة من قبل الأب والأم، ولا بين الجد الأعلى والأدنى، لأن للجميع ولاية.

(6/502)


قال: ولا يفرق بين أخوين ولا أختين.
3391 - ش: لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له فقال: «أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعا» رواه أحمد. وفي «رواية: وهبني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما فعل غلامك» ؟ فأخبرته، فقال: «رده» » رواه الترمذي وابن ماجه. وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز التفريق بين سائر الأقارب عدا من تقدم، وهو الذي نصبه أبو محمد في المغني للخلاف، إذ الأصل حل البيع، خرج منه من تقدم، فمن عداه يبقى على مقتضى الأصل، وقال عامة الأصحاب - وتبعهم أبو محمد في كتابه الصغير -: لا يفرق بين كل ذي رحم محرم، قياسا على الإخوة، ولا نزاع في جواز التفريق بين سائر الأقارب عدا ذي الرحم المحرم، كما يجوز التفريق بين الأم وابنتها من الرضاع، لعدم النص في ذلك، وامتناع القياس على

(6/503)


المنصوص لقوته، وحيث منع التفريق (فهل ذلك مطلقا) وإن حصل البلوغ. وهو ظاهر إطلاق الخرقي، وإطلاق الأحاديث السابقة (أو يجوز) ذلك بعد البلوغ.
3391 - م - لما روى «سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمره علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغزونا فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فشنينا الغارة، فقتلنا على الماء من قتلنا، قال: فنظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في أثرهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، وفيهم امرأة من فزارة، عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، قال: فنفلني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، قال: فلقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السوق، فقال: «يا سلمة هب لي المرأة» فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا، فسكت وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله، قال: فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين، ففداهم بتلك المرأة» ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

(6/504)


(تنبيه) : والتفريق الممنوع منه التفريق في الملك، سواء كان ذلك بالبيع أو بالهبة، أو بغير ذلك إلا في العتق، وافتداء الأسرى، وكذلك إذا اشترى أمة فحملت عنده وولدت، ثم اطلع على عيب فأراد رد الأم وإمساك الولد، قاله جماعة من الأصحاب، وخالفهم الشيخان وهو الصواب، فقالا: يتعين هنا الأرش لتعذر التفرقة.

قال: ومن اشترى منهم وهم مجتمعون، فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه بالتفريق.
ش: إذا اشترى إنسان من لا يجوز التفريق بينهم، أو حصلوا في سهمه، ثم تبين أن لا نسب بينهم، رد الفضل الذي فيهم على المغنم، أو على الذي اشترى منه، لأن قيمتهم تزيد بذلك وتنقص، لكونهما نسيبين، وصار هذا كما لو اشترى شيئا فبان معيبا، فإنه يرجع بالأرش، كذلك هنا، يرجع عليه بالزيادة (واعلم) أن الخرقي لم يذكر إلا أنه يرد الفضل، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني والكافي، والقياس أنه يخير بين الرد أو رد الفضل، والله أعلم.

قال: ومن سبي من أطفالهم منفردا، أو مع أحد أبويه فهو مسلم، ومن سبي مع أبويه كان على دينهما.
ش: من سبي من أطفال الكفار منفردا عن أبويه حكم بإسلامه إجماعا، لانقطاع تبعيته عنهما الذي صار بها كافرا،

(6/505)


وإن سبي معهما فهو باق على دينهما في قول العامة، لبقاء التبعية.
3392 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث وقد تقدم، فهنا الأبوان باقيان، فهو باق على كفره، وفي التي قبلها قد عدما، فيصير على أصل الفطرة، وإن سبي مع أحدهما (فهل يحكم) بإسلامه، لانقطاع تبعيته عن مجموع الأبوين، إذ تبعيته لهما معلقة بوجودهما، وتغليبا للسابي والدار، وهو الذي قطع به أبو محمد، (أو لا يحكم) بإسلامه، لأنه قد ثبتت له التبعية، فلا تنقطع إلا بانعدامهما؟ على روايتين. (تنبيه) المميز كالطفل على المنصوص، وقيل بل كالبالغ، فلا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه.

[حكم ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه قبل القسمة]
قال: وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم، فأدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به.
3393 - ش: لما روى نافع أن عبدا لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أبق فلحق بالروم، فظهر عليه خالد فرده إلى عبد الله وأن فرسا لعبد الله غار فظهروا عليه، فرده إلى عبد الله؛ رواه البخاري وأبو داود. قال البخاري: وقال في رواية في الفرس: على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأبي داود في العبد

(6/506)


في رواية قال: فرده عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقسم.
3394 - ولحديث العضباء ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3395 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له» رواه الدارقطني، ولكنه ضعيف.
3396 - وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فيما أحرز المشركون من المسلمين، ثم

(6/507)


ظهر المسلمون عليهم بعد؟ قال: ومن وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم، رواه سعيد.

قال: فإن أدركه مقسوما فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى إذا قسم فلا حق له فيه بحال.
ش: (الرواية الأولى) نص عليها في رواية إسحاق بن إبراهيم، جمعا بين الحقين، إذ حق مالكه تعلق به قبل القسمة، فلما قسم أو بيع، إن قيل: إنه يأخذه بغير شيء. أفضى إلى ضياع حق الآخذ له، وإن قلنا: لا يأخذه أصلا أفضى إلى ضياع حقه، فقلنا: يرجع فيه، ويغرم القيمة أو الثمن جميعا، إعمالا للحقين ما أمكن.
3397 - ويروى «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلا وجد بعيرا له في المغنم، وقد كان المشركون أصابوه قبل ذلك، فسأل عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن وجدته قبل أن يقسم فهو لك، وإن وجدته قد قسم أخذته بالثمن إن شئت» ذكره ابن حزم أو ابن عدي، لكنه من رواية الحسن بن عمارة وهو متروك، وروي أيضا من حديث مسلمة بن علي، وإسماعيل بن عياش وهما ضعيفان.

(6/508)


(والرواية الثانية) رواها عنه جماعة، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3398 - وعنه أيضا أنه كتب إلى السائب: أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل إليه.
3399 - وعن سلمان بن ربيعة: إذا قسم فلا حق له فيه. رواهما سعيد. ولأن الأصل أن صاحبه لا يرجع فيه بحال، لأنه مال انتقل إلى المسلمين من أموال الكفار، فكان غنيمة كبقية أموالهم، خرج منه ما قبل القسمة لقضية النص، ولعدم تعلق حق معين به، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل.

(6/509)


وقول الخرقي: أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، يحتمل أنه يريد إذا اشتراه مشتر من المغنم بثمن، فصاحبه أحق به بذلك الثمن، ويحتمل أن يريد إذا حسب عليه بثمن، أي بقيمة فصاحبه أحق به بذلك، والأول أظهر في كلامه، وبالجملة الخلاف في كلتي الصورتين، وأبو البركات يحكي رواية ثالثة: أن في المقسوم لا حق له، وفي المشترى يأخذه بالثمن، وقال: إنه المشهور عن الإمام. واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي يستدعي أصلا، وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين في الجملة، وإلا إذا لم يملكوها فلا فرق بين قبل القسم وبعده، وهذا هو المشهور، وعليه تجري عامة نصوص الإمام، واختار أبو الخطاب في تعليقه أنهم لا يملكونها، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد، وتوجيه القولين، والتفريع عليهما له محل آخر، ومن المتأخرين من قال: إن الخلاف في الملك مبني على الخلاف في تكليف الكفار بالفروع، وليس بجيد، فإنه لا ريب أن المشهور ثم تكليفهم بها، والمشهور الحكم بملكهم هنا، ثم إنه لا نزاع أن الحربي لا يجري عليه حكم الإسلام في زناه وسرقته وقتله ونحو ذلك، إنما فائدة ذلك العقاب في الآخرة، وإذا قلنا يملكونها فهل ذلك بمجرد القهر والغلبة، أو لا بد مع ذلك من الحوز إلى ديارهم، وهو اختيار القاضي في روايتيه؟ فيه روايتان.

(6/510)


قال: ومن قطع من مواتهم حجرا أو عودا، أو صاد حوتا أو ظبيا، رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به.
ش: ملخصه أن من أصاب من مباح دار الحرب شيئا له قيمة فهو غنيمة.
3400 - لما «روي عن أبي الجويرية قال: أصبت جرة حمراء فيها دنانير، في إمارة معاوية، في أرض الروم، قال: وعلينا رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني سليم، يقال له معن بن يزيد، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين، وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس» لأعطيتك.
قال: ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت» . رواه أحمد وأبو داود، ولأنه أخذ بقوة المسلمين، فكان غنيمة كالمأخوذ منهم، وإن كان المأخوذ لا قيمة له، كالأقلام والأحجار فهو لآخذه، وإن صار له قيمة بعد ذلك بنقله ومعالجته، نص عليه أحمد، وقاله الشيخان اعتبارا بحاله الراهنة، وهذا يدخل في كلام الخرقي، وشرط الرد في المغنم أن يستغني عن أكله

(6/511)


والمنفعة به، لأنه لو وجد طعاما مملوكا لهم كان له أكله إذا احتاج إليه، فالمباح أولى.

قال: ومن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رده على المسلمين.
ش: إذا تعلف الإنسان من دار الحرب علفا، فله أن يعلف دابته بغير إذن.
3401 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه، رواه البخاري.
3402 - «وعنه أيضا أن جيشا غنموا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما وعسلا، فلم يؤخذ منه الخمس» . رواه أبو داود.
3403 - «وعن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبتسما» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وحكم علف دوابنا حكم طعامنا، بجامع

(6/512)


أن الحاجة قد تدعو إليهما، إذ الحمل فيه مشقة، وكذلك الشراء من دار الحرب، فاقتضت الحكمة إباحة ذلك توسعة على الناس، ورفعا للحرج والمشقة، ومن ثم إذا كان معه فهد أو كلب لم يكن له إطعامه، لأن هذا يراد للتفريج، فلا حاجة إليه في الغزو، فإن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رد الفاضل، لأن المقتضي للجواز في الأصل
الحاجة
، فإذا انتفت انتفى الجواز، وإذا يرد الفاضل على المسلمين، إما في المغنم وإما لبعض الجيش، فيصير ذلك كالواجد له ابتداء، وحكم الطعام حكم العلف إذا أخذ طعاما له أن يأكل منه، والأحاديث إنما وردت فيه، فإن أخذ أكثر مما يحتاج إليه رد الفاضل.
3404 - وقد روى ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق. رواه أبو داود. (تنبيهان) : «أحدهما» الاحتياج هنا أن يكون به حاجة إلى مثله في الجملة، وإن كان مما يمكنه أن يستغني، فلو أصاب طعاما أو علفا وعنده مثل ذلك، كان له أكله، وعلف دوابه، وإمساك ما عنده، هذا مقتضى كلام أبي محمد، وهو حسن، ونظير الحاجة هنا نظير الحاجة إلى الضبة كما تقدم. (الثاني) قد تقدم للخرقي وغيره من الأصحاب

(6/513)


أنه لا يجوز التعلف إلا بإذن الأمير. وقالوا هنا: من أخذ علفا له أن يعلف دوابه منه بغير إذن، وهذا يشمل ما إذا تعلف بإذن وبغير إذن، وأبلغ من هذا أن في كلام أبي محمد ما يقتضي أن له ذلك وإن نهاه الإمام، قال: إذا دخل الغزاة دار الحرب فلهم أن يأكلوا ما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم.
3405 - وقال الزهري: لا يؤخذ إلا بإذن الإمام، وقال سليمان بن موسى: لا يتركه إلا أن ينهى عنه الإمام، وهذا يقتضي أنه ينتفع بذلك وإن نهى عنه الإمام، لا يقال تحمل هذه المسألة على ما إذا وجد علفا، وثم على ما إذا تعلف، أي خرج لطلب العلف، لأن الخرقي قال هنا: تعلف كما قال ثم.

قال: فإن باعه رد ثمنه في المقسم.
ش: أي إذا باع شيئا من العلف رد ثمنه في المغنم، كذا قال الشيخان وغيرهما.
3406 - لما روى سعيد في سننه أن صاحب جيش الشام كتب إلى

(6/514)


عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك، فكتب إليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دع الناس يعلفون ويأكلون، فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله، وسهام المسلمين. ولأن له فيه حقا فصح بيعه، كما إذا تحجر مواتا، وفرق القاضي، وتبعه أبو محمد في الكافي، فقال: إن باعه لغير غاز فالبيع باطل، لأنه باع مال الغنيمة بغير إذن، وإذا يرد المبيع إن كان باقيا، أو قيمته أو ثمنه إن كان أكثر - إن كان تالفا، وإن باعه لغاز فلا يخلو إما أن يبيعه بطعام أو علف مما له الانتفاع به، أو بغير لك. (فالأول) ليس بيعا في الحقيقة، إنما دفع إليه مباحا، وأخذ مثله، فلكل منهما الانتفاع بما صار إليه، ويصير أحق به لثبوت يده عليه، ويتفرع على هذا أنه لو باع صاعا بصاعين، أو افترقا قبل القبض جاز إذ لا بيع، وإن أقرضه إياه فقبضه فهو أحق به، ولا يلزمه إيفاؤه، فإن وفاه أو رده إليه عادت يده كما كانت، (والثاني) لا يصح البيع أيضا، ويصير المشتري أحق به، استنادا لليد، ولا ثمن عليه، حتى لو أخذ منه رد إليه.

(6/515)


[مشاركة الجيش وسراياه في الغنيمة]
قال: ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم.
ش: يعني أن الجيش إذا دخل دار الحرب، فخرجت منه سرية أو أكثر، فإذا غنم الجيش شاركته السرية، وإن غنمت السرية شاركها الجيش، بعد أن يدفع إليها نفلها كما تقدم.
3407 - لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، ويرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم» » رواه أبو داود، وقال أحمد في رواية أبي طالب قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السرية ترد على العسكر، والعسكر يرد على السرية» .

قال: ومن فضل معه من الطعام، فأدخله البلد، طرحه في مقسم تلك الغنيمة، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى: مباح له أكله إذا كان يسيرا.

(6/516)


ش: الرواية الأولى نص عليها في رواية ابن إبراهيم، واختارها الخلال وصاحبه والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، للاستغناء عنه، وإذا يزول المقتضي للإمساك. (والثانية) نص عليها في رواية أبي طالب في الطبخة والطبختين من اللحم، والعليقة والعليقتين من الشعير، يدخله طرسوس، لا بأس به، لأن اليسير مما تجري المسامحة فيه.
3408 - وقد قال الأوزاعي: أدركت الناس يقدمون بالقديد، فيهديه بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة.
3409 - وعن القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة. رواه أبو داود، وهذه واقعة عين، لأنه يحمل إلى رحالهم وهم مسافرون، ولا نزاع في وجوب رد الكثير، إذ المسامحة لم

(6/517)


تجربه، بخلاف الكثير، ولأن المبيح الحاجة، وفي الكثير قد بينا أن لا حاجة به إليه.

قال: وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو، لزم الأسير أن يؤدي إليه ما اشتراه به.
ش: لأن الأسير يجب عليه فداء نفسه، ليخرج من حكم الكفار، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه، كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه.
3410 - وقد روى سعيد في سننه بسنده عن الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب، فأصابوا سبايا من سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم، قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رءوس أموالهم، فإن الحر لا يباع ولا يشترى؛ ولم يفرق الخرقي بين أن يكون ذلك بإذن الأمير

(6/518)


أو بغير إذنه، وصرح به غيره، ولم يجروا فيه رواية الضمان. وقول الخرقي: إذا اشترى المسلم، خرج مخرج الغالب، وإلا لو اشترى الأسير ذمي كان الحكم كذلك.

قال: وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية، ثم قدر عليهم ردوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا.
ش: أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا، ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم، فلا يجوز استرقاقهم، لبقاء ذمتهم، وانتفاء ما يوجب نقضها، وهذا - والله أعلم - اتفاق.

قال: وما أخذه العدو منهم من رقيق أو مال رد إليهم إذا علم به قبل أن يقسم.
ش: يعني أن حكم أموالهم حكم أموال المسلمين، على ما تقدم شرحه.
3411 - قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، فيدفع إليه قبل القسمة

(6/519)


وفيما بعدها على الخلاف.

قال: ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين.
ش: ظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم وإن لم يكونوا في معونتنا، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المغني، لأنا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم، فلزمنا القتال دونهم، فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم، لزمنا ذلك كالمسلمين، والمنصوص عن أحمد، واختيار القاضي أنه إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام، لأن أسرهم إذا كان لمعنى من جهته، وحيث وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم، إذ حرمة المسلمين أعظم، وهو بصدد أن يفتن عن دينه الحق، بخلاف الذمي، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجب فداء المسلم، وهو كذلك.
3412 - «وقد فادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
3413 - وفي الحديث: «أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني» أي الأسير.

[حكم الأكل من الغنيمة]
قال: وإذا حاز الأمير المغانم، ووكل بها من يحفظها، لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون.
ش: هذا تقييد للمسألة السابقة، وهو أن من أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا، فله أكله وعلف دابته منه بغير

(6/520)


إذن، بشرط أن لا يحوز الإمام المغانم، أما إذا حازها ووكل بها من يحفظها، فإنه لا يجوز لأحد أخذ شيء منه إلا لضرورة على المنصوص، واختيار أبي محمد، لأنها قبل ذلك بمنزلة المباحات، فإذا فعل فيها ذلك قوي ملك المسلمين فيها، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب ودار الإسلام، وجوز القاضي في المجرد الأكل منها في دار الحرب مطلقا لأن دار الحرب مظنة الحاجة، بخلاف دار الإسلام.

قال: ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم، فتغلب عليه العدو، لم يكن عليه شيء، وإن كان قد أخذ منه الثمن رد إليه.
ش: إذا باع الإمام بعض الغنيمة لمصلحة قبل قسمها، أو قسمها فباع بعضهم بعضا وتقابضا، ثم غلب العدو على المشتري فأخذه، فهل هو (من ضمان البائع) وهو اختيار الخرقي، لعدم كمال القبض، إذ الغنيمة في دار الحرب على خطر من العدو، لتشوف أنفسهم إليها، فأشبهت التمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ.
أو (من ضمان المشتري) وهو المشهور عن أحمد، واختيار الخلال وصاحبه، والقاضي، لأنه مال مقبوض، أبيح لمشتريه التصرف فيه، فكان ضمانه عليه، كما لو أحرز إلى دار الإسلام، ولأن نماءه للمشتري، فكان ضمانه عليه، لقوله

(6/521)


- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان؟» . على روايتين، وقيد أبو محمد الخلاف بما إذا لم يحصل تفريط من المشتري، أما إن حصل منه تفريط، كأن خرج بما اشتراه من العسكر ونحو ذلك، فإن ضمانه عليه بلا خلاف. ثم إن الخرقي إنما ذكر ذلك فيما اشتري من المغنم، وكذلك الشيخان وأبو الخطاب، ونصوص أحمد أيضا إنما وردت في ذلك، فعلى هذا ما اشتري من غير الغنيمة يكون ضمانه على المشتري بلا نزاع، والقاضي ترجم المسألة في روايتيه فيما إذا تبايع نفسان في دار الحرب وتقابضا، ثم غلب المشركون على المبيع فأخذوه.
وعلل رواية أن الضمان على البائع بأنه إذا كانت حال خوف فالقبض غير حاصل، بدليل ما لو ابتاع شيئا في دار الإسلام، وسلمه في موضع فيه قطاع الطريق، لم يكن ذلك قبضا صحيحا، ويتلف من ضمان البائع، كذلك هنا، وهذه الترجمة والتعليل يشمل الغنيمة وغيرها.
وهنا شيء آخر وهو أن القاضي والشيخين إنما حكوا الخلاف بعد القبض، ومقتضى هذا أن قبل القبض

(6/522)


يكون ذلك من ضمان البائع. رواية واحدة. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض للقبض، فقد يقال: إن كلامه محمول على ما قبل القبض، والذي أخذ منه القاضي في روايتيه مذهب الخرقي، وهو رواية أبي طالب، ظاهرها كذلك، فإنه قال: إذا اشتروا الغنيمة في أرض العدو، ثم غلبوا عليها، لا يؤخذ منهم الثمن، لأنه لم يسلم لهم ما اشتروه، وعلى هذا يرتفع الخلاف، ويكون قبل القبض من مال البائع، وبعده من مال المشتري.
وأبو الخطاب ترجم المسألة بما إذا وقع بعد لزوم البيع، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجوز قسم الغنيمة وتبايعها في دار الحرب، وهو كذلك.

[تحريق العدو بالنار وقطع الشجر وقتل الدواب في الجهاد]
قال: وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار.
ش: أي لا يرموا بالنار ونحو ذلك، (وهو إحدى الروايتين) ، وبها قطع أبو محمد في المغني.
3414 - لما روى «أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعث فقال: «إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش - فأحرقوهما بالنار» . ثم قال حين أردنا الخروج: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما» » . رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي وصححه.
3415 - وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يعذب بالنار إلا رب

(6/523)


النار» . ويستثنى من ذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بذلك، ارتكابا لأدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، ولهذا جاز رمي المسلم المتترس به إذا خيف على المسلمين، وكذلك إذا كانوا يفعلون ذلك بنا نفعل بهم، لينتهوا عن ذلك، ولعموم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ونحو ذلك.
3416 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قرية يقال لها أبنى فقال: «أيتها صباحا ثم حرق» . رواه أحمد وأبو داود،

(6/524)


ويحمل ذلك على أنه كان قبل النهي عن التحريق.
(والرواية الثانية) : يجوز رميهم بالنار، لحديث أسامة.
3417 - ولما روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وحريز بن عثمان، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي، وعبد الله بن قيس الفزاري، وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم، كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار، ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء. قال عبد الله بن قيس: ولم يزل أمراء المسلمين على ذلك. ويحمل ما تقدم على ما إذا صاروا في قبضتنا، فإنه لا نزاع أنهم لا يحرقون، ويستثنى من ذلك على هذه الرواية ما إذا كان تحريقهم يضر بالمسلمين، فإنه لا يفعل بلا ريب.
قال: ولم يغرقوا النخل.
3418 - ش: لما روي عن يحيى بن سعيد، أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع، فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتلوا امرأة، ولا

(6/525)


صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تغرقن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا تجبن. رواه مالك في الموطأ.
3419 - وروي عن مكحول قال: «أوصى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: «إذا غزوت - فذكر أشياء قال: - ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تؤذين مؤمنا» » .
3420 - وعن القاسم مولى عبد الرحمن، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر نحوه: - «ولا تحرقن نخيلا ولا تغرقها، ولا تقطع شجرة ثمر، ولا تقتلن بهيمة ليست لك بها حاجة، واتق أذى المؤمن» . رواهما أبو داود في المراسيل.
3421 - ولعموم نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النحل، وقتل شيء

(6/526)


من الحيوان صبرا، وحكم تغريقه حكم قتله.
قال: ولا تعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه.
ش: أما عقر ذلك وإتلافه لغير الأكل فلا يخلو إما أن يكون في الحرب، أو في غيرها، فإن كان في الحرب فإنه يجوز بلا خلاف، قاله أبو محمد، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم، وهو المراد كيف ما أمكن. ولهذا جاز قتل نسائهم وصبيانهم في البيات، بخلاف ما إذا قدر عليهم منفردين، وقد تقدم حديث المددي الذي عقر فرس الرومي، وإن كان في غير حال الحرب لم يجز، لما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل الحيوان صبرا، واختار أبو محمد جواز ذلك إن كان مما يستعين به الكفار في القتال، كالخيل، بشرط أن يعجز المسلمون عن سياقته وأخذه، لأنه

(6/527)


يحرم إيصال ذلك إلى الكفار بالبيع ونحوه، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم، ومال أبو العباس إلى الجواز على سبيل المقابلة، كما سيأتي في الزرع، وأما العقر للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح بلا خلاف. إذ ذلك يبيح مال المعصوم، فالكافر أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام، وسائر الطيور، فهذا كالطعام في قول الجميع، قاله أبو محمد، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل، لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعا، قاله أبو محمد أيضا. وإن كان قد تقدم أنه هو يبيح عقر هذا لغير الأكل بشرطه فللأكل أولى، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ونحوهما لم يبح في قول الخرقي وغيره.
3422 - لما «روي عن رجل من الأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: «إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة» . رواه أبو داود.
وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد إباحة ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لظاهر ما تقدم

(6/528)


عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقياسا لذلك على الطعام، وأبو البركات قال: لا يعقر إلا لأكل يحتاج إليه، فيحتمل أن يكون كقول الخرقي، ويحتمل أن يكون أعم، واستثنى أبو محمد من قول الخرقي أن يأذن الإمام في ذلك.
3423 - لما روى عطية بن قيس قال: كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الإمام: ألا من أراد أن يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول، إنا لا نستطيع سياقها. رواه سعيد.

قال: ولا يقطع شجرهم، ولا يحرق زرعهم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلدنا، فنفعل بهم ذلك لينتهوا.
ش: حرق الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام، (أحدها) : يجوز بلا خلاف على ما قال أبو محمد، وهو ما إذا كانوا يفعلون ذلك بنا فنفعل ذلك بهم لينتهوا، ولما تقدم، أو لا يقدر عليهم إلا بذلك، كالذي يقرب من حصونهم، ويمنع من قتالهم، أو يستترون به من المسلمين ونحو ذلك، قال أبو محمد: أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق، أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق، أو ستارة منجنيق، ونحو ذلك.

(6/529)


(القسم الثاني) : ما يضر بالمسلمين قطعه، لكونهم ينتفعون ببقائه للعلف أو الاستظلال، أو أكل الثمرة، أو لكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا، فلا يجوز دفعا للضرر المنفي شرعا.
(القسم الثالث) : ما عدا هذين، وهو ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم، فهذا فيه روايتان. (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب -: لا يجوز، لما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحديث القاسم. (والثانية) - وهي أظهر -: يجوز، لما تقدم في حديث أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3424 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] الآية» ، متفق عليه، ويحمل دليل الرواية الأولى على ما فيه نفع لنا، وقرينة ذلك قوله: شجر مثمر.

(6/530)


[حكم الزواج في أرض العدو]
قال: ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، ولا يتزوج منهم.
ش: هذا تقييد لكلامه السابق، وهو أن حرائر أهل الكتاب حلال، وقد تقدم أن ظاهر كلامه الجواز، بناء على عدم القيد، وإذا ظاهر كلامه المنع في دار الحرب وإن اضطر، والجواز في دار الإسلام كما هو القول الثالث ثم.
والقاضي لما كان مختاره جواز نكاح الحربيات من أهل الكتاب، حمل كلام الخرقي على الكراهة التنزيهية، وأبو محمد حمل كلام الخرقي على من دخل إليهم بأمان، دون من كان في جيش المسلمين، فيباح له التزويج.
3425 - لما «روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسماء بنت عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهم تحت الرايات» . . رواه سعيد. وقال: إن ظاهر كلام أحمد في الأسير المنع.
وإذا هذا قول خامس: يمنع الأسير، ومن دخل بأمان، دون الداخل في الجيش.
وقال الخرقي: إنه إذا تزوج مسلمة يعزل عنها، لأن أحمد كما تقدم إنما منع من أجل الولد، خشية أن يستعبد، ويصير على دينهم.

(6/531)


قال: ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم.
ش: هذا من نمط الذي قبله، لأنه إذا وطئ في الفرج لا يأمن أن تلد ويغلبوه على ولدها، فيسترقوه ويفتنوه عن الفطرة التي فطره الله عليها.
قال: ومن دخل في أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم.
ش: لأن إعطاءه الأمان مشروط بذلك عرفا، وإن لم يكن مذكورا لفظا، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا للعهد، وإذا كان ذلك مشروطا لزم الوفاء به، إعمالا للشرط، وحذارا من الغدر، فعلى هذا إن خانهم أو سرق منهم، أو اقترض منهم، ونحو ذلك وجب عليه رد ذلك إلى أربابه.
وقوله: لم يخنهم في مالهم، يفهم منه بطريق التنبيه أنه لا يخونهم في أنفسهم.

[حكم المعاملة بالربا في أرض العدو]
قال: ولم يعاملهم بالربا.
ش: لأن ذلك نوع خيانة، ولأن عقد الأمان اقتضى أنه يجري معهم على حكم الإسلام، ومن حكم الإسلام تحريم الربا. ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يكن ثم أمان كان له أن يعاملهم بالربا، وهذا إحدى الروايتين. وبه قطع أبو البركات، نظرا إلى أن له أن يتحيل على أخذ أموالهم بكل وجه من الوجوه، إذ ليس ذلك بأسوأ حالا من السرقة ونحوها.
(والرواية الثانية) ، وبها قطع أبو محمد: لا يجوز، إعمالا لعموم آية تحريم الربا.

(6/532)


قال: ومن كان لهم مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم.
ش: لأن المقتضي لعدم حربهم العهد وقد زال.
قال: ولم تسب لهم ذرية، ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه.
ش: لأن العهد يشمل الرجال والذرية، والنقض إنما وجد من الرجال، فتختص إباحة الدم بهم، وتبقى عصمة ذريتهم.
3426 - قال الإمام أحمد: قالت امرأة علقمة بن علاثة لما ارتد: إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد، أما من حملت به أمه وولدته بعد النقض فإنه يجوز سبيه واسترقاقه بلا ريب، لعدم ثبوت الأمان له بحال، وكذلك من حملته قبل النقض ثم ولدته بعده، على ظاهر كلام الخرقي، وكلام أبي محمد، اعتبارا بالولادة، لأن بها ترتب الأحكام، وظاهر كلام أبي البركات أنه لا يجوز سبيه ولا استرقاقه، اعتبارا بحال انعقاده، وقد تقدم للخرقي مثل ذلك في موضعين فنبهنا عليهما، وحكم النساء حكم الذرية، ولا فرق في هذا

(6/533)


بين أن يكون العهد الذي لهم بذمة أو بأمان، أما لو كان بهدنة فإن عهد ذريتهم ونسائهم ينتقض لنقضه فيهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبى ذراري بني قريظة حين نقضوا عهده.

قال: وإذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم، وأعطوا ما استؤجروا به.
ش: ظاهر هذا أنه يصح الاستئجار على الجهاد مطلقا، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وغيره، قال في قوم استأجرهم الأمير في دار الإسلام، على أن يغزو بهم، هل يسهم لهم مع سهام المسلمين؟ فقال: لهم الأجرة التي استؤجروا بها، وليس لهم في الغنيمة شيء، ولا يسهم لهم.
3427 - وذلك لما روي عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذي يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم، مثل أم موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . رواه سعيد في سننه، ولأنه أمر لا

(6/534)


يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، بدليل صحته من الكافر، فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد، (وعن أحمد) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لا يصح الاستئجار عليه مطلقا، وهو اختيار القاضي في تعليقه، وحمل كلام أحمد والخرقي على الاستئجار لخدمة الجيش، كالاحتطاب ونحوه لا للقتال، وذلك لأنه قربة وطاعة، فلا يصح الاستئجار عليه، كالأذان وصلاة الجنازة، وتوسط القاضي في غير التعليق، وأبو محمد في المقنع، فصححه بمن لا يلزمه الجهاد، كالعبد والمرأة، بخلاف من يلزمه كالرجل الحر، لأنه يتعين عليه بحضوره، فلم يصح استئجاره عليه كالحج، ومقتضى اختيار أبي محمد وأبي البركات صحة الاستئجار وإن لزمه، إلا أن يتعين عليه فلا يصح.
وعليه حمل أبو محمد إطلاق الخرقي، وهو متعين، وحيث قلنا: لا يصح الاستئجار فإن وجود الإجارة كعدمها، فللأجير السهم كما لو لم يكن إجارة، وحيث قلنا بالصحة فهل يقسم للأجير؟ فيه روايتان، (إحداهما) وهي اختيار الخرقي، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع: لا يسهم له.
3428 - لما «روى يعلى ابن منية قال: أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغزو وأنا شيخ كبير، ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني، وأجري له سهمه، فوجدت رجلا، فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدري ما السهمان، وما يبلغ سهمي؟ فسم لي

(6/535)


شيئا، كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أمره، فقال: «ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سماها» . رواه أبو داود.
(والثانية) : وهي اختيار الخلال وصاحبه: يسهم له، لما تقدم من حديث جبير بن نفير، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
3429 - وفي مسلم وغيره في حديث طويل «أن سلمة بن الأكوع كان أجيرا لطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة، لما أغار على سرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» .
وقد حمل هذا على أجير يقصد مع الخدمة والجهاد، وحديث يعلى على من لم يقصد الجهاد أصلا، فعلى الرواية الأولى يعطى ما استؤجر به للجهاد، لأنه عوض على عمل وقد عمله

(6/536)


فاستحق ما جعل له في مقابلته، وكذلك ينبغي على الثانية، غايته أنه حصل له مع العوض زيادة وهو السهم.
(تنبيه) : محل الخلاف فيمن استؤجر للجهاد، أما الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء فلهم السهم، لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا، لا أنه عوض عن الجهاد، وكذلك من يعطى من الصدقات، وكذلك لو دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به كان له أجره ولم يكن عوضا.
3430 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جهز غازيا كان له مثل أجره» .

[حكم الغلول من الغنيمة]
قال: " ومن غل من الغنيمة حرق كل رحله، إلا المصحف وما فيه روح ".
ش: الغال: هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة، ولا يطلع عليه الإمام، وهو محرم بلا ريب.
3431 - «فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم خيبر أقبل

(6/537)


نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة» . ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» » . رواه أحمد ومسلم.
3432 - وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان على ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل يقال له: كركرة، فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو في النار» ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها» ، رواه أحمد والبخاري.
3433 - وحكمه أنه يحرق رحله لما روي عن صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد

(6/538)


غل، فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه» . قال: فوجدت في متاعه مصحفا، فسألت سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
3434 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حرقوا متاع الغال» رواه أبو داود، وزاد في رواية تعليقا: ومنعوه سهمه، ويختص التحريق بالمتاع الذي غل وهو معه، فلو استحدث متاعا، أو رجع إلى بلده وله فيه متاع، أحرق ما معه حال الغلول فقط، وإن انتقل المتاع عنه بهبة أو بيع

(6/539)


ونحوهما فهل ينقض ذلك ويحرق لتعلق التحريق به قبل ذلك، أو لا، لأنه صار إلى غيره، أشبه ما لو مات فصار إلى الورثة؟ فيه احتمالان، (ويستثنى) من المتاع الذي يحرق (المصحف) لحرمته. ولما تقدم من قول سالم فيه: (وما فيه روح) ، لحرمته أيضا، ولنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعذب بالنار إلا ربها، ولم يستثن الخرقي غير هذين. (واستثنى غيره السلاح) لحاجته إليه في القتال، وآلة دابته تبعا لها، وثيابه التي عليه، حذارا من تركه عريانا، ونفقته لأنها لا تحرق عادة.
قال أبو محمد: وينبغي أن يستثنى أيضا كتب العلم والحديث، إذ نفع ذلك يعود إلى الدين، والمقصود إضراره في دنياه لا دينه.
وجميع ما استثني وكذلك ما أبقت النار من حديد ونحوه فإنه يبقى للغال. . ولأبي محمد احتمال في المصحف أن يباع ويتصدق بثمنه، اتباعا لقول سالم.
وقول الخرقي: ومن غل، يشمل الذكر والأنثى، والمسلم والذمي، وهو كذلك، وكذلك يشمل العبد والصغير، وهما مستثنيان، فالعبد، لأن متاعه لسيده، ولا يجني جان إلا على نفسه، والصبي، لأن الإحراق عقوبة، والصبي ليس من أهلها.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يحرم سهمه، وهو إحدى الروايتين، إذ أكثر الروايات ليس فيها ذلك، (والثانية) : يحرم، للرواية التي رواها أبو داود، وظاهر كلامه أيضا أن الحكم مختص بالغال، فيخرج السارق، وهو أحد الوجهين، اقتصارا على مورد النص.
(والثاني) حكم

(6/540)


السارق حكم الغال، بجامع الخيانة فيهما.

[إقامة الحد على المسلم في أرض العدو]
قال: ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو.
3435 - ش: لما «روى بسر بن أرطاة أنه وجد رجلا سرق في الغزو، فجلده ولم يقطع يده. وقال: نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القطع في الغزو.» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي؛ ولأن إقامة الحد والحال هذه مما يطمع العدو في المسلمين، وربما كان المقام عليه الحد ضعيف الإيمان فيلحق بالعدو، وبذلك علل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(6/541)


3436 - فعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم، فيطمع فيكم؟
3437 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية، ولا رجلا من المسلمين حرا وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، رواه سعيد.
3438 - وعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثل ذلك. وقد أشعر كلام الخرقي أنه إذا رجع من أرض العدو أقيم عليه الحد، وهو كذلك، لعموم أمر الله ورسوله بإقامة الحدود، ولقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

[قتل الأطفال النساء والرهبان والمشايخ في الحرب]
قال: وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم، أو ينبت، أو يبلغ خمس عشرة سنة.

(6/542)


ش: إذا ظفر الأمير بالكفار لم يقتل صبيا.
3439 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان، وفي رواية: فأنكر» . رواه الجماعة إلا النسائي، ولأن الصبي رقيق بنفس السبي، ففي قتله إتلاف مال بلا ضرورة، وإنه ممتنع والحال هذه بلا ريب.
والصبي هو من لم يبلغ، ويعرف البلوغ بواحد من ثلاثة أشياء (أحدها) : الاحتلام إجماعا، بشهادة النص بذلك، قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] .
3440 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» .

(6/543)


3441 - «وقال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خذ من كل حالم دينارا» .
3442 - وقال: «رفع القلم عن ثلاثة - ذكر منها - الصبي حتى يحتلم» . رواه أبو داود. (والثاني) إنبات الشعر الخشن حول القبل.
3443 - لما روي عن عطية القرظي قال: «عرضنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي» . رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ: فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل، ومن لا، ترك. رواه أحمد والنسائي.
(الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة.
3444 - لما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . رواه الجماعة، قال نافع: فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال: هذا فصل ما بين الرجال وبين

(6/544)


الغلمان. فمن لم يوجد فيه علامة من هذه فهو صبي، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى، وتزيد الأنثى بالحيض والحمل.
قال: ومن حارب من هؤلاء أو النساء أو الرهبان أو المشايخ في المعركة قتلوا.
ش: هذا والله أعلم اتفاق.
3445 - وقد روي «عن رباح بن ربيع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فمر رباح وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على امرأة مقتولة، مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» . فقال لأحدهم: «الحق خالدا، فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا» » . رواه أحمد وأبو داود. وهذا يدل على أن المانع من القتل عدم القتال،

(6/545)


فمتى وجد القتال زال المانع، ولعموم: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] . وفي معنى القتال إذا كان لهم رأي فيه، لأن الرأي أبلغ من القتال. قال أبو الطيب:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان
3446 - ولهذا قتل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دريد بن الصمة، لأنه يدبر أمر الحرب. وقد فهم من كلام الخرقي أن النساء والرهبان والمشايخ إذا

(6/546)


لم يقاتلوا لا يقتلون، وهو كذلك، أما في النساء فلما تقدم.
3447 - (وأما في الرهبان) فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» » . رواه أحمد.
3448 - (وأما في المشايخ) فلما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، أصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين» . رواه أبو داود، ولما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا، ولا كبيرا هرما.

(6/547)


3449 - وعن راشد بن سعد قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل الشيخ الذي لا حراك به» . رواه ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة، وهو مرسل.
3450 - وروى أيضا من طريق حماد بن سلمة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقتلوا صغيرا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا» .
3451 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه وصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا. رواه سعيد.
3452 - ويحمل حديث سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم» . رواه أبو داود والترمذي، وقيل: إنه صححه. (على الشيوخ) الذين فيهم قوة

(6/548)


على القتال، إذ عدم القتال مختص بالشيوخ الفانين، لما تقدم من النصوص، والخاص مقدم على العام (أو على شيوخ) لهم رأي في القتال، جمعا بين الأدلة، على أنه قد ذكر عبد الحق سنده، وأنه من رواية حجاج بن أرطأة وسعيد بن بشير، وقال: إنه لا يحتج بهما؛ ثم لو تعذر الجمع من كل وجه فحديثنا أولى، لعمل الشيخين عليه، وذلك دليل على أنه آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكم الزمن والأعمى حكم الراهب ونحوه. وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث رباح إلى ذلك، حيث علل بكون المرأة لم تقاتل، وكذلك المريض الميؤوس من برئه، أما لو كان ممن لو كان صحيحا لقاتل فإنه يقتل، لأنه بمنزلة الإجهاز على الجريح، قال ذلك أبو محمد، وكذلك قال في العبيد لا يقتلون لحديث رباح، وقال في الفلاحين إذا لم يقاتلوا: ينبغي أن لا يقتلوا، قياسا لهم على الشيوخ والرهبان، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد، والخنثى المشكل لا يقتل

(6/549)


لاحتمال كونه امرأة، ذكره في الكافي.
قال: وإذا خلي الأسير منا وحلف لهم أن يبعث إليهم بشيء بعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم.
ش: إذا أسر الكفار مسلما، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم شيئا معلوما، أو يعود إليهم إن لم يقدر على ذلك، فإنه يلزمه الوفاء لهم، كما اقتضاه كلام الخرقي، لعموم: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91] ، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . ولما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغدر.
3453 - وقال: «إنه لا يصلح في ديننا الغدر» .
3454 - وجعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من علامات المنافق، ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى، وفي تركه مفسدة، لأنهم لا

(6/550)


يؤمنون بعده، والشارع بعث بجلب المصالح، ودرء المفاسد، ولأنه عاهدهم على مال، فلزمه الوفاء لهم، كثمن المبيع، أو كالمشروط في عقد الهدنة، فإن لم يقدر عليه، (فإن كان امرأة) لم ترجع إليهم، بل ولا يحل لها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الآية.
3455 - وفي قصة الصلح بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقريش التي رواها البخاري وغيره من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال فيها: ثم جاء نساء مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] ، حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
3456 - وعن مروان والمسور بن مخرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ

(6/551)


وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] ، إلى: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] .» رواه البخاري. فمنع الله سبحانه من رجوع النساء إلى الكفار، وامتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ردهن.
وقد اختلف في دخول النسوة في قضية الصلح، فقيل: لم يدخلن، لقوله في القصة: على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته. وقيل: دخلن فيه، لقوله في رواية أخرى: ولا يأتيك منا أحد. لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية اهـ. (وإن كان رجلا) فهل يرجع إليهم؟ فيه روايتان:
(إحداهما) - وهي التي ذكرها الخرقي - لا يرجع أيضا كالمرأة، ولأن تمكنهم منه والبقاء في أيديهم معصية، فلم يجز كما لو شرط قتل مسلم، أو شرب خمر.
(والثانية) : يلزمه الرجوع إليهم وفاء بالعهد، لما تقدم في بعث المال، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما، وفى لهم بذلك، ولم ينهه الله سبحانه عن ذلك، وقول الخرقي: حلف. ذكره على سبيل المثال، وإلا المقصود الشرط.

(6/552)


قال: ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ومباح له أن يهرب من ثلاثة.
ش: الأصل في ذلك قول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، أوجب سبحانه أولا على الواحد الثبات للعشرة، ثم رحم ضعفنا وخفف عنا فأوجب ثبات الواحد للاثنين، إذ هذا خبر في معنى الأمر، أو خبر عما استقر في حكم الشرع، وهذا أحسن، أو متعين هنا، إذ لو كان خبرا بمعنى الأمر لكان التقدير: إذا كان عشرون صابرون فليغلبوا؛ فيكون التكليف إنما هو للصابر فقط، والصبر واجب على المكلف، لا شرط في التكليف، وأيضا فيكون أمرا بالغلبة وذلك ليس إليهم إنما الذي إليهم الصبر والقتال والغلبة من الله تعالى، فإذا المعنى المقرر في حكم الشرع أن المائة الصابرة تغلب مائتين فلتصبر، وحيث غلبت المائة من المائتين فلعدم صبرها.
3457 - وقد بين ذلك وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين. رواه البخاري.
وله أيضا في رواية، ولأبي داود قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ،

(6/553)


شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
3458 - ويروى عنه أيضا أنه قال: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر. وعلى هذا يحمل ما ورد من النهي المطلق عن تحريم الفرار يوم الزحف، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] الآية.
3459 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات» . قالوا: وما هن يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» » . متفق عليه.
(ويستثنى) من تحريم الفرار من المثلين فما دون (الفرار للتحرف) لمصلحة قتال بأن ينحاز

(6/554)


إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، كما إذا كان في مقابلة الشمس، أو الريح فاستدبرهما، أو كان في وهدة أو في معطشة، فانحاز إلى علو أو إلى ماء، أو استند إلى جبل، أو نفر بين أيدي الكفار لتنتقض صفوفهم، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، أو (الفرار للتحيز) إلى فئة من المسلمين، ليتقووا بها على عدوهم، وإن بعدت الفئة، حتى قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان، والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا} [الأنفال: 16] إِلَى فِئَةٍ الآية.
3460 - ويروى أن عمر كان يوما في خطبته إذ قال: يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم الذئب من استرعاه الغنم. فأنكرها الناس، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دعوه فلما نزل سألوه عما قال، فلم يعترف به، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق ليغزوهم، فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم، فسمعوا صوت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتحيزوا إلى الجبل، فنجوا من عدوهم، وانتصروا عليهم.

(6/555)


3461 - ويروى عنه أيضا أنه قال: أنا فئة كل مسلم. وكان بالمدينة، وجيوشه بمصر والعراق والشام وخراسان. رواه سعيد.
3462 - «وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟ وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: «من الفرارون؟» فقلنا: نحن الفرارون. قال: «لا بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين» . قال فأتيناه حتى قبلنا يده» . رواه أحمد وأبو داود. وقوله: حاصوا

(6/556)


حيصة، أي: حادوا حيدة. ومنه قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48] .
وقول الخرقي: ومباح له أن يهرب من ثلاثة. ذكره على سبيل المثال، والمراد أنه يباح للمسلمين الفرار مما زاد على مثليهم. هذا هو المعروف، واختار أبو العباس تفصيلا ملخصه: أن القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب، (فالأول) كأن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين، قال: فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب عليهم أن يبذلوا مهجهم في الدفع حتى يسلموا، ونظير ذلك أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم، (والثاني) لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها، فقبلها هي مسألة الكتاب، وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقا إلا لتحرف أو تحيز، كما دل عليه قوله سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] . وقصة بدر مرادة منها، والمشركون إذ ذاك

(6/557)


ثلاثة أضعاف المسلمين، مع أحاديث الفرار من الزحف، ومفهوم آية الأنفال الناسخة تحمل على ما قبل الشروع، إذ المفهوم يكتفى فيه بمطلق المخالفة، اهـ.
وظاهر كلامه أنه يباح لهم الفرار والحال هذه وإن غلب على ظنهم الظفر، وهو المعروف عن الأصحاب، عملا بإطلاق الآية الكريمة، ولأبي محمد في المغني احتمال بوجوب الثبات والحال هذه، لما فيه من المصلحة، وهو ظاهر كلامه في المقنع، وظاهر كلام الشيرازي، قال: إذا كان العدو أكثر من مثلي المسلمين، ولم يطيقوا قتالهم، لم يعص من انهزم، لأن الله تعالى جعل الرجل منا بإزاء الرجلين منهم، فإذا صاروا ثلاثة جاز للمسلم أن ينهزم منهم إذا خشي قهرهم، اهـ.
ولو غلب على ظنهم والحال هذه الهلاك فالفرار أولى، حذارا من كسر قلوب المسلمين، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الثبات وفي الانصراف فالأولى أن يقاتلوا، ولا يفروا ولا يستأسروا، لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين، ويسلموا من تحكم الكفار عليهم، ولجواز أن

(6/558)


يغلبوا، قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ، ويجوز لهم أن يفروا لظاهر الآية، وأن يستأسروا على المشهور المختار من الروايتين فيهما.
3463 - لأن خبيبا الأنصاري وابن الدثنة سلما أنفسهما للأسر عند العجز والغلبة، وامتنع من ذلك عاصم بن ثابت الأنصاري في سبعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - حتى قتلوا، وكان الكل محمودين والقصة في البخاري وغيره.
(والرواية الثانية) : يلزمهم القتال.
3464 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من استأسر للمشركين من غير حاجة» . ذكره ابن حزم لكنه ضعيف، وهو اختيار الخرقي، قال: فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل.

(6/559)


قال: ومن آجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة، فمباح له ما أخذ إن كان راجلا أو على دابة يملكها.
ش: يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على حفظ الغنيمة، ويباح له ما أخذ، لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة، فجاز كما لو أجر نفسه. [ليدلهم على الطريق ونحو ذلك، وهذا إذا كان راجلا أو على دابة يملكها، أما لو أجبر نفسه] على حفظ الغنيمة وأطلق، فإنه يجوز له أن يركب دابة من المغنم، حذارا من استعمال ملك الغير بغير إذن شرعي، ولا عرفي. فإن شرط في الإجارة ركوب دابة معينة، فقال الشيخان: يجوز، إذ ذاك بمنزلة الأجرة وإطلاق الخرقي يحتمل المنع. وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه أنه لا يجوز لأحد ركوب دابة من المغنم، ولا ريب في ذلك في غير الغانمين، وكذلك في الغانمين في غير القتال، وأما في القتال فهل يجوز كما في السلاح، أو لا يجوز لتعرض الفرس للعطب غالبا بخلاف السلاح؟ على روايتين.
3465 - وقد روى رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه» . رواه أحمد وأبو

(6/560)


داود.
قال: ومن لقي علجا فقال له: قف أو ألق سلاحك. فقد أمنه.
ش: الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ما فيه اشتباه، إذ ذلك تنبيه على الواضح كأجرتك وأمنتك، ولا تخف ولا تذهل، ولا خوف عليك، ولا بأس عليك، ونحو ذلك مما يدل على الأمان، وقد ورد الشرع بأجرتك وأمنتك. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» .
3466 - وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . وبقية الألفاظ في معناهما، وعند أصحابنا أن حكم: قف أو ألق

(6/561)


سلاحك. حكم ذلك، لأن الكافر يعتقده أمانا، أشبه ما لو قال: أمنتك.
3467 - وقد روى مالك في موطئه عن رجل من أهل الكوفة أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عامل جيش كان بعثه: بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع قال رجل: مترس. يقول لا تخف؛ فإذا أدركه قتله. وإني والذي نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه.
وحكى أبو محمد احتمالا ومال إليه أنه لا يكون أمانا، لأن ذلك يستعمل للإرهاب والتخويف، أشبه ما لو قال: لأقتلنك؛ ويرجع إلى القائل، فإن نوى به الأمان فهو أمان، وإلا فيسأل الكافر فإن قال: اعتقدته أمانا، رد إلى مأمنه، وإلا فليس بأمان.

[حكم السرقة من الغنيمة]
قال: ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع.
ش: من سرق من الغنيمة ممن له فيها حق لم يقطع، لأن له فيها شبهة، وهو حقه المتعلق به، والحد يدرأ بالشبهة، وصار كما لو سرق من مال مشترك بينه وبين

(6/562)


غيره، وكذلك إذا سرق من غنيمة لولده فيها حق، لأن له في مال ولده حقا في الجملة، ولهذا لا يقطع بسرقته، وحق ولده متعلق بهذا المال، فصار كالذي قبله، وكذلك إذا سرق العبد من الغنيمة الذي لسيده فيها حق، لأنه لا يقطع بسرقة مال سيده، كما تقدم، فكذلك بما لسيده فيه جزء.
وقوله: ممن له فيها حق. يخرج ما إذا لم يكن له فيها حق، وله حالتان (إحداهما) : سرق قبل أن تخمس، وهو حر مسلم، فلا قطع عليه، لأن له حقا في الفيء. (الثاني) : سرق بعد أن خمست، فإنه يقطع لانتفاء الحقية.

[وطئ جارية السبي قبل قسمة الغنيمة]
قال: وإن وطئ جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني.
ش: يعني ممن له في الغنيمة حق أو لولده، فإنه لا حد عليه، لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة، فيكون للواطئ حق في الجارية أو لولده، فيدرأ عنه الحد لذلك للشبهة، وصار كالجارية المشتركة، وإذا انتفى الحد وجب التعزير بلا ريب، للمعصية المنتفي فيها الحد والكفارة، وقدره قد سبق بيانه فلا حاجة إلى إعادته.
وقوله: لا يبلغ به حد الزاني، يبين أن قوله ثم: لا يبلغ بالتعزير الحد، أن مراده ليس أدنى الحدود بل إما أعلاها، وإما أن كل ذنب لا يبلغ به حد جنسه.

(6/563)


قال: وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المغنم.
ش: لأن ذلك بدل منفعتها ومنفعتها لجميع الغانمين، فكذلك بدلها، فعلى هذا يطرح في المغنم ليعم جميع الغانمين، وقال القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته منها، ويجب عليه بقيته كالجارية المشتركة. ورده أبو محمد بأن قدر حصته قد لا يمكن، لكثرة الغانمين وقلة المهر، ثم إذا أخذناه فقد لا يمكن قسمته على بقية الغانمين مفردا، وإن طرح في المغنم وقسم على الجميع أخذ سهما مما ليس له فيه حق.
قال: إلا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها.
ش: يعني أنها إذا ولدت منه والحال هذه فإنها تصير أم ولد له، لأنه وطء لحق به النسب لشبهة الملك، أشبه وطء الأب جارية ابنه، وإذا صارت أم ولد له فعليه قيمتها تطرح في المغنم، لأنه أتلفها بفعله، أشبه ما لو قتلها، وسواء كان موسرا أو معسرا. وعن القاضي: إذا كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد، وباقيها رقيق للغانمين كالإعتاق. وفرق بأن الاستيلاد أقوى، لكونه فعلا، ولهذا نفذ من المجنون.
وظاهر كلام الخرقي أنها إذا صارت أم ولد لا مهر لها عليه، لأنه استثنى ذلك من وجوب المهر، وهو إحدى الروايتين، ولعل مبناهما على أن المهر هل يجب بمجرد

(6/564)


الإيلاج فيجب المهر أو لا يجب إلا بتمام الوطء، وهو النزع، فلا يجب لأنه إنما تم وهي ملك له، وظاهر كلامه أيضا أنه لا تجب قيمة الولد، وهو إحدى الروايتين، لأن ملكه حصل بالعلوق ولا قيمة للولد إذا.
(والثانية) : يجب عليه قيمة الولد حين وضعه، لأنه فوته عليهم، إذ من حقه أن يصير لهم. وقد علم من كلام الخرقي أن الولد حر لاحق نسبه بالواطئ، وإلا لم تصر أم ولد، وذلك لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك، أشبه واطئ جارية ابنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(6/565)