شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب عتق أمهات الأولاد]
ش: (أمهات) واحدتها، أم، وأصلها أمهة، فلذلك جمعت على أمهات باعتبار الأصل، وأمات باعتبار الواحدة، وقيل: الأمهات: للناس، والأمات للبهائم، وقد أشعر كلام المصنف في الباب بجواز التسري ووطء الإماء، وهو إجماع لا ريب فيه، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] واستفاض أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استولد مارية القبطية أم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعملت الصحابة على ذلك، فاتخذ عمر وعلي وكثير من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أمهات الأولاد والله أعلم.

[أحكام أمهات الأولاد]
قال: وأحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن، إلا أنهن لا يبعن.

(7/532)


ش: أما كون أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن، عدا ما استثناه فلأنها مملوكة، فأشبهت القن.
3922 - ودليل الوصف ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه، أو قال من بعده» . رواه أحمد وابن ماجه، وفي لفظ: «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه، أو قال: من بعده» رواه أحمد فدل على أنها قبل ذلك باقية على الرق، فعلى هذا لسيدها كسبها وإجارتها، وتزويجها وعتقها، ووطؤها ونحو ذلك من أحكام الإماء، ولا يرد عليه كونها لا تورث، بل تعتق بموت سيدها، ويحد قاذفها، وتستتر سترة الحرة على رواية فيهما، لذكر المصنف عقب هذا، نعم يرد عليه تدبيرها فإنه لا يصح، لانتفاء فائدته، ولهذا لو طرأ الاستيلاد على التدبير أبطله، قاله ابن حمدان.

(7/533)


قلت: يصح إن جاز بيعها، وقلنا: التدبير عتق بصفة، وقد يرد عليه ما أشعر به كلام أحمد في رواية أبي طالب، وسأله: هل يطأ مكاتبته قال: لا يطؤها لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، فجعل العلة في امتناع الوطء منع [البيع، والبيع هنا ممنوع كما سيأتي، لكن المعروف في المذهب خلاف هذا، وأنه يجوز الوطء، وقد يرد عليه أيضا ما ينقل الملك غير] البيع كالهبة ونحوها، أو يراد للنقل كالرهن، فإنه لا يجوز، مع أنه لم يستثن إلا البيع، وقد يقال: إنه استثنى البيع وهذه في معناه.
3923 - وأما كون أمهات الأولاد لا يبعن فلما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: «لا يبعن ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع منها السيد ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة» رواه الدارقطني وهو نص، ورواه مالك في الموطأ، والدارقطني من طريق آخر عن ابن عمر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من قوله، قال أبو البركات: وهو أصح.

(7/534)


3924 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أعتقها ولدها» رواه ابن ماجه والدارقطني.

(7/535)


3925 - ويؤيد هذا ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنكم لتفعلون ذلك؟ لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك، فإنها ليست نسمة كتب الله عز وجل أن تخرج إلا وهي خارجة» رواه أحمد والبخاري.
3926 - وروى البخاري عن عمرو بن الحارث، أخي جويرية بنت الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة» .

(7/536)


3927 - وروى سعيد في سننه: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة عن الشعبي، عن عبيدة قال: خطب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الناس فقال: شاورني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال عبيدة: فرأي علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الجماعة، أحب إلينا من رأي علي وحده. وهذا دليل الإجماع. وحكى جماعة عن أحمد رواية أخرى: يجوز بيعهن مع الكراهة، أخذا من قول أحمد في رواية ابنه صالح وسأله: إلى أي شيء تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال: أكرهه، وقد باع علي بن أبي طالب. وفي رواية ابن منصور وقال: لا يعجبني

(7/537)


بيعهن.
3928 - لما «روى أبو الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمعه يقول: كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا حي، لا يرى بذلك بأسا» . رواه أحمد وابن ماجه.
3929 - وعن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وأبي بكر، فلما كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

(7/538)


نهانا فانتهينا، رواه أبو داود، وإنما كره ذلك أحمد للاختلاف فيه، كما أشعر به كلامه، ولا ريب أن المذهب هو الأول، وقد امتنع أبو محمد من حكاية ما تقدم رواية، وقال: إن السلف يطلقون الكراهة على التحريم. وقال: إن قول جابر ليس بصريح في أن ذلك كان بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بعلم أبي بكر، بل وقع ذلك من فعلهم على انفرادهم، توفيقا بين الأدلة، وإذا لا حجة فيه، وأجاب غيره بأنه كان مباحا ثم نهي عنه، ولم يظهر النهي لمن باعها، ولا علم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمن باع لقصر مدته، واشتغاله بأهم أمور الدين، ثم ظهر ذلك زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأظهر النهي والمنع اعتمادا على النهي، لامتناع النسخ بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. وتقدم الإشعار بأن حكم الهبة والرهن ونحو ذلك حكم البيع، والله أعلم.

قال: وإذا أصاب الأمة وهي في ملك غيره بنكاح فحملت منه ثم ملكها حاملا عتق الجنين، وكان له أن يبيعها.

(7/539)


ش: (أما عتق الجنين) فلأنه من ذي رحمه المحرم، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» الحديث، والخرقي صور المسألة في النكاح، وكذلك حكم وطء الشبهة، نظرا للحوق النسب، بخلاف الزنا فإن النسب لا يلحق به، فلا يعتق الولد على المذهب المنصوص، (وأما كون له بيعها) فمبني على أن من شروط صيرورة الأمة أم ولد أن تحمل في ملكه، وهذا إحدى الروايات، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، وبه قطع القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم، واختاره أبو محمد، لما تقدم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من وطئ أمته فولدت له وهذا لم يطأ أمته، فلم يدخل في الحديث، ولأن الأصل الرق، خولف فيما إذا حملت منه في ملكه، فيبقى فيما عداه على الأصل (والرواية الثانية) لا يشترط ذلك، بل متى وطئها ثم ملكها ولو بعد وضعها صارت أم ولد حكاها ابن أبي موسى، لأنه يصدق عليها إذا أنها أم ولد له، وهو مالك لها، فأشبهت التي حملت في ملكه، قال أبو محمد: ولم أجد ذلك عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها، إنما نقل عنه مهنا التوقف، فقال: لا أقول فيها شيئا (والرواية

(7/540)


الثالثة) إن ملكها حاملا [صارت أم ولد، وإلا فلا، اعتبارا بأن الإيلاد في الملك (والرواية الرابعة) إن ملكها حاملا ووطئها، وكان الوطء يزيد في الولد] صارت أم ولد، وإلا فلا، نقلها صالح.
3930 - لأنه مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أبعد ما اختلطت دماؤكم ودماؤهن، ولحومكم ولحومهن بعتموهن.
فعلل بالمخالطة، والمخالطة هنا حاصلة، إذ الماء يزيد في الولد، وهذه اختيار القاضي على ما حكاه عنه أبو محمد، وابن حامد، إلا أن ابن حامد جعل الزيادة بأن يطأها في ابتداء الحمل أو توسطه، والقاضي قيد ذلك بأن يطأها قبل تمام خمسة أشهر.
(تنبيه) قد تقدم أنه هل من شرط صيرورة الأمة أم ولد أن تحمل في ملكه أم لا؟ وهذا يدخل فيه ولو وطئها بزنا، وصرح به أبو الخطاب في الهداية، وابن حمدان، وأبو محمد في الكافي،

(7/541)


وكلامه في المغني يقتضي نفي الخلاف من هذه الصورة، لأنه جعل ذلك أصلا، وقاس عليه المنع، وكذلك قاس عليه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والله أعلم.

قال: وإذا علقت منه في ملكه، ثم وضعت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان كانت له بذلك أم ولد.
ش: أي وإذا علقت الأمة منه، وهذا يعطي أنه يشترط في صيرورة الأمة أم ولد شروط ثلاثة أحدها أن تعلق بحر، لأنه الذي حكم له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحريتها به، «وقال في أم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أعتقها ولدها» ونحو ذلك، ويخرج من ذلك ما إذا علقت أمته بمملوك [وذلك في موضعين (أحدهما) العبد إذا ملكه السيد أمة، وقلنا يملك، فإن ولده مملوك] ولا يثبت لأمه حكم المستولدات (الثاني) المكاتب إذا استولد أمته فإن الولد يتبعه، فيصير حكمه حكمه كما تقدم، وهل تتبعه الأمة، فتصير أم ولد إن أدى أم لا؟ فيه وجهان تقدما. (الشرط الثاني) أن يكون العلوق وهي في ملكه، فيخرج منه ما إذا علقت منه وليست في ملكه، وقد تقدم هذا الشرط قبل، فلا حاجة إلى إعادته، وقد يورد عليه الأمة المشتركة إذا أولدها الشريك، إذ

(7/542)


مقتضى كلامه هنا كون جميعها في ملكه، لكن قد تقدم هذا له فلا يرد عليه، وقد يورد عليه أيضا الوالد إذا وطئ أمة ولده فحملت منه، فإن الملك ينتقل له إذا وتصير أم ولد، فحال العلوق لم تكن مملوكة له، وقد يقال: إن بالعلوق تبينا الملك سابقا قبله، ويدخل في عموم كلام الشيخ كل مملوكة له، وإن حرم وطؤها، كالمكاتبة غير المشترط وطؤها، وقد تقدم له ذلك، وكالمجوسية والوثنية، والمحرمة لرضاع، أو حيض، أو ظهار، ونحو ذلك، وكالمزوجة، صرح بذلك أبو محمد هنا، لكن اختلف كلامه في أنه هل يلحقه نسب الولد؟ فقطع في النكاح بعدم لحوق النسب له، وهو منصوص أحمد في رواية حرب ومحمد بن حرب، ومقتضى كلام أبي محمد هنا لحوق النسب له، لأنه حكم بحرية الولد، وهو الذي قاله القاضي في المجرد، معتمدا على ما إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة، وإذا يمنع صيرورتها أم ولد، لانتفاء لحوق النسب، كما تقدم في المزني بها إذا ملكها بعد. (الشرط الثالث) أن تضع ما يبين فيه بعض خلق الإنسان، كأن تضع رأسا أو رجلا أو أصبعا أو تخطيطا له، أو بطريق الأولى إذا وضعت إنسانا، لأن بذلك يعلم أنه ولد، فيتحقق صيرورتها أم ولد.
3931 - وقد روى أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد، عن سفيان،

(7/543)


عن أبيه عن عكرمة، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: أم الولد أعتقها ولدها، وإن كان سقطا، فيه إرسال، وروي عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وروي عن ابن عباس مرفوعا.
3932 - وكذلك روى الأثرم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أعتقها ولدها وإن كان سقطا. وكلام الخرقي يشمل وإن كان ميتا، وهو كذلك لما تقدم، ويشمل ما إذا وضعت جسما لا تخطيط فيه، فشهدت القوابل أن فيه صورة حقيقة، وهو كذلك، لأنه قد تبين فيه خلق الإنسان بشهادتهن، ويخرج منه ما إذا

(7/544)


وضعت مضغة لا تخطيط فيها لا ظاهرا ولا بالبينة، وله حالتان (إحداهما) لم يعلم كونه مبتدأ خلق آدمي، فلا تصير به أم ولد، اعتمادا على الأصل (الثانية) علم أنه مبتدأ خلق آدمي، بشهادة القوابل أو غير ذلك، ففيه روايتان (إحداهما) وهي ظاهر كلام الخرقي وجماعة لا تصير بذلك أم ولد؛ قال في رواية جماعة: تعتق الأمة إذا تبين وجهه أو يده، أو شيء من خلق الإنسان، لأن ذلك يسمى ولدا، وعتقها مشروط بصيرورتها أم ولد (والثانية) تصير بذلك أم ولد، لأنه مبدأ خلق آدمي، أشبه ما لو تبين، ونقل حنبل عن أحمد: إذا أسقطت أم الولد فإن كان خلقه بائنا عتقت، وانقضت به العدة، إذا دخل في الخلق الرابع، بنفخ الروح، فظاهر هذا أنه يشترط مع التبيين تمام أربعة أشهر، ولا نزاع أنها إذا ألقت نطفة لا تصير بها أم ولد، وكذلك عند جماعة إذا ألقت علقة؛ حتى إن أبا البركات وأبا محمد في الكافي قطعا بذلك، ونص أحمد في رواية مهنا، ويوسف بن موسى أنها تصير بها أم ولد، قال: إذا ألقت مضغة

(7/545)


أو علقة تعتق، وإن لم تتم أربعة أشهر، بعد أن يرى خلقه، ويعلم أنه ولد.
(تنبيه) قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، تعتق الأمة إذا تبين وجهه. مجاز باعتبار ما يئول إليه، وهو «كقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أم إبراهيم: «أعتقها ولدها» أي أنه كان السبب في عتقها، إذ لا نعلم أحدا قال يتنجز العتق فيها في الحمل، والله أعلم.

قال: فإذا مات فقد صارت حرة وإن لم يملك غيرها.
ش: أما صيرورتها حرة بموت سيدها فلما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه» «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أم إبراهيم: «أعتقها ولدها» ونحو ذلك، وأما عتقها من رأس المال فلظاهر ما تقدم، وهذا كله إن لم يجز بيعها على المذهب، أما إن جاز بيعها فقطع أبو محمد بأنها لا تعتق بموته، وظاهر إطلاق غيره يقتضي العتق، ولهذا قدمه ابن حمدان، قال: وقيل إن جاز له بيعها لم تعتق عليه بموته، وكلام الخرقي يشمل وإن كانت كافرة فاجرة، أو كان السيد كذلك، وهو كذلك، نظرا للعموم السابق، والله أعلم.

(7/546)


قال: وإذا صارت الأمة أم ولد بما ذكرنا، ثم ولدت من غيره، كان له حكمها في العتق بموت سيدها.
ش: نص أحمد على ذلك، اقتداء بالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
3933 - فقال: قال ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيرهما: ولدها بمنزلتها. وكلام الخرقي يشمل وإن ماتت الأم، وهو كذلك، لأن سبب الحرية قد انعقد، وهو سبب بنفس العتق، فكما لا يرتفع العتق بعد وقوعه، كذلك سببه وأورد على هذا المكاتبة يتبعها ولدها في الكتابة، فإذا بطلت الكتابة في الأم بطلت في الولد، وأجيب بأن سبب العتق فيها إما الأداء في

(7/547)


العقد، أو وجود الصفة، وببطلان الكتابة يتعذر كل واحد منهما، والسبب في أم الولد موت سيدها، ولا يتعذر ذلك بموتها، ويورد على هذا الفرق المعلق عتقها بصفة، فإن موت الأم ونحوه لا يتعذر معه وجود الصفة، ومع هذا لا يعتق الولد. وقول الخرقي: ثم ولدت، يخرج منه ما ولدته قبل الاستيلاد، وهو كذلك، لأنه لا يتبع في العتق المنجز، ففيما هو سبب له أولى، ويتخرج رواية بالتبعية من الرواية الضعيفة في ولد المدبرة.
قال: وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من وطئها والتلذذ بها.
ش: حذارا من أن يطأ مشرك مسلمة، وإنه ممنوع بلا ريب، قال سبحانه: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . ومقتضى كلام الخرقي أن ملكه يقر عليها والحال هذه، وهو المذهب المختار لأبي بكر، والقاضي، وأبي الخطاب والشريف، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم، لأن عتقها مجانا فيه إضرار بالسيد، وبالسعاية فيه إضرار بها، لإلزامها الكسب بغير

(7/548)


رضاها، والضرر منفي شرعا، ونقل الملك فيها ممتنع لما تقدم (وعن أحمد) رواية أخرى - قال القاضي: نقلها مهنا - تستسعى في قيمتها ثم تعتق، لأن بيعها وعتقها مجانا منتفيان لما تقدم، وكذلك إقرار الملك عليها، لما فيه من إقرار ملك الكافر على المسلم، فسلك بها طريقة وسطى، وهي الاستسعاء، وحكى في الكافي (رواية ثالثة) أنها تعتق بإسلامها من غير استسعاء، وقال: نقلها مهنا. ولا أعلم له سلفا في ذلك، على أن أبا بكر لم يثبت الثانية، فقال: أظن أن أبا عبد الله أطلق ذلك لمهنا على سبيل المناظرة للوقت. ومقتضى كلامه أيضا أنه يصح إيلاد الذمي، وهو كذلك، بل والحربي، كما يصح عتقهم، ومن ثم قال المجد: إذا أسلمت أم ولد الكافر.
(تنبيه) الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - منع من الوطء ونحوه، وظاهره أنه إن أمكن ذلك من غير إحالة بينهما لا يحال بينهما، وقال الشيخان وغيرهما: يحال بينه وبينها، والله أعلم.

(7/549)


قال: وأجبر على نفقتها.
ش: لأنه مالك لها، ونفقة المملوك على سيده، وهذا هو المذهب المعروف، والمنصوص من الروايتين (والثانية) لا تجب عليه نفقتها، قال في رواية الميموني - وسئل: من أين تنفق؟ قال: من أين كانت تنفق لو مات عنها. وبنى أبو البركات هذه الرواية على القول بوجوب الاستسعاء وهو حسن، وتبعه على ذلك ابن حمدان، ثم إن القاضي جعل وجوب النفقة على السيد منوطا بما إذا لم يكن لها كسب، أما إن كان لها كسب فإن النفقة تجب فيه، حذارا من أن يبقى له عليها ولاية بأخذ كسبها، وتبعه على ذلك جماعة من الأصحاب، وعلى هذا إن فضل منه شيء فهو للسيد، واختار أبو محمد في مغنيه أن نفقتها على سيدها، وكسبها له، يصنع به ما شاء، وهو ظاهر كلام الخرقي، وكلام أحمد في رواية ابن منصور، قال: يمنع من غشيانها، ونفقتها عليه، والله أعلم.
قال: فإن أسلم حلت له.
ش: لزوال المانع من الحل وهو الكفر والله أعلم.
قال: وإن مات قبل ذلك عتقت.

(7/550)


ش: إذا مات قبل الإسلام عتقت، لأنها أم ولد، وشأن أم الولد العتق بموت سيدها لما تقدم، والله أعلم.

قال: وإذا عتقت أم الولد بموت سيدها فما كان في يدها من شيء فهو لورثة سيدها.
ش: لأن أم الولد كما تقدم حكمها حكم الإماء، إلا ما استثني، فما في يدها من كسب أو غيره فهو لسيدها، فإذا مات وعتقت انتقل ما في يدها لورثة سيدها، كما في يد المدبرة، والله أعلم.

قال: وإذا أوصى لها بما في يدها كان لها إذا احتمله الثلث.
3934 - ش: لما روى الإمام أحمد وسعيد، عن هشيم: حدثنا حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى لأمهات أولاده بأربعة ألاف درهم، ولأنها في حال نفوذ

(7/551)


الوصية لها حرة، وهو المعتبر مع أن أبا محمد قال: لا نعلم فيه خلافا، وقوله: إذا احتمله الثلث، مبني على ما تقدم، من أن الوصايا كلها تعتبر من الثلث، فإن لم يحتمله وقف الزائد على إجازة الورثة كما تقدم.
قال: وإذا مات عن أم ولده فعدتها حيضة.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في العدد، فلا حاجة إلى إعادتها، والخرقي سمى ذلك عدة، وغيره يقول استبراء، ولا نزاع في المعنى، إذ هما يشتركان في منع النكاح بدونهما، ومعرفة براءة الرحم بهما.

[جناية أم الولد]
قال: وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو بدونها.
ش: إذا جنت أم الولد وجب على سيدها فداؤها، لأنها مملوكة له، يملك كسبها لم يسلمها، فلزمه أرش جنايتها كالقن، وفي ما يفديها به روايتان (إحداهما) وهي المذهب هو الأقل من قيمتها أو دونها، إن كان ذلك قدر أرش جنايتها، لأن الأقل إن كان القيمة فالمجني عليه لا يستحق أكثر منها، لأن حقه متعلق بالرقبة، والقيمة بدل عنها، وإن كان الأرش فهو لا يستحق أكثر منه، لأن الإنسان لا يستحق أكثر مما جني عليه (والثانية) يفديها بأرش الجناية بالغة ما بلغت، لمنعه من

(7/552)


تسليمها بسبب من جهته، وقول الخرقي: فداها. [فيه] إشعار بأن جنايتها تتعلق برقبتها، وهو كذلك، كالأمة القن، ومن ثم لو ماتت قبل فدائها سقط الفداء، لتلف متعلقه، واعتبرت قيمتها يوم الفداء، وتجب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد.
قال: فإن عادت وجنت فداها وليها كما وصفت.
ش: إذا عادت أم الولد فجنت لزم سيدها فداؤها أيضا، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، القاضي وأصحابه، وأبي محمد وأبي بكر، حتى قال: ولو ألف مرة. وذلك لأنها أم ولد جانية، فلزمه فداؤها كالأول، وإذا يفديها كما فداها أولا، وهو الأقل من قيمتها أو دونها على المذهب، وعلى الرواية الضعيفة بالأرش كله (والرواية الثانية) لا يلزمه فداؤها بعد أن فداها أولا، ويتعلق ذلك بذمتها، تتبع به إذا عتقت، حذارا من إضرار السيد بتكرار الفداء عليه، مع منعه من بيعها، ولأنها جانية، فلم يلزم السيد أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها، وعلى هذه قال ابن حمدان قلت: يرجع الثاني على الأول بما يخصه، مما أخذه، وهذا مذهب الشافعي ثم إن أبا

(7/553)


الخطاب في هدايته، وأبا محمد في مقنعه وكافيه، وأبا البركات أطلقوا هذه الرواية، وقيدها القاضي في روايتيه، وأبو محمد في مغنيه، حاكيا له عن أبي الخطاب، وابن حمدان في رعايتيه، بما إذا فداها أولا بقيمتها، ومقتضى هذا أنه لو فداها أولا بأقل من قيمتها، لزمه فداؤها بما بقي من القيمة بلا خلاف.
(تنبيه) لو لم يفدها أولا حتى جنت ثانيا تعلق الجميع برقبتها، ولم يكن على السيد في الكل إلا الأقل من قيمتها أو أرشها، يشترك المجني عليهم فيه، والله أعلم.

[وصية الرجل لأم ولده]
قال: ووصية الرجل لأم ولده جائزة، وله تزويجها وإن كرهت.
ش: هذا أفاد مسألتين (إحداهما) أن لسيد أم الولد تزويجها (والثانية) أن له إجبارها، وذلك لأنها أمة كما تقدم، يملك

(7/554)


الاستمتاع بها واستخدامها، فملك ذلك، كالأمة القن.
3935 - مع أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، وهذه المسألة داخلة في عموم قوله: أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء، وإنما نص على ذلك لخلاف العلماء في ذلك، إذ منهم من منع مطلقا، ومنهم من أجازه ومنع الإجبار، وكلا القولين للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والله أعلم.

[قذف أم الولد]
قال: ولا حد على من قذفها.
3936 - ش: هذا منصوص أحمد قال: ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: عليه الحد، وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هي أمة،

(7/555)


أحكامه أحكام الإماء، وقد أشار أحمد في النص إلى التعليل، وهو أن حكمها حكم الإماء، فكذلك في القذف، بل أولى، لأن الحد يحتاط لإسقاطه، ويدرأ بالشبهة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب (وعن أحمد) رواية أخرى: عليه الحد، نقلها أبو طالب، فقال: إذا كان لها ابن يحد، إنما أراد ابنها، واحتج بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهذه الرواية أيضا معللة من أحمد، ثم إن كثيرا من الأصحاب يطلق هذه الرواية، وظاهرها أنها مقيدة بما إذا كان لها ولد، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، قال بعد أن حكاها: فأوجب الحد لا لأجلها، لكن لأجل ما يقدح في نسب ولدها، وعلى هذا ينتفي الخلاف إذا لم يكن لها ولد، فيكون المذهب رواية واحدة أنه لا يحد قاذفها، ويكون محل الخلاف فيما إذا كان لها ابن حر، واشترط حرية الابن، وإن لم يكن في نص أحمد، لكنه معلوم قطعا، إذ صيرورتها أم ولد مشروط بذلك كما تقدم. وينبغي إجراء الروايتين فيما إذا كان لها زوج حر، وكذلك ينبغي إجراؤها

(7/556)


في الأمة القن، والحال ما تقدم، ونظير ذلك لو قذف أمة أو ذمية لها ابن أو زوج مسلمان، فهل يحد؟ على روايتين، ذكرهما أبو البركات، وغيره، وينبغي أن يقيد الابن والزوج بأن يكونا حرين والله أعلم.

قال: وإن صلت أم الولد مكشوفة الرأس كره لها ذلك وأجزأها.
ش: قد تقدم ذلك في الصلاة، فلا حاجة إلى إعادته، إلا أنه ثم قال: يستحب أن تغطي رأسها. ونص هنا على أن تركها المستحب يكون مكروها، فقد يؤخذ من كلامه أنه حيث نص على الاستحباب يكون تاركه فاعلا لمكروه، وإن لم يكن في كلامه ما يخالف ذلك، والله أعلم.

قال: وإن قتلت أم الولد لسيدها فعليها قيمة نفسها والله أعلم.
ش: لأن الجناية وجدت منها وهي مملوكة، وجناية المملوك لا يجب فيها أكثر من قيمته، ولم تستقر وهي حرة، وإنما وجد الاستقرار والحرية في حال واحدة، فلم يتقدم شرط وجوب دية حر وهو حريتها، وقد أطلق الخرقي والقاضي وجماعة من

(7/557)


أصحابه، وأبو محمد في كتبه، أن عليها قيمة نفسها، وقال أبو الخطاب في كتابيه، وأبو البركات، وابن حمدان: عليها الأقل من قيمتها أو أرش جنايتها، ولعل إطلاق الأولين محمول على الغالب، إذ الغالب أن قيمة الأمة لا تزيد على دية الحر، وقد حكى ابن المنجا عن أبي محمد في المغني أنه قال فيه: يجب أن يقال الواجب الأقل. ولم أر ذلك في المغني الذي بأيدينا، وهذا كله فيما إذا اختار الولي المال، أو كانت الجناية خطأ، أما إن كانت عمدا واختار الولي القصاص فله ذلك، لأن سيدها أكفى منها بلا ريب، نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كان ولدها موجودا، فإنه إن كان الوارث وحده فلا قصاص، لانتفاء وجوب القصاص للابن على والده، وكذلك إن كان معه غيره، لأنه يرث بعض الدم، وإذا يسقط القصاص لعدم تبعيضه، هذا هو المذهب، وقد توقف أحمد عن هذه المسألة في رواية مهنا، ونقل عنه في موضع آخر أنه يقتلها أولاده من غيرها.

(7/558)


ومقتضى كلام الخرقي أنها تعتق والحال ما تقدم، وهو كذلك، لأن المقتضي لعتقها زوال ملك سيدها بالموت، وقد زال، فإن قيل: ينبغي أن لا تعتق، كما منع القاتل الميراث، لاستعجالها ما أجل لها؟ قيل: إذا لم تعتق يلزم نقل الملك فيها، وإنه ممتنع، وفيه نظر، لأن الاستيلاد كما هو سبب للعتق بعد الموت، كذلك النسب سبب للإرث، فكما جاز تخلف الإرث مع قيام السبب بالنص، فكذلك ينبغي أن يتخلف العتق مع قيام سببه، لأنه مثله، وقد قيل في وجه الفرق أن الحق وهو الحرية لغيرها، فلا تسقط بفعلها، بخلاف الإرث فإنه تمحض حقها، وأورد عليه المدبرة، يبطل تدبيرها إذا قتلت سيدها، وإن كان الحق لغيرها، وأجيب بضعف السبب في المدبرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور، وله الحمد والمنة على ما أنعم به من خزائن فضله التي لا نفاذ لها ولا يطلب لها أجور، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي شريعته باقية على مر الدهور، وعلى آله وصحابته نجوم الهدى ولهم النصيب الأعلى من الأجور، كلما ذكره الذاكرون، وسها عنه الغافلون ورضي الله عن كل الصحابة أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(7/559)