شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الشهادات]
ش: الشهادات جمع شهادة وهي الإخبار عما شوهد أو علم، ويلزم من ذلك اعتقاد ذلك، ومن ثم كذب الله المنافقين في قولهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] لأن قلوبهم لم تواطئ ألسنتهم، والشهادة يلزم منها ذلك، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا لم يصدق إطلاق نشهد.
انتهى ومن ذلك قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي من حضر منكم الشهر، وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] أي محيط، فالأول من الحضور، والثاني من الإحاطة بالشيء، وهو أعم من الأول، واشتقاقها قيل: من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما يشاهده وقيل لأن الشاهد بخبره يجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه، وتجيء الشهادة بمعنى الخبر.
3823 - ومنه «قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: شهد عندي رجال

(7/299)


مرضيون، وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب» ، ولا نزاع في مشروعية الشهادة والإشهاد، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] .
3824 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» رواه مسلم وغيره، في عدة أحاديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: ولا يقبل في الزنا إلا أربعة.

(7/300)


ش: هذا إجماع ولله الحمد، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] الآية، وحكم اللواط حكم الزنا، على أنه قد يدخل في اسم الزنا، وكذلك حكم من أتى البهيمة إن قلنا يحد وإن قلنا يعزر فهل يكتفى بشاهدين كبقية التعزيرات، أو لا بد من الأربعة؟ فيه وجهان.
(تنبيه) حكم الشهادة على الإقرار بالزنا حكم الشهادة على المقر به وهو الزنا، لا يثبت إلا بأربعة في رواية، وفي أخرى حكم بقية الإقرارات، يثبت بشاهدين والله سبحانه أعلم.

[شروط الشاهد]
قال: رجال.

(7/301)


ش: فلا مدخل للنساء في ذلك، وهو قول العامة، اعتمادا على ظاهر الآية، فإن الله سبحانه خاطب الحكام بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] أي والله أعلم من جنسكم وصفتكم، وهم الرجال المسلمون، وإلا لاكتفى بقوله: أربعة ثم الآية الكريمة تقتضي الاجتزاء بأربعة، ومن أجاز شهادة النساء فأقل ما يجزئ عنده خمسة، ثلاثة رجال وامرأتان مقام رجل، وإنه خلاف ظاهر الآية الكريمة، والله أعلم.

قال: أحرار.
ش: فلا تقبل شهادة العبيد في ذلك، على المشهور من المذهب، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، والله أعلم.

قال: مسلمين.
ش: لما تقدم من الآية الكريمة، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك إجماعا فقال: أجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين، عدولا ظاهرا وباطنا، وسواء كان المشهود عليه ذميا أو مسلما، ومقتضى هذا اشتراط عدالة الباطن في ذلك بلا خلاف، والله أعلم.

[نصاب الشهادة]
قال: ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين.

(7/302)


ش: أي عدا ما تقدم وهو الزنا، وقد شمل هذا أمورا (أحدها) الحدود والقصاص، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يقبل في ذلك إلا شهادة رجلين، فلا مدخل للنساء في ذلك وهو قول العامة، لأن شهادة النساء فيها شبهة، لتطرق الخطأ والنسيان إليها، كما شهد له النص في قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وذلك مما يندرئ بالشبهة، فوجب ألا يقبل فيه ذلك، وقد تقدم الكلام في القصاص في كتاب الجراح، وتقدم فيه رواية أخرى أنه لا يقبل فيه إلا أربعة.
(الثاني) من ادعى الفقر ليأخذ من الزكاة لم يقبل منه إلا بثلاثة، نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد.
لحديث قبيصة الذي رواه مسلم وغيره قال فيه: «ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة» الحديث، والمذهب عند القاضي الاجتزاء في ذلك بشاهدين كغيره، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، اعتمادا على {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ونحوه قال القاضي: وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار (الأمر الثالث) معرفة الموضحة وداء الدابة ونحوهما، يقبل فيه طبيب واحد، وبيطار واحد، إذا لم يوجد غيره، نص عليه أحمد، نظرا للحاجة، ونحو هذا ما نقل عنه في رجل يوصي ولا يحضره

(7/303)


إلا النساء، قال: أجيز شهادة النساء، وكذلك نقل عنه أنه أجاز شهادة النساء على الجراح، وفي الحمام، وهو حسن.
3825 - ولعل شهادة خزيمة من هذا الباب، وعليه يحمل قول الإمام أحمد: لا يقبل أنه وصي حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل.
أي والله أعلم إذا لم يوجد غيره.

(7/304)


وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا يقبل في جميع ذلك إلا رجلان، وقد صرح بذلك القاضي في الوصية، فقال: المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين.
(الرابع) ما عدا ما تقدم وما عدا المال وما يتعلق بالمال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، كالنكاح، والرجعة والولاء، والولاية والنسب، والتوكيل والإيصاء إليه في غير مال، فلا يقبل فيه على المذهب إلا رجلان، كما قال الخرقي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] خرج منه المال ونحوه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] لوروده في سياق المال، ففيما عداه يبقى على مقتضى الأمر، ولا يحسن إلحاق ما تقدم بالمال، إذ المال يسامح فيه، ما لا يسامح في النكاح ونحوه، ويكثر وقوعه بخلاف غيره، ونقل حرب عن أحمد: إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز، فإن كان معهن رجل فهو أهون.
فأخذ من ذلك أبو البركات رواية أن النكاح

(7/305)


يثبت بشاهد وامرأتين، وكذلك الرجعة لأنها في معناه، دون ما تقدم، وأخذ القاضي روايتيه من هذا النص نحوه أن كل ما لا يسقط بالشبهة هل يثبت بشاهدين، أو شاهد ويمين الطالب؟ على روايتين، وحكى عنه أبو محمد أن النكاح وحقوقه من الرجعة، والطلاق والخلع لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة، وما عدا ذلك يخرج على روايتين، وعلى هذا يتلخص في المذهب ثلاث طرائق، واتفقوا على أن المذهب أنه لا يقبل في الجميع إلا رجلان.

قال: ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين أو رجل عدل مع يمين الطالب.
ش: وذلك كالقرض والغصب، والديون كلها، وتسمية المهر، ودعوى رق مجهول النسب ونحو ذلك وذلك أما في الرجل والمرأتين فهو ولله الحمد إجماع، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية.
3826 - وأما في الشاهد واليمين فلما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بيمين وشاهد» ، رواه أحمد ومسلم، وأبو

(7/306)


داود، وزاد: في الحقوق.
ولأحمد في رواية: إنما كان ذلك في الأموال.
3827 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى باليمين مع الشاهد» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.

(7/307)


3828 - ولأحمد من حديث عمارة بن حزم، ومن حديث سعد بن عبادة مثله.

(7/308)


3829 - أبي داود والترمذي وغيرهما عن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نحوه.
3830 - ولابن ماجه عن سرق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز

(7/309)


شهادة الرجل ويمين الطالب» .
وهذه الأحاديث تنتهض لرتبة الاستفاضة، وزيادة أبي داود وأحمد في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تخرج ذلك عن أن تكون واقعة عين، وهو ظاهر بقية الأحاديث، وإذا يخصص عموم «ولكن اليمين على المدعى عليه» لا سيما وقد دخله التخصيص بدعاوى الأمناء المقبولة، وبالقسامة بالنص، وإذا يضعف على رأيهم، على أن الأصيلي قال: إنه لا يصح رفعه، وإنما هو من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لكن الأجود ثبوت رفعه، لرفع الإمامين البخاري ومسلم له، ولا يعارض ما تقدم الآية الكريمة، إذ ليس فيها تصريح بالحصر، ولذلك يثبت المال بنكول المطلوب منه وبيمين الطالب إجماعا ثم لو سلم ذلك فذلك زيادة

(7/310)


والزيادة على النص ليست بنسخ، على أنا نقول بموجب الآية الكريمة، إذ موجبها الأمر بمن يستشهد به في المعاملات، لا ما يقضى به عند الدعاوي والخصومات، وهذا واضح لا خفاء به.
3831 - ويؤيد ذلك ويرشحه أن هذا يروى عن الخلفاء الراشدين.
وعن أبي بن كعب، ومعاوية، وشريح، وعمر بن عبد العزيز، وأنه كتب به إلى عماله.

(7/311)


وهو مذهب الفقهاء السبعة، وغيرهم، وكذلك قال مالك، وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من السنة، وقال أحمد: مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد.

(7/312)


وحكم ما يقصد به المال من البيع والأجل والخيار فيه، والوصية لمعين أو الوقف عليه ونحو ذلك حكم المال، لأنه في معناه، وقد تقدم الخلاف في الجراح في الجناية الموجبة للمال فقط، كجناية الخطأ، هل تثبت بذلك أم لا تثبت إلا برجلين، وأن على القول بالثبوت ففيما إذا كان القود في بعضها كالهاشمة والمنقلة روايتان.
(تنبيه) اختلف عن أحمد في العتق، والوكالة في المال، والإيصاء فيه ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه، ودعوى الأسير إسلاما سابقا لمنع رقه، هل يثبت بالشاهد واليمين، والرجل والمرأتين، لأن ذلك يؤول إلى طلب دعوى مال أو التصرف فيه، أو لا يثبت إلا برجلين، نظرا للحال الراهنة؟ على روايتين.
انتهى.
وقول الخرقي: ويمين الطالب، يدخل فيه وإن كان كافرا أو امرأة، وهو كذلك نص عليه أحمد، ويشهد له حديث سرق، وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يقول فيها: وأن شاهدي صادق في شهادته، وهو المذهب من القولين، وظاهر الأحاديث، وهل تقوم المرأتان واليمين مقام الرجل واليمين

(7/313)


لقيامهما مقامه فيما تقدم، أو لا نظرا لظاهر الأحاديث، ولأن شهادة المرأتين ضعيفة تَقَوَّتْ بالرجل، وقد عدم ذلك هنا؟ على قولين، المذهب منهما - وبه قطع أبو محمد في المغني - الثاني؛ والله أعلم.

قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع، والولادة، والحيض والعدة، وما أشبهها شهادة امرأة عدل.
ش: ما أشبهها كالحمل، وعيوب النساء تحت الثياب ونحو ذلك.
3832 - وذلك لما روي «عن عقبة بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما.
قال: فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما» فنهاه عنها رواه البخاري وغيره، وفي رواية أخرى «دعها عنك» .

(7/314)


3833 - وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، رواه أحمد وسعيد.
ونص الخرقي على الاكتفاء بامرأة واحدة، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وأبي بكر وغيرهما، لما تقدم، (والرواية الثانية) لا يكفي إلا امرأتان، لأن الرجال في غير ذلك أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا رجلان، فكذلك النسوة.
انتهى، وحكم الرجل في ذلك حكم المرأة، لأنه أكمل منها، وظاهر كلام الخرقي أن ضبط ذلك بما لا يطلع عليه الرجال، وكذا أبو البركات، وخص القاضي ذلك بخمسة أشياء.
الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب، والعدة، والله أعلم.

[حكم الشهادة]
قال: ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك.
ش: ظاهر هذا أن أداء الشهادة (فرض عين) في الجملة، وهو منصوص أحمد، قاله أبو البركات، وقال السامري: إنه ظاهر كلامه، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]

(7/315)


وقوله سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ولأنها أمانة، فلزمه أداؤها كبقية الأمانات، ودليل القاعدة قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية وقيل: بل أداؤها (فرض كفاية) ، وهذا ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في الكافي والمغني، وحكاه ابن المنجا رواية، مستندا للفظ المقنع، فعلى هذا إذا كان المتحمل جماعة فالأداء متعلق بالجميع، فإذا قام به من يكفي منهم سقط عن الباقين، وإذا امتنع الكل أثموا، كسائر فروض الكفايات، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه، كما لو لم يوجد في القرية إلا مؤذن واحد ونحو ذلك، ولو كان عبدا لم يكن لسيده منعه، من ذلك، كما لا يمنعه من صلاة الفرض فإن دعي بعضهم للفعل مع وجود غيره فهل يتعين عليه ذلك، بحيث يأثم إذا امتنع، نظرا للدعاء، أو لا يأثم، كما لو لم يدع؟ فيه وجهان، حكاهما في المغني، وفي ذلك بحث، فإن أدى شاهد وأبى الآخر، وقال: احلف أنت بدلي.
فهل يأثم؟

(7/316)


فيه وجهان، وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر كما سيأتي بيانه، أما على الأول فيتعين على كل من المتحملين القيام بالشهادة، كما يجب على جميع المكلفين بالصلاة القيام بها، وسواء كان المشهود عليه نسيبا أو غيره، وهو الذي عبر عنه الخرقي بالقريب والبعيد، ولكن تشترط القدرة على أدائها، كما صرح به الخرقي، فلو كان عاجزا عن أدائها لحبس أو مرض ونحو ذلك لم يلزمه، إذ جميع التكاليف ملحوظ فيها القدرة، ولا بد مع ذلك أن لا يلحقه ضرر، فإن كان يلحقه بأدائها ضرر في نفسه أو ماله لم يلزمه، لقول الله سبحانه {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . على أن يكون مبنيا للمفعول.
3834 - كما صرح بذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قراءته حيث قرأ (ولا يضارر) بالفتح، ولكن يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل.
3835 - وقد صرح بذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقرأ (ولا يضارر)

(7/317)


بالكسر، فيخرج من هذا أن النهي إذا للشاهد عما يطلب منه أو عن التحريف والزيادة والنقصان، انتهى، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن القاعدة أن الإنسان لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره، ومن ثم قلنا: إذا عجز الشاهد عن المشي فأجرة المركوب والنفقة على رب الشهادة، كما قلنا في نفقة المحرم في الحج ونحوه، أنه على المرأة، وقلنا: إنما يلزمه الأداء إذا كان فيما دون مسافة القصر، إذ مسافة القصر فما زاد يلحق الضرر بالسعي إليه قال ابن حمدان وقيل: أو ما يرجع فيه إلى منزله ليومه، قلت: وإبدال أو هنا ببل أظهر.
تنبيهان (أحدهما) الأداء يختص بمجلس الحكم.
(الثاني) الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لحكم التحمل، وهو فرض كفاية في الجملة، لأن الحاجة العامة تدعو إليه، فهو كالقضاء ونحوه، ثم هل ذلك مطلقا، وهو ظاهر إطلاق أبي محمد وغيره، ولذلك أورده ابن حمدان مذهبا مطلقا، أو يختص بالمال، وكل حق لآدمي، وبه قطع أبو البركات؟ فيه قولان، وقد تقدم التفريع

(7/318)


على القول بفرض الكفاية، والله أعلم.

قال: وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا، وإن لم ير المشهود عليه شهد به.
ش: ملخص هذا أن ما عمله الشاهد شهد به، وما لا فلا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] .
قال علماء التفسير: من شهد بالحق وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان، وجوزوا في الاستثناء الانقطاع، على معنى: لكن من شهد بالحق.
والاتصال، لأن من جملة ما يدعون من دون الله الملائكة، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] أي لا تتبع ما لا علم لك به.
3836 - وقد فسره ابن الحنفية بشهادة الزور.

(7/319)


3837 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة قال: «ترى الشمس؟» قال: نعم.
قال: «على مثلها فاشهد أو دع» رواه الخلال.
إذا تقرر هذا فمدرك العلم الذي تحصل به الشهادة الرؤية بالبصر، والسماع بالسمع دون ما عداهما من مدارك العلم، وهو اللمس، والذوق، والشم، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] فخص سبحانه الثلاثة بالسؤال، لأن العلم بالفؤاد وهو القلب، ومستنده السمع والبصر، انتهى.
فالرؤية تختص بالأفعال، كالقتل والغصب،

(7/320)


والسرقة والزنا، وشرب الخمر، والصفات المرئية كالعيوب في المبيع ونحو ذلك، والسماع ضربان سماع من جهة الاستفاضة وسيأتي وسماع من المشهود عليه، كالإقرار والعقود، والطلاق ونحو ذلك، ولا يعتبر في ذلك عندنا رؤية المشهود عليه، بل المعتبر تيقن صوت المشهود عليه، وقد شهد لذلك جواز رواية الأعمى، ورواية من روى عن أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير محارمهن، وقول الخرقي: شهد به.
ظاهره اللزوم وهو يرشح أن مذهبه أن الأداء فرض عين، ثم كلامه يشمل وإن كان المشهود عليه غائبا، وهو كذلك إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه، فإن لم يعرفه إلا بعينه لم يشهد عليه إلا بحضرته، نص عليه في رواية مهنا، وسأله عن رجل يشهد لرجل بحق له على رجل، وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا، إلا أنه يشهد له فقال: إذا قال: أشهد أن لهذا على هذا، وهما شاهدان جميعا فلا بأس، وإذا كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه.
انتهى.
وظاهر كلام أحمد الاكتفاء بمعرفة الاسم، وقد يقال إذا حصل به التمييز فلا حاجة إلى معرفة النسب والله أعلم.

(7/321)


قال: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة.
ش: هذا أحد ضربي السماع، وهو ما يحصل من جهة الاستفاضة، والشهادة بها إجماع في الجملة، إذ يتعذر العلم غالبا بدونها، فلو وقفت الشهادة على الرؤية، أو السماع من المشهود عليه، لامتنعت الشهادة على كثير من الأشياء، وفي ذلك ضياع لكثير من الحقوق، وإنه لمناف لأصل وضع الشهادة، وفيه ضرر عظيم، وإنه منفي شرعا، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بالسماع إذا ثبت ذلك في الجملة فمحل ذلك اختلف العلماء فيه، بعد أن حصل إجماعهم - على ما قال أبو محمد - ولله الحمد على الصورتين اللتين ذكرهما الخرقي، فخص ذلك القاضي في الجامع وأظن وفي الخلاف الكبير، وأتباعه كالشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا في سبعة أشياء الملك المطلق، والوقف، والنكاح، والعتق، والولاء، والنسب والموت، وكأنهم أدخلوا الولادة في النسب لما تقدم من الإجماع، قال ابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا: وما عدا ذلك فلا بد من سماعه من المشهود عليه، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم زادوا

(7/322)


على ذلك مصرف الوقف، والولاية والعزل، ونحوه في الكافي، ومقتضى كلامه في المقنع عدم حصر ذلك، بل ضبطه بما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك، ومثل له بما في المغني، وزاد الخلع تبعا للهداية، ثم قال: وما أشبه ذلك.
وزاد عليه أبو البركات الطلاق، وقال فيه وفي الخلع: نص عليه.
وكلامه محتمل للحصر وعدمه.
إذا تقرر هذا فمن شرط الشهادة بالاستفاضة على ظاهر كلام الخرقي والإمام أن يستفيض ذلك، بحيث يسمعه من عدد يقع له العلم بخبرهم، لما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على مثلها فاشهد أو دع ونحو ذلك، وقال القاضي في المجرد: يكفي أن يسمع من عدلين فصاعدا، ويسكن قلبه إلى خبرهما، لأن الحقوق تثبت باثنين، قال أبو البركات: والأصح أنه متى وثق بمن أخبره، وسكنت نفسه له فليشهد، وإلا فلا، ومقتضى هذا ولو أنه واحد، والله أعلم.

[اشتراط العقل والإسلام والعدالة والبلوغ في الشاهد]
قال: ومن لم يكن من الرجال والنساء عاقلا مسلما بالغا عدلا، لم تجز شهادته.
ش: يشترط للشاهد - سواء كان رجلا أو امرأة - شروط (أحدها) العقل فلا تقبل شهادة منه ليس بعاقل إجماعا قاله ابن

(7/323)


المنذر، وسواء كان عدم عقله بجنون أو سكر، أو طفولية أو غير ذلك، إذ هؤلاء لا تحصل الثقة بهم، ولا يحصل لهم علم بما يشهدون به، فمعنى الشهادة منتف فيهم (الثاني) الإسلام، وهو - والله أعلم - إجماع في الجملة، لقول الله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والكافر ليس بذي عدل، ولا هو من رجالنا، ولا هو ممن نرضاه، ثم من العلماء من عمم ذلك في كل شيء، ومنهم من استثنى صورة أو صورتين، ومذهبنا استثناء صورة بلا نزاع، وهي الوصية في السفر كما سيأتي، واختلف عن إمامنا في صورة ثانية وهي شهادة بعضهم على بعض، والمشهور عنه رواية الجماعة - قيل رواه عنه نحو عشرين نفسا - عدم القبول فلا استثناء لما تقدم.

(7/324)


3838 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة» رواه أهل السنن وهم أخون الخونة، ونقل عنه حنبل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، كما يلي بعضهم على بعض.

(7/325)


3839 - ولما يروى «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض» ، رواه ابن ماجه، وقد رد هذا لضعفه، والأول بأن مناط الولاية القرابة والشفقة، وذلك موجود فيهم، على أنا نمنع ذلك على وجه عندنا، وأجاز ذلك البرمكي في صورة خاصة للحاجة، وهي شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب، إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه، ولا نزاع عند الأصحاب أن المذهب الأول، وإنما اختلفوا في إثبات الخلاف، فابن حامد والقاضي وأصحابه على إثباته، والخلال خطأ حنبلا في ذلك ولم يثبته رواية، بناء على قاعدته في أن ما انفرد به حنبل عن الرواة لا يحكى رواية، وكذلك خطأه صاحبه عبد العزيز، وقال: إنه غلط لا شك فيه، ومال أبو محمد إلى قولهما، وقال: الظاهر الغلط.
وبالجملة على هذا القول تعتبر عدالته في دينه، مع بقية شروط الشهادة، وهل يعتبر اتحاد الملة؟ فيه وجهان.

(7/326)


(تنبيه) الحاكون لهذه الرواية يقولون فيما رأيت: (وعنه) تقبل شهادة بعضهم على بعض.
ومقتضاه أن شهادة بعضهم لبعض لا تقبل بلا نزاع (الشرط الثالث) البلوغ على المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب، متقدميهم ومتأخريهم، لظاهر قوله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] والصبي ليس من الرجال، وقوله سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والصبي لا يرضى لعدم الثقة بقوله، إذ لا وازع له عن الكذب، وأيضا قوله سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والصبي لا يتعلق به مأثم، ولا ينهى نهي تأثيم، فدل على أنه لا مدخل له في الشهادة، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه لا يقبل قوله على غيره كالمجنون (والرواية الثانية) يقبل ممن هو في حال أهل العدالة، لإمكان الضبط منه، ولهذا صح تحمله فأشبه البالغ، ثم إن ابن حامد على هذه الرواية استثنى الحدود والقصاص، فلم يقبل شهادته فيها احتياطا لذلك، وهل يكتفى بالعقل على هذه الرواية، وهو مقتضى نص أحمد في رواية حنبل، وقول القاضي في روايتيه،

(7/327)


وأبي البركات أو لا بد من بلوغ عشر سنين، وهو ظاهر منصوصه، في رواية ابن إبراهيم، وقول أبي محمد في المغني والكافي؟ على قولين (والرواية الثالثة) لا يقبل إلا في الجراح.
3840 - لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، فأشبه شهادة النساء على الولادة، قال الشريف وأبو الخطاب: قال شيخنا: إذا جاءوا قبل أن يتفرقوا.
أي عن الحالة التي تجارحوا عليها، فإن جاءوا بعد أن تفرقوا لم تقبل شهادتهم، لاحتمال أن يلقنوا، وظاهر كلام الشيخين أن هذا القيد من تمام الرواية، وقال القاضي في الجامع: أو يشهد على شهادتهم قبل أن يتفرقوا، وزاد ابن عقيل في التذكرة فيما إذا

(7/328)


وجد الجراح في الصحراء (الشرط الرابع) العدالة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال سبحانه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أو (فتثبتوا) فأمر سبحانه بالتبين أو التثبت عند مجيء الفاسق.
3841 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» رواه أحمد وأبو داود.

(7/329)


وكان أبو عبيد لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس، بل جميع ما فرض الله تعالى على العباد القيام به، وهو حسن، ويؤيده قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] الآية ولأن الثقة لا تحصل بقوله، لارتكابه محظور الدين، والكذب من جملته.
3842 - وما أحسن ما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يؤسر رجل بغير العدول.
ويتفرع على هذا عدم قبول شهادة

(7/330)


الفاسق، ثم هو على قسمين (فاسق من جهة الأفعال) وهو من ارتكب كبيرة كالزنا، أو شرب الخمر، أو قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير الحق، أو الغيبة، أو النميمة، أو ترك الصلاة ونحو ذلك، أو أدمن على صغيرة، كنظرة محرمة، وسب بغير الزنا ونحو ذلك.
(وفاسق من جهة الاعتقاد) وهو الذي يعتقد البدعة، كمن يذهب مذهب الرافضة الذين يسبون الصحابة، ويزعمون في علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه الأحق بالخلافة من أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ونحو ذلك، أو مذهب الجهمية القائلين بنفي غالب الصفات، ومن جملة ذلك الاستواء اللائق بذاته سبحانه وتعالى، أو مذهب المشبهة

(7/331)


المشبهين الله تعالى بخلقه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وخرج أبو الخطاب رواية بقبول شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد، إذ لم يتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه، كالخطابية الذين يشهد بعضهم لبعض بتصديقه، من رواية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، إذ لهم وازع عن الكذب، قال أبو محمد: وروي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية، فكذلك الشهادة قلت: وهذا لعله لتخريج أبي الخطاب، ومن الفساق من فعل شيئا من الفروع المختلف فيها معتقدا للتحريم، كحنبلي أو شافعي نكح امرأة بغير ولي، أو شرب من النبيذ ما لم يسكره، ونحو ذلك على المذهب المنصوص، ولأبي الخطاب احتمال بقبول شهادته، لوقوع الخلاف في ذلك، أما من فعل من الفروع ما يعتقد إباحته،

(7/332)


كحنفي شرب من النبيذ ما لا يسكره، أو تزوج بلا ولي، وشافعي أخر الحج الواجب مع إمكانه، أو نكح نكاح تحليل ونحو ذلك، فهل يفسق وترد شهادته، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله في الحج، واختيار أبي بكر والشيرازي، أو لا يفسق، ولا ترد شهادته، وهو منصوصه في رواية صالح في شارب النبيذ، واختيار القاضي والشيخين؟ على قولين، ولعل مبناهما على أن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد.
تنبيهات (أحدها) الكبيرة على نص أحمد ما فيها حد في الدنيا، كشرب الخمر، والزنا والسرقة، أو وعيد في الأخرى كاليمين الفاجرة، وأكل الربا، والغيبة، على الأشهر ونحو ذلك.
(الثاني) بقي على الخرقي من شروط من تقبل شهادته شرطان (أحدهما) الحفظ، فلا تقبل شهادة مغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان وسيأتي (الثاني) النطق، فلا تقبل شهادة

(7/333)


الأخرس، على المنصوص المجزوم به عند الأكثرين، وإن فهمت إشارته، لأن الشهادة يعتبر فيها التحقيق والتيقن، والإشارة فيها نوع احتمال، وقيل: - وأومأ إليه أحمد -: إنها تقبل من المفهوم إشارته، كما يصح لعانه إذا قلنا إنه شهادة ونحو ذلك، ويحتمل هذا كلام الخرقي، وتوقف الإمام فيما إذا أداها بخطه، وقال أبو بكر: لا تقبل، وهو (أحد احتمالي) القاضي، مفرقا بينهما وبين الطلاق ونحوه، بأن الطلاق له كناية فضعف، فلهذا وقع فيه بالكناية، والشهادة ليس لها إلا صريح، فقويت فلم تدخلها الكناية، (والاحتمال الثاني) - وهو اختيار أبي البركات - تقبل، إذ الكناية عندنا بمنزلة الصريح على أصح الروايتين وأشهرهما، ولذلك صح نكاح القادر على النطق بها على المذهب (الثالث) قد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي قبول شهادة البدوي على من هو من أهل القرية كالعكس، وهذا اختيار أبي الخطاب في الهداية، وإليه ميل أبي محمد، لدخوله في العمومات، والذي قطع به القاضي في الجامع، وأظن وفي التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم عدم القبول.
3843 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» رواه أبو داود وابن

(7/334)


ماجه، وعلل ذلك أبو عبيد بما فيه من الجفاء في حقوق الله تعالى، والله أعلم.

[تعريف العدالة]
قال: والعدل من لم تظهر منه ريبة.
ش: من هنا أخذ القاضي وغيره أن مذهب الخرقي قبول مستور الحال، لعدم ظهور الريبة منه، وليس بالبين، لما تقدم له من أنه إذا شهد عنده من لم يعرف حاله سأل عنه، فدل على أن كلامه هنا فيمن عرف حاله.
إذا تقرر هذا فالعدل هو الذي تعتدل أحواله وأقواله، وأصله في اللغة الاستقامة، والاعتدال ضد الاعوجاج، والريبة التهمة، فمتى ظهرت منه تهمة لم يعتدل، لكن قد يقال: إن ظاهر هذا أن مجرد التهمة ولو بصغيرة تخرجه عن العدالة، والمشهور خلاف هذا، وأن العدالة يعتبر لها شيئان (أحدهما) الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض - كالصلاة، والزكاة ونحو ذلك،

(7/335)


وقد نص أحمد على رد شهادة من لم يؤد الزكاة - واجتناب المحارم، وقد ضبط ذلك بأنه لا يرتكب كبيرة - وقد تقدم تفسيرها، لأن الله سبحانه نهى أن تقبل شهادة القاذف، فيقاس على ذلك كل من ارتكب كبيرة، وقد نص أحمد على رد شهادة آكل الربا، والعاق وقاطع الرحم، ومن أخرج أسطوانة أو كنيفا في طريق المسلمين، وكذلك من ورث ذلك حتى يرد ما أخذ من الطريق - ولا يدمن على صغيرة، كإدمان نظرة محرمة ونحو ذلك، وقد اختلف عن أحمد في رد الشهادة بالكذبة الواحدة، ولعل ذلك للتردد في أنها هل هي صغيرة أو كبيرة.
3844 - واستدل أحمد للمنع بأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد شهادة رجل في كذبة» وجعل ابن حمدان الروايتين في الكذب، وأورد ذلك مذهبا، وفيه نظر، ولا يمنع مجرد وجود الصغيرة، لقول الله سبحانه {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] قيل:

(7/336)


المراد الصغائر (الشيء الثاني) المروءة، وهي اجتناب الأمور الدنيئة، التي تزري به كالأكل في السوق، كأن ينصب مائدة ويأكل عليها، ولا يضر أكل الشيء اليسير كالكسرة، ونحوها أو كأن يكشف ما جرت العادة بتغطيته من يديه، أو يمد رجليه في مجمع الناس، أو يتمسخر بما يضحك الناس به، أو يخاطب امرأته أو سريته بحضرة الناس بالخطاب الفاحش، أو يحدث الناس بمباضعته لهما، ونحو ذلك من الأفعال الدنيئة التي يجتنبها ذوو المروءات، وإنما اعتبر ذلك في الشهادة وإن لم يكن حراما، لأن مرتكبه لا تحصل الثقة بقوله، لأن من فعل ذلك لا يمتنع غالبا من الكذب ونحوه، ومن ثم قلنا: من داوم على ترك السنن الراتبة ردت شهادته لا لارتكابه محرما، بل لأن من هذه حاله لا يؤمن أن يترك شيئا من الفرائض.
3845 - وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» أي من لم يستح

(7/337)


صنع ما شاء، واختلف في الصنائع الدنيئة هل مرتكبها مخل بالمروءة كالزبال، والحجام، والحائك، والحارس ونحوهم، على وجهين المشهور منهما لا، لكن لا يقبل مستور الحال منهم وإن قبل من غيرهم، وهذا المكان يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا المختصر، والله أعلم.

[شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر]
قال: وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم.
ش: الأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] الآية وهذا ظاهر في ذلك.
3846 - ثم قد زاده إيضاحا بحيث صيره نصا ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة، مخوصا بذهب، فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم

(7/338)


الداري، وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما.
وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] » رواه البخاري وأبو داود فقد وافق قضاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآية الكريمة، ثم إن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا بذلك، فدل على بقاء الحكم بعد وفاته.
3847 - «فعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين، يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى، فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر

(7/339)


لم يكن بعد أن كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا، ولا بد لا ولا كتما، ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، وأمضى شهادتهما» .
رواه أبو داود.
3848 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى بذلك في زمان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ، وقد تبين بمجموع هذا (رد قول من زعم) أن المراد {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أي من غير عشيرتكم، (وقول من زعم) أن المراد بالشهادة الحضور، كما في قوله {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ويكون المعنى فليحضر اثنان، أي يوصي إليهما في هذه الحالة، تأكيدا أو نحو ذلك، (وقول من زعم) أن المراد بالشهادة اليمين، كما في آية

(7/340)


اللعان أيضا، وأبعد من هذه الأقوال (من زعم) نسخ الآية [الكريمة، إذ لا دليل على ذلك، مع أن السلف عملت عليه، ومن ثم أخذ أكثر السلف بظاهر الآية] قال ابن المنذر: به قال أكابر الماضين.
والظاهر أن الأئمة لو بلغتهم الأحاديث لأكدت عندهم ظاهرا الآية، ولم يعدلوا عنها، قال أحمد: أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى، من أن يعرفونه؟ إذا تقرر هذا (فشرط الخرقي) لشهادة الكفار والحال ما تقدم أن يكونوا من أهل الكتاب، وهو المشهور من الروايتين، لأن الأحاديث التي وردت في ذلك إنما وردت في أهل الكتاب، ولا يحسن إلحاق غيرهم بهم (والرواية الثانية) لا يشترط ذلك، تمسكا بإطلاق الآية الكريمة، ونظرا لحال العذر، وقيل (يشترط) مع كونهم من أهل الكتاب أن يكون لهم ذمة وليس بشيء، (ويشترط) أيضا أن لا يوجد غيرهم، وهو كذلك كما في الأحاديث، وكما أومأت إليه الآية الكريمة (ويشترط) أيضا أن يحضر الموصي الموت، كما في الآية والأحاديث، وعموم كلامه يشمل الوصية من المسلم والكافر وهو كذلك.

(7/341)


إذا تقرر هذا فيحلف الحاكم الشاهدين من الكفار، إذا شهدا في الوصية كما تقدم، بعد العصر: ما خانا ولا كذبا ولا حرفا، وإنها لوصية الرجل.
وهل ذلك على سبيل الوجوب - وهو الأشهر - أو الاستحباب؟ على وجهين، ثم إن اطلع على أنهما استوجبا إثما لخيانتهما وأيمانهما الكاذبة، قام رجلان من أولياء الموصي، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، ويقضي لهم اقتداء بالآية الكريمة والله أعلم.

قال: ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك.
ش: قد تقدم ذلك عن قرب، والخلاف في شهادة بعضهم على بعض، فلا حاجة إلى إعادته.

[موانع قبول الشهادة]
قال: ولا تقبل شهادة خصم.
ش: لما فرغ الخرقي من شروط الشهادات، شرع يتكلم في موانعها وقوله: خصم.
(يحتمل) : أن يريد به العدو، وهو الظاهر، فلا تقبل شهادة القاذف على من قذفه، أو من قطع عليه الطريق على القاطع، ونحو ذلك، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» والقانع الذي ينفق عليه أهل

(7/342)


البيت، رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والغمر الحقد، ولأن العداوة تورث تهمة شديدة، فمنعت الشهادة كالقرابة القريبة، ولا ترد قبول شهادة الكفار في الوصية، لأن الشارع استثنى ذلك للحاجة الداعية إليه، وأبو محمد أجاب بأن العداوة ثم دينية، والدين يمنع شهادة الزور، ومقتضى تعليله قبول شهادة الكفار مطلقا، ويرد عليه أن البدعي لا تقبل شهادته على السني، بخلاف العكس، وإن كانت العداوة دينية تمنع شهادة الزور.
ويحتمل أن يريد كل خصم فيدخل فيه من خاصم في حق، كالوكيل أو الوصي، لا تقبل شهادته فيما هو وكيل أو وصي فيه، وكالشريك أو المضارب، لا تقبل شهادته فيما هو شريك أو مضارب فيه، وذلك لأنه يشهد لنفسه فأشبه المالك.
واعلم أن إطلاق الخرقي غير مراد، إذ شهادة العدو تقبل لعدوه، لانتفاء التهمة، إنما الممتنع شهادته عليه، وكذلك شهادة الوكيل أو الوصي تقبل في غير ما هو وصي أو وكيل فيه، وكذلك الشريك والمضارب تقبل شهادتهم في غير مال الشركة والمضاربة.

(7/343)


تنبيهان (أحدهما) شرط العداوة أن تكون ظاهرة، وأن تكون لغير الله، كذا قيده ابن حمدان (الثاني) لو كان القذف في حال الشهادة، كمن شهد على رجل بحق، وقذفه المشهود عليه، لم ترد شهادته بذلك، لئلا يتخذ ذلك وسيلة في إبطال الشهادات والحقوق، والله أعلم.

قال: ولا جار إلى نفسه نفعا.
ش: أي نفعا بشهادته، كشهادة الغرماء للمفلس المحجور عليه، أو للميت بمال، لأن حقوقهم تتعلق بذلك لو ثبت، وخرج قبل الحجر لأن الحق متعلق بالذمة، لا يقال: تتوجه المطالبة إذا لأنا نقول: المطالبة لليسار، مع أن ابن حمدان اختار في الكبرى الرد والحال هذه، لأن توجه المطالبة تهمة تصلح لرد الشهادة. انتهى.
ومن ذلك شهادة أحد الشريكين بعفو الآخر عن شفعته، وشهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة، أو لمكاتبه، والأجير لمستأجره فيما استأجر فيه نص عليه، والوارث لمورثه بجرح قبل الاندمال، ونحو ذلك، لما في ذلك كله من التهمة المانعة من قبول الشهادة.
3849 - وقد روي عن الزهري قال: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، والظنين المتهم.

(7/344)


3850 - «وعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا شهادة لخصم ولا ظنين» .
والاعتبار بالوارث حال الموت، كما في الوصية، وفي شهادة الوارث لمورثه في مرضه بدين وجهان، والقبول قطع به أبو محمد، وفرق بينه وبين ما تقدم، لأن منع الشهادة للجرح كان لاحتمال إفضائه إلى الموت، فتجب الدية للوارث الشاهد ابتداء، فيكون شاهدا لنفسه، وهنا الحق إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل، ويجوز أن لا ينتقل، قلت: وعلى هذا الفرق ينبغي أن يخرج في الشهادة بالجرح خلاف، بناء على أن الشهادة هل تجب للمجروح ابتداء أو للورثة، انتهى.
ثم على القول بالقبول متى حكم بها لم يتغير الحكم بالموت بعده، والله أعلم.

(7/345)


قال: ولا دافع عنها.
ش: أي دافع عن نفسه ضررا، كأن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود، أو العاقلة بجرح شهود قتل غير العمد، لأنهم يدفعون بذلك الدية عن أنفسهم، وقيل: إن كان الشاهد منهم فقيرا أو بعيدا قبلت شهادته، لانتفاء التهمة في الحال الراهنة، وكذلك شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق، أو الإبراء منه ونحو ذلك، لما في ذلك من التهمة المخلة بالثقة من الشاهد، والله أعلم.

قال: ولا تجوز شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة.
ش: قد تقدم أن هذا أحد شروط الشهادة، لأن من كان كذلك لا تحصل الثقة بقوله، ولهذا لم تقبل روايته، قال ابن حمدان: إلا في أمر جلي مع بحث الحاكم عنه.
انتهى.
وتقييده بكثرة الغلط يحترز عن قليله، إذ أحد لا يسلم من ذلك، وإنما تتفاوت مراتب الناس فيه، ولا شك أن كثرة غلطه تخل بغلبة ظن صدقه ومقتضى قول الخرقي وغيره أنه لو تساوى حاله أو تقارب قبل قوله، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل خلاف هذا، لأنه قال: ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر، أو غفلة نادرة، والله أعلم.

(7/346)


قال: وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت.
ش: لعموم: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ونحو ذلك، وكما في روايته وفي شهادته بالاستفاضة، مع أنه لا بد أن يسمعها من عدلين، ولا بد من معرفتهما، ليعرف عدالتهما، ودعوى عدم تيقن الصوت ممنوع، إذ قد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى، وكثرت صحبته له، فيعرف صوته يقينا.
3851 - ولهذا قال قتادة: للسمع قيافة كقيافة البصر.
وقد أشعر كلام الخرقي أنه لا تجوز شهادة الأعمى على الأفعال، وهو كذلك، لعدم آلة ذلك منه، نعم لو تحمل الشهادة على ذلك قبل العمى جاز أن يشهد به بعده، إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه، وكذلك إن لم يعرفه بذلك، بل تيقن صوته، قاله في المغني فإن لم يعرفه إلا بعينه فوصفه فهل تقبل لقيام الصفة مقام المشاهدة، وهو قول القاضي، أو لا تقبل لعدم ضبط ذلك غالبا؟ فيه وجهان، ولعل لهما التفاتا إلى القولين في السلم

(7/347)


في الحيوان وقد تقدم، والله أعلم.

قال: ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل.
ش: وسواء في ذلك ولد البنين، وولد البنات، لما في ذلك من التهمة المانعة كما تقدم ولأن بينهما بعضية، فكأنه شهد لنفسه.
3852 - قال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها» ولأنه إذا شهد له في المال ونحوه كأنه شهد لنفسه، لأن ماله كماله، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنت ومالك لأبيك» (وفي المذهب) رواية أخرى بالقبول، قال الجمهور: فيما لا يجر به نفعا غالبا، نحو أن يشهد أحدهما لصاحبه بعقد نكاح، أو قذف، قال القاضي وأصحابه، وأبو محمد في المغني: أو مال، وهو مستغن عنه، لانتفاء التهمة غالبا، وأطلق القبول في الكافي، فإن ثبت الإطلاق فمستنده العمومات، ولا ريب أن المذهب على كل حال الأول.

(7/348)


قال: ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا.
ش: الخلاف في شهادة الولد لهما كالخلاف في شهادتهما له، والمذهب هنا كالمذهب ثم، إلا أن التهمة في شهادة الولد للوالد أخف من العكس، فلهذا (عن أحمد رواية ثالثة) تقبل شهادة الولد لهما، ولا تقبل شهادتهما له، وعللها بأن مال الابن لأبيه، بخلاف مال الأب، فإنه لا يضاف إلى ابنه، وقول الخرقي: ولا تجوز شهادة الوالدين إلى آخره، مقتضاه أن شهادة أحدهما على صاحبه تقبل، وهو المذهب بلا ريب، حتى إن أبا البركات جزم بذلك، إذ شهادته له إنما ردت للتهمة، ولا تهمة في شهادته عليه، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فأمر سبحانه بالشهادة عليهم، ولو لم تقبل لما كان في الشهادة عليهم فائدة، وحكى القاضي في المجرد رواية أخرى - وقال في الروايتين: نقلها مهنا - لا تقبل كما في الشهادة له، جعلا له كالفاسق.
تنبيه: الولد هنا والوالد المراد بهما من النسب، لا من الرضاع والزنا، والله أعلم.

قال: ولا السيد لعبده.
ش: لأن العبد له، فشهادته له شهادة لنفسه في الحقيقة.

(7/349)


قال: ولا العبد لسيده.
ش: لأنه متهم، وقد دخل في كلامه المكاتب لا تجوز شهادته لسيده، لأنه عبد له.

قال: ولا الزوج لامرأته، ولا المرأة لزوجها.
ش: هذا هو المذهب المشهور، المجزوم به عند الأكثرين، لتبسط كل منهما في مال الآخر عادة، فأشبه الولد مع الوالد وبالعكس، ولهذا أضيف مال أحدهما إلى الآخر، قال سبحانه وتعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وقال {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] فأضاف البيوت إليهن تارة، وإلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرى، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه، تمسكا بالعمومات، وقد خرج من كلام الخرقي شهادة أحدهما على صاحبه، فتقبل بلا خلاف، وهو أمثل الطريقتين، والطريقة الثانية في ذلك الخلاف أيضا، والله أعلم.

قال: وشهادة الأخ لأخيه جائزة.
ش: للعمومات، ولا يصح إلحاقه بالوالد والولد،

(7/350)


لضعف التهمة في حقه أو انتفائها، وقد علم من كلام الخرقي قبول شهادة كل قريب ما عدا الوالدين والمولودين بطريق الأولى، وكذلك الأجنبي، وإن كان صديقا ملاطفا، على الأشهر المقطوع به عند الشيخين وغيرهما.

قال: وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود.
ش: مذهبنا قبول شهادة العبد في كل شيء ما عدا الحدود والقصاص، لأنه منا ومن رجالنا، وممن نرضاه، ومن ذوي العدل، فدخل في الآيات الكريمات، وكما في روايته وفتياه، وأخباره الدينية.
3853 - وفي الصحيح «عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «كيف وقد زعمت» وفي رواية: فنهاه عنها، وفي رواية «دعها عنك» ودعوى أنه لا مروءة له ممنوع، بل هو كالحر، ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له، وقد كان كثير من سلف هذه الأمة وعلمائها وصالحيها موالي، ولم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية والحرية لا تحدث علما ولا

(7/351)


دينا، واختلف في الحدود والقصاص (فعنه) تقبل فيهما أيضا، وهو اختيار القاضي يعقوب، وإليه ميل ابن عقيل في التذكرة، فإنه قال: لي عن أحمد منع في الحدود، وذلك لما تقدم من العمومات (وعنه) لا تقبل، لما في شهادته من الخلاف، إذ كثير من الفقهاء أو أكثرهم لا يقبلها، وذلك شبهة، والحدود والقصاص تندرئ بالشبهة، وقيل: يقبل في القصاص، لأنه حق لآدمي، مبني على الشح والضيق، لا الحدود، لأنها حق لله تعالى، وحقوق الله سبحانه مبنية على المساهلة والمسامحة، وهو ظاهر كلام الخرقي.

قال: وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء.
ش: أي الأحرار، لدخولها في {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية، مع حديث عقبة المتقدم.
(تنبيه) حكم المكاتب والمدبر، وأم الولد حكم القن في ذلك، وكذلك المعتق بعضه، قاله أبو محمد في المغني، ولا معنى لقول ابن حمدان في الكبرى: قلت: وكذا المعتق بعضه.

(7/352)


قال: وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره.
ش: لعموم الآيات، ولأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا، فيقبل في الزنا كغيره.

قال: وإذا تاب القاذف قبلت شهادته.
3854 - ش: لعموم «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» .
3855 - «التوبة تجب ما قبلها، والإسلام يجب ما قبله» أي يقطع ما

(7/353)


قبله، وإذا يصير كمن لم يقذف، ولأنه تائب من ذنبه، فقبلت شهادته كالتائب من الزنا، أو قتل النفس، بل أولى، لأنها أعظم من القذف، وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فمعناه إن لم يتوبوا، بدليل آخر الآية، بناء عندنا على أن الاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها، ما لم يمنع منه مانع، وبيان ذلك له موضع آخر.
3856 - ويدل عليه هنا ما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول لأبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين شهد على المغيرة به شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لست أقبل شهادتك.
ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا.

(7/354)


3857 - قال: سعيد بن المسيب: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، ونكل زياد، فجلد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم.
فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما، وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته، وكان قد عاد مثل النصل من العبادة.
3858 - وما رواه ابن ماجه بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام» فقال ابن عبد البر: لم يرفعه من روايته حجة.
ثم يدل على ضعفه قبول شهادة كل محدود تائب في غير القذف، انتهى.
واللام في القاذف للعهد، أي القاذف بالزنا، ويحتمل أنها للجنس، فيدخل فيه القذف

(7/355)


بالشتم ونحوه، وهو أمشى على ما قال أبو محمد، فإنه أي القاذف بالشتم ترد شهادته وروايته، وهذا يدل على أن القذف بالشتم ونحوه عنده كبيرة، وإلا كان اعتبر تكرر ذلك، وإطلاق الخرقي يقتضي: وإن لم يجلد، وهو كذلك عندنا، لأن الله سبحانه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء، الجلد، وانتفاء الشهادة، والفسق، فيتبين بمجرد الرمي.

(تنبيه) إذا جاء القاذف مجيء الشاهد كما في قصة الذين شهدوا على المغيرة، فإن شهادته ترد دون روايته، بدليل ما تقدم عن عمر في حق أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، مع أنه مقبول الرواية بلا تردد، بخلاف من قصد الشتم والقذف، فإن شهادته وخبره وفتياه لا يقبلن حتى يتوب.

قال: وتوبته بأن يكذب نفسه.
ش: هذا هو المشهور من المذهب، جزم به القاضي في الجامع الصغير، وأظن وفي التعليق الكبير، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة وغيرهم.
3859 - لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5]

(7/356)


قال: «توبته إكذاب نفسه» » .
وهذا نص إن ثبت، ولأن عرض المقذوف تلوث بالقذف، والإكذاب يزيل ذلك التلوث، فيصير كأن لم يوجد قذف وهو المقصود، وفرق القاضي أظنه في المجرد، وزعم أنه المذهب، فقال إن كان قذفه بالسب والشتم فكما تقدم، وإن كان بالشهادة فتوبته أن يقول: القذف حرام باطل، ولن أعود إلى ما قلت.
حذارا من أن يكون صادقا، فلا يؤمر بالكذب، ونحو هذا قال السامري، ولفظه: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه.
قال: ولا يقول: ولا أعود إلى ما كان مني.
لما فيه من منع الشهادة، واختار أبو محمد في المغني أنه إن لم يعلم صدق نفسه فكالأول، وإن علم صدقه فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله، وتحريمه، وأنه لا يعود إلى مثله، وعلله بأنه قد يكون كاذبا في الشهادة، صادقا في السب، ونحو هذا جزم به في

(7/357)


الكافي، وفيه نظر، فإن الكذب مخالفة الواقع، والصادق لم يخالف الواقع، فكيف يقر ببطلان ما قاله، ثم كيف يكون كاذبا في الشهادة، مع أنه صادق فيما لفظ به، نعم الشرع منعه من الشهادة حيث لم يكمل النصاب ونحو ذلك، فإن قيل: إن الله سبحانه جعله عنده - أي في حكمه - كاذبا مطلقا، قلنا: فإذا يتوجه إطلاق الخرقي والأكثرين، ويكون تكذيبه نفسه راجعا لما في حكم الله سبحانه، وحكى في المقنع قولا ظاهره أنه رابع أنه إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول: قد ندمت على ما قلت، ولا أعود إلى مثله، وأنا تائب إلى الله تعالى منه.
وهو حسن.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتبر مع توبة القاذف إصلاح العمل، وجزم به كثير من الأصحاب، وظاهر كلام أبي محمد في المقنع - وتبعه ابن حمدان - أن فيه الخلاف الآتي، ومقتضى ما في المغني نفي الخلاف من القاذف بلفظ الشهادة، أما غير القاذف فهل يكتفى بمجرد توبته، أو لا بد من إصلاح عمله سنة؟ فيه روايتان مشهورتان، المشهور منهما الأول، ولأبي محمد في الكافي احتمال أنه يعتبر مضي مدة نعلم

(7/358)


توبته فيها، من غير توقيت، والقاضي يجعل محل الخلاف في غير المبتدع، أما المبتدع فيعتبر له مضي سنة، وهو مقتضى كلام السامري.
(تنبيه) : هل من إصلاحه مجانبة من كان يواليه في ذلك أم لا؟ على روايتين. والله أعلم.

قال: ومن شهد وهو عدل بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته.
ش: هذا هو المذهب المعروف، المجزوم به عند الأكثرين، لأنه يتهم بأدائها، لما لحقه بردها من الغضاضة والمعيرة، فيحتمل أنه أظهر العدالة ليزول عنه ما حصل له من ذلك، ولا يرد ما إذا ردت لكفره أو صغره، أو جنونه أو رقه، أو حرابته ثم أعيدت بعد زوال ذلك، فإنها تقبل على الأصح، لانتفاء التهمة في ذلك غالبا أو قطعا، وأيضا الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد، وكذلك العدالة، وإذا نقول شهادة مردودة بالاجتهاد، فلا تقبل بالاجتهاد، حذارا من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، ومن ثم قيل - وصححه أبو

(7/359)


البركات، وقال أبو محمد في الكافي: إنه الأولى - فيما إذا ردت لتهمة رحم، أو زوجية، أو عداوة، أو جلب نفع، أو دفع ضرر، ثم زال ذلك: إنها لا تقبل لذلك، وقيل - وقال في المغني: إنه الأشبه بالصحة - يقبل نظرا للتعليل الأول، إذ لا عار على الشاهد في الرد بذلك، بخلاف الرد بالفسق، والله أعلم.

قال: وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت منه.
ش: إذ العدالة - وكذلك البلوغ والإسلام والحرية - إنما تعتبر حال الأداء، لأنه حال ترتب الحكم، بخلاف ما قبل ذلك، ولذلك قبلت رواية من كان صبيا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كابن عباس، والنعمان بن بشير، وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من صبيان الصحابة، وقد أجمع الناس على إحضار الصبيان مجالس السماع، وفائدته ذلك، والله أعلم.

قال: ومن شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها.

(7/360)


ش: لأن حدوث ذلك يورث تهمة حال الشهادة، لأن كثيرا من الناس يستر الفسق، ويظهر العدالة، وخرج ما إذا شهد ثم خرس أو عمي، أو صم أو جن أو مات، فإن ذلك لا يمنع الحكم، لأن ذلك لا يورث تهمة، لأنه لا يحتمل أنه كان موجودا حال الشهادة.

[حكم الشهادة على الشهادة]
قال: وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود، إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا.
ش: الشهادة على الشهادة جائزة في الجملة بالإجماع، قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال، وللحاجة الداعية إلى ذلك، إذ قد يتأخر إثبات الوقوف ونحوها عند الحاكم، ثم يموت شهود ذلك، فلو لم تقبل لأفضى ذلك إلى ضرر كثير، وإنه منفي شرعا، ومحل قبولها الأموال بلا ريب، للإجماع والمعنى المتقدمين، لا الحدود بلا نزاع عندنا، لانتفاء المعنى المتقدم وهو الحاجة، إذ الستر فيه أولى، ولأن الحدود تندرئ بالشبهة، والشهادة على الشهادة فيها نوع شبهة، لتطرق السهو والغفلة والكذب إلى كلا الفريقين، شاهدي الأصل، وشاهدي الفرع، واختلف عن إمامنا فيما عدا ذلك (فعنه) -

(7/361)


وهو ظاهر كلام الخرقي -: تقبل، لأنه حق لا يندرئ بالشبهة، فأشبه المال (وعنه) - وهو ظاهر كلام أبي بكر وابن حامد - لا تقبل، لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه حد السرقة (وعنه) تقبل إلا في الدماء والحدود، وإليه ميل أبي محمد (واعلم) بأن بابي الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي عند الشيخين في مختصريهما باب واحد، ما قيل في أحدهما قيل في الآخر، وما لا فلا.
(تنبيه) : وأبو البركات يستثني حقوق الله سبحانه من محل الخلاف، وهو أشمل مما تقدم.
إذا تقرر هذا فيشترط للشهادة على الشهادة شروط (أحدها) تحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد من شاهدي الأصل، وشاهدي الفرع، إذ الحكم ينبني على الشهادتين جميعا، فاعتبرت الشروط في كل منهما، كالراوي عن الراوي، وهذا والله أعلم اتفاق، فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل، بأن شهدا بعدالتهما، وعلى شهادتهما جاز، وإن لم يشهدا بعدالتهما، بل على شهادتهما جاز وتولى ذلك الحاكم.
(الشرط الثاني) : أن تتعذر شهادة شهود الأصل، لأن المقتضي لجواز الشهادة على الشهادة الحاجة، ولا حاجة مع حضور شهود الأصل، ولا ترد الرواية، لأنها أخف، ولهذا لم يعتبر فيها العدد، ولا الذكورية، ولا الحرية، ولا انتفاء التهمة، ولا اللفظ ونحو ذلك، انتهى.
ولا ريب أن لا تعذر أبلغ من الموت، واختلف عن إمامنا في التعذر بما عداه، كالتعذر

(7/362)


بغيبة، أو مرض يمنع الحضور ونحوه، أو لكبر أو حبس، أو خوف من سلطان أو لص، أو فتنة ونحو ذلك (فعنه) - وهو الأشهر، والمختار للأصحاب - الاجتزاء بذلك، كالتعذر بالموت، والجامع التعذر (وعنه) لا يكتفى بذلك، لاحتمال زوال العذر، وتأول القاضي ذلك على الموت، وما في معناه من الغيبة البعيدة، وعلى المذهب اختلف في حد الغيبة، فالمختار للشيخين وأبي الخطاب وغيرهم أنها مسافة القصر، لأنها الغيبة المعتبرة شرعا في كثير من الأحكام، فكذلك هنا إلحاقا للفرد الواحد بالأعم الأغلب، وعن القاضي أنها مسافة لا تتسع للذهاب والعود في اليوم، لأنها والحال هذه يلحق شاهد الأصل بأداء الشهادة حرج ومشقة، وإنهما منتفيان شرعا.
(الشرط الثالث) أن يعين شاهدا الفرع شاهدي الأصل، ولا يكفي أن يقولا حرين عدلين ذكرين، لاحتمال عدالتهما عندهما، دون غيرهما، فيتمكن المشهود عليه من الجرح.
(الشرط الرابع) الاسترعاء، وهو أن يطلب شاهد الأصل من الشاهد عليه حفظ الشهادة وأداءها، فيقول: اشهد على شهادتي بكذا.
ثم هل يشترط أن يسترعيه بعينه، وهو احتمال ذكره في المغني، أو يكتفي بمجرد الاسترعاء، فلو سمعه يسترعي

(7/363)


شاهدا جاز له أن يشهد على شهادته، وهو الذي أورده في المغني مذهبا؟ فيه قولان، فإن عدم الاسترعاء لم يشهد، كأن يسمعه يقول: أشهد على فلان بكذا.
لم يشهد، لاحتمال أن يقول ذلك على سبيل الاستفهام الإنكاري، ويحتمل أن يكون هازلا ونحو ذلك، ولهذا قال أحمد: لا تكون شهادة إلا أن يشهدك، فإذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث. ونحو ذلك.
نعم إن سمعه يشهد بذلك عند الحاكم، أو يعزوه إلى سبب من بيع أو قرض، ونحو ذلك فهل يقوم مقام الاسترعاء - وهو الذي قاله القاضي وابن البناء وغيرهما -، لزوال الاحتمال إذا، أو لا يقوم مقامه لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة، والنيابة يعتبر فيها الإذن؟ فيه روايتان.
(الشرط الخامس) أن يشهد شاهدان على شاهدي الأصل، سواء شهدا على كل واحد منهما، أو شهد على كل واحد واحد، على المذهب المنصوص.
3860 - قال أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على ذا، شريح فمن دونه، وشرط أبو عبد الله بن بطة شهادة أربعة، على كل أصل فرعان، وقيل يكتفى بشهادة فرعين، بشرط أن يشهدا

(7/364)


على كل واحد من الأصلين، واختلف في (شرط سادس) وهو اشتراط ذكورية شهود الأصل وشهود الفرع (فعنه) اشتراط ذلك، لأن في الشهادة على الشهادة ضعفا، وفي شهادة النساء ضعف، فيجتمع ضعفان، فلا يدخل النساء في ذلك (وعنه) لا يشترط ذلك، أما في الأصول فلعموم ما تقدم {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ونحو ذلك، وأما في الفروع فنظرا للمقصود، إذ هو إثبات الحق المشهود به، وقد ثبت أنه يثبت بالنساء (وعنه) وهو الأشهر لا يشترط ذلك في شهود الأصل لما تقدم، ويشترط في شهود الفرع، نظرا لعين ما شهدوا به، وهو شهادة الأصول، وأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويتفرع على ذلك أنه لو شهد رجلان على رجل وامرأتين، جاز على الثانية والثالثة، دون الأولى، ولو شهد رجل وامرأتان على الثانية والثالثة، دون الأولى، ولو شهد رجل وامرأتان على مثلهم، أو على رجلين، لم يجز على الأولى، وكذا على الثالثة، وجاز على الوسطى انتهى.
وقد علم من تعليل ما تقدم - وهو لأبي محمد - أن المرأة لا تكون فرعا إلا فيما يقبل فيه شهادة النساء منفردات أو مع الرجال، وحكى ابن حمدان ذلك قولا، والذي قدمه وهو مقتضى إطلاق أبي البركات وغيره جواز كونها فرعا مطلقا.

(7/365)


قال: ويشهد على من سمعه يقر بحق، وإن لم يقل للشاهد: اشهد علي.
ش: هذا يشمل الإقرار بحق في الحال، كقوله: له علي كذا، والإقرار بسابقة الحق، كقوله: أقرضني، أو كان له علي، أو كان له علي وقضيته، إذا جعلناه إقرارا، وهذا إحدى الروايات عن الإمام، نقلها ابن منصور، وهو المذهب عند أبي محمد، لعموم {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وغير ذلك، والشاهد هنا قد حصل له العلم بسماعه، فجاز له أن يشهد به، كما لو حصل له العلم بالرؤية.
(والرواية الثانية) لا يجوز له أن يشهد بذلك مطلقا، نقلها بكر بن محمد، واختارها أبو بكر، لجواز أن يكون قال ذلك على سبيل الممازحة، لا على سبيل الحقيقة، وكما في الشهادة على الشهادة.
(والرواية الثالثة) أنه إن أقر بحق في الحال شهد به،

(7/366)


وإن أقر بسابقة الحق لم يشهد به، نقلها أبو طالب، واختارها أبو البركات، لأن المقر بحق في الحال معترف به، فالشاهد يجزم تبعا لإقراره بأنه عليه، والمقر بسابقة الحق لا يلزم منه أنه عليه، لأنه يجوز أن يكون وفاه، فالشاهد لا يجزم بأنه عليه.
(والرواية الرابعة) يخير الشاهد في الشهادة في الشهادة والحال ما تقدم، ولا يجب عليه ذلك، نقلها أحمد بن سعيد لأن وقوع الخلاف شبهة درأت الوجوب، وتورع ابن أبي موسى فقال في القرض ونحوه: لا يشهد به لما تقدم وفي الإقرار بحق في الحال: يقول: حضرت إقرار فلان فكذا، ولا يقول: أشهد على إقراره.
فعلى الأولى لو قال المتحاسبان للشاهدين: لا تشهدا علينا بما يجري بيننا.
فهل يمنع ذلك الشهادة، أو لا يمنع ويلزم إقامتها، وبها قطع أبو محمد في المغني؟ على روايتين.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر إلا الإقرار، وبقي عليه سماع الحكم، وغير ذلك من العقود، والطلاق، ونحو ذلك مما مرجعه القول، أما سماع الحكم ففيه الروايات الثلاث الأول المبدوء بهن في الإقرار، وأما الطلاق والعقود ونحو ذلك فيشهد به، وإذا شهد بذلك فالأولى أن يشهد على الأفعال، وقد حكى القاضي في الأفعال روايتين أيضا.
(إحداهما) لا يشهد

(7/367)


بها حتى يقول له المشهود عليه: اشهد.
(والثانية) يشهد، قال أبو محمد: فإن أراد بذلك العموم لم يصح، لأدائه إلى منع الشهادة عليه بالكلية، إذ الغاصب لا يستشهد أحدا على غصبه، وكذا السارق ونحوهما، ثم إن أبا بكرة وأصحابه لما شهدوا على المغيرة لم يقل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل أشهدكم على ذلك؟ قال: وإن أراد الأفعال التي تكون بالتراضي، كالقبض في الرهن، والقبض والتفرق في البيع، ونحو ذلك جاز.
(قلت) : وإذا جرى الخلاف في ذلك فينبغي جريانه في الطلاق والعقود ونحو ذلك، وكلام أبي البركات الجزم بالشهادة بذلك، ويحتمل أن يريد القاضي بالأفعال الشهادة على الإقرار بالأفعال. والله أعلم.

قال: وتجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا.
ش: هذا أحد نوعي الشهادة على المقر، وإن لم يشهده على ما سمعه، والخلاف فيه كالخلاف فيه ثم، ومختار أبي بكر إنما هو والله أعلم مصرح به هنا، وتبعه ابن أبي موسى على مختاره، وإنما قال الخرقي: إذا كان عدلا.
لئلا يتوهم أن هذا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] فيكون مرتكبا للنهي، فيمنع من الشهادة لذلك، فأشار إلى أن هذا التجسس غير ممنوع منه للحاجة الداعية، وإنما المشترط العدالة، لأنها تمنع من التجسس في غير ذلك، والمستخفي يشمل المستخفي في كل ما سمعه أو حضره، والله أعلم.

(7/368)