مختصر الإنصاف والشرح الكبير

كتاب الطهارة
باب المياه
...
باب المياه 1
وهي ثلاثة: طهور، وهو الباقي على خلقته. وجملته أن كل صفة خلق عليها الماء وبقي عليها فهو طهور، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم طهّرني بالثلج والبرد والماء البارد"، 2 وفي البحر: "هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته" 3.
وهذا قول أهل العلم إلا ما روي عن ابن عمرو في ماء البحر: "التيمم أعجب إليَّ منه"، والأول أولى، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، 4 وهذا واجد للماء.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الوضوء بالماء الآجن جائز، سوى ابن سيرين، فإنه كره ذلك.
والماء المتغير بورق الشجر، وما ينبت في الماء، أو تحمله الريح أو السيول، أو ما تغير في آنية الأدم والنحاس ونحوه، يعفى عن ذلك كله، لأنه يشق التحرز منه، أو ما يخالطه كالعود والدهن والعنبر إذا لم يستهلك فيه ولم يتحلل، لأنه تغير عن مجاورة، أو ما أصله الماء كالملح البحري، فإن كان معدنياً فهو كالزعفران، وكذلك الماء المتغير بالتراب، لأنه يوافق الماء في صفته أشبه الملح، أو ما تروح بريح ميتة إلى جانبه، لا نعلم في ذلك خلافاً، أو سخن بالشمس.
وقال الشافعي: تكره الطهارة بماء قصد تشميسه، لحديث: "لا تفعلي فإنه يورث البرص"، رواه الدارقطني وقال: يرويه خالد بن إسماعيل، وهو متروك، وعمرو الأعسم، وهو منكر الحديث، ولأنه لو كره لأجل الضرر لما اختلف
__________
1 أول كل باب ملخص من الشرح الكبير، وآخره من الإنصاف.
2 مسلم: الصلاة (476) , والترمذي: الدعوات (3547) , والنسائي: الغسل والتيمم (402، 403) , وأحمد (4/354) .
3 الترمذي: الطهارة (69) , والنسائي: المياه (332) والصيد والذبائح (4350) , وأبو داود: الطهارة (83) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (386) والصيد (3246) , وأحمد (2/237, 2/361, 2/378) , ومالك: الطهارة (43) , والدارمي: الطهارة (729) .
4سورة المائدة آية: 6.

(1/7)


بقصد التشميس وعدمه، أو بطاهر كالحطب ونحوه، فلا يكره، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما روي عن مجاهد أنه كره الوضوء بالمسخن. وإن سخن بنجاسة فهل يكره؟ على روايتين. ولا يكره الغسل والوضوء بماء زمزم، لحديث أسامة، وعنه: يكره، لقول العباس: "لا أحلّها لمغتسل".
وإذا خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة. قال شيخنا: لا نعلم فيه خلافاً. وإذا وقع فيه ماء مستعمل عُفي عن يسيره، وهذا ظاهر حاله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، "لأنهم يتوضؤون من الأقداح". فإن كثر مُنع في إحدى الروايتين؛ وقال أصحاب الشافعي: إن كان الأكثر المستعمل مُنع، وإلا فلا. فإن كان معه ماء لا يكفيه لطهارته فكمله بمائع آخر لم يغيره، جاز الوضوء به، في إحدى الروايتين.
الثاني: طاهر غير مطهر: وهو كل ماء خالطه طاهر، فغير اسمه حتى صار صبغاً أو خلاً، أو طُبخ فيه فصار مرقاً، فلا يجوز الوضوء به، لا نعلم فيه خلافاً؛ إلا أنه حكي عن أصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلاء المغلي أنه يجوز الوضوء به. وحكي عن ابن أبي ليلى جواز الوضوء بالمياه المعتصرة، وسائر أهل العلم على خلافه، لأن هذا لا يقع عليه اسم الماء. فإن غيّر أحد أوصافه ففيه روايتان:
إحداهما: أنه غير مطهّر، وهو قول مالك والشافعي، أشبه ماء الباقلاء المغلي. إذا ثبت هذا، فإن أصحابنا لا يفرّقون بين المذرور كالزعفران والأشنان وبين الحبوب من الباقلاء ونحوه. وقال الشافعية: ما كان مذروراً منع إذا غيّر،

(1/8)


وما عداه لا يمنع، إلا أن ينحلّ في الماء، ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان، وخالفوهم فيما ذكرنا. وشرط الخرقي الكثرة في الرائحة، لسرعة سرايتها، ولكونها تحصل عن مجاورة، فاعتبرت الكثرة ليعلم أنها عن مخالطة.
والرواية الثانية: أنه باق على طهوريته؛ نقلها عن أحمد جماعة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} 1 وهذا عام في كل ماء، لأنه نكرة في سياق النفي، و"لأن الصحابة كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم، وهي تغيّر أوصاف الماء عادة، ولم يكونوا يتيممون معها".
واختلف في المنفصل من المتوضئ عن الحدث والمغتسل من الجنابة، فروي أنه طاهر غير مطهّر، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة والشافعي، وإحدى الروايتين عن مالك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، 2 رواه أبو داود، ولولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، ولأنه أزال به مانعاً من الصلاة.
والثانية: أنه مطهّر، وهو قول الحسن وعطاء والنخعي، وإحدى الروايتين عن مالك، والقول الثاني للشافعي. وهو قول ابن المنذر. وروي عن علي وابن عمر: "فيمن نسي مسح رأسه، إذا وجد بللاً في لحيته: أجزأه أن يمسح رأسه به"، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "الماء لا يجنب"، 3 و"أنه اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء، فعصر شعره عليها"، رواه أحمد، ولأنه أدى به فرضاً، فجاز أن يؤدي به غيره، كالثوب يصلي فيه مراراً. وقال أبو يوسف:
__________
1 سورة المائدة آية: 6.
2 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282, 283) , والترمذي: الطهارة (68) , والنسائي: الطهارة (57, 58, 220, 221) والغسل والتيمم (397, 398, 399, 400) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (344, 605) , وأحمد (2/259, 2/265, 2/288, 2/316, 2/346, 2/362, 2/394, 2/433, 2/464, 2/529, 2/532) , والدارمي: الطهارة (730) .
3 الترمذي: الطهارة (65) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (370) .

(1/9)


هو نجس لأنه يسمى طهارة، وهي لا تعقل إلا عن نجاسة، وتطهير الطاهر محال، ووجه طهارته: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّ على جابر من وضوئه"، والدليل على طهارة أعضاء المحدث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا ينجس".
وأما المستعمل في طهارة مشروعة كالتجديد، ففيه روايتان، أو غمس فيه يد قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثاً، فهل يسلب طهوريته؟ على روايتين:
إحداهما: لا يسلبه، وهو الصحيح، لأن الماء قبله طهور فبقي على الأصل، والنهي عن الغمس إن كان لوهم النجاسة، فالوهم لا يزيل الطهورية، وإن كان تعبداً اقتصر على النص.
والثانية: يسلبه للنهي، فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، وروي عن أحمد: أحب إلي أن يريقه إذا غمس يده فيه. وهل يكون غمس بعض اليد كالجميع؟ فيه وجهان. ولا يجب غسلهما عند القيام من نوم النهار، وسوَّى الحسن بينهما، ولنا: قوله: "فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده"، 1 والمبيت يكون في الليل خاصة. وإن كان القائم صبياً، ففيه وجهان. واختلفوا في النوم الذي يتعلق به هذا: فذكر القاضي أنه الذي ينقض الوضوء، وقال ابن عقيل: هو ما زاد على نصف الليل.
وتجب النية للغسل في أحد الوجهين، والثاني: لا يفتقر، لأنه علل بوهم النجاسة. ولا يفتقر الغسل إلى تسمية، وقال أبو الخطاب: يفتقر، قياساً على الوضوء، وهو بعيد، لأنها لو وجبت في الوضوء وجبت تعبداً. وإذا وجد ماء قليلاً ولم يمكنه الاغتراف، ويداه نجستان، فإن أمكنه الاغتراف بفيه ويصب
__________
1 البخاري: الوضوء (162) .

(1/10)


عليهما فَعل، وإلا تيمم. وإن كانتا بعد نوم الليل، فمن قال: إن غمسهما لا يؤثر، قال: يتوضأ. ومن جعله مؤثراً، قال: يتوضأ ويتمم معه. فإن توضأ من ماء كثير أو اغتسل منه بغمس أعضائه ولم ينو غسل اليد، فعند من أوجب النية له يرتفع حدثه، ولا يجزيه عن غسل اليد، لأن غسلهما إما تعبداً وإما لوهم النجاسة، وبقاء النجاسة على العضو لا يمنع ارتفاع الحدث. وإذا انغمس الجنب أو المحدث في ماء دون القلتين ينوي رفع الحدث، صار مستعملاً ولم يرتفع حدثه؛ وقال الشافعي: يصير مستعملاً ويرتفع حدثه، لأنه إنما يصير مستعملاً بارتفاع الحدث. ولنا: قوله: "لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب"، 1 والنهي يقتضي الفساد. وإذا اجتمع ماء مستعمل إلى قلتين، صار الكل طهوراً. وإن بلغ قلتين باجتماعه، فيحتمل أن يزول المنع بحديث القلتين. وإن انضم مستعمل إلى مستعمل وبلغ قلتين، ففيه احتمالان. وإن أزيلت به النجاسة فانفصل غير متغير بعد زوالها، فهو طاهر، رواية واحدة، إن كان المحل أرضاً. وقال أبو بكر: إنما يحكم بطهارته إذا نشفت أعيان البول، فإن كانت قائمة فجرى الماء عليها فطهّرها، ففي المنفصل روايتان، كغير الأرض. ولنا: قوله: "صبّوا على بول الإعرابي ذنوباً من ماء"، فلو كان المنفصل نجسا، ً لكان تكثيراً للنجاسة، ولم يفرّق بين نشافه وعدمه. والظاهر أنه إنما أمر عقيب البول. وإن كان غير الأرض، فهو طاهر في أصح الوجهين؛ وهو مذهب الشافعي. وإن خلت بالطهارة منه امرأة فهو طهور، ولا يجوز للرجل الطهارة به، لحديث الحكم بن عمرو. قال أحمد: جماعة كرهوه.
__________
1 مسلم: الطهارة (283) , والنسائي: الطهارة (220) والغسل والتيمم (396) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) .

(1/11)


وخصصناه بالخلوة لقول عبد الله بن سرجس: "توضأ أنت ههنا، وهي ههنا. فأما إذا خلت به فلا تقربنه". وفيه رواية: "يجوز، لحديث ميمونة". فإن خلت به في إزالة النجاسة، ففيه وجهان. وإن خلت به في بعض أعضائها أو تجديد أو استنجاء، فوجهان. وإن خلت به الذمية في غسل الحيض، فوجهان: أحدهما: المنع لأنها أبعد عن الطهارة، وقد تعلق به إباحة وطئها. والثاني: الجواز، لأن طهارتها لا تصح. ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا ويتوضآ من إناء واحد من غير كراهة.
ولا يجوز رفع الحدث إلا بالماء. وقال عكرمة: النبيذ وضوء من لم يجد الماء. وعن أبي حنيفة كقول عكرمة، لحديث ابن مسعود: "ثمرة طيبة وماء طهور". 1 ولنا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، 2 أوجب الانتقال إلى التيمم عند عدم الماء، وحديثهم لا يثبت. فأما غير النبيذ، فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يجوز الوضوء به، غير ما ذكرنا في الماء المعتصر.
القسم الثالث: نجس، وهو ما تغير بمخالطة النجاسة؛ فهو نجس بالإجماع؛ حكاه ابن المنذر. فإن لم يتغير، وهو يسير، فهل ينجس؟ على روايتين:
إحداهما: ينجس، لحديث القلتين، وتحديده بهما يدل على نجاسة ما دونهما وإلا لم يكن مفيداً، "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم القائم من نومه عن غسل يده في الماء"، فدل على أنه يفيد منعاً، و"أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقة سؤره"، ولم يفرق بين ما تغير وبين ما لم يتغير.
__________
1 الترمذي: الطهارة (88) , وأبو داود: الطهارة (84) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (384) , وأحمد (1/449) .
2 سورة المائدة آية: 6.

(1/12)


والثانية: "لا ينجس الماء إلا بالتغير، روي عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس والحسن". وهو مذهب الثوري وابن المنذر، لحديث بضاعة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الكثير ينجس بالنجاسة من غير تغيّر، إلا أن يبلغ حداً يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه. واختلفوا في حده لقوله: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه"، 1 ولم يفرّق بين قليله وكثيره. ولنا: خبر القلتين وبئر بضاعة. وحديثهم لا بد من تخصيصه بما زاد على الحد الذي ذكروه؛ فتخصيصه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم من غير أصل. وما ذكروه من الحد تقدير من غير توقيف، ولا يصار إليه من غير نص ولا إجماع، مع أن حديثهم خاص بالبول، وهو قولنا في إحدى الروايتين جمعاً بين الحديثين؛ فنقصر الحكم على ما تناوله النص وهو البول، لأن له من التأكيد والانتشار ما ليس لغيره، إلا أن تكون النجاسة بولاً أو عذرة مائعة، ففيه روايتان:
إحداهما: لا ينجس، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، لحديث القلتين. وحديث النهي عن البول فيه لا بد من تخصيصه بما لا يمكن نزحه إجماعاً. فتخصيصه بخبر القلتين أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم.
والأخرى: ينجس، لحديث النهي عن البول فيه، وإن كوثر النجس بماء يسير أو بغير الماء كالتراب ونحوه، فأزال التغير، لم يطهر في أحد الوجهين، والثاني يطهر لأن علة النجاسة زالت.
فأما غير الماء إذا وقعت فيه نجاسة، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: ينجس وإن كثر، لقوله: "وإن كان مائعاً، فلا تقربوه"، 2 ولم يفرق بين قليله وكثيره.
الثانية: أنها كالماء، لا ينجس منها ما بلغ قلتين إلا بالتغير، قياساً على الماء.
__________
1 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282, 283) , والنسائي: الطهارة (58, 221) والغسل والتيمم (397, 398, 399) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (344) , وأحمد (2/316, 2/346, 2/362, 2/394, 2/433, 2/464) , والدارمي: الطهارة (730) .
2 النسائي: الفرع والعتيرة (4260) , وأبو داود: الأطعمة (3842) .

(1/13)


قال حرب: سألت أحمد قلت: كلب ولغ في سمن أو زيت، قال: إذا كان في آنية كبيرة، مثل حُب أو نحوه، رجوت أن لا يكون به بأسٌ، يؤكل. وإن كان في آنية صغيرة، فلا يعجبني.
والثالثة: أن ما أصله الماء كالخل التمري، يدفع النجاسة، وما لا فلا.
والماء المستعمل في رفع الحدث وما كان طاهراً غير مطهِّر، ففيه احتمالان، ولا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها، وما أدركه الطرف وما لم يدركه. وعن الشافعي: أن ما لا يدركه الطرف معفى عنه للمشقة، ولنا: أن دليل التنجس لا يفرق بين قليل النجاسة وكثيرها؛ فالتفريق تحكم، وما ذكروه من المشقة ممنوع، لأنا إنما نحكم بالنجاسة إذا علمنا وصولها، ثم إن المشقة بمجردها حكمة لا يجوز تعلق الحكم بها بمجردها، وجعل ما يدركه الطرف ضابطاً لها إنما يصحُّ بالتوقيف أو باعتبار الشرع له في موضع واحد، ولم يوجد واحد منهما.
والقلتان: خمسمائة رطل بالعراقي، وعنه: أربعمائة رطل، وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين.
ونقل عن أحمد التفريق بين الجاري والواقف، فإنه قال في حوض الحمام: قد قيل إنه بمنزلة الماء الجاري، وقال في البئر: تكون لها مادة وهو واقف ليس هو بمنزلة الجاري، فعلى هذا لا ينجس إلا بالتغير لأن الأصل طهارته، ولأنه بمجموعه يزيد على القلتين. فإن قيل فالجرية لا تبلغهما، قيل: تخصيص الجرية بهذا التقدير تحكم، وهذا اختيار شيخنا، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
وإن اشتبهت ثيابٌ طاهرة بنجسة، صلى في كل ثوب صلاةن بعدد النجس، وزاد صلاة. وقال أبو ثور: لا يصلي في شيء منهما. وقال أبو حنيفة والشافعي: يتحرى، كقولهما في الأواني والقبلة.

(1/14)


فإن سقط عليه من طريقٍ ماء، لم يلزمه السؤال عنه. قال عمر: "يا صاحب الحوض لا تخبرنا؛ فإنا نرِد عليها وترد علينا"، رواه في الموطإ. قال ابن عقيل: لا يلزم ردّ الجواب، لخبر عمر.
قال شيخنا: يحتمل أن يلزمه، لأنه سئل عن شرط الصلاة، كما لو سئل عن القبلة؛ وخبر عمر يدل على أن سؤر السباع طاهر.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وعند الشيخ: أن كل ما هو طاهر تحصل به الطهارة. وقال في ماء زمزم: وعنه: يكره الغسل وحده، اختاره الشيخ. وذكر عنه أيضاً في الماء المستعمل والمغموسة به يد القائم من نوم الليل: ولو نوى جنب بانغماسه كله أو بعضه في ماء قليل راكد رفْعَ حدثه، لم يرتفع، وقيل: يرتفع، اختاره الشيخ.
والماء في محل التطهير لا يؤثر تغيّره، وقيل: يؤثر، اختاره الشيخ وقال: التفريق بينهما بوصف غير مؤثر لغة وشرعاً. وإن لم يتغير وهو يسير، فهل ينجس؟ الرواية الثانية: لا ينجس، اختارها الشيخ. وقيل بالفرق بين يسير الرائحة وغيرها، فيعفى عن يسير الرائحة، ذكره ابن البنا، ونصره ابن رجب في شرح البخاري. وأظن أنه اختيار الشيخ وابن القيم.
وإذا لاقت النجاسة مائعاً، فاختار الشيخ أن حكمه حكم الماء. واختار أن الثياب الطاهرة والنجسة إذا اشتبهت، صلى في واحد منها بالتحري.

(1/15)


باب الآنية
جميع الآنية الطاهرة يباح استعمالها، سواء كانت ثمينة أو لا، في قول عامة أهل العلم، إلا أنه روي عن ابن عمر أنه كره الوضوء في الصفر والنحاس والرصاص. وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس. وقال الشافعي في أحد قوليه: ما كان ثميناً لنفاسة جوهره حرُم، لأن فيه نوع سرف، ولأن تحريم آنية الذهب والفضة تنبيه على تحريم ما هو أنفس منها. ولنا: ما روى البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من تور من صفر". 1 وأما الجواهر فلا يصح قياسها على الأثمان، لأنها لا تُتخذ إلا نادراً. وجاز استعمال القصب من الثياب، وإن زادت قيمته على الحرير.
ولو جعل فص خاتمه جوهرة ثمينة جاز، ولو جعله ذهباً لم يجز. قال: ولا يختلف المذهب في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة، وحكي عن الشافعي إباحته لتخصيص النهي بالاستعمال كاتخاذ ثياب الحرير.
وأما المضبب بهما، فإن كان كثيراً حرُم بكل حال. وقال أبو حنيفة: يباح لأنه تابع للمباح. ولنا: حديث: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك ... " الحديث رواه الدارقطني، 2 إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة، كتشعيب القدح إذا لم يباشرها بالاستعمال؛ وممن رخص فيه طاووس وإسحاق وابن المنذر. و"كان ابن عمر لا يشرب
__________
1 البخاري: الوضوء (197) .
2 في هامش الأصل: ذكر ابن تيمية أن الحديث ضعيف.

(1/16)


من قدح فيه فضة ولا ضبة". وكره الشرب في الإناء المفضض عطاء وسالم، ولعلهم كرهوا ما قصد به الزينة أو كان كثيراً.
ويباح طعام أهل الكتاب واستعمال آنيتهم، قال: وهل يكره؟ على روايتين:
إحداهما: لا يكره لقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، 1 وحديث ابن المغفل، و"توضأ عمرُ من جرة نصرانية".
والثانية: يُكره، لحديث أبي ثعلبة المتفق عليه. وأما ثيابهم، فما ولي عوراتهم كالسراويل فروي عن أحمد أنه قال: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيه. وأما غير أهل الكتاب، فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة عملاً بالأصل. وأما أوانيهم، فمذهب الشافعي أن حكمها حكم أواني أهل الكتاب، "لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة". وقال القاضي: "لا يستعمل ما استعملوه منها إلا بعد غسله"، لحديث أبي ثعلبة. ولا نعلم خلافاً في إباحة الثوب الذي نسجوه. وتباح الصلاة في ثياب الصبيان والمربيات وثوب المرأة الذي تحيض فيه، "لصلاته صلى الله عليه وسلم وهو حامل أمامة"، والتوقي لذلك أوْلى لاحتمال النجاسة.
ولأبي داود عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلّي في شعرنا ولحفنا". 2 ولا يجب غسل الثوب المصبوغ في حُب الصبّاغ، مسلماً كان أو كتابياً؛ فإن علمت نجاسته طهر بالغسل ولو بقي اللون، لقوله في الدم: "الماء يكفيك، ولا يضرّك أثره". 3 رواه أبو داود. ويستحب تخمير الأواني وإيكاء الأسقية، للحديث.
__________
1 سورة المائدة آية: 5.
2 الترمذي: الجمعة (600) , والنسائي: الزينة (5366) , وأبو داود: الصلاة (645) , وأحمد (6/129) .
3 أبو داود: الطهارة (365) , وأحمد (2/364) .

(1/17)


ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهراً في الحياة. قال بعض أصحابنا: يطهر جلد مأكول اللحم؛ وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق، لقوله: "ذكاة الأديم: دباغه"؛ 1 والذكاة إنما تُعمل في مأكول اللحم. والأول ظاهر كلام أحمد، لأن قوله: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهر" 2 يتناول المأكول وغيره، خرج منه ما كان نجساً في الحياة، لكون الدبغ إنما يرفع نجاسة حادثة بالموت، وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة: الطيبة، كقولهم: رائحة ذكية. ويحتمل أنه أراد بها الطهارة؛ يدل عليه أنه لو أراد بالذكاة الذبح، لأضافه إلى الحيوان كله لا إلى الجلد. فأمّا جلود السباع، فلا يجوز الانتفاع بها، وبه قال الأوزاعي وإسحاق. وروي عن ابن سيرين وعروة: الرخصة في الركوب على جلود النمور. ومذهب الشافعي طهارة جلود الحيوانات كلها، إلا الكلب والخنزير. وحكي عن أبي يوسف طهارة كل جلد. وحكي عن مالك، لعموم: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهر". 3 ولنا: "نهيه صلى الله عليه وسلم عن ركوب جلود النمور". رواه أبو داود.
وله في حديث آخر: "نهى عن جلود السباع والركوب عليها". وإذا قلنا بطهارته بالدباغ، لم يحل أكله. فظاهر كلام الشافعي أنه إن كان من مأكول جاز، لأن الدباغ ذكاة، والأول أصح، لقوله: "إنما حرّم أكلها". 4 ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل. ولا يجوز بيعه قبل الدبغ، لا نعلم فيه خلافاً، وهل يطهر بالدبغ قبل الغسل؟ قيل: لا، لقوله: "يطهِّرها الماء والقرظ". 5 رواه أبو داود. وقيل: بلى، لقوله: "أيما أهاب دُبغ، فقد طهر". 6 ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة، وقال مالك: يطهر، لقوله: "ذكاة الأديم دباغه"، ولنا: أن النهي عن جلود السباع عام، ولأنه ذبح لا يبيح اللحم؛ وقياس الذكاة على الدبغ لا يصح لأنه أقوى.
ولبن الميتة نجسٌ لأنه مائع في وعاء نجس،
__________
1 أحمد (3/476) .
2 مسلم: الحيض (366) , والترمذي: اللباس (1728) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4241) , وأبو داود: اللباس (4123) , وابن ماجة: اللباس (3609) , وأحمد (1/219) , ومالك: الصيد (1079) , والدارمي: الأضاحي (1985) .
3 مسلم: الحيض (366) , والترمذي: اللباس (1728) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4241) , وأبو داود: اللباس (4123) , وابن ماجة: اللباس (3609) , وأحمد (1/219) , ومالك: الصيد (1079) , والدارمي: الأضاحي (1985) .
4 مسلم: الحيض (363) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4234) , وأبو داود: اللباس (4120) , وابن ماجة: اللباس (3610) , وأحمد (6/329) .
5 النسائي: الفرع والعتيرة (4248) , وأبو داود: اللباس (4126) .
6 الترمذي: اللباس (1728) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4241) , وأبو داود: اللباس (4123) , وابن ماجة: اللباس (3609) , وأحمد (1/219) , والدارمي: الأضاحي (1985) .

(1/18)


وكذلك أنفحتها، وروي أنها طاهرة؛ وهو قول أبي حنيفة وداود، لأن الصحابة أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن، وهو يُعمل بالأنفحة، وذبائحهم ميتة. والأول أوْلى لأنه قيل: إن جزارهم اليهود والنصارى، ولو لم ينقل ذلك لكان الاحتمال كافياً؛ فإنه قد كان فيهم اليهود والنصارى.
وقد روي "أن الصحابة لما قدموا العراق كسروا جيشاً منهم بعد أن وضعوا طعامهم، فلما فرغ المسلمون أكلوه"، وهو لا يخلو من اللحم ظاهراً. فلو حكم بنجاسة ما ذبح في بلدهم، لما أكلوا من لحمهم. وإن ماتت الدجاجة وفيها بيضة قد صلب قشرها، فهي طاهرة؛ وهو قول ابن المنذر. و"كرهها علي وابن عمر ومالك". وعظام الميتة نجسة، وهو قول مالك والشافعي. ورخص في الانتفاع بعظام الفيلة: ابن سيرين وابن جريج. وقال مالك: إن ذُكِّي الفيل فعظمه طاهر، لأنه مأكول عنده. وقال الثوري وأبو حنيفة: عظام الميتة طاهرة لأن الموت لا يحلها.
ولنا: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 وتحريم كلِّ ذي ناب من السباع، وقولهم: العظام لا يحلها الموت ممنوع، لقوله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} الآية 2، ولأن دليل الحياة: الإحساس والألم، وهو في العظم أشد منه في اللحم. والقرن والظفر والحافر كالعظم، لقوله: "ما يُقطع من البهيمة وهي حية، فهو كميته". 3 قال الترمذي: حسن غريب. ويحتمل أن هذا طاهر، والخبر أريد به ما يُقطع مما فيه حياة فيموت بفصله، بدليل الشعر. وصوفها وشعرها وريشها طاهر، وبه قال مالك وابن المنذر. وقال الشافعي: هو نجس لأنه ينمي من الحياة، فينجس بموته كأعضائه؛ وهذا
__________
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة يس آية: 78.
3 الترمذي: الأطعمة (1480) , وأبو داود: الصيد (2858) .

(1/19)


منتقض بالبيض. وشعر الآدمي طاهر في الحياة والموت. وقال الشافعي في أحد قوليه: ينجس بفصله. ولهم في شعر النبي صلى الله عليه وسلم وجهان. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم فرّق شعره بين أصحابه"، وما كان طاهراً منه، كان طاهراً من غيره. وهل يجوز الخرز بشعر الخنزير؟ فيه روايتان. ورخص فيه الحسن ومالك والأوزاعي. وعن أحمد أنه قال: لا بأس به؛ ولعله قال ذلك لأنه لا يسلم منه الناس، وفي تكليف غسله إتلاف أموال الناس.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
حكى ابن عقيل عن أبي الحسن التميمي أنه قال: إذا اتخذ مسعطاً أو قنديلاً أو نعلين أو مجمرة أو مدخنة ذهباً أو فضة كره، ولم يحرم.
وفي الضبة أربع مسائل: كونها يسيرة بالشروط المتقدمة فتباح، وكبيرة لغير حاجة فلا تباح. واختار الشيخ الإباحة إذا كانت أقل مما فيه، وكبيرة لحاجة، ويسيرة لغير حاجة فلا تباح. وقيل: لا تحرم، اختاره الشيخ. وقال أبو بكر: يباح يسير الذهب، واختاره الشيخ وقال: قد غلط طائفة من الأصحاب حيث حكت قولا بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي وهما أوسع. وقال الشيخ أيضاً: يباح الاكتحال بميل الذهب والفضة، لأنها حاجةٌ. وإذا قلنا: يطهر جلد الميتة بالدباغ، فهل يختص بالمأكول أو ما كان طاهراً في حال الحياة؟ فيه وجهان: أحدهما: يشمل، اختاره الشيخ، واختار في الفتاوى المصرية اختصاصه بالمأكول. وعلى القول بأن الدباغ لا يطهر اختار الشيخ الانتفاع به في المائعات إن لم ينجس العين.

(1/20)


ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة، ولا يجوز ذبحه لأجل ذلك. قال الشيخ: ولو كان في النزع. وما طهر بدبغه جاز بيعه. وأطلق أبو الخطاب جواز بيعه مع نجاسته، قال في الفروع: فيتوجه منه جواز بيع نجاسة يجوز الانتفاع بها، ولا فرق ولا إجماع كما قيل. قال ابن قاسم المالكي: لا بأس ببيع الزبل. قال اللخمي: هذا من قوله يدل على بيع العذرة، وقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العذرة، لأنه من منافع الناس.
ولبن الميتة وأنفحتها نجس. وعنه: أنه طاهر مباح، اختاره الشيخ. واختار طهارة عظمها وقرنها وظفرها، نقل الميموني: صوف الميتة ما أعلم أحداً كرهه.

(1/21)


باب الاستنجاء
يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: "بسم الله"، لحديث علي، رواه ابن ماجة. ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس، الخبيث المخبث، الشيطان الرجيم"، لحديث أبي أمامة، رواه ابن ماجة، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، لحديث أنس، متفق عليه، قال أبو عبيدة: الخبْث بسكون الباء: الشر، وبضمها وبضم الخاء: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة. استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم. ولا يدخله بشيء فيه ذكر الله، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخله وضع خاتمه"، 1 قال الترمذي: صحيح غريب.
ويقدم اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ولا يتكلم "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام في هذه الحال". رواه مسلم.
ولا يذكر الله بلسانه، "روي كراهته عن ابن عباس". وعن ابن سيرين: لا بأس به. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام الذي يجب رده". فإن عطس، حمد الله بقلبه ولم يتكلم. وفي رواية: يحمد الله بلسانه.
وإذا خرج قال: "غفرانك"، لحديث الترمذي وحسنه، ويقولُ: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"، لحديث ابن ماجة. ولا بأس أن يبول في الإناء، لحديث أميمة، رواه أبو داود.
وإن كان في الفضاء، أبعد، لما روى أبو داود في الاستتار والارتياد: "أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد، واستتر، وارتاد مكاناً رخواً". 2 ويستحب أن يبول قاعداً، قال
__________
1 الترمذي: اللباس (1746) , والنسائي: الزينة (5213) , وأبو داود: الطهارة (19) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (303) .
2 أبو داود: الطهارة (2) .

(1/22)


ابن مسعود: "من الجفاء أن تبول وأنت قائم"، و"رويت فيه الرخصة عن عمر وغيره"، لحديث حذيفة، ولعله فعله ليبين الجواز، أو كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه.
ولا يبول في شق ولا سرب ولا طريق ولا ظل نافع ولا تحت شجرة مثمرة، ومثلها موارد الماء، لما روى أبو داود: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر"، 1 قال قتادة: يقال: إنها مساكن الجن، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل"، 2 والبول تحت الشجرة المثمرة ينجس الثمرة.
ويكره البول في الماء الراكد للنهي عنه، ولا يبول في المغتسل لما روى أبو داود عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم، أو يبول في مغتسله". 3 وقد رُوي أن عامة الوسواس منه. قال أحمد: إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة، فلا بأس. ولا يستقبل الريح لئلا يتنجس.
ولا يجوز أن يستقبل القبلة في الفضاء، وهذا قول أكثر أهل العلم، وفي استدبارها فيه واستقبالها في البنيان روايتان. ثم ذكر في النهي حديث أبي أيوب المتفق عليه وحديث أبي هريرة عند مسلم إلى أن قال: والثالثة: يجوز في البنيان، ولا يجوز في الفضاء، وهو الصحيح. ثم ذكر حديث مروان الأصغر عن ابن عمر، رواه أبو داود وقال: هذا تفسير للنهي العام، وفيه جمع بين الأحاديث. فإذا فرغ مسح بيسراه من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثاً، لحديث: "إذا بال أحدكم، فلينتر ذكره ثلاث مرات ". 4 رواه أحمد. ولا يمسح ذكره بيمينه ولا يستجمر بها، لحديث: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه " 5.
__________
1 أبو داود: الطهارة (29) , وأحمد (5/82) .
2 أبو داود: الطهارة (26) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (328) .
3 النسائي: الطهارة (238) , وأبو داود: الطهارة (28) , وأحمد (4/110, 5/369) .
4 ابن ماجة: الطهارة وسننها (326) , وأحمد (4/347) .
5 البخاري: الوضوء (153, 154) والأشربة (5630) , ومسلم: الطهارة (267) , والترمذي: الطهارة (15) , والنسائي: الطهارة (24, 25, 47) , وأبو داود: الطهارة (31) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (310) , وأحمد (4/383, 5/295, 5/296, 5/300, 5/309, 5/310, 5/311) , والدارمي: الطهارة (673) .

(1/23)


متفق عليه. وإن فعل لغير حاجة أجزأه عند الأكثر. وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لا يجزئه، للنهي، كما لو استنجى بالروث. والأول أولى، لأن الروث آلة الاستجمار، وبشرطه: واليد إنما يتناول بها الحجر الملاقي للمحل.
والجمع بين الحجر والماء أفضل، قال أحمد: هو أحب إليَّ، لقول عائشة: "مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله". 1 قال الترمذي: حديث صحيح. ويجزئه أحدهما في قول الأكثر. وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير "أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء"، قال ابن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا النساء، وقال عطاء: غسل الدبر محدث.
وأما الاقتصار على الاستجمار فجائز بغير خلاف، إلا أن يعدو الخارج موضع العادة، فلا يجزئ إلا الماء، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر. والثيب إن تعدى بولها إلى مخرج الحيض، فقال أصحابنا: يجب غسله، قال شيخنا: ويحتمل أن لا يجب، لأنه لو لزم لبينه صلى الله عليه وسلم لأزواجه.
و"إذا استنجى بالماء استحب له دلك يده بالأرض، لأنه صلى الله عليه وسلم فعله". رواه البخاري. قال حنبل: سألت أحمد قلت: أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعد، قال: إذا توضأت فاستبرئ، ثم خذ كفاً من ماء فرُشّه في فرجك ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله.
والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر، وعنه: لا يجزئ إلا الأحجار، وهو مذهب داود، وفي حديث سلمان عند مسلم: "نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم"، وتخصيصهما بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة وما قام مقامها. ويشترط فيما يستجمر به أن
__________
1 الترمذي: الطهارة (19) , والنسائي: الطهارة (46) .

(1/24)


يكون طاهراً، فإن كان نجساً لم يجزئه، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزئه، ولنا: قوله في الروث: "هذا ركس" يعني: نجساً، رواه الترمذي.
ولا يجوز بالروث والعظم. وقال أبو حنيفة: يجوز، وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منها. ولنا: ما روى مسلم عن ابن مسعود، وكذلك الطعام لأنه علل النهي عن العظم والروث، بأنه زاد الجن، فزادنا أولى.
ولا يجزي أقل من ثلاث مسحات، إما بحجر ذي شعب أو ثلاثة أحجار، وعنه: لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار وهو قول ابن المنذر ويشترط الإنقاء وهو إزالة النجاسة وبلِّها، وقال مالك: يجزئ دون العدد إذا حصل الإنقاء، ولنا: حديث سلمان. ويقطع على وتر، لحديث أبي هريرة. ويجزئ في النادر كالمعتاد. ولأصحاب الشافعي وجه: أنه لا يجزئ في النادر; لأنه أمر بغسل الذكر من المذي.
ويجب من كل خارج إلا الريح، وهذا قول أكثر أهل العلم، أعني: وجوب الاستنجاء في الجملة. وحكي عن ابن سيرين فيمن صلى بقوم ولم يستنج: لا أعلم به بأساً، وهذا مذهب أبي حنيفة. فإن توضأ قبله، فهل يصح وضوؤه؟ على روايتين. الثانية: يصح، وهي أصح، وهو مذهب الشافعي.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال أحمد في الدرهم إذا كان فيه اسم الله أو مكتوباً عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 يكره أن يدخل اسم الله الخلاء. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، يحتمل الكراهة إذا لم تكن حاجة؛ جزم به الشيخ في شرح العمدة. ويحتمل التحريم، وهي رواية عن أحمد.
وحَمْدُ العاطس وإجابة المؤذن بقلبه، ويكره بلفظ؛ وعنه: لا يكره. قال الشيخ: يجيب المؤذن في الخلاء.
ولا يستقبل الشمس ولا القمر،
__________
1 سورة الإخلاص آية: 1.

(1/25)


وقيل: لا يكره، اختاره في الفائق. ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء والبنيان، اختاره الشيخ وابن القيم، ويكفي انحرافه. وظاهر كلام صاحب المحرر وحفيد: لا يكفي. وإذا فرغ مسح ... إلخ. وقال الشيخ: يكره السلت والنتر.
وظاهر كلام المصنف: لا يتنحنح، ولا يمشي بعد فراغه وقبل الاستنجاء، قال الشيخ: كل ذلك بدعة. واختار أنه يستجمر في الصفحتين والحشفة وغير ذلك، للعموم. ولا يجب غسل ما أمكن من داخل فرج ثيب من نجاسة وجنابة، نص عليه، واختاره المجد وحفيده. وأثر الاستجمار نجس يعفى عن يسيره، وعنه: طاهر.
وظاهر كلام المصنف: جواز الاستجمار بالمغصوب، واختاره الشيخ في قواعده1. واختار الإجزاء بالروث والعظام، قال: لأنه لم ينه عنه لكونه لا ينقى، بل لإفساده. فإذا قيل يزول بطعامنا مع التحريم، فهذا أولى. واختار في قواعده الإجزاء بالمطعوم ونحوه.
__________
1 اختيار الشيخ في الإنصاف اشتراط إباحة المستجمر به.

(1/26)


باب السواك وسنية الوضوء
...
باب السواك وسنة الوضوء
والسواك مسنون في جميع الأوقات، لا نعلم خلافاً في استحبابه وتأكده، إلا للصائم بعد الزوال، ولا نعلم أحداً، قال بوجوبه إلا إسحاق وداود.
و"يتأكد استحبابه عند الصلاة وعند القيام من النوم"، لحديث حذيفة، وعند تغير رائحة الفم. ويستاك على أسنانه ولسانه، لقول أبي موسى: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك على لسانه"1. متفق عليه.
فإن استاك بأصبعه أو خرقة، فهل يصيب السنة؟ على وجهين: أحدهما: لا يصيب. والثاني: يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء. ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها، وهو الصحيح، لحديث أنس، مرفوعاً: "يجزئ من السواك الأصابع". رواه البيهقي، قال محمد بن عبد الواحد الحافظ: هذا إسناده لا أرى به بأساً.
ويستاك عرضاً، فإن استاك على لسانه طولاً، فلا بأس، لحديث أبي موسى: "دخلت عليه وهو واضع طرف السواك على لسانه، يستن إلى فوق".
ويدّهن غباً، لنهيه عن الترجل إلا غباً، قال أحمد: معناه يدهن يوماً ويوماً، ولأبي داود عنه صلى الله عليه وسلم: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" 2.
فصول في الفطرة.
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس: الختان، الاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط" 3.
__________
1 مسلم: الطهارة (254) , والنسائي: الطهارة (3) , وأبو داود: الطهارة (49) , وأحمد (4/416) .
2 أبو داود: الطهارة (35) , وأحمد (2/351, 2/356, 2/371) , والدارمي: الطهارة (662) .
3 البخاري: اللباس (5891) , ومسلم: الطهارة (257) .

(1/27)


متفق عليه. ثم ذكر حديث ابن الزبير عن عائشة، مرفوعاً: "عشر من الفطرة". 1 أخرجه مسلم.
وسئل أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره، أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قيل له: بلغك فيه شيء؟ قال: "كان ابن عمر يدفنه".
قيل لأحمد: ترى أن يأخذ الرجل سفلته - أي عانته – بالمقراض، وإن لم يستقص؟ قال: أرجو أن يجزيه، إن شاء الله.
ويستحب إعفاء اللحية، وهل يكره أخذ ما زاد على القبضة; فيه وجهان: أحدهما: يكره، لحديث ابن عمر، مرفوعاً: "خالفوا المشركين، احفو الشوارب وأوفوا اللحى". 2 متفق عليه. والثاني: "لا يكره، لأن ابن عمر كان يفعله"، رواه البخاري.
وسئل أحمد عن: الرجل يتخذ الشعر؟ قال: سنة حسنة، لو أمكننا اتخذناه. وقال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمة". و"يستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إذا طال فإلى المنكب، وإذا قصر فإلى شحمة الأذن". وإن طوّله فلا بأس نص عليه. وقال أبو عبيدة: "كان له عقيصتان، وعثمان كان له عقيصتان". ويستحب ترجيل الشعر وإكرامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شعر فليكرمه". 3 رواه أبو داود. ويستحب فرقه، "لأنه صلى الله عليه وسلم فرق وذكره في الفطرة".
وهل يكره حلق الرأس في غير الحج والعمرة؟ فيه روايتان: إحداهما: يكره، لقوله في الخوارج: "سيماهم التحليق ". 4 والثانية: لا، "لنهيه صلى الله عليه وسلم عن القزع"، وقال: "احلقه كله، أو دعه كله". رواه أبو داود، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء في جميع الأمصار على إباحة الحلق، وكفى بهذا حجة.
فأما أخذه بالمقراض، فلا بأس، رواية واحدة؛ قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى، وأما المقراض فليس به بأس. وحلقه للمرأة
__________
1 مسلم: الطهارة (261) , والترمذي: الأدب (2757) , والنسائي: الزينة (5040, 5041، 5042) , وأبو داود: الطهارة (53) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (293) , وأحمد (6/137) .
2 مسلم: الطهارة (259) .
3 أبو داود: الترجل (4163) .
4 البخاري: التوحيد (7562) .

(1/28)


مكروه، رواية واحدة إلا لضرورة. قيل لأحمد: لا نقدر على الدهن وما يصلحه يقع فيه الدواب، فقال: إن كان لضرورة، فأرجو أن لا يكون به بأس.
ويكره نتف الشيب، لحديث عمرو بن شعيب، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه لعن الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة"، فهذه الخصال محرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعلها. وأما الواصلة بغير الشعر، فإن كان مما يشد به فلا بأس، وإن كان أكثر من ذلك ففيه روايتان.
والنامصة: التي تنتف الشعر من الوجه. وإن حلقه فلا بأس، لأن الخبر ورد في النتف، نص عليه. والواشرة: التي تبرد الأسنان لتحددها وتفلجها وتحسنها. وفي خبر آخر: "لعن الله الواشمة والمستوشمة" 1."ويستحب الطيب لأنه يعجبه صلى الله عليه وسلم".
والنظر في المرآة، قال حنبل: كان لأبي عبد الله صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط، فإذا فرغ من قراءة حزبه نظر في المرآة واكتحل وامتشط. ولأحمد عن أبي أيوب، مرفوعا: ً "أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح" 2.
ويستحب خضاب الشيب بغير السواد. قيل لأحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكر: "وجنبوه السواد". ويكره القزع وهو: حلق بعض الرأس، لنهيه عنه. ويجب الختان ما لم يخف على نفسه، لقوله لرجل أسلم: "ألق عنك شعر الكفر، واختتن". 3 رواه أبو داود، قال أحمد: "كان ابن عباس يشدد
__________
1 البخاري: الطلاق (5347) , وأحمد (4/308) .
2 الترمذي: النكاح (1080) , وأحمد (5/421) .
3 أبو داود: الطهارة (356) , وأحمد (3/415) .

(1/29)


في أمره". وروي عنه: "لا حج له ولا صلاة". 1 ورخص الحسن في تركه قال: "قد أسلم الأسود والأبيض ولم يفتش واحد منهم، ولم يختتنوا". ويشرع في حق النساء، بقوله: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". 2 قال مالك: يختتن يوم أسبوعه، وقال أحمد: لم أسمع فيه شيئاً. قال ابن المنذر: ليس فيه خبر حتى يرجع إليه ولا سنة تتبع، والأشياء على الإباحة.
ويتيامن في سواكه وطهوره وانتعاله ودخوله المسجد، لقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله". 3 متفق عليه.
(فصل) : وسنن الوضوء عشر:
السواك، لقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم مع كل وضوء بسواك". 4 رواه أحمد.
والتسمية، وعنه: أنها واجبة مع الذكر، لقوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". 5 رواه أبو داود، وقال أحمد: ليس في هذا حديث.
وغسل الكفين إن لم يكن قائما من نوم الليل، وإلا ففي وجوبه روايتان، لأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا: "أنه غسَل كفيه ثلاثاً"، وأما عند القيام من نوم الليل، فروي عنه: أنه مستحب، وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر، لأن الله قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} 6 الآية. والحديث محمول على الاستحباب. وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
__________
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1081) .
2 الترمذي: الطهارة (109) , وأحمد (6/47, 6/97, 6/112, 6/123, 6/135, 6/161, 6/227, 6/239) , ومالك: الطهارة (104, 105, 106) .
3 صحيح البخاري: كتاب الوضوء (168) , وصحيح مسلم: كتاب الطهارة (268) .
4 أحمد (2/460) .
5 الترمذي: الطهارة (25) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (398) .
6 سورة المائدة آية: 6.

(1/30)


والبداءة بالمضمضة والاستنشاق والمبالغة فيهما، إلا أن يكون صائماً، لأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك - أي الابتداء بهما - قبل الوجه.
والمبالغة سنة، لقوله: "أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً". 1 صححه الترمذي، وقسنا عليه المضمضة، لأنها من الإسباغ.
ويستحب المبالغة في سائر الأعضاء بالتخليل ودلك المواضع التي ينبو عنها الماء. و"يستحب مجاوزة موضع الوجوب بالغسل"، لحديث أبي هريرة، وتخليل اللحية، لحديث عثمان: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته". 2 صححه الترمذي. ويستحب أن يتعهد بقية شعور وجهه، ويمسح مآقيه، 3 لما روى أبو داود: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح المأقين"، 4 وتخليل أصابع اليدين والرجلين، لما تقدم، وهو في الرجلين آكد، لقول المستورد: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره". 5 رواه أبو داود. وذكر ابن عقيل في استحباب تخليل أصابع اليدين روايتين: إحداهما: يستحب، لقوله: "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك". 6 حسنه الترمذي.
و"لا خلاف في استحباب البداءة باليمنى"، لحديث عائشة، قال أحمد: أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً؛ وهو قول مالك والشافعي. وقال ابن المنذر: ليس بمسنون. وحكى رواية عن أحمد، لأنه غير موجود في الأخبار، ولأن في حديث الرُّبيع: "مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة". 7 رواه أبو داود. والغسلة الثانية والثالثة، أي: سنة وليس بواجب، لأنه توضأ مرة مرة. رواه البخاري
__________
1 الترمذي: الصوم (788) , والنسائي: الطهارة (87, 114) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (407, 448) , والدارمي: الطهارة (705) .
2 الترمذي: الطهارة (31) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (430) .
3 مأق العين: مقدمها. وجمعه مآق. ومؤقها: مؤخرها. وجمعه آماق.
4 أبو داود: الطهارة (134) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (444) .
5 الترمذي: الطهارة (40) , وأبو داود: الطهارة (148) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (446) , وأحمد (4/229) .
6 الترمذي: الطهارة (39) .
7 الترمذي: الطهارة (34) , وأبو داود: الطهارة (129) .

(1/31)


ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف".
إلا لصائم بعد الزوال، وعنه: يستحب، اختاره الشيخ. قوله: ويدهن غباً، واختار الشيخ فعل الأصلح بالبدن، كالغسل بماء حار في بلد رطب.
وقال: يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة. وكره أحمد الحجامة يوم السبت والأربعاء، وعنه: الوقف في الجمعة.
قال في الفروع: ويتوجه احتمال: تكره يوم الثلاثاء، لخبر أبي بكرة، وفيه ضعف، قال: ولعله اختيار أبي داود، لاقتصاره على روايته، والصحيح أنه يستاك بيساره. قال الشيخ: ما علمت إماماً خالف فيه كانتثاره. وغسلهما تعبد، 1 وقيل: لوهم النجاسة، كالحدث بالنوم، وقيل: معلل بمبيت يده ملابسة للشيطان، ويغسلان لمعنى فيهما.
وذكر أبو الحسين رواية: أنه لأجل إدخالهما الإناء، فيصح وضوؤه ولم يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال. قوله: "أخذ ماء جديداً للأذنين". وعنه: لا يستحب، بل يمسحان بماء الرأس، اختاره الشيخ.
قال ابن القيم: الأذكار التي تقولها العامة عند كل عضو لا أصل لها.
__________
1 أي يدي القائم من نوم الليل.

(1/32)


باب فروض الوضوء وصفته
فروضه ستة: غسل الوجه بالإجماع، للآية. وغسل اليدين، وهو الفرض الثاني. ومسح الرأس وهو الثالث. وغسل الرجلين وهو الرابع. والترتيب على ما ذكر الله وهو الخامس، ومذهب مالك: لا يجب، اختاره ابن المنذر، لأن الله عطف بواو الجمع، وأما ترتيب اليمنى على اليسرى فلا يجب بالإجماع، لأن الله ذكر مخرجهما واحداً، قال: {وَأَيْدِيَكُمْ} ، {وَأَرْجُلَكُمْ} . 1 وإن اجتمع الحدثان، سقط الترتيب والموالاة. والموالاة وهي السادس، وعنه: أنها غير واجبة، اختاره ابن المنذر. ووجه الأولى: حديث صاحب اللمعة، رواه أبو داود. والنية شرط لطهارة الأحداث كلها والتيمم، وقال الثوري: تشترط في التيمم دون طهارة الماء للآية.
ولنا: "إنما الأعمال بالنيات". 2 والآية حجة لنا، فإن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 3 أي: لها، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل، أي: له، وقولهم مقتضى الأمر حصول الإجزاء به، قلنا: بل مقتضاه وجوب الفعل، ولا يمنع أن يشترط له شرطا آخر كآية التيمم. وقولهم: إنها طهارة، قلنا: إنها عبادة. ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمينه ثم يستنثره بيساره، لما روي "أن عثمان غسل يديه ثلاثاً، ثم غرف بيمينه
__________
1 سورة المائدة آية: 6.
2 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) .
3 سورة المائدة آية: 6.

(1/33)


فتمضمض واستنشق بكف واحدة، واستنثر بيساره. فعل ذلك ثلاثاً. ثم ذكر سائر الوضوء. ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ لنا كما توضأت لكم" رواه سعيد.
ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه، لكن يستحب، لأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه بدأ بهما إلا شيئا نادراً.
وهل يجب الترتيب بينهما وبين سائر الأعضاء؟ على روايتين: إحداهما: يجب. والثانية: لا، لما روى المقدام: أنه صلى الله عليه وسلم أتي بوضوء فذكره، وفيه: "أنه تمضمض واستنشق بعد غسل الوجه واليدين". رواه أبو داود. وهما واجبان في الطهارتين. وعنه: الواجب الاستنشاق وحده فيهما، وبه قال ابن المنذر لقوله: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر". 1 متفق عليه. وعنه: واجبان في الكبرى دون الصغرى. وقال مالك والشافعي: مسنونان فيهما، لحديث: "عشر من الفطرة"، 2 والفطرة: السنة. ولنا: حديث لقيط: "إذا توضأت فتمضمض". رواه أبو داود. وكل من وصف وضوءه ذكر "أنه فعلهما"، ومداومته تدل على وجوبهما، لأن فعله يصلح أن يكون بياناً لأمر الله، وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما، كالختان.
ثم يغسل وجهه ثلاثاً، وحدّه: من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً مع ما استرسل من اللحية، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن مقدم رأسه، ولا بالأقرع الذي نزل شعره إلى وجهه، بل بغالب الناس.
وقال مالك: ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه، ولا يجب غسله. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا.
ويدخل في الوجه العذار وهو: الشعر الذي على العظم الناتيء سمت صماخ الأذن، والعارض الذي تحته نابت على الخد واللحيين، والذقن الذي على مجمع اللحيي؛، فهذه الشعور الثلاثة من الوجه. فأما الصدغ وهو: الذي فوق العذار فالصحيح أنه من
__________
1 البخاري: الوضوء (162) , ومسلم: الطهارة (237) , والنسائي: الطهارة (88) , وأحمد (2/242, 2/289, 2/316, 2/401) , ومالك: الطهارة (33) .
2 مسلم: الطهارة (261) , والترمذي: الأدب (2757) , والنسائي: الزينة (5040, 5041، 5042) , وأبو داود: الطهارة (53) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (293) , وأحمد (6/137) .

(1/34)


الرأس لأن في حديث الرُّبيع: "أنه مسح برأسه وصدغيه وأذنيه مرة واحدة". 1 رواه أبو داود.
وعن أبي حنيفة: لا يجب غسل اللحية الكثيفة وما تحتها من البشرة، قال الخلال: الذي ثبت عن أبي عبد الله في اللحية: أنه لا يغسلها، وليست من الوجه؛ وظاهر هذا كمذهب أبي حنيفة، والمشهور في المذهب: وجوب غسلها، وما روي عن أحمد يحتمل أنه أراد غسل باطنها. وإن كان شعرها خفيفاً يصف البشرة وجب غسلها معه، وإن كان كثيفاً أجزأ غسل ظاهره، ويستحب تخليله ولا يجب؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لأن الله لم يذكر التخليل، ولأن أكثر من حكى وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يحكه، وهو كثيف اللحية؛ وفعله بعض الأحيان يدل على استحبابه. وقال إسحاق: إذا تركه عامداً أعاد الوضوء، لحديث أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه وخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل". 2 رواه أبو داود. وقال عطاء: يجب غسل ما تحت الشعور الكثيفة في الوضوء، قياساً على الجنابة، وقول الجمهور أولى، والفرْق أنه يشق في الوضوء لتكرره.
ولا يستحب غسل داخل العينين في وضوء ولا غسل، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به وفيه ضرر، وذكر عن أحمد: استحبابه في الغسل، وذكره أبو الخطاب من سنن الوضوء، لفعل ابن عمر. وما ذكره عنه يدل على كراهته لكونه ذهب ببصره. ويستحب التكثير في ماء الوجه، لأن فيه غضوناً ليصل الماء إلى جميعه. وروي عن علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أدخل يديه في الإناء جميعاً، فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه، ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك. ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه". 3 رواه أبو داود، يعني: تسيل وتنصب.
__________
1 الترمذي: الطهارة (34) , وأبو داود: الطهارة (129) .
2 أبو داود: الطهارة (145) .

(1/35)


(فصل) : ثم يغسل يديه إلى المرفقين، ويدخلهما في الغسل، في قول الأكثر، وحكي عن بعض المالكية: لا يجب لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، 1 و "إلى" لانتهاء الغاية. ولنا: أنها تستعمل بمعنى "مع" كقوله: {قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، 2 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} . 3 وقال المبرد: إذا كان الحدّ من جنس المحدود دخل فيه، كقولهم بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف.
وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء، فقيل: لا تصح الطهارة حتى يزيله، قال شيخنا: ويحتمل أن لا يجب، لأن هذا يستتر عادة؛ فلو كان واجباً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم. و"قد عاب عليهم كونهم يدخلون عليه قلحاً، ورفغ أحدهم بين أنملته وظفره"، يعني: أن وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها، ولو كان مبطلاً للطهارة لكان أهم من نتن الريح. ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه، فغرف منه بيديه عند غسلهما لم يؤثر في الماء، وقال أصحاب الشافعي: يصير مستعملاً، لأنه موضع غسل اليد. ولنا: حديث عثمان، ولو كان هذا يفسد لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمعرفته ولبيّنه.
ثم يمسح رأسه، وهو فرض بالإجماع، للآية: "يبدأ بيديه من مقدمه، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردّهما إلى مقدمه"، كما روى عبد الله بن زيد في صفة مسحه صلى الله عليه وسلم. فإن كان ذا شعر يخاف أن ينتفش بردّ يديه لم يردّهما، نص عليه أحمد، لأنه قد روي عن الرُّبَيِّع: "أن رسول الله صلى الله
__________
1 سورة البقرة آية: 187.
2 سورة هود آية: 52.
3 سورة النساء آية: 2.

(1/36)


عليه وسلم توضأ عندها، فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته". 1 رواه أبو داود.
وسئل أحمد: كيف تمسح المرأة؟ فقال: هكذا، ووضع يده على وسط رأسه، ثم جرها إلى مقدمه، ثم رفعها حيث منه بدأ، ثم جرها إلى مؤخره. قال القاضي: روي عنه: أنه يأخذ للردة ماء جديداً، وليس بصحيح. ويجب مسح جميعه مع الأذنين، وعنه: يجزئ مسح أكثره، اختلفت الرواية في قدر الواجب، فروى عنه الجميع في حق كل أحد، وهو مذهب مالك، لقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ، 2 والباء للإلصاق، فكأنه قال: وامسحوا رؤوسكم، وصار كقوله سبحانه في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، 3 ولأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا "أنه مسح برأسه كله"، وهو يصلح أن يكون بياناً للمأمور به. وعنه: يجزئ بعضه، ونقل عن سلمة بن الأكوع: "أنه كان يمسح مقدم رأسه، وابن عمر مسح اليافوخ".
والظاهر عن أحمد في الرجل: وجوب الاستيعاب، والمرأة يجزيها مسح مقدم رأسها، "لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها"، واحتج من أجاز مسح البعض بقول المغيرة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين". 4 رواه مسلم. وقال أنس: "رأيته صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدمة رأسه، ولم ينقض العمامة". 5 رواه أبو داود، وبأن من مسح بعضه يقال: مسح برأسه، كما يقال: مسح برأس اليتيم. واختلفوا في قدر المجز:، فقال أحمد: لا يجزئه إلا الأكثر، وقال أبو حنيفة: ربعه، وقال الشافعي: ما يقع
__________
1 أحمد (6/359) .
2 سورة المائدة آية: 6.
3 سورة المائدة آية: 6.
4 مسلم: الطهارة (274) , والترمذي: الطهارة (100) , والنسائي: الطهارة (109) , وأبو داود: الطهارة (150) .
5 أبو داود: الطهارة (147) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (564) .

(1/37)


عليه الاسم، حكي عنه: ثلاث شعرات.
ويجب مسح الأذنين، وعنه: لا، قال الخلال: كلهم حكوا فيمن تركهما عامداً أنه يجزيه، لأنهما منه على وجه التبع، ولا يفهم من الإطلاق دخولهما فيه. ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، لأن في حديث الرُّبيع: "فأدخل إصبعيه في جحري أذنيه". 1 رواه أبو داود.
ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر. ويمسح رأسه بماء جديد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قاله الترمذي. وجوز الحسن وعروة وابن المنذر مسحه بفضل ذراعيه، لما روي عن عثمان "أنه مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا حين حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم". رواه سعيد.
وهل يستحب مسح العنق؟ فيه روايتان: إحداهما: يستحب، لما في المسند: أنه مسح حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق. والثانية: لا يستحب، لأن الله لم يأمر به، والذين حكوا وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يذكروه، ولم يثبت فيه حديث. ولا يستحب تكراره، قال الترمذي: "العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم"، وعنه: يستحب، لما روى أبو داود في حديث عثمان. ووجه الأولى: أحاديث الذين وصفوا وضوءه، وأحاديثهم لا يصح منها شيء، قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، فإن قيل: يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة ومسح ثلاثاً ليبين الأفضل. قلنا: قول الراوي: هذا طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على الدوام لأنهم وصفوه لمن سألهم، فلو شاهدوا صفة أخرى لم يطلقوا هذا الإطلاق.
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً، ويدخلهما في الغسل. فإن كان أقطع غسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق شيء سقط. ويستحب أن يمس محل القطع
__________
1 أبو داود: الطهارة (131) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (441) .

(1/38)


بالماء لئلا يخلو العضو من طهارة.
ثم "يرفع نظره إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، لما روى مسلم من حديث عمر، رواه الترمذي، وزاد فيه: "اللهم اجعلني من التّوابين واجعلني من المتطهرين" 1. ورواه أبو داود، وفي بعض رواياته: "فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء".
والوضوء مرة مرة يجزي، والثلاث أفضل؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، إلا أن مالكاً لم يوقت مرة ولا ثلاثاً، قال: إنما قال الله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، 2 وقال الأوزاعي: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، إلا الرجلين فإنه ينقيهما.
والأول أولى، لما ذكرنا من الأحاديث. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فحسن، لحديث عبد الله بن زيد. وتكره الزيادة على الثلاث، لحديث أبي داود والنسائي، وفيه: "فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم". 3 وتباح معونته، لحديث المغيرة: "أنه أفرغ على النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه". رواه مسلم.
وروي عن أحمد أنه قال: "ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد، لأن عمر قال ذلك".
ويباح تنشيف أعضائه، و"ممن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء: عثمان وأنس" وكثير من أهل العلم. وروي عن ابن عباس: "أنه كرهه في الوضوء، ورويت الكراهة عن جابر وابن المسيب"، لحديث ميمونة، وفيه: "فأتيته بمنديل، فلم يردْها، وجعل ينفض الماء بيديه". 4 متفق عليه، والأول أصح، وهذه قضية عين، ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه.
و"يستحب تجديد الوضوء"، وعنه: أنه لا فضل فيه، والأول أصح، لحديث أنس، رواه البخاري. ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد، لا نعلم فيه خلافاً. ولا بأس بالوضوء
__________
1 الترمذي: الطهارة (55) , والنسائي: الطهارة (148) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (470) .
2 سورة المائدة آية: 6.
3 النسائي: الطهارة (140) , وأبو داود: الطهارة (135) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (422) .
4 البخاري: الغسل (259, 274) , وأبو داود: الطهارة (245) .

(1/39)


في المسجد إذا لم يؤذ أحداً ولم يؤذ المسجد. قال ابن المنذر: أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار، وروي عن أحمد: أنه كرهه صيانة للمسجد عن البصاق وما يخرج من فضلات الوضوء.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: تسقط الموالاة بالعذر، وقال: هو أشبه بأصول الشريعة وقواعد أحمد، وقوى ذلك وطرده في الترتيب، وقال: لو قيل بسقوطه للعذر - كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه، ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله – لتوجه. ولو كان تحت أظفاره يسير وسخ يمنع وصول الماء، وألحق به كل يسير منع حيث كان من البدن، كدم وعجين ونحوهما. وقال: يجوز الاقتصار على البياض الذي فوق الأذنين دون الشعر، إذا قلنا يجزئ مسح بعض الرأس.
ويستحب الزيادة على الفرض، وعنه: لا، قال أحمد: لا يغسل ما فوق المرفق، قال في الفائق: اختاره شيخنا. وقال الشيخ: لا يغسل في المسجد ميت. قال: ويجوز عمل مكان فيه للوضوء للمصلحة بلا محذور.

(1/40)


باب المسح على الخفين
قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين اختلاف، وعن جرير قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه". 1 متفق عليه.
قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء; فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هو أفضل من الغسل، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما طلبوا الأفضل؛ وهو مذهب الشافعي وإسحاق، لحديث: "إن الله يحب أن يؤخذ برُخصه"، 2 ولأن فيه مخالفة أهل البدع، وعنه: الغسل أفضل، لأنه المذكور في كتاب الله تعالى، والمسح رخصة.
ويجوز المسحُ على الجرموقين، والجرموق مثال الخف، إلا أنه يلبس فوق الخف والجوربين. قال ابن المنذر: يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة، وبه قال ابن المسيب والثوري وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجوز إلا أن ينعلا، لأنه لا يمكن متابعة المشي فيهما. ولنا: قول المغيرة: "مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين". 3 رواه أبو داود والترمذي وصححه. وهذا يدل على أنهما لم يكونا منعولين، لأنه لو كانا كذلك لم يذكر النعلين، فإنه لا يقال: مسح على الخف ونعله، و"لأن الصحابة فعلوه" ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم.
وسئل أحمد عن: جورب الخرق؟ فكره المسح عليه، ولعله إنما كرهه لأن الغالب فيه الخفة، وأنه
__________
1 البخاري: الصلاة (387) , ومسلم: الطهارة (272) , والترمذي: الطهارة (93, 94) والجمعة (611) , والنسائي: الطهارة (118) , وأبو داود: الطهارة (154) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (543) , وأحمد (4/358) .
2 أحمد (2/108) .
3 الترمذي: الطهارة (99) , وأبو داود: الطهارة (159) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (559) .

(1/41)


لا يثبت بنفسه. وإن كان مثل جورب الصوف في الصفاقة فلا فرق، فإن كان لا يثبت إلا بالنعل، أبيح المسح عليه ما دام في النعل، لحديث المغيرة. قال القاضي: يمسح على الجورب والنعل، كما في الحديث، والظاهر "أنه صلى الله عليه وسلم إنما مسح على سيور النعل التي على ظاهر القدم"، فأما أسفله وعقبه فلا يسن مسحه من الخف، فكذلك من النعل.
و"ممن قال بجواز المسح على العمامة أبو بكر وعمر"، وهو قول ابن المنذر. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا يمسح عليها، لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} 1. ولنا: قول المغيرة: "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة". 2 صححه الترمذي. وروى مسلم أيضاً معناه. وروى البخاري معناه أيضاً عن عمر وابن أمية، مرفوعاً، ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. والآية لا تنفي ما ذكرنا، فإنه صلى الله عليه وسلم مبين لكلام الله، ومسحه يدل على أن المراد المسح على الرأس أو حائله.
ويجوز المسح على الجبائر، لحديث صاحب الشجة، رواه أبو داود؛ وهذا قول مالك وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في أحد قوليه: يعيد الصلاة لأن الله أمر بالغسل ولم يأت به. ووجه الأولى: ما ذكرنا، ولأنه مسح على حائل أبيح له المسح عليه، فلم تجب الإعادة.
وفي المسح على القلانس وخمر النساء المدارة تحت حلوقهن روايتان، أراد: القلانس المبطنات كدنيات القضاة، فأما الكلتة فلا يجوز المسح عليها، لا نعلم فيه خلافاً، لأنها لا تستر جميع الرأس عادة ولا تدوم عليه. فأما القلانس التي ذكرنا، فعنه: لا يجوز المسح عليها،
__________
1 سورة المائدة آية: 6.
2 مسلم: الطهارة (274) , والترمذي: الطهارة (100) , والنسائي: الطهارة (124) , وأحمد (4/244) .

(1/42)


وبه قال مالك والشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال به، إلا أنه روي عن أنس: "أنه مسح على قلنسيته"، وعنه: يجوز، وهو اختيار الخلال، قال: لأنه روي عن صحابيين بأسانيد صحاح. وفي الخُمر روايتان، إحداهما: "يجوز، روي عن أم سلمة"، حكاه ابن المنذر. والثانية: لا يجوز، وهو قول مالك والشافعي.
ولا نعلم خلافاً في اشتراط تقدم الطهارة لكل ما يجوز المسح عليه، إلا الجبيرة، ووجهه: حديث المغيرة، وفيه: "دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين". 1 متفق عليه. فأما إن غسل إحداهما ثم لبس الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، لم يجز، وعنه: يجوز. واختلفت الرواية في الجبيرة، فعنه: لا يشترط تقدم الطهارة لها، لحديث صاحب الشجة، لأنه لم يذكر الطهارة، ويحتمل أن يشترط التيمم عند العجز عن الطهارة، لأن فيه: "إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليها". 2 وعنه: يشترط الطهارة لها. فعليها، إذا خاف من نزعها تيمم، ولا يحتاج مع مسحها إلى التيمم. قال شيخنا: يحتمل أن يتيمم مع المسح فيما إذا تجاوز بها موضع الحاجة، لأن ما يمسح على موضع الحاجة يقتضي المسح، والزائد يقتضي التيمم. وكذا إذا شدها على غير طهارة، لأنه مختلف في جواز المسح عليها، فإذا جمع بينهما خرج من الخلاف. وللشافعي في الجمع بينهما قولان في الجملة، لحديث صاحب الشجة. ولنا: أنه محل واحد، فلا يجمع بين بدلين كالخف. وإن وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه، مسح عليه، لما روى الأثرم عن ابن عمر: "أنه خرج بإبهامه قرحة فألقمها مرارة. وكان يتوضأ عليها". وإن كان في رجله شق وجعل فيه قير، فقال أحمد: ينزعه، هذا أهون، هذا لا يخاف منه؛ وتعليله يقتضي أنه متى خاف منه جاز المسح عليه. قال مالك في الظفر يسقط: يكسوه مصطكاً ويمسح عليه، فإن لم يكن على
__________
1 البخاري: الوضوء (206) , ومسلم: الطهارة (274) , وأبو داود: الطهارة (151) , وأحمد (4/245) , والدارمي: الطهارة (713) .
2 أبو داود: الطهارة (336) .

(1/43)


الجرح عصابة، غسل الصحيح، وتيمم للجريح ولم يمسح. وروى حنبل عن أحمد في المجروح والمجدور يخاف عليه: يمسح موضع الجرح ويغسل ما حوله، يعني: يمسح إذا لم يكن عصابة.
ويمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، لا نعلم فيه خلافاً في المذهب. وقال الليث: يمسح ما بدا له، وكذلك قال مالك في المسافر، وعنه في المقيم روايتان، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قيل له: أنمسح على الخفين؟ قال: نعم. قيل: يوماً؟ قال: ويومين. قيل: وثلاثة؟ قال: ما شئت". رواه أبو داود. ولنا: حديث علي، رواه مسلم. وعن عوف بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم". 1 رواه أحمد، وقال: هذا أجود حديث في المسح، لأنه في آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثهم ليس بالقوي، وقد اختلف في إسناده، قاله أبو داود.
وابتداء المدة: من الحدث بعد اللبس، وعنه: من المسح، وهو اختيار ابن المنذر، لقوله: "يمسح المسافر ثلاثة أيام"، ووجه الأول ما نقل في حديث صفوان: من الحدث إلى الحدث.
ومن مسح مسافراً ثم أقام، أتم مسح مقيم، لا نعلم فيه خلافاً. وإن مسح مقيم ثم سافر، أتم مسح مقيم. وعنه: مسح مسافر، لحديث: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن"، وهذا مسافر. وإن أحدث ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لا نعلم فيه خلافاً. ولا يجوز إلا على ما يستر محل الفرض ويثبت بنفسه.
وحكي عن الأوزاعي ومالك: جواز المسح على المقطوع دون الكعبين، فأما ما يسقط إذا مشى، فلا يشق نزعه، ولا يحتاج إلى المسح عليه. وقال الثوري وإسحاق وابن المنذر: يجوز المسح على كل خف، يعني: وإن ظهر بعض القدم. وقال الأوزاعي:
__________
1 أحمد (6/27) .

(1/44)


يمسح على المخروق وعلى ما ظهر من رجله. وقال مالك: إن كثر وتفاحش لم يجز، وإلا جاز، وتعلقوا بعموم الحديث.
ولا يجوز المسح على اللفائف والخرق، لا نعلم فيه خلافاً. وإن لبس خفاً فلم يحدث حتى لبس عليه آخر، جاز المسح على الفوقاني. ومنع منه مالك والشافعي في أحد قوليهما، لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب فلم يتعلق به رخصة عامة كالجبيرة. فأما إن لبس الفوقاني بعد أن أحدث، لم يجز المسح، لأنه لبس على غير طهارة. وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز.
ويمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه: فيضع يده على الأصابع، ثم يمسح إلى ساقه، رواه الخلال من حديث المغيرة، قال أحمد: كيفما فعلت فهو جائز، باليد الواحدة أو باليدين. ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه. و"روي مسح ظاهرهما وباطنهما عن سعد بن أبي وقاص وغيره لقول المغيرة: مسح أعلى الخف وأسفله". رواه أبو داود. ولنا: حديث علي: "لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفَّيه". 1 رواه أبو داود. وحديثهم معلول، قاله الترمذي، قال: سألت أبا زرعة ومحمداً عنه، فقالا: ليس بصحيح. قال أحمد: هذا من وجه ضعيف، ولا خلاف أنه يجزئ الاقتصار على مسح ظاهرهما، حكاه ابن المنذر، والمجزئ أن يمسح أكثر مقدمه. وقال الشافعي: يجزئ القليل، لأنه أطلق ولم ينقل فيه تقدير. ولا يستحب التكرار، لأن في حديث المغيرة مسحة واحدة. والمستحب أن يفرج أصابعه إذا مسح.
ومن شرط جواز المسح على العمامة: أن تكون ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه. ومتى كانت محنكة جاز المسح، رواية واحدة،
__________
1 أبو داود: الطهارة (162) .

(1/45)


سواء كان لها ذؤابة أو لا، لأن هذه عمائم العرب. ولا يجوز على غير المحنكة إلا ذات الذؤابة، فيجوز في أحد الوجهين، لأنها لا تشبه عمائم أهل الذمة، إذ ليس من عادتهم الذؤابة. والثاني: لا يجوز، وهو الأظهر، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتطاط". رواه أبو عبيد، قال: والاقتطاط: أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.
وما جرت العادة بكشفه من الرأس، استحب أن يمسح عليه مع العمامة، "لأنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعمامته" في حديث المغيرة، وهل يجب؟ فيه وجهان. ولا يجب مسح الأذنين معها، لا نعلم خلافاً. واختلفت الرواية في وجوب استيعابها بالمسح، فروي ما يدل على أنه يجزئ مسح أكثرها.
ويمسح على الجبيرة إذا لم يتجاوز قدر الحاجة، لأنه لا يشق المسح عليها كلها، بخلاف الخف. فإن شدها على مكان يستغنى عن شدها عليه لم يجز، وروي عنه: أنه سهل فيه في مسألة الميموني والمروذي، لأن هذا لا ينضبط وهو شديد جداً؛ فعليه، لا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها.
ومتى ظهر قدم الماسح أو رأسه، أو انقضت المدة، استأنف الطهارة، وعنه: يجزئ مسح رأسه وغسل قدميه. وقال الحسن وقتادة: لا يتوضأ ولا يغسل قدميه، اختاره ابن المنذر. وإذا انقضت المدة لزمه الخلع واستئناف الطهارة على الأولى. وعلى الثانية: يجزيه مسح رأسه وغسل قدميه.
ونزع أحد الخفين كنزعهما، في قول أكثر أهل العلم، وقال الزهري: يغسل القدم الذي نزع منه الخف ويمسح الآخر. فإن أخرج قدمه إلى ساق الخف فهو كخلعه. وقال الشافعي: لا يتبين لي أن عليه الوضوء إلا أن يظهر بعضها، قال أحمد: إذا زالت العمامة عن هامته لا بأس، ما لم ينقضها أو يفحش ذلك. ولا مدخل لحائل

(1/46)


في الطهارة الكبرى إلا الجبيرة، لحديث صفوان إلا من جنابة، فأما الجبيرة فيجوز، لحديث صاحب الشجة.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: وفصل الخطاب: أن الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه؛ فالأفضل لمن قدماه مكشوفتان: غسلهما، ولا يتحرى لبس الخف ليمسح، كما "كان عليه أفضل الصلاة والسلام يغسل قدميه إن كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابساً للخف". ويلبس بعد كمال الطهارة. وعنه: لا يشترط كمالها، اختاره الشيخ وصاحب الفائق، وقال: وعنه: لا تشترط الطهارة لمسح العمامة، ذكره ابن هبيرة. وحكى أبو الفرج رواية بعدم اشتراط تقدم الطهارة رأساً؛ فلو لبس محدثاً ثم توضأ وغسل رجليه في الخف جاز له المسح. قال الزركشي: وهو غريب بعيد. قلت: اختاره الشيخ وقال: يتوجه أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على الطهارة، ويكفي فيها الطهارة المستدامة لأن العادة أن من توضأ مسح رأسه ورفع العمامة ثم أعادها، ولا يبقى مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء.
وقوله: ويمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام، وقيل: يمسح كالجبيرة؛ اختاره الشيخ. وفي الاختيارات: لا تتوقت مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس، كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين.
واختار الشيخ أيضاً جواز المسح على المخرق، إلا أن يتخرق أكثره، 1 ما دام اسمه باقياً،
__________
1 في الإنصاف: "قال في الاختيارات ويجوز المسح على الخف المخرق مادام اسمه باقياً والمشي فيه ممكن".

(1/47)


والمشي فيه ممكن. واختار أيضاً جواز المسح على الملبوس، ولو كان دون الكعبين. قوله: أو شد لفائفاً لم يجز المسح عليه، وجعله أبو البركات إجماعاً، وفيه وجه يجوز، اختاره الشيخ. واختار أيضاً جواز المسح على القدم ونعلها التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل، كما جاءت به الآثار. قال: والاكتفاء هنا بأكثر القدم نفسها أو الظاهر منها، غسلاً أو مسحاً، أولى من مسح بعض الخف، ولهذا لا يتوقت كمسح العمامة.
قال: ويجوز المسح على الخف المخرق، إلا أن يتخرق أكثره، فكالنعل. ويجوز أيضاً على ملبوس دون النعل. انتهى. قوله: إلا أن تكون ذات ذؤابة فيجوز، وهو مقتضى اختيار الشيخ، فإنه اختار جواز المسح على العمامة الصماء، فذات الذؤابة أوْلى، وقال في الصماء: هي كالقلانس.
قوله: ومتى ظهر قدم الماسح ... إلخ، واختار الشيخ أن الطهارة لا تبطل كإزالة الشعر الممسوح عليه، ولو زالت الجبيرة فهي كالخف. واختار الشيخ بقاءها قبل البرء وبعده، كإزالة الشعر

(1/48)


باب نواقض الوضوء
(الأول) : الخارج من السبيلين إن كان معتاداً، كالمذي والودي والريح، نقض إجماعاً. ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة أهل العلم، إلا ربيعة. وإن كان نادراً كالدم والدود فينقض أيضاً. وقال مالك: ليس في الدود الذي يخرج من الدبر وضوء؛ وروي عن مالك أنه لم يوجب الوضوء من هذا الضرب، لأنه نادر.
ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة"، ودمها غير معتاد. وسئل أحمد: عن رجل ربما ظهرت مقعدته، قال: إن علم أنه يظهر معها ندى توضأ، وإلا فلا شيء عليه. قال شيخنا: يحتمل أنه أراد ندى ينفصل؛ فأما الرطوبة اللازمة، فلا تنقض، لأنها لا تنفك عن رطوبة.
والمذي ينقض إجماعاً، وهل يجب غسل الذكر والأنثيين منه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجب، لما في حديث علي: "توضأْ، وانضح فرجك". 1 رواه مسلم. ولأبي داود: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ؛ فعلى هذا يجزئه غسلة واحدة لقوله: "انضح فرجك"، سواء غسله قبل الوضوء أو بعده.
والثانية: "لا يوجب إلا الاستنجاء والوضوء"، روي ذلك عن ابن عباس؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث سهل بن حنيف: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء". 2 صححه الترمذي.
و"الغسل في حديث علي محمول على الاستحباب". وقوله: "إنما يجزيك ... إلخ" صريح في حصول الإجزاء به.
(الثاني) : "الخارج النجس من غير السبيلين، غير البول والغائط، ينقض
__________
1 مسلم: الحيض (303) , والنسائي: الغسل والتيمم (438) , وأحمد (1/104) .
2 الترمذي: الطهارة (115) , وأبو داود: الطهارة (210) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (506) , وأحمد (3/485) , والدارمي: الطهارة (723) .

(1/49)


كثيره"، روي عن ابن عباس وابن عمر. وقال مالك والشافعي وابن المنذر: لا وضوء فيه، كالبصاق.
ولنا: حديث ثوبان؛ قيل لأحمد: ثبت عندك؟ قال: نعم. ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إنه دم عِرق، فتوضئي لكل صلاة ". رواه الترمذي، علل بكونه دم عرق، وهذا كذلك؛ فأما القليل فلا ينقض، حكاه القاضي رواية واحدة. وقيل: ينقض، وهو قول أبي حنيفة وسعيد بن جبير، فيما إذا سال الدم. ووجه الأولى أنه قد روي عن جماعة من الصحابة. قال أبو عبد الله: عدة من الصحابة تكلموا فيه. "أبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه. وابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ. وابن أبي أوفى عصر دملاً. وابن عباس قال: إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة. وجابر أدخل أصابعه في أنفه". قيل لأحمد: ما الفاحش؟ قال: ما فحش في قلبك. والقيح والصديد كالدم فيما ذكرنا. قال أحمد: هما أخف حكماً من الدم.
(الثالث) : زوال العقل على ضربين: نوم وغيره. فأما الجنون والإغماء والسكْر ونحوه، فينقض إجماعاً. وأما النوم فينقض في الجملة في قول عامة أهل العلم، إلا ما حكي عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز. وعن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مراراً مضطجعاً ينتظر الصلاة، ثم يصلي ولا يعيد الوضوء. ولعلهم ذهبوا إلى أنه ليس بحدث في نفسه، والحدث مشكوك فيه، فلا يزول اليقين بالشك. ولنا: حديث صفوان بن عسال: "لكن من غائط وبول ونوم". حديث صحيح.
ونوم المضطجع ينقض يسيره عند جميع القائلين بنقض الوضوء بالنوم. ونوم القاعد إن كان يسيراً لم ينقض، وهذا قول مالك. وقيل: متى خالط النوم القلب نقض بكل حال، وهذا قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر،

(1/50)


لعموم الأحاديث. ولنا: ما روى مسلم عن أنس قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون". ولأبي داود: "ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم". وقال الشافعي: "لا ينقض وإن كثر، إذا كان قاعداً متمكناً مفضياً بمحل الحدث إلى الأرض"، لحديثي أنس، وبهما يتخصص العموم. ولنا: العموم وخصصناه بحديث أنس، وليس فيه بيان كثرة ولا قلة، فحملناه على اليقين. وأما نوم القائم والراكع والساجد ففيه روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، لأنه ليس في معنى المنصوص عليه. والثانية: حكمه حكم الجالس قياساً، وهذا قول سفيان وأصحاب الرأي، لحديث ابن عباس: "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني". رواه مسلم.
واختلفت الرواية في المستنِد والمحتبي، واختلفت في حد اليسير. قال شيخنا: الصحيح أنه لا حد له، لأن التحديد إنما يُعلم بالتوقيف.
(الرابع) مس الذكر: واختلفت الرواية فيه على ثلاث:
إحداها: "لا ينقض"، روي عن علي وعمار وابن مسعود وأصحاب الرأي وابن المنذر، لحديث: "إنما هو بضعة منك". 1 رواه أبو داود والترمذي وأحمد.
والثانية: "ينقض بكل حال"، وهو مذهب ابن عمر وابن المسيب والشافعي، والمشهور عن مالك، لحديث بسرة، صححه الترمذي وأحمد. فأمّا حديث قيس، فقال أبو زرعة وأبو حاتم: قيس مما لا تقوم بروايته حجة ووهّناه ولم يثبتاه.
والثالثة: لا ينقض إلا أن يقصد مسّه. وقال الشافعي ومالك: لا ينقض مسّه بظاهر الكف. ولا فرق بين ذكره وذكر غيره، خلافاً لداود. قال الزهري والأوزاعي: لا ينقض مسّ ذكر الصغير لأنه يجوز مسه والنظر إليه. ولنا: عموم الأحاديث.
وفي مس الدبر ومس المرأة فرجها روايتان: إحداهما: ينقض لعموم قوله:
__________
1 الترمذي: الطهارة (85) , والنسائي: الطهارة (165) , وأبو داود: الطهارة (182) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (483) , وأحمد (4/22) .

(1/51)


"مَن مسّ فرجه فليتوضأ". 1 رواه ابن ماجة عن أم حبيبة. قال أحمد وأبو زرعة: حديث أم حبيبة صحيح.
(الخامس) أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة: وعنه: لا ينقض. قال ابن مسعود: "القبلة من اللمس، وفيها الوضوء"، رواه الأثرم. وعن أحمد: "لا ينقض بحال"، يروى عن ابن عباس، وقول عائشة: "فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي"، متفق عليه، و"الآية أريد بها الجماع"، قاله ابن عباس. والرواية الثالثة: ينقض لشهوة، جمعاً بين الآية والأخبار؛ وهو مذهب مالك وإسحاق. فإن لمسها من وراء حائل لم ينقض، في قول أكثر أهل العلم. وقال مالك: ينقض إذا كان ثوباً رقيقاً، وكذا قال ربيعة: إذا غمزها من وراء ثوب رقيق لشهوة.
وسئل أحمد: عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئاً، ولكن هي شقيقة الرجل، يعجبني أن تتوضأ. ولا ينقض لمس شعر المرأة، ويتخرج أن ينقض إذا كان لشهوة. وفي نقض وضوء الملموس روايتان.
(السادس) غسل الميت: "لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسله بالوضوء". قال أبو هريرة: "أقل ما فيه الوضوء"، ولا نعلم لهم مخالفاًًً في الصحابة. وقيل: لا ينقض، وهو قول أكثر العلماء. قال شيخنا: وهو الصحيح لأنه لم يرد فيه نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه. وكلام أحمد يدل على أنه مستحب، فإنه قال: أحب إليّ أن يتوضأ، وعلل نفي الوجوب بكون الخبر موقوفا على أبي هريرة.
(السابع) أكل لحم الجزور: وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا وضوء عليه. ومن العجب أنهم أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الأصول، فأبو حنيفة أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها، بحديث مرسل
__________
1 الترمذي: الطهارة (82) , والنسائي: الغسل والتيمم (444) , وأبو داود: الطهارة (181) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (479) , وأحمد (6/406) , ومالك: الطهارة (91) , والدارمي: الطهارة (724, 725) .

(1/52)


من مراسيل أبي العالية. ومالك والشافعي أوجباه بمس الذكر، بحديث مختلف فيه معارض بمثله. فإن شرب من لبنها فعلى روايتين: إحداهما ينقض، لحديث أسيد بن حضير، رواه أحمد. وعن ابن عمر مثله. والثانية: لا وضوء عليه، لأن حديث أسيد فيه الحجاج بن أرطاة، وحديث ابن عمر فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط في آخر عمره.
وإن أكل من كبدها وطحالها، فعلى وجهين: أحدهما: لا ينقض. والثانية: ينقض، لأن اللحم يعبر به عن جملة الحيوان، كلحم الخنزير.
(الثامن) الردة عن الإسلام: قال ابن المنذر: أجمع من نحفظ قوله على أن القذف وقول الزور لا ينقض. وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث، وذلك استحباب. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف باللات، فليقلْ: لا إله إلا الله"، 1 ولم يأمره بالوضوء.
ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة، بنى على اليقين؛ وبهذا قال عامة أهل العلم. وقال مالك: إذا شك في الحدث، إن كان يلحقه كثيراً فهو على وضوئه، وإلا توضأ؛ ولا يدخل في الصلاة مع الشك. ولنا: حديث أبي هريرة، وفيه: "فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". 2 رواه مسلم.
ومن أحدث حرُم عليه مسّ المصحف، وأباحه داود، لأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر آية. ولنا: قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} . 3 وفي كتاب عمرو بن حزم: "أن لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر". ويجوز تقليبه بعود ومسّه به وكتب المصحف بيده من غير أن يمسّه. وذكر ابن عقيل في ذلك كله، وفي حمله بعلاقته روايتين، والصحيح
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4860) والأدب (6107) والاستئذان (6301) والأيمان والنذور (6650) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجة: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309) .
2 مسلم: الحيض (362) , والترمذي: الطهارة (75) , وأبو داود: الطهارة (177) , وأحمد (2/330, 2/414) , والدارمي: الطهارة (721) .
3 سورة الواقعة آية: 79.

(1/53)


الجواز، لأن النهي إنما تناول مسه. وفي مس الصبيان ألواحهم التي فيها القرآن وجهان. و"لا تجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب"، لحديث ابن عمر.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: (الثاني) خروج سائر النجاسات من سائر البدن، واختار الشيخ: لا ينقض الكثير مطلقاً، وعنه: لا ينقض نوم الجالس وإن كان كثيراً، واختاره الشيخ. ونقل الميموني لا ينقض النوم بحال، واختاره الشيخ إن ظن بقاء طهره.
الرابع: مس الذكر: وعنه: لا ينقض، بل يستحب الوضوء منه؛ اختاره الشيخ.
الخامس: مس أنثى لشهوة: وعنه: لا ينقض مطلقاً، اختاره الشيخ. وحيث قلنا: لا ينقض، استحب الوضوء مطلقاً. وقال الشيخ: يستحب إن لمسها لشهوة، وإلا فلا.
السادس: غسل الميت: وعنه: لا ينقض؛ اختاره الشيخ.
السابع: أكل لحم الجزور: وعنه: لا ينقض؛ اختاره الشيخ. وعنه: لا يعيد إن طالت المدة. وقيل: لا يعيد متأول. وعنه: إن علم النهي نقض. فعليها عدم العلم بالنهي هو عدم العلم بالحديث، قاله الشيخ؛ فمن علم لا يعذر. وعنه: بلى، مع التأويل. وقال الشيخ: أما لحم الخبيث المباح للضرورة، كلحم السباع، فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي، فلا يتعدى، أو معقول المعنى، فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه. والصحيح من المذهب: أنه تعبدي. وقيل: معلل؛ فقد قيل: إنها من الشياطين كما جاء في الحديث الصحيح، رواه أبو داود؛ فإذا أكل منها أورث ذلك قوة شيطانية، فشرع الوضوء منها ليذهب سَورَة الشيطان. وفي حديث آخر: "على ذروة كل بعير شيطان". 1 والطواف يشترط له الطهارة، وعنه: يجزئه بلا طهارة ويجبره بدم. وعنه: وكذا الحائض؛ واختاره الشيخ، وقال: لا دم عليها لعذر.
__________
1 أحمد (3/494) , والدارمي: الاستئذان (2667) .

(1/54)


باب الغسل
وموجباته سبعة:
أحدها: خروج المني الدافق بلذة من الرجل والمرأة، في اليقظة والنوم: هذا قول عامة الفقهاء، حكاه الترمذي، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن خرج لمرض أو برودة من غير شهوة، لم يوجب. وقال الشافعي: يجب، لقوله: "إذا رأت الماء". ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، وقال لعلي: "إذا فضخت الماء فاغتسل". 1 رواه أبو داود. والفضخ: خروجه على وجه الشدة. وقال إبراهيم الحربي: بالعجلة. وقوله: "إذا رأت الماء" في الاحتلام. وهو إنما يخرج لشهوة، فإن رأى أنه احتلم ولم يجد بللاً، فلا غسل عليه؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن انتبه فرأى منياً ولم يذكر احتلاماً، اغتسل؛ لا نعلم فيه اختلافاً. وإن انتبه فوجد بللاً لا يدري أمني أم غيره، فقد توقف أحمد فيها. فإن رأى في ثوبه منياً وكان لا ينام فيه غيره، اغتسل، "لأن عمر وعثمان اغتسلا حين رأياه في ثوبيهما". فإن أحس بانتقاله فأمسك ذكره فلم يخرج، فعلى روايتين. فإن خرج بعد الغسل، وقلنا: لا يجب بالانتقال، لزمه الغسل.
الثاني: التقاء الختانين: وهو تغييب الحشفة في الفرج، ولو مس الختان الختان من غير إيلاج لم يجب الغسل إجماعاً. وإذا كان الواطئ أو الموطوءة صغيراً، فقال أحمد: يجب عليهما الغسل، وحمله القاضي على الاستحباب؛ وهو قول أصحاب الرأي. ولا يصح حمل كلامه على الاستحباب لتصريحه
__________
1 النسائي: الطهارة (193) , وأبو داود: الطهارة (206) , وأحمد (1/109) .

(1/55)


بالوجوب، وذمه قول أصحاب الرأي بقوله: هو قول سوء. وقولهم: الصغير ليس من أهل التكليف، فليس معنى الوجوب في حقه التأثيم بتركه، بل أنه شرط لصحة الصلاة والطواف والقراءة.
الثالث: إسلام الكافر: وهو قول مالك وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: لا يجب، لأنه لو أمر كل من أسلم بالغسل، لنقل نقلاً متواتراً. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر قيس بن عاصم لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر". 1 قال الترمذي: حديث حسن. وقد روي أن مصعب بن عمير قال لسعد وأسيد لما سألاه: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: "نغتسل ونشهد شهادة الحق". فإن أجنب الكافر ثم أسلم لم يلزمه غسل الجنابة، وهذا قول من أوجب غسل الإسلام، وقول أبي حنيفة. وقال الشافعي: عليه الغسل. ويستحب أن يغتسل بماء وسدر، لما في حديث قيس. ويستحب أن يلقي شعره، لقوله: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". 2 رواه أبو داود.
الرابع: الموت.
الخامس: الحيض.
السادس: النفاس، وسيذكر في أبوابه.
ومن لزمه الغسل، حرم عليه قراءة آية فصاعدا، وفي بعض آية روايتان. وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، 3 {وقل رب أمزلني منزلا مبارك} . 4 وقال
__________
1 الترمذي: الجمعة (605) , وأبو داود: الطهارة (355) , وأحمد (5/61) .
2 أبو داود: الطهارة (356) , وأحمد (3/415) .
3 سورة الزخرف آية: 13.
4 سورة المؤمنون آية: 29.

(1/56)


ابن عباس: "يقرأ ورده". وقال ابن المسيب: يقرأ القرآن؛ أليس هو في جوفه؟ وحكي عن مالك جواز القراءة للحائض دون الجنب. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه من قراءة القرآن شيء، ليس الجنابة". 1 قال الترمذي: حسن صحيح. ويجوز له العبور في المسجد، ويحرم اللبث فيه إلا أن يتوضأ لقوله: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} الآية، 2 ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أُحلّ المسجد لحائض ولا جنب". 3 رواه أبو داود.، فإن خاف أو لم يمكنه الخروج، تيمم وأقام فيه، لأنه روي عن علي وابن عباس في الآية: "يعني: مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون". وقال بعض أصحابنا: يلبث بغير تيمم، لأنه لا يرفع الحدث، وهو غير صحيح لمخالفته قول الصحابة. وقال الثوري وإسحاق: لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بداً، فيتيمم؛ وهو قول أصحاب الرأي، لقوله: "لا أُحلّ المسجد لحائض ولا جنب". 4 ولنا: الآية، وقوله لعائشة: لما قال: "ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: إني حائض. قال: حيضتك ليست في يدك". 5 وعن زيد بن أسلم قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب". رواه ابن المنذر، وهذا إشارة إلى جميعهم، فيكون إجماعاً. فإن توضأ، فله اللبث فيه، وهو قول إسحاق. وقال الأكثرون: لا يجوز، للآية والخبر. ووجه الأولى قول زيد بن أسلم: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث معهم"، وهذا إشارة إلى جميعهم، فيخص عموم الحديث. وعن عطاء بن يسار قال: "رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا
__________
1 النسائي: الطهارة (265) , وأبو داود: الطهارة (229) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (594) , وأحمد (1/107) .
2 سورة النساء آية: 43.
3 أبو داود: الطهارة (232) .
4 أبو داود: الطهارة (232) .
5 مسلم: الحيض (298) , والترمذي: الطهارة (134) , والنسائي: الطهارة (271) والحيض والاستحاضة (384) , وأبو داود: الطهارة (261) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (632) , وأحمد (6/45, 6/114, 6/229, 6/245) .

(1/57)


وضوء الصلاة". رواه سعيد والأثرم.
وحكم الحائض إذا انقطع حيضها حكم الجنب، وأما قبله فلا، لأن وضوءها لا يصح. وأما المستحاضة ومن به سلس البول، فلهم اللبث فيه إذا أمنوا تلويثه، لأن بعض أزواجه صلى الله عليه وسلم اعتكفت معه وهي مستحاضة، رواه البخاري. فإن خاف التلويث، حرم لأن المسجد يُصان عن هذا.
والأغسال المستحبة ثلاثة عشر:
(أحدها) : للجمعة بغير خلاف، وفيه آثار كثيرة صحيحة، وليس بواجب؛ حكاه ابن عبد البر إجماعاً.
(الثاني) : للعيدين، لحديث ابن ماجة.
(الثالث) : الاستسقاء، لأنه عبادة يجتمع لها.
(الرابع) : الكسوف، لأنه كالاستسقاء.
(الخامس) : "من غسل الميت"، روي ذلك عن ابن عباس والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وروي عن علي وأبي هريرة أنهما قالا: "من غسل ميتا فليغتسل". قال ابن المنذر: ليس فيه حديث يثبت، وكذلك لم يعمل به في وجوب الوضوء على حامله، لا نعلم به قائلاً. وحديث علي، قال الجوزجاني: ليس فيه أن علياً غسل أبا طالب.
(السادس) : الغسل من الإغماء والجنون، "لأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء"، متفق عليه. ولا يجب، حكاه ابن المنذر إجماعاً.
(السابع) : غسل المستحاضة.
(الثامن) : الغسل للإحرام.

(1/58)


(التاسع) : دخول مكة.
(العاشر) : الوقوف بعرفة.
(الحادي عشر) : المبيت بمزدلفة.
(الثاني عشر) : رمي الجمار.
(الثالث عشر) : الطواف.
وصفة الغسل الكامل: أن يأتي فيه بعشرة أشياء: النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى، وقد ذكرنا الدليل على ذلك، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيديه، وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه، ويخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه، ووجهه: قول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثاً، وتوضأ وضوءه للصلاة. ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات. ثم غسل سائر جسده". 1 متفق عليه. وحديث ميمونة متفق عليه. ففي هذين الحديثين كثير من الخصال المسماة.
والبداءة بشقه الأيمن، لقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفيه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر. ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه". 2 متفق عليه.
واختلف عن أحمد في غسل الرجلين، فقال في رواية: بعد الوضوء، على حديث ميمونة. وقال في رواية: العمل على حديث عائشة. وقال في موضع غسل رجليه: في موضعه وبعده وقبله سواء.
والمجزئ: أن يغسل ما به من أذى، وينوي
__________
1 البخاري: الغسل (273) , ومسلم: الحيض (316) .
2 البخاري: الغسل (258) , ومسلم: الحيض (318) , والنسائي: الغسل والتيمم (424) , وأبو داود: الطهارة (240) .

(1/59)


ويعمم بدنه بالغسل، لقوله تعالى: {كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، 1 وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . 2 ويستحب إمرار يده على بدنه، ولا يجب إذا تيقن وغلب على ظنه وصول الماء؛ وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي.
وقال مالك: إمرار يده إلى حيث تنال واجب، ونحوه قال أبو العالية. قالوا: لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ، ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك، ولنا: قوله: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء؛ فتطهرين". 3 رواه مسلم.
وما ذكروه ممنوع، فإنه يقال: غسل الإناء، وإن لم يدلكه. ولا يجب الترتيب فيه لقوله: {فاطهروا} ، وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، ولا نعلم في هذا خلافاً. ولا يجب فيه موالاة، نص عليه؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ربيعة: من تعمَّده أعاد الغسل، وهو قول الليث.
وإذا بقيت لمعة لم يصبها الماء، فمسحها بيده أو شعره، فروي عن أحمد أنه سئل: عن حديث العلاء بن زياد: "أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة لم يصبها الماء، فدلكها بشعره"، 4 فقال: نعم، أخذ به. وروي عنه: يأخذ لها ماء جديداً، فيه حديث لا يثبت، يعصر شعره. وذكر له حديث ابن عباس: "أنه صلى الله عليه وسلم عصر لمته على لمعة"، فضعّفه ولم يصححه.
ونص أحمد على أنها تنقض الشعر في غسل الحيض. قيل له: كيف، وهي لا تنقضه من الجنابة؟ قال: حديث أسماء "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تنقضه". وهو قول طاووس والحسن وأكثر العلماء، لحديث عائشة. وللبخاري فيه: "انقضي رأسك وامتشطي". 5 وقيل: "مستحب"، روي عن عائشة وأم سلمة؛ وهو قول مالك والشافعي وأصحاب
__________
1 سورة المائدة آية رقم: 6.
2 سورة النساء آية رقم: 43.
3 مسلم: الحيض (330) , والترمذي: الطهارة (105) , والنسائي: الطهارة (241) , وأبو داود: الطهارة (251) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (603) , وأحمد (6/289, 6/314) , والدارمي: الطهارة (1157) .
4 ابن ماجة: الطهارة وسننها (663) , وأحمد (1/243) .
5 البخاري: الحيض (316) , ومسلم: الحج (1211) , وأحمد (6/163, 6/177) .

(1/60)


الرأي وأكثر العلماء، وهو الصحيح لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة: "أفأنقضه للحيضة؟ قال: لا"، رواه مسلم. وحديث عائشة ليس فيه حجة، لأنه ليس في غسل الحيض، إنما هو للإحرام في حال الحيض. ولو ثبت الأمر حمل على الاستحباب، جمعاً بين الحديثين، ولأن فيه ما يدل على الاستحباب، وهو المشط والسدر. وغسل الحيض كغسل الجنابة، إلا أنه يستحب أن تغتسل بماء وسدر، وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها مجرى الدم والموضع الذي يصل إليه الماء من فرجها، ليزول عنها زفورة الدم، فإن لم تجد مسكاً فغيره من الطيب. والفرصة القطعة من كل شيء.
ويتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع؛ فإن أسبغ بدونهما أجزأه، وهذا مذهب أكثر أهل العلم. وقيل: لا يجزئ في الغسل والوضوء دون ذلك. وحكي عن أبي حنيفة لقوله: يجزئ من الوضوء مدّ، ومن الجنابة صاع. ولنا: أن الله تعالى أمر بالغسل وقد أتى به، وعن عائشة: "أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك". 1 فإن زاد على المد في الوضوء، وعلى الصاع في الغسل، جاز، فإن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد في قدح يقال له: الفرق". 2 والفرق: ثلاثة آصع. وقال أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد". 3 متفق عليه.
ويكره الإسراف في الماء، للآثار. قال ابن عبد البر: المغتسل إذا عم بدنه ولم يتوضأ، فقد أدى ما عليه، لأن الله تعالى إنما افترض عليه الغسل؛ وهذا إجماع لا خلاف فيه، إلا أنهم أجمعوا على استحباب الوضوء فيه تأسياً به صلى الله عليه وسلم.
ويستحب له إذا أراد النوم أو الأكل أو الوطء ثانياً،
__________
1 مسلم: الحيض (321) .
2 البخاري: الغسل (250) , والنسائي: الطهارة (231) .
3 البخاري: الوضوء (201) , ومسلم: الحيض (325) .

(1/61)


أن يغسل فرجه ويتوضأ. "وكان ابن عمر يتوضأ إلا غسل قدميه". وقال ابن المسيب: إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه ويتمضمض، وحكي نحوه عن إمامنا وإسحاق. وقال مجاهد: يغسل كفيه، لما روي عن عائشة: "أنه كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب، غسل يديه"، 1 رواه أبو داود. وقال ابن المسيب وأصحاب الرأي: "ينام ولا يمس ماء"، لحديث عائشة، رواه أبو داود. ولنا: "أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ فليرقد". 2 متفق عليه. ولمسلم من حديث أبي سعيد: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود، فليتوضأ". 3 وعن عائشة: "كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ"، يعني: وهو جنب، رواه أبو داود.
فأما أحاديثهم فأحاديثنا أصح، ويمكن الجمع بحمل أحاديثنا على الاستحباب. وإذا غمست الحائض أو الجنب أو الكافر أيديهم في الماء فهو طاهر. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرَق الجنب طاهر. وسئل أحمد عن جنب أدخل يده في ماء ينظر حره من برده، قال: إن كان إصبعاً فأرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان اليد أجمع فكأنه كرهه. وقال في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء: إن كانتا نظيفتين، فلا بأس به. وقال في موضع: كنت لا أرى به بأساً، ثم حدثت عن شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر، وكأني تهيبته.
وبناء الحمّام وبيعه وشراؤه وكراؤه: مكروه عند أبي عبد الله، لما فيه من كشف العورات ودخول النساء. قال أحمد: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخلْه، وإلا فلا تدخل. فأما النساء فليس لهن دخوله إلا لعذر، ثم ذكر حديثين رواهما ابن ماجة في نهي النساء.
ومن اغتسل عرياناً بين الناس لم يجز، أو إن كان وحده جاز، لأن موسى
__________
1 النسائي: الطهارة (255, 256, 257) , وأبو داود: الطهارة (224) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (593) , وأحمد (6/102, 6/119, 6/126, 6/279) .
2 البخاري: الغسل (287) , ومسلم: الحيض (306) , والترمذي: الطهارة (120) , وأحمد (2/17, 2/102) .
3 مسلم: الحيض (308) , والترمذي: الطهارة (141) , والنسائي: الطهارة (262) , وأبو داود: الطهارة (220) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (587) , وأحمد (3/21, 3/28) .

(1/62)


عليه السلام اغتسل عرياناً، وكذلك أيوب، رواهما البخاري. وقال أحمد: لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستتراً، إن للماء سكاناً. ولا بأس بذكر الله في الحمام، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، رواه مسلم. فأما قراءة القرآن فيه، فكرهها أبو وائل والشعبي، ولم يكرهها النخعي ومالك لأنه لا نعلم حجة توجب الكراهة. فأما رد السلام، فقال أحمد: ما سمعت فيه شيئاً، والأولى جوازه من غير كراهة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام بينكم"، 1 ولأنه لم يرد فيه نص؛ والأشياء على الإباحة.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
يجب على الصبي الوضوء بموجباته، وجعله الشيخ مثل مسأله الغسل، إلزامه باستجمار ونحوه. وأن الرواية الثانية: لا غسل على الكافر، يعني: إذا أسلم، إلا إن وجد سببه قبله. ولو اغتسل في حال كفره أعاد. وقال الشيخ: لا إعادة إن اعتقد وجوبه، بناء على أنه يثاب على الطاعة في حال كفره إذا أسلم، كمن تزوج مطلقته ثلاثاً معتقداً حلها.
وقيل: لا تمنع الحائض من قراءة القرآن مطلقاً، اختاره الشيخ. وكره الشيخ الذكر للجنب، لا لها. وأوجبه الشيخ على من له عرق أو ريح يتأذى به الناس، أي: غسل الجمعة. واختار عدم استحباب الغسل للوقوف وطواف الوداع والمبيت والرمي، قال: ولو قلنا باستحباب الغسل لدخول مكة، كان الغسل للطواف بعده فيه نوع عبث لا معنى له. واختار أنه لا يستحب لدخولها. ويجوز أن يتيمم لما يستحب الغسل له للحاجة، نقله صالح في الإحرام. ويستحب لما يستحب الوضوء له لعذر، وظاهر ما قدمه
__________
1 مسلم: الإيمان (54) , والترمذي: الاستئذان والآداب (2688) , وأبو داود: الأدب (5193) , وابن ماجة: المقدمة (68) والأدب (3692) , وأحمد (2/391, 2/442, 2/477, 2/495, 2/512) .

(1/63)


في الرعاية: لا، قال في الفروع: وتيممه صلى الله عليه وسلم يحتمل عدم الماء.
قال: ويتوجه احتمال في رد السلام، لفعله صلى الله عليه وسلم لئلا يفوت المقصود، وهو الرد على الفور. وجوز المجد وغيره التيمم لما يستحب الوضوء له مطلقاً، لأنها مستحبة، فخف أمرها. ويحثي على رأسه ثلاثاً، يروي بها أصول الشعر، يحتمل أنه يروي بمجموع الغرفات، وأن يروي بكل مرة. واستحب المصنف وغيره تخليل أصول شعر رأسه ولحيته قبل إفاضة الماء. ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثاً، وقيل: مرة، اختاره الشيخ. وقال الزركشي: هو ظاهر الأحاديث.
وإذا نوى الكبرى فقط، لا يجزي عن الصغرى. وقال الشيخ: يرفع الأصغر أيضاً. ويستحب للجنب إذا أراد النوم أن يغسل فرجه ويتوضأ. وعنه: يستحب للرجل فقط. قال ابن رجب في شرح البخاري: وهذا المنصوص عن أحمد. وقال الشيخ: في كلام أحمد ما ظاهره وجوبه. ولو أحدث بعد الوضوء لم يعده، وظاهر كلام الشيخ أنه يعيد حتى يبيت على إحدى الطهارتين، وقال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب". 1 رواه أبو داود.
ويكره بناء الحمّام وبيعه وإجارته، وحرّمه القاضي، وحمله الشيخ على غير البلاد الباردة. وللمرأة دخوله لعذر، وقيل: يجوز لضرر يلحقها بتركه لنظافة بدنها، اختاره الشيخ.
__________
1 أبو داود: الطهارة (227) , والدارمي: الاستئذان (2663) .

(1/64)


باب التيمم
يشترط له ثلاثة:
أحدها: دخول الوقت، وهذا قول مالك والشافعي، لأنه مستغن عنه، أشبه التيمم عند وجود الماء. وقال أبو حنيفة: يصح. وروي عن أحمد أنه قال: القياس أن التيمم بمنزلة الطهارة، حتى يجد الماء أو يحدث، فعليها يجوز قبل دخول الوقت.
الثاني: العجز عن استعمال الماء لعدمه، لمن تيمم لعذر عدم الماء.
الثالث: طلب الماء، وفيه خلاف نذكره، إن شاء الله تعالى. وعدم الماء يبيح التيمم في السفر الطويل والقصير؛ وهذا قول مالك والشافعي. وقال قوم: لا يباح إلا في الطويل، قياساً على سائر رخص السفر، ولنا: قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الآية، 1 فدل على إباحته في كل سفر. وقياسهم لا يصح، لأنه يباح في الحضر، ولأنه عزيمة. فإن عدم الماء في الحضر تيمم، وهذا قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة في رواية: لا يصح، لأن الله شرط له السفر. ولنا: قوله: "الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين". 2 صححه الترمذي. وهذا عام. ولعل ذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، كذكر السفر وعدم الكاتب في الرهن. وأبو حنيفة لا يقول بدليل الخطاب
__________
1 سورة النساء آية: 43.
2 الترمذي: الطهارة (124) , والنسائي: الطهارة (322) , وأبو داود: الطهارة (332, 333) , وأحمد (5/180) .

(1/65)


على نفسه، تيمم ولا إعادة إجماعاً. وإن خاف على رفيقه أو بهائمه، فكذلك. وإن وجد عطشاناً يخاف تلفه، لزمه سقيه وتيمم. وقال القاضي: لا يلزمه بذله، لأنه محتاج إليه. ولنا: أن حرمة الآدمي تُقدم على الصلاة، إذا رأى حريقاً أو غريقاً عند ضيق الوقت، وقد غفر الله لبغيٍّ سقت كلباً، فالآدمي أولى.
وإن خاف على نفسه أو ماله في طلب الماء، كمن بينه وبينه لص أو عدو، فهو كالعادم. ومن كان مريضاً لا يقدر على الحركة ولا على من يناوله، فكالعادم. وإن وجد من يناوله قبل خروج الوقت، فكالواجد. وقال الحسن: يتيمم ولا إعادة، لأنه عادم في الوقت. وإن وجد الماء، إلا أنه إن اشتغل بتحصيله فات الوقت، لم يتيمم، في قول أكثر أهل العلم. وعن الأوزاعي والثوري: يتيمم. ولنا: قوله: {فلم تجدوا ماء} ، 1 وهذا واجد للماء، وقوله: "التراب كافيك ما لم تجد الماء". وإن وجد الماء بثمن مثله، لزمه شراؤه لأنه قادر، وكذلك إن كان بزيادة يسيرة. وقال الشافعي: لا يلزمه الشراء مع الزيادة، قليلة كانت أو كثيرة، لأن عليه ضرراً في الزياة، كخوف اللص. ولنا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، ولأن ضرر المال دون ضرر النفس، وقد قالوا في المريض: يلزمه الغسل ما لم يخف التلف، فتحمل الضرر اليسير في الماء أحرى.
والجريح والمريض إذا أمكنه غسل البعض، غسل ما أمكنه وتيمم للباقي؛ وهو قول الشافعي. وقال مالك: إن كان أكثر بدنه صحيحاً غسله ولا يتيمم، وإن كان أكثره جريحاً تيمم ولا غسل عليه، لأن الجمع بين البدل والمبدل منه لا يجب، كالصيام والإطعام. ولنا: حديث صاحب الشجة، ولأنه من شروط الصلاة، فالعجز عن بعضها لا يسقط جميعها، كالسترة، وما ذكره ينتقض
__________
1سورة النساء آية: 43.

(1/67)


المسح على الحفين، وقياسهم جمع بين البدل والمبدل منه في محل واحد. وكل ما لا يمكن غسله من الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح، حكمه حكم الجريح.
ولا يلزمه أن يمسح على الجرح بالماء إذا أمكنه، سواء كان معصوباً أو لا. ونص أحمد في المجروح: إذا خاف مَسَحَ موضع الجرح، مسح وغسل ما حوله، لأن المسح بعض الغسل. ووجه الأولى أنه محل واحد، فلا يجمع بين المسح والتيمم كالجبيرة. وإذا قلنا: يجب المسح فهل يتيمم؟ على روايتين: إحداهما: لا يتيمم، كالجرح المعصوب عليه، والجبيرة على الكسر. والثانية: يتيمم، لأن المسح بعض الغسل، فيتيمم للباقي. والجبيرة الفرض انتقل فيها إلى الحائل فهو كالخفين. وإذا كان الجريح جنباً، فإن شاء قدم التيمم، وإن شاء أخره، بخلاف المتيمم لعدم ما يكفيه، فإنه يلزمه الغسل أولاً، لأن التيمم للعدم، ولا يتحقق مع وجود الماء، ولأن الجريح يعلم أن التيمم بدل عن غسل الجرح، والعادم لا يعلم القدر الذي تيمم له إلا بعد الغسل.
وإن تيمم الجريح للحدث الأصغر، فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب. وقال شيخنا: يحتمل أن لا يجب هذا الترتيب، لأن التيمم طهارة مفردة، كما لو كان الجريح جنباً، ولأن فيه حرجاً فيندفع بقوله: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} . 1 وحكى الماوردي عن مذهب الشافعي مثل هذا. وإن وجد ما يكفي بعض بدنه، لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنباً، نص عليه. وفيمن وجد ما يكفيه لوضوئه وهو جنب، قال: يتوضأ ويتيمم؛ وهذا قول عطاء وأحد قولي الشافعي، وبه قال الحسن والزهري ومالك وابن المنذر. والقول الثاني للشافعي: يتيمم ويتركه، لأنه لا يطهره كالمستعمل. ولنا: قوله: {فلم تجدو ماء} ، 2 وخبر أبي ذرّ: "فإذا وجدته
__________
1 سورة الحج آية: 78.
2سورة النساء: آية: 43.

(1/68)


فأمسّه بشرتك"، وقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". 1 فإن وجده المحدث الحدث الأصغر، فقيل: يلزمه لما ذكرنا في الجنب. والثاني: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط فيه؛ والصحيح أنه يلزمه.
والمشهور عن أحمد: اشتراط طلب الماء لصحة التيمم، وهو مذهب الشافعي. وعنه: لا يشترط، وهو مذهب أبي حنيفة، لقوله: "التراب كافيك ما لم تجد الماء". ووجه الأولى: قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، فأما إن تيقن أن لا ماء فلا يجب الطلب، قولاً واحداً، قاله أبو العباس. وإن أراق الماء قبل الوقت، تيمم من غير إعادة، وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت، كقولنا، وإلا تيمم وأعاد لأنه مفرط. فأما إن إراقه في الوقت، أو مر به فلم يستعمله عمداً، مع أنه لا يرجو وجوده، فقد عصى بذلك، فيتيمم ويصلي. وفي الإعادة وجهان.
وإن نسي الماء وتيمم، لم يجزئه، نص عليه، وقال: هذا واجد للماء. وعنه: التوقف في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة وابن المنذر: يجزئه. وعن مالك كالمذهبين. وعنه: يعيد ما دام في الوقت. ويجوز التيمم لجميع الأحداث، وللنجاسة على جرح يضره إزالتها. و"كان ابن مسعود لا يرى التيمم للجنب". وقال الثوري وأبو ثور: إذا عجز عن غسل النجاسة على بدنه، مسحها بالتراب وصلى. وقال أكثر الفقهاء: لا يتيمم للنجاسة، لأن الشرع إنما ورد في الحدث. ووجه الأولى: قوله: "الصعيد الطيب طهور المسلم"، 2 وقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". 3 وإن اجتمع عليه نجاسة وحدث، ومعه ما يكفي أحدهما، قدم غسل النجاسة، نص عليه، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن عدم الماء والتراب، صلى على حسب حاله، وهو
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428, 2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508, 2/517) .
2 الترمذي: الطهارة (124) , والنسائي: الطهارة (322) , وأبو داود: الطهارة (332, 333) , وأحمد (5/180) .
3 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) .

(1/69)


قول الشافعي. وروي عن أحمد: لا يصلي حتى يقدر على أحدهما، وهو قول أبي حنيفة والثوري. وقال مالك: لا يصلي ولا يقضي، كالحائض. قال ابن عبد البر: هذه رواية منكرة عنه. ولنا: حديث القلادة وفيه: "فصلّوا بغير وضوء، فلم ينكرن ولا أمر بالإعادة". 1 وقياس أبي حنيفة على الحائض في تأخير الصيام لا يصح، لأن الصوم يدخله التأخير، لأن المسافر يؤخره، ولأن عدم الماء لو كان كالحيض لأسقط الصلاة، وقياس الصلاة على جنسها أولى من قياسها على الصوم. وقياس مالك لا يصح، لمخالفته لقوله: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم". 2 وقياس الطهارة على شرائط الصلاة أولى من قياسها على الحيض، والحيض معتاد، والعجز هنا نادر لأنه يشق إيجاب قضاء المعتاد.
ولا يتيمم إلا بطاهر له غبار يعلق باليد، للآية. قال ابن عباس: "الصعيد تراب الحرث، والطيب الطاهر"، وقال: " {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، 3 وما لا غبار له، لا يمسح بشيء منه"، وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز بكل ما كان من جنس الأرض، كالنورة والزرنيخ والحجارة. وقال الأوزاعي: الرمل من الصعيد. وقال حماد: يتيمم بالرخام، لقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". ولنا: الأمر بالصعيد، وهو التراب، وقوله: {مِنْهُ} . فأما السبخة، فعنه: يجوز، وقاله الشافعي وابن المنذر، لقوله: "وجُعلت تربتها طهوراً ". وعنه: في النورة والحصى والرمل ونحوه، وعنه: يجوز ذلك مع الاضطرار خاصة، وإن ضرب بيده على لبد أو شعير ونحوه، فعلق به غبار، جاز، نص عليه "لأنه صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على الحائط، فمسح بها وجهه ويديه".
__________
1 البخاري: المناقب (3773) , ومسلم: الحيض (367) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (568) , وأحمد (6/57) , والدارمي: الطهارة (746) .
2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428, 2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508) .
3 سورة المائدة آية: 6.

(1/70)


وأجاز مالك التيمم بالثلج والحشيش وكل ما تصاعد على وجه الأرض، ومنع من التيمم بغبار اللبد والثوب، لأنه صلى الله عليه وسلم لما ضرب بيديه نفخهما. ولنا: الآية والنفخ لا يزيل الغبار الملاصق. وروى الأثرم عن ابن عمر أنه قال: "لا يتيمم بالثلج فإن لم يجد فصفحة فرسه أو معرفة دابته". فأما التراب النجسن فلا يجوز، لا نعلم فيه خلافاً.
ويجوز أن يتيمم جماعة في موضع واحد بغير خلاف. وإن كان في الطين، فحكي عن ابن عباس: "أنه يطلي به جسده، فإذا جف تيمم به".
ولا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين، للآية؛ وهذا قول الشافعي، يعني: أنه لا يجزي البعض. وقال سليمان بن داود: يجزيه إذا لم يصب إلا بعض وجهه. ولنا: قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، 1 والباء للإلصاق.
والنية شرط للتيمم في قول أكثر أهل العلم، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما حكي عن الأوزاعي والحسن بن صالح. وإن نوى نفلاً، لم يصلّ إلا نفلاً. وقال أبو حنيفة: له أن يصلي بها ما يشاء.
ويبطل بخروج الوقت، ووجود الماء، ومبطلات الوضوء. "روي بطلانه بخروج الوقت عن علي وابن عمر"، وهو قول مالك والشافعي. وقيل: لا يبطل، وهو مذهب ابن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي. ولنا: أنه روي عن علي وابن عمر أنه قال: "يتيمم لكل صلاة". وأما وجود الماء فلا نعلم فيه خلافاً. وإن وجده في الصلاة بطلت. وعنه: لا تبطل، قاله مالك والشافعي وابن المنذر. وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خلعه، بطل. والصحيح ما اختاره شيخنا: أنه لا يبطل، وهو قول سائر الفقهاء. ويجوز التيمم لكل ما يتطهر له. وقال أبو مجلز: لا يتيمم
__________
1 سورة النساء آية: 43.

(1/71)


إلا لمكتوبة. وكره الأوزاعي أن يمس المتيمم المصحف. ولنا: حديث أبي ذر وقوله: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". 1 وإن وجد الماء في الوقت، لم يعد، وهو قول مالك والشافعي. وقال طاووس وابن سيرين والزهري: يعيد. ولنا: ما روى أبو داود عن أبي سعيد: "أن رجلين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً فصليا. ثم وجد الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يُعد الآخر. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك، فقال للذي لم يُعد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك. وقال للذي أعاد: لك أجرك مرتين" 2.
واحتج أحمد بـ"أن ابن عمر تيمم وهو يرى بيوت المدينة، فصلى العصر. ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد". والمصلي على حسب حاله إذا وجد الماء أو تراباً، خرج منها بكل حال، ويحتمل أن لا يخرج كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة. و"يستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء"، وروي عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي. وقال الشافعي في أحد قوليه: التقديم أفضل.
والمسنون عن أحمد: التيمم بضربة واحدة. قال أحمد: من قال بضربتين إنما هو شيء زاده. قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقال الشافعي: لا يجزئ إلا ضربتان للوجه واليدين إلى المرفقين. ولنا: حديث عمار، ولأنه حكم علق على مطلق اليد، فلم يدخل فيه الذراع، كقطع يد السارق. وقد احتج ابن عباس بهذا. وأما أحاديثهم فضعيفة، لم يرو منها أهل السنن إلا حديث ابن عمر. وقال أحمد: ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم حديث منكر. وحديث ابن الصمة صحيح، لكن إنما جاء في المتفق عليه: "فمسح وجهه ويديه"، فهو حجة لنا. ثم أحاديثهم
__________
1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) .
2 أبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) .

(1/72)


لا تعارض حديثنا، لأنها تدل على جوازه بضربتين، لا نفي جواز التيمم بضربة، كما أن وضوءه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا ينفي الإجزاء بمرة. فإن قيل: روي في حديث عمار: "إلى المرفقين"، قيل: لا يعوّل عليه، إنما رواه سلمة وشك فيه، ذكره النسائي، مع أنه أنكر عليه وخالفه فيه سائر الرواة الثقات. ولا يختلف المذهب أنه يجزئ بضربة وبضربتين. وإذا [كان] علا يديه غبار كثير، لم يكره نفخه، لحديث عمار. وقيل: يُكره.
ولا يجوز لواجد الماء التيمم، خوفاً من فوات المكتوبة ولا الجنازة. وعنه: يجوز للجنازة. وعن الأوزاعي والثوري: له التيمم إذا خاف خروج الوقت، وإن خاف فوات العيد فكذلك. وقال الأوزاعي والثوري: له التيمم. ووجه الأولى: قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . 1 و"التيمم لفوات الجنازة يروى عن ابن عمر وابن عباس"، وبه قال إسحاق وأصحاب الرأي. وقال الشعبي: يصلي عليها من غير وضوء، أشبهت الدعاء في غير الصلاة. ولنا: قوله: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور". 2 ولا يكره للعادم جماع زوجته إذا لم يخف العنت، وفيه رواية: يكره. قال إسحاق بن راهويه: هو سنة مسنونة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر وعمار وغيرهما.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
ولا يكره لعادم الماء وطء زوجته، اختاره الشيخ؛ وهو بدل لكل ما يفعله بالماء من الصلاة وغيرها، ولوطء حائض انقطع دمها، وقيل: يحرم الوطء
__________
1 لفظ "كان" زيادة في الطبعة السلفية، وفي المخطوط والشرح: وإذا علا.
2 النسائي: الطهارة (139) , وأبو داود: الطهارة (59) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (271) , وأحمد (5/74, 5/75) , والدارمي: الطهارة (686) .

(1/73)


والحالة هذه، اختاره الشيخ. وإذا وجد عطشاناً يخاف تلفه، لزمه سقيه وتيمم، جزم به الشيخ. وقال: يلزمه قبول الماء قرضاً، وكذا ثمنه وله ما يوفيه. وقال: ولو كان به جرح يخاف من غسله، فمسحه بالماء أولى من مسح الجبيرة. انتهى.
ولو كان على الجرح عصابة أو لصوق، أجزأ المسح على الصحيح، وعنه: يتيمم معه. ولو كان الجرح في بعض أعضاء الوضوء لزمه الترتيب. قال الشيخ: ينبغي أن لا يرتب، وقال: لا يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره. وقال: الفصل بين أعضاء الوضوء بتيمم بدعة.
ويجوز التيمم للنجاسة، وفي وجه: لا يجب التيمم لنجاسة البدن مطلقاً، نصره الشيخ. ولو عدم الماء والتراب، صلى على حسب حاله، ولا يزيد على ما يجزئ. وقال الشيخ: يتوجه له فعل ما شاء لأنه لا تحريم مع العجز، ولأن له أن يزيد على ما يجزئ في ظاهر قولهم، وقال: له فعل ذلك على أصح القولين.
ولا يتيمم إلا بتراب له غبار، وعنه: بالسبخة، وعنه: وبالرمل أيضاً، اختاره الشيخ. واختار جواز التيمم بغير تراب من أجزاء الأرض، إذا لم يجد تراباً، وهي رواية عن أحمد. وأعجب أحمد حمل التراب عند التيمم، وعند الشيخ لا يحمله.
ويبطل بخروج الوقت. وهو مبيح لا رافع. وعنه: أنه رافع؛ فيصلي به إلى حدثه، اختاره الشيخ. وقال في الفتاوى المصرية: التيمم لوقت كل صلاة، إلى أن يدخل وقت الأخرى، أعدل الأقوال.
وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خلعه، لم يبطل تيممه، اختاره الشيخ. واختار فيمن استيقظ آخر الوقت وهو جنب، وخاف إن اغتسل خرج

(1/74)


الوقت، أو نسيها وذكرها آخر الوقت، أن يغتسل أو يتوضأ ويصلي خارج الوقت، كالمذهب. وإن استيقظ أول الوقت، وخاف إن اشتغل بتحصيل الماء يفوت الوقت، أن يتيمم ولا يفوِّت الوقت. وإن من أمكنه الذهاب إلى الحمام لكن بفوات الوقت، أن يتيمم ويصلي خارج الحمام، لأن الصلاة في الحمام وخارج الوقت منهي عنها، كمن انتقض وضوءه وهو في المسجد. واختار أيضاً جواز التيمم من فوات الجمعة، فإنه أولى من الجنازة - إلى أن قال - وعنه: يجوز لجنازة، اختاره الشيخ.
ولو كان الماء لأحدهم لزمه استعماله، وذكر ابن القيم في الهدي: أنه لا يمتنع أن يؤثر بالماء، ويتيمم هو.

(1/75)


باب التيمم
...
ولو كان حجة، فالمنطوق راجح عليه. وهل يعيد إذا قدر على الماء على روايتين.
ومن خرج من المصر إلى أرض من أعماله كالحطاب، ممن لا يمكنه حمل الماء معه لوضوئه، ولا يمكنه الرجوع ليتوضأ إلا بتفويت حاجته، صلى بالتيمم ولا إعادة عليه.
وإن خاف البرد ولم يمكنه استعمال الماء على وجه يأمن الضرر، تيمم في قول أكثر أهل العلم. وقال الحسن وعطاء: يغتسل وإن مات.
ووجه الأولى قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، 1 ولحديث عمرو بن العاص. وهل يلزمه الإعادة فيه روايتان:
إحداهما: لا تلزم "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة". وقال أبو يوسف ومحمد: تجب، كنسيان الطهارة؛ والأول أصح، لأن الناسي لم يأت بما أمر به.
والجريح والمريض إذا خافا تيمما، هذا قول أكثر أهل العلم. وقال عطاء والحسن: لا يجوز إلا عند عدم الماء. ولنا: قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، 2 وحديث صاحب الشجة. واختلفوا في الخوف المبيح، فعن أحمد: لا يبيحه إلا خوف التلف؛ والصحيح الإباحة إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء، لأنه يجوز إذا خاف ذهاب شيء من ماله أو لم يجد الماء إلا بزيادة كثيرة على ثمن المثل، ولأن ترك القيام في الصلاة وتأخير الصوم في المرض لا ينحصر في خوف التلف. فإن لم يخف الضرر لم يجز. وحكي عن مالك وداود: إباحته للمريض مطلقاً، لظاهر الآية. ولنا: أنه قادر عليه من غير ضرر فأشبه الصحيح، والآية اشترط فيها عدم الماء، فلم يتناول محل النزاع على أنه لا بد فيها من إضمار الضرورة، ولا يكون إلا عند الضرورة. وإن خاف العطش
__________
1 سورة النساء آية: 29.
2 سورة النساء آية: 29.

(1/56)


باب إزالة النجاسة
لا تجوز بغير الماء، وبه قال مالك. وروي عن أحمد ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر، مزيل للعين والأثر، كالخل وماء الورد؛ وقاله أبو حنيفة، لقوله: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسلْه سبعاً". 1 ولنا: الأحاديث مثل قوله: "ثم لتنضحْه بماء"، ومثل أمره بذنوب من ماء تصب على البول. فأما ما لا يزيل، كاللبن والدهن، فلا خلاف أن النجاسة لا تزال به.
ويجب غسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً، إحداهن بالتراب، لا يختلف المذهب في نجاستهما وما توالد منهما، عينه وسؤره وعرقه وكل ما خرج منه؛ وبه قال الشافعي، وبه قال أبو حنيفة في السؤر. وقال مالك: سؤرهما طاهر. وقال الزهري: يتوضأ منه إذا لم يجد غيره. قال مالك: يغسل الإناء تعبداً. واحتج بعضهم على طهارته بقوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} ، 2 ولم يأمر بغسل أثر فمه. ونجاسة الخنزير بالتنبيه لأنه شر منه. وممن قال: "يغسل سبع مرات": ابن عباس والشافعي وابن المنذر. وقال عطاء: قد سمعت ثلاثاً وخمساً وسبعاً، وعن أحمد ثمانياً، إحداهن بالتراب، لقوله: "إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعاً، وعفروه الثامنة بالتراب". 3 رواه مسلم. وحديث أبي هريرة أصح، ويحتمل أنه عدّ التراب ثامنة، جمعاً بينهما. وإن جعل مكان التراب أشناناً ونحوه، فقيل: لا يجزئ، للأمر بالتراب. وقيل: بلى، لأنه أبلغ
__________
1 البخاري: الوضوء (172) , ومسلم: الطهارة (279) , والترمذي: الطهارة (91) , والنسائي: الطهارة (63, 64, 66) والمياه (335, 338, 339) , وأبو داود: الطهارة (71, 73) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (363, 364) , وأحمد (2/245, 2/253, 2/265, 2/271, 2/314, 2/398, 2/424, 2/427, 2/460, 2/480, 2/482, 2/489, 2/507) , ومالك: الطهارة (67) .
2 سورة المائدة آية: 4.
3 مسلم: الطهارة (280) , والنسائي: الطهارة (67) والمياه (336, 337) , وأبو داود: الطهارة (74) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (365) , وأحمد (4/86) , والدارمي: الطهارة (737) .

(1/76)


من التراب. ويستحب جعله في الأولى، لموافقته لفظ الخبر، وليأت الماء بعده فينظفه. ومتى غسل به أجزأه، لقوله: "إحداهن بالتراب"، وفي لفظ آخر: "في الثامنة".
وفي سائر النجاسات، ثلاث روايات: إحداهن: يجب سبعاً. والثانية: ثلاثاً. والثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد، كالنجاسات كلها، إذا كانت على الأرض، لقول ابن عمر: "أُمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً". والثانية، لحديث القائم من نوم الليل. والثالثة، قوله لأسماء: "اغسليه بالماء"، 1 ولم يذكر عدداً.
وإذا أصاب ثوب المرأة دم الحيض، استحب أن تحتّه بظفرها لتذهب خشونته، ثم تقرصه بريقها ليلين للغسل، ثم تغسله، لقوله لأسماء: "حتّيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء"، 2 وإن لم يزل لونه، وكانت إزالته تشق أو تضر بالثوب، لقوله: "ولا يضرك أثره". 3 رواه أبو داود.
وإن استعملت شيئاً يزيله كالملح وغيره، فحسن، لحديث الغفارية التي أردفها. قال الخطابي: فيه من الفقه: جواز استعمال الملح وهو مطعوم في غسل الثوب من الدم. فعلى هذا، يجوز غسل الثوب بالعسل إذا كان الصابون يفسده، وبالخل إذا أصابه الحبر، والتدلك بالنخالة وغسل الأيدي بها، وبالبطيخ ودقيق الباقلاء وغيرها، مما له قوة الجلاء.
ومتى تنجست الأرض بنجاسة مائعة، أيَّ نجاسة كانت، فطهورها: غمرُها بالماء حتى يذهب لون النجاسة وريحها. فإن لم يزل إلا بمشقة، سقط ذلك كما قلنا في الثوب، لحديث الأعرابي، ولا نعلم في ذلك خلافاً.
وسئل أحمد عن ماء المطر يصيب الثوب، فلم ير بأساً، إلا أن يكون بيل فيه بعد المطر، وقال: كل ما نزل من السماء إلى الأرض فهو نظيف، داسته الدواب أو لم تدسه. وقال في الميزاب: إذا كان في الموضع النظيف لا بأس بما قطر عليك من المطر إذا لم تعلم. قيل: أفأسأل عنه؟ قال: لا.
واحتج في طهارة طين المطر بحديث
__________
1 النسائي: الطهارة (292) والحيض والاستحاضة (395) , وأبو داود: الطهارة (363) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (628) , وأحمد (6/355) , والدارمي: الطهارة (1019) .
2 البخاري: الوضوء (227) , ومسلم: الطهارة (291) , والترمذي: الطهارة (138) , والنسائي: الطهارة (293) , وأبو داود: الطهارة (360, 361) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (629) , وأحمد (6/345, 6/346, 6/353) , ومالك: الطهارة (136) , والدارمي: الطهارة (772, 1016, 1018) .
3 أبو داود: الطهارة (365) , وأحمد (2/364, 2/380) .

(1/77)


الأعرابي، وبـ"أن الصحابة والتابعين يخوضون المطر في الطرقات، فلا يغسلون أرجلهم"، روي عن ابن عمر وعلي. قال ابن مسعود: "كنا لا نتوضأ من موطئ"، ونحوه عن ابن عباس؛ وهذا قول عوام أهل العلم.
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح، روي عن ابن المنذر والشافعي في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة ومحمد: تطهر إذا أذهب أثر النجاسة. وقال أبو قلابة: جفاف الأرض طهورها، لأن ابن عمر روى: "أن الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد، فلم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك". رواه أبو داود. ولنا: حديث الأعرابي، وحديث ابن عمر رواه البخاري، ولم يذكر البول ... ولا تطهر الاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. وإذا خفيت النجاسة، لزم غسل ما تيقن به من إزالتها؛ هذا قول مالك والشافعي وابن المنذر. وقال ابن شبرمة: يتحرى مكان النجاسة فيغسله. وقال عطاء: إذا خفيت في الثوب، نضحَه كله، لحديث سهل في المذي، فأمر بالتحري والنضح. ولنا: أنه تيقن المانع من الصلاة، فلم تبح له الصلاة إلا بتيقن، والحديث مخصوص بالمذي لمشقة الاحتراز منه. ويجزئ في بول الذي لم يأكل الطعام: النضح؛ وهو غمره بالماء وإن لم يزل عنه، ولا يحتاج إلى عصر. وحكي عن الحسن أن بول الجارية ينضح ما لم تطعم، كالصبي. وقال الثوري: "يغسلان"، ثم ذكر حديث أم قيس وحديث علي وقال: هذه نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاتباعها أولى من القياس، وقوله صلى الله عليه وسلم مقدم على من خالفه.
وإذا تنجس أسفل الحذاء أو الخف، وجب غسله. وعنه: يجزئ دلكه، وعنه: يغسل من البول والغائط، ويدلك من غيرهما. والأولى: أن يجزئ الدلك مطلقاً، للأحاديث. فـ"أما الدم والقيح،

(1/78)


فأكثر أهل العلم يرون العفو عن يسيره"، روي عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما. وروي عن الحسن وسليمان التيمي: لا يعفى عنه. ولنا: قول عائشة: "يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، تم ترى فيه قطرة من الدم، فتقصعه بريقها"، 1 وفي رواية: "تبلّه بريقها، ثم تقصعه بظفرها". رواه أبو داود. وهذا يدل على العفو، لأن الريق لا يطهره، ويتنجس به ظفرها. وهو إخبار عن دوام الفعل؛ ومثل هذا لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قول مَن سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف. والقيح والصديد مثله، إلا أن أحمد قال: هو أسهل. وقال أبو مجلز في الصديد: إنما ذكر الله الدم المسفوح. وقال أُميّ بن ربيعة: رأيت طاووساً كان إزاره نطعاً، من قروح كانت برجليه، ونحوه عن مجاهد.
ودم ما لا نفس له سائلة، كالذباب ونحوه، طاهر، لأنه لو كان نجساً لنجس الماء اليسير إذا مات فيه، ولأن الله سبحانه إنما حرم الدم المسفوح.
والأجسام الصقيلة يعفى عن كثير النجاسة فيها بعد المسح. وعنه: في المذي والقيء وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير، وعرَقها وبول الأخفاش، والنبيذ والمني، أنه كالدم. وعنه: في المذي يجزئ فيه النضح. وروى الخلال بإسناده قال: سئل ابن المسيب وعروة وأبو سلمة وسليمان بن يسار عن المذي، فكلهم قال: إنه بمنزلة القرحة، فما علمت منه فاغسله، وما غلبك منه فدعْه. وعنه: في ريق البغل والحمار وعرَقهما: من يسلم من هذا ممن يركب الحمير؟ وقال الشعبي والحكم: لا بأس ببول الخفافيش، وكذلك الخطاف، لأنه يشق التحرز منه، فإنه كثير في المساجد. وقال أبو حنيفة: يعفى عن يسير جميع النجاسات. ولنا: قوله: "تنزّهوا من البول". وما لا نفس له سائلة، لا ينجس بالموت، ولا ينجس الماء إذا مات فيه، قال ابن
__________
1 أبو داود: الطهارة (364) , والدارمي: الطهارة (1009) .

(1/79)


المنذر: لا أعلم في ذلك خلافاً، إلا ما كان من الشافعي في أحد قوليه؛ فإن عنده في تنجيس الماء قولان، فأما الحيوان فهو نجس عنده قولاً واحداً. ولنا: حديث الذباب والضفدع ينجس بالموت وينجس الماء القليل. وقال مالك: لا يفسد الماء لأنه يعيش فيه كالسمك. وسباع البهائم والطير والبغل والحمار نجسة، وعنه: أنها طاهرة. وسؤر الهر وما دونه في الخلقة طاهر، في قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا أبا حنيفة، فإنه كره الوضوء بسؤر الهر؛ فإن فعل أجزأه. و"رويت كراهته عن ابن عمر ويحيى الأنصاري"، وقال ابن المسيب: يغسل مرة أو مرتين. وقال طاووس: يغسل سبعاً كالكلب. ولنا: حديث أبي قتادة، دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر، وبتعليله على نفي الكراهة عما دونهما مما يطوف علينا.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
لا تزول النجاسة بغير الماء، وعنه: ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر مزيل، اختاره الشيخ. واختار طهارة شعر الكلب والخنزير. وفي سائر النجاسات ثلاث روايات: الثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد، اختاره الشيخ. واختار إجزاء المسح في المتنجس الذي يضره الغسل، كثياب الحرير والورق، قال: وأصله الخلاف في إزالة النجاسة بغير الماء. واختار أن الشمس تطهر، وكذا الريح والجفاف. قال: وإحالة التراب ونحوه للنجاسة كالشمس، وقال: إذا أزالها التراب عن النعل فعن نفسه إذا خالطته أولى. واختار أيضاً أن الاستحالة تطهر، وأن الجسم الصقيل يطهر بالمسح.
وإذا خفي موضع النجاسة غسل حتى يتيقن، وعند الشيخ: يكفي الظن في غسل المذي وغيره

(1/80)


من النجاسات. واختار طهارة أسفل الخف والحذاء بالدلك، وأن ذيل المرأة بمروره على طهارة يزيلها، وأن الرِّجل كالخف والحذاء، وأن القيح والصديد طاهر ولم يقم دليل على نجاسته، وأن المذي يجزئ فيه النضح ويصير طاهراً به. واختار أيضاً: العفو عن يسير جميع النجاسات مطلقاً، في الأطعمة وغيرها، حتى بعر الفأر، وأن تراب الشارع طاهر، ومال إلى طهارة سباع البهائم والطير والبغل والحمار.

(1/81)


باب الحيض
قال أحمد: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة، وأم حبيبة، وحمنة، وفي رواية: حديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة. وهو يوجب البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 1. وحرم وطؤها قبل الغسل، قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وقال أبو حنيفة: إن انقطع لأكثر الحيض حل وطؤها. الاستمتاع بما فوق السرة وتحت الركبة جائز بالنص والإجماع، والوطء محرم بهما. واختلف في الاستمتاع بما بينهما، فذهب إمامنا إلى جوازه، وهو قول عطاء والشعبي والثوري وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يباح، لحديث: "كان يأمرني فأتّزر ... إلخ" 2. ولنا: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} . 3 فتخصيصه يدل على إباحة ما عداه. ولما نزلت، قال صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء غير النكاح". 4 رواه مسلم. فإن وطئها فعليه نصف دينار كفارة، وعنه: ليس عليه إلا التوبة، لأنه سئل عن الحديث فقيل: في نفسك منه شي؟ قال: نعم.
وإذا استحيضت المعتادة، لم تخل من أربعة أقسام: أحدها: أن لا يكون لها تمييز لكون الدم على صفة واحدة، أو أن الذي يصلح للحيض ينقص عن أقله أو يزيد على أكثره، فهذه تجلس أيام عادتها، ثم تغتسل وتتوضأ لوقت كل صلاة
__________
1 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150, 6/218, 6/259) .
2 مسلم: الحيض (293) , والترمذي: الطهارة (132) , وأحمد (6/55) , والدارمي: الطهارة (1037) .
3 سورة البقرة آية: 222.
4 مسلم: الحيض (302) , والترمذي: تفسير القرآن (2977) , والنسائي: الطهارة (288) والحيض والاستحاضة (369) , وأبو داود: النكاح (2165) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (644) , وأحمد (3/132, 3/246) , والدارمي: الطهارة (1053) .

(1/82)


وتصلي؛ وهذا القول للشافعي. وقال مالك: لا اعتبار بالعادة، بل بالتمييز؛ فإن لم يكن استظهرت بعد عادتها بثلاثة أيام إن لم تتجاوز خمسة عشر، ثم هي مستحاضة، واحتج بحديث فاطمة. ولنا: حديث أم سلمة: "أن امرأة تهراق الدماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن ... إلخ". 1 وروي في حديث فاطمة: "دَعِي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين". 2 متفق عليه. وفي حديث أم حبيبة: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك". رواه مسلم. ولا حجة له في الحديث على ترك العادة في حق من لا تمييز لها.
وإن كان لها عادة وتمييز، فإن كان الدم الذي يصلح للحيض في زمن العادة، فقد اتفقت العادة والتمييز. وإن كان أكثر من العادة أو أقل، ولم ينقص عن أقل الحيض ولا زاد على أكثره، ففيه روايتان: إحداهما: يقدم التمييز، وهو ظاهر مذهب الشافعي لما ذكرنا من الأدلة. والثانية: تقدم العادة، وهو قول أكثر الأصحاب، لأنه صلى الله عليه وسلم رد أم حبيبة والتي استفتت لها أم سلمة إلى العادة، ولم يستفصل. وحديث فاطمة روي فيه أنه ردها إلى العادة أيضاً، فتعارضت روايتاه، وبقيت أحاديثنا لا معارض لها، على أنها قضية في عين يحتمل أنها أخبرته أن لا عادة لها.
وإن نسيت العادة، عملت بالتمييز. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بالتمييز، لحديث أم سلمة. ولنا: حديث فاطمة، وحديث أم سلمة يدل على اعتبار العادة، وهذه لا عادة لها. فإن لم يكن لها تمييز، جلست غالب الحيض من كل شهر، وعنه: أقله، لحديث حمنة: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، ثم اغتسلي". 3 وقال الشافعي: لا حيض لها بيقين، وجميع زمنها مشكوك فيه، تغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها. وعن عائشة: "أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 النسائي: الطهارة (208) , وأبو داود: الطهارة (274) , وأحمد (6/320, 6/322) , ومالك: الطهارة (138) , والدارمي: الطهارة (780) .
2 البخاري: الحيض (325) , والترمذي: الطهارة (125) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (366) , وأبو داود: الطهارة (282, 298) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (621, 624) , وأحمد (6/41, 6/194, 6/204, 6/262) , ومالك: الطهارة (137) , والدارمي: الطهارة (774, 779) .
3 الترمذي: الطهارة (128) , وأبو داود: الطهارة (287) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (627) , وأحمد (6/439) .

(1/83)


فقال: إنما ذلك عِرق، فاغتسلي ثم صلي". 1 فكانت تغتسل عند كل صلاة. متفق عليه. ولنا: حديث حمنة، وهو بظاهره يثبت الحكم في حق الناسية، لأنه لم يستفصل ولم يسألها عن التمييز، لأن في كلامها من تكثير الدم وصفته ما أغنى عن السؤال، ولم يسألها عن العادة لاستغنائه عن ذلك بعلمه إياه، إذ كان مشتهراً، وقد أمر أختها أم حبيبة، فلم يبق إلا أن تكون ناسية، وأم حبيبة لها عادة لما روى مسلم أنه قال لها: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي"، 2 فكانت تغتسل عند كل صلاة. فدل على أنها تغتسل لكل صلاة في غير وقت الحيض.
وإن علمت عدد أيامها ونسيت موضعها، جلستها من أول كل شهر، لقوله: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي وصلي"، 3 فقدم حيضها على الطهر، ثم أمرها بالصلاة. واختار ابن أبي موسى أنها تجلس بالتحري، لأنه ردها إلى اجتهادها في القدر، فكذلك في الوقت، وإن طهرت في أثناء عادتها، اغتسلت وصلّت.
وإن عاودها الدم في العادة، فهل تلتفت إليه؟ على روايتين؛ و"لم يفرق أصحابنا بين قليل الطهر وكثيره"، لقول ابن عباس. أما من رأت الطهر ساعة فلتغتسل، فإن كان النقاء أقل من ساعة فالظاهر أنه ليس بطهر. قالت عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء". قال أحمد: القصة شيء يتبع الحيضة أبيض، لا يكون فيه صفرة ولا كدرة. وقال الأزهري: القُصة بضم القاف: القطنة التي تحشوها المرأة، فإذا خرجت بيضاء لا تغير عليها، فهي القصة البيضاء.
وروي عن أحمد: أن النفساء إذا رأت النقاء دون يوم، لا يثبت لها أحكام
__________
1 البخاري: الحيض (327) , ومسلم: الحيض (334) , والترمذي: الطهارة (129) , والنسائي: الطهارة (206) , وأبو داود: الطهارة (285) , وأحمد (6/82, 6/141) , والدارمي: الطهارة (782) .
2 مسلم: الحيض (334) , والنسائي: الطهارة (207) , وأبو داود: الطهارة (279) , وأحمد (6/222) .
3 الترمذي: الطهارة (128) , وأبو داود: الطهارة (287) , وأحمد (6/439) .

(1/84)


الطهارة، قال شيخنا: وهو الصحيح، إن شاء الله، لأن في إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج.
وقال أبو حنيفة: ليس النقاء بين الدمين طهراً، ولا يجب عليها فيه صلاة، ولا يأتيها زوجها؛ وهو أحد قولي الشافعي. ولنا: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} ، 1 وقال ابن عباس: "إذا رأت الطهر ساعة، فلتغتسل"، وقالت عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء"، ولأنها صامت وهي طاهرة فلم يلزمها القضاء. وقولهم: إن الدم يجري تارة وينقطع أخرى، قلنا: لا عبرة بالانقطاع اليسير، وإنما إذا وجد انقطاعٌ كثير يمكن فيه الصلاة والصيام. وإن عاودها الدم في العادة ولم يتجاوزها، ففيه روايتان: إحداهما: أنه من حيضها، وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي. والثانية: ليس بحيض، فإن تجاوز العادة وعبر أكثر الحيض فليس بحيض. والصفرة والكدرة في أيام الحيض: حيض، وبعده لا تعتد به، نص عليه؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو يوسف وأبو ثور: لا يكون حيض إلا أن يتقدمه دم أسود، لقول أم عطية: "كنا لا نعدّ الصفرة بعد الغسل شيئاً". رواه أبو داود. ولنا: قوله: {قُلْ هُوَ أَذىً} ، 2 وهذا يتناول الصفرة والكدرة، ولقول عائشة: "لا تعجلن ... إلخ". وقول أم عطية إنما يتناولُ ما بعد الطهر والاغتسال، ونحن نقول به، ويدل عليه قول عائشة: "ما كنا نعد الصفرة والكدرة حيضاً"، مع قولها المتقدم. وروى البخاري بإسناده عن فاطمة عن أسماء قالت: "كنا في حجرها مع بنات بنتها، فكانت إحدانا تطهر ثم تكسر بصفرة يسيرة، فنسألها فتقول: اعتزلن الصلاة حتى لا ترين إلا البياض". قال القاضي: معناه لا تلتفت إليه قبل التكرار، وقول أسماء فيما إذا تكرر، جمع بين الأخبار.
__________
1 سورة البقرة آية: 222.
2 سورة البقرة آية: 222.

(1/85)


والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه، وتتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي ما شاءت، وكذا من به سلس البول والمذي والريح، والجريح الذي لا يرقأ دمه، لحديث حمنة وأم سلمة. ثم إن خرج لرخاوة الشد، أعادت الشد والوضوء، وإن كان لغلبة الخارج لم تبطل الطهارة، لقول عائشة: "اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم والصفرة، والطست تحتها وهي تصلي". 1 رواه البخاري. وفي لفظ: "وإن قطر الدم على الحصير". "وصلى عمر وجرحه يثعب دماً". وقال مالك: لا يجب الوضوء على المستحاضة.
واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة، إلا أن يؤذيه البرد. واحتج أحمد بقوله لفاطمة: "فاغتسلي وصلّي"، ولم يأمرها بالوضوء. ولنا: أن في حديث فاطمة: "وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". 2 صححه الترمذي، وفي حديث عدي بن ثابت في المستحاضة: "وتتوضأ عند كل صلاة". 3 رواه أبو داود. قال أحمد: إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة، وتصلي بذلك النافلة والصلاة الفائتة، حتى يدخل وقت الأخرى. وقال الشافعي: لا تجمع بين فرضين بطهارة واحدة، لقوله: "توضئي لكل صلاة". ولنا: أن في حديث فاطمة: "توضئي لوقت كل صلاة"، وحديثهم محمول على الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم: "أينما أدركتك الصلاة فصلِّ"، 4 أي: وقتها، و"لأنه صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد"، وأمر به سهلة، ولم يأمرها بالوضوء. قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله قلت: إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير ويوقتون بوقت، يقولون: إذا توضأت وقد انقطع الدم ثم سال قبل أن تدخل في الصلاة، تعيد الوضوء. وإذا تطهرت والدم سائل ثم انقطع قولاً آخر، قال: لست أنظر في انقطاعه حين توضأت، سال الدم
__________
1 البخاري: الحيض (310) , وأبو داود: الصوم (2476) , وابن ماجة: الصيام (1780) , وأحمد (6/131) , والدارمي: الطهارة (877) .
2 البخاري: الوضوء (228) , ومسلم: الحيض (333) , والترمذي: الطهارة (125) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (359, 364, 365) , وأبو داود: الطهارة (282) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (621, 624) , وأحمد (6/41, 6/194, 6/204, 6/262) , والدارمي: الطهارة (774, 779) .
3 الترمذي: الطهارة (126) , وأبو داود: الطهارة (297) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (625) , والدارمي: الطهارة (793) .
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3366) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (520) , وأحمد (5/156, 5/160) .

(1/86)


أو لم يسل، إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة، فتصلي بذلك النافلة والفائتة، حتى يدخل وقت الأخرى.
ويستحب لها أن تغتسل لكل صلاة، وذهب بعضهم إلى وجوبه. وقيل: "لكل يوم غسلاً"، روي عن عائشة وابن عمر. وقيل: تجمع بين كل صلاتي جمع بغسل، وتغتسل للصبح، لأمره حمنة وسهلة بذلك. وأكثر أهل العلم على أنها تغتسل عند انقطاع الحيض، ثم عليها الوضوء لكل صلاة، لقوله: "فاغسلي عنك الدم وصلّي" 1، وكذلك حديث عدي بن ثابت؛ وهذا يدل على أن الغسل المأمور به استحباباً جمعاً بين الأحاديث.
والغسل لكل صلاة أفضل. ويليه الغسل مع الجمع، لقوله: وهو أعجب الأمرين إليّ. ويليه الغسل كل يوم مرة، ثم بعده الغسل عند الانقطاع، والوضوء لكل صلاة.
وهل يباح وطؤها؟ على روايتين: إحداهما: لا يباح، وهو مذهب ابن سيرين. والثانية: يباح، وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث حمنة وأم حبيبة. وأكثر النفاس: أربعون، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال مالك والشافعي: أكثره: ستون، ولا حد لأقله. وقال أبو عبيد: أقله: خمسة وعشرون يوماً. ولنا: أنه لم يرد تحديده، فيرجع إلى الوجود. ويستحب أن لا يقربها في الأربعين، لحديث عثمان بن أبي العاص. وإن عاد في الأربعين فهو نفاس، وعنه: مشكوك فيه. وقال مالك: إن رأته بعد يومين أو ثلاثة، فهو نفاس، وإن تباعد فحيض.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
يخرج الكفارة من أي ذهب كان، واختار الشيخ: لا يجزئ إلا المضروب، لأن الدينار اسم للمضروب خاصة، وأنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا للطهر بين الحيضتين؛ بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض، وإن نقص
__________
1 البخاري: الحيض (306) , والترمذي: الطهارة (125) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (359, 364, 365, 367) , وأبو داود: الطهارة (282) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (621, 624) , وأحمد (6/41, 6/194, 6/204, 6/262) , ومالك: الطهارة (137) , والدارمي: الطهارة (774, 779) .

(1/87)


عن يوم أو زاد على السبعة عشر يوماً، ما لم تصر مستحاضة. واختار أن المبتدأة تجلس في الثانية ولا تعيد. انتهى.
ولا تلتفت لما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثاً، وعند الشيخ: تصير إليه من غير تكرار.
واختار أن الصفرة والكدرة بعد زمن الحيض ليستا بحيض، ولو تكررتا. وقال: لا حد لأكثر النفاس، ولو زاد على السبعين وانقطع، لكن إن اتصل فهو دم فساد؛ وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب. وقال: الأحوط أن المرأة لا تستعمل دواء يمنع نفوذ المني في مجاري الحبل.

(1/88)