كشف المخدرات والرياض المزهرات لشرح أخصر المختصرات

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه العون

الْحَمد لله الَّذِي شرح صدر من أَرَادَ بِهِ خيرا للتفقه فِي الدّين، وأعز الْعلم وَرفع أَهله العاملين بِهِ الْمُتَّقِينَ، فسبحانه من إِلَه، من توكل عَلَيْهِ كَانَ من الفائزين، أَحْمَده وأشكره على نعم لَا تحصى وإياه أستعين، وأستغفره وَأَتُوب إِلَيْهِ إِنَّه يحب التوابين والمستغفرين.
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ فِي الْعَالمين، وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله الْأمين، وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وعَلى آله الطاهرين، وعَلى أَصْحَابه نُجُوم الدّين، الَّذين جاهدوا فِي الله حق جهاده وبذلوا نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ حَتَّى أَقَامُوا دينه وتمسكوا بحبله المتين، وعَلى تابعيهم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين، وَسلم تَسْلِيمًا.
وَبعد: فَإِن الِاشْتِغَال بِعلم الشَّرِيعَة الشَّرِيفَة من أجل الْعُلُوم قدرا، وَأَعْظَمهَا فخرا، خُصُوصا علم الْحَلَال وَالْحرَام، الَّذِي بِهِ قوام الْأَنَام، لِأَنَّهُ تحصل بِهِ سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ويبلغ صَاحبه ببركته الْمَرَاتِب الفاخرة.
وَلما رَأَتْ الْكتاب الموسوم ب " أخصر المختصرات " تأليف الشَّيْخ الإِمَام والحبر الْعُمْدَة العلام، فريد عصره وزمانه، ووحيد دهره وأوانه، شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وزين الْعلمَاء العاملين، عُمْدَة أهل التَّحْقِيق،

(1/33)


وزبدة أهل التدقيق، مُحَمَّد بن بدر الدّين بن عبد الْقَادِر بن بلبان الخزرجي القادري الْحَنْبَلِيّ - صَاحب الْفَضَائِل الجمة وَالْقدر الْعلي، أهطل الله عَلَيْهِ سحائب لطفه ورضوانه، ومتعه بلذيذ رُؤْيَته فِي أَعلَى جناته - فِي غَايَة الوقع الحميد، وَعظم النَّفْع للمريد، غير أَنه يحْتَاج إِلَى شرح يكْشف عَن وُجُوه مخدراته النقاب، يبرز مَا خَفِي من مكنوناته وَرَاء الْحجاب، فاستخرت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن أشرحه شرحا لطيفا، لَيْسَ بالطويل الممل، وَلَا بالقصير المخل، إِذْ الهمم قد قصرت، وَالرَّغْبَة فِي طلب الْعلم قد فترت.
وشمرت عَن ساعد الِاجْتِهَاد، وَطلبت مِنْهُ المعونة والسداد، وَالْهِدَايَة إِلَى سَبِيل الرشاد، وَأَسْتَغْفِر الله تَعَالَى عَمَّا يَقع لي من الْخلَل فِي بعض الْمسَائِل، فَإِن الْإِنْسَان مَحل النسْيَان، وأسال من وقف عَلَيْهِ أَن يستر زللي، فَإِن بضاعتي مزجاة وَلست من أهل هَذَا الميدان، وَلَكِن علقته لنَفْسي وَلمن شَاءَ الله تَعَالَى من بعدِي من الإخوان، وَأَعُوذ بِاللَّه من شَرّ الْحَسَد والطغيان.
وأسأله تَعَالَى أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، مُوجبا للفوز لَدَيْهِ بجنات النَّعيم، إِنَّه أكْرم الأكرمين، وأرحم الرَّاحِمِينَ، ذُو الْجُود والامتنان، وسميته: " كشف المخدرات والرياض المزهرات لشرح أخصر المختصرات ".
وَالله المسؤول أَن ينفع بِهِ كَمَا نفع بِأَصْلِهِ، وَأَن يعاملنا بمنه وفضله، إِنَّه جواد كريم، غَفُور رَحِيم.

(1/34)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى وَعَفا عَنهُ:
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
تأسيا بِالْكتاب الْعَزِيز وَعَملا بِحَدِيث: كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أَبتر أَي ذَاهِب الْبركَة رَوَاهُ الْخَطِيب بِهَذَا اللَّفْظ فِي كِتَابه الْجَامِع والحافظ عبد الْقَادِر الرهاوي. وَالْبَاء فِي الْبَسْمَلَة للمصاحبة أَو الِاسْتِعَانَة مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف وَتَقْدِيره فعلا أولى لِأَن الأَصْل فِي الْعَمَل للأفعال. وَالله علم على الذَّات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد المنزه عَن جَمِيع النقائص. وَقَالَ الْأَكْثَر: إِنَّه الِاسْم الْأَعْظَم.

(1/35)


والرحمن الرَّحِيم وصفان لله تَعَالَى مشتقان من الرَّحْمَة والرحمن أبلغ من الرَّحِيم لِأَن زِيَادَة الْبناء تدل على زِيَادَة الْمَعْنى غَالِبا. وَمعنى الرَّحْمَن المفيض لجلائل النعم والرحيم المفيض لدقائقها. وَمعنى ذِي بَال أَي حَال يهتم بِهِ شرعا. (الْحَمد لله) أَي الْوَصْف بالجميل الِاخْتِيَارِيّ على قصد التَّعْظِيم ثَابت لله تَعَالَى. وَالْحَمْد عرفا فعل يُنبئ عَن تَعْظِيم الْمُنعم من حَيْثُ إِنَّه منعم على الحامد وَغَيره. وَبَدَأَ بذلك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أقطع وَفِي رِوَايَة بِحَمْد الله وَفِي رِوَايَة: كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم. (المفقه) أَي الْمُفْهم (من شَاءَ) أَي أَرَادَ (من خلقه) أَي مخلوقاته (فِي الدّين) وَهُوَ مَا شَرعه الله تَعَالَى من الْأَحْكَام من حرَام وحلال ومكروه ومباح ومندوب. (وَالصَّلَاة) وَهِي من الله تَعَالَى الرَّحْمَة وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار وَمن غَيرهم التضرع وَالدُّعَاء. وَتجوز على غير الْأَنْبِيَاء مُنْفَردا على الصَّحِيح عندنَا نَص عَلَيْهِ قَالَه فِي شرح مُخْتَصر التَّحْرِير وَظَاهر سِيَاقه فِيهِ أَنه لَا يكره إِفْرَاد الصَّلَاة عَن السَّلَام عندنَا.

(1/36)


وَقَالَ بِوُجُوب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما ذكر اسْمه جمَاعَة مِنْهُم ابْن بطة وَالْمُصَنّف من أَصْحَابنَا وَأَقُول كَذَا والحليمي من الشَّافِعِيَّة وَاللَّخْمِيّ من الْمَالِكِيَّة والطَّحَاوِي من الْحَنَفِيَّة. (وَالسَّلَام) مَعْطُوف على الصَّلَاة وَهُوَ التَّحِيَّة أَو السَّلامَة من النقائص والرذائل. (على نبيه) والنبيء بِالْهَمْز من النبأ وَهُوَ الْخَبَر لِأَنَّهُ مخبر عَن الله تَعَالَى. وَبلا همز - وَهُوَ الْأَكْثَر - من النُّبُوَّة وَهِي الرّفْعَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرْفُوع الرُّتْبَة على غَيره من الْخلق أَجْمَعِينَ. (مُحَمَّد) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمي بِهِ لِكَثْرَة خصاله الحميدة وَهُوَ بدل من نبيه أَو عطف بَيَان (الْأمين) على وَحي الله تَعَالَى (الْمُؤَيد) من أيده الله تَعَالَى أَي قواه (بكتابه) أَي كَلَامه الْمنزل المعجز بِنَفسِهِ المتعبد بتلاوته (الْمُبين) أَي الْمُشْتَمل على بَيَان مَا للنَّاس حَاجَة إِلَيْهِ فِي دينهم ودنياهم (المتمسك بحبله) أَي دين الْإِسْلَام أَو كِتَابه الْعَزِيز (المتين) أَي الشَّديد. (وعَلى آله) وهم أَتْبَاعه على دينه على الصَّحِيح وَقيل: مؤمنو بني هَاشم وَبني الْمطلب وَقيل: أَهله (وَصَحبه) جمع صَحَابِيّ وَهُوَ من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أَو شهرا أَو يَوْمًا أَو سَاعَة

(1/37)


أَو رَآهُ فَهُوَ من أَصْحَابه وَهَذَا مَذْهَب أهل الحَدِيث. وَجمع المُصَنّف بَين الْآل والصحب ردا على المبتدعة. (أَجْمَعِينَ) تَأْكِيد للآل والصحب لإِفَادَة الْإِحَاطَة والشمول. (وَبعد) يُؤْتى بهَا للانتقال من أسلوب إِلَى آخر اسْتِحْبَابا فِي الْخطب والمكاتبات؛ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُولهَا فِي خطبَته وَشبههَا نَقله عَنهُ خَمْسَة وَثَلَاثُونَ صحابيا. (فقد سنح) بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي عرض (بخلدي) أَي بقلبي (أَن أختصر) والاختصار هُوَ تَجْرِيد اللَّفْظ الْيَسِير من اللَّفْظ الْكثير مَعَ بَقَاء الْمَعْنى. (كتابي) وَالْكتاب مصدر كتب يكْتب كتبا وَكِتَابَة بِمَعْنى الْجمع لُغَة وَيَأْتِي تَعْرِيفه اصْطِلَاحا فِي كتاب الطَّهَارَة. (الْمُسَمّى بكافي الْمُبْتَدِي) يُشِير المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أَن هَذَا الْكتاب مُخْتَصر من كتاب لَهُ مُسَمّى بكافي الْمُبْتَدِي (الْكَائِن فِي فقه) وَالْفِقْه لُغَة: الْفَهم عِنْد الْأَكْثَر وَهُوَ إِدْرَاك معنى الْكَلَام وَاصْطِلَاحا: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ أَو بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَة. والفقيه من عرف جملَة غالبة مِنْهَا كَذَلِك. (الإِمَام) أَي الْمُقْتَدِي بِهِ (أَحْمد) رَحمَه الله تَعَالَى (بن مُحَمَّد بن حَنْبَل) الشَّيْبَانِيّ والزاهد الرباني وَالصديق الثَّانِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه وَجعل جنَّة الفردوس منقلبه ومثواه وَأعَاد علينا من بركاته وجمعنا بِهِ فِي دَار كرامته. ولد بِبَغْدَاد فِي ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَتُوفِّي

(1/38)


بهَا يَوْم الْجُمُعَة فِي ثَانِي عشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَله من الْعُمر سبع وَسَبْعُونَ سنة لَا زَالَت هواطل الرَّحْمَة تفيض على ضريحه. (الصابر) على المحنة كصبر الصّديق الأول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لحكم الْملك) أَي المطاع (المبدئ) أَي الْمُبْدع الفاطر لكل الكائنات (ليقرب) تَعْلِيل لأختصر (تنَاوله) أَي أَخذه (على المبتدئين) فِي الطّلب جمع مبتدئ (ويسهل حفظه على الراغبين) فِي الْعلم (ويقل حجمه) والحجم من الشَّيْء ملمسه الناتئ تَحت يدك قَالَه فِي الْقَامُوس (على الطالبين) لَهُ جمع طَالب فجزاه الله خير الْجَزَاء وأناله الدَّرَجَات العلى يَوْم الْجَزَاء. (وسميته) أَي هَذَا الْكتاب: (أخصر المختصرات لِأَنِّي لم أَقف) أَي أطلع (على (مؤلف (أخصر مِنْهُ جَامع لمسائله فِي) كتب (فقهنا من) الْكتب (المؤلفات وَالله) بِالنّصب على المفعولية قدمه لإِفَادَة الْحصْر والاهتمام. (أسأَل) أَي أطلب مِنْهُ (أَن ينفع بِهِ قارئيه) جمع قَارِئ (وحافظيه) جمع حَافظ أَي المتقن (وناظريه) جمع نَاظر أَي متأمليه. (إِنَّه) تقدست أسماؤه وَعز شَأْنه وَعظم سُلْطَانه (جدير) أَي حقيق (بإجابة الدَّعْوَات) وَلَا شكّ وَقد قَالَ تَعَالَى: {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} وَمَا أَمر بِالْمَسْأَلَة إِلَّا ليعطي. (وَالله أسأَل (أَن يَجعله خَالِصا) من الرِّيَاء والسمعة (لوجهه الْكَرِيم) وَأَن يَجعله (مقربا إِلَيْهِ فِي جنَّات النَّعيم) الْمُقِيم (وَمَا توفيقي)

(1/39)


والتوفيق خلق قدرَة الطَّاعَة فِي العَبْد مَعَ الداعية إِلَيْهَا وتسهيل سَبِيل الْخَيْر إِلَيْهِ. ولعزته لم يذكر فِي الْقُرْآن إِلَّا مرّة وَاحِدَة. وضده الخذلان وَهُوَ خلق قدرَة الْمعْصِيَة فِي العَبْد مَعَ الداعية إِلَيْهَا وتسهيل سَبِيل الشَّرّ إِلَيْهِ (واعتصامي) أَي امتناعي من الزلل (إِلَّا بِاللَّه) جلّ وَعلا (عَلَيْهِ توكلت) أَي فوضت أَمْرِي إِلَيْهِ دون مَا سواهُ (وَإِلَيْهِ أنيب) أَي أرجع.

(1/40)