كشف المخدرات والرياض المزهرات لشرح أخصر المختصرات

 (كتاب الْقَضَاء)
كتاب الْقَضَاء والفتيا. وَهِي مصدر من أفتى يُفْتِي إِفْتَاء، وَهِي تَبْيِين الحكم الشَّرْعِيّ. وَيَنْبَغِي للمستفتي حفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي ويجله ويعظمه وَلَا يسْأَل عِنْد هم أَو ضجر وَنَحْوه، وَلَا يلْزمه جَوَابه مَا لم يَقع، وَلَا مَا لَا يحْتَملهُ سَائل، وَلَا مَا لَا نفع فِيهِ، وَحرم تساهل مفت فِي الافتاء، وتقليد مَعْرُوف بالتساهل، ويقلد الْعدْل الْمُجْتَهد وَلَو مَيتا. وَيجوز تَقْلِيد مفضول من الْمُجْتَهدين مَعَ وجود أفضل مِنْهُ. وَهُوَ أَي الْقَضَاء لُغَة: إحكام الشَّيْء والفراغ مِنْهُ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى (وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ) أَي أمضينا وأنهينا. وَشرعا تَبْيِين الحكم الشَّرْعِيّ والإلزام بِهِ وَفصل الْخُصُومَات. وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى 19 ((يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى)) وَقَوله تَعَالَى 19 ((فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم)) وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام (إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر) مُتَّفق عَلَيْهِ.

(2/817)


وَهُوَ فرض كِفَايَة لِأَن أَمر النَّاس لَا يَسْتَقِيم بِدُونِهِ كالإمامة وَالْجهَاد فِيهِ فضل عَظِيم لمن قوى عَلَيْهِ وَأَرَادَ الْحق فِيهِ، فينصب الإِمَام وجوبا بِكُل إقليم بِكَسْر الْهمزَة أحد الأقاليم السَّبْعَة قَاضِيا لِأَنَّهُ لَا يُمكن الإِمَام تولي الْخُصُومَات وَالنَّظَر فِيهَا فِي جَمِيع الْبِلَاد، وَلِئَلَّا تضيع الْحُقُوق بتوقف فصل الْخُصُومَات على السّفر لما فِيهِ من الْمَشَقَّة. والأقاليم السَّبْعَة أَولهَا الْهِنْد، الثَّانِي الْحجاز، الثَّالِث مصر، الرَّابِع بابل، وَالْخَامِس الرّوم وَالشَّام، السَّادِس بِلَاد التّرْك، السَّابِع بِلَاد الصين. كَذَا ذكر بَعضهم. ويختار الإِمَام لُزُوما لذَلِك أفضل من يجد علما وورعا لِأَن الإِمَام ينظر للْمُسلمين فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَرْجِيح الْأَصْلَح لَهُم ويأمره بالتقوى لِأَنَّهَا رَأس الْأَمر كُله وملاكه، ويأمره ب تحرى الْعدْل أَي إِعْطَاء الْحق لمستحقه بِلَا ميل، لِأَنَّهُ الْمَقْصُود من الْقَضَاء، وَيجب على من يصلح للْقَضَاء إِذا طلب وَلم يُوجد غَيره من يوثق بِهِ أَن يدْخل فِيهِ إِن لم يشْغلهُ عَمَّا هُوَ أهم مِنْهُ فَلَا يلْزمه إِذن لحَدِيث (لَا ضَرَر) وَمَعَ وجود غَيره الْأَفْضَل لَهُ أَن لَا يجب. وَكره طلب الْقَضَاء مَعَ وجود صَالح لَهُ، وَيحرم بذل مَال فِيهِ وَأَخذه، وَهُوَ من أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ. وَيحرم طلبه وَفِيه مبَاشر، وَتَصِح تَوْلِيَة مفضول مَعَ وجود فَاضل، وَشرط لصِحَّة ولَايَة كَونهَا من إِمَام أَو نَائِبه فِيهِ وَمَعْرِفَة أَن الْمولى صَالح. والفاظها الصَّرِيحَة سَبْعَة: وليتك الحكم، وقلدتك، وفوضت،

(2/818)


أَو رددت، أَو جعلت إِلَيْك الحكم، واستخلفتك، واستنبتك فِي الحكم، فَإِذا أَحدهَا وَقبل مولى حَاضر بِالْمَجْلِسِ أَو غَائِب بعد بُلُوغ الْولَايَة أَو شرع الْغَائِب فِي الْعَمَل، وانعقدت. وَالْكِنَايَة نَحْو: اعتمدت، وعولت عَلَيْك، وأسندت. وَلَا تَنْعَقِد بهَا إِلَّا بِقَرِينَة نَحْو فاحكم أَو فَاقْض. وتفيد ولَايَة حكم عَامَّة فصل الْخُصُومَات وَأخذ الْحق مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى ربه وَالنَّظَر فِي مَال يَتِيم وَمَال مَجْنُون وَمَال سَفِيه لَا ولي لَهُم وَمَال غَائِب وَالنَّظَر فِي وقف عمله ليجري على شَرطه وَغير ذَلِك كالنظر فِي مصَالح طرق عمله وأفنية جمع فنَاء بِكَسْر الْفَاء وَهُوَ مَا اتَّسع أَمَام دور عمله وتنفيذ الْوَصَايَا وتزويج من لَا ولي لَهَا. وَله طلب رزق من بَيت المَال لنَفسِهِ وأمنائه وخلفائه حَتَّى مَعَ عدم الْحَاجة، فَإِن لم يَجْعَل لَهُ شَيْء وَلَيْسَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَقَالَ: لِلْخَصْمَيْنِ لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا إِلَّا بِجعْل جَازَ الْأَخْذ لَا الْأُجْرَة. وَيجوز للْإِمَام أَن يوليه أَي القَاضِي عُمُوم النّظر فِي عُمُوم الْعَمَل بِأَن يوليه سَائِر الْأَحْكَام فِي سَائِر الْبِلَاد وَيجوز أَن يوليه خَاصّا فِي أَحدهمَا أَو خَاصّا فيهمَا فيوليه عُمُوم النّظر بمحلة خَاصَّة أَو يوليه خَاصّا بمحلة خَاصَّة فَينفذ حكمه فِي مُقيم بهَا وَفِي طاريء إِلَيْهَا من غير أَهلهَا، لِأَنَّهُ يصير من أَهلهَا فِي أَكثر الْأَحْكَام لَا فِي من لَيْسَ مُقيما بهَا وَلَا طارئا إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ لم يدْخل تَحت ولَايَته. وَمن عزل نَفسه من إِمَام وقاض ووال ومحتسب وَنَحْوهم انْفَرد، لِأَنَّهُ وَكيل وَقَالَ: صَاحب الرِّعَايَة إِن لم يلْزمه قبُوله. انْتهى

(2/819)


وَلَا يَنْعَزِل بعزل قبل علمه لتَعلق قضايا النَّاس بِهِ فَيشق بِخِلَاف الْوَكِيل فَإِنَّهُ يتَصَرَّف فِي أَمر خَاص. وَمن أخبر بِمَوْت نَحْو قَاض مولى بِبَلَد وَولي وَغَيره فَبَان حَيا لم يَنْعَزِل. وَشرط فِي القَاضِي عشر صِفَات: الأولى وَالثَّانيَِة: مَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا بقوله كَون قَاض بَالغا عَاقِلا لِأَن غير الْمُكَلف تَحت ولَايَة غَيره فَلَا يكون وليا على غَيره. وَالثَّالِثَة: كَونه ذكرا لِأَن القَاضِي يحضر محافل الْخُصُومَة وَالرِّجَال وَيحْتَاج فِيهِ إِلَى كَمَال الرَّأْي وَتَمام الْعقل والفطنة، وَالْمَرْأَة نَاقِصَة الْعقل ضَعِيفَة الرَّأْي لَيست أَهلا للحضور فِي محافل الرِّجَال، وَلَا تقبل شهادتها وَلَو كَانَ مَعهَا ألف امْرَأَة مَا لم يكن مَعَهُنَّ رجل. وَالرَّابِعَة: كَونه حرا كُله لِأَن غير مَنْقُوص بِالرّقِّ مَشْغُول بِحُقُوق سَيّده وَلم يكن أَهلا للْقَضَاء كَالْمَرْأَةِ. وَالْخَامِسَة: كَونه مُسلما لِأَن الْإِسْلَام شَرط الْعَدَالَة فَأولى أَن يكون شرطا للْقَضَاء. وَالسَّادِسَة: كَونه عدلا وَلَو تَائِبًا من قذف نصا فَلَا يجوز توليه من فِيهِ نقص يمْنَع قبُوله الشَّهَادَة. وَالسَّابِعَة: كَونه سميعا لِأَن الْأَصَم لَا يسمع كَلَام الْخَصْمَيْنِ. وَالثَّامِنَة: كَونه بَصيرًا لِأَن الْأَعْمَى لَا يعرف الْمُدعى من الْمُدعى عَلَيْهِ وَلَا الْمقر من الْمقر لَهُ. والتاسعة: كَونه متكلما لِأَن الْأَخْرَس لَا يُمكنهُ النُّطْق بالحكم وَلَا يفهم جَمِيع النَّاس إِشَارَته.

(2/820)


الْعَاشِر: كَونه مُجْتَهدا قَالَ فِي الْفُرُوع: إِجْمَاعًا ذكره ابْن حزم لقَوْله تَعَالَى (لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله) وَإِنَّهُم أَجمعُوا لِأَنَّهُ لَا يحل لحَاكم وَلَا مفت تَقْلِيد رجل لَا يحكم وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقوله لَكِن فِي الإفصاح إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد على تَقْلِيد كل من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة لِأَن الْحق لَا يخرج عَنْهُم وَلَو كَانَ اجْتِهَاده فِي مَذْهَب إِمَامه للضَّرُورَة بِأَن لم يُوجد مُجْتَهد مُطلق لَا كَونه كَاتبا أَو ورعا أَو زاهدا أَو يقظا أَو مثبتا الْقيَاس أَو حسن الْخلق، وَالْأولَى كَونه كَذَلِك. وَمَا يمْنَع التَّوْلِيَة ابْتِدَاء يمْنَعهَا دَوْمًا إِلَّا فقد السّمع وَالْبَصَر فَمَا ثَبت عِنْده وَهُوَ سميع بَصِير وَلم يحكم بِهِ حَتَّى عمى أَو طرش فَإِن ولَايَة حكمه بَاقِيَة فِيهِ. وَيتَعَيَّن عَزله مَعَ مرض يمْنَع الْقَضَاء. والمجتهد من يعرف الْكتاب وَالسّنة، والحقيقة وَالْمجَاز، وَالْأَمر وَالنَّهْي، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، وَالْعَام وَالْخَاص، وَالْمُطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمستثنى مِنْهُ، وصحيح السّنة وسقيمهما، ومتواترها وآحادها ومسندها والمنقطع مِمَّا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ، وَالْمجْمَع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَالْقِيَاس وشروطه وَكَيف يستنبط الْأَحْكَام، والعربية المتداولة بالحجاز وَالشَّام وَالْعراق وَمَا يواليهم، فَمن عرف أَكثر ذَلِك فقد صلح للفتيا وَالْقَضَاء لتمكنه من الاستنباط وَالتَّرْجِيح بَين الْأَقْوَال.

(2/821)


قَالَ فِي آدَاب الْمُفْتِي: وَلَا يضرّهُ جَهله بذلك لشُبْهَة أَو إِشْكَال، لَكِن يَكْفِيهِ معرفَة وُجُوه دلَالَة الْأَدِلَّة وَكَيْفِيَّة أَخذ الْأَحْكَام من لَفظهَا وَمَعْنَاهَا. وَزَاد ابْن عقيل: وَيعرف الِاسْتِدْلَال واستصحاب الْحَال وَالْقُدْرَة على إبِْطَال شُبْهَة الْمُخَالف وَإِقَامَة الدَّلِيل على مذْهبه وَإِن حكم إثنان بَينهمَا رجلا يصلح للْقَضَاء بِأَن اتّصف بِمَا تقدم من شُرُوط القَاضِي، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْعشْر الصِّفَات الَّتِي ذكرهَا فِي الْمُحَرر فِي القَاضِي لَا تشْتَرط فِيمَن يحكمه الخصمان فَيحكم بَينهمَا نفذ حكمه فِي كل مَا ينفذ فِيهِ حكم من ولاه إِمَام أَو نَائِبه فَلَا يحل لأحد نقضه حَيْثُ أصَاب الْحق. وَسن كَونه أَي القَاضِي قَوِيا بِلَا عنف لِئَلَّا يطْمع فِيهِ الظَّالِم لينًا بِلَا ضعف لِئَلَّا يهابه المحق حَلِيمًا لِئَلَّا يغْضب من كَلَام الْخصم فيمنعه الحكم، متأنيا من التأني وَهُوَ ضد العجلة لِئَلَّا تُؤدِّي عجلته إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي، فطنا لِئَلَّا يخدع من بعض الْخُصُوم لغرة، قَالَ فِي الشَّرْح عَالما بلغَة أهل ولَايَته، عفيفا أَي كافا نَفسه عَن الْحَرَام لِئَلَّا يطْمع فِي ميله بأطماعه، بَصيرًا بِأَحْكَام الْحُكَّام قبله، وسؤاله إِذا ولى فِي غير بَلَده عَن علمائه يشاورهم ويستعين بهم على قَضَائِهِ وَيسْأل عَن عدوله لاستناد أَحْكَامه إِلَيْهِم وَثُبُوت الْحُقُوق عِنْده بهم فَيقبل أَو يرد من يرَاهُ لذَلِك أَهلا وليكون على بَصِيرَة مِنْهُم. وَسن إعلامهم يَوْم دُخُوله ليتلقوه من غير أَن يَأْمُرهُم بتلقيه، ودخوله

(2/822)


يَوْم الْإِثْنَيْنِ أَو الْخَمِيس أَو السبت ضحوة تفاؤلا لاستقبال الشَّهْر لابسا أجمل ثِيَابه وَكَذَا أَصْحَابه وَلَا يتطير، وَإِن تفاءل فَحسن. وَيجب عَلَيْهِ أَي القَاضِي الْعدْل بَين متحاكمين ترافعا إِلَيْهِ فِي لَفظه أَي كَلَامه لَهما وَفِي لَحْظَة أَي ملاحظته وَفِي مَجْلِسه وَفِي دُخُول عَلَيْهِ إِلَّا إِذا سلم أَحدهمَا عَلَيْهِ فَيرد وَلَا ينْتَظر سَلام الآخر، وَإِلَّا الْمُسلم مَعَ الْكَافِر فيتقدم دُخُولا وَيرْفَع جُلُوسًا، وَلَا يكره قِيَامه لِلْخَصْمَيْنِ. وَيحرم أَن يسَار أَحدهمَا أَو يلقنه حجَّته أَو يضيفه أَو يقوم لَهُ دون الآخر، وَله تَأْدِيب خصم افتأت عَلَيْهِ وَلَو لم يُثبتهُ بِبَيِّنَة كَمَا إِذا قَالَ: ارتشيت عَليّ، أَو حكمت عَليّ بِغَيْر الْحق، وَنَحْو ذَلِك، وَيسن أَن يحضر مَجْلِسه فُقَهَاء الْمذَاهب ومشاورتهم فِيمَا يشكل، فَإِن اتَّضَح لَهُ الحكم وَإِلَّا أَخّرهُ حَتَّى يَتَّضِح، فَلَو حكم وَلم يجْتَهد لم يَصح وَلَو أصَاب الْحق، وَحرم على قَاض الْقَضَاء وَهُوَ غَضْبَان غَضبا كثيرا، أَو حاقن أَو فِي شدَّة جوع أَو فِي شدَّة عَطش أَو هم أَو ملل أَو كسل أَو نُعَاس أَو برد مؤلم أَو حر مزعج لِأَن ذَلِك كُله فِي معنى الْغَضَب، لِأَنَّهُ يشغل الْفِكر الْموصل إِلَى إِصَابَة الْحق غَالِبا، فَإِن خَالف وَحكم على هَذِه الْحَالة فَأصَاب الْحق نفذ. وَكَانَ للنَّبِي الْقَضَاء مَعَ ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا يجوز عَلَيْهِ غلط يقر عَلَيْهِ قولا وفعلا فِي حكم.

(2/823)


وَحرم عَلَيْهِ قبُول رشوة بِتَثْلِيث الرَّاء وقبوله هَدِيَّة من غير من كَانَ يهاديه قبل ولَايَته وَالْحَال أَنه لَا حُكُومَة لَهُ فَيُبَاح لَهُ أَخذهَا لانْتِفَاء التُّهْمَة إِذا كَانَت، وردهَا أولى. وَقَالَ 16 (القَاضِي) : يسْتَحبّ لَهُ التَّنَزُّه عَنْهَا. وَيكرهُ بَيْعه وشراؤه إِلَّا بوكيل لَا يعرف بِهِ. وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لوال أَن يتجر. وَسن لَهُ عِيَادَة الْمَرِيض وشهود الْجَنَائِز وتوديع حَاج وغاز مَا لم يشْغلهُ، وَهُوَ فِي الدَّعْوَات للولائم كَغَيْرِهِ، وَلَا يُجيب قوما ويدع قوما بِلَا عذر، ويوصي الوكلاء والأعوان بِبَابِهِ بالرفق بالخصوم وَقلة الطمع ويجتهد أَن يَكُونُوا شُيُوخًا وكهولا من أهل الدّين والعفة والصيانة. وَيُبَاح أَن يتَّخذ لَهُ كَاتبا. وَشرط كَونه مُسلما عدلا، وَسن كَونه حَافِظًا عَالما، وَيجْلس بِحَيْثُ يُشَاهد القَاضِي. وَلَا ينفذ حكمه أَي القَاضِي على عدوه كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بل يُفْتِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا إِلْزَام بالفتيا بِخِلَاف الْقَضَاء، وَلَا ينفذ حكمه وَلَا يَصح لنَفسِهِ وَلَا لمن لَا تقبل شَهَادَته أَي القَاضِي لَهُ كزوجته وعمودي نسبه وَمن استعداده أَي القَاضِي على خصم فِي الْبَلَد بِمَا تتبعه الهمة لزمَه أَي القَاضِي إِحْضَاره أَي الْخصم وَلَو لم يحرر المستعدى الدَّعْوَى نصا. وَمن طلبه خَصمه أَو حَاكم حَيْثُ يلْزمه إِحْضَاره بِطَلَبِهِ مِنْهُ لمجلس الحكم لزمَه الْحُضُور وَإِلَّا أعلم القَاضِي الْوَالِي بامتناعه فَأحْضرهُ وَمن حضر وَثَبت امْتِنَاعه فللقاضي تأديبه بِمَا يرَاهُ. وَلَا يعدي حَاكم فِي مثل مَا

(2/824)


لَا تتبعه الهمة، قَالَ فِي عُيُون الْمسَائِل: لَا يَنْبَغِي للْحَاكِم أَن يسمع شكية أحد إِلَّا وَمَعَهُ خَصمه يسمع شكواه وَيرد جوابها. انْتهى. إِلَّا غير امْرَأَة بَرزَة أَي الَّتِي تبرز لقَضَاء حَاجَتهَا، فَإِن استعدى على البرزة حضرت وَلَو بِغَيْر محرم نصا، وَأما غَيرهَا وَهِي المخدرة إِذا استعدى عَلَيْهَا فتوكل كمريض وَنَحْوه مِمَّن لَهُ عذر، وَإِن وَجَبت عَلَيْهَا يَمِين أرسل الْحَاكِم من أَي أَمينا مَعَه شَاهِدَانِ يحلفها بحضرتهما. وَمن ادّعى قبل إِنْسَان شَهَادَة لم تسمع دَعْوَاهُ وَلم يعد عَلَيْهِ وَلم يحلف خلافًا للشَّيْخ تَقِيّ الدّين.

(2/825)


3 - (فصل)
فِي الدعاوي والبينات. وَتَصِح الدَّعْوَى بِالْقَلِيلِ وَلَو لم تتبعه الهمة بِخِلَاف الاستعداء للْمَشَقَّة. وَشرط فِيهَا شُرُوط كَون مُدع ومنكر جائزي التَّصَرُّف، وَشرط أَيْضا تَحْرِير الدَّعْوَى لترتب الحكم عَلَيْهِ، فَلَو كَانَت بدين على الْمَيِّت ذكر مَوته وحرر الدّين والتركة، وَشرط مدعى بِهِ ليتَمَكَّن الْحَاكِم من الْإِلْزَام بِهِ إِذا ثَبت إِلَّا فِيمَا أَي شَيْء نصححه حَالَة كَونه مَجْهُولا كوصية بِمَجْهُول بِأَن يدعى أَنه أوصى لَهُ بداية أَو بِشَيْء وَنَحْو ذَلِك وَإِلَّا فِي الْإِقْرَار بِمَجْهُول وخلع وَطَلَاق على مَجْهُول فَإِن ادّعى الْمُدعى عقدا وَلَو غير النِّكَاح كَبيع وَإِجَارَة ذكر شُرُوطه، أَو ادّعى إِرْثا ذكر سَببه وجوبا لاخْتِلَاف أَسبَاب الْإِرْث أَو ادّعى محلى بِأحد النَّقْدَيْنِ أَي الذَّهَب وَالْفِضَّة قومه بِالْآخرِ، فَإِن ادّعى محلى بِذَهَب قومه بِفِضَّة وَإِن ادّعى محلى بِفِضَّة قومه بِذَهَب لِئَلَّا يُفْضِي بِجِنْسِهِ إِلَى الرِّبَا.

(2/826)


قَالَ فِي شرح الْمُنْتَهى: قلت وَكَذَا لَو ادّعى مصوغا من أَحدهمَا صياغة مُبَاحَة تزيد بهَا قِيمَته عَن وَزنه أَو تَبرأ تخَالف قِيمَته وَزنه. انْتهى. أَو ادّعى محلى بهما أَي بالنقدين ف يقومه بِأَيِّهِمَا شَاءَ لانحصار الثمنية فيهمَا، وَإِذا ثَبت أعْطى عرُوضا. وَمن ادّعى عَلَيْهِ بِعَين اشْترط حُضُورهَا بِمَجْلِس الحكم لتعين بِالْإِشَارَةِ فَإِن كَانَت غَائِبَة وصفهَا كصفة السّلم. وَشرط كَون الدَّعْوَى منفكة عَمَّا يكذبها، فَلَا تصح أَن قتل أَو سرق من عشْرين سنة وَسنة دونهَا، وَنَحْو ذَلِك. وَإِذا حررها الدَّعْوَى الْمُدعى فَإِن أقرّ الْخصم أَي الْمُدعى عَلَيْهِ حكم عَلَيْهِ أَي على الْخصم بسؤال مُدع الْحَاكِم الحكم عَلَيْهِ لِأَن الْحق لَهُ فَلَا يَسْتَوْفِيه الْحَاكِم إِلَّا بمسئلته فَإِن ادّعى الْبَرَاءَة لم يلْتَفت لقَوْله بل يحلف الْمُدعى على نفي فعل مَا زَعمه وَيلْزمهُ بِالْحَقِّ إِلَّا أَن يُقيم بَيِّنَة ببراءته. وَإِن أنكر الْخصم ابْتِدَاء بِأَن قَالَ لمدع قرضا أَو ثمنا: مَا أَقْرضنِي وَمَا بَاعَنِي وَلَا يسْتَحق عليَّ شَيْئا مِمَّا ادَّعَاهُ وَلَا حق لَهُ عَليّ وَالْحَال أَنه لَا بَيِّنَة لمدع [ف] يعْمل [ب] قَوْله أَي الْمُدعى عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ وَلَيْسَ لَهُ استحلافه قبل سُؤال الْمُدعى فَإِن سَأَلَ إحلافه أحلفه وخلى سَبيله، فَإِن حلف أَو أحلفه قبل سُؤال الْمُدعى لم يعْتد بِيَمِينِهِ، فَإِن سَأَلَهَا الْمُدعى أَعَادَهَا لَهُ، وَلَا بُد من سُؤال الْمُدعى طَوْعًا وَله مَعَ الْكَرَاهَة تَحْلِيفه مَعَ علمه بكذبه وَقدرته على حَقه نصا فَإِن نكل مدعى عَلَيْهِ عَن الْيَمين حكم عَلَيْهِ حَاكم بِالنّكُولِ

(2/827)


بسؤال مُدع فِي مَال وَمَا يقْصد بِهِ المَال ويستحلف الْخصم فِي كل حق آدَمِيّ كَبيع وَإِجَارَة وإعارة وقرض وَنَحْوه سوي نِكَاح وَسوى رَجْعَة وَسوى نسب وَنَحْوهَا وَلَا يسْتَحْلف فِي حق من حُقُوق الله تَعَالَى كَحَد زنا وَشرب وَلَا فِي عبَادَة كَصَلَاة وَنَحْوهَا وَكَفَّارَة وَنذر وَنَحْوهمَا وَالْيَمِين الْمَشْرُوعَة لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى وَحده أَو ب صفته تَعَالَى كالرحمن وَتقدم ذَلِك فِي الْإِيمَان وَيحكم بِالْبَيِّنَةِ بعد التَّحْلِيف بِأَن قَالَ لَا علم لي بِبَيِّنَة ثمَّ أَتَى بهَا، أَو قَالَ: عَدْلَانِ نَحن نشْهد لَك فَقَالَ: هَذِه بينتي سَمِعت، أَو سَأَلَ إحلافه وَلَا يقيمها فَحلف كَانَ لَهُ إِقَامَتهَا فَإِن قَالَ: مَا لي بَيِّنَة ثمَّ أَتَى بهَا فَلَا تسمع نصا عَلَيْهِ، وَإِن قَالَ: لي بَيِّنَة وَأُرِيد يَمِينه فَإِن كَانَت حَاضِرَة بِالْمَجْلِسِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا إِحْدَاهمَا وَإِلَّا فَلهُ ذَلِك. وَشرط فِي بَيِّنَة عَدَالَة ظَاهرا وَشرط فِي بَيِّنَة غير عقد نِكَاح عَدَالَة بَاطِنا أَيْضا لقَوْله تَعَالَى 19 ((واستشهدوا ذَوي عدل مِنْكُم)) وَقَوله تَعَالَى 19 ((إِذا جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)) وَالْفَاسِق لَا يُؤمن كذبه فَلَا بُد من الْعلم بهَا. وَلَو قيل إِن الأَصْل فِي الْمُسلمين الْعَدَالَة قَالَ الزَّرْكَشِيّ: لِأَن الْغَالِب الْخُرُوج عَنْهَا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين نَفَعَنِي الله وَالْمُسْلِمين بِعُلُومِهِ فِي الدّين: من قَالَ إِن الأَصْل فِي الْإِنْسَان الْعَدَالَة فقد أَخطَأ، وَإِن الأَصْل فِيهِ الْجَهْل وَالظُّلم لقَوْله تَعَالَى 19 ((إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا)) . انْتهى.

(2/828)


فالفسق وَالْعَدَالَة كل مِنْهُمَا يطْرَأ على الآخر، فتلخيصه أَن الشَّهَادَة فِي غير عقد النِّكَاح لَا بُد فِيهَا من الْعَدَالَة ظَاهرا وَبَاطنا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ المُصَنّف رَحمَه الله، وَأما فِي عقد النِّكَاح فتكفي فِيهِ الْعَدَالَة ظَاهر وَلَا يبطل لَو كَانَا فاسقين، وَشرط فِي مزك معرفَة جرح وَمَعْرِفَة تَعْدِيل الْخِبْرَة باطنة غير مُتَّهم بعصبية أَو غَيرهَا وَمَعْرِفَة حَاكم خبرته الْبَاطِنَة بِصُحْبَة أَو مُعَاملَة وَنَحْوهمَا وَيَكْفِي قَول مزك: أشهد أَنه عدل، وَلَا يَكْفِي قَوْله: لَا أعلم إِلَّا خيرا، وَتقدم بِبَيِّنَة جرح على بَيِّنَة تَعْدِيل، لِأَن الْجَارِح مُثبت للجرح والمعدل ناف والمثبت مقدم على النَّافِي، وَيَكْفِي فِي التَّزْكِيَة الظَّن بِخِلَاف الْجرْح، فَإِنَّهُ لَا يسمع إِلَّا مُفَسرًا بِمَا يقدم فِي الْعَدَالَة عَن رُؤْيَة فَيَقُول: أشهد أَنِّي رَأَيْته يشرب الْخمر أَو يظلم النَّاس بِأخذ أَمْوَالهم أَو ضَربهمْ أَو يُعَامل بالربا، أَو عَن سَماع بِأَن يَقُول سمعته يقذف، أَو عَن استفاضة فَلَا يَكْفِي أَن يشْهد: أَنه فَاسق أَو لَيْسَ بِعدْل، وَلَا قَوْله بَلغنِي عَنهُ كَذَا، وَمن ثَبت عَدَالَته مرّة لزم الْبَحْث عَنْهَا مَعَ طول الْمدَّة فِي قَضِيَّة أُخْرَى وَإِن لم تطل فَلَا، فَمَتَى جهل حَاكم حَال بَيِّنَة طلب التَّزْكِيَة من الْمُدعى مُطلقًا أَي سَوَاء طلب الْخصم ذَلِك أَو سكت لِأَنَّهَا حق للشَّرْع فطلبها للْحَاكِم فَلَو رَضِي الْخصم أَن يحكم عَلَيْهِ بِشَهَادَة فَاسق لم يجز الحكم بهَا، وَإِن جهل حَاكم لِسَان خصم ترْجم لَهُ من يعرف بِلِسَانِهِ.

(2/829)


وَلَا يقبل فِيهَا أَي التَّزْكِيَة وَلَا فِي جرح وَنَحْوهمَا أَي التَّزْكِيَة وَالْجرْح كرسالة حَيْثُ يُرْسِلهُ حَاكم يبْحَث عَن حَال الشُّهُود، وترجمة وتعريف عَن حَاكم فِي غير مَال كَنِكَاح وَنسب وَطَلَاق وحد قذف وقصاص وَفِي غير زنا ولواط إِلَّا رجلَانِ عَدْلَانِ، وَأما فِي المَال فَيقبل فِيهِ رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ، وَفِي الزِّنَا أَرْبَعَة رجال عدُول. وَحكم الْحَاكِم يرفع الْخلاف لَكِن لَا يَزُول الشَّيْء عَن صفته بَاطِنا فَمَتَى حكم لَهُ بِبَيِّنَة زور بزوجية امْرَأَة، فَإِنَّهَا لَا تحل لَهُ ويلزمها فِي الظَّاهِر وَعَلَيْهَا أَن تمْتَنع مِنْهُ مَا أمكنها، فَإِن أكرهها فالإثم عَلَيْهِ دونهَا، ثمَّ إِن وطيء مَعَ الْعلم فكزنا فَيحد وَإِن بَاعَ حنبلي مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا فَحكم بِصِحَّتِهِ شَافِعِيّ نفذ وَمن ادّعى على غَائِب عَن الْبَلَد مَسَافَة قصر وَلَو فِي غير عمله أَي القَاضِي أَو ادّعى على مستتر فِي الْبَلَد أَو ادّعى على ميت أَو على غير مُكَلّف وَله بَيِّنَة وَلَو شَاهدا فِيمَا يقبل فِيهِ سَمِعت وَحكم بهَا فِي غير حق الله تَعَالَى أما فِي حَقه تَعَالَى فَلَا تسمع وَلَا يحكم على غَائِب وَنَحْوه فِيهِ، فَيَقْضِي فِي سَرقَة ثبتَتْ على غَائِب بغرم مَال مَسْرُوق لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ دون قطع لحَدِيث (ادرأوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُم) . وَلَا تسمع الدَّعْوَى وَلَا الْبَيِّنَة على غَيرهم أَي غير من ذكر كَمَا لَو كَانَ غَائِبا عَن الْمجْلس أَو عَن الْبَلَد دون مَسَافَة قصر غير مُمْتَنع حَتَّى يحضر بِمَجْلِس الحكم أَو حَتَّى يمْتَنع الْحَاضِر بِالْبَلَدِ

(2/830)


أَو الْغَائِب دون الْمسَافَة عَن الْحُضُور فَتسمع، ثمَّ إِن كَانَ لَهُ مَال وفاه مِنْهُ وَإِلَّا قَالَ للْمُدَّعى إِن عرفت لَهُ مَالا وَثَبت عِنْدِي وفيتك مِنْهُ. وَلَو رفع إِلَيْهِ الْحَاكِم حكم فِي مُخْتَلف فِيهِ نِكَاح امْرَأَة نَفسهَا لَا يلْزمه نقضه صفة لحكم، بِأَن لم يُخَالف نَص كتاب أَو سنة صَحِيحَة أَو إِجْمَاعًا قَطْعِيا لينفذه تَعْلِيل لزمَه أَي الْحَاكِم تنفيذه أَي الحكم وَإِن لم يره. وَإِن غصبه إِنْسَان مَالا جَهرا أَو كَانَ عِنْده عين مَاله فَلهُ أَخذ قدر الْمَغْصُوب جَهرا وَعين مَاله وَلَو قهرا، قَالَ فِي التَّرْغِيب: مَا لم يفض إِلَى فتْنَة، وَلَيْسَ لَهُ أَخذ قدر دينه من مَال مَدين تعذر أَخذ دينه بحاكم لحجر أَو غَيره إِلَّا إِذا تعذر على ضيف أَخذ حَقه بحاكم، أَو منع زوج وَمن فِي مَعْنَاهُ من نَفَقَة فَلهُ الْأَخْذ. وَلَو كَانَ لكل من اثْنَيْنِ على الآخر دين من غير جنسه فَجحد أَحدهمَا دين صَاحبه فَلَيْسَ للْآخر أَن يجْحَد دين الجاحد لدينِهِ لِأَنَّهُ كَبيع دين بدين وَلَا يجوز وَلَو تَرَاضيا فَإِن كَانَ من جنس تقاصا.
وَيقبل كتاب قَاض إِلَى قَاض آخر معِين أَو غير معِين فِي كل حق آدَمِيّ كَالْبيع وَالْقَرْض وَالْغَصْب وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن وَنَحْوهَا لَا فِي حق الله كَحَد زنا وَشرب وَنَحْوهمَا، وَيقبل كِتَابه فِيمَا حكم بِهِ الْكَاتِب ليفذه الْمَكْتُوب إِلَيْهِ وَلَو كَانَا بِبَلَد وَاحِد، لِأَن الحكم يجب إمضاؤه بِكُل حَال، وَلَا يقبل فِيمَا ثَبت عِنْده أَي الْكَاتِب ليحكم بِهِ الْمَكْتُوب إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَسَافَة قصر فَأكْثر، وَذَلِكَ أَن يكْتب قَاض إِلَى آخر معِين

(2/831)


أَو إِلَى من يصل إِلَيْهِ من قُضَاة الْمُسلمين صُورَة الدَّعْوَى الْوَاقِعَة على الْغَائِب، بِشَرْط أَن يقْرَأ ذَلِك على عَدْلَيْنِ وَيعْتَبر ضبطهما لمعناه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم ثمَّ يَدْفَعهُ لَهما وَيَقُول فِيهِ: وَإِن ذَلِك قد ثَبت عِنْدِي، وَإنَّك تَأْخُذ الْحق للْمُسْتَحقّ، فَيلْزم القَاضِي الْموصل إِلَيْهِ ذَلِك الْكتاب الْعَمَل بِهِ، وَإِذا وصل الْكتاب وأحضر الْخصم الْمَذْكُور فِيهِ باسمه وَنسبه وحليته فَقَالَ: مَا أَنا بالمذكور قبل قَوْله بِيَمِينِهِ، فَإِن نكل قضى عَلَيْهِ، وَإِن أقرّ بِالِاسْمِ وَالنّسب أَو ثَبت بِبَيِّنَة فَقَالَ: الْمَحْكُوم عَلَيْهِ غَيْرِي، لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة تشهد أَن هُنَاكَ آخر وَلَو مَيتا يَقع بِهِ إِشْكَال فَيُوقف حَتَّى يعلم الْخصم. وَإِن مَاتَ القَاضِي الْكَاتِب أَو عزل لم يضر كموت بَيِّنَة أصل.

(2/832)


3 - (فصل)
. وَالْقِسْمَة بِكَسْر الْقَاف اسْم مصدر من قسمت الشَّيْء فانقسم، وَشرعا تَمْيِيز بعض الْأَنْصِبَاء عَن بعض وإفرازها عَنْهَا، وَقسم النَّبِي خَيْبَر على ثَمَانِيَة عشر سَهْما، وَهِي نَوْعَانِ: أَحدهمَا قسْمَة ترَاض وَهِي فِيمَا لَا يَنْقَسِم إِلَّا بِضَرَر على الشُّرَكَاء أَو أحدهم لحَدِيث (لَا ضَرَر وَلَا ضرار) ، أَو لَا يقسم إِلَّا ب رد عوض مِنْهُم أَو من أحدهم لِأَنَّهَا مُعَاوضَة بِغَيْر الرِّضَا كحمام ودور صغَار بِحَيْثُ يتعطل الِانْتِفَاع بهَا إِذا قسمت أَو يقل، وكشجر مُفْرد وَأَرْض بِبَعْضِهَا بِئْر أَو نَحوه لَا يُمكن قسمتهَا بالأجزاء وَالتَّعْدِيل. وَشرط لَهَا أَي الْقِسْمَة رِضَاء كل الشُّرَكَاء لِأَن فِيهَا إِمَّا ضَرَر أَو رد عوض وَكِلَاهُمَا لَا يجْبر الْإِنْسَان عَلَيْهِ. وَحكمهَا أَي هَذِه الْقِسْمَة ك حكم بيع يجوز فِيهَا مَا يجوز فِيهِ لمَالِك ووليه خَاصّا لما فِيهَا من الرَّد وَبِه تصير بيعا لبذل صَاحبه إِيَّاه عوضا عَمَّا حصل لَهُ من حق شَرِيكه وَهَذَا هُوَ البيع.

(2/833)


قَالَ الْمجد: الَّذِي تقرر عِنْدِي فِيمَا فِيهِ رد أَنه بيع فِيمَا يُقَابل الرَّد وإفراز فِي الْبَاقِي. انْتهى. فَلَا يَفْعَلهَا الْوَلِيّ إِلَّا إِن رَآهَا مصلحَة، وَإِلَّا فَلَا كَبيع عقار موليه وَمن دَعَا شَرِيكه [فِيهَا وَفِي شركَة] نَحْو عبد وَسيف وَفرس وَكتاب وَنَحْوه إِلَى بيع أَو دَعَاهُ إِلَى إجَازَة أجبر الْمُمْتَنع على البيع مَعَه فَإِن أَبى أَي امْتنع شَرِيكه بيع أَي بَاعه حَاكم عَلَيْهِمَا أَو أجر الْمُشْتَرك عَلَيْهِمَا أَي الشَّرِيكَيْنِ وَقسم ثمن أَو قسمت أُجْرَة بَينهمَا نصا. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهِي مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد. الثَّانِي من نَوْعي الْقِسْمَة [قسْمَة إِجْبَار وَهِي مَالا ضَرَر فِيهَا] على أحد الشُّرَكَاء وَلَا رد عوض من وَاحِد على غَيره سميت بذلك لإجبار الْمُمْتَنع فِيهَا إِذا كملت شُرُوطه كمكيل من جنس وَاحِد كالحبوب كلهَا والمائعات وَمَا يُكَال من الثِّمَار كالتمر وَالزَّبِيب وَنَحْوهمَا، أَو من غَيرهَا كالأشنان وك مَوْزُون من جنس وَاحِد كالذهب وَالْفِضَّة وَنَحْوهَا من الجامدات سَوَاء كَانَ ذَلِك مِمَّا مسته النَّار كدبس وخل تمر أَولا كدهن وَلبن وك دور كبار ودكاكين وَأَرْض بساتين وَاسِعَة وَلَو لم تتساو أجزاؤها إِذا أمكنت قسمتهَا بالتعديل بِأَن لَا يَجْعَل شَيْء مَعهَا. وَيشْتَرط لحكم الْحَاكِم بالإجبار على الْقِسْمَة ثَلَاثَة شُرُوط: ثُبُوت ملك الدَّعْوَى، وَثُبُوت أَن لَا ضَرَر فِيهَا، وَثُبُوت إِمْكَان التَّعْدِيل للسهام فِي الْمَقْسُوم بِلَا جعل شَيْء مَعهَا وَإِلَّا فَلَا إِجْبَار فَيجْبر شريك أَو وليه إِن كَانَ مَحْجُورا عَلَيْهِ عَلَيْهَا أَي الْقِسْمَة وَيقسم حَاكم على غَائِب من الشَّرِيكَيْنِ أَو وليه، لِأَن قسْمَة الْإِجْبَار حق

(2/834)


على الْغَائِب فَجَاز الحكم بِهِ كَسَائِر الْحُقُوق بِطَلَب شريط للْغَائِب أَو وليه أَي ولي شريط الْغَائِب أَي إِن لم يكن مُكَلّفا، وَهَذِه الْقِسْمَة إِفْرَاز حق أحد الشَّرِيكَيْنِ من حق الآخر، يُقَال أفرزت الشَّيْء وفرزته إِذا عزلته، من الفرزة وَهِي الْقطعَة، فَكَانَ الْإِفْرَاد اقتطاع لحق أَحدهمَا من الآخر لَا بيع لِأَنَّهَا لَو كَانَت بيعا لم تصح بِغَيْر رضَا الشَّرِيك ولوجبت فِيهَا الشُّفْعَة وَلما لَزِمت بِالْقُرْعَةِ، فَيصح قسم لحم هدى وأضاحي، لَا قسم رطب من شَيْء بيابسه كَأَن يكون بَين اثْنَيْنِ قفيز رطب وقفيز تمر أَو رَطْل لحم نبيء ورطل مشوي لم يجز أَن يَأْخُذ أَحدهمَا التَّمْر وَاللَّحم المشوي وَالْآخر الرطب أَو اللَّحْم النيء لوُجُود الرِّبَا الْمحرم لِأَن حِصَّة كل وَاحِد من الرطب تقع بَدَلا من حِصَّة شَرِيكه من الْيَابِس فَيفوت التَّسَاوِي الْمُعْتَبر فِي بيع الربوى بِجِنْسِهِ. وَيصِح قسم ثَمَر يخرص خرصا، وَقسم مَا يُكَال وزنا وَعَكسه. وَيصِح أَن يتقاسما بأنفسهما وَأَن ينصبا قاسما، لِأَن الْحق لَا يعدوهما وَأَن يسألا حَاكما نَصبه، وَشرط كَون قاسما مُسلما إِذا نَصبه حَاكم وَكَونه عدلا وَكَونه عَارِفًا بِالْقِسْمَةِ ليحصل مِنْهُ الْمَقْصُود مَا لم يرضو بِغَيْرِهِ لِأَن الْحق لَا يعدوهم، وَيَكْفِي قَاسم وَاحِد حَيْثُ لم يكن فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم، لِأَنَّهُ كالحاكم وَلَا يَكْفِي مَعَ تَقْوِيم إِلَّا إثنان، لِأَنَّهُ شَهَادَة بِالْقيمَةِ. وتباح أجرته وَهِي بِقدر الْأَمْلَاك نصا وَلَو شَرط خِلَافه قَالَ فِي الْمُنْتَهى، وَقَالَ فِي الْإِقْنَاع: فَإِن اسْتَأْجرهُ كل وَاحِد مِنْهُم بِأَجْر مَعْلُوم

(2/835)


ليقسم نصِيبه جَازَ، وَإِن استأجروه جَمِيعًا إِجَارَة وَاحِدَة بِأُجْرَة وَاحِدَة لزم كل وَاحِد من الْأجر بِقدر نصِيبه من الْمَقْسُوم مَا لم يكن شَرط. انْتهى. وَتسَمى الْأُجْرَة قسَامَة بِضَم الْقَاف وتعدل السِّهَام أَي سِهَام الْقِسْمَة أَي يعدلها الْقَاسِم بالأجزاء أَي أَجزَاء الْمَقْسُوم إِن تَسَاوَت، وَإِلَّا أَي وَإِن لم تتساو بل اخْتلفت فتعدل بِالْقيمَةِ، أَو تعدل ب [الرَّد إِن اقتضته] أَي الرَّد بِأَن لم يُمكن تَعْدِيل السِّهَام بالأجزاء وَلَا بِالْقيمَةِ فيعدل بِالرَّدِّ أَي بِأَن يَجْعَل لمن أَخذ الرَّدِيء أَو الْقَلِيل دَرَاهِم على من يَأْخُذ الْجيد أَو الْأَكْثَر ثمَّ يقرع بَين الشُّرَكَاء لإِزَالَة الْإِبْهَام فَمن خرج لَهُم سهم صَار لَهُ، وَكَيف مَا قرع جَازَ وَتلْزم الْقِسْمَة بهَا أَي الْقرعَة، لِأَن الْقَاسِم كالحاكم وقرعته حكم، نَص عَلَيْهِ، وَلَو كَانَت الْقِسْمَة فِيمَا فِيهِ رد عوض أَو ضَرَر إِذا تَرَاضيا عَلَيْهَا، وَسَوَاء تقاسموا بِأَنْفسِهِم أَو بقاسم، لِأَنَّهَا كَالْحكمِ من الْحَاكِم فَلَا تنقض وَلَا يعْتَبر رضاهم بعْدهَا كَمَا لَا يعْتَبر بعد حكم الْحَاكِم وَإِن خير أَحدهمَا أَي الشَّرِيكَيْنِ الآخر بِأَن قَالَ: لَهُ اختر أَي الْقسمَيْنِ شِئْت، بِلَا قرعه صحت أَي الْقِسْمَة ولزمت برضاهما وتفرقهما بأبدانهما لتفرق متابعين. وَمن ادّعى غَلطا فِيمَا تقاسماه بأنفسهما وأشهدا على رضاهما بِهِ لم يلْتَفت إِلَيْهِ فَلَا تسمع دَعْوَاهُ وَلَا تقتل مِنْهُ وَلَا يحلف غَرِيمه لرضاه بِالْقِسْمَةِ على مَا وَقع إِلَّا أَن يكون مدعى الْغَلَط مسترسلا لَا يحسن المشاحة فِيمَا يُقَال لَهُ فيغبن بِمَا لَا يتَسَامَح فِيهِ عَادَة فَتسمع دَعْوَاهُ وَيُطَالب بِالْبَيَانِ فَإِذا ثَبت غبنه فَلهُ فسخ الْقِسْمَة قِيَاسا على البيع، وَتقبل بِبَيِّنَة فِيمَا قسم

(2/836)


قَاسم حَاكم، وَإِن لم تكن بَيِّنَة حلف مُنكر الْغَلَط لِأَن الأَصْل صِحَة الْقِسْمَة وَأَدَاء الْأَمَانَة، وقاسم نصباه كقاسم حَاكم. وَإِذا تداعيا عينا لم تخل عَن أَرْبَعَة أَحْوَال: أَحدهَا أَن لَا تكون بيد أحد وَلَا ثمَّة ظَاهر وَلَا بَيِّنَة فيتحالفان ويتناصفانها، وَإِن وجد ظَاهر لأَحَدهمَا عمل بِهِ فيأخذها وَيحلف للْآخر. الثَّانِي: أَن تكون بيد أَحدهمَا فَهِيَ لَهُ بِيَمِينِهِ إِن لم تكن بَيِّنَة، فَإِن لم يحلف قضى عَلَيْهِ بِالنّكُولِ. الثَّالِث: أَن تكون بأيديهما كشيء كل مُمْسك لبعضه فيتحالفان ويتناصفانه، فَإِن قويت يَد أَحدهمَا كحيوان وَاحِد رَاكِبه وَآخر سائقه أَو قَمِيص وَاحِد لابسه وَآخر بكمه فَهُوَ للْأولِ بِيَمِينِهِ. وَإِن تنَازع صانعان فِي آلَة دكانهما فآلة كل صَنْعَة لصَاحِبهَا، وَمَتى كَانَ لأَحَدهمَا بَيِّنَة فالعين لَهُ وَلم يحلف فِي الْأَصَح، فَإِن كَانَ لكل مِنْهُمَا بَيِّنَة وتساوتا من كل وَجه تَعَارَضَتَا وتساقطتا فيتحالفان ويتناصفان مَا بأيديهما ويقرعان فِيمَا عداهُ كشيء لَيْسَ بيد أحد أَو بيد ثَالِث وَلم يُنَازع وَاحِد من المدعين فَمن خرجت لَهُ الْقرعَة فَهِيَ لَهُ بِيَمِينِهِ. وَإِن كَانَت الْعين بيد أَحدهمَا فَهُوَ دَاخل وَالْآخر خَارج وَبَيِّنَة الْخَارِج مُقَدّمَة على بَيِّنَة الدَّاخِل، لَكِن لَو أَقَامَ الْخَارِج بية أَنَّهَا ملكه وَأقَام الدَّاخِل بَيِّنَة أَنه اشْتَرَاهَا مِنْهُ قدمت بَينته هَهُنَا لما مَعهَا من زِيَادَة الْعلم. وَإِن أَقَامَ أَحدهمَا بَيِّنَة أَنه اشْتَرَاهَا من فلَان وَأقَام الآخر بَيِّنَة كَذَلِك عملا بأسبقهما تَارِيخا.

(2/837)


وَالرَّابِع: أَن تكون بيد ثَالِث فَإِن ادَّعَاهَا لنَفسِهِ حلف لكل وَاحِد يَمِينا فَإِن نكل أخذاها مِنْهُ مَعَ بدلهَا واقترعا عَلَيْهَا أَي على الْعين وبدلها لِأَن الْمَحْكُوم لَهُ بِالْعينِ غير معِين، وَإِن قَالَ: هِيَ لأَحَدهمَا وأجهله وصدقاه على جَهله بمستحقها مِنْهُمَا لم يحلف وَإِن كذباه حلف يَمِينا وَاحِدَة ويقرع بَينهمَا فَمن قرع وَأَخذهَا نصا. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

(2/838)