شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب العتق]
ش: العتق الحرية، قال أهل اللغة: يقال منه عتق يعتق عتقا وعتقا. بفتح العين وكسرها، فهو عتيق وعاتق، قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عتق الفرس. إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ إذا طار واستقل، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء؛ قال: وإنما قيل لمن أعتق نسمة: أعتق رقبة - فخصت الرقبة بالعتق وإن تناول العتق الجميع - لأن ملك السيد عليه كحبل في رقبته، فإذا أعتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك.
والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] .
3883 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق رقبة مسلمة - وفي رواية، مؤمنة - أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، حتى فرجه بفرجه» متفق عليه وأجمع المسلمون على مشروعية ذلك، وأنه قربة في الجملة، والله أعلم.

(7/426)


[أحكام متفرقة في العتق] [الحكم لو كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه]
قال: وإذا كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه معا، أو وكل نفسان للثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل، أو أعتق كل واحد منهم حقه وكان معسرا، فقد صار العبد كله حرا، وولاؤه بينهم أثلاثا.
ش: إذا كان العبد بين ثلاثة أو أكثر فأعتقوه معا، إما بأن حصل تلفظهم بعتقه في آن واحد، أو وكلوا غيرهم أو أحدهم في عتقه، أو علقوا عتقه على صفة فوجدت، فإنه يصير حرا، لأنه عتق من مالك.
3884 - فدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» الحديث، مفهومه نفوذ العتق فيما يملكه، وهذا - والله أعلم - اتفاق في الجملة، وإذا كان حرا كان الولاء بينهم أثلاثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وفي رواية: «إنما الولاء لمن أعتق»

(7/427)


متفق عليه وكل منهم أعتق جزءا فثبت له عليه الولاء، وكذلك إذا أعتق الشركاء حقوقهم واحدا بعد واحد وهم معسرون، فإنه يعتق على كل واحد منهم حقه على المذهب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويكون له ولاء ما عتق عليه، إذ الولاء تابع للعتق كما تقدم.
واعلم أن من شرط صحة عتق المالك أن يكون مختارا، فلا يصح عتق المكره، كما لا يصح طلاقه.
[نعم إن أكره بحق - كما إذا وجب عليه ذلك بشرط في بيع، أو كفارة ونحو ذلك، فأجبره الحاكم عليه صح من جائز التبرع، فلا يصح من مجنون ولا طفل بلا ريب] ، ولا مميز على إحدى الروايتين، والرواية الثانية يصح، كما يصح طلاقه ووصيته على المذهب فيهما، وهو المجزوم به عند أبي محمد، ولا من محجور عليه لسفه أو فلس على أصح الروايتين، والله أعلم.

قال: ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله عليه.

(7/428)


ش: أما عتق نصيبه فلما تقدم.
3885 - وأما عتق نصيب شريكه فلما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من أعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه، حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق» رواه الجماعة، وفي رواية «من أعتق شركا له في عبد عتق ما بقي في ماله، إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد» رواه مسلم وغيره وهذا كالنص.
3886 - «وعن أبي المليح عن أبيه، أن رجلا من قومنا أعتق شقصا له من مملوك، فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل خلاصه عليه في ماله، وقال: «ليس لله شريك» » رواه أحمد، وفي لفظ «هو حر كله، ليس لله شريك» رواه أحمد ولأبي داود معناه، وكلام

(7/429)


الخرقي يشمل الشريك المسلم والكافر وهو اختيار أبي محمد، وذكره القاضي، لعموم من أعتق شركا له في عبد ولما علل به في حديث أبي المليح.
3887 - وقد روى النسائي من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء، فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته، كما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء» فعلل بسوء المشاركة، وهذا موجود في الشريك الكافر، وفيه وجه آخر أنه لا يسري على الكافر، إذا أعتق نصيبه من مسلم، حذارا من أن يملك كافر مسلما، ورد بأن هذا ليس بضمان تمليك، وإنما هو ضمان إتلاف، وليس بجيد، إذ لو صح لم يكن له الولاء، والفرض أن له الولاء على ما عتق عليه، فدل على أنه يدخل في ملكه، ثم يعتق، لكن المحذور في ملك الكافر للمسلم غير وجود هنا، ولو قدر وجود محذور ما فهو مغمور بما حصل من مصلحة العتق.

(7/430)


(تنبيه) حد اليسار أن يكون حين الإعتاق واجدا لقيمة الشقص فقط، على ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه وكلام غيره، قال: إذا كان يملك مبلغ ثمن حصة شريكه، وأورده ابن حمدان مذهبا، وحكى قولا آخر أن يكون ذلك فاضلا عن قوت يومه وليلته، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول، وهو الذي جزم به في المغني، إلا أنه اعتبر مع ذلك ما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية، من الكسوة والمسكن، وسائر ما لا بد له منه، وقال: ذكره أبو بكر في التنبيه، ولم أر ذلك فيه، بل لفظه ما تقدم، ونظير ذلك صدقة الفطر، فإن أبا محمد في المغني اعتبر لوجوبها ذلك، ولم يعتبر القاضي وكثير من أصحابه وأبو البركات، وأبو محمد في كتابيه إلا قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، ثم ذكر ما في المغني انتهى، فإن أيسر ببعض القيمة عتق عليه بقدر ذلك، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، وقيل: لا.

قال: وصار لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه.
ش: هذا فرع على أن العتق يسري عليه، وإذا يصير لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

(7/431)


وأعطي شركاؤه حصصهم أي قيمة حصصهم، ولأنه إما إتلاف معنوي فهو بمنزلة الحي، وإما تمليك بالقيمة، وإنما كان تجب القيمة وتعتبر القيمة حين العتق، لأنه وقت انتقال الملك، أو وقت الإتلاف على المعروف المشهور، المجزوم به لأبي محمد وغيره، وحكى الشيرازي قولا أنه وقت التقويم، وهو قياس القول الذي لنا في الغصب بأن الاعتبار بيوم المحاكمة، فإن اختلفا في القيمة رجع إلى قول أهل الخبرة، فإن تعذر بموت العبد أو غيبته ونحو ذلك فالقول قول المعتق، لأنه المنكر للزيادة، والأصل براءته منها، وكذلك القول قوله إن اختلفا في صناعة فيه، نعم إن كان العبد يحسنها في الحال، ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه، فالقول قول الشريك، لعلمنا بصدقه، وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه، فهل القول قول المعتق، لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة، أو قول الشريك، لأن الأصل بقاء ما كان؟ على وجهين، وإن اختلفا في عيب كالسرقة والإباق، فالقول قول الشريك، إذ الأصل السلامة، فإن كان العيب موجودا واختلفا في حدوثه فهل القول قول الشريك أيضا، لأن الأصل البراءة منه حين العتق، أو قول المعتق، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهو الذي أورده في المغني مذهبا؟ فيه قولان.

(7/432)


(تنبيه) هل يقوم كاملا لا عتق فيه، أو وقد عتق بعضه؟ فيه قولان للعلماء، أصحهما الأول، وهو الذي قاله أبو العباس فيما أظن، لظاهر الحديث، ولأن حق الشريك إنما هو في نصف القيمة، لا قيمة النصف، بدليل ما لو أراد البيع، فإن الشريك يجبر على البيع معه، والله أعلم.

قال: فإن أعتقا بعد عتق الأول له، وقبل أخذ القيمة، لم يثبت لهما فيه عتق، لأنه قد صار حرا بعتق الأول.
ش: يعني أن العتق مع اليسار يسري بمجرد اللفظ، ولا يفتقر إلى أداء القيمة، وهذا هو المشهور من المذهب، لما تقدم من حديث ابن عمر وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الذي رواه النسائي، ولرواية مسلم المتقدمة في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وللبخاري في رواية فيه «من أعتق نصيبا له في مملوك، أو شركا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق» .
3888 - وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه من ماله»

(7/433)


(وفي المذهب وجه آخر) قواه أبو العباس أنه لا يعتق إلا بعد أداء القيمة، لظاهر رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتفق عليها، فإنه قال فيها «فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد» وفي رواية متفق عليها أيضا «من أعتق عبدا بينه وبين آخر، قوم عليه في ماله قيمة عدل، ولا وكس ولا شطط، ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا» وهذا أصح من رواية النسائي وغيره، وأصرح من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مع أن قوله: «فهو حر؛ أو فهو عتيق» يحمل على ما بعد القيمة، جمعا بين الأحاديث، إذ المقصود من جميعها واحد، وحمل مطلق ذلك على مقيده معتبر بلا ريب.
فعلى المذهب إذا أعتق الشريك بعد عتق الأول لم ينفذ عتقه، لأن عتق المعتق محال (وعلى الثاني) قال ابن حمدان: يحتمل وجهين، وظاهر هذا أنه لا يصح التصرف فيه بغير العتق.

(7/434)


قال: وإذا أعتقه الأول وهو معسر، وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه، ونصيب شريكه، وكان له عليه ثلث قيمته، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول، وثلثاه للمعتق الثاني.
ش: قد تضمن كلام الخرقي أن عتق المعسر لا يسري لا عليه ولا على غيره، وإنما يعتق ما أعتقه فقط، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمجزوم به عند أكثر الأصحاب، لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو أصح وأشهر من غيره.
3889 - وقد روى الدارقطني فيه ورق ما بقي وهذا نص إن ثبت.
3890 - «وعن إسماعيل بن أمية، عن أبيه عن جده، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان، فأعتق جده

(7/435)


نصفه، فجاء العبد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعتق في عتقك، وترق في رقك» قال: فكان يخدم سيده حتى مات» . رواه أحمد. (وعن أحمد رواية أخرى) اختارها أبو الخطاب في الانتصار أن العبد يعتق كله، ويستسعى في قيمة باقية غير مشقوق عليه.
3891 - – لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق، غير مشقوق عليه» رواه الجماعة إلا النسائي، وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أيوب فقال فيه مرة: قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، ومرة قال: فلا أدري أشيء قاله نافع أم هو من الحديث، وإذا لم يثبت أنه من لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا حجة

(7/436)


فيه، وقد أجيب عن هذا بأن مالكا جزم به كما تقدم، وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ، كجرير بن حازم، وعبيد الله وغيرهما، والجازم مع زيادة علم، فيقدم على الشاك، وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد طعن فيه الحفاظ، قال الأثرم: ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه، وقال ابن المنذر: لا يصح. وقال أبو عبد الله: ليس في الاستسعاء شيء يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة، وأما همام وشعبة وهشام الدستوائي - فلم يذكروه، وحدث به معمر فلم يذكر فيه السعاية، قال أبو داود:

(7/437)


وهمام أيضا لا يقوله. قلت: وهذا يدل على أن لفظ الاستسعاء شاذ، لمخالفته الجمهور، وقد ذكر همام أنه من قول قتادة وفتياه، ثم على تقدير صحته فالأول يترجح بعمل أهل المدينة، والجمهور عليه، وبأنه مخالف للظواهر والأصول، لإفضائه إلى منع المالك من التصرف في ملكه، وإحالته على سعاية قد لا يحصل منها شيء، وإدخال العبد في شيء قد لا يريده، وفي ذلك ضرر، ومعاوضة بغير رضا، وإنه منفي شرعا، ثم ذلك حصل بسبب جناية غيرهما، ومن الأنسب الأحرى أن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .

(7/438)


إذا تقرر هذا فعلى المذهب إذا أعتق المعسر استقر العتق في نصيبه، ثم إذا أعتقه الثاني وهو موسر عتق نصيبه، وسرى إلى نصيب شريكه الثالث كما تقدم، وكان ثلث الولاء للمعتق الأول، لأن الذي أعتقه هو الثلث، وثلثاه للمعتق الثاني، لأن الذي حصل له بالعتق مباشرة وسراية الثلثان.
وعلى القول بالسعاية هل يعتق في الحال، وهو ظاهر كلام الأكثرين، وأورده ابن حمدان مذهبا، أو لا يعتق حتى يؤدي السعاية، وهو اختيار أبي الخطاب في الانتصار؟ فيه وجهان، (فعلى الأول) يصير حكمه حكم الأحرار، وتبقى قيمته في ذمته، يستسعى فيها قدر طاقته، ولا يرجع على أحد، ولا يصح العتق فيه بعد، فإن مات مات حرا، فإن كان في يده مال كان لسيده بقية السعاية، وما بقي لورثته، (وعلى الثاني) حكمه حكم المكاتب، يملك اكتسابه ومنافعه، ويصح للشريك عتقه، وإن مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل الذي له، لكن تكون كتابته لازمة، والله أعلم.

قال: ولو كان المعتق الثاني معسرا عتق نصيبه منه، وكان ثلثه رقيقا لمن لم يعتق، فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق، وثلثاه للمعتق الأول، والمعتق الثاني بالولاء، إذا لم يكن له وارث أحق منهما.

(7/439)


ش: هذا أيضا فرع على المذهب المتقدم، فإن المعتق الثاني إذا كان أيضا معسرا عتق نصيبه فقط، وبقي ثلثه رقيقا لمن لم يعتق، فإذا مات العبد وترك مالا كان ثلثه للذي لم يعتق بملكه لثلثه، وثلثاه ميراث - لأنه ملكهما بجزئيه الحرين - للمعتقين بالولاء، إن لم يكن له وارث بفرض أو تعصيب يقدم عليهما، فإن كان له وارث يرث البعض - كأم مثلا أو زوجة - فإنها تأخذ فرضها، والباقي بين المعتقين إن لم يكن عصبة مناسب، وهذا كله إن لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته أو هايأه فإذا لا حق له في تركته، لأنها حصلت بجزئه الحر.

[الحكم لو كان العبد بين اثنين فادعى كلاهما العتق]
قال: وإذا كان العبد بين نفسين، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه، فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه.
ش: لأنها دعوى مجردة، لا تتضمن حقا، لما تقدم من أن عتق المعسر لا يسري، وهذا بخلاف ما لو كانا موسرين، فإن دعوى كل واحد مهما تضمنت أنه يستحق على شريكه نصف القيمة، وإذا لم يقبل قول كل واحد منهما على الآخر، لم يعتق من العبد شيء، والله أعلم.

قال: فإن كانا عدلين كان للعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا.
ش: إذا كان الشريكان عدلين، فللعبد أن يحلف مع كل

(7/440)


واحد منهما إن ادعى ذلك، ويصير كله حرا، لأن كل واحد منهما يشهد بعتق نصفه، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا لذلك أيضا، وهذا من الخرقي بناء على أن العتق يقبل فيه شاهد ويمين المدعي، وقد تقدم ذلك، وإن لم يكونا عدلين فله أن يحلف كل واحد منهما أنه ما أعتق نصفه، والله أعلم.

قال: وإن كان الشريكان موسرين فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما بحريته، وصار مدعيا على شريكه نصف قيمته، فإن لم تكن له بينة فيمين كل واحد منهما لشريكه.
ش: إذا كان الشريكان موسرين وادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه، فقد صار العبد حرا، لتضمن دعواهما ذلك، إذ عتق الموسر يسري، فكل منهما حقيقة دعواه حرية العبد، وأنه يستحق على شريكه نصف قيمته، لأنه يدعي أن شريكه أعتق نصيبه، فسرى إلى حقه، فيؤاخذ كل منهما بإقراره، ويحكم بحرية العبد، ويصير كل منهما مدعيا على شريكه نصف قيمته، فإن كان ثم بينة عمل بها بلا ريب، وإن لم يكن فيمين كل واحد منهما مستحقة لشريكه، عليه أن يحلف له، لأنه منكر لما ادعى عليه، واليمين على المنكر لما تقدم.
ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحكم الولاء في هاتين الصورتين،

(7/441)


وهما ما إذا كانا موسرين أو معسرين عدلين، فحلف العبد معهما أو مع أحدهما، والحكم أنه لا ولاء عليه، لأن أحدا لا يدعيه، بل دعوى كل واحد منهما تضمنت إنكاره، ولا يثبت لأحد حق ينكره، وكذلك إذا ادعى العبد العتق، وأنكره السيد، وقامت عليه البينة، فإن عاد من نسبت إليه عتاقته فاعترف بذلك ثبت له الولاء، لأنه لا مستحق له سواه قاله أبو محمد.
وقد بقي من تقسيم دعوى الشريكين إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا، والحكم أن نصيب المعسر يعتق وحده مجانا، لتضمن دعواه أن نصيبه عتق بإعتاق شريكه الموسر، ولا يعتق نصيب الموسر، لأن دعواه أن المعسر أعتق، والحكم أن عتقه لا يسري على ما تقرر، ولا تقبل شهادة المعسر عليه، لأنه يجر بها نفعا، لكونها توجب عليه نصف القيمة، نعم له عليه اليمين لضمان السراية، فإن نكل قضي عليه، وإن رد اليمين وقلنا بذلك فحلف المعسر أخذ قيمة حقه، ولم يعتق حق الموسر باليمين المردودة، لأنه لم يوجد منه إقرار ولا ما يقوم مقامه وهو النكول، ولا ولاء للمعسر في نصيبه، لأنه لا يدعيه، فإن عاد المعسر فأعتق نصيبه وادعاه ثبت له، قاله أبو محمد، وفيه

(7/442)


شيء، لأن دعواه أولا تبطل دعواه ثانيا، وكذلك إن عاد الموسر فأقر بإعتاق نصيبه ثبت له الولاء، وغرم نصيب المعسر، والله أعلم.

قال: وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما، وهما متساويان في القيمة، فقال أحد الابنين: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما. أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه، إن لم يجز الابنان عتقه كاملا، وكان الآخر عبدا، وإن وقعت القرعة على الآخر عتق منه ثلثه، وكان لمن أقرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر، ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه، فصار ثلث كل واحد من العبدين حرا.
ش: هذه المسألة محمولة على حالة يكون التبرع فيها من الثلث، كالعتق في مرض الموت ونحو ذلك، إذ لو لم يكن كذلك لنفذ العتق في الكل، ولم يقف على إجازة الورثة، وقرينة هذا ذكر الإجازة في الورثة.
إذا تقرر أن ذلك في حالة العتق فيها من الثلث فلا يخلو ذلك من أربعة أحوال (أحدها) أن يعينا العتق في أحدهما،

(7/443)


فيعتق منه ثلثاه، إن لم يجيزا عتقه كاملا، لأن ذلك ثلث جميع ماله، وهذا واضح (الثاني) عين كل واحد منهما العتق في غير الذي عينه أخوه، فيعتق من كل واحد ثلثه، لأن مجرد قول الشخص إنما يقبل في حق نفسه دون حق غيره، وحق كل واحد منهما نصف العبدين، فيقبل قوله في حقه من الذي عينه وهو ثلثاه، وذلك هو الثلث، ويبقى له نصف ثلثه وهو السدس، ونصف العبد الآخر (الثالث) قال أحدهما: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما. وهي صورة الكتاب، فإنه يقرع بينهما لتبيين ما حصل فيه الإبهام، فإن وقعت على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه، لأن بخروج القرعة عليه كأنه قد حصل اتفاق الابنين على عتقه، وإذا يعتق ثلثاه، إلا أن يجيزا عتقه كاملا فيعتق جميعه، لأن ذلك محض حقهما، ويبقى العبد الآخر على الرق، لأنه قد تبين أنه لم يقع في عتق، وإن وقعت على الآخر كان كما لو عين كل منهما عبدا كما تقدم، يعتق من الذي خرجت عليه القرعة ثلثه، لأنه حق الذي قال: لا أدري. وله - وهو الذي أقرعنا بسبب قوله - سدسه، ونصف العبد الآخر، ولأخيه نصف الذي خرجت عليه القرعة، لأنه ينكر العتق فيه رأسا وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه، لأن ثلثه عتق بإقراره كما تقدم، وإذا آل

(7/444)


الأمر إلى أن صار ثلث كل واحد منهما حرا (الحال الرابع) أن يقولا: أعتق أحدهما ولا ندري من منهما. فإنه يقرع بين العبدين، فمن وقعت عليه القرعة عتق منه ثلثاه، إن لم يجيزا عتقه كله، وبقي الآخر على الرق، والفطن لا يخفى عليه جميع الأحوال من مسألة الكتاب، والله أعلم.

قال: وإذا كان لرجل نصف عبد، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتقه صاحب النصف وصاحب السدس معا، وكانا موسرين، عتق عليهما، وضمنا حق شريكهما فيه نصفين، وكان ولاؤه بينهما أثلاثا، لصاحب النصف ثلثاه، ولصاحب السدس ثلثه.
ش: ملخصه أن العتق إذا سرى على اثنين من الشركاء فأكثر بعتقهما معا هل يكون على عدد رؤوسهم - وهو المذهب المجزوم به بلا ريب - لأن العتق بمنزلة الإتلاف، وقد وجد منهما فيتساويان في ضمانه، كما لو جرحه أحدهما جرحا، والآخر أكثر منه، أو على قدر الملكين - وهو احتمال لأبي الخطاب - لأن ذلك حصل بسبب الملك، فقدر بقدره كالنفقة؟ على قولين، (فعلى المذهب) إذا أعتق صاحب النصف وصاحب السدس والحال ما تقدم، عتق عليهما نصيب

(7/445)


صاحب الثلث نصفين، فيحصل لصاحب النصف الثلثان، النصف بالمباشرة، والسدس بالسراية، ولصاحب السدس الثلث، نصفه مباشرة، ونصفه سراية، (وعلى الاحتمال) الآخر يكون الثلث بينهما أرباعا، لصاحب النصف نصفه، ونصف نصفه، وذلك سدس ونصف سدس، وذلك ربع، فيستقر عليه عتق ثلاثة أرباع العبد، ولصاحب السدس ربع الثلث، وهو نصف السدس، فيستقر عليه عتق ربعه، ولو كان المعتق صاحب النصف وصاحب الثلث، لكان (على المذهب) المعتق الربع، لصاحب النصف الثلث والربع، ولصاحب الثلث الربع والسدس، (وعلى الاحتمال) السدس بينهما أخماسا، لصاحب النصف ثلاثة أخماسه، ولصاحب الثلث خمساه، فالعبد على ثلاثين سهما، لصاحب النصف ثمانية عشر، وذلك نصفه ونصف خمسه، ولصاحب الثلث اثنا عشر، وذلك خمساه، ولو كان المعتق صاحب السدس والثلث لكان (على المذهب) لصاحب السدس ربع وسدس، ولصاحب الثلث ثلث وربع، (وعلى الاحتمال) النصف مقسوم بينهما على ثلاثة، فيستقر لصاحب السدس الثلث ولصاحب الثلث الثلثان والضمان والولاء تابعان للسراية.
وقول الخرقي: معا. قد تقدم ثم تصوير ذلك بأن يتفق تلفظهما بالعتق في آن واحد، أو يعلقاه على صفة واحدة، أو يوكلا شخصا يعتق عنهما، فلو سبق أحدهما بالعتق لعتق

(7/446)


عليه كله بشرطه كما تقدم، وقوله: وهما موسران، لأنهما لو كانا معسرين لم يسر كما تقدم، وإن كان أحدهما موسرا فقط اختص بالسراية.

[وطء الجارية المشتركة]
قال: وإذا كانت الأمة نفسين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم يبلغ به الحد.
ش: قد تضمن هذا الكلام تحريم وطء الجارية المشتركة وهذا والله أعلم اتفاق، وقد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] إلى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] والوطء والحال هذه قد صادف ملك الغير بلا نكاح، فإذا وطئ الشريك أثم بلا ريب، (ولا حد عليه) كما تضمنه أيضا كلام الخرقي، وهو قول العامة، لأنه وطء صادف ملكا له، أشبه ما لو وطئ زوجته الحائض، وكما لو سرق عينا له بعضها، ويعزر اتفاقا، لإتيانه، المعصية، ولا يبلغ به الحد، لأنه لو بلغ به الحد لصار حدا.
وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يزاد على عشر جلدات وقد تقدم ذلك مستوفى في التعزيرات على ما يسره الله سبحانه، فلينظر ثم، ولا فرق في هذا كله بين أن يحبلها أو لا يحبلها، وإنما ذكر الإحبال قيدا فيما يأتي بعده والله أعلم.

قال: وضمن نصف قيمته لشريكه، وصارت أم ولد له.

(7/447)


ش: يعني الشريك المحبل تصير الأمة المشتركة أم ولد له، لأنه وطء صادف ملكا له، فأشبه ما لو كانت خالصة له، ولأن العتق يسري إلى ملك الغير، فلأن يسري الاستيلاد أولى لقوته، بدليل صحته من المجنون، ونفوذه في مرض الموت، بخلاف العتق، فإنه إنما ينفذ في المرض من الثلث، ولا يصح من مجنون، وإذا صارت أم ولد له ضمن نصف قيمتها لشريكه، لأنه أتلف ذلك عليه معنى، أشبه ما لو أتلفه عليه حسا.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه والحال هذه شيء من المهر، ولا من قيمة الولد، وهذا إحدى الروايات، وظاهر كلام أبي الخطاب، وأبي محمد في المقنع، وعلله القاضي في تعليقه في كتاب الغصب بأن زوال ملك الشريك حصل بفعل الله، وهو انعقاد الولد، وهذا يقتضي أن لا يجب نصف قيمة الأمة، وليس بشيء، وقد يعلل بأن المهر إنما يستقر بالنزع، وعند النزع كانت مملوكة، لأنها انتقلت إليه بالعلوق، والولد لا قيمة له إذا (والرواية الثانية) لا يلزمه للولد شيء لما تقدم، ويلزمه نصف مهرها، لمصادفة الوطء لملك الغير، والانتقال حصل بعد ذلك، وقد يؤخذ من هاتين خلاف المهر هل (يستقر) بالإيلاج أو (لا يستقر) إلا بالنزع (والرواية

(7/448)


الثالثة) يلزمه نصف مهرها لما تقدم، ونصف قيمة الولد، لأنه بفعله منع انخلاقه على ملك الشريك، أشبه ولد المغرور، وقال القاضي إن وضعته بعد التقويم فلا شيء فيه، لأنها وضعته في ملكه، وإن وضعته قبل ذلك فالروايتان، واختار اللزوم، واعلم أن الإحبال ليس بكاف في ما تقدم، بل لا بد من وضع ما تصير به أم ولد كما سيأتي، وقد أشعر بذلك قوله صارت أم ولد له وولده حر، والله أعلم.
قال: وولده حر.
ش: لأنه وطء في محل له فيه ملك، أشبه ما لو وطئ زوجته في الحيض، أو في الإحرام ونحو ذلك، والله أعلم.

قال: فإن كان معسرا كان في ذمته نصف قيمتها.
ش: لا فرق في سراية الاستيلاد بين الموسر والمعسر على منصوص أحمد، واختيار الخرقي والشيخين وغيرهما، لما تقدم قبل، وعلى هذا يبقى في ذمته نصف قيمة الجارية، لأن الله سبحانه أوجب إنظار المعسر بقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقال القاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في الهداية: لا يسري الاستيلاد مع الإعسار كالمباشرة،

(7/449)


وحذارا من إضرار الشريك بتأخير حقه، وعلى هذا هل يكون الولد كله حرا، تغليبا للحرية - وهو ظاهر كلام الأكثرين - أو نصفه حرا ونصفه رقيقا كأمه؟ فيه احتمالان، ذكرهما في المغني.

قال: وإن لم تحبل منه فعليه نصف مهر مثلها، وهي على ملكهما.
ش: أما وجوب نصف مهر المثل والحال هذه فلأن منفعة البضع مشتركة بينه وبين شريكه، وقد استوفاها، فوجب عليه ما يقابل نصيب شريكه، كما لو فعل ذلك أجنبي، وأما كونها والحال هذه على ملكهما لأن المقتضي والحال هذه لتزلزل ملكهما الاستيلاد، ولم يوجد، والله أعلم.

[حكم ملك من يعتق عليه]
قال: وإذا ملك سهما من بعض من يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله، وكان لشريكه عليه قيمة حقه منه، وإن كان معسرا لم يعتق عليه منه إلا مقدار ما ملك، وإذا ملك بعضه بالميراث لم يعتق عليه إلا مقدار ما ملك منه، موسرا كان أو معسرا.

(7/450)


ش: إذا ملك سهما ممن يعتق عليه - وهو ذو الرحم المحرم - فلا يخلو إما أن يكون بغير اختياره كالميراث، أو باختياره كالبيع والهبة والاغتنام ونحو ذلك، وفي كليهما يعتق السهم الذي ملكه، لأن كل سبب إذا وجد في الكل عتق به، إذا وجد في البعض عتق به، كالإعتاق بالقول، ثم ينظر فإن كان معسرا استقر العتق في ذلك السهم، ولم يسر على المذهب، كما تقدم في المباشرة، وإن كان موسرا والتملك باختياره سرى عليه في نصيب شريكه، لأنه تسبب في العتق اختيارا منه، فسرى عليه كما لو وكل في عتق بعض عبد يملكه، وإن كان التملك بغير اختياره لم يسر عليه، على المشهور عند الأصحاب، والمجزوم به للقاضي في الجامع، وأبي محمد في الكافي وغيرهما، لأنه لم يتسبب في الإعتاق، إنما حصل بغير اختياره، ومنصوص أحمد في رواية المروذي أنه يسري عليه والحال هذه، لأنه عبد عتق عليه بعضه وهو موسر، فسرى إلى باقيه، كما لو أوصي له به فقبله، ولم يذكر القاضي في الروايتين بالأول نصا، وحيث سرى ضمن لشريكه قيمة حقه منه، لإتلاف ذلك عليه.
وقول الخرقي: من بعض. إشعار لكون السهم قليلا، ونبه بذلك على الكثير، وهو كذلك.
(تنبيه) : حكم إرث الصبي والمجنون حكم إرث غيرهما أما لو وهب لهما أو وصى لهما بسهم ممن يعتق عليهما، فهل يسري

(7/451)


عليهما مع يسارهما إن قبله الولي، لكونه قائما مقامهما، أو لا يسري لدخوله في ملكهما بغير اختيارهما؟ فيه وجهان، وعليهما يتفرع جواز قبول الولي وعدمه، وحيث جاز له القبول فشرطه أن يكونا ممن لا تلزمه النفقة، وحيث منع من القبول فقبل فهل يصح ويلزمه الغرامة، أو لا يصح رأسا؟ فيه احتمالان.

[الإعتاق في مرض الموت]
قال: وإذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته، أو دبرهم، أو دبر أحدهم. وأوصى بعتق الآخرين، ولم يخرج من ثلثه إلا واحد منهم، لتساوي قيمتهم، أقرع بينهم بسهم حرية، وسهمي رق، فمن وقع له سهم حرية عتق دون صاحبيه.
ش: أما كونه يقرع بينهم والحال هذه:
3892 - فلما «روى عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا» ، رواه الجماعة إلا البخاري.

(7/452)


3893 - «وعن أبي زيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتق اثنين وأرق أربعة» ، رواه أحمد وأبو داود بمعناه، وقال فيه: «لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين» ولأنه حق في تفريقه ضرر، فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار مع الطلب إجماعا، وبذلك يبطل قول الخصم: إنه مخالف للقياس، ثم لو سلم ذلك فالحجة في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(7/453)


مطلقا، ويدل على دخول القرعة في المشتبهات في الجملة قوله سبحانه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] وقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ولا يعترض على هذا بأنه منسوخ، لعدم جوازه في شريعتنا، لأنا نقول: دل ذلك على شيئين، مشروعية القرعة مطلقا في الكفالة، وإلقاء واحد من الجماعة في اليم، وامتناع القرعة في دين لا يدل على عدم مشروعية القرعة مطلقا، كيف وقد حصل تواتر معنوي على مشروعيتها، قال أحمد: في القرعة خمس سنن:
3894 - «أقرع بين نسائه، وأقرع بين ستة مملوكين» .
3895 - وقال لرجلين: «استهما.
3896 - وقال: «مثل القائم بحدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة» .
3897 - وقال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا

(7/454)


عليه» . انتهى.
3898 - ولما تشاح الناس في الأذان يوم القادسية أقرع بينهم سعد، وهذا إجماع من الصحابة على مشروعية القرعة، وصفة القرعة أن يقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق، فمن خرج له سهم الحرية عتق دون الآخرين، فيكتب ثلاث رقاع، في واحدة حرية، وفي اثنتين رق، وتترك في ثلاث بنادق شمع أو طين، وتغطى بثوب، ويقال لمن لم يحضر: أخرج بندقة لهذا، فإن خرج له رقعة حرية عتق، ورق الآخران، وإن خرجت رقعة رق رق، وأخرجت أخرى على آخر، فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الثالث، وإن خرجت رقعة رق رق، وتعين عتق الثالث، لانحصار العتق في الثلاثة، ولا تتعين هذه الصفة، بل كيف ما أقرع جاز، وهذا في الصورة التي ذكرها الخرقي، وهي إذا استوت قيمتهم، أما إن اختلفت فلذلك صور ليس هذا موضع

(7/455)


بيانها. واعلم أنه يستفاد من كلام الخرقي مسائل غير ما استفيد منه بالنص وهو ما تقدم (إحداها) أن قوله: إذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته. يشمل ما إذا أعتقهم دفعة واحدة أو دفعات، بل لو حمل على أن مراده أعتقهم في دفعات لكان أولى، لأنه قال بعد: ولو قال لهم في مرض موته: أحدكم حر، أو كلكم حر. ومات فكذلك؛ فصرح بما إذا أعتقهم، فلو لم يحمل هذا على أنه أعتقهم في دفعات أو على العموم لكان تكرارا وهو خلاف الظاهر، لا سيما في هذا المحل، فإنه يبعد جدا، لعدم الفصل بين المسألتين، ويعلم من هذا أن مذهب الخرقي أنه يسوي في العطايا بين متقدمها ومتأخرها، وهذا إحدى الروايات، لما تقدم من حديثي جابر وأبي زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل هل أعتقهم بكلمة أو بكلمات (والرواية الثانية) أن يقدم الأول فالأول، إلى أن يستوفي الثلث، وهي المذهب عند الأصحاب، حتى إن أبا محمد جزم بها، وحمل كلام الخرقي على العتق دفعة واحدة، ويلزم منه المحذور السابق (والرواية الثالثة) إن كان فيها عتق قدم، وإلا سوي بين متقدمها ومتأخرها. انتهى. (الثانية) أن قوله: في مرض

(7/456)


موته. يخرج ما إذا أعتقهم في صحته، فإن عتقهم ينفذ وإن كان عليه دين يستغرق قيمتهم، على المذهب المعروف، ما لم يكن محجورا عليه بفلس أو سفه، فإن في نفوذ عتقه خلافا مشهورا (الثالثة) دل كلامه على أن العتق في مرض الموت من الثلث، ولا خلاف في ذلك فيما نعلمه، وقد شهد له حديث جابر وأبي زيد، وأن الوصية أيضا بالعتق من الثلث، وهذا واضح أيضا، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم» الحديث. وكذلك التدبير أيضا، وهو المذهب بلا ريب، لأن التدبير عتق معلق بالموت فهو كالوصية، (وعن أحمد) رواية أخرى أن التدبير في الصحة معتبر من رأس المال، نظرا لحالته الراهنة. (الرابعة) إطلاقه هنا يقتضي أن الوصايا إذا وقعت دفعات سوي بين متقدمها ومتأخرها، وهذا هو المذهب هنا بلا ريب، عكس المذهب في العطايا، وفيه رواية أخرى إن كان فيها عتق قدم، وإلا سوي كرواية ثم، ولا نعلم هنا رواية بتقديم الأسبق فالأسبق.

(7/457)


(الخامسة) صريح كلامه التسوية بين التدبير والوصية بالعتق، وذلك لأنهما اجتمعا في كونهما عتقا بعد الموت، ولأبي محمد احتمال بتقديم التدبير، لأن الحرية تقع فيه بالموت، والوصية تقف فيه على الإعتاق بعده. انتهى. ويقوى هذا الاحتمال أو يتعين إن قيل: إن كان التدبير في الصحة وقلنا: إنه من رأس المال.
(السادسة) قوله: ولم يخرج من الثلث إلا أحدهم لتساوي قيمتهم. يخرج به ما إذا خرج الجميع من الثلث فإنا نعتقهم، ولو لم يخرج منهم شيء لدين على الميت ونحو ذلك فإنا لا نعتق منهم شيئا.

قال: ولو قال لهم في مرض موته: أحدكم حر. أو كلكم حر. ومات فكذلك.
ش: يعني حكم ذلك حكم ما تقدم، وقد تقدم التنبيه على صورة: كلكم حر. أما أحدكم حر إذا لم ينو معينا فإنه يقرع بينهم، إذ لم يكن عليه دين يستغرقهم، فمن خرجت عليه القرعة عتق إن خرج من الثلث، وإلا عتق منه قدر الثلث، وإن نوى معينا تعين العتق فيه، وليس للمعتق التعيين إذا لم ينوه على المذهب، والله أعلم.

(7/458)


قال: وإذا ملك نصف عبد فدبره، أو أعتقه في مرض موته، فعتق بموته، وكان ثلث ماله يفي بقيمة النصف الذي لشريكه أعطي وكان كله حرا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى لا يعتق إلا حصته وإن حمل ثلث ماله حصة شريكه.
ش: الرواية الأولى اختيار أبي الخطاب في خلافه، إلا أنه إنما صرح بذلك في العتق، وذلك لأن تصرف المريض في ثلث ماله كتصرف الصحيح في الجميع، ولو أعتق الصحيح الموسر سرى في كل ماله، فكذلك يسري في ثلثه (والثانية) اختيار الشيرازي، والشريف، وحكاه عن شيخه، لأن حق الورثة تعلق بماله إلا ما استثنيناه من الثلث بتصرفه فيه، وفي المذهب (رواية ثالثة) يسري في العتق لما تقدم، إذ العتق يقع في حال الحياة، ولا يسري في التدبير، لأن ملكه يزول بموته، فلم يبق له شيء يوفي منه، وهذه اختيار القاضي في الروايتين، إلا أنه لم يصرح برواية إنما قال: يجب أن يكون الصحيح من الروايتين أنه إذا أعتق في مرضه قوم، وإذا أوصى لم يقوم، واعلم أن حكم الوصية يعتق بذلك حكم تدبيره، صرح به القاضي في روايتيه، وأبو الخطاب وغيرهما.
وقول الخرقي: فعتق بموته. أي بسبب موته، إشعار منه بأن العتق في المرض والتدبير والوصية جميع ذلك معتبر بالموت، إن

(7/459)


كان له مال يخرج له من ثلثه نفذ، وإلا نفذ منه قدر الثلث، وإن لم يكن له مال، أو كان له لكن عليه دين يستغرقه، لم ينفذ منه شيء، وقوله: وكان ثلث ماله يفي بقيمة نصف الشريك، يحترز عما إذا لم يف بقيمة نصيب الشريك، وتحته صورتان (إحداهما) لا يفي بشيء منه، فهذا لا يعتق إلا نصيبه، قال أبو محمد: بلا خلاف نعلمه، إلا قول من يقول بالسعاية (الثانية) وفى ببعضه، فينبغي أن يتخرج على العتق والحال هذه في حال الصحة، إن قلنا: يسري في ذلك القدر على المنصوص. خرج هنا الخلاف السابق، وإن قلنا: لا يسري ثم فهاهنا أولى.
ومقتضى كلام الخرقي أنه بمجرد التدبير لا يسري عليه، وهذا هو المذهب المشهور المجزوم به للقاضي وغيره، إذ التدبير إما تعليق للعتق بصفة أو وصية، وكلاهما لا يسري، وحكى أبو الخطاب والشيخان وجها، وابن حمدان في رعايتيه رواية بالسراية، فيصير كله مدبرا، ويغرم لشريكه قيمة حقه منه، لأنه سبب يوجب العتق بالموت، فسرى كالاستيلاد، وهذا التعليل يوجب السراية ولو مع الإعسار، كالاستيلاد على

(7/460)


المنصوص، وهو مقتضى إطلاق أبي الخطاب وأبي محمد في المقنع، وابن حمدان، وهو مشكل على أبي الخطاب، لأن الأصل عنده إنما يسري مع اليسار، فكذلك الفرع، وقيد ذلك أبو محمد في المغني وأبو البركات باليسار، والله أعلم.

قال: وكذلك إذا دبر بعضه وهو مالك لكله.
ش: يعني فيه الروايتان، هل يسري في بقيته إن وفى ثلثه به، لما تقدم من أنه غير محجور عليه في الثلث، أو لا يسري، لما تقدم من أن ملكه يزول بالموت؟ ولم يتعرض الخرقي لما إذا أعتق بعضه في مرض موته وهو مالك لكله، وفيه أيضا الخلاف السابق.

قال: ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم فأعتقناهم، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم بعناهم في دينه.
ش: وهذا راجع لما تقدم من قوله: وإذا كان له ثلاثة أعبد، فأعتقهم في مرض موته. وهذا الذي قاله الخرقي هو المذهب بلا ريب، قطع به غير واحد من الأصحاب، لأنه تبرع في المرض بما يعتبر من الثلث، فقدم الدين عليه كالهبة، ولأن العتق والحال هذه بمنزلة الوصية، والدين مقدم على الوصية.
3899 - «وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الدين قبل الوصية» . ذكره البخاري تعليقا، وهو بعض حديث رواه أحمد

(7/461)


والترمذي وابن ماجه وحكى أبو الخطاب في كتابيه رواية يعتق ثلثهم والحال هذه، فعلى الأولى إن اختار الورثة إمضاء العتق وقضاء الدين فهل لهم ذلك؟ فيه وجهان في المغني، واحتمالان في الكافي.
وقيل: مبناهما إذا تصرف الورثة في التركة، وعلى الميت دين، وقضي الدين هل ينفذ؟ فيه وجهان، والخرقي صور المسألة فيما إذا ظهر عليه دين، فلو كان الدين ظاهرا فكلام أبي الخطاب يقتضي جريان الخلاف فيه أيضا.

قال: ولو أعتقهم وهم ثلاثة فأعتقنا منهم واحدا لعجز ثلثه عن أكثر منه، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم.
ش: يعني أن الاعتبار بما في نفس الأمر، لا بما يظهر لنا، كما في المسألة التي قبلها، إذ خفاء صحة التصرف علينا لا يمنع صحته إذا وجد شرطه، وقد وجد، إذ الإنسان له أن

(7/462)


يتصرف في ثلث ماله عند موته بما شاء، وقوله: عتق من أرق منهم، أي تبينا عتقه حين خروجه من الثلث، وحكم التدبير والوصية كذلك.

[حكم إضافة العتق لوقت]
قال: ومن قال لعبده: أنت حر في وقت سماه، لم يعتق حتى يأتي ذلك الوقت.
ش: يصح تعليق العتق على شرط، كقدوم زيد، وأول رجب، ونحو ذلك.
3900 - لأنه يروى عن أبي ذر أنه قال لعبده: أنت عتيق إلى رأس الحول. ولا يعرف له مخالف، ولأنه عتق بصفة فصح كالتدبير، أو إزالة فصح على ذلك كالطلاق، إذا تقرر هذا فلا يعتق حتى يجيء الشرط، لأن المعلق على شرط عدم عند عدمه، ويعتق عند وجوده، لوجود السبب، مع انتفاء المانع، نعم شرط عتقه أن يوجد الشرط وهو في ملكه، فلو كان قد خرج من ملكه لم يعتق، إذ «لا عتق لابن آدم فيما لا يملك» كما شهد به النص.

قال: وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من غشيانها والتلذذ

(7/463)


بها، وكان نفقتها عليه، فإذا مات عتقت.
ش: هذه المسألة قد ذكرها هنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكرها أيضا في أحكام أمهات الأولاد، فلنؤخر ذكرها إلى ثم، فإنه أليق بها، والله أعلم.

قال: وإذا قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت اثنين أقرع بينهما، فمن أصابته القرعة عتق إذا أشكل أولهما خروجا.
ش: وذلك لأن أحدهما استحق العتق في نفس الأمر، ولم يعلم عينه، فوجب إخراجه بالقرعة، كما لو قال لعبديه: أحدكما حر. ولو علم أولهما خروجا حكم بعتقه وحده من غير قرعة، لوجود الشرط، إذ هو أول ولد ولدته، وهذا بشرط أن تلدهما حيين، أما إن ولدت الأول ميتا، والثاني حيا ففيه روايتان (إحداهما) - وهي اختيار أبي محمد، قطع به في المقنع، وصححه في المغني مع أنه لم يذكر ذلك رواية، إنما ذكره عن الشافعي وغيره - لا يعتق منهما شيء، إذ شرط العتق وجد في الميت، إذ هو أول ولد ولدته، وليس بمحل للعتق، فانحلت اليمين به (والرواية الثانية) - وبها جزم القاضي في الجامع

(7/464)


الصغير، وكثير من أصحابه، الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة - يعتق الحي منهما لأن القصد من اليمين التعليق على ولد يصح العتق فيه، وذلك بأن يكون حيا، فالحياة مشروطة فيه، فكأنه قال أول ولد تلدينه حيا فهو حر. والله أعلم.

قال: وإذا قال العبد لرجل: اشترني من سيدي بهذا المال، وأعتقني. ففعل فقد صار العبد حرا، وعلى المشتري أن يؤدي إلى البائع مثل الذي اشتراه به، وولاؤه للذي اشتراه، إلا أن يكون قال له. بعني بهذا المال، فيكون الشراء والعتق باطلا، ويكون السيد قد أخذ ماله أخذه.
ش: ملخصه أن شراء الأجنبي للعبد والحال هذه لا يخلو إما أن يكون في الذمة أو بعين المال الذي دفعه له العبد، فإن كان في الذمة فالشراء صحيح، لأن تصرف وجد من أهله في محله، من غير مانع، فصح كما لو اشترى غيره، فإذا أعتقه إذا نفذ عتقه، لأن عتق من مالك، ثم على المشتري أن يؤدي إلى البائع ما اشتراه به، للزوم ذلك له بالبيع، فإن كان قد نقد له المال الذي دفعه العبد وجب رده، لأنه ملك لسيده، والولاء للمشتري، لأنه المعتق، وإن كان الشراء قد وقع بعين المال

(7/465)


الذي دفعه العبد فالشراء باطل على المذهب، بناء على أن العقد والحال هذه لا يقف على الإجازة، وأن النقود تتعين بالتعيين، ولبيان هذين الأصلين موضع آخر، أما إن قيل يوقف نحو هذا على الإجازة، فقد يقال: إن إجازة السيد إذا تضمنت تمليك العبد هذا المال وإذنه في شراء نفسه منه به، وفي صحة هذا شيء، فإن قيل بصحته فالولاء للسيد لأنه المعتق، ولو قيل إن النقود لا تتعين بالتعيين فهو كما لو اشترى في ذمته على ما تقدم، وهذا البناء الثاني [بناه أبو محمد وابن حمدان، ولم يتعرض للأول، والله سبحانه أعلم] .

(7/466)


كتاب التدبير
ش: التدبير مصدر دبر تدبيرا إذا علق العتق بالموت، سمي بذلك لأنه يعتق بعدما يدبر سيده، والممات دبر الحياة، قال ابن عقيل: هو مشتق من إدباره من الدنيا، انتهى.
وهو لفظ خص به العتق، فلا يستعمل في كل شيء بعد الموت من وصية ونحوها.
3901 - والأصل في جوازه ما «روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا أعتق غلاما له من دبر، فاحتاج، فأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من يشتريه مني؟» ، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه» ، متفق عليه مع أن ذلك والحمد لله إجماع في الجملة حكاه ابن المنذر، والله أعلم.

[حكم التدبير]
قال: وإذا قال السيد لعبده أو لأمته: أنت مدبر، أو قد

(7/467)


دبرتك، أو أنت حر بعد موتي. فقد صار مدبرا.
ش: أما صيرورته مدبرا بلفظ التدبير نحو: أنت مدبر أو دبرتك، فلأنه أتى بلفظه الموضوع له فصح به، كلفظ العتق فيه، وأما صيرورته مدبرا إذا أتى بصريح العتق معلقا له بالموت - نحو أنت حر أو محرر، أو حررتك بعد موتي، أو معتق أو عتيق بعد موتي - فلأنه أتى بحقيقة التدبير، إذ حقيقته تعليق العتق بالموت، وإذا أتي بحقيقة الشيء حصل ذلك الشيء.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يفتقر في ذلك إلى نية، وهو كذلك، والخرقي لم يتعرض إلا للتدبير المطلق، ويصح أيضا مؤقتا نحو: أنت مدبر اليوم. نص عليه أحمد، ومعلقا على شرط نحو إذا قدم زيد. أو إذا جاء رأس الشهر فأنت مدبر. ونحو ذلك. والله أعلم.
وقال وله بيعه في الدين.
ش: أي العبد المدبر، بدليل ما يأتي بعد، وهذا هو المعروف في المذهب، حتى إن عامة الأصحاب لا يحكون فيه خلافا، لما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأطلق أحمد المنع في رواية حرب، وسأله في رجل دبر عبده ثم كاتبه يجوز، لأنه يملكه بعد، وأما بيعه من غيره [فلم يجوزه، وفرق بين بيعه من غيره وكتابته، لأنه إذا كاتبه فهو بعد في ملكه، وإذا باعه

(7/468)


من غيره] فقد خرج عن ملكه، قلت: ولو كاتب عبده ثم دبره؟ قال: هو جائز.
3902 - وروى أحمد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كره بيعه، وهذا الأثر - والله أعلم - مستند أحمد في المنع، (ومفهوم كلام الخرقي) أنه لا يجوز بيعه في غير الدين، وهو إحدى الروايتين.
3903 - لأن في لفظ في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه النسائي قال: «أعتق رجل من الأنصار غلاما له عن دبر، وكان محتاجا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثمانمائة درهم فأعطاه، فقال: «اقض دينك، وأنفق على عيالك» » فالنص ورد في ذلك،

(7/469)


والأصل عدم غيره، قياسا على أم الولد، بجامع أن كلا منهما عتقه معلق بالموت.
(والرواية الثانية) يجوز بيعه مطلقا، وهي المذهب عند الأصحاب، اختارها القاضي، والشريف وأبو الخطاب، والشيرازي وأبو محمد وغيرهم، لأن التدبير إما وصية أو تعليق للعتق على صفة، وأيما كان لا يمنع البيع، وقد أشار إلى هذا التعليل وبيع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمدبر في صورة الحاجة لا يمنع من بيعه مطلقا، لا سيما من قاعدتنا أن الأصل في العقود والشروط الصحة، ما لم يدل دليل على المنع، كما هو مقرر في موضعه.
(تنبيه) ظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بالدين فقط، وعدم ما سواه، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، وأبي البركات على هذه الرواية وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية حنبل وعبد الله: أرى بيع المدبر في الدين إذا كان فقيرا لا يملك شيئا غيره، وظاهر كلام القاضي في جامعه وروايتيه وأبي محمد في الكافي إناطة ذلك على هذا القول بالحاجة، ولا يخفى أنه أعم من الأول، والله أعلم.

(7/470)


قال: ولا تباع المدبرة في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى الأمة كالعبد.
ش: توجيه الفرق بين المدبرة والمدبر على الأولى أن في جواز بيعها إباحة لفرجها، وهو مختلف فيه، والفروج يحتاط لها، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال: لا أجترئ على بيع المدبرة، لأنه فرج يوطأ. (وتوجيه التسوية) وأن حكم الأمة حكم العبد، تباع في الدين على رأيه ومطلقا على رأي غيره.
3904 - أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - باعت مدبرة لها سحرتها، وما

(7/471)


تقدم لا يصلح دليلا للمنع، نعم يصلح دليلا للكراهة، ولهذا حمل أبو محمد الرواية الأولى على الورع، انتهى، وحكم نقل الملك فيها بهبة أو وقف حكم بيعها، والله أعلم.

قال: فإن اشتراه بعد ذلك رجع في التدبير.
ش: إذا اشترى السيد عبده المدبر بعد أن باعه رجع العبد في التدبير، لأن عتقه معلق بصفة، فإذا خرج عن ملكه ثم عاد إليه عادت الصفة، كما لو قال: أنت حر إن دخلت الدار. ثم باعه ثم اشتراه كذا بناه القاضي، قال فإن قلنا: إن التدبير وصية بطل بالبيع، ولم يعد بالشراء، كما إذا أوصى بشيء ثم باعه، والصحيح عند أبي محمد رجوعه في التدبير مطلقا، جعل التدبير راجعا للمعنيين، التعليق بصفة والوصية، فيثبت حكمهما فيه، وإذا إذا كانت الوصية تقتضي عدم العود فالتعليق يقتضي العود، فيعمل بمقتضاه إذا وجد، والله أعلم.

قال: ولو دبره وقال: قد رجعت في تدبيري. أو قال: قد أبطلته لم يبطل. لأنه علق العتق بصفة في إحدى الروايتين،

(7/472)


والرواية الأخرى: يبطل التدبير.
ش: الرواية الأولى هي المذهب عند الأصحاب، اختارها القاضي قال في روايتيه: إنها أجودهما، وصححها ابن عقيل في التذكرة، وأبو محمد وغيرهما لما علل به الخرقي، من أن التدبير عتق معلق بصفة وهو الموت، فلم يبطل بالرجوع فيه، كما لو كان معلقا على صفة في الحياة (والثانية) أومأ إليها أحمد في رواية ابن منصور، لأن نفوذه يعتبر من الثلث، ويتوقف على الموت، فأشبه الوصية، وأبو محمد يقول: لا يمتنع اجتماع الأمرين فيه كما تقدم، فيثبت حكم التعليق، ويحصل عتقه بالموت بالشيئين، وقد توقف أحمد في رواية حرب.
(تنبيه) على الرواية الثانية إذا رجع وهي حامل هل يكون رجوعا في حملها؟ فيه وجهان، والله أعلم.

قال: وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فولدها بمنزلتها.
3905 - ش: لأنه يروى عن عمر وابنه وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: ولدها بمنزلتها. ولم يعرف لهم مخالف من

(7/473)


الصحابة، فكان ذلك حجة أو إجماعا، ولأن الأم تعتق بموت سيدها، فتبعها ولدها كأم الولد، ونقل حنبل عن أحمد فيما نقله القاضي في روايتيه، أنه قال: ولد المدبرة إذا لم يشترط يكون للمولى عبدا، وظاهر هذا أنه لا يصير مدبرا معها، وهذا قد يخرج على أن التدبير وصية، ولا شك أن ولد الموصى بها لا يتبعها، ولم يعرج أبو البركات إلى هذه الرواية، وإنما ذكر تخريجا تبعا لأبي الخطاب بعدم التبعية من المعلق عتقها بصفة، فإن تبعية ولدها الحادث بعد الوصية والتدبير لها على قولين.
وقول الخرقي: بعد تدبيرها. يخرج ما ولدته قبل ذلك فإنه لا يكون مدبرا بكونه مدبرا معها، وكأنه أخذها وهذا المذهب بلا ريب، لأنه لا يتبع في العتق المنجز، ولا في الاستيلاد،

(7/474)


ففي التدبير أولى، وحكى أبو الخطاب رواية من رواية حنبل قال: سمعت عمي يقول في الرجل يدبر الجارية ولها ولد قال: ولدها يكون مدبرا معها. وأبو محمد حمل هذا على الولد بعد التدبير، توفيقا بين جميع كلامه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما حكم على ولد المدبرة، أما ولد المدبر فلا يتبع أباه مطلقا على المذهب، لأن الولد إنما يتبع أمه في الحرية والرق لا أباه، (وعن أحمد رواية أخرى) وظاهر كلامه في المغني الجزم بها في ولده من أمته المأذون له في التسري بها يكون مدبرا، لأنه ولده من أمته، فتبعه كالحر، وحيث قيل: إن الولد بمنزلة والده فإنه يصير مدبرا، حكمه حكم ما لو دبر عبدا آخر، بحيث لو لم يخرج من الثلث إلا أحدهما أقرع بينهما، والله أعلم.

قال: وله إصابة مدبرته.
ش: لأنها مملوكته، فتدخل في عموم قوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] .
3906 - وقد قال الإمام أحمد: لا أعلم أحدا كره ذلك غير الزهري، والله أعلم.

(7/475)


قال: ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه به إلا بشاهدين عدلين، أو شاهد ويمين العبد.
ش: أما كون السيد إذا أنكر التدبير لا يحكم عليه إلا بشاهدين فيهما شروط الشهادة فلعموم {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وأما كونه يحكم عليه بشاهد ويمين فلما تقدم للخرقي من أن العتق فيه ذلك، وقد تقدمت المسألة فلا حاجة إلى إعادتها، وقد تضمن كلام الخرقي والأصحاب صحة دعوى العبد التدبير، ولأبي محمد احتمال بعدم صحة دعوى ذلك، بناء على أن التدبير وصية، وأن إنكار الوصية رجوع عنها في وجه، وأن الرجوع في التدبير يبطله، والصحيح عنده صحة الدعوى وفاقا للجماعة، وهو الصواب، لأنه بعد تسليم أن الرجوع في التدبير يبطله، وأن الإنكار رجوع، قد يجيب بالإقرار، فلم يتعين الإنكار جوابا، وهذا كله إذا كانت الدعوى بين السيد والعبد، أما بينه وبين ورثته فالدعوى صحيحة بلا نزاع لعدم ملكهم الرجوع، والله أعلم.

(7/476)


قال: وإذا دبر عبده ومات وله مال غائب، أو دين في ذمة موسر أو معسر، عتق من المدبر ثلثه، وكلما اقتضي من دينه شيء، أو حضر من ماله الغائب شيء، عتق من العبد بقدر ثلث ذلك، حتى يعتق كله من الثلث.
ش: إذا دبر عبده ومات ولا مال له سواه عتق ثلثه فقط كما تقدم وإن كان له مال حاصل بحيث يتمكن الورثة منه عتق جميعه إن خرج من الثلث، وإلا عتق منه بقدر الثلث، وإن كان له مال لكن الورثة غير متمكنين منه لكونه غائبا أو دينا، لم يعتق جميعه في الحال، لجواز أن لا يحصل للورثة من المال شيء، فيكون العبد كل التركة، وإذا كان هو كل التركة لم يجز أن يحصل على جميعها، ولكنه يتنجز عتق ثلثه، إذ أسوأ الأحوال أن لا يحصل من المال شيء، فيكون له ثلث التركة، وللورثة ثلثاها، ثم كلما اقتضي من الدين شيء، أو حضر من المال الغائب شيء، عتق منه بقدر ثلثه، فإذا كانت قيمته مائة، وحصل من المال مائة، عتق ثلثه الثاني، ثم إذا حصلت مائة أخرى عتق باقيه، لوجود المقتضي للعتق، وانتفاء المانع، ولا يضر ما بقي بعد ذلك من المال، لخروج المدبر من ثلث الموجود، وإذا عتق تبينا أنه كان حرا حين الموت، فيكون كسبه له، لأن عتقه بالموت، وإنما أوقفناه للشك في خروجه من الثلث، وقد زال

(7/477)


الشك، ومن ثم لو لم يحصل شيء من المال تبينا رق ثلثيه، وإن كان الحاصل لا يخرج المدبر من ثلثه عتق منه بقدر ثلثه، والله أعلم.

قال: وإذا دبر قبل البلوغ كان تدبيره جائزا إذا كان له عشر سنين فصاعدا، وكان يعرف التدبير.
ش: التدبير بالنسبة إلى التصرف في المال وصية بلا إشكال، فيعطى حكمها، فيصح ممن تصح منه، ويبطل ممن تبطل في حقه، وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى إعادته.

قال: وما قلته في الرجل فالمرأة مثله، إذا صار لها تسع سنين فصاعدا.
ش: هذا منصوص أحمد، وهو بناء على صحة وصية من لم يبلغ، وعلى تقييد ذلك بسن، وإنما جعل السن تسعا لأنه الذي يتعلق به كثير من أحكامها، كحيضها وصحة إذنها على المذهب وغير ذلك، فكذلك في وصيتها.
(تنبيه) حيث صحت وصية من لم يبلغ صح رجوعه كالبالغ، والله أعلم.

قال: وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره.
ش: لأنه استعجل ما أجل له، فعوقب بنقيض قصده، كقاتل مورثه، ولأن التدبير وصية، فبطل بالقتل كالوصية

(7/478)


بالمال، ولأن ذلك قد يتخذ وسيلة إلى القتل المحرم لأجل العتق، فمنع العتق سدا للذريعة ولا ترد أم الولد، لأن إبطال الاستيلاد فيها يفضي إلى جواز نقل الملك فيها، وإنه متعذر، بخلاف المدبر، ولأن سبب حرية أم الولد الفعل، والبعضية التي حصلت بينها وبين سيدها بواسطة ولدها، وهذا آكد من القول، ولهذا نفذ إيلاد المجنون، دون إعتاقه وتدبيره، ونفذ إيلاد المعسر وكان من رأس المال، والعتق بخلاف ذلك، واعلم أن البطلان هنا مفرع على المذهب. في أن الوصية تبطل بالقتل نظرا للعتق، أما إن قلنا لا تبطل بالقتل فالتدبير أولى، نظرا للعتق، والله أعلم.

(7/479)


كتاب المكاتب ش: المكاتب مأخوذ من المكاتبة، والمكاتبة في الاصطلاح عتق على مال منجم نجمين فصاعدا، إلى أوقات معلومة، وأصلها من الكتب وهو الجمع، لأنها تجمع نجوما، ومنه سمي الخراز كاتبا، لأنه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه، والرمل المجتمع كتيبة، لانضمام بعضه إلى بعض، وقيل لأن السيد يكتب بينه وبينه كتابا.
وهي مشروعة بالإجماع، وقد شهد لذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الآية وقصة بريرة، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.

[أحكام المكاتب]
قال: وإذا كاتب عبده أو أمته على أنجم فأديت الكتابة فقد صار حرا.
ش: عملا بمقتضى [موضوع] الكتابة، إذ مقتضاها وموضوعها الحرية عند تمام العقد، فعمل على ذلك، كسائر مقتضيات العقود، ولأن رقبته بالأداء تمحضت له، فوجب أن

(7/480)


يعتق، لاستحالة أن يملك الإنسان نفسه (ومقتضى: كلام الخرقي أنه لا يشترط مع ذلك أن يقول: فإذا أديت إلي فأنت حر. ولا نيته، وهو المذهب المجزوم به لعامة الأصحاب، لأنه أتى بصريح لفظ العقد، أشبه ما إذا قال: دبرتك، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يشترط قول ذلك أو نيته، لأن لفظ الكتابة يحتمل المخارجة، فاحتاج إلى مميز ككنايات الوقف ونحو ذلك، (ومقتضى) كلامه أيضا أن من شرط صحة الكتابة التأجيل، لقوله: على أنجم، فلا تصح الكتابة الحالة، وهذا هو المذهب أيضا بلا ريب، لأنه عقد معاوضة يلحقه الفسخ، من شرطه ذكر العوض، فإذا وقع على صفة يتحقق فيها العجز عن العوض غالبا ما يصح، كما لو أسلم في شيء لا يوجد في المحل إلا نادرا، ويؤيد ذلك أن جماعة من الصحابة عقدوا الكتابة ولم ينقل عنهم أنهم

(7/481)


عقدوها حالة، وقيل: يصح أن تكون حالة كالقول في السلم، والبابان باب واحد، ومن ثم اشترطنا في الأجل أن يكون له وقع في الثمن، حذارا من أن يتخذ ذكره حيلة، والعلم به كما تقدم، وكأن الأقيس عند أبي محمد واختيار ابن أبي موسى أنها تصح على نجم واحد كالسلم، والمذهب عند القاضي وأصحابه والأكثرين أنه لا بد من نجمين فصاعدا، محافظة على معناها، إذ قد تقدم أنها مشتقة من الضم، ولا يحصل الضم إلا بنجمين فصاعدا، ونظرا للأثر.
3907 - فعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني، (وكلام الخرقي) ربما أوهم اشتراط ثلاثة أنجم فصاعدا، ولا أعرف ذك قولا في المذهب، (ومقتضى كلامه) أيضا أنه لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة، لا أنه يعتق منه بقدر ما أدى، ولا بأداء بعض مال الكتابة، ولا بملك الوفاء، (أما الحكم الأول) وهو أنه لا يعتق منه بقدر ما أدى فلا أعلم فيه في المذهب خلافا.
3908 - لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من الكتابة درهم» رواه أبو

(7/482)


داود وعنه أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد كاتب على مائة أوقية، فأداها إلا عشر أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار، فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» رواه الخمسة وصححه الحاكم (وأما الحكم الثاني) وهو أنه لا يعتق بأداء بعض مال الكتابة فهو المذهب المنصوص لما تقدم، وذكر الدرهم والعشرة على سبيل التقليل، لا على سبيل التحقيق، وقيل: إذا أدى ثلاثة أرباع المال فأزيد، وعجز عن الباقي عتق، لأنه عجز عن حق له فلم تتوقف حريته على أدائه، كأرش جناية سيده عليه، وهذا القول حكاه أبو محمد في الكافي عن الأصحاب، وفي المقنع عن القاضي وأصحابه، وفي المغني عن أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب، وفي هذه الحكاية نظر، فإن لفظ الهداية: لم يجز للسيد الفسخ، ذكره أبو بكر، ولا يلزم من امتناع الفسخ حصول العتق، بل ظاهر هذا أنه لا يعتق،

(7/483)


ولهذا لم يحك أبو البركات هذا القول عن أحد من هؤلاء، وحكى قول أبي الخطاب على ظاهره فقال: وظاهر كلام أبي الخطاب عدم العتق، ومنع السيد من الفسخ، وهذا ظاهر كلام ابن البنا أيضا، وحكى ابن أبي موسى رواية بما يقرب من هذا، وهو أنه إذا أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق، واتبع بما بقي (وأما الحكم الثالث) وهو أنه لا يعتق بملك الوفاء فهو المشهور من الروايتين، والمختار للقاضي وأبي محمد وغيرهما، لما تقدم من حديثي عمرو بن شعيب (والرواية الثانية) أنه يعتق بملك الوفاء.
3909 - لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» » رواه الخمسة، وصححه الترمذي إلا أن بعض الحفاظ قال: إنه قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وعلى تقدير صحته فيحمل الأمر بالاحتجاب على الندبية، توفيقا بين الأحاديث، والله أعلم.

(7/484)


قال: وولاؤه لمكاتبه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في الولاء، وإنما ذكرها هنا على سبيل التكميل لحكم المسألة استطرادا، والله أعلم.

قال: ويعطى مما كوتب عليه الربع، لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] .
ش: قد ذكر الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم ودليله، وهو الأمر، وظاهر الوجوب.
3910 - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في تفسير الآية الكريمة:

(7/485)


ضعوا عنه الربع. وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام الشيخ يشمل وإن كان العبد المكاتب ذميا، وهو كذلك، صرح به القاضي، ووقت وجوب الدفع إذا أدى، ويجوز من أول الكتابة، بأن يضع عنه بقدر ذلك، لأنه السبب، وقد شهد لذلك ما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الغرض التخفيف عنه وهو حاصل، والله أعلم.

[تعجيل نجوم الكتابة]
قال: وإن عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الأخذ، وعتق من وقته في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ش: إذا عجل المكاتب مال الكتابة قبل وقت الحلول، لزم السيد الأخذ وعتق العبد إذا.
3911 - لما روي عن أبي سعيد المقبري قال: اشترتني امرأة من بني ليث، بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم، ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم، فأديت إليها عامة المال، ثم حملت ما

(7/486)


بقي إليها فقلت: هذا مالك فاقبضيه، قالت: لا والله حتى آخده منك شهرا بشهر، وسنة بسنة. فخرجت به إلى عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ارفعه إلى بيت المال، ثم بعث إليها فقال: هذا مالك في بيت المال، وقد عتق أبو سعيد، فإن شئت فخذي شهرا بشهر، وسنة بسنة. قال: فأرسلت فأخذته، رواه الدارقطني.
3912 - وروى سعيد في سننه عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك،

(7/487)


وقد احتج به أحمد، وقد أطلق الخرقي ذلك تبعا للإمام، وتبعهما أبو الخطاب في الهداية على ذلك، والشيرازي، وأبو محمد في المقنع، وحكى أبو بكر عن أحمد (رواية أخرى) مطلقة أيضا أنه لا يلزمه القبول إلا حين الحلول، لأن بقاء المكاتب في هذه المدة حق له، ولم يرض بزواله فلم يزل، كما لو علق عتقه بمضي المدة، وحمل القاضي - على ما حكى عنه أبو محمد - الروايتين على اختلاف حالين (فالموضع) الذي يلزمه القبول إذا لم يكن في القبض ضرر، لتمحض المصلحة إذا فهو كما لو دفع إليه في السلم أجود من الجنس، (والموضع) الذي لا يلزمه القبول إذا كان في القبض ضرر، مثل أن يكون مال الكتابة مما يفسد، كالعنب والبطيخ، أو يخاف تلفه كالحيوان، أو حديثه خيرا من قديمه، أو يحتاج إلى خزن كالقطن، أو سلمه في بلد مخوف، أو طريق مخوف ونحو ذلك، لأن فيه التزام ضرر لم يقتضه العقد، وإنه منفي شرعا، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا

(7/488)


ضرار» وبذلك قطع أبو البركات، واختاره أبو محمد في المغني، وابن حمدان، واختار القاضي في روايتيه طريقة ثالثة: إن كان في القبض ضرر وإلا فروايتان، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي، وحيث قيل: يلزمه القبول فامتنع جعله الإمام في بيت المال، وحكم بعتق العبد كما نقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم.

قال: والرواية الأخرى إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا.
ش: هذه الرواية لا ترجع إلى ما سبق الكلام له، وهو لزوم قبض ما عجل، وإنما ترجع إلى ما تضمنه اللفظ، وفهم من سياقه، وهو أنه إذا أدى عتق، ومقتضاه أنه لا يعتق قبل ذلك، فحكى رواية أخرى أنه يعتق بمجرد ملك الوفاء، وقد تقدم ذلك والإشارة إلى دليله، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم.

قال: وإذا أدى بعض كتابته، ومات وفي يده وفاء وفضل، فهو لسيده في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى لسيده بقية كتابته، والباقي لورثته.
ش: (قد تضمنت الرواية الأولى) أن الكتابة تنفسخ بموت العبد، سواء خلف وفاء أم لا، وهذا هو المشهور من الروايتين،

(7/489)


والمختار للقاضي وعامة أصحابه، وأبي محمد، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» والأصل بقاء ذلك بعد الموت، ولأنه عتق معلق بشرط مطلق، فانقطع بالموت، كما لو قال: إذا أديت إلي ألفا فأنت حر. وعلى هذا ما في يده لسيده، (وتضمنت الثانية) أن الكتابة لا تنفسخ إذا خلف وفاء، وهي اختيار أبي بكر، لأنه عقد معاوضة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين وهو السيد، فلا ينفسخ بموت الآخر كالبيع، وفرق بأن كل واحد من المتبايعين غير معقود عليه، والمكاتب معقود عليه، فهو كتلف المبيع قبل قبضه، فعلى هذا يؤدي عنه بعد وفاته، وما فضل فلوارثه المناسب، وإن لم يكن فلسيده بالولاء، قال القاضي: ويعتق في آخر جزء من حياته، وهذا ظاهر الرواية، فالمسألة غير مبنية على التي قبلها، وقال أبو محمد: يحتمل أن تبنى على التي قبلها، فإن قيل ثم إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد مات رقيقا، فانفسخت

(7/490)


الكتابة بموته، وما في يده لسيده، وإن قيل ثم: إنه يعتق بملك ما يؤدي فقد مات حرا، فلسيده بقية كتابته، لأنه دين له عليه، وما بقي فلوارثه انتهى.
ولا تختلف الرواية أنه إذا لم يخلف وفاء أن الكتابة تبطل بموته، قال أبو محمد: إلا أن يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة، فإن مقتضى قول القاضي وأبي بكر ومن وافقهما أنه يموت حرا، انتهى. وقد تقدم الطعن في هذا النقل، ثم إن هذه المسألة غير تلك كما تقدم، والله أعلم.

قال: وإذا مات السيد كان العبد على كتابته، وما أدى فبين ورثة سيده مقسوما كالميراث.
ش: ملخص هذا أن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد، وهذا والله أعلم اتفاق، وقد قال أبو محمد: لا نعلم فيه خلافا. وذلك لأنه عقد لازم من جهته، فلم ينفسخ بموته كالبيع والإجارة، فعلى هذا الكتابة باقية فيؤدي الذي عليه لورثة السيد، فيقتسمونه على حسب إرثهم كما يقتسمون ديونه والله أعلم.

[ولاء المكاتب]
قال: وولاؤه لسيده.
ش: يعني أنه إذا أدى ما عليه للورثة وعتق، فإن ولاءه لسيده، لأنه المنعم عليه بالعتق، لتسببه فيه، فأشبه ما لو

(7/491)


أدى إليه، وهذا هو المذهب المشهور (وعن أحمد رواية أخرى) إن أدى جميع ما كوتب عليه للورثة فولاؤه لهم، وإن أدى إليهم وإلى السيد فالولاء بينهما، لأنه انتقل إلى الورثة بالموت، فأشبه انتقاله إليهم بالشراء، وفرق بأن السيد في الشراء رضي بنقل حقه، وهنا الوارث يخلف الموروث، ولا ينتقل إليه شيء أمكن بقاؤه لمورثه، والولاء يمكن بقاؤه لمورثه، فلم ينتقل إليه، انتهى.
وحكم براءة الذمة له مما عليه حكم قبضه على ما تقدم، ولأبي محمد احتمال أنهم والحال هذه يختصون بالولاء، لإنعامهم عليه بما عتق به أشبه ما لو باشروا عتقه، ولو باشروا كلهم عتقه كان الولاء لهم، لأن المباشرة أقوى من التسبب، وقال القاضي: يكون الولاء أيضا للسيد إن كان عتقهم له قبل عجزه، (فعلى قوله) إن أعتق بعضهم لم يسر عتقهم، ثم إن أدى إلى الباقين عتق كله والولاء للسيد، وإن عجز فرد إلى الرق فولاء نصيب المعتق له، (وعلى الذي قبله) - وهو الذي أورده أبو محمد مذهبا - إن أعتق بعضهم فسرى إلى نصيب شركائه كان ولاؤه له، وإن لم يسر لإعساره أو غير ذلك فله ولاء ما أعتق.

قال: فإن عجز فهو عبد لسائر الورثة.

(7/492)


ش: كما لو عجز في يد السيد، واستعمل (سائر) بمعنى الجميع، كما هو الغالب عليه في استعماله.

قال: ولا يمنع المكاتب من السفر.
ش: إذ السفر من أسباب الكسب، وإنه يملكه بمقتضى عقد الكتابة، وعموم كلام الخرقي يشمل السفر الطويل والقصير وهو كذلك، كالحر المدين، وكذلك قال أبو محمد: لم يفرق أصحابنا بين السفر الطويل وغيره، قال: ولكن المذهب أن له منعه من سفر تحل نجوم كتابته قبله. قلت: وهذا مراد الأصحاب من الإطلاق بلا ريب، والله أعلم، وإنما لم يقيدوا ذلك اكتفاء بما تقدم لهم في المدين بطريق الأولى، ومن ثم يخرج لنا (قول آخر) أنه له منعه مطلقا، كما يمنع الحر المدين على رواية، وإن لم يحل الدين إلا بعد قدومه، وترك الأصحاب ذلك تفريعا على المذهب، وقد نص أحمد في رواية المروذي على أن له أن يحج ما لم يحل عليه نجم في غيبته، لكن يرد على هذا الإطلاق سفر الجهاد، فإنه ينبغي أن يمنع منه مطلقا كالحر المدين، وقوله: ولا يمنع المكاتب من السفر، قد يقال: ظاهر إطلاقه: وإن شرط عليه تركه. وهو قول القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، بناء على عدم صحة الشرط، لأنه ينافي مقتضى العقد لما تقدم من أنه من أسباب الكسب، فلم

(7/493)


يصح اشتراط تركه، كما لو شرط عليه أن لا يبيع ولا يشتري، والذي قطع به القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي واختاره أبو محمد، وابن حمدان - أنه يمنع والحال هذه، بناء على صحة الشرط، لأن للسيد فيه فائدة، وهي الأمن من إباقه، ولدخوله تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» الحديث.
(تنبيه) هذا الخلاف روايتان، وفاقا لأبي الخطاب والشيرازي، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات، وحكاه في المغني والمقنع وجهين، والله أعلم.

قال: وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده.
ش: لأنه عبد، بدليل ما تقدم.
3913 - فيدخل في عموم «أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر» ولأن في ذلك ضررا لاحتياجه إلى أداء النفقة والمهر من كسبه، ولربما عجز فيرق، ويرجع ناقص القيمة، وفي ذلك ضرر على

(7/494)


السيد، والضرر منفي شرعا، وهذا هو المذهب عند الأصحاب، وقد قطع به عامتهم (وعن أحمد رواية أخرى) للمكاتب التزويج بخلاف المكاتبة، قال في رواية إبراهيم الحربي: لا بأس أن يتزوج، قد اشترى نفسه بل المكاتبة لا تتزوج، لا يؤمن أن ترجع إلى الرق وهي مشغولة الفرج، انتهى.
ومفهوم كلام الخرقي أن له ذلك بإذن السيد، وهو واضح، إذ المنع لحق السيد وقد زال، ويؤيد ذلك مفهوم الحديث، وحكم التسري حكم التزويج، إن أذن له السيد جاز، وإن لم يأذن لم يجز، والله أعلم.

قال: ولا يبيعه سيده درهما بدرهمين.
ش: ملخصه أن الربا يجري بين المكاتب وسيده، لأن

(7/495)


المكاتب صار بما التزمه من العوض بمنزلة الأجنبي بدليل أن لكل منهما الشفعة على صاحبه، ولا يملك واحد منهما التصرف فيما بيد صاحبه، وهذا هو المذهب عند الشيخين وغيرهما، وقال أبو بكر وابن أبي موسى: لا ربا بينهما. قال أبو بكر: قد أخبر أحمد عن نفسه أنه ليس بين المكاتب وسيده ربا، لأنه عبد ما بقي عليه درهم. انتهى. ويستثنى من ذلك إذا عجل له ليضع عنه بعض كتابته، فإنه يجوز كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وليس للرجل أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط.
ش: أما منع وطئها بدون الشرط فهو المذهب المصرح به، لأن الكتابة أزالت ملك استخدامها، وملك عوض بضعها، إذا وطئت بشبهة، فتزيل حل وطئها كالبيع، قال في المغني: وقيل: له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطء عما هي فيه، وهذا القول يحتمل أنه في المذهب، ويحتمل أنه لبعض

(7/496)


العلماء، وأما جوازه مع الشرط فهو المذهب المجزوم به عند عامة الأصحاب، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» ولأنه استثنى بعض ما كان له، فصح كاستثناء الخدمة، يحققه أن ملكه باق عليها، وإنما منع منه لحقها، ومع الشرط الحق عليها، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنه يمنع من ذلك مطلقا، قال: لا يطأ مكاتبته، لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، وهذا اختيار ابن عقيل، لأن الملك والحال هذه غير تام، أشبه الواطئ في مدة الخيار.
قال: فإن وطئ ولم يشترط أدب.
ش: لفعله المحرم، فيؤدب زجرا له عما ارتكبه، وفي بعض نسخه: ولم يبلغ به حد الزاني. وقد تقدم ذلك في التعزيرات وافيا، فلا حاجة إلى إعادته، وقد علم من كلام الخرقي أنه لا حد عليه، وهو كذلك، لوجود الملك، وعموم كلام الخرقي

(7/497)


يشمل العالم بالتحريم والجاهل به، وقيد أبو محمد ذلك بالعالم، وهو حسن، والله أعلم.
قال: وكان لها عليه. مهر مثلها.
ش: لأن ذلك عوض منفعتها، فكان لها كبقية منافعها، وكلام الخرقي يشمل وإن كانت مطاوعة، وهو أحد الوجهين، وبه قطع أبو محمد، بناء على أن للسيد في ذلك حقا فلا يسقط برضاها، كالأمة القن (الوجه الثاني) لا شيء لها إذا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، لأن المغلب في ذلك حقها، فسقط بمطاوعتها كالحرة.
(تنبيه) الواجب مهر واحد، وإن وطئ مرارا كوطء الشبهة، نعم إن أدى مهر وطء، ثم وطئ ثانيا وجب مهر ثان، لأن الأداء قطع حكم الوطء الأول، وقوله: فإن وطئ ولم يشترط أدب، وكان لها عليه مهر مثلها، مقتضاه أنه مع الشرط لا أدب ولا مهر عليه، وهو كذلك، لجواز ذلك على رواية والله أعلم.

قال: فإن علقت منه فهي مخيرة بين العجز وأن تكون له أم

(7/498)


ولد، وبين المضي على الكتابة، فإن أدت الكتابة عتقت، وإن عجزت عتقت بموته، وإن مات قبل عجزها انعتقت، لأنها صارت من أمهات الأولاد، وسقط عنها ما بقي من كتابتها، وما في يدها لورثة سيدها.
ش: إذا علقت منه مكاتبته - سواء شرط وطأها أو لم يشترط - ووضعت ما تصير به الأمة أم ولد كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فقد اجتمع فيها سببان، الكتابة وصيرورتها أم ولد، فيعمل على ذلك، إذ لا منافاة بينهما، فعلى هذا إن أدت عتقت بحكم الكتابة، وما في يدها لها بلا ريب، لأن ما في يد المكاتب بعد أدائه له، وإن عجزت وعادت قنا بطل حكم الكتابة، وعتقت بموته، وما في يدها لورثة سيدها، عملا بحكم الإيلاد، وإن مات سيدها قبل عجزها عتقت بموته، عملا بحكم الإيلاد أيضا، وسقط عنها ما بقي من كتابتها، لحصول الحرية التي بذل العوض في تحصيلها، واختلف فيما في يدها هل يكون لها، وهو اختيار القاضي في المجرد، وفي الظهار من التعليق، وابن عقيل وأبي محمد، إذ العتق إذا وقع في

(7/499)


الكتابة لم يبطل حكمها، كالإبراء من نجوم الكتابة، ولأن ملكها كان ثابتا، والأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، أو لورثة سيدها وهو الذي قاله الخرقي، وأبو الخطاب في الهداية، وأورده ابن حمدان مذهبا، لأنها عتقت بحكم الإيلاد، فأشبه ما لو لم تكن مكاتبة؟ على قولين، هذا شرح المسألة في الجملة، وفاقا للشيخين وغيرهما، وقد يقال: إن في كلام الخرقي ما يخالف ذلك، أو يزيد عليه من جهة قوله: إنها مخيرة بين العجز وكونها له أم ولد، وبين المضي على الكتابة. ومقتضى هذا أن لها أن تختار العجز وإبطال حكم الكتابة، فتصير أم ولد فقط، وأن تمضي على الكتابة فيجتمع فيها سببان كما تقدم، ولذلك حكى ذلك الشيرازي رواية، وحكى رواية أخرى أنه إذا مات سيدها يلزمها أداء بقية مال الكتابة إلى الورثة.
(تنبيه) الخرقي ذكر حكم الإيلاد إذا طرأ على الكتابة، ولو طرأت الكتابة على التدبير فالحكم كذلك، والله أعلم.

قال: وإذا كاتب نصف عبد فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده، صار نصفه حرا بالكتابة، إن كان الذي كاتبه معسرا،

(7/500)


وإن كان موسرا عتق كله، وكان نصف قيمته على الذي كاتبه لشريكه.
ش: للإنسان أن يكاتب شقصا له من عبد، وإن لم يأذن شريكه، في ذلك، كما هو ظاهر إطلاق الخرقي، إذ الكتابة عقد معاوضة، فجازت بغير إذن الشريك كالبيع، واختار ابن حمدان اشتراط إذنه إن كان معسرا، انتهى، وإذا كاتبه لم يسر إلى نصيب شريكه كما تضمنه كلام الخرقي أيضا، لم تقدم من أنها عقد معاوضة فهي كالبيع، وإذا لم تسر الكتابة كان كسبه والحال هذه مشتركا بينه وبين سيده، كما قبل الكتابة، فإذا أدى ما كوتب عليه، ومثله لسيده الآخر، عتق نصفه بالكتابة، لوجود الشرط وهو أداء ما كوتب عليه، وانتفاء المانع، وهو دفع ما يستحقه الغير، لو لم يؤد ما كوتب عليه لم يعتق، وهو واضح، ولو أداه من جميع كسبه، ولم يؤد لسيده الآخر شيئا لم يعتق، لأن الكتابة الصحيحة إنما يعتق فيها بالبراءة من العوض، ولا يحصل ذلك بدفع ما ليس له، هذا إذا كان الأداء من جميع كسبه، أما إن هايأه سيده فكسب شيئا في يومه، أو

(7/501)


أعطي صدقة فلا حق لسيده فيه، لأنه تمحض استحقاقه له بما فيه الكتابة، لا بمجموعه، وحكى ابن حمدان رواية أخرى أنهما يتهايآن في كسبه، فيكون له يوما ولسيده يوما، وقد نص على ذلك أحمد في رواية حرب، وحيث عتق النصف المكاتب فإنه ينظر في الذي كاتبه، فإن كان موسرا سرى إلى باقيه، وغرم قيمة حصة شريكه، لأنه تسبب في إعتاقه، أشبه ما لو باشره في العتق، وإن كان معسرا لم يسر كما لو واجهه بالعتق، نعم إن قيل بالاستسعاء استسعي العبد كما تقدم، والله أعلم.

قال: وإذا عتق المكاتب استقبل بما في يده من المال حولا، وزكاه إن كان منصبا.
ش: قد تقدمت هذه المسألة للخرقي في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم.

قال: وإذا لم يؤد نجما حتى حل الآخر عجزه السيد إن أحب، وعاد عبدا غير مكاتب.
ش: منطوق كلام الخرقي أن للسيد أن يعجزه، بمعنى أن يفسخ الكتابة، ويرد المكاتب في الرق إذا حل عليه نجمان ولم يؤدهما، وله الصبر عليه، ومفهومه أنه ليس له تعجيزه إذا

(7/502)


حل عليه نجم واحد، وهذا إحدى الروايات، واختيار أبي بكر، ونصبه في المغني للخلاف، وقال القاضي: إنه ظاهر كلام الأصحاب.
3914 - لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يرد العبد في الرق حتى يتوالى عليه نجمان، (والرواية الثانية) أن له تعجيزه إذا حل عليه نجم واحد، لأن ذلك حق له، فكان له الفسخ بالعجز عنه، كما لو أعسر المشتري ببعض ثمن المبيع قبل قبضه (والرواية الثالثة) لا يعجز حتى يقول: قد عجزت؛ حكاها ابن أبي موسى وغيره، لأن فوات العوض لا يتحقق إلا بذلك (والرواية الرابعة) وقد تقدمت إن أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق، ويتبع بما بقي، وظاهرها وإن حل عليه نجوم، (وقد تضمن) كلام الخرقي أن الكتابة عقد لازم، وهو كذلك،

(7/503)


لأنها بيع، والبيع من العقود اللازمة، وإذا لا يملك السيد فسخها بغير ما تقدم، ولا العبد مطلقا، صرح بذلك غير واحد من الأصحاب، حتى قال في المغني: بغير خلاف نعلمه، وحكى ابن المنذر ما يقتضي الإجماع، ووقع في المقنع والكافي حكاية رواية بأن للعبد فسخها، وعلل ذلك ابن المنجا بأن معظم المقصود له، فإذا رضي بإسقاط حقه سقط، والظاهر أن هذا وهم، بدليل ما تقدم، والذي ينبغي حمل ذلك على أن له الفسخ، أي التسبب فيه، بمعنى أنه يمتنع من الأداء، فيملك السيد الفسخ، وهذا كما أن ابن عقيل والشيرازي وابن البنا قالوا: إنها لازمة من جهة السيد، جائزة من جهة العبد، وفسروا ذلك بأن له الامتناع من الأداء فيملك السيد الفسخ، انتهى. وظاهر كلام الخرقي أن الفسخ من السيد - والحال ما تقدم - لا يفتقر إلى حاكم، وهو كذلك.
(تنبيه) لو اتفق السيد والعبد على الفسخ جاز، قاله في الكافي كالبيع، والله أعلم.

قال: وما قبض من نجوم كتابة استقبل بزكاته حولا.

(7/504)


ش: ما قبض السيد من نجوم الكتابة فإنه يستقبل به حولا ويزكيه لأنه كمال استفاده بإرث أو غيره، ومقتضى هذا أن الحول لا ينعقد على دين الكتابة، وهو كذلك لعدم استقرار الملك فيه، والله أعلم.

[جناية المكاتب]
قال: وإذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته.
ش: إذا جنى المكاتب جناية ووجب المال بها، بدئ بجنايته قبل كتابته فقدمت على المذهب المشهور المنصوص، حتى إن أبا محمد في المغني قال: اتفق أصحابنا على ذلك، إذ أرش الجناية مستقر، ومال الكتابة غير مستقر، [ولا إشكال أن المستقر يقدم على غير المستقر] ، ولأن أرش الجناية مقدم على ملك السيد في عبده، فكذلك على عوضه بطريق الأولى، (وفي المذهب قويل آخر) أنهما يتحاصان، حكاه أبو بكر لأنهما دينان فتحاصا كبقية الديون، وعلى هذا يقسم الحاكم المال بينهما على قدر حقيهما.
أما على الأول فإن بدأ المكاتب بأرش الجناية فأداه قبل أداء مال الكتابة فلا كلام، وإن أدى مال الكتابة قبل أداء الأرش

(7/505)


ولما يحجر عليه صح الأداء وعتق، واستقر الأرش عليه، وإن كان ذلك بعد أن حجر الحاكم عليه بأن سأله ولي الجناية ذلك لم يصح أداؤه، ووجب أن يرتجعه الحاكم فيدفعه إلي ولي الجناية، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها، وعموم كلام الخرقي يشمل جنايته على سيده وهو كذلك، ومقتضى كلامه أن الأرش لازم للمكاتب، وهو كذلك.
3915 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» والذي يلزم على المذهب أن يفدي نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته، وقيل وحكي رواية: أنه بالأرش كله كالحر.
(تنبيه) قال أبو محمد: إن جناية المكاتب تتعلق برقبته، وتؤدى من المال الذي في يده، وقد قال هو وغيره: إنه إذا بادر فأدى الكتابة أنه يعتق ويستقر الفداء عليه، ومقتضى هذا تعلق جنايته برقبته وبذمته، وقال الشيرازي: جناية المكاتب مقدمة على كتابته، وروي عن أحمد أنها في رقبته، وظاهر هذا أنها تتعلق ابتداء بالمال الذي في يده والله أعلم.

[حكم عجز المكاتب]
قال: فإن عجز كان السيد مخيرا بين أن يفديه بقيمته إن كانت أقل من جنايته أو يسلمه.

(7/506)


ش: إذا عجز المكاتب ورد في الرق فإن سيده مخير بين فدائه بقيمته إن كنت أقل من جنايته، لانحصار الحق إذًا في الرقبة، فلا يجب على السيد أكثر من بدلها، وإن كانت جنايته أقل من ذلك لم يجب عليه أكثر منها، إذ المجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وبين أن يسلمه لأنه إذا سلمه فقد سلم المحل الذي تعلق به الحق، فخرج عن العهدة (وفي المذهب قول آخر) أو رواية أنه إذا فداه فداه بالأرش كله، وقول الخرقي: أو يسلمه. ظاهره ليباع، وإذًا فلم يخير البائع إلا بين شيئين فقط، الفداء أو التسليم للبيع، وهو إحدى الروايات (والرواية الثانية) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية (والرواية الثالثة) يخير بين الثلاثة، وإذا أراد تسليمه للبيع فهل يكتفي بمجرد ذلك، فيبيعه الحاكم، وهذا ظاهر كلام الخرقي، أو يلزمه أن يتولى ذلك إن طلبه ولي الجناية؟ على روايتين، والله أعلم.

قال: وإذا كاتبه ثم دبره فإن أدى صار حرا، وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي عليه من

(7/507)


كتابته، وإلا عتق منه بمقدار الثلث، وسقط من الكتابة بمقدار ما عتق، وكان على الكتابة فيما بقي.
ش: إذا كاتب عبده ثم دبره جاز، كما تضمنه كلام الخرقي، إذ لا منافاة بينهما، ولأن التدبير إما وصية بالإعتاق أو تعليق للعتق على صفة، وكلاهما جائز في المكاتب، مع أن أبا محمد قد قال: لا نعلم في ذلك خلافا. ولو عكس فدبره أولا ثم كاتبه جاز على المذهب المنصوص أيضا، لما تقدم أولا.
3916 - وقد روى ذلك البخاري في تأريخه عن ابن مسعود، ورواه الأثرم عنه وعن أبي هريرة أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن كتابة المدبر رجوع في تدبيره إن قيل بصحة الرجوع فيه، إذا ثبت هذا فإذا اجتمعت الكتابة والتدبير فقد

(7/508)


اجتمع سببان للعتق، فيعمل بمقتضاهما، فعلى هذا إن أدى عتق بالكتابة، لوجود شرطها وهو الأداء، وبطل التدبير للغنى عنه، وما في يده له، وإن عجز ورق صار مدبرا فقط، لبطلان الكتابة، فيعتق بموت السيد بشرطه، وإن مات السيد قبل العجز وأداء جميع الكتابة عتق بالتدبير، لوجود سببه وهو الموت، وهل ما في يده له إبقاء لما كان على ما كان عليه، وكما لو أبرئ من مال الكتابة، وهو اختيار أبي محمد وابن حمدان، أو لورثة سيده، حكاه أبو محمد عن الأصحاب، بناء على أن الكتابة تبطل إذا ويبقى الحكم للتدبير؟ على قولين.
وحيث عتق بالتدبير فشرطه أن يخرج من الثلث، لما تقدم من أن التدبير معتبر من الثلث على المذهب، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، وسقط من عوض الكتابة بقدر ما عتق منه، لأن مال الكتابة عوض عن جميعه، فإذا عتق نصفه مثلا بالتدبير سقط ما قابل ذلك، وهو نصف العوض، وهل ما قابل ذلك من الكسب له أو لورثة السيد؟ على القولين السابقين، ويبقى باقيه مكاتبا بقسطه، ومقتضى كلام الخرقي أن المعتبر في خروجه من الثلث ما بقي عليه من الكتابة، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع، ومقتضى كلامه في

(7/509)


المغني وكلام أبي البركات اعتبار قيمته مكاتبا، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، والله أعلم.

[الحكم لو ادعى المكاتب وفاء كتابته]
قال: وإذا ادعى المكاتب وفاء كتابته، وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا.
ش: هذا بناء على ما تقدم من أن المال أو ما يقصد به المال يقبل فيه شاهد ويمين الطالب، وهذا من ذلك، لأن النزاع والحال هذه وقع في أداء المال، والعتق يثبت تبعا لثبوت الأداء، وليس هو المتنازع فيه، ولا المشهود به، على أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقبل الشاهد واليمين في العتق أيضا (وفي المذهب قويل آخر) أنه لا يقبل في النجم الأخير إلا رجلان، لترتب العتق على شهادتهما إذا، وبناء على أن العتق لا يقبل فيه إلا ذلك، والله أعلم.

قال: ولا يكفر المكاتب بغير الصوم.
ش: وقد تضمن قول الخرقي أن كفارة المكاتب الصوم، وهو كذلك، لأنه في حكم المعسر، وكفارة المعسر ذلك، ودليل الوصف أنه لا يلزمه زكاة، ولا نفقة قريبه، ويأخذ الزكاة لحاجته، وتضمن كلامه أنه لا يكفر بغير ذلك، وظاهره وإن أذن له السيد، وكأنه بنى ذلك على مذهبه، من أن العبد لا يملك بالتمليك، وهذه طريقة القاضي، فإنه بناه على الروايتين

(7/510)


في ملك العبد بالتمليك، فإن قيل لا يملك لم يصح تكفيره بغير الصوم، وإن أذن له السيد، وإن قيل يملك صح بإذن السيد، لأن الحق له وقد أذن فيه، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المقنع، وابن حمدان، وامتنع أبو محمد في الكافي والمغني من البناء، وجوز له التكفير بإذن السيد بلا خلاف، وتبعه على ذلك أبو البركات، بناء على أنه يملك المال هنا بلا خلاف. بخلاف العبد، نعم هو يملك ملكا ناقصا، لتعلق حق السيد به، فلذلك اعتبر إذنه، وقد يبنى كلام الخرقي على أنه يمنع من التبرع، ولو أذن فيه السيد، والتكفير بالمال بمنزلة التبرع، لعدم الحاجة إليه، لكن هذا قويل ضعيف والمذهب خلافه، وهذه المسألة لها التفات إلى تكفير العبد بالمال وقد تقدم ذلك، وحيث جوز له التكفير بالمال فإنه لا يلزمه ذلك، حذارا مما يلحقه من الضرر، وهو احتمال تفويت حريته، والله أعلم.

[حكم ولد المكاتبة]
قال: وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها.
ش: قد تضمن كلام الخرقي صحة مكاتبة الأمة، كما تصح

(7/511)


مكاتبة العبد، وهو اتفاق ولله الحمد، وقد شهد له حديث بريرة وغيره، وإذا صحت مكاتبتها فأتت بولد من نكاح أو غيره بعد كتابتها فإنه يتبعها يعتق بأدائها أو إبرائها، ويرق بعجزها وبموتها قبل الأداء على المذهب، إذ الكتابة سبب لازم للعتق، لا يجوز إبطاله، فسرى إلى الولد كالاستيلاد، ولا يرد التعليق بالصفة، لجواز إبطاله بالبيع ونحوه.
وقوله: الذين ولدتهم في الكتابة، يشمل ما كان حملا حال الكتابة، وما علقت به بعدها، ويخرج منه ما ولدته قبل الكتابة، وقد تتخرج التبعية فيه، لرواية ضعيفة في ولد المدبرة، (وقوله) : يعتقون بعتقها، أي بسبب عتقها، بما ثبت لها، وهو العتق بأداء مال الكتابة أو الإبراء منه، وهذا معنى قول الأصحاب: يتبعها ولدها. وهذا بخلاف أم الولد والمدبرة، فإن ولدها يصير بمنزلتها.
(تنبيه) فلو أعتق المكاتبة سيدها، أو عتقت باستيلاد أو تدبير فإنه يبنى على أن كتابتها هل تبطل أم لا؟ فمن قال ببطلانها قال يتبين رق ولدها، ومن قال لا تبطل كتابتها قال يعتق بعتقها، كما لو أبرئت من كتابتها، ولأبي محمد احتمال بعتقه على الأول أيضا انتهى، وحكم ولد ابنتها التي تتبعها

(7/512)


حكم ابنتها، أما ولد ابنها فحكمه حكم أمه، واعلم أن كلام الخرقي في ولد المكاتبة من غير سيدها، أما من سيدها فقد تقدم له حكمه، فلهذا لم يحترز عنه.
(تنبيه) لم يتعرض الخرقي لولد المكاتب، والحكم أنه لا يخلو إما أن يكون من أمة أو حرة، (فإن كان) من حرة فهو حر كأمه (وإن كان) من أمة فلا تخلو الأمة إما أن تكون له أو لغيره (فإن كانت) له تبعه الولد، وهل تتبعه الأمة في صيرورتها أم ولد، فيتحقق الاستيلاد فيها بعتقه، أو يتحقق رقها برقه وهو المذهب، أو لا تتبع أصلا فله بيعها مطلقا؟ على وجهين، (وإن كانت) الأمة لغيره فلا يخلو إما أن يكون السيد أو غيره، فغيره الولد رقيق كأمه، والسيد كذلك إلا أن يشترط المكاتب تبعية ولده له، فإنه يتبعه عملا بالشرط، والله أعلم.

[بيع المكاتب]
قال: ويجوز بيع المكاتب.
ش: هذا هو المذهب المشهور المنصوص، نقله الجماعة عن أحمد، واختاره الأصحاب.
3917 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس فقالت: إني قد

(7/513)


عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرت عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» » متفق عليه واللفظ للبخاري. وهذا ظاهر في أنها بيعت في كتابتها قبل أن تعجز وترق بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل وأمره لقولها: فأعينيني، وإخبار عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «خذيها» وعند مسلم: «اشتريها» وفي لفظ: «ابتاعي» ولهذا قال ابن المنذر: بيعت بريرة بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي مكاتبة، فلم ينكر ذلك، ولا أعلم خبرا يعارض ذلك، ولا دليلا من خبر على عجزها.
(وعن أحمد) رواية أخرى: لا يجوز بيع المكاتب، أومأ إليها في رواية أبي طالب، وسأله: هل يطأ مكاتبته؟ قال: لا

(7/514)


يطؤها، لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، وذلك لأن سبب العتق قد ثبت له على وجه لا يستقل السيد برفعه، فمنع البيع كالاستيلاد، وأجيب بمنع القياس مع النص، ثم إن لنا في أم الولد منعا على رواية، وعلى المذهب الفرق أن سبب حريتها مستقر، لا سبيل إلى فسخه بحال، والمكاتب ليس كذلك، لجواز عوده رقيقا، (وعن أحمد) رواية ثالثة حكاها ابن أبي موسى: يجوز بيع المكاتب بقدر مال الكتابة، لصورة النص، ولا يجوز بأكثر منها اعتمادا على القياس السابق.
(تنبيه) الحكم في هبته والوصية به كالحكم في بيعه (وعنه) أنه منع من الهبة، قصرا على المورد أيضا كما تقدم، أما وقفه فلا يجوز، لانتفاء شرطه وهو الاستقرار، والله أعلم.

قال: ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب.
ش: مشتري المكاتب يقوم في أمره مقام المكاتب، لأنه بدل عنه، فأعطي حكمه، فعلى هذا إن أدى إليه عتق، وإن عجز أو اختار تعجيزه رد في الرق، ومقتضى كلام الشيخ أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع وهو كذلك، إذ الكتابة عقد لازم، فلم تنفسخ بذلك كالإجارة، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعا عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم، ولا يرد عليه

(7/515)


مخالفة ابن حزم، لأنه ليس هو من حفظ عنه العلم، والله أعلم.

قال: فإذا أدى صار حرا وولاؤه لمشتريه.
ش: قد تقدم أن مشتريه يقوم مقام البائع، فإذا أدى إليه صار حرا وعتق، وكان ولاؤه له، وقد شهد لذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق» وإنكار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهلها لما اشترطوا ولاءها، والله أعلم.

قال: فإن لم يبين البائع للمشتري أنه مكاتب كان مخيرا بين أن يرجع بالثمن أو يأخذ ما بينه سليما ومكاتبا.
ش: الكتابة عيب، لمنع المشتري من التصرف في العبد، وانتفاء اكتسابه ومنافعه، فعلى هذا إن بين البائع للمشتري فلا كلام، لأنه دخل على بصيرة، وإن لم يبين له ذلك كان مخيرا بين فسخ البيع والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء وأخذ الأرش، وهو قسط ما بين قيمته سليما ومكاتبا، منسوبا إلى الثمن، فإذا قيل إن قيمته مكاتبا أربعون، وغير مكاتب ستون، والثمن تسعون، فقد نقصته الكتابة ثلث قيمته، فيرجع بثلث ثمنه، والله أعلم.

(7/516)


[الحكم لو ملك المكاتب أباه أو ذا رحم]
قال: وإذا ملك المكاتب أباه أو ذا رحم من المحرم عليه نكاحه، لم يعتقوا عليه حتى يؤدي وهم في ملكه، فإن عجز فهم عبيد للسيد.
ش: إذا ملك المكاتب من يعتق عليه ولو ملكه وهو حر لم يعتق بمجرد ذلك، لأنه لا يملك العتق بالقول، فبالملك القائم مقامه أولى، لكنه يمتنع عليه بيعه، لأنه بمنزلة جزئه، ثم إن أدى أو أبرئ من مال الكتابة وهو في ملكه لم يفت عتق لتمام ملكه إذا بزوال حق السيد، فيعمل المقتضى.
3918 - وهو قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» عمله، وإن عجز ورد في الرق تحقق رقهم للسيد، كعبيده الأجانب.
وكلام الخرقي يشمل الملك بالبيع الهبة والوصية وغير ذلك، ثم إنه لم يشترط لذلك شرطا، فيدخل في كلامه الشراء بدون إذن السيد، وهو قول القاضي، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل وأبو محمد في المغني، وصححه ابن حمدان في رعايتيه، نظرا إلى أنه يصح أن يشتريه غيره، فصح شراؤه له كالأجنبي، وأورد أبو محمد في المقنع المذهب تبعا لأبي الخطاب في الهداية أنه لا يجوز بدون إذن السيد، حذارا من أن يخرج من ماله ما يمتنع عليه التصرف فيه، والأول أشهر، وقد ذكر القاضي أنه نص أحمد والخرقي، واعترضه أبو الخطاب

(7/517)


بأن كلامهما من ملك ذا رحم محرم، ويجوز حصول الملك بغير الشراء، أو بالشراء بإذن. قلت: وقد اختلفت نسخ الخرقي، ففي بعضها: وإذا اشترى. وعليها شرح أبو محمد، والظاهر والقاضي، وهذا وإن لم يكن نصا فقريب منه، وفي بعضها: وإذا ملك. وهي التي اعتمدها أبو الخطاب في الاعتراض، وهو لفظي، إذ يكفي الظهور في التمسك، وهذا هو الجواب عن كلام أحمد، إن لم يكن عنه نص بذلك. انتهى.
ويدخل في كلامه على النسخة المشروحة الهبة والوصية، وإن أضر ذلك بماله، كما إذا لم يكن لذي الرحم المحرم كسب فيلزمه نفقته، وكذلك أطلق أبو الخطاب وأبو البركات، وأبو محمد في الكافي والمغني، وقيد ذلك في المقنع بما إذا لم يضر ذلك بماله، وتبعه على ذلك ابن حمدان، والله أعلم.

قال: وإذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم فقال: بيعوني نفسي بها، فأجابوه، فلما عاد إليهم ليكتبوا له كتابا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا، وشهد الرجلان إذا كانا عدلين، ويشاركهما فيما أخذا من المال، وليس على العبد شيء.
ش: ملخص هذا أن الشريكين اللذين فيهما شروط

(7/518)


الشهادة إذا شهدا على شريكهما الثالث بأخذ ما يستحقه والحال ما تقدم، فقد صار العبد حرا، لأن بشهادتهما كمل أداؤه لجميع ما اشترى به نفسه من مالكيه، وإذا يعتق لوجود الشرط وهو الأداء، ولا شيء عليه لذلك، ويشاركهما المشهود عليه فيما أخذا من المال، لاعترافهما بأخذه من ثمن العبد المشترك بينهم، ولأن ما في يد العبد كان لهم، وما أخذاه كان في يده، ولا تقبل شهادتهما المتقدمة في أنه لا يستحق عليهما ذلك، لأنهما يدفعان بها ضررا عن أنفسهما وهو المشاركة، وإنه غير مقبول، وإنما قبلت شهادتهما للعبد لأنها شهادة للغير وصار هذا بمنزلة الإقرار بشيء له وشيء عليه، يقبل في الذي عليه دون الذي له، هذا منصوص أحمد، وقال الشيخان: قياس المذهب رد شهادتهما، نظرا إلى أن الشهادة إذا بطل بعضها بطلت كلها، ويفارق الإقرار من حيث إن الشهادة والحال هذه فيها تهمة، والتهمة مانعة للشهادة، بخلاف الإقرار فإن التهمة لا تمنعه.
وقول الخرقي: إذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم، فقال: بيعوني نفسي بها فأجابوه، وقد استشكل عليه من حيث إن ظاهره إجازة شراء نفسه بعين ما في يده، وقد تقدم له في العتق أن العبد إذا قال لرجل: اشترني بهذا المال وأعتقني.

(7/519)


فاشتراه بعين المال أن البيع والعتق باطلان، وقد أجاب القاضي عن ذلك بوجوه (أحدها) أن هذا مكاتب عجل لهم الثلاثمائة ليضعوا عنه شيئا، وقرينة هذا ذكره في الكتابة، ويحتمل هذا كلام أبي البركات، لأنه ذكر المسألة فيما إذا كاتب ثلاثة عبدا، فادعى الأداء إليهم، وحكى المنصوص في ذلك (الوجه الثاني) أن يكون المال في يد العبد الأجنبي، أذن له أن يشتري نفسه به ولم يملكه له، قلت: وهذا جيد أيضا (الثالث) أن يكون عتقا بصفة، تقديره: إذا قبضنا منك هذه الدراهم فأنت حر. قلت: وفيه بعد (الرابع) أن رضى سادته ببيعه نفسه بما في يده، وفعلهم ذلك معه إعتاق منهم، مشروط بتأدية ذلك إليهم، وصورته صورة البيع، ومعناه العتق بشرط الأداء، ويصير هذا كما لو قال: بعتك نفسك بخدمتي سنة. فإن منافعه مملوكة للسيد ويصح ذلك، وهذا أظهر الوجوه عند أبي محمد، لعدم احتياجه إلى تأويل، بخلاف غيره، قلت: ولا يخفى ما فيه من التكلف، والصورة المشبهة بها لا تشبه ذلك، لأن السيد لا يملك المنافع المستقبلة، وإنما تحدث والحال هذه على ملك العبد، وغايته أن السيد في هذه الصورة

(7/520)


رضي بإعتاقه بشيء يثبت له في ذمته، انتهى. وقوله: ليكتبوا له كتابا، فيه دليل على مشروعية كتابة الوثائق خوف التجاحد، وهو كذلك، والله أعلم.

قال: وإذا قال السيد: كاتبتك على ألفين، وقال العبد: على ألف. فالقول قول السيد مع يمينه.
ش: إذا اختلف السيد ومكاتبه في قدر مال الكتابة، فقال السيد مثلا، كاتبتك على ألفين، وقال المكاتب: بل على ألف. فالقول قول السيد مع يمينه، في إحدى الروايات، اختارها أبو محمد، في المغني، وقال القاضي: إنها المذهب. لأنه اختلاف في الكتابة، فكان القول قول السيد، كما لو اختلفا في أصلها (والرواية الثانية) القول قول المكاتب، نصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وصححها ابن عقيل في التذكرة، لأنه منكر، والقول قول المنكر، ومدعى عليه، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» وأجاب أبو محمد بأن المنكر إنما قدم قوله لأن الأصل معه، والأصل هنا مع السيد، إذ الأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده، وفيه نظر، إذ الاختلاف لم يقع في المكاتب ولا في كسبه، إنما وقع فيما حصل العقد عليه (والرواية الثالثة) يتحالفان ويتفاسخان الكتابة، اختارها أبو بكر، لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما، فوجب التحالف إذا لم تكن بينة

(7/521)


كالمتبايعين، وفرق أبو محمد بأن الأصل في البيع عدم ملك كل واحد منهما لما صار إليه، والأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده، فلذلك قبل قوله فيه، وقد تقدم الاعتراض على ذلك، قال: ولأن التحالف في البيع مقيد، بخلاف الكتابة، إذ الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة، ورد العبد إلى الرق، وهذا يحصل من جعل القول قول [السيد مع يمينه، قلت: وهذا بعينه في البيع لو جعل القول قول] البائع، وعلى هذه الرواية إن تحالفا قبل العتق فسخ العقد، إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه، وإن تحالفا بعد العتق رجع السيد بقيمته، ورجع العبد بما أداه، والله أعلم.

قال: وإذا أعتق الأمة أو كاتبها وشرط ما في بطنها له دونها، أو أعتق ما في بطنها دونها فله شرطه.
ش: إذا أعتق أمته أو كاتبها، وشرط ما في بطنها له دونها، فإنه يصح شرطه، ولا يعتق الحمل، ولا يتبع أمه في الكتابة، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» .
3919 - وروى الأثرم بسنده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أعتق أمة

(7/522)


واستثنى ما في بطنها. وقد احتج به أحمد فقال: أذهب إلى حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في العتق، ولا أذهب إليه في البيع.
3920 - ويروى ذلك أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا يعرف لهما مخالف، ويفارق البيع، إذ البيع عقد معاوضة، فاعتبر فيه صفات المعوض، ليعلم هل هو قائم مقام العوض أم لا، والعتق تبرع، لا تتوقف صحته على معرفة صفات المعتق ولهذا لم تنافه الجهالة، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه خرج صحة استثناء ذلك في العتق، على الروايتين في صحة الاستثناء

(7/523)


في البيع، والمشهور المنصوص - وهي طريقة القاضي في الجامع والروايتين وجماعة - عدم التخريج، والقطع بالصحة هنا، وأما إذا أعتق ما في بطنها دونها فيعتق، لأنه أعتق نسمة، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أعتق نسمة ولا تعتق الأم، لأنها ليست تابعة له، فلم تعتق بعتقه، كما بعد الولادة، وهذا هو المذهب (وعن أحمد رواية أخرى) لا يعتق حتى يولد في ملكه حيا، ولعل مدركها أن الحمل لا حكم له، والأول أن الحمل له حكم، فعلى هذه الرواية يكون كمن علق عتقه بشرط، فيجوز بيعه قبل وضعه تبعا لأمه، والله أعلم.

قال: ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته.
ش: وذلك كأن يصالحه على مائة مؤجلة بخمسين حالة، ونحو ذلك، لأن دين الكتابة غير مستقر، ولذلك لا يصح ضمانه، وليس بدين في الحقيقة، فكأن السيد أخذ بعضا وأسقط بعضا، وعكس هذا صورة لو اتفقا على الزيادة في الدين ليزيده في الأجل، كأن يحل عليه نجم، فيقول: أخرني به إلى كذا وأزيدك، فهل يصح ذلك؟ فيه احتمالان، ذكرهما في

(7/524)


المغني، فالصحة لما تقدم، وعدمها لشبهه بربا الجاهلية المحرم، وهو الزيادة في الدين للزيادة في الأجل. وقول الخرقي: ولا بأس. يشعر بأن الأولى ترك ذلك، وقد سئل أحمد عن ذلك في رواية حرب فقال: فيه خلاف، وأرجو. وقد ذكر أبو البركات في باب حكم الدين أن في جواز بيع دين الكتابة من الغريم وجهين، ثم جزم هنا في الصلح بالصحة، وذكر ذلك بلفظ المصالحة، فيحتمل أن يقال: لما كان بلفظ المصالحة كان بمعنى الإبراء من البعض، وسومح في ذلك للمكاتب، لتشوف الشارع إلى العتق.
قال: وإذا كان العبد بين اثنين، فكاتب أحدهما فلم يؤد كل كتابته حتى أعتق الآخر نصيبه وهو موسر، فقد صار العبد كله حرا، ويرجع الشريك على المعتق بنصف قيمته.
ش: قد تقدم أن للشريك مكاتبة حصته من العبد المشترك بدون إذن شريكه، فإذا فعل فأعتق الذي لم يكاتبه حصته قبل أن يؤدي كتابته وهو موسر، فهل يسري إلى نصيب شريكه المكاتب فيصير حرا؟ على وجهين (أحدهما) - وهو الذي قاله الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد، وحكاه

(7/525)


القاضي في روايتيه عن أبي بكر، وأورده الشيخان وابن حمدان مذهبا - يسري والحال ما تقدم، لأن المكاتب عبد كما تقدم، فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أعتق شركا له في عبد» الحديث (والثاني) - وهو قول القاضي، وحكاه أبو محمد عن أبي بكر - لا يسري، حذارا من إضرار الشريك بإبطال سبيل الولاء المنعقد له بالكتابة، والضرر منفي شرعا، نعم، إن عجز المكاتب ورد في الرق سرى إذا، لانتفاء المانع وأجيب عن هذا بأن العتق إذا أثر في الملك الثابت الذي الولاء من بعض آثاره، ففي الولاء أولى. انتهى. (فعلى الأول) يرجع الشريك على المعتق بنصف قيمة المكاتب، لإتلافه له بالعتق. وظاهر كلام الخرقي أنه يرجع بنصف قيمته مكاتبا، وهو إحدى الروايتين، وبه قطع أبو محمد، لأن الذي أتلفه هو مكاتب (والرواية الثانية) يضمنه بما بقي عليه، لأنه لم يفوت على السيد أكثر من ذلك، وعلى هذه قال السامري يكون الولاء بينهما، لكل واحد منهما بقدر ما عتق منه، قال ابن أبي موسى. انتهى. وقال أحمد في رواية بكر بن محمد - في عبد بين شريكين، كاتباه على ألف درهم، فأدى إليهما تسعمائة درهم،

(7/526)


لهذا أربعمائة وخمسين، ولهذا أربعمائة وخمسين، ثم إن أحدهما أعتق نصيبه، قال - إن كان للمعتق مال أدى إلى شريكه نصف قيمة العبد، لا يحاسبه بما أخذ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم. وهذا يحتمل - أو هو الظاهر منه - أنه يضمنه بقيمته عبدا، ويجري هذا على ما تقدم من أن العتق إذا وقع في الكتابة أبطلها، لكن ثم العتق من المكاتب، وهنا من غيره والله أعلم.

قال: وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وقد كان تصدق عليه بشيء فهو لسيده.
ش: كلام الخرقي يشمل جميع الصدقات، وهو كذلك في صدقة التطوع والوصية ككسبه، أما الزكاة ففيها روايات (إحداها) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - الحكم كذلك، لأنه يأخذ لحاجته، فأشبه الفقير والمسكين (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي بكر والقاضي - يرد إلى أربابه، لأنه أخذه ليصرفه في العتق، فإذا لم يصرف فيه رد، كالغازي إذا لم يغز (والرواية الثالثة) يؤخذ ما في يده فيجعل

(7/527)


في المكاتبين، نقلها حنبل، لأنه جعل ذلك لله، فلا يرجع له، بل يجعل في تلك الجهة، والحكم في موت المكاتب وعتقه كالحكم في عجزه، أما ما أداه إلى السيد قبل العجز فلا يرجع بحال، لصرفه للجهة التي أخذه لها، ولا فرق فيما تقدم بين أن يكون عين ما تصدق عليه به باقيا، أو قد اشترى به عوضا ثم عجز وهو في يده، لأنه بدله، فأعطي حكمه، وأما غير الزكاة من الصدقات المفروضات، فكلام أبي محمد في المغني يقتضي جريان الخلاف فيها، وأبو البركات خص الخلاف في الزكاة، والله أعلم.

قال: وإذا اشترى المكاتبان كل واحد منهما الآخر صح شراء الأول، وبطل شراء الثاني.
ش: أما صحة شراء الأول فلأن تصرفه صحيح، وبيع السيد مكاتبه جائز، فالمقتضي موجود، والمانع منتف، وأما بطلان شراء الثاني فلقيام المانع، وهو أنه قد صار عبدا للذي اشتراه أولا، فلو صححنا شراءه لكان سيدا له، فيكون مملوكا سيدا وإنه ممنوع، حذارا من تناقض الأحكام، ولو لم يعلم الأول منهما فقال أبو بكر وأبو الخطاب وأبو محمد وغيرهم: يبطل البيعان، إذ كل منهما مشكوك في صحته، فرجع إلى الأصل فيهما، وأجراه القاضي مجرى الوليين، فعلى هذا يفسخ الحاكم

(7/528)


البيعين في رواية، وفي أخرى يقرع بينهما، وعلى الأول لا فسخ ولا قرعة، والله أعلم.

قال: وإن شرط في كتابته أن يوالي من شاء فالولاء لمن أعتق، والشرط باطل.
ش: أما كون الولاء لمن أعتق والحال هذه فلحديث بريرة المتقدم «الولاء لمن أعتق» «إنما الولاء لمن أعتق» وأما بطلان الشرط فلحديث بريرة أيضا «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» ولأن ذلك نقل للولاء عن محله، وقد ورد النهي عن نقل الولاء.
3921 - فصح «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع الولاء وهبته» ، ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يبطل بذلك، وأن البطلان يختص بالشرط، وهو منصوص أحمد، لحديث بريرة، فإن أهلها اشترطوا لهم الولاء، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صحح البيع، وخرج الفساد من الشرط الفاسد في البيع، والله أعلم.

قال: وإذا أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل، فأخرجه إلى سيده، وأحب أخذه أخذه بما اشتري به وهو على كتابته، وإن لم يحب أخذه فهو على ملك مشتريه، مبقى على ما بقي من

(7/529)


كتابته، ويعتق بالأداء، وولاؤه لمن يؤدي إليه.
ش: هذا مبني على قواعد ثلاث (إحداها) أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر، وهو المذهب (الثانية) أن المكاتب يصح نقل الملك فيه، وهو المذهب أيضا (الثالثة) أن من وجد ماله من مسلم أو معاهد بيد من اشتراه منهم فهو أحق بثمنه، وهو المشهور. إذا عرف هذا فإذا أسر الكفار المكاتب، فاشتراه رجل فوجده سيده، فهو مخير إن شاء أخذه بما اشتري به، وإن شاء تركه، لما تقدم في الجهاد، فإن أخذه فهو على كتابته، إذ الكتابة عقد لازم، لا تبطل بالبيع فبالأسر أولى، وإن لم يأخذه فقد استقر الملك فيه لمشتريه، فيكون مبقى على ما بقي من كتابته، لما تقدم من بقاء الكتابة مع ذلك، وإذا يعتق بالأداء كغيره من المكاتبين، وولاؤه لمن أدى إليه، من مكاتبه الأول أو مشتريه، لأنه المعتق له، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» .
(تنبيه) قد تقدم أن الكتابة لا تبطل بالأسر، لكن هل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها مع الكفار؟ على وجهين، فإن قيل لا يحتسب لغت مدة الأسر، وبنى على ما مضى، وإن قيل بالاحتساب فحل عليه ما يجوز تعجيزه بترك أدائه فلسيده

(7/530)


تعجيزه، وهل له ذلك بنفسه أو بحكم الحاكم؟ فيه وجهان، وعلى كليهما متى خلص فأقام بينة بوجود مال له وقت الفسخ يفي بما عليه، فهل يبطل الفسخ أو لا بد مع ذلك من ثبوت أنه كان يمكنه أداؤه؟ فيه قولان، والله أعلم.

(7/531)