شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب القاضي إلى القاضي]
قال: وإذا حكم على رجل في عمل غيره وكتب بإنفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه، وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق.
ش: كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في الجملة بالإجماع، ويرجحه مكاتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ملوك الأطراف كقيصر وكسرى وغيرهما.
3818 - وفي الصحيح «أنه كتب إلى قيصر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرا عظيما، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» ومكاتبة سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بلقيس، قال سبحانه حكاية عنها

(7/278)


{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31] الآية.
إذا تقرر هذا فاعلم أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في حق الله تعالى كالحدود ونحوها، ويقبل في كل حق لآدمي يثبت بشاهدين أو بشاهد ويمين، أو شاهد وامرأتين، وهل يثبت فيما عدا ذلك؟ فيه ثلاث روايات (القبول مطلقا) ويحتمله إطلاق الخرقي (وعدمه مطلقا) وهو مختار كثير من أصحاب القاضي (والقبول إلا في الدماء) وحكم حد القذف، حكم الحدود، إن قيل المغلب فيه حق الله تعالى وإلا حكم الدماء.
ثم الكتاب على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به، وهو الذي ذكره الخرقي، وذلك بأن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو تقوم البينة على حاضر بحق فيهرب قبل الحكم عليه ويثبته، ويسأل الحاكم الحكم بذلك فيحكم به، ففي جميع ذلك متى سأل المحكوم له الحاكم أن يحكم بذلك وأن يكتب له كتابا بحكمه، فإنه يلزمه إجابته، ويلزم

(7/279)


المكتوب له قبول ذلك والعمل به، وإن قربت المسافة، فيؤخذ المحكوم عليه بذلك الحق، إن اعترف أنه المحكوم عليه، وإن أنكر أنه المسمى في الكتاب، ولم يقم المدعي عليه بينة بذلك فالقول قوله مع يمينه.
(الضرب الثاني) أن يكتب بما ثبت عنده ليحكم به حاكم آخر، مثل أن تقوم عنده بينة بحق لشخص على شخص، فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده، فإنه يكتب له بذلك، قال القاضي: يكتب له: شهد عندي فلان وفلان بكذا. ليحكم به المكتوب إليه، ولا يقول: ثبت عندي. لأن قوله: ثبت عندي. حكم بشهادتهما، ولا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بين الحاكمين مسافة القصر على المذهب، وبه قطع أبو محمد، وقيل: يقبل إذا لم يمكن الذاهب إليه بكرة أن يعود إليه عشية، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر إذا كتب إلى قاض معين، والحكم فيما إذا كتب إلى قاض مبهم كمن يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين - كذلك، والله أعلم.

قال: ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا، فقال: اشهدا على أنه كتابي إلى فلان.
ش: أما اشتراط شاهدين لقبول كتاب القاضي إلى القاضي فلا ريب فيه، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن ما ليس بمال،

(7/280)


ولا يقصد، منه المال، لا يقبل فيه إلا شاهدان، وأما صفة الشهادة فإنه يقرؤه عليهما، أو يقرؤه غيره بحضرتهما، ثم يقول: اشهدا علي أن هذا كتابي إلى فلان. وقال القاضي: يكفي أن يقول: هذا كتابي إلى فلان. من غير أن يقول: اشهدا علي. انتهى. ثم إذا وصلا إلى المكتوب إليه قالا. نشهد أن هذا كتاب فلان إليك، كتبه بقلمه وأشهدنا عليه بما فيه؛ ولو كتب كتابا وأدرجه وختمه، وقال: هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه. لم يصح على المذهب المشهور، وهو مقتضى قول الخرقي، لأن شهادته وقعت على ما فيه وأنه مجهول، وبنى أبو محمد ذلك على قول أحمد فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدا علي بما فيها. أنه لا يصح وخرج رواية أخرى بالصحة من قوله فيمن وجدت وصيته مكتوبة عند رأسه، وعرف خطه وكان مشهورا، أنه ينفذ ما فيها، وقد تقدم في الوصايا أن الأولى تقرير هذين النصين على بابهما، كما هو طريقة ابن حمدان، وأبو البركات قال هنا: وعنه ما يدل على الصحة، ولم يبين المأخذ، انتهى.
فعلى هذه الرواية قال أبو محمد في المقنع: إذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله. وكذا قال

(7/281)


ابن حمدان وزاد قيل لا. وظاهر هذا أن على هذه الرواية يشترط لقبول الكتاب أن يعرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه، وفيه نظر، وأشكل منه حكاية ابن حمدان قولا بالمنع، فإنه إذا تذهب فائدة الرواية، والذي ينبغي على هذه الرواية أن لا يشترط شيء من ذلك، وهو ظاهر كلام أبي البركات، وأبي محمد في المغني، نعم إذا قيل بهذه الرواية فهل يكتفي بالخط المجرد من غير شهادة؟ فيه وجهان حكاهما أبو البركات، وعلى هذا يحمل كلام ابن حمدان وغيره، انتهى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط ختم كتاب القاضي إلى القاضي، وهو كذلك.
3819 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كتب الكتاب إلى قيصر لم يختمه، فقيل له: إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم، فاتخذ الخاتم، وهذا يدل على أن الختم ليس بشرط، وأنه إنما فعله لمصلحة، وهي قراءة الكتاب.
(تنبيهان) (أحدهما) هل يشترط في الشاهدين أن يكونا عدلين عند المكتوب إليه، أو يكتفي بذلك عند الكاتب؟ فيه قولان حكاهما ابن حمدان (الثاني) جعل ابن حمدان من صور الروايتين إذا شهدا أن هذا كتاب فلان إليك من عمله، وجهلا ما فيه، والذي ينبغي قبول مثل هذه الشهادة، لانتفاء الجهالة عنها، وقصاراه أنها لم تفد فائدة، إذ ما في الكتاب لا يثبت بذلك، والله أعلم.

(7/282)


قال: ولا يقبل الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه إلا من عدلين يعرفان لسانه.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار عامة الأصحاب، بناء على إجراء ذلك مجرى الشهادة (والثانية) يقبل في ذلك عدل واحد، بناء على إجرائه مجرى الخبر، وهو اختيار أبي بكر.
3820 - وقد استشهد لذلك بما في حديث «زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره فتعلم كتاب اليهود، قال: حتى كتبت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه» ، رواه البخاري وأحمد.
3821 - وقال البخاري: وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين ابن عباس

(7/283)


وبين الناس فعلى هذا يشترط للمترجم ما يشترط للراوي من الإسلام والتكليف، والعدالة والضبط، كما هو معروف في موضعه، ولا تشترط الذكورية ولا الحرية، ولا الإتيان بلفظ الشهادة، وعلى الأولى الترجمة شهادة، يشترط فيها ما يشترط في الشهادة على الإقرار بذلك الحق الذي وقعت الترجمة فيه، ففي الحدود والقصاص تشترط الحرية على المشهور، وعدلان ذكران، وفي الزنا هل يكفي مع الحرية والذكورية اثنان، أو لا بد من أربعة؟ فيه وجهان من الروايتين في الإقرار بذلك، وفي غير ذلك وغير المال لا تشترط الحرية، ويكتفى بذكرين حرين، وفي المال يكفي رجل وامرأتان، ولا بد من لفظ الشهادة في جميع ذلك.
(تنبيه) حكم التعريف والرسالة كذلك، والله أعلم.

قال: وإذا عزل فقال: كنت قد حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق. قبل قوله، وأمضي ذلك الحق.

(7/284)


ش: هذا منصوص أحمد، وبه جزم القاضي في جامعه، وأبو الخطاب في خلافه، وابن عقيل في تذكرته وغيرهم، لأنه أخبر بما حكم به، وهو غير متهم، فأشبه ما لو أخبر بذلك حال ولايته، ولأنه لو لم يقبل ذلك منه لأفضى إلى ضياع حقوق كثير من الناس، وذلك ضرر وإنه منفي شرعا، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنه لا يقبل قوله، وعلله بأنه في حال ولايته لا يجوز حكمه بعلمه، فبعد عزله أولى، واستثنى أبو البركات من هذا الاحتمال ما كان على وجه الشهادة عن إقرار، فعلى هذا لو كان حكمه مستندا إلى بينة لم يشهد، لأنه شهادة على شهادة، ولم يتحقق وجود شرطها، واستثنى ابن حمدان منه ما إذا شهد مع غيره أن حاكما حكم به، ولم يذكر نفسه، وحكى قول أبي البركات قولا انتهى. وشرط القبول على المذهب أنه لا يتهم، ذكره أبو الخطاب وغيره.
وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو قال ذلك في حال ولايته قبل منه بطريق الأولى وهو كذلك، حتى مع التصريح أنه حكم بالنكول أو بعلمه، ونحو ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد (ومقتضى كلامه) أيضا أنه لو أخبر في حال ولايته بحكم في غير محل ولايته أنه يقبل منه، لأنه إذا قبل قوله بعد العزل فلأن يقبل

(7/285)


قوله مع بقائها في غير موضع ولايته أولى، وقال القاضي: لا يقبل إذا كانا جميعا في غير محل ولايتهما، أما إن اجتمعا في عمل أحدهما - كأن اجتمع قاضي دمشق وقاضي مصر في مصر - فإن قاضي مصر لا يعمل بخبر قاضي دمشق لإخباره في غير محل ولايته، وهل يعمل قاضي دمشق بما أخبره به قاضي مصر إذا رجع إلى دمشق؟ فيه وجهان بناء على حكم الحاكم بعلمه، وكأن الفرق ما يحصل من الضرر بترك قبول قوله ثم بخلاف هنا، ومال أبو محمد إلى الأول، ومن هنا قال إن قول القاضي في فروع المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله فيها، والله أعلم.

[القضاء على الغائب]
قال: ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه.
ش: القضاء على الغائب في الجملة هو المذهب المعروف المشهور، حذارا من دخول الضرر على صاحب الحق بضياع حقه، أو تأخره لا إلى أمد، واستدلالا بحديث هند، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقضى عليه مع غيبته، وفيه نظر، فإن أبا سفيان يجوز أن يكون حاضرا في البلد، ثم إنها لم تقم بينة على ذلك، والصواب في الحديث أنه ورد على سبيل الفتيا لها لا الحكم، والمعتمد عليه هو الأول، وأيضا فإن تعذر الوصول إلى إقرار الخصم يجعل للمدعى عليه سبيلا إلى إقامة البينة لفصل القضاء، كما لو حضر إلى مجلس

(7/286)


الحكم وامتنع من الكلام (وعن أحمد رواية أخرى) - واختارها ابن أبي موسى - لا يجوز القضاء على الغائب مطلقا، لما تقدم من «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي كرم الله وجهه: «إذا جلس إليك خصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» رواه أبو داود وغيره. وأجيب بأنا نقول بموجبه، فإن هذا فيما إذا كان الخصمان حاضرين، ولقائل أن يقول: الاستدلال بما أشار إليه في التعليل - وهو أن الحاكم إذا سمع من الخصم تبين له القضاء - ومقتضاه أنه إذا لم يسمع منهما لا يتبين له القضاء، وإذا كان أحدهما غائبا لم يسمع منه، ولا ممن يقوم مقامه وهو وكيله فلم يسمع منهما.
والتفريع على الأول، وعليه فلا يحكم على الغائب إلا إذا صح الحق عنده وعليه، وصحته بأن تقوم به بينة، فلو لم يكن به بينة لم يحكم، بل ولا يسمع الدعوى، لعدم فائدتها، ومع قيام البينة هل يحلفه الحاكم على بقاء حقه على الغائب، وقال ابن حمدان في رعايتيه: إنه الأصح احتياطا للغائب لجواز الاستيفاء أو الإبراء ونحو ذلك، أو لا يحلفه - وهو اختيار أبي الخطاب، والشريف والشيرازي وغيرهم، ومن ثم قال أبو محمد في المغني: إنه المشهور، لإطلاق قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على

(7/287)


المدعي، واليمين على من أنكر» وظاهره أنه لا شيء على المدعي غير البينة، كما أنه لا شيء على المنكر غير اليمين؟ على روايتين.
ثم إذا قدم الغائب فهو على حجته، ويعتبر في الغيبة أن تكون إلى مسافة القصر فأزيد، قاله أبو محمد في الكافي، وابن حمدان في رعايتيه، وحكى في الكبرى قولا أن يكون فوق نصف يوم، والخرقي لم يحد ذلك بحد، وكذلك أبو الخطاب والشريف وأبو البركات وغيرهم، ويعتبر أيضا أن يكون في غير محل ولايته، أما لو كان غائبا بمكان في ولايته ولا حاكم فيه، فإن الحاكم يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما، فإن تعذر فإلى ثقة بالصلح بينهما، فإن تعذر قال للمدعي: حقق دعواك. فإن فعل أحضر خصمه، وإن بعدت المسافة على المذهب، وقيل: يحضر من مسافة القصر فأقل، وقيل: إن جاء وعاد في يوم أحضر ولو قبل تحرير الدعوى، وحيث لم يلزم بالحضور فإنه يقضي عليه كمن في غير عمله، وإذا قضى على الغائب فإن كان في عين سلمت إلى المدعي، وفي دين يوفى من ماله إن وجد له مال.
وفي أخذ كفيل بذلك من المدعي وجهان (أشهرهما) - وهو

(7/288)


ظاهر كلام أحمد - لا، ثم قال ابن البنا وأبو محمد وابن حمدان: إنما يقضي على الغائب في حقوق الآدميين، لا في حقوق الله كالزنا والسرقة، نعم في السرقة يقضي بالمال فقط، وفي حد القذف وجهان، بناء والله أعلم على أن المغلب فيه هل هو حق لله تعالى، أو حق لآدمي، ولم يقيد الخرقي وأبو الخطاب وأبو البركات وغيرهم القضاء بذلك انتهى.
وحكم المستتر في البلد والميت، والصبي والمجنون حكم الغائب فيما تقدم - من الحكم على كل واحد منهم إذا ثبت الحق عليه، ومن حلف المدعي إن قيل به، ومن كون المستتر إذا ظهر، والصبي والمجنون إذا حكم برشدهما على حججهم، ومن أخذ كفيل بالمدعي، إنه قيل بذلك - حكم الغائب، إلا أن مقتضى كلام أبي الخطاب والشيخين وغيرهم عدم جريان الخلاف فيهم، وأجراه ابن حمدان في رعايتيه في المستتر.
وقول الخرقي: يحكم على الغائب.
مفهومه أنه لا يحكم على الحاضر، وهو يشمل الحاضر في البلد والحاضر في مجلس الحكم، ولا نزاع في الثاني، أما الأول فقيل - وهو مقتضى كلام أبي محمد في كتبه، وأحد احتمالي أبي الخطاب -: لا يسمع البينة ولا الدعوى عليه حتى يحضر، كالحاضر مجلس الحكم، وقيل يسمعان، وهو الاحتمال الآخر لأبي الخطاب، وقيل

(7/289)


يسمعان ولا يحكم عليه حتى يحضر؛ وهو اختيار أبو البركات، وقال: إن أبا طالب نقله عن أحمد، وكأنه أشار إلى رواية أبي طالب في رجل وجد غلامه عند رجل، فأقام البينة أنه غلامه، فقال الذي عنده الغلام: أودعني هذا رجل.
فقال أحمد: أهل المدنية يقضون على الغائب، يقولون: إنه لهذا الذي أقام البينة، وهو مذهب حسن، وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الإعذار، وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البينة، فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه، فينادي الرسول ثلاثا، فإن جاء وإلا قد أعذر إليه، فهذا يقوي قول أهل المدينة، وهو معنى حسن، فلم ينكر أحمد سماع البينة ولا الدعوى، ثم إنه حكى قول أهل المدينة في القضاء على الغائب وأطلق وحسنه، وهو يشمل الغائب في البلد، وحكى قول أهل العراق في القضاء على غائب مختف، وجعله كالشاهد لقول أهل المدينة، فكأنه عنده محل وفاق.
ومن هنا والله أعلم قال أبو البركات: إن الحاضر في البلد إذا امتنع من الحضور ألجئ إليه بالشرطة والتنفيذ إلى منزله مرارا، وإقعاد من يضيق عليه ببابه في دخوله وخروجه، أو ما يراه الحاكم من ذلك، فإن أصر على التغيب سمعت البينة وحكم بها عليه قولا واحدا، وتبعه ابن حمدان على ذلك فيما أظن [وفي المقنع أنه إذا امتنع من الحضور هل تسمع البينة ويحكم بها؟

(7/290)


على روايتين] ، مع أنه قطع بجواز الحكم على الغائب وفيه نظر، وكلام القاضي وكثير من أصحابه محتمل لذلك، فإنهم قالوا واللفظ للقاضي في الجامع: يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة بالحق، وكذلك إن كان حاضرا ممتنعا من حضور مجلس الحاكم في إحدى الروايتين، والأخرى لا يجوز، وهذا يحتمل أن يعود إليهما، ويحتمل عوده إلى الامتناع فقط، وعلى كل حال فهو مخالف لقول أبي البركات، والله أعلم.

[حكم القسمة وكيفيتها]
قال: وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه وأثبت في القضية بذلك أن قسمته إياه بينهما كان عن إقرارهما، لا عن بينة شهدت لهما بملكهما.
ش: الأصل في جواز القسمة في الجملة الإجماع، وقد شهد له قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على ثمانية عشر سهما، وقسمه الغنائم، وقوله «الشفعة فيما لم يقسم» ثم الحكمة تقتضي ذلك، إذ بالشركاء حاجة إلى ذلك، ليتمكن كل منهم من التصرف، في حقه بما شاء، ويتخلص من سوء المشاركة.

(7/291)


إذا ثبت ذلك فإذا أتى الحاكم اثنان أو أكثر فادعيا أنهما شريكان في ربع - وهو العقار من الدور ونحوها - أو نحوه، وهو ما عداه من الأموال وسألاه أن يقسمه بينهما، فإنه يقسمه بينهما وإن لم يثبت عنده ملكهما، اعتمادا على ظاهر أيديهما، ولهذا جاز شراؤه واتهابه منهما ونحو ذلك، وإذا قسمه أثبت في كتاب القسمة أن قسمته بينهما بسؤالهما، لا ببينة شهدت لهما، حذارا من أن يكون لغيرهما، وذكر الخرقي العقار لينبه على مذهب النعمان، فإن عنده أن الشريكين إذا نسبوا العقار إلى إرث لا بد وأن يثبت الموت والورثة، بخلاف غيره، والشافعي يعمم الثبوت في الجميع، والله أعلم.

قال: ولو سأل أحدهما شريكه مقاسمته فامتنع الآخر أجبره الحاكم على ذلك، إذا ثبت عنده ملكهما، وكان مثله ينقسم، وينتفعان به مقسوما.
ش: الأموال على ضربين (أحدهما) ما لا ضرر في قسمته ولا رد عوض، كأرض واسعة، ودكان كبيرة، وقرية وبستان، ومكيل أو موزون من جنس واحد، وإن مسته النار كدبس ونحوه، ومذروع متساوي الأجزاء والقيمة، فلا تنقص قيمته بقطعه ونحو ذلك، فهذا تجب قسمته إذا طلب أحد الشريكين ذلك، لتضمنه جلب مصلحة من تصرف كل واحد منهما في ماله بحسب اختياره، من غراس وبناء وإجارة وغير ذلك وزوال مفسدة، وهي ضرر الشركة، وإن مبنى الشريعة على ذلك.

(7/292)


واشترط الخرقي مع ذلك أن يثبت عند الحاكم ملكهما، وأقره أبو محمد على ذلك مريدا ببينة، ومعللا بأن الإجبار على القسمة حكم على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، وفي هذا نظر، فإنهما إذا أقرا بالملك فينبغي أن يلزما بمقتضى إقرارهما، فيجبر الممتنع منهما على القسمة، كما لو قامت البينة بذلك، وقد أهمل هذا الشرط أبو الخطاب وأبو البركات، وابن حمدان في الصغرى، وألحقه بخطه في الكبرى، ويحتمل أن يكون مراد الخرقي بثبوت الملك ما هو أعم من البينة أو الإقرار، ويحترز عما إذا ادعى أحدهما الشركة وأنكر الآخر، وسكت غيره عن ذلك لوضوحه.
(الضرب الثاني) ما في قسمته ضرر أو رد عوض، كدار صغيرة وحمام، أو طاحون كذلك، وأرض لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة، كبئر، أو بناء أو شجر في بعضها ونحو ذلك، وكعبد وسيف، فهذا ونحوه إذا رضي الشريكان بقسمته قسم، لأن الحق لهما لا يعدوهما، وإن امتنع أحدهما لم يجبر.
3822 - أما مع الضرر فلقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه، وفي لفظ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن لا ضرر ولا

(7/293)


إضرار» .
وأما مع رد العوض فلأنه إذًا بيع، والبيع لا إجبار فيه والحال هذه، قال سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لا يقال: وفي عدم القسمة ضرر.
لأنا نقول: يندفع ذلك بالبيع عليهما إذا طلب أحدهما ذلك، كما نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في دابة مشتركة بينهما، وعممه غير واحد من الأصحاب في كل ما في قسمته ضرر، ويرشح ذلك أيضا بأن حق الشريك في نصف القيمة، لا قيمة النصف، انتهى.
واختلف في الضرر المانع من القسمة (فعنه) - وهو ظاهر كلامه في رواية الميموني - هو أن تنقص القيمة بالقسمة، إذ مثل ذلك يعد ضررا، وإنه منفي شرعا (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد في العمدة - هو ما يتعذر معه انتفاع أحدهما بقسمه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة، كدار صغيرة إذا قسمت حصل لكل واحد منهما موضع لا ينتفع به، قال أبو محمد: أو ينتفع به لا على وجه الدارية، بل على وجه المخزنية ونحو ذلك لأن كل واحد منهما دخل على الانتفاع بها

(7/294)


على وجه الدارية.
ففي العدول إلى دون ذلك ضرر، وإنه منفي شرعا (فعلى الأول) إذا نقصت القيمة بالقسمة فلا إجبار، وإن انتفع بها فيما كان ينتفع به قبل (وعلى الثاني) الاعتبار بالنفع وإن لم تنقص القيمة، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل اعتبارهما، قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها.
(فإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر، كرجلين لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان، يستضر صاحب الثلث بالقسمة، دون صاحب الثلثين (فعنه) - وهو ظاهر رواية حنبل المتقدمة، وبه جزم القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما والشيرازي - لا يجبر واحد منهما، إذ هذه القسمة لا تخلو من ضرر (وعنه) - وإليه ميل الشيخين - إن طلبها صاحب الثلث والحال هذه أجبر الآخر عليه، لأنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، ولا ضرر على شريكه، وإن طلبها صاحب الثلثين لم يجبر الآخر، لما فيه من الضرر عليه، وحكي عن القاضي عكس ذلك في الصورتين وفيه بعد، انتهى.
(تنبيه) حيث توقفت القسمة على التراضي فهي بيع بلا ريب، وحيث لم تتوقف عليه بل يجبر الممتنع عليها فهي إفراز، على المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب لأنها تنفرد عن البيع باسم وحكم، فلم تكن بيعا كسائر العقود، يحقق ذلك دخول الإجبار فيها مطلقا، وليس لنا نوع من البيع كذلك،

(7/295)


ووقع في تعاليق أبي حفص العكبري عن شيخه ابن بطة، أنه منع قسمة الثمار التي يجري فيها الربا خرصا وأخذ من هذا أنها عنده بيع، كما أخذ من نص أحمد على جواز الخرص في هذه الصورة أنها إفراز، وذلك لأنه يبذل نصيبه من أحد السهمين، بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة المنع.
وينبني على الخلاف فوائد (منها) جواز قسمة الثمار التي يجري فيها الربا بالخرص (ومنها) جواز قسمة المكيل وزنا والموزون كيلا (ومنها) التفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في المبيع (ومنها) إذا حلف لا يبيع فقسم أنه لا يحنث (ومنها) جواز قسمة العقار الموقوف أو بعضه، وعلى قول ابن بطة ينعكس جميع ذلك، ولو كان بعض العقار وقفا، وبعضه طلقا، واحتيج إلى رد عوض، فإنه يتوقف كما تقدم على التراضي، ثم إن كان العوض من صاحب الطلق لم يجز، لأنه يشتري بعض الوقف، وإنه ممتنع، وإن كان من رب الوقف جاز على الأصح، المقطوع به عند أبي محمد، وعلى كلا القولين لا يوجب شفعة، وينفسخ بالعيب، والله أعلم.

قال: وإذا قسم طرحت السهام، فيصير لكل واحد ما وقع

(7/296)


سهمه عليه، إلا أن يتراضيا فيكون لكل واحد منهم ما رضي به.
ش: أي وإذا أريد القسم طرحت السهام، ويصير لكل واحد من الشركاء ما وقع سهمه عليه، إذ القرعة دخلت لقطع التنازع، وبيان المستحق، وقد حصلت فوجب أن يترتب حكمها عليها، فإن تراضيا على أن يأخذ كل واحد سهما بغير قرعة جاز، لأن الحق لهما لا يتجاوزهما، ويكون اللزوم هنا بالتراضي والتفرق كالبيع.
وظاهر كلام الخرقي يشمل كل قاسم، ونوعي القسمة، وكذلك تبعه على هذا الإطلاق أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات والشيرازي وابن البنا، وأبو محمد في المقنع، وزاد أبو الخطاب ومن تبعه قولا أنها لا تلزم فيما فيه رد؛ بخروج القرعة إلا بالرضا لأنها إذا بيع بعد القرعة، وعلى مقتضى هذا التعليل جميع قسمة التراضي لا تلزم إلا بالرضا، وفصل أبو محمد في المغني والكافي فقال في قاسم الحاكم في قسمة الإجبار: تلزم القسمة بخروج القرعة، إذ قرعة قاسم الحاكم كحكمه،

(7/297)


وفي قسمة التراضي وجهان (أحدهما) كالأول لما تقدم (والثاني) لا تلزم إلا بالتراضي، لأنها إذا بيع، وجعل حكم قاسمها حكم قاسم الحاكم إن كان بصفته، وإن كان كافرا، أو غير عارف بالقسمة ونحو ذلك لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما، كما لو قسما بأنفسهما، وتبعه على ذلك ابن حمدان، وعلى هذا التفصيل كلام الخرقي ومن تبعه محمول على قاسم الحاكم.
(تنبيه) كيفما أقرع جاز إلا أن الأولى عند الأصحاب أن يكتب اسم كل شريك في رقعة ثم تدرج في بنادق شمع أو طين متساوية، قدرا ووزنا، وتطرح في حجر رجل لم يحضر ذلك، ويقال له: أخرج بندقة على هذا السهم.
فمن خرج اسمه كان له، ثم الثاني كذلك، والسهم الباقي للثالث إذا كانوا ثلاثة، واستوت سهامهم، ولو كتب اسم كل سهم في رقعة ثم قال: أخرج بندقة لفلان، وبندقة لفلان، وبندقة لفلان جاز، ولو كانت سهام الثلاثة مختلفة كنصف وثلث وسدس، جزئ المقسوم ستة أجزاء، وأخرج الأسماء على السهام لا غير، فيكتب باسم رب النصف ثلاث رقاع، ولرب الثلث رقعتين، ولرب السدس رقعة، ثم يخرج بندقة على أول سهم، فإن خرج عليه اسم رب النصف أخذه مع الثاني والثالث، وإن خرج اسم رب الثلث أخذه مع الثاني، ثم يقرع بين الآخرين كذلك، والباقي للثالث.
والله سبحانه أعلم.

(7/298)