مختصر الإنصاف والشرح الكبير

كتاب الصلاة
كتاب الصلاة
...
كتاب الصلاة
لا نعلم خلافاً في وجوبها على النائم، بمعنى: أنه يقضيها، لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها ". 1 رواه مسلم. وكذلك السكران، لأنه إذا وجب بالنوم المباح فبالمحرم أولى. وحكم المغمى عليه حكم النائم، يروى ذلك عن عمار وغيره. وعن ابن عمر: "لا يقضي". وقال مالك والشافعي: لا يقضي إلا أن يفيق في جزء من وقتها. وقال أصحاب الرأي: إن أغمي عليه أكثر من خمس صلوات، لم يقض شيئاً، وإلا قضى الجميع. ولنا: أن الإغماء لا يسقط فرض الصيام، ولا تطول مدته غالباً، أشبه النوم، وقياسه على الجنون لا يصح، لأنه تطول مدته ويسقط عنه الصوم، أما المجنون فلا قضاء عليه إلا أن يفيق في وقتها، لا نعلم فيه خلافاً.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
ويقضيها مسلم قبل بلوغ الشرع، وقيل: لا؛ اختاره الشيخ بناء على أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم. قال: والوجهان في كل من ترك واجباً قبل بلوغ الشرع، كمن لم يتيمم عند عدم الماء، ولم يزك أو أكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة، ونحوه. قال: والأصح لا قضاء. قال في الفروع: ومراده: ولم يقض وإلا أثم، وكذلك من عامل بربا أو نكاح فاسد ثم تبين التحريم.
وتجب على من زال عقله بمحرم، واختار الشيخ عدم الوجوب في ذلك كله، وقال في الفتاوى المصرية: تلزمه
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (684) , والنسائي: المواقيت (614) , وابن ماجة: الصلاة (695) , وأحمد (3/184) , والدارمي: الصلاة (1229) .

(1/89)


بلا نزاع، وقال: اختار الأكثر أن الردة لا تبطل العمل إلا بالموت عليها.
وقال: شرط الصلاة تقدم الشهادة المسبوقة بالإسلام، فإذا تقرب بالصلاة يكون مسلماً بها وإن كان محدثاً، وعلى هذا عليه أن يعيدها. انتهى.
وثوابُ صلاة المميز وعمله لنفسه، اختاره الشيخ، وقال بعض الأصحاب: ثوابه لوالديه، وإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها، لزمه إعادتها. وقيل: لا، اختاره الشيخ. والاشتغال بشرطها على قسمين: قسم لا يحصل إلا بعد زمن طويل، فهذه لا يجوز له تأخيرها. وقسم يحصل بعد زمن قريب، فأكثر الأصحاب يجوّزونه. قال الشيخ: وقول بعض الأصحاب: لا يجوز تأخيرها إلا لناوٍ جمعها، أو مشتغل بشرطها، فلم يقله أحد قبله من الأصحاب، بل ولا من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا أشك فيه. ولا ريب أنه ليس على عمومه، وإنما أرادوا صوراً معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يصنع حبلاً يستقي به، أو أمكن العريان أن يخيط ثوباً. ويؤيد ما ذكرنا أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري ثوباً ولا يصلي إلا بعد الوقت، لا يجوز له التأخير بلا نزاع. وكذا العاجز عن تعلم التكبير والتشهد الأخير، إذا ضاق الوقت صلى على حسب حاله. وكذا المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت. انتهى.
وقال الشيخ أيضاً: فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو: أن المقرّ بوجوب الصلاة ودعي إليها ثلاثاً فامتنع، مع تهديده بالقتل فقُتل، هل يموت كافراً أو فاسقاً؟ على قولين: وهذا الفرض باطل ممتنع، ولا يفعله أحد قط. قلتُ: والعقل يشهد بما قال ويقطع به، وهو عين الصواب الذي لا شك فيه، وأنه لا يقتل إلا كافر.

(1/90)


باب الأذان والإقامة
أجمعت الأمة على أن الأذان والإقامة مشروعة للخمس، ولا يشرعان لغيرها، لأن المقصود منه: الإعلام بوقت المفروضة على الأعيان.
"وليس على النساء أذان ولا إقامة"، قاله ابن عمر وأنس وغيرهما، ولا نعلم من غيرهم خلافهم. واختلفوا هل يسن لهن ذلك: فعن أحمد: إن فعلن لا بأس. وعن جابر: أنها تقيم، وبه قال عطاء ومجاهد. وقال الشافعي: إن أذّنّ وأقمن، فلا بأس، روي عن عائشة: "أنها كانت تؤذن وتقيم". وعنه: لا يشرع لها.
قال ابن المنذر: الأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به مالك بن الحويرث وصاحبه؛ والأمر يقتضي الوجوب، وداوم عليه وأصحابه، ولأنه من شعائر الإسلام الظاهرة. وظاهر كلام الخرقي أنه غير واجب، وهو قول الشافعي. وعلى كلا القولين، إن تركهما صحت صلاته، لما روي عن علقمة والأسود قالا: "صلى بنا عبد الله بلا أذان ولا إقامة". قال شيخنا: لا أعلم أحداً خالف في ذلك، إلا عطاء قال: من نسي الإقامة يعيد، ونحوه عن الأوزاعي. ومن أوجبه من أصحابنا فعلى أهل المصر، فأما المسافرون فلا يجب عليهم.
وقال مالك: إنما يجب النداء في مساجد الجماعة، ويكفي مؤذن المصر إذا كان يسمعهم، ويجزئ بقيتهم الإقامة. قال أحمد في الذي يصلي في بيته: يجزيه أذان المصر. وقال مالك: تكفيه الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للذي علّمه الصلاة: "إذا أردت

(1/91)


الصلاة فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبِّر"، 1 وفي لفظ للنسائي: "فأقم ثم كبِّر"، والأفضل لكل مصل أن يؤذن ويقيم.
وإن كان في الوقت في بادية أو نحوها، استحب له الجهر، لحديث أبي سعيد، رفعه: "إذا كنت في غنمك أو باديتك ... إلخ"، 2 "وكان ابن عمر يقيم لكل صلاة، إلا الصبح فإنه يؤذّن ويقيم، ويقول: إنما الأذان على الإمام والأمير الذي يجمع الناس"، وعنه: أنه لا يقيم في أرض تقام فيها الصلاة. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يؤذّن له حضراً وسفراً، وأمر به مالك بن الحويرث وصاحبه"، وما نقل عن السلف، فالظاهر أنهم أرادوا وحده، كما قال إبراهيم، "والأذان مع ذلك أفضل"، لحديث أبي سعيد وأنس في صاحب المعز.
ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما، في أظهر الروايتين، لقوله لعثمان بن أبي العاص: "واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرا"، 3 حسنه الترمذي. ورخص فيه مالك، ولا نعلم خلافاً في جواز أخذ الرزق، لكن قال الشافعي: لا يرزق إلا من خمس الخمس، سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يكون المؤذن صيتاً، لقوله: "ألقه على بلال، فإنه أندى صوتاً منك". 4 والأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه؛ وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر. وقال مالك والشافعي: الأذان المسنون أذان أبي محذورة، وهو كأذان عبد الله بن زيد ويزيد ترجيعاً؛ وهو: أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين، يخفض بذلك، ثم يعيدهما رافعاً بهما صوته، إلا أن مالكاً قال: التكبير في أوله مرتان حسبُ، فيكون عنده سبع عشرة، وعند الشافعي تسع عشرة. واحتجوا بما روى أبو محذورة: "أنه صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان، وفيه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله،
__________
1 النسائي: التطبيق (1053) .
2 البخاري: الأذان (609) , والنسائي: الأذان (644) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (723) , وأحمد (3/6, 3/35, 3/43) , ومالك: النداء للصلاة (153) .
3 الترمذي: الصلاة (209) , والنسائي: الأذان (672) , وأبو داود: الصلاة (531) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (714) , وأحمد (4/21, 4/217) .
4 الترمذي: الصلاة (189) , وأبو داود: الصلاة (499, 512) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (706) , وأحمد (4/42, 4/43) , والدارمي: الصلاة (1187) .

(1/92)


أشهد أن محمداً رسول الله. تخفض بهما صوتك. ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله". 1 ثم ذكر سائر الأذان. أخرجه مسلم. واحتج مالك قال: كان الأذان الذي يؤذن به أبو محذورة: "الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله". 2 رواه مسلم. ولنا: حديث عبد الله بن زيد، وأقر صلى الله عليه وسلم بلالاً عليه، بعد أذان أبي محذورة.
والإقامة إحدى عشرة، فإن رجّع في الأذان أو ثنى في الإقامة، فلا بأس. وقال الثوري: الإقامة مثل الأذان، ويزيد: "قد قامت الصلاة" مرتين، لما روى عبد الله بن زيد قال: "كان أذان النبي صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة". 3 رواه الترمذي. وعن أبي محذورة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة". 4 قال الترمذي: حسن صحيح. وقال مالك: الإقامة عشر كلمات، لقوله: "قد قامت الصلاة" مرة، لقول أنس: "أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة". 5 ولنا: قول ابن عمر: "إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة". 6 رواه أبو داود والنسائي. وفي حديث عبد الله بن زيد أنه وصف الإقامة كما ذكرنا، وما احتجوا به من حديث عبد الله بن زيد، رواه عنه ابن أبي ليلى، وقال الترمذي: لم يسمع، وقال: الصحيح مثل ما روينا. والذي احتج به مالك حجة لنا مجمل فسره ابن عمر، وخبر أبي محذورة متروك بالإجماع، لأن الشافعي لم يعمل به في الإقامة، وأبو حنيفة لم يعمل به في الأذان.
والتثويب في أذان الصبح مستحب، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: التثويب بين الأذان والإقامة: أن يقول: "حي على الصلاة" مرتين، "حيّ
__________
1 مسلم: الصلاة (379) , والترمذي: الصلاة (191, 192) , والنسائي: الأذان (629, 630, 631, 632, 633) , وأبو داود: الصلاة (500, 502, 503, 504) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (708, 709) , وأحمد (3/408, 3/409) , والدارمي: الصلاة (1196) .
2 مسلم: الصلاة (379) , والنسائي: الأذان (629, 631, 632, 633) , وأبو داود: الصلاة (500, 502, 503) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (708, 709) , وأحمد (3/408, 3/409) , والدارمي: الصلاة (1196) .
3 الترمذي: الصلاة (194) .
4 الترمذي: الصلاة (192) , والنسائي: الأذان (630) , وأبو داود: الصلاة (502) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (709) , وأحمد (6/401) .
5 البخاري: الأذان (603, 605, 606, 607) وأحاديث الأنبياء (3457) , ومسلم: الصلاة (378) , والترمذي: الصلاة (193) , والنسائي: الأذان (627) , وأبو داود: الصلاة (508) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (729, 730) , وأحمد (3/103, 3/189) , والدارمي: الصلاة (1194) .
6 النسائي: الأذان (628) , وأبو داود: الصلاة (510) , وأحمد (2/85) , والدارمي: الصلاة (1193) .

(1/93)


على الفلاح" مرتين. ولنا: ما روى أبو داود والنسائي عن أبي محذورة قال: "فإن كان في صلاة الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله"، وما ذكروه قال ابن إسحاق: هذا أحدثه الناس، قال الترمذي: هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم.
ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، قال الترمذي: وعلى هذا العمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، ثم ذكر حديث أبي هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". رواه مسلم.
ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة. الترسل: التأني، والحدر: ضده، وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن من السنة أن يؤذن قائماً، فإن أذّن قاعداً لعذر، فلا بأس. قال الحسن العبدي: "رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن قاعداً، وكان رجله قد أصيبت في سبيل الله". رواه الأثرم. ويجوز على الراحلة، قال ابن المنذر: ثبت "أن ابن عمر كان يؤذن على البعير، فينزل فيقيم"، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي، إلا أن مالكاً قال: لا يقيم وهو راكب. يستحبُّ أن يؤذن متطهراً، لقول أبي هريرة: "لا يؤذن إلا متوضئ"، فإن أذّن محدثاً جاز، لأنه لا يزيد على القراءة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: يؤذّن على غير وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء. وإن أذّن جنباً فروايتان: الإجزاء في قول أكثر أهل العلم.
ويستحب أن يؤذن على موضع عال، لقول الأنصارية: "كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يأتيني يؤذّن عليه ... إلخ"، لا نعلم خلافاً في استحبابه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يستقبل

(1/94)


القبلة بالأذان. وسئل أحمد: عن الرجل يؤذن وهو يمشي؟ قال: نعم، أمر الأذان عندي سهل. وسئل: عن المؤذن يمشي وهو يقيم؟ قال: يعجبني أن يفرغ ثم يمشي، فإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً ولم يستدر. وذكر عن أحمد فيمن أذن في المنارة روايتان: إحداهما: لا يدور، للخبر. والثانية: لا يحصل بدونه، وتحصيل المقصود مع الإخلال بالأدب أولى من العكس، وهذا قول إسحاق.
ويجعل أصبعيه في أذنيه، هذا المشهور عن أحمد، وعليه العمل عند أهل العلم، وكذلك قال الترمذي، لفعل بلال، صححه الترمذي. وعن أحمد: أحب إلي أن يجعل يديه على أذنيه، على حديث أبي محذورة. والأول أصح، لصحة الحديث وشهرته، وعمل أهل العلم به. ويتولاهما معاً، وهو قول الشافعي. وقال مالك: لا فرق بينه وبين غيره، لأن في حديث عبد الله بن زيد: "لما أذّن بلال، قال لعبد الله: أقم أنت". ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صدّاء قد أذّن، ومن أذّن فهو يقيم". 1 وما ذكر يدل على الجواز، وهذا على الاستحباب، فإن سبق المؤذن بالأذان فأراد المؤذن أن يقيم، فقال أحمد: له لو أعاد الأذان كما صنع أبو محذورة، فإن أقام بغير إعادة فلا بأس، لما ذكرنا في حديث عبد الله بن زيد.
ويستحب للمؤذن أن يقيم في موضع أذانه، لقول بلال: "لا تسبقني بآمين"، وقول ابن عمر: "كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا".
ولا يقيم إلا بإذن الإمام، لما في حديث الصدّائي: "فجعلت أقول له صلى الله عليه وسلم: أقيم؟ أقيم؟ ".
وكره طائفة من أهل العلم: الكلام في أثناء الأذان، قال الأوزاعي: لا نعلم أحداً يقتدَى به فعَله. ورخص فيه سليمان بن صرد وغيره. قيل لأحمد: الرجل يتكلم في أذانه؟ قال: نعم، قيل: وفي الإقامة؟ قال: لا. وعن الزهري: إذا تكلم في الإقامة أعادها، وأكثر أهل العلم على أنه يجزئه، قياساً
__________
1 الترمذي: الصلاة (199) , وأبو داود: الصلاة (514) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (717) , وأحمد (4/169) .

(1/95)


على الأذان. ولا يصح إلا بعد دخول الوقت، إلا الفجر، أما غير الفجر فلا يجزئ بغير خلاف نعلمه. وأما الفجر فيشرع قبل الوقت، وهو قول مالك والشافعي. وقال الثوري: لا يجوز. وقال طائفة من أهل الحديث: إذا كان له مؤذنان: يؤذّن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعده، فلا بأس. ولنا: حديث الصدائي: "أمره صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل طلوع الفجر".
ويستحب أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر الوضوء وصلاة ركعتين، لقوله لبلال: "اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله ... ". 1 ومن جمع بين صلاتين، أذّن للأولى وأقام للثانية. وقال مالك: يؤذن ويقيم لكل منهما، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة. فـ"إن كثرت الفوائت، أذن وأقام للأولى، ثم أقام لكل صلاة"، لحديث ابن مسعود في قصة الخندق.
ومن دخل مسجداً قد صُلي فيه، فـ"إن شاء أذّن وأقام، كما فعل أنس"، وإن شاء تركها، وهو قول الحسن والشعبي. وهل يصح أذان المميز للبالغين؟ على روايتين: إحداهما: "يصح"، وهو قول الشافعي وابن المنذر، لما روي عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس. والثانية: لا يصح، لأنه شرع للإعلام، وهو لا يقبل خبره. ولا يؤذن قبل الراتب، إلا أن يتأخر، كما أذن زياد حين غاب بلال؛ فأما مع حضوره فلا، لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد يسبقهم بالأذان.
قال أحمد في الرجل يؤذن في الليل على غير وضوء، فيدخل المنزل ويدع المسجد: أرجو أن يكون موسعاً عليه. ولكن إذا أذن وهو متوضئ في وقت الصلاة، فلا أرى له أن يخرج من المسجد حتى يصلي، إلا أن يكون لحاجة.
وروي عنه في الذي يؤذن في بيته وبينه وبين المسجد طريق يسمع الناس: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال في رواية الحربي،
__________
1 الترمذي: الصلاة (195) .

(1/96)


فيمن يؤذن في بيته على سطح: معاذ الله، ما سمعنا أن أحداً يفعل هذا؛ فحمل الأول على القريب من المسجد والثاني على البعيد.
و"يستحب اتخاذ المساجد في الدور وتطييبها وتنظيفها"، لحديث عائشة. و"يستحب تخليقه"، لحديث أنس في النخامة، و"تسريحه"، لحديث ميمونة في بيت المقدس.
"ويباح النوم فيه لفعل ابن عمر، ويباح للمريض، لقصة سعد بن معاذ، ودخول البعير لطوافه صلى الله عليه وسلم عليه". ولا بأس بالاجتماع فيه والأكل والاستلقاء، لحديث أبي واقد، وفيه: "فأما أحدهما فرأى فرجة ... " الحديث، ولحديث عبد الله بن زيد في الاستلقاء. ويجوز إنشاد الشعر واللعان فيه، لما روي في ذلك.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وإذا اتفق أهل بلد على تركهما، قاتلهم الإمام. وإذا قلنا: إنهما سنة، لم يقاتَلوا، وقيل: بلى؛ اختاره الشيخ.
ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما، وقيل: يجوز مع الفقر لا مع الغنى، اختاره الشيخ، قال: وكذا كل قربة، ومال إلى عدم إجزاء أذان القاعد.
ومن جمع بين صلاتين أو قضاء فوائت، أذن للأولى وأقام، ثم أقام لكل صلاة. وعنه: تجزئ الإقامة لكل صلاة من غير أذان، اختاره الشيخ. وقال: أما صحة أذان المميز في الجملة وكونه جائزاً إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه، ومن الأصحاب من أطلق الخلاف، والأشبه أن الذي يسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام، لا يجوز أن يباشره صبي، قولاً واحداً، ولا يسقط الفرض ولا يعتمد في مواقيت الصلاة، وأما الذي هو سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك، فهذا فيه الروايتان، والصحيح جوازه. اهـ.

(1/97)


ويستحب إجابة مؤذن ثان وثالث، اختاره الشيخ، وقال: محله إذا كان الأذان مشروعاً، وقال: يجيبه المصلي والمتخلي. قوله: "وابعثه المقام المحمود". 1 هكذا ورد في لفظ رواه النسائي وغيره، والصحيح التنكير. ورد ابن القيم الأول من خمسة أوجه.
ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان ... إلخ. قال الشيخ: إلا أن يكون للفجر قبل الوقت، فلا يكره الخروج، نص عليه.
__________
1 البخاري: الأذان (614) , والترمذي: الصلاة (211) , والنسائي: الأذان (680) , وأبو داود: الصلاة (529) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (722) , وأحمد (3/354) .

(1/98)


باب شروط الصلاة
أولها: الوقت. والظهر هي الأولى، ووقتها: من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال. وقال عطاء: لا تفريط للظهر حتى تدخل الشمس صفرة. وقال طاووس: وقت الظهر والعصر إلى الليل، وتعجيلها في غير الحر والغيم أفضل، بغير خلاف علمناه.
ويستحب تأخيرها في شدة الحر. وقال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر، وأن يكون في البلدان الحارة، ومساجد الجماعات؛ فأما من صلى في مسجد بفناء بيته، فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي. فأما الجمعة، فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخرها، بل كان يعجلها.
ثم العصر، وهي الوسطى في قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. وأول وقتها: من خروج وقت الظهر. وقال إسحاق: آخر وقت الظهر أول وقت العصر، يشتركان في قدر الصلاة. وحكى عن ابن المبارك لما في حديث ابن عباس: "وصلى في المرة الثانية الظهر لوقت العصر بالأمس". وآخره اختلفت الرواية فيه، فعنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه، وهو قول مالك والشافعي، لقوله: "الوقت ما بين هذين". 1 وعنه: "ما لم تصفرّ الشمس"، لحديث ابن عمر. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية، فقد صلاها في وقتها، وتعجيلها أفضل بكل حال. و"روي عن أبي هريرة وابن مسعود أنهما كانا يؤخرانها"، وبه قال أصحاب الرأي.
__________
1 الترمذي: الصلاة (149) , وأبو داود: الصلاة (393) , وأحمد (1/333, 1/354) .

(1/99)


ثم المغرب، ولا خلاف في دخول وقتها بالغروب. وآخره: إذا غاب الشفق. وقال مالك والشافعي في أحد قوليه: ليس لها إلا وقت واحد، "لأن جبرائيل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد". 1 وعن عطاء: لا تفوت المغرب حتى النهار. ولنا: حديث بريدة وأبي موسى، رواهما مسلم وقال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق". 2 رواه مسلم. وهذه نصوص صحيحة لا يجوز مخالفتها بشيء محتمل. وأحاديثهم محمولة على تأكيد فعلها في أول وقتها، ولو تعارضت وجب النسخ، لأنها في أول فرض الصلاة، وأحاديثنا بالمدينة.
"والشفق: الحمرة"، هذا قول ابن عمر وابن عباس ومالك والشافعي. و"عن أنس ما يدل على أنه البياض"، اختاره ابن المنذر، لحديث ابن بشير أنه يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق". 3 رواه أبو داود. وروي: " ثور الشفق"، وفوره: فورانه، وثوره: ثوران حمرته. وما رووه ليس فيه أنه أول الوقت، ولا نعلم خلافاً في استحباب تعجيلها، إلا ما ذكرنا من اختلافهم في الغيم.
ثم العشاء، ولا خلاف في دخول وقتها بغيبوبة الشفق، وإنما اختلفوا في الشفق. وآخره: ثلث الليل، لما في حديث جبرائيل وبريدة. وعنه: نصف الليل، وهو قول المبارك وإسحاق، لما في حديث ابن عمر، رواه مسلم، وفي المتفق عليه من حديث أنس: "أخر صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل". 4 ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر. وتأخيرها أفضل، ما لم يشق، اختاره أكثر أهل العلم.
وحكي عن الشافعي: أن الأفضل تقديمها، لقوله: "الأول رضوان الله، والآخر عفو الله". وعن أم فروة، مرفوعاً: "سئل عن أفضل الأعمال؟ فقال:
__________
1 الترمذي: الصلاة (151) , والنسائي: المواقيت (502) , وأحمد (2/232) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (612) , والنسائي: المواقيت (522) , وأبو داود: الصلاة (396) , وأحمد (2/210, 2/213, 2/223) .
3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (612) , والنسائي: المواقيت (522) , وأبو داود: الصلاة (396) , وأحمد (2/210, 2/213, 2/223) .
4 البخاري: مواقيت الصلاة (572) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (640) , والنسائي: المواقيت (539) والزينة (5202) , وابن ماجة: الصلاة (692) , وأحمد (3/182, 3/189, 3/200 ,3/267) .

(1/100)


الصلاة لأول وقتها". 1 رواه أبو داود. ولنا: الأحاديث الصحيحة، وأحاديثهم ضعيفة. أما خبر أول الوقت فيرويه العمري وهو ضعيف، وحديث أم فروة، قال الترمذي: لا يُروى إلا من حديث العمري. ولو ثبت فهي عامة، وأحاديثنا خاصة. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: كم قدر تأخير العشاء؟ قال: يؤخرها بعد أن لا يشق على المأمومين. وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بتأخيرها، كراهة المشقة. وروي عنه: "من شق على أمتي، شق الله عليه". ولا يستحب تسميتها: "العتمة". "وكان ابن عمر إذا سمع من يقول: "العتمة"، صاح وغضب وقال: إنما هو العِشاء".
ثم الفجر، وتعجيلها أفضل. وعنه: الاعتبار بحال المأمومي؛: فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لفعله صلى الله عليه وسلم في العشاء. وقال الثوري: الأفضل الإسفار، لقوله: "أسفروا بالفجر ... إلخ". 2 ولنا: الأحاديث الصحيحة، والإسفار في حديثهم: أن ينكشف ضوء الصبح ويتبين، من قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها، إذا كشفته.
ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فقد أدرك الصلاة، سواء أخرها لعذر كحائض، أو لغيره. وقال أصحاب الرأي فيمن طلعت الشمس وقد صلى ركعة: تفسد، لأنه قد صار في وقت نهي. ولنا: المتفق عليه: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح". 3 وإنما نهي عن النافلة بدليل ما قبل الطلوع. وهل يدرك بدون الركعة؟ فيه روايتان: إحداهما: لا، وهو مذهب مالك، لظاهر الخبر. والثانية: يدرك بإدراك جزء منها، أي جزء، وهذا قول الشافعي، لقوله: "من أدرك سجدة ... إلخ".
ومتى شك في الوقت، لم يصلّ حتى يتيقن دخوله، أو يغلب على ظنه،
__________
1 الترمذي: الصلاة (170) , وأبو داود: الصلاة (426) .
2 الترمذي: الصلاة (154) , والنسائي: المواقيت (548, 549) , وأحمد (4/142, 4/143) , والدارمي: الصلاة (1217) .
3 البخاري: مواقيت الصلاة (556, 579) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (608) , والترمذي: الصلاة (186) , والنسائي: المواقيت (514, 515, 516, 517) , وأبو داود: الصلاة (412) , وابن ماجة: الصلاة (699) , وأحمد (2/236, 2/254, 2/282, 2/306, 2/347, 2/348, 2/399, 2/459, 2/462, 2/474, 2/489, 2/521) , ومالك: وقوت الصلاة (5) , والدارمي: الصلاة (1222) .

(1/101)


إلا صلاة العصر في الغيم، لحديث بريدة. قال شيخنا: معناه - والله أعلم -: إذا حل فعلها ليقين أو غلبة ظن، لأن وقتها المختار في الشتاء ضيق.
وإذا سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت، فله تقليده، لقوله: "المؤذن مؤتمن". 1 ولم يزل الناس يجتمعون في مساجدهم، ويبنون على قول المؤذن، من غير نكير.
ومن صلى قبل الوقت لم يجز، في قول أكثر أهل العلم. وعن ابن عباس: "في مسافر صلى الظهر قبل الزوال، يجزئه"، ونحوه قول الحسن والشعبي وعن مالك كقولنا. وعنه فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق، جاهلاً أو ناسياً: يعيد في الوقت. فإن ذهب الوقت قبل علْمه أو ذكره، فلا شيء عليه.
وإن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة، لزمهم الصبح. وإن كان قبل غروب الشمس، لزمهم الظهر والعصر. و"إن كان قبل طلوع الفجر، لزمهم المغرب والعشاء؛ روي هذا في الحائض عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس". قال أحمد: عامة التابعين، إلا الحسن وحده قال: لا يجب إلا الصلاة التي تطهرت في وقتها وحدها، وهو قول أصحاب الرأي. وحكي عن مالك: إن أدركت قدر خمس ركعات من وقت الثانية، وجبت الأولى؛ والقدر الذي يتعلق به الوجوب: قدر تكبيرة الإحرام. وقال الشافعي: "قدر ركعة، لأنه الذي روي عن عبد الرحمن وابن عباس في الحائض". فإن أدرك من وقت الأولى من صلاتي الجمع قدراً تجب به، ثم طرأ عليه العذر، ثم زال بعد خروج وقتهما، وجبت الأولى. وهل يجب قضاء الثانية؟ على روايتين.
ومن فاتته صلوات، لزمه قضاؤها على الفور مرتباً، قلّت أو كثرت. و"روي عن ابن عمر ما يدل على وجوب الترتيب"، ونحوه عن الزهري ومالك.
__________
1 الترمذي: الصلاة (207) , وأبو داود: الصلاة (517) , وأحمد (2/377)

(1/102)


وقال الشافعي: لا يجب. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات، فقضاهن مرتباً، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي". 1 ولأحمد حديث أبي جمعة: "أنه صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ أخبروه أنه لم يصل العصر، فأمر المؤذن، فأقام فصلى العصر، ثم أعاد المغرب". 2 وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجب الترتيب في أكثر من صلاة يوم وليلة، فإن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، والوقت متسع، أتمها وقضى الفائتة، ثم أعاد الصلاة التي كان فيها؛ وهذا قول مالك والليث وإسحق في المأموم. وعن أحمد في المنفرد روايتان: إحداهما: يقطع الصلاة. والثانية: يتم، فإن حضرت جماعة في صلاة الحاضرة، فقال أحمد في رواية أبي داود، فيمن عليه صلوات فأدركته الظهر: يصلي مع الإمام الظهر، ويحسبها من الفوائت، ويصلي الظهر في آخر الوقت. وفيه رواية ثالثة، إذا كثرت الفوائت بحيث لا يتسع لها وقت الحاضرة: أنه يصلي الحاضرة في أول وقتها. وذكر ابن عقيل فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة، روايتين.
ويجب القضاء على الفور، وإن كثرت، ما لم يلحقه مشقة. ولا يصلي سننها، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. فإن كانت صلاة واحدة، فلا بأس بقضاء سنتها، "لأنه صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر، صلى سنتها قبلها". وقال مالك: يبدأ بالمكتوبة. والأول أولى لما ذكرنا من الحديث.
ومن أسلم في دار الحرب فترك صلاة أو صياماً لا يعلم وجوبه، لزمه قضاؤه. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه. وإن صلى الحاضرة ناسياً للفائتة، ولم يذكرها حتى فرغ، فليس عليه إعادة. وقال مالك: يجب الترتيب مع النسيان، لحديث أبي جمعة. ولنا: قوله: "عُفي لأمتي الخطأ والنسيان". وحديث أبي جمعة فيه ابن لهيعة.
__________
1 البخاري: الأذان (631) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والنسائي: الأذان (635) , وأحمد (3/436, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1253) .
2 أحمد (4/106) .

(1/103)


ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وقال الشيخ: الأشهر عندنا: إنما يكره الإكثار حتى يغلب على الاسم، وإن مثلها في الخلاف تسمية المغرب بالعشاء، يعني: تسمية العشاء العتمة. وقال: يعمل بقول المؤذن في دخول الوقت، مع إمكان العلم بدخول الوقت، وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، كما شهدت به النصوص. انتهى.
ومن أدرك قدر تكبيرة ... إلخ، وعنه: لا بد أن يمكنه الأداء، اختاره الشيخ. واختار أنه لا تترتب الأحكام إلا أن يتضايق الوقت عن فعل الصلاة، ثم يوجد المانع، وذكر الخلاف فيما إذا طرأ مانع أو تكليف، هل يعتبر بتكبيرة أو ركعة، واختار بركعة في التكليف. وقال ابن رجب في شرح البخاري: وقع في كلام طائفة من أصحابنا المتقدمين أنه لا يجزئ فعل الصلاة إذا تركها عمداً، منهم الجوزجاني وأبو محمد البربهاري وابن بطة.

(1/104)


باب ستر العورة
وعورة الرجل والأمة: ما بين السرة والركبة. وعنه: أنها الفرجان، قال البخاري: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. وأما الأمة فعورتها: ما بين السرة والركبة، وهو مذهب الشافعي. وقال الحسن في الأمة إذا تزوجت أو اتخذها الرجل لنفسه: يجب عليها الخمار. ولنا: "أن عمر نهى الإماء عن التقنع"، واشتهر فلم ينكر. وذكر أبو الخطاب رواية: أن عورتها: الفرجان، كما ذكر شيخنا في الكتاب المشروح.
والحرة كلها عورة، إلا الوجه. وفي الكفين روايتان.
أما وجه الحرة فإنه يجوز كشفه في الصلاة، بغير خلاف نعلمه. وعنه في الكفين: تكشفهما، وهو قول مالك والشافعي، لما روي عن ابن عباس وعائشة في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : 1 "الوجه والكفين". وعنه: أنهما من العورة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة". 2 صححه الترمذي. وقول ابن عباس وعائشة خالفه ابن مسعود فقال: "الثياب وما سوى الوجه والكفين، يجب ستره في الصلاة"، وهو قول مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة، ولنا: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، 3 وحديث أم سلمة، وفيه: "نعم، إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها"، وما عدا ما ذكر، فعورة بالإجماع، لقوله: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". 4
__________
1 سورة النور آية: 31.
2 الترمذي: الرضاع (1173) .
3 سورة النور آية: 31.
4 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150, 6/218, 6/259) .

(1/105)


ويستحب أن يصلي في ثوبين، لقول عمر: "إذا وسّع الله عليكم فوسّعوا، صلّى رجل في إزار ورداء ... إلخ".
ولا يجزئ إلا ما ستر العورة عن غيره ونفسه، فلو كان القميص واسع الجيب، يرى عورته إذا ركع أو سجد، لم تصح، لقوله: "ازرره، ولو بشوكة". ويجب عليه أن يضع على عاتقه شيئاً من اللباس مع القدرة، اختاره ابن المنذر، وأكثر أهل العلم على خلافه. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلّ الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء". 1 رواه مسلم. وقال القاضي وأبو الخطاب: يجب ستر المنكبين، لقوله: "إذا صلى أحدكم في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه على عاتقيه". 2 صحيح.
و"يستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة"، روي ذلك عن عمر وابنه وعائشة. قال أحمد: اتفق عامتهم على درع وخمار، وما زاد فهو خير وأستر. ويكره لها النقاب وهي تصلي، قال ابن عبد البر أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام.
وإذا انكشف من العورة يسير لا يفحش، لم تبطل. وقال التميمي: إن بدت وقتاً واستترت وقتاً لم يعد، لحديث عمرو بن سلمة، فلم يشترط اليسير.
ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً، صلى فيه، لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة. وقال الشافعي: يصلي عرياناً، فإن عدم صلى جالساً يومئ إيماء، وإن صلى قائماً جاز. وعنه: يصلي قائماً ويسجد بالأرض، وقاله مالك والشافعي وابن المنذر، لقوله: "فإن لم تستطع فقاعداً". 3 ويصلي العراة جماعة، وإمامهم وسطهم، وقال مالك: يصلون أفراداً، ويتباعد بعضهم عن بعض، وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويقدمهم إمامهم.
ويكره في الصلاة السدل، وهو أن يطرح على كتفيه ثوباً ولا يرد طرفيه
__________
1 البخاري: الصلاة (359) , ومسلم: الصلاة (516) , والنسائي: القبلة (769) , وأبو داود: الصلاة (626) , وأحمد (2/243, 2/255, 2/464) , والدارمي: الصلاة (1371) .
2 البخاري: الصلاة (359) , ومسلم: الصلاة (516) , والنسائي: القبلة (769) , وأبو داود: الصلاة (626) , وأحمد (2/255) , والدارمي: الصلاة (1371) .
3 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) .

(1/106)


على الكتف الأخرى، لقول أبي هريرة: "إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة". 1 رواه أبو داود. فإن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، أو ضم طرفيه بيديه، لم يكره. وروي عن جابر وابن عمر: "الرخصة في السدل". قال ابن المنذر: لا أعلم حديثاً يثبت، وحكاه الترمذي عن أحمد.
ويكره اشتمال الصماء، وهو أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره. وعنه: يكره، وإن كان عليه غيره. و"يكره تغطية الأنف، قياساً على الفم"، روي عن ابن عمر. وعنه: لا يكره لتخصيص النهي بالفم.
ويكره لف الكم، لقوله: "ولا أكف شعراً ولا ثوباً". 2 ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، فأما ما لا يشبه فلا يكره. قال أحمد: لا بأس به، أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصلّ أحدكم إلا وهو محتزم". 3؟ وسئل عن: الرجل يصلي وعليه القميص، يأتزر بالمنديل فوقه؟ قال: نعم، "فعل ذلك ابن عمر". ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان، لقوله: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة". 4 وقيل: لا يحرم، لأن في آخر الخبر: "إلا رقماً في ثوب". متفق عليه.
و"يكره التصليب في الثوب"، لحديث عائشة. وإن لبس الحرير لمرض أو حكة، أو في الحرب، أو لبسه الصبي، فعلى روايتين. و"لا بأس بلبس الخز"، روي عن عمران وأنس وأبي هريرة والحسن بن علي وابن عباس وغيرهم.
ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر، "فأما الأحمر فقيل: يكره، وهو مذهب ابن عمر". والصحيح: لا بأس به، لقوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء". 5 وحديث رافع في إسناده مجهول، ويحتمل أنها معصفرة، ولو قدر التعارض، فأحاديثنا أصح.
__________
1 الترمذي: الصلاة (378) , وأبو داود: الصلاة (643) , وأحمد (2/295) , والدارمي: الصلاة (1379) .
2 البخاري: الأذان (816) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1096, 1097, 1098, 1113, 1115) , وأبو داود: الصلاة (889, 890) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883, 884, 1040) , وأحمد (1/221, 1/255, 1/270, 1/279, 1/285, 1/292, 1/305, 1/324) , والدارمي: الصلاة (1318, 1319) .
3 أحمد (2/458) .
4 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347, 5348, 5350) , وأبو داود: اللباس (4153 ,4155) , وابن ماجة: اللباس (3649) , وأحمد (4/28, 4/29, 4/30) .
5 البخاري: المناقب (3551) , ومسلم: الفضائل (2337) , والترمذي: اللباس (1724) والمناقب (3635) , والنسائي: الزينة (5060, 5062, 5233, 5314) , وأبو داود: الترجل (4183) , وأحمد (4/290, 4/300) .

(1/107)


ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
ولا يلزم سترها بالطين، قال الشيخ: وهو الصواب المقطوع به. وقال: لا يختلف المذهب أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة. وحكى جماعة أصحابنا أنها السوأتان فقط، وهذا غلط قبيح فاحش، خصوصاً وعلى الشريعة عموماً.
قوله: إلا الوجه، قال الشيخ: التحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز.
وفي الكفين روايتان: الثانية: ليسا بعورة، اختاره الشيخ. واختار أن القدمين ليسا بعورة. ولا يصح نفل آبق، قال الشيخ: بطلان فرضه قوي، ولو غير هيئة مسجد فكغصب. وإن منعه غيره أو زحمه وصلى مكانه، ففي الصحة وجهان، قال الشيخ: الأقوى البطلان.
وقال الشيخ: يحرم لبس شهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، أو إظهار التواضع، لكراهة السلف لذلك. وحرم أيضاً الإسراف في المباح. واختار جواز لبس الحرير للكافر. قال: وعلى قياسه: بيع آنية الذهب والفضة لهم، وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعها لبيعها لهم، وعملها لهم بالأجرة، فإذا استوى وما نسج معه فعلى وجهين، قال الشيخ: الأشبه يحرم، لعموم الخبر. انتهى.
وظاهر كلام المصنف: دخول الخز في الخلاف، والصحيح من المذهب: إباحة الخز، نص عليه. وفرّق أحمد بأنه لبس الصحابة، وبأنه لا سرف فيه ولا خيلاء. وقال أبو بكر: يباح العلَم وإن كان مذهّبا، وهو رواية اختارها الشيخ. وقال: إطالة الذؤابة كثيراً من الإسبال. وقال: الأفضل مع القميص السراويل، من غير حاجة إلى الإزار والرداء.

(1/108)


باب اجتناب النجاسات
...
باب اجتناب النجاسة
الطهارة في بدن المصلي وثوبه شرط للصلاة، في قول أكثر أهل العلم. وروي عن ابن عباس: "ليس على ثوبٍ جنابة"، ونحوه عن أبي مجلز والنخعي. وسئل سعيد بن جبير عن الرجل يرى في ثوبه الأذى وقد صلى فيه قال: "اقرأ عليَّ الآية التي فيها غسل الثياب". ولنا: حديث القبرين، وحديث أسماء: "سئل عن ثوب الحائض إذا طهرت تصلي فيه؟ قال: تنظر، فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تره". 1 رواه أبو داود. فإن حمل صبياً، لم تبطل لحمله أمامة، لأن ما فيه من النجاسة، كالذي في جوف المصلي.
وإنْ طيّن الأرض النجسة، أو بسط عليها شيئاً طاهراً، صحت صلاته مع الكراهة، وهو قول مالك والشافعي. ولا بأس بالصلاة على الحصير والبسط من الصوف والشعر وسائر الطاهرات، في قول عوام أهل العلم. وعن جابر: "أنه كره الصلاة على كل شيء من الحيوان، واستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض"، ونحوه عن مالك، إلا أنه قال في بساط الصوف: إذا كان سجوده على الأرض لم أر بالقيام عليه بأساً. ومتى وجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت في الصلاة أم لا، صحت. وإن علم أنها كانت فيها، لكن جهلها أو نسيها، ففيه روايتان: إحداهما: "لا تفسد صلاته"، وهو قول ابن عمر وعطاء وابن المسيب وابن المنذر. والثانية: يعيد،
__________
1 أبو داود: الطهارة (360) , والدارمي: الطهارة (1018) .

(1/109)


وهو قول الشافعي. وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت. ووجه الأولى: حديث النعلين؛ فإن علم بها في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير، أزالها، وإلا بطلت.
ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام والحش وأعطان الإبل والمغصوب. وعنه: تصح مع التحريم. ومذهب الشافعي: الصحة، لقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً ... إلخ". 1 وأحاديث النهي خاصة تقدم على العموم. قال أحمد: تُصلى الجمعة في موضع الغصب، يعني: إذا كان الجامع مغصوباً وصلى الإمام فيه، فامتنع الناس، فاتتهم الجمعة، ومن امتنع فاتته. وقال بعض أصحابنا: "حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك"، لحديث ابن عمر، رواه ابن ماجة. والصحيح: جواز الصلاة فيها، وهو قول أكثر أهل العلم، لقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً"، استثنى منه المقبرة والحمام ومعاطن الإبل، بأحاديث صحيحة؛ فيبقى ما عداها على العموم. فأما أسطحتها، فالصحيح قصر النهي على ما تناوله النص.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
ولو علم أنها كانت في الصلاة، لكن جهلها أو نسيها، فاختار الشيخ: لا يعيد. ولا يضر قبر ولا قبران، وقيل: يضر، اختاره الشيخ. وفي الهدي: لو وضع المسجد والقبر معاً، لم يجز ولم تصح الصلاة ولا الوقف. واختار الشيخ أن الصلاة لا تصح إلى المقبرة والحش. وعنه: يكره دخول بيعة وكنيسة مع الصور. وظاهر كلام جماعة: يحرم دخوله معها، قال الشيخ: هي كالمسجد على القبر، قال: وليست ملكاً لأحد، وليس لهم منع من يعبد الله، لأنا صالحناهم عليه.
__________
1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) .

(1/110)


باب استقبال القبلة
الأصل فيها: قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} 1 أي: نحوه كما أنشدوا:
ألا من مبلّغ عمراً رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي: نحوه، وتقول العرب: لا تشاطروننا، إذا كانت بيوتهم تقابل بيوتهم.
ولا نعلم خلافاً في إباحة التطوع على الراحلة في السفر الطويل، وأما القصير فتباح فيه أيضاً، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: لا تباح إلا في الطويل، ولنا: قوله تعالى: {ولله المشرف والمغرب} الآية. 2 قال ابن عمر: "نزلتْ في التطوع خاصة، حيث توجّه بك بعيرك". ولا تباح للماشي في حال مشيه، قال أحمد: ما أعلم أحداً قال في الماشي يصلي، إلا عطاء. وعنه: يصلي ماشياً فيفتتح الصلاة إلى القبلة، ثم ينحرف إلى جهة سيره، وهذا مذهب الشافعي، ويركع ويسجد بالأرض.
وإن أمكنه معاينة الكعبة، ففرضه الصلاة إلى عينها، لا نعلم فيه خلافاً. قال أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة، يعني: فمن بعد، فإن انحرف قليلاً لم يعدّ. وقال الشافعي في أحد قوليه: فرضه إصابة العين.
__________
1 سورة البقرة آية: 144.
2 سورة البقرة آية: 115.

(1/111)


باب النية
لا تنعقد الصلاة إلا بها لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1.
والإخلاص عمل القلب، وهو أن يقصد بعمله الله تعالى وحده دون غيره، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة؛ وهل يجب ذلك؟ على وجهين. ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام، فإن تقدمت بزمن يسير جاز. وقال الشافعي وابن المنذر: يشترط مقارنتها للتكبيرة، للآية المتقدمة، أي: مخلصين حال العبادة.
وإن أحرم منفرداً ثم نوى الائتمام، لم يصح في أصح الروايتين. وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصح في الفرض، ويحتمل أن يصح وهو أصح عندي، لأنه ثبت في النفل بحديث ابن عباس، والأصل المساواة. ومما يقويه حديث جابر وجبار في الفرض. وإن أحرم مأموماً ثم نوى الانفراد لعذر، جاز، لقصة معاذ.
و"إذا سبق الإمام الحدثُ، فله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة"، روي ذلك عن عمر وعلي، وهو قول الشافعي. فإن لم يستخلف وصلّوا وحداناً، جاز، لحديث معاوية. قال الزهري في إمام ينوبه الدم أو يرعف: ينصرف، وليقلْ: أتموا صلاتكم. فإن فعل ما يفسدها عامداً بطلت صلاتهم، وإن كان عن غير عمد لم تفسد صلاتهم. وأما هو إذا سبقه الحدث فيستأنفها، لحديث
__________
1 سورة البينة آية: 5.

(1/112)


علي بن طلق: "إذا فسا أحدكم في صلاته، فلينصرف فليتوضأ، وليعِد صلاته". 1 رواه أبو داود. وعنه: "يتوضأ ويبني"، روي عن ابن عمر وابن عباس. وعنه: إن كان الحدث من السبيلين ابتدأ، وإن كان من غيرهما بنى، لأن الأثر إنما ورد في غيرهما.
وإن أحرم إمام لغيبة إمام الحي، ثم حضر الإمام في أثناء الصلاة فأحرم بهم وبنى على صلاة خليفته، وصار الإمام مأموماً، فهل يصح؟ على وجهين: روي عنه فيها ثلاث روايات: إحداهن: يصح، لحديث سهل، وما فعله صلى الله عليه وسلم جائز لأمته، ما لم يقم دليل الاختصاص. وعنه: يجوز للخليفة دون بقية الأئمة. وعنه: لا يصح لاحتمال الاختصاص، ولهذا قال أبو بكر: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
فإن تقدمت بالزمن اليسير، جاز، وقيل: وبطوله ما لم يفسخها، اختاره الشيخ.
وقال: يحرم خروجه لشكه في النية، للعلم بأنه ما دخل إلا بالنية. وإذا أحرم منفرداً ثم نوى الإمامة صح في النفل، واختاره الشيخ في الفرض والنفل. وإن عين إماماً فأخطأ لم يصح، وإن عين جنازة فأخطأ فوجهان. وقال الشيخ: إن عين وقصده خلف من حضر وعلى من حضر صح وإلا فلا، ولو لم يستخلف الإمام وصلّوا وحداناً صح. واحتج أحمد بأن معاوية 2 لما طعن صلّوا وحداناً. قال المجد: لا تختلف الرواية عن أحمد: "أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج في مرضه بعد دخول أبي بكر في الصلاة، أنه كان إماماً لأبي بكر، وأبو بكر كان إماماً للناس" 3.
__________
1 أبو داود: الصلاة (1005) .
2 كذا في النسخة الخطية 465/86 في المكتبة السعودية بالرياض ولعل صوابه: عمر.
3 البخاري: الأذان (683) , ومسلم: الصلاة (418) , والترمذي: الصلاة (362) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1232, 1233) , وأحمد (6/159) .

(1/113)


باب صفة الصلاة
ومن هنا نقلته من المغني: ويستحب أن يقبل إليها بخوف وخشوع، وعليه السكينة والوقار. وإن سمع الإقامة لم يسعَ إليها، قال أحمد: لا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئاً ما لم تكن عجلة تقبح، هكذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب أن يقارب بين خطاه لتكثر حسناته، لحديث زيد بن ثابت.
ويكره أن يشبك بين أصابعه، لحديث كعب بن عجرة.
ويستحب أن يقول ما روى ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً. واجعل في سمعي نوراً. واجعل في بصري نوراً. واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً. واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً. وأعطني نوراً" 1. رواه مسلم.
وإذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال ما رواه مسلم عن أبي حميد - أو أبي أسيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقلْ: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: اللهم إني أسألك من فضلك". 2 ولا يجلس حتى يصلي ركعتين، لحديث أبي قتادة.
وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل بنافلة، سواء خشي فوات الركعة الأولى أو لم يخش، وبه قال الشافعي. وعن ابن مسعود: "أنه دخل والإمام في صلاة
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (763) , وأبو داود: الصلاة (1353) , وأحمد (1/373) .
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (713) , والنسائي: المساجد (729) , وأبو داود: الصلاة (465) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (772) , وأحمد (3/497, 5/425) , والدارمي: الصلاة (1394) والاستئذان (2691) .

(1/114)


الصبح، فركع ركعتي الفجر"، وهذا مذهب الحسن ومجاهد. وقال مالك: إن لم يخف فوات الركعة، ركعهما خارج المسجد. وقال أبو حنيفة: يركعهما، إلا أن يخاف فوات الركعة الأخيرة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة". 1 رواه مسلم.
قال ابن عبد البر في هذه المسألة: الحجة عند التنازع: السنة؛ فمن أدلى بها فقد أفلح، ومن استعملها فقد نجا. انتهى.
وإن أقيمت وهو في النافلة ولم يخش فوات الجماعة، أتمها.
وقيل لأحمد: تقول قبل التكبير شيئاً؟ قال: لا. يعني: ليس قبله دعاء مسنون. ويستحب أن يقوم عند قوله: "قد قامت الصلاة"؛ وبه قال مالك. وقال الشافعي: إذا فرغ من الإقامة. وكان الزهري وغيره يقومون عند بدئه في الإقامة. وقال أبو حنيفة: يقوم إذا قال: "حيّ على الصلاة"، فإذا قال: "قد قامت الصلاة"، كبّر. وكان أصحاب عبد الله يكبّرون إذا قال المؤذن: "قد قامت الصلاة"، واحتجوا بقول بلال: "لا تسبقني بآمين"، فدل على أنه يكبّر قبل فراغه. ولا يستحب عندنا أن يكبّر إلا بعد فراغه، وهو قول الشافعي وأبي يوسف، وعليه جمهور أئمة الأمصار. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر بعد فراغه، يدل على أنه كان يعدل الصفوف بعد الإقامة، كما في حديث أنس وغيره: "أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ " 2.
ويقول في الإقامة مثل قول المؤذن، لما روى أبو داود: "أن بلالاً لما قال: قد قامت الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها "، 3 وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان. فأما أحاديثهم فإن بلالاً كان يقيم في موضع أذانه، وإلا فليس في الفراغ منها ما يفوت آمين، وإنما
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (710) , والترمذي: الصلاة (421) , والنسائي: الإمامة (865, 866) , وأبو داود: الصلاة (1266) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) , وأحمد (2/352, 2/455, 2/517, 2/531) , والدارمي: الصلاة (1448) .
2 البخاري: الأذان (719) , والنسائي: الإمامة (814, 845) , وأحمد (3/263) .
3 أبو داود: الصلاة (528) .

(1/115)


كانوا يقومون إذا كان الإمام في المسجد أو قريباً منه. قال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقمنا الصفوف"، إسناده جيد: الزهري عن أبي سلمة عنه. وفي لفظ:"ينبغي أن تقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام"، فلا يحتاج أن يقف.
ويستحب للإمام تسوية الصفوف، فليلتفت عن يمينه فيقول: استووا رحمكم الله، وعن يساره كذلك. ولا تنعقد إلا بقول: "الله أكبر"، وعليه عوام أهل العلم. وقال أبو حنيفة: تنعقد بكل اسم لله على وجه التعظيم، وهذا يخالف الأخبار.
وتكبيرة الإحرام ركن، لا تسقط عمداً ولا سهواً، وهذا قول مالك والشافعي. وعن الحكم والأوزاعي: من نسيها، كفاه تكبيرة الركوع. ويستحب للإمام الجهر بالتكبير ليسمع من خلفه، لحديث جابر: "فإذا كبّر رسول الله، كبّر أبو بكر ليسمعنا". 1 فإن مدّ ألف "الله" بحيث يجعله استفهاماً، أو باء "أكبر" بحيث يصير جمع كبر وهو الطبل، لم يجز. ولا يجزيه التكبيرة بغير العربية، وقال أبو حنيفة: يجزيه، لقوله: {وذكر اسم ربه فصلى} . 2 وعليه أن يأتي بالتكبير قائماً، فإن انحنى بحيث يصير راكعاً لم تنعقد. ولا يكبر حتى يفرغ إمامه من التكبير، وقال أبو حنيفة: يكبّر معه. ولا نعلم خلافاً في استحباب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وهو مخير في رفعهما إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه؛ وميل أحمد إليه أكثر، لأن رواته أكثر وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجوّز الأول لأن صحة روايته تدل على أنه فعله.
__________
1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: الإمامة (798) والسهو (1200) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334) .
2 سورة الأعلى آية: 15.

(1/116)


ويمد أصابعه ويضم بعضها إلى بعض، لحديث: "رفع يديه مداً". وقال الشافعي: يفرق أصابعه، لحديث: "كان ينشر أصابعه للتكبير". ولنا: ما ذكرنا، وحديثهم: قال الترمذي: هذا خطأ، ولو صح فمعناه المد، قال أحمد: أهل العربية قالوا: هذا الضم، وضم أصابعه وهذا المد، ومد أصابعه وهذا التفريق، وفرق أصابعه.
وإن كانت يداه في ثوبه رفعهما بحيث يمكن، لحديث وائل ابن حجر.
وفي المرأة روايتان: فروى عن أم الدرداء وحفصة بنت سيرين أنهما يرفعان، قال أحمد: رفع دون رفع.
ومن سننها: وضع اليمنى على اليسرى في قول كثير من أهل العلم. و"يستحب أن يضعها على كوعه وما يقاربه"، لحديث وائل، و"يضعهما تحت السرة"، لحديث علي، وعنه: فوق السرة، لحديث وائل، وفيه: "فوضع يديه على صدره".
والاستفتاح من سننها في قول أكثر أهل العلم. وكان مالك لا يراه، لحديث أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح"، وعمل به الصحابة. و"كان عمر يجهر به ليعلمه الناس". و"أنس أراد القراءة كما في قوله: قسمت الصلاة ... إلخ"، وقولُ عائشة: "كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". 1 ويتعين هذا لأنه ثبت عن الذي روى عنهم أنس الاستفتاح. وذهب أحمد إلى قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك. .. إلخ"، 2 وقال: إن استفتح بغيره مما روي عنه صلى الله عليه وسلم كان حسناً؛ وهذا قول أكثر أهل العلم. وذهب الشافعي إلى حديث علي: "وجهت وجهي ... إلخ"، وبعض رواته يقول في صلاة الليل، ولا نعلم أحدًا يستفتح به كله. وقراءة "الفاتحة" ركن لا تصح إلا بها لحديث عبادة.
ويبتدئها بالبسملة، في قول
__________
1 مسلم: الصلاة (498) , وأبو داود: الصلاة (783) , وأحمد (6/31, 6/171, 6/194) , والدارمي: الصلاة (1236) .
2 الترمذي: الصلاة (243) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (806) .

(1/117)


أكثر أهل العلم. وقال مالك: "لا يقرأها"، لحديث أنس وابن المغفل؛ وهما محمولان على ترك الجهر، جمعاً بين الأخبار. والجهر بها غير مسنون، قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين. وقال الشافعي: يجهر بها. ولنا: حديث أنس وابن المغفل وعائشة وغيرهم، وأخبار الجهر ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح.
واختلفت الرواية عن أحمد، هل هي آية من "الفاتحة" تجب قراءتها أو لا؟ وعنه: أنها آية مفردة تنزل بين كل سورتين. والمستحب أن يأتي بها مرتلة معربة، يقف عند كل آية، لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، 1 ولحديث أم سلمة وأنس. قال أحمد: يعجبني من قراءة القرآن السهلة، [وقال:] 2 قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" قال: يحسّنه بصوته من غير تكلف.
وتجب قراءة "الفاتحة" في كل ركعة، وهو مذهب مالك والشافعي. وعن أحمد أنها لا تجب إلا في ركعتين من الصلاة، ونحوه عن الثوري. وعن الحسن: إن قرأ في ركعة واحدة أجزأه، لقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . 3 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من الظهر بأم الكتاب وسورتين، ويطولّ الأولى ويقصر الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب". 4 متفق عليه. وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". 5 فإن لم يحسن "الفاتحة"، وكان يحفظ غيرها من القرآن، قرأ منه بقدرها، لا يجزئه غير، لقوله في حديث رفاعة: "فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وهلِّله وكبره". 6
__________
1 سورة المزمل آية: 4.
2 النسائي: الافتتاح (1015) , وأبو داود: الصلاة (1468) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/283, 4/285, 4/296, 4/304) , والدارمي: فضائل القرآن (3500) .
3 ما بين القوسين زيادة من المخطوطة 465/86 (المكتبة السعودية) بالرياض.
4 البخاري: الأذان (776) , ومسلم: الصلاة (451) , والنسائي: الافتتاح (977) , وأبو داود: الصلاة (798) , وأحمد (5/307) , والدارمي: الصلاة (1293) .
5 البخاري: الأذان (631) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والنسائي: الأذان (635) , وأحمد (3/436, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1253) .
6 الترمذي: الصلاة (302) , والنسائي: التطبيق (1053) والسهو (1313, 1314) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (4/340) , والدارمي: الصلاة (1329) .

(1/118)


فإن لم يحسن شيئاً من القرآن ولا أمكنه التعلم قبل خروج الوقت، لزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث أبي داود؛ ويحتمل أن يجزئه الحمد والتهليل والتكبير، للحديث المتقدم.
والتأمين عند فراغ "الفاتحة" سنة للإمام والمأموم، وبه قال الشافعي. وقال أصحاب مالك: لا يسن للإمام، لحديث: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين ". 1 ولنا: قوله: " إذا أمّن الإمام فأمّنوا". 2 متفق عليه، وحديثهم لا حجة فيه، وإنما فيه تعريف موضع التأمين، وقوله: "إذا أمّن الإمام" أي: شرع في التأمين.
ويسن أن يجهر به الإمام والمأموم فيما يجهر فيه، وإخفاؤه فيما يخفى فيه. وقال أبو حنيفة: يسن إخفاؤه لأنه دعاء. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "آمين"، ورفع بها صوته"، 3 ولأنه أمر بالتأمين عند تأمين الإمام، وما ذكره يبطل بآخر "الفاتحة" فإنه دعاء. ويستحب أن يسكت الإمام عقيب "الفاتحة" سكتة يستريح فيها، وكرهه مالك، ولنا: حديث سمرة.
ولا نعلم خلافاً في أنه يسن قراءة سورة مع "الفاتحة" في الأوليين، ويفتتح السورة بالبسملة. ووافق مالك على هذا، والخلاف هنا كالخلاف في البسملة في أول "الفاتحة".
ولا يكره قراءة أواخر السور وأواسطها، ونقل عنه: الرجل يقرأ من أواسط السور وآخرها؛ قال: أما آخرها فأرجو، وأما أوسطها فلا. ولعله ذهب في آخر السور إلى ما روي عن عبد الله وأصحابه، ولم ينقل مثله في أوسطها.
فأما أوائل السور، فلا خلاف أنه غير مكروه؛ "فإنه صلى الله عليه وسلم قرأ من "المؤمنين" إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة فركع، وقرأ سورة "الأعراف" في المغرب، فرقها مرتين". 4 رواه النسائي.
__________
1 البخاري: الأذان (782) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (927, 928, 929, 930) , وأبو داود: الصلاة (935, 936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851, 853) , وأحمد (2/233, 2/238, 2/270, 2/312, 2/449, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195, 196, 197) , والدارمي: الصلاة (1246) .
2 البخاري: الأذان (780) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (928) , وأبو داود: الصلاة (936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851) , وأحمد (2/238, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195) .
3 الترمذي: الصلاة (248) , وأبو داود: الصلاة (932) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (855) , والدارمي: الصلاة (1247) .
4 مسلم: الصلاة (455) , والنسائي: الافتتاح (1007) , وأبو داود: الصلاة (649) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (820) , وأحمد (3/410, 3/411) .

(1/119)


ولا بأس بالجمع بين السور في النافلة، وأما الفرض فالمستحب الاقتصار على سورة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي هكذا. وإن جمع بين سورتين ففيه روايتان. وإن قرأ سورة ثم أعادها في الثانية، فلا بأس، لحديث الجهني رواه أبو داود. والمستحب أن يقرأ في الثانية سورة بعد التي قبلها في النظم، لأنه هو المنقول عنه صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن مسعود: "أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوساً، قال: ذاك منكوس القلب"، فسره أبو عبيد: بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها أخرى هي قبلها في النظم؛ فإن قرأ بخلاف ذلك فلا بأس، قال أحمد: أليس يعلّم الصبي على هذا؟
"وقرأ الأحنف بـ"الكهف" في الأولى، وفي الثانية بـ"يوسف"، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما"، استشهد به البخاري. قال أحمد: إذا فرغ من القراءة ثبت قائماً حتى يرجع إليه نفسه، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان له سكتتان سكتة عند افتتاح الصلاة وسكتة إذا فرغ من القراءة" 1.
والركوع واجب بالإجماع، وأكثرهم يرون ابتداءه بالتكبير، وأن يكبر في كل رفع وخفض. وروي عن سالم والقاسم وغيرهما أنهم لا يتمون التكبير، ولعلهم يحتجون أنه لم يعلمه المسيء في صلاته، أو لم تبلغهم السنة في ذلك.
ويرفع يديه كرفعه الأول، وبه قال الشافعي ومالك. وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يرفع يديه إلا في الافتتاح.
ويستحب للراكع أن يضع يديه على ركبتيه، وذهب قوم من السلف إلى التطبيق؛ وكان في أول الإسلام ثم نسخ. قال أحمد: ينبغي إذا ركع أن يلقم راحتيه ركبتيه، ويفرق بين أصابعه، ويعتمد على ضبعيه وساعديه، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه ولا ينكسه، جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
1 الترمذي: الصلاة (251) , وأبو داود: الصلاة (777) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (845) , وأحمد (5/15, 5/20, 5/21) , والدارمي: الصلاة (1243) .

(1/120)


"إذا ركع، لو كان قدح ماء على ظهره ما تحرك". ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، لحديث أبي حميد. ويجب أن يطمئن، وقال أبو حنيفة: الطمأنينة غير واجبة، لقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، 1 وهي حجة لنا لأنه صلى الله عليه وسلم فسرها بفعله.
وقوله: [ويقول:] 2 "سبحان ربي العظيم". ثلاثاً؛ وإن قالها مرة أجزأ. وجملة ذلك أنه يشرع أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس عندنا في الركوع والسجود شيء محدود، وقد سمعت أن التسبيح في الركوع والسجود. ولنا: حديث عقبة بن عامر. وتجزئ تسبيحة واحدة، لأمره به في حديث عقبة، ولم يذكر عدداً. وإن قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده" فلا بأس، قال أحمد: جاء هذا وهذا، وهو في بعض طرق حديث حذيفة. والمشهور عن أحمد أن التكبير والتسبيح وقول: "سمع الله لمن حمده"، وقول: "ربنا ولك الحمد"، وقول: "رب اغفر لي"، والتشهد الأول، واجب. وعنه: أنه غير واجب، وهو قول الأكثر. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم أمر به، وأمْره للوجوب، وفعله وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، 3 وأيضاً ما روى أبو داود عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمه، مرفوعاً: "لا تتم الصلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ"، 4 إلى قوله: "ثم يكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله" 5 الحديث.
و"يكره أن يقرأ في الركوع والسجود"، لحديث علي.
ومن أدرك الإمام في الركوع أدرك الركعة، وعليه أن يأتي بالتكبير
__________
1 سورة الحج آية: 77.
2 زيادة من المخطوطة.
3 البخاري: الأذان (631) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والنسائي: الأذان (635) , وأحمد (3/436, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1253) .
4 أبو داود: الصلاة (856) .
5 البخاري: الأذان (757) والاستئذان (6251) والأيمان والنذور (6667) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (302, 303) , والنسائي: الافتتاح (884) والتطبيق (1053, 1136) والسهو (1313, 1314) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437, 4/340) , والدارمي: الصلاة (1329) .

(1/121)


منتصباً، ثم يأتي بتكبيرة أخرى للركوع، والمنصوص عن أحمد أنها تسقط هنا.
و"يجزئه تكبيرة واحدة، لأنه نقل عن زيد بن ثابت وابن عمر"، ولا يعرف لهما مخالف. قال أحمد في رواية صالح فيمن جاء والإمام راكع: كبر تكبيرة واحدة، قيل: إن نوى بها الافتتاح؟ قال: نوى أو لم ينو، أليس قد جاء وهو يريد الصلاة؟ وقال أحمد: إن كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف.
ويستحب لمن أدرك الإمام في حال، متابعته فيه، وإن لم يعتدَّ له به، لحديث أبي هريرة، مرفوعاً: "إذا جئتم [إلى الصلاة] 1 ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعتدّوها شيئاً". رواه أبو داود؛ والعمل على هذا عند أهل العلم. وقال بعضهم: لعله لا يرفع رأسه من السجود حتى يغفر له.
ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" ويرفع يديه كرفعه الأول. وفي موضع الرفع روايتان: إحداهما: بعد اعتداله، لأن في حديث ابن عمر: "إذا افتتح رفع يديه، وإذا ركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع". 2 والثانية: يبتدئه حين يبتدئ رفع رأسه، لظاهر حديث أبي حميد. ولا تختلف الرواية أن المأموم يبتدئه عند رفع رأسه، لأنه ليس في حقه ذكر بعد الاعتدال والرفع، إنما جعل هيئة للذكر. وهذا الرفع والاعتدال واجب، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك: لا يجب، لأن الله لم يأمر به. ولنا: أنه أمر به المسيء، وداوم على فعله، وقد أمر الله بالقيام، وهذا قيام.
وشرع قول: "ربنا ولك الحمد" في حق كل مصلّ، وهو قول أكثر أهل العلم. وعنه: لا يقوله المنفرد، لأن الخبر لم يرد به في حقه. وقال مالك: لا يشرع للإمام ولا للمنفرد، لقوله: "إذا قال الإمام: "سمع الله لمن حمده"، فقولوا: "اللهم ربنا ولك الحمد"". 3 ولنا: أن أبا هريرة صرَّح بذكره في الرواية الأخرى، وحديثهم لو انفرد لم يكن فيه حجة، فكيف تترك الأحاديث الصحيحة؟
__________
1 زيادة من المخطوطة السابقة.
2 البخاري: الأذان (739) , ومسلم: الصلاة (390) , والترمذي: الصلاة (255) , والنسائي: الافتتاح (877) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (858) , وأحمد (2/62) , ومالك: النداء للصلاة (165) .
3 البخاري: الأذان (796) , ومسلم: الصلاة (409) , والترمذي: الصلاة (267) , والنسائي: التطبيق (1063) , وأبو داود: الصلاة (848) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (875) , وأحمد (2/230, 2/314, 2/341, 2/376, 2/386, 2/411, 2/416) .

(1/122)


والصحيح أن المنفرد يقوله، وصح أنه صلى الله عليه وسلم يقوله، رواه أبو هريرة وغيره، ولم تفرق الرواة بين كونه إماماً ومنفرداً.
والسنة أن يقول: "ربنا ولك الحمد"، وعنه: "ربنا لك الحمد". وقال الشافعي: هو السنة، لأنه ليس هنا شيء يعطف عليه. ولنا: أن السنة: الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولأن الواو تتضمن الحمد مقدراً ومظهراً، أي: ربنا حمدناك ولك الحمد؛ وكل ذلك حسن، لأن الكل قد وردت به السنة. ولا أعلم خلافاً في المذهب أنه لا يشرع للمأموم التسميع. وقال الشافعي: يقوله كالإمام. ولنا: قوله: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده" الحديث.
وأما قوله: "ملء السماء ... إلخ"، فنص أحمد أنه لا يسن للمأموم، لأنه اقتصر على أمرهم بالتحميد. وعنه: ما يدل على أنه سنّة، وهو مذهب الشافعي. ونقل أبو الحارث: إن شاء قال: "أهل الثناء والمجد ... إلخ". وعنه: أما أنا فأقول هذا إلى "ما شئت من شيء بعد"، فظاهره: لا يستحب في الفريضة، عملاً بأكثر الأحاديث الصحيحة.
ثم يكبر للسجود ولا يرفع يديه، وعنه: يرفع، لقوله: "في كل خفض"، والصحيح الأول، لقول ابن عمر: "ولا يفعل ذلك في السجود".
ويكون أول ما يقع ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه. وعنه: أنه يضع يديه قبل ركبتيه، وإليه ذهب مالك، لقوله: "فليضعْ يديه قبل ركبتيه ... إلخ" 1. ولنا: حديث وائل، قال الخطابي: هو أصح من حديث أبي هريرة. وروى الأثرم حديث أبي هريرة: "ليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل". والسجود على هذه الأعضاء واجب إلا الأنف، وقال مالك: لا يجب السجود على غير الجبهة، لقوله: "سجد وجهي ... إلخ". ولنا: قوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ... إلخ"، 2 وسجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه. وأما الأنف ففيه روايتان:
__________
1 النسائي: التطبيق (1091) , وأبو داود: الصلاة (840) , وأحمد (2/381) , والدارمي: الصلاة (1321) .
2 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1097, 1115) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) .

(1/123)


إحداهما: يجب، لأن في حديث الجبهة: "وأشار بيده إلى أنفه". متفق عليه. وفي لفظ للنسائي: "أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة والأنف ... " 1 الحديث.
والثانية: لا يجب، وهو قول الشافعي، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكره. وعن أبي حنيفة إن سجد على أنفه دون جبهته أجزأ، قال ابن المنذر لا أعلم أحداً سبقه إلى هذا؛ وهذا يخالف الحديث والإجماع الذي قبله. ولا يجب مباشرة المصلى بشيء منها، وهو مذهب مالك، وعنه: ما يحتمل المنع في الجبهة وهو مذهب الشافعي، لحديث: "شكونا إليه حر الرمضاء، فلم يشكنا". 2 ولنا: حديث أنس: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود". 3 متفق عليه. والحديث الأول الظاهر أنهم طلبوا تأخير الصلاة أو تسقيف المسجد أو نحو ذلك، لأن الفقراء لم يكن لهم يومئذ عمائم ولا أكمام يتقون بها حر الشمس.
ويستحب مباشرة المصلى بالجبهة واليدين، قال أحمد: لا يعجبني إلا في الحر والبرد. "وكان ابن عمر يكره السجود على كور العمامة". ويكون في السجود معتدلاً، قال الترمذي: أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود. وعن جابر، رفعه: "إذا سجد أحدكم فليعتدلْ، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب". 4 والافتراش: أن يضع ذراعيه على الأرض كما تفعل السباع. ومن السنة أن يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه، قال أحمد: جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا سجد لو مرت بهمة لنفذت"، وذلك لشدة مبالغته في رفع مرفقيه وعضديه. قال أحمد: ويفتح أصابع رجليه لتكون أصابعها إلى القبلة.
ويسجد على صدور قدميه لقوله: "أمرت أن أسجد
__________
1 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1097, 1115) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (619) , والنسائي: المواقيت (497) , وابن ماجة: الصلاة (675) , وأحمد (5/108, 5/110) .
3 البخاري: الصلاة (385) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (620) , وأبو داود: الصلاة (660) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1033) .
4 الترمذي: الصلاة (275) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (891) .

(1/124)


على سبعة ... " 1 ذكر منها أطراف القدمين. وللبخاري: "واستقبل بأصابع رجليه القبلة". 2 وللترمذي: "وفتح أصابع رجليه"، وهذا معناه.
ويستحب أن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين، مضمومتي الأصابع بعضها إلى بعض، مستقبلاً بهما القبلة، حذو منكبيه. وروى الأثرم قال: رأيت أبا عبد الله يسجد ويداه بحذاء أذنيه، وذلك لحديث وائل؛ والجميع حسن.
ويستحب أن يفرق بين ركبتيه ورجليه، لحديث أبي حميد، وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه.
ثم يرفع رأسه مكبراً، وهذا الرفع والاعتدال واجب، وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس بواجب، بل يكفي عند أبي حنيفة أن يرفع رأسه مثل حد السيف، لأنها جلسة فصل بين متشاكلين فلم تكن واجبة. ولنا: قوله للمسيء: "ثم ارفع حتى تطمئن جالساً"، 3 ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخلّ به. قال الأثرم: تفقدت أبا عبد الله، فرأيته يفتح أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة. وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد قال: "كنا نعلّم إذا جلسنا في الصلاة أن يفرش الرجل منا قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى على صدر قدمه، وإن كان إبهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى يعدّلها".
ويكره الإقعاء، وهو: أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، هكذا فسره الإمام أحمد، وقال: هذا قول أهل الحديث. والإقعاء عند العرب: جلوس الرجل على إليته، ناصبا فخذيه، مثل إقعاء الكلب والسبع. وأما الأول فكرهه علي وأبو هريرة ومالك والشافعي، و"فعله ابن عمر وقال: لا تقتدوا بي فإني قد كبرْت". وعنه: لا أفعله ولا أعيب مَن فعَله. وقال: العبادلة كانوا يفعلونه. قال طاووس: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين، قال: "هي السنة. قلنا: إنّا
__________
1 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1097, 1115) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) .
2 البخاري: الأذان (828) .
3 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) والأدب (3695) , وأحمد (2/437) .

(1/125)


لنراه جفاء بالرجل. قال: هي سنة نبيك". 1 رواه مسلم. ولنا: حديث أبي حميد وغيره، وهي أكثر وأصح.
والمستحب أن يكون شروع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام، ويكره معه، في قول أكثر أهل العلم. واستحب مالك أن يكون معه. ولنا: حديث البراء وأبي موسى وغيرهما. ولا يجوز أن يسبقه.
وعن ابن مسعود: "أنه نظر إلى من سبق الإمام فقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت". وعن ابن عمر نحوه، قال: "فأمره بالإعادة". وإن سبق الإمام المأموم بركن كامل، مثل إن ركع ورفع قبل ركوع المأموم، لعذر من نعاس أو زحام، فعل ما سبق به وأدرك إمامه، ولا شيء عليه، نص عليه، ولا أعلم فيه خلافاً.
وإن سبقه بركعة كاملة أو أكثر، اتبعه وقضى ما سبق به، قال أحمد في رجل نعس خلف الإمام حتى صلى ركعتين قال: كأنه أدرك ركعتين. وإن سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة، ثم زال عذره، فنص أحمد أنه يتبع إمامه ولا يعتد بتلك الركعة. وقال أصحابنا: من زحم عن السجود يوم الجمعة، انتظر زوال الزحام، ثم سجد وتبع إمامه، ما لم يخف فوات الركوع في الثانية مع الإمام؛ وهذا يقتضي أنه يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركن، وهو قول الشافعي، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله بأصحابه في صلاة عسفان حين أقامهم خلفه صفين، فسجد بالصف الأول، والصف الثاني قائم حتى قام إلى ثانية، فسجد الصف الثاني ثم تبعه". وجاز للعذر، وهذا مثله.
وقال مالك: إن أدركهم المسبوق في أول سجودهم، سجد معهم واعتد بها، وإن علم أنه لا يقدر على الركوع وإدراكهم في السجود حتى يستووا قياماً، فليتبعهم فيما بقي، ثم يقضي ركعة. والأولى في هذا، والله
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (536) , والترمذي: الصلاة (283) , وأبو داود: الصلاة (845) , وأحمد (1/313) .

(1/126)


أعلم، ما كان على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فإن ما لا نص فيه يرد إلى أقرب الأشياء به من المنصوص عليه، وإذا قضى سجدته الثانية نهض مكبراً.
واختلف عن أحمد هل يجلس للاستراحة؟ فعنه: لا، وبه قال مالك. قال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم. وعنه: بلى، لحديث مالك بن الحويرث، وذكره أيضاً أبو حميد. وقيل: إن كان ضعيفاً جلس، وإن كان قوياً لم يجلس، وحمل جلوسه صلى الله عليه وسلم أنه كان في آخر عمره، وهذا فيه جمع بين الأخبار. وعلى كلا القولين، ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه لا على يديه. وقال مالك والشافعي: السنة أن يعتمد على يديه في النهوض، لأنه في حديث مالك بن الحويرث. ولنا: حديث وائل، وفيه: "وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". 1. رواه النسائي والأثرم. وفي لفظ: "وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه"، 2 وعن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة". 3 رواهما أبو داود. وروى الأثرم عن علي قال: "إن من السنّة في الصلاة المكتوبة إذا نهض الرجل في الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض، إلا أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع". وقال أحمد: بذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث مالك محمول على مشقة القيام عليه لكبره، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " إني قد بدنت، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ". 4
فأما الاستعاذة، فاختلفت الرواية فيها. فعنه: يختص بالركعة الأولى، وهو قول الثوري، لحديث: "كان إذا نهض للثانية استفتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
__________
1 الترمذي: الصلاة (268) , والنسائي: التطبيق (1089, 1154) , وأبو داود: الصلاة (838) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (882) , والدارمي: الصلاة (1320) .
2 الترمذي: الصلاة (268) , والنسائي: التطبيق (1089, 1154) , وأبو داود: الصلاة (838) , والدارمي: الصلاة (1320) .
3 أبو داود: الصلاة (992) .
4 أبو داود: الصلاة (619) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (963) , وأحمد (4/92, 4/98) , والدارمي: الصلاة (1315) .

(1/127)


ولم يسكت"، 1 وعنه: في كل ركعة، وهو قول الشافعي، للآية؛ فيقتضي ذلك تكريرها عند تكرير القراءة.
وإذا صلى ركعتين، جلس للتشهد الأول، وهذا التشهد والجلوس له مشروعان واجبان، وهو مذهب الليث وإسحاق. وعنه: لا، وهو قول مالك والشافعي لأنهما يسقطان بالسهو أشبها السنن. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه، وأمر به في حديث ابن عباس، فقال: "قولوا: "التحيات لله"، وسجد حين نسيه". وإنما سقط بالسهو إلى بدل، كجبران الحج.
وصفة الجلوس له كالجلوس بين السجدتين، مفترشاً، وبه قال الثوري وإسحاق. وقال مالك: يتورك على كل حال، لما روى ابن مسعود: "أنه صلى الله عليه وسلم يجلس في آخر الصلاة وفي وسطها متوركاً". وقال الشافعي: إن كان متوسطاً كقولنا، وإن كان آخرها كقول مالك، ولنا: حديث أبي حميد وحديث وائل، وهما متأخران عن ابن مسعود، وإنما يؤخذ بالآخر؛ فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم، وقد بين أبو حميد الفرق بين التشهدين، والأخذ بالزيادة واجب.
ويستحب له وضع اليسرى على الفخذ اليسرى، مبسوطة مضمومة الأصابع، مستقبلاً بها القبلة، ويضع اليمنى على الفخذ اليمنى، يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة، لحديث وائل. وعنه: يجمع أصابعه الثلاث، ويعقد الإبهام كعقد الخمسين، لقول ابن عمر: "وضع صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة". 2 رواه مسلم.
و"يشير بالسبابة عند ذكر الله، ولا يحركها"، لحديث ابن الزبير. ويتشهد بتشهد ابن مسعود، وعليه أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم. وقال مالك: الأفضل تشهد عمر: "التحيات لله. الزاكيات لله. الصلوات لله". 3 وسائر تشهده
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (599) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (580) , والترمذي: الصلاة (294) , والنسائي: التطبيق (1160) والسهو (1266, 1267, 1269) , وأبو داود: الصلاة (987) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (913) , وأحمد (2/131) , ومالك: النداء للصلاة (199) , والدارمي: الصلاة (1339) .
3 مالك: النداء للصلاة (204) .

(1/128)


كتشهد ابن مسعود، لأنه قاله على المنبر فلم ينكر. وقال الشافعي: الأفضل تشهد ابن عباس، وقد انفرد به واختلف عنه في بعض ألفاظه، ولا يستحب الزيادة عليه. وعن ابن عمر: "أنه أباح الدعاء فيه بما بدا له". وقال مالك: ذلك واسع. "وسمع ابن عباس رجلاً يقول: بسم الله، فانتهره". وبه قال الشافعي، وهو الصحيح، لحديث ابن مسعود: "أنه صلى الله عليه وسلم يجلس في الأوليين كأنه على الرضف". 1 ولم تصح التسمية ولا غيرها عند أهل الحديث مما وقع الخلاف فيه.
ثم "ينهض من التشهد كنهوضه من السجود، ولا يقدم إحدى رجليه"، كذلك قال ابن عباس، ورخص فيه مجاهد وإسحاق للشيخ.
ويتورك في التشهد الأخير، وإليه ذهب مالك والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: يفترش كالأول، لحديث وائل وأبي حميد. ولنا: بيان أبي حميد للفرق، وهو راوي حديثهم.
وهذا التشهد والجلوس له من الأركان، وبه قال الشافعي، ولم يوجبه مالك ولا أبو حنيفة، إلا أنه أوجب الجلوس بقدر التشهد، وتعلقاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء في صلاته. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم أمر به وداوم عليه، وروي في حديث ابن مسعود: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله ... إلخ"، وهذا يدل على أنه فرض بعد أن لم يكن مفروضاً، وحديث الأعرابي يحتمل أنه قبل أن يفرض، وأن يكون تركه لأنه لم يسئ فيه. ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، في الأخير منهما. وقال الشافعي: يتورك في كل تشهد يسلم فيه. ولنا: حديث وائل وحديث عائشة: "كان يقول: في كل ركعتين التحيات، وكان يفرش اليسرى وينصب اليمنى". 2 رواه مسلم.
ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يقصد به ملاذ الدنيا، وقال الشافعي:
__________
1 الترمذي: الصلاة (366) , وأبو داود: الصلاة (995) , وأحمد (1/410, 1/436) .
2 مسلم: الصلاة (498) , وأبو داود: الصلاة (783) .

(1/129)


يدعو بما أحب، لقوله: "ثم ليتخيّر بعد من المسألة ما شاء، أو ما أحب" 1 ولنا: قوله: "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... إلخ " 2.
وهل يدعو لإنسان بعينه؟ على روايتين، وكرهه عطاء والنخعي. ويستحب له إذا مرت به آية رحمة أن يسألها، أو آية عذاب أن يستعيذ منها، لحديث حذيفة. ولا يستحبُّ في الفريضة، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، مع كثرة من وصف قراءته فيها.
وإذا فرغ، سلّم عن يمينه ويساره "السلام عليكم ورحمة الله"، وهذا واجب لا يقوم غيره مقامه؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يتعين للخروج، بل إذا خرج بما ينافيها من عمل أو حدث جاز. والسلام سنة، لأنه لم يعلّمه المسيء. ولنا: قوله: "تحليلها التسليم"، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يخلّ به.
ويشرع تسليمتان، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يسلّم واحدة، لحديث عائشة: "كان يسلِّم واحدة تلقاء وجهه"، 3 وعن سلمة قال: "رأيته صلى الله عليه وسلم صّلى فسلّم مرّة". 4 رواهما ابن ماجة. ولنا: حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة، رواهما مسلم. وحديث عائشة، أنكره أبو حاتم وغيره؛ وبين أحمد أن معناه يسمعهم التسليمة الواحدة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. وقال القاضي: فيه رواية: أن الثانية واجبة، وليس عنه تصريح بالوجوب، وإنما قال: " التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه، ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية دون الإيجاب، وقوله في حديث جابر: "إنما يكفي أحدكم ... " أي: في إصابة السنة، بدليل أنه قال: "يضع يده على فخذه، ثم يسلّم على أخيه عن يمينه وشماله". 5 وإن زاد: "وبركاته" فحسن،
__________
1 مسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1163) والسهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وأحمد (1/382, 1/413, 1/427) , والدارمي: الصلاة (1340) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930, 931) , وأحمد (5/447) , والدارمي: الصلاة (1502) .
3 الترمذي: الصلاة (296) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (919) .
4 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (920) .
5 مسلم: الصلاة (431) , والنسائي: السهو (1318) .

(1/130)


والأول أحسن، لأن رواته أكثر وطرقه أصح. وإن قال: "السلام عليكم" ولم يزد، فظاهر كلام أحمد: يجزئ، وهو قول الشافعي، لقوله: "تحليلها التسليم"، لأنه روي أنه يسلم عن يمينه وشماله: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". 1 رواه أبو داود.
و"يستحب أن يلتفت عن يمينه في الأولى، وعن يساره في الثانية"، كما جاء في حديث ابن مسعود وجابر وغيرهما، ويكون التفاته في الثانية أكثر لحديث عمار. وروي عن أحمد أن الأولى أرفع من الثانية، وحمل عليه حديث عائشة.
ويستحب حذف السلام، وهو أن لا يمده ويطول به صوته، لحديث: "حذف السلام سنة". 2 صححه الترمذي، وعليه أهل العلم. وينوي به الخروج من الصلاة. وإن نوى الرد على الملكين أو على من معه فلا بأس، نص عليه. ومذهب الشافعي: أنه سنة، أي: السلام على من معه، لحديث جابر بن سمرة.
ويستحب الذكر عقيب الصلاة بما ورد به الأثر، مثل حديث المغيرة وثوبان وأبي هريرة وغيرهم.
وإذا كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن يثبت الرجال بقدر انصرافهن. فإن لم يقم الإمام، استحب أن ينصرف عن القبلة، لحديث جابر بن سمرة وغيره. ويستحب لهم أن لا يقوموا قبل الإمام، لقوله: "لا تسبقوني بالسجود، ولا بالركوع، ولا بالانصراف". 3 رواه مسلم. و"ينصرف حيث شاء عن يمينه وشماله"، لحديث ابن مسعود. و"يكره أن يتطوع الإمام في موضع صلاته"، لحديث المغيرة، إلا أن أحمد قال: لا أعرف ذلك عن غير علي.
والمأموم إذا سمع قراءة الإمام، فلا يقرأ بالحمد ولا غيرها، وبه قال مالك وكثير من السلف. وقال الشافعي: يقرأها، لقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة
__________
1 مسلم: الصلاة (431) , والنسائي: السهو (1326) , وأبو داود: الصلاة (998, 1000) , وأحمد (5/86, 5/88, 5/101, 5/107) .
2 الترمذي: الصلاة (297) , وأبو داود: الصلاة (1004) , وأحمد (2/532) .
3 مسلم: الصلاة (426) , والنسائي: السهو (1363) , وأحمد (3/102) .

(1/131)


الكتاب"، 1 ولحديث عبادة، رفعه: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب"، 2 رواه أبو داود، ولقول أبي هريرة: "إقرأ بها في نفسك". ولنا: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الآية 3، قال أحمد: الناس على أن هذا في الصلاة، وفي لفظ: أجمع الناس، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا"، 4 رواه مسلم، ولأنه إجماعٌ، قال أحمد: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ. وقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا في رجل صلى خلف الإمام قرأ إمامه أو لم يقرأ: صلاته باطلة، وحديث عبادة في الصحيح محمول على غير المأموم، وكذلك حديث أبي هريرة، وقد جاء مصرحاً به عن جابر، مرفوعاً: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، إلا وراء الإمام". رواه الخلال. وقوله: "اقرأ بها في نفسك" من قول أبي هريرة، والذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ فأنصتوا " 5 أولى، وقد خالفه تسعة من الصحابة، قال ابن مسعود: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام مُلئ فوه تراباً"، وحديث عبادة الآخر لم يروه عنه إلا إسحاق ونافع بن محمود، وهو أدنى حالاً من ابن إسحاق. والاستحباب: أن يقرأ في سكتات الإمام، وفيما لا يجهر فيه؛ هذا قول كثير من أهل العلم. وقالت طائفة: لا يقرأ في الجهر ولا في الإسرار. قال إبراهيم: إنما أحدث الناس القراءة زمان المختار، لأنه كان يصلي بهم صلاة النهار ولا يصلي بهم صلاة الليل، فاتهموه فقرؤوا خلفه، وهذا قول الثوري وابن عيينة وأصحاب
__________
1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910, 911) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/321) , والدارمي: الصلاة (1242) .
2 أبو داود: الصلاة (823) , وأحمد (5/316, 5/322) .
3 سورة الأعراف آية: 204.
4 مسلم: الصلاة (404) , والنسائي: التطبيق (1064, 1172) والسهو (1280) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (901) , وأحمد (4/392, 4/401, 4/405) , والدارمي: الصلاة (1312) .
5 النسائي: الافتتاح (921) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (846) , وأحمد (2/376) .

(1/132)


الرأي لقوله: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة". 1 ولنا: قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما يجهر فيه. قيل لأحمد: رجل فاتته ركعة من المغرب أو العشاء مع الإمام، أيجهر أم يخافت؟ فقال: إن شاء جهر وإن شاء خافت. ثم قال: إنما الجهر للجماعة. قال الشافعي: يسن الجهر، لأنه غير مأمور بالإنصات.
ويستحب أن يطيل الأولى من كل صلاة ليلحقه القاصد، وقال الشافعي: تكون الأوليان سواء، لحديث أبي سعيد: "حزرنا قيامه في الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية". 2 ووافقنا أبو حنيفة في الصبح، ووافق الشافعي في الباقي. ولنا: حديث أبي قتادة، وفيه: "يطوّل الأولى ويقصر الثانية"، وحديث أبي سعيد، رواه ابن ماجة. وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك، وهذا أولى لموافقته الأحاديث الصحيحة، ولو قدر التعارض قدم حديث أبي قتادة، لأنه أصح، ويتضمن ضبط التفريق بين الركعتين.
وسئل أحمد عن الرجل يقرأ بسورة ثم يقرأ بها في الركعة الأخرى، قال: وما بأس بذلك. وقيل له: الرجلُ يقرأ على التأليف في الصلاة، اليوم سورة وغداً التي تليها، قال: ليس في هذا شيء، إلا أنه روي عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصّل. وأكثر أهل العلم لا يرون الزيادة على "الفاتحة" في غير الأوليين. وعن الشافعي: يقرأ، "لأن أبا بكر قرأ في [الثالثة] 3 من المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 4" ولنا: حديث أبي قتادة، وفعل أبي بكر قصد في الدعاء.
وإذا حضرت الصلاة والعَشاء، بدأ بالعَشاء. قال ابن عباس: "لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء". وقال مالك: يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون طعاماً خفيفاً. ولنا: حديث أنس وعائشة
__________
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) , وأحمد (3/339) .
2 مسلم: الصلاة (452) , والنسائي: الصلاة (475) , وأبو داود: الصلاة (804) .
3 في الطبعة السلفية (الثانية) ، وصوابه: (الثالثة) ، كما في المخطوطة.
4 سورة آل عمران آية: 8.

(1/133)


وابن عمر، رواهن مسلم. ولا فرق بين أن يخشى فوات الجماعة أو لم يخش، فإن بدأ بالصلاة صحت. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته، أنها تجزيه. وكذلك إذا صلى حاقناً. قال الطحاوي: لا يختلفون أنه لو شغل قلبه بشيء من الدنيا، أنه لا يستحب له الإعادة، كذلك إذا شغله البول.
وإذا حضرت الجماعة وهو يحتاج إلى الخلاء، بدأ به ولو خاف فوات الجماعة، لا نعلم فيه خلافاً. وعن ثوبان، رفعه: "لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، ولا يقوم إلى الصلاة وهو حاقن ". 1 حسنه الترمذي. فإن فعل صحت صلاته. وقال مالك: أحب أن يعيد إذا شغله ذلك، وحديث ثوبان قال ابن عبد البر: لا تقوم به حجة عند أهل العلم.
والمشروع في الصلاة قسمان: واجب، ومسنون: والواجب نوعان:
أحدهما: لا يسقط عمداً ولا سهواً، وهو عشرة: تكبيرة الإحرام، والقيام، والفاتحة، والركوع حتى يطمئن، والاعتدال حتى يطمئن، والسجود حتي يطمئن، والاعتدال بين السجدتين حتى يطمئن، والتشهد الأخير، والجلوس له، والسلام، والترتيب.
وقد دل على وجوب أكثرها حديث المسيء، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي لجهله، والجاهل كالناسي. فإن ترك منها شيئاً سهواً ثم ذكره في الصلاة أتى به. وإن لم يذكره حتى سلّم وطال الفصل بطلت. وإن لم يطل بنى على ما مضى من صلاته، نص أحمد على هذا؛ وبه قال الشافعي. وعن مكحول ومحمد بن أسلم الطوسي في المصلي ينسى سجدة أو ركعة: يصليها متى ذكرها، ويسجد سجدتي السهو.
النوع الثاني: من الواجبات ما يسقط سهواً وتبطل الصلاة بتركه عمداً،
__________
1 الترمذي: الصلاة (357) , وأحمد (5/280) .

(1/134)


وهي ثمانية: التكبير غير الإحرام، والتسبيح في الركوع والسجود، والتسميع، والتحميد، وقول: "رب اغفر لي"، والتشهد الأول، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير. وعنه: أن هذه الثمانية ليست بواجبة، وهو قول أكثر الفقهاء.
والنوع الثاني من المشروع: (السنن) ، وهي قسمان: سنن الأقوال. وسنن الأفعال. فلا تبطل بتركها عمداً، ولا يشرع السجود لتركها سهواً.
ويستحب أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، قال أحمد: الخشوع في الصلاة أن ينظر إلى موضع سجوده. و"يستحب أن يفرج بين قدميه، ويراوح بينهما إذا طال قيامه"، لحديث ابن مسعود، ولا يكثر من ذلك، لقول عطاء: إني لأحب أن يقل التحريك.
ويكره أن يلتفت لغير حاجة، فإن كان لها لم يكره، لحديث سهل بن حنظلة. قال ابن عبد البر: جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيراً. و"يكره النظر إلى ما يلهيه"، لحديث عائشة في خميصة أبي جهم وقوله: "أميطي عنا قرامك ... إلخ" 1.
و"يكره رفع البصر، لحديث أنس، وأن يصلي ويده على خاصرته، لحديث أبي هريرة، وأن يصلي وهو معقوص أو مكتوف"، لحديث ابن عباس.
و"يكره أن يكف شعره وثيابه، وأن يعتمد على يده في الجلوس"، لحديث ابن عمر، و"أن يمس الحصى"، لحديث أبي ذرّ ومعيقب. ويكره العبث كله وما يشغله عن الصلاة، لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في كراهة هذا كله.
وكره أحمد الترويح، إلا من الغم الشديد. ورخص فيه ابن سيرين وغيره. ويكره أن يغمض عينيه، نص عليه، وقال: هو فعل اليهود. ولا بأس بعدِّ الآي، وكرهه الشافعي. ولنا: أنه إجماع التابعين. ولا بأس بالإشارة بالعين واليد، لحديث جابر وغيره.
__________
1 البخاري: الصلاة (374) , وأحمد (3/151, 3/283) .

(1/135)


ولا بأس بقتل الحية والعقرب، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهما في الصلاة". رواه أبو داود. وكرهه إبراهيم. و"يجوز قتل القمل، لأن عمر وأنساً والحسن فعلوه".
و"لا بأس بالعمل اليسير للحاجة، لحديث فتح الباب لعائشة".
وإذا بدره البصاق بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض، وإن كان في غير المسجد فإن أحب فعل ذلك، وإن أحب بصق عن يساره أو تحت قدمه.
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً لا يريد إصلاح صلاته، أن صلاته فاسدة. و"إن تكلم جاهلاً بتحريمه، فيحتمل أن لا تبطل"، لحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم؛ وعليه يدل حديث معاوية بن الحكم، فإنه لم يأمره بالإعادة. وهذا مذهب الشافعي. وفي الناسي روايتان: إحداهما: لا تبطل، وهو قول مالك والشافعي، لحديث معاوية. وإن ظن أن صلاته تمت فتكلم، فإن كان سلاماً لم تبطل، رواية واحدة، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه وبنوا على صلاتهم. وإن لم يكن سلاماً، فعنه: إن كان لمصلحتها لم تفسد. و"ممن تكلم بعد أن سلم: الزبير، وابناه عبد الله وعروة، وصوّبه ابن عباس"، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. وعنه: تفسد بكل حال، لعموم الأخبار في المنع من الكلام. وعنه: لا تفسد بالكلام في تلك الحال، سواء كان من شأن الصلاة أو لم يكن، وهذا مذهب مالك والشافعي، لأنه نوع من النسيان، أشبه المتكلم جاهلاً. وإن تكلم مغلوباً مثل أن يخرج الحروف بغير اختياره، مثل أن يتثاءب فيقول: هاه، أو يتنفس فيقول: آه، أو يسعل فينطق بحرفين، أو يغلط في القراءة، أو يجيئه البكاء ولا يقدر على رده، فلا تفسد، نص عليه في البكاء، وقال: "قد كان عمر يبكي حتى يسمع له نشيج". وإن نام فتكلم، فقد توقف

(1/136)


أحمد. وينبغي أن لا تبطل لرفع القلم عنه.
وإن تكلم بكلام واجب، مثل أن يخشى على ضرير أو صبي وقوعه في هلكة، أو يرى ناراً يخاف أن تشتعل في شيء، ونحو هذا، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح، فقال أصحابنا: تبطل، ويحتمل أن لا تبطل؛ وهو ظاهر مذهب الشافعي.
وإن ضحك فبان حرفانن فسدت. وكذلك إن قهقه ولم يبن حرفان، وبه قال جابر وعطاء والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفاًً. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة. وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها.
فأما النفخ، فإن انتظم حرفان فسدت. وعنه: أكرهه، ولا أقول يقطع الصلاة. وروي عن ابن مسعود وغيره، لحديث الكسوف، وفيه: "ثم نفخ فقال: أف. أف.". 1 رواه أبو داود. وقال مهنا: رأيت أبا عبد الله يتنحنح في صلاته، قال أصحابنا: هذا محمول على أنه لم ينتظم حرفان. وظاهر حال أحمد أنه لم يعتبر ذلك، لأن النحنحة لا تسمى كلاماً.
وإن أتى بذكر مشروع لينبه غيره، فهو ثلاثة أنواع:
الأول: مشروع له، مثل أن يسهو إمامه فيسبح به، أو يترك الإمام ذكراً فيرفع المأموم صوته ليذكره به، أو ينوبه شيء فيسبح ليعلمه أنه في صلاة، فهذا لا يؤثر في قول أكثر أهل العلم. وحكي عن أبي حنيفة من أفهم غير إمامه بالتسبيح، فسدت صلاته، لأنه خطاب آدمي. ولنا: قوله: "من نابه شيء في الصلاة، فليقل: "سبحان الله""، 2 وهو عام في كل ما ينوبه. وفي معنى هذا: "الفتح على إمامه إذا أرتج عليه أو غلط"، روي ذلك عن عثمان وعلي، و"كرهه ابن مسعود". وقال أبو حنيفة: تبطل الصلاة به، لحديث علي، مرفوعاً: "لا تفتح على الإمام". 3 ولنا: "قوله لأبيّ: أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: فما منعك؟ ". 4
__________
1 أبو داود: الصلاة (1194) .
2 البخاري: الجمعة (1218) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: الإمامة (784) وآداب القضاة (5413) , وأحمد (5/330) , ومالك: النداء للصلاة (392) .
3 أبو داود: الصلاة (908) , وأحمد (1/146) .
4 أبو داود: الصلاة (907) .

(1/137)


رواه أبو داود، قال الخطابي: إسناده جيد. وحديث علي يرويه الحارث. وقد قال على نفسه: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه".
الثاني: ما لا يتعلق به تنبيه، إلا أنه لسبب من غير الصلاة، مثل حمد العاطس والاسترجاع، فلا يبطل، نص عليه، وذكر حديث على حين أجاب الخارجي. وقال أبو حنيفة: تفسد صلاته. ولنا: ما روى عامر بن ربيعة قال: "عطس رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، حتى يرضى ربنا، وبعد ما يرضى من أمر الدنيا والآخرة. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً. فقال: يارسول الله، أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيراً، ما تناهت دون العرش". 1 رواه أبو داود. وقال الخلال: اتفق الجميع عن أبي عبد الله: أنه لا يرفع صوته، يعني: العاطس، وإن رفع فلا بأس، لحديث الأنصاري.
الثالث: أن يقرأ بقصد تنبيه آدمي، مثل أن يقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} ، 2 يريد الإذن، أو لرجل اسمه يحيى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ، 3 فعنه: تبطل، وهو مذهب أبي حنيفة. وعنه: ما يدل على الصحة، واحتج بحديث علي حين أجاب الخارجي.
ويكره أن يفتح المصلي على من هو في صلاة أخرى، وإن فعل لم تبطل. ولا بأس أن يفتح على المصلي من ليس في صلاة.
وإذا سلم على المصلي، لم يرد بالكلام، فإن فعل بطلت؛ وبه قال مالك والشافعي. وعن أبي هريرة أنه أمر
__________
1 البخاري: الأذان (799) , والنسائي: الافتتاح (931) والتطبيق (1062) , وأبو داود: الصلاة (770) , وأحمد (4/340) , ومالك: النداء للصلاة (491) .
2 سورة الحجر آية: 46.
3 سورة مريم آية: 12.

(1/138)


بذلك. ولنا: حديث جابر، وفيه: "أنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني كنت أصلي"، وحديث ابن مسعود: "يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا. قال: إن في الصلاة لشغلاً". 1 رواهما مسلم.
ويرد السلام بالإشارة، وهذا قول مالك والشافعي. وإن رد بعد الصلاة فحسن، لحديث ابن مسعود، وفيه: "فرد عليه السلام".
وسئل أحمد: أيسلّم على المصلي؟ قال: نعم، وكرهه عطاء وغيره. ومن ذهب إلى تجويزه احتج بقوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم} 2 أي: على أهل دينكم، و"لأنه صلى الله عليه وسلم حين سلموا عليه رد عليم إشارة ولم ينكر عليهم".
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المصلي ممنوع عن الأكل والشرب. وأجمع كل من نحفظ عنه: أن من أكل أو شرب في الفرض عامداً أن عليه الإعادة، فإن كان في التطوع أبطله في الصحيح من المذهب، وهو قول أكثر الفقهاء، وعنه: لا يبطلها.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
الصحيحك أن تسوية الصفوف سنّة، وظاهر كلام الشيخ وجوبه، وقال: مراد من حكاه إجماعاً استحبابه، لا نفي وجوبه. والأخرس يكبر بقلبه ولا يحرك لسانه، قال الشيخ: ولو قيل ببطلان الصلاة بذلك لكان أقرب.
ويجب على المصلي أن يسمع نفسه، واختار الشيخ الاكتفاء بالإتيان بالحروف وإن لم يسمعها، ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك ... إلخ"، واختار إجزاء الاستفتاح بخبر علي. واختار الشيخ أنه يقول هذا تارة وهذا أخرى.
__________
1 البخاري: المناقب (3875) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (538) , وأحمد (1/376) .
2 سورة النور آية: 61.

(1/139)


ولا يجهر بالبسملة، واختار الشيخ أنه يجهر بها وبالتعوذ والفاتحة في الجنازة ونحوها أحياناً، وقال: هو المنصوص، تعليماً للسنة. قال: ويستحب ذلك للتأليف، كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر، تأليفاً للمأموم.
والمرأة لا ترفع صوتها أي: بالقراءة، قال الشيخ: تجهر إن صلت بنساء، ولا تجهر إن صلت وحدها. وإن قرأ بخارج عن المصحف لم تصح، وعنه: تصح، إذا صح سنده لصلاة الصحابة بعضهم خلف بعض، اختارها الشيخ وقال: قول أئمة السلف وغيرهم: مصحف عثمان أحد الحروف السبعة.
وإن كان مأموماً لم يزد على: "ربنا ولك الحمد"، وعنه: يزيد "ملء السماء ... إلخ"، اختاره الشيخ، ثم يصلي الثانية كالأولى.
وفي الاستعاذة روايتان: الثانية: يتعوذ، اختارها الشيخ وقال: آله: أهل بيته، والمختار دخول أزواجه فيهم. وتجوز الصلاة على غير الأنبياء منفرداً، وقيل: يحرم، اختاره الشيخ مع الشعار. وإذا نهض من التشهد الأول لا يرفع يديه، وعنه: يرفعهما، اختاره الشيخ.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. قلت: هذا مبالغة، وليس بإجماع.
قال ابن القيم: وهذه عادته، إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعاً.

(1/140)


باب سجود السهو
قال أحمد: يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء: سلّم من اثنتين فسجد، وسلّم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد، قال الخطابي: المعتمد عليه عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة، يعني: حديث ابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وابن بحينة.
ومن سلّم قبل تمام صلاته ساهياً، ثم علم قبل طول الفصل، أتى بما بقي ثم يتشهد، ويسلم ثم يسجد. فإن لم يذكر حتى قام جلس لينهض، فإن هذا القيام واجب للصلاة، ولا نعلم في جواز إتمام الصلاة، خلافاً في حق من نسي ركعة فما زاد؛ والأصل في هذا: حديث أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء"، 1 قال ابن سيرين: سماها لنا أبو هريرة ... الحديث، وفي آخره: فسألوه عن التشهد فقال: لم أسمعه، وأَحب إليَّ أن يتشهد. رواه أبو داود. فإن طال الفصل، استأنف الصلاة، وكذا قال مالك والشافعي. وقال الليث والأوزاعي: يبني ما لم ينتقض وضوؤه، فإن لم يذكر حتى شرع في أخرى فطال الفصل، بطلت الأولى، وإلا عاد إلى الأولى فأتمها، وبه قال الشافعي. وقال الحسن: إن شرع في تطوع بطلت المكتوبة، وقال مالك: أحب إلي أن يبتدئها.
و"من كان إماماً فشك كم صلى، بنى على أكثر وهمه، ثم سجد بعد السلام"، كما روى ابن مسعود. وعنه: يبني على ذلك ولو منفرداً، قال في رواية الأثرم:
__________
1 البخاري: الصلاة (482) .

(1/141)


بين التحري واليقين فرق. أما حديث عبد الرحمن بن عوف: "إذا لم يدر ثلاثاً صلى أو اثنتين، جعلها اثنتين"، 1 فهذا عمل على اليقين، والذي يتحرى يكون قد صلى ثلاثاً فيدخل قلبه شك، إنما صلى اثنتين إلا أن أكثر ما في نفسه أنه صلى ثلاثاً، فـ"هذا يتحرى أصوب ذلك، ويسجد بعد السلام". وروي هذا عن علي وابن مسعود، وقاله أصحاب الرأي. إن تكرر ذلك عليه، وإن كان أول ما أصابه، أعاد الصلاة، لقوله: "لا غرار في صلاة، ولا تسليم". 2
والرواية الثانية: "يبني على اليقين، ويسجد قبل السلام، إماماً كان أو منفرداً". وهو قول مالك والشافعي، لحديث أبي سعيد وعبد الرحمن. والأولى هي المشهورة عن أحمد، لحديث ابن مسعود. وإنما حملناه على الإمام لأن له من ينبهه، والمنفرد ليس كذلك؛ فيبني على اليقين ليحصل له تمام صلاته، ولا يكون مغرراً بها؛ وهو معنى قوله: "لا غرار في صلاة". وعلى الرواية الثانية، يحمل حديث أبي سعيد وعبد الرحمن، على من لا ظن له، وقول أصحاب الرأي يخالف السنة الثابتة. ومعنى: "لا غرار" أي: لا نقص من صلاته، ويحتمل أنه أراد: لا يخرج منها وهو شاك في تمامها.
ومن بنى على اليقين لم يشك، وكذا من بنى على غالب ظنه ووافقه المأمومون أو ردوا عليه. وإذا سها الإمامُ لزم المأمومين تنبيهُهُ؛ فإن كانوا رجالاً سبحوا، وإن كانوا نساءً صفقن، وبه قال الشافعي. وقال مالك: التسبيح للكل لقوله: "من نابه شيء في صلاته فليقل: "سبحان الله"". 3 ولنا: حديث أبي هريرة: " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء ". 4 وحديث مالك في حق الرجال، فإن حديثنا يفسره.
وإذا سبح به اثنان يثق بقولهما، لزمه قبوله، سواء غلب على ظنه صوابهما أو خلافه. وقال الشافعي: إن غلب على ظنه خطؤهما، لم يعمل بقولهما. وإن كان على يقين من
__________
1 الترمذي: الصلاة (398) .
2 أبو داود: الصلاة (928) .
3 البخاري: الجمعة (1218) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: الإمامة (784, 793) والسهو (1183) وآداب القضاة (5413) , وأبو داود: الصلاة (940) , وأحمد (5/336) , ومالك: النداء للصلاة (392) .
4 البخاري: الجمعة (1203) , ومسلم: الصلاة (422) , والترمذي: الصلاة (369) , والنسائي: السهو (1207, 1208, 1209, 1210) , وأبو داود: الصلاة (939) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1034) , وأحمد (2/241, 2/261, 2/317, 2/376, 2/432, 2/440, 2/473, 2/479, 2/493, 2/507, 2/529) , والدارمي: الصلاة (1363) .

(1/142)


صوابه لم يتابعهم. فإن لم يرجع حيث يلزمه الرجوع، بطلت صلاته وصلاة من تبعه عالماً. وعنه: يتبعونه في القيام استحباباً. وعنه: لا يتبعونه، لكن ينتظرونه ليسلم بهم. وإن تابعوه جهلاً بالتحريم، فصلاتهم صحيحة، "لأن الصحابة تابعوه في التسليم وفي الخامسة" في حديث ابن مسعود. فإن سبح به واحد لم يرجع، إلا أن يغلب على ظنه صدقه.
والسجود كله عند أحمد قبل السلام، إلا في الموضعين اللذيْن ورد النص بهما، وهما: إذا سلم من نقص، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه. قال القاضي: لا يختلف قوله في هذين، واختلف قوله فيمن صلى خمساً هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ وحكى أبو الخطاب رواية: "أن السجود كله قبل السلام"، وروي عن أبي هريرة؛ وهو مذهب الشافعي، لحديث ابن بحينة وأبي سعيد. وقال الزهري: كان آخر الأمرين السجود قبل السلام. وعنه: "ما كان من نقص فقبل السلام"، لحديث ابن بحينة، و "ما كان من زيادة سجد له بعد السلام"، لحديث ابن مسعود؛ وهو مذهب مالك. وقال أصحاب الرأي: "السجود كله بعد السلام"، لحديث ذي اليدين وابن مسعود. وروي عن أنس والحسن والنخعي، لحديث ثوبان رواه سعيد وحديث عبد الله بن جعفر، رواهما أبو داود. ولنا: "أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قبل وبعد"، ففي ما ذكرنا عمل بالجميع، وحديث ثوبان وابن جعفر قال الأثرم: لا يثبت واحد منهما، وأكثر أهل العلم يرون أنه إذا قام في موضع جلوس أو جلس في موضع قيام، أنه يسجد. وكان علقمة والأسود لا يسجدان لذلك. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين". 1 رواه مسلم عن ابن مسعود، وقوله عليه السلام: "لكل سهو سجدتان بعد التسليم". 2 رواه أبو داود.
__________
1 البخاري: الصلاة (401) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1243) , وأحمد (1/424) .
2 أبو داود: الصلاة (1038) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1219) , وأحمد (5/280) .

(1/143)


وإن قام عن التشهد الأول، فذكر قبل اعتداله، رجع، وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال مالك: إن فارقت إليتاه الأرض مضى. ولنا: حديث المغيرة: "إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائماً، فليجلس". 1 الحديث رواه أبو داود. وقال النخعي: يرجع ما لم يستفتح القراءة. ولنا: حديث المغيرة. وقال الحسن: يرجع ما لم يركع.
وإن قام من السجدة الأولى، ولم يجلس للفصل [بين السجدتين] ، 2 فقد ترك ركنين. فإن ذكر قبل الشروع في القراءة، لزمه الرجوع، لا أعلم فيه خلافاً. فإذا رجع، جلس ثم يسجد الثانية. وإن قام عن التشهد الأخير إلى زائدة، جلس له متى ذكره.
والزيادات على ضربين: أقوال وأفعال.
فزيادة الأفعال: قسمان:
أحدهما: من جنس الصلاة، مثل قيامه في موضع جلوسه أو عكسه، فهذا تبطل بعمده، ويسجد لسهوه.
الثاني: من غير جنسها، كالحك والمشي، فهذا تبطل بكثيره عمداً كان أو سهواً. والأقوال قسمان:
أحدهما: ما يبطل عمده الصلاة، كالسلام والكلام، فإذا أتى به سهواً، سجد.
الثاني: ما لا يبطل عمده، وهو نوعان: أحدهما: أن يأتي بذكر مشروع فيها في غير محله، كالقراءة في الركوع والتشهد في القيام، فهل يشرع له سجود إذا فعله؟ على روايتين: إحداهما:
__________
1 أبو داود: الصلاة (1036) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1208) , وأحمد (4/253) .
2 زيادة من المخطوطة 465/86.

(1/144)


لا يشرع، لأنها لا تبطل بعمده. والثانية: يشرع، لقوله: " إذا نسى أحدكم، فليسجد سجدتين وهو جالس". 1 رواه مسلم. فإن قلنا: يشرع، فهو مستحب. قال أحمد: إنما السهو الذي يجب فيه السجود ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يأتي بذكر أو دعاء لم يشرع، كقوله: "آمين رب العالمين" و"الله أكبر كبيراً"، فلا يشرع له سجود، "لأنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى"، فلم يأمره بالسجود". وإذا جلس للتشهد في غير موضعه قدر جلسة الاستراحة، فقال القاضي: يلزمه السجود، ويحتمل ألا يلزمه، لأنه لا يبطل عمده. والجهر والإخفات في غير موضعه فيه روايتان: إحداهما: لا يشرع السجود لسهوه، وهو مذهب الشافعي. "وجهر أنسٌ في الظهر والعصر، فلم يسجد". والثانية: يشرع، وهو مذهب مالك في الإمام، لقوله: "إذا نسى أحدكم، فليسجد سجدتين". 2 فإن قلنا بها، فالسجود غير واجب، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل عمن سها فجهر فيما يخافت فيه، هل عليه سجود؟ قال: أما عليه، فلا أقول عليه، ولكن إن شاء سجد، وذكر حديثاً عن عمر أو غيره أنه كان سمع منه نغمة في صلاة الظهر، قال: "وأنس جهر فلم يسجد وقال: إنما السهو الذي يجب فيه السجود ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وإن قام إلى خامسة في رباعية، أو رابعة في المغرب، رجع متى ذكر، فإن كان قد تشهد عقيب الركعة التي تمت بها صلاته، سجد للسهو ثم سلّم، وإلا تشهد وسجد وسلّم. فإن لم يذكر حتى فرغ، سجد وصحت صلاته، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي، فيمن صلى المغرب أربعاً: يضيف إليها أخرى، فتكون الركعتان
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1242, 1243, 1244, 1245, 1246) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1203) , وأحمد (1/379, 1/424) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1242, 1243, 1244, 1245, 1246) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1203) , وأحمد (1/379, 1/424) .

(1/145)


تطوعاً، لقوله في حديث أبي سعيد: "فإن كان صلاته تامة، كانت الركعة نافلة والسجدتين"، 1 وفي رواية: "فإن كان صلى خمساً، شفعن له صلاته ". 2 ولنا: حديث ابن مسعود حين صلى خمساً، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقيب الرابعة، فلم تبطل صلاته، ولم يضف إلى الخامسة أخرى.
وقال أبو حنيفة: إن لم يكن جلس في الرابعة بطل فرضه، وحديث أبي سعيد حجة عليهم، فإنه جعل الزائدة نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس، وجعل السجدتين يشفعها بها، ولم يضف إليها ركعة أخرى؛ وهذا كله خلاف ما قالوه، فخالفوا الخبرين، وقولنا يوافقهما جميعاً.
وإذا نسي السجود ثم ذكر بعد طول الفصل في المسجد، سجد سواء تكلم أو لا، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إن تكلم بعد الصلاة سقط عنه سجود السهو. وكان الحسن وابن سيرين يقولان: "إذا صرف وجهه عن القبلة، لم يبين ولم يسجد". ولنا: حديث ابن مسعود: "أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام"، 3 وحديثه الآخر، وفيه: "فلما انفتل توشوش القوم بينهم ... إلخ".
فإن خرج من المسجد لم يسجد، نص عليه. وقال الشافعي: يُرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة، "لأنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى المسجد بعد خروجه منه" في حديث عمران بن حصين، وعنه رواية أخرى: يسجد وإن خرج وتباعد، وهو قول ثان للشافعي.
ويكبر للسجود والرفع منه، وإن كان بعد السلام، تشهد وسلّم وبه، قال الشافعي في التشهد والتسليم. وقال أنس والحسن: "ليس فيهما تشهد ولا تسليم". وقال ابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد. قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجه، وأما التشهد ففي ثبوته نظر. ولنا: على التكبير حديث ابن بحينة، وقول أبي هريرة: "ثم كبر وسجد"، والتسليم ذكره عمران بن حصين
__________
1 أبو داود: الصلاة (1024) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (571) , والنسائي: السهو (1238, 1239) , وأبو داود: الصلاة (1024, 1026) , وأحمد (3/72, 3/83, 3/84, 3/87) , ومالك: النداء للصلاة (214) , والدارمي: الصلاة (1495) .
3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والترمذي: الصلاة (393) , وأحمد (1/456) .

(1/146)


عند مسلم، وفي حديث ابن مسعود: "ثم سجد سجدتين، ثم سلّم". ولأبي داود في حديث عمران: "ثم تشهد ثم سلم". قال الترمذي: حسن غريب. ويحتمل أن لا يجب التشهد لأن ظاهر الحديثين الأولين أنه سلم من غير تشهد، وهما أصح من هذه الرواية.
وإذا نسيه حتى طال الفصل، لم تبطل الصلاة، وبه قال الشافعي. وعن أحمد: إن خرج عن المسجد، أعاد الصلاة؛ وهو قول مالك فيما قبل السلام.
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب، وعنه: أنه غير واجب؛ وهذا قول الشافعي، لقوله: " كانت الركعة والسجدتان نافلة له". 1 ولنا: أنه أمر به وفعله، وقوله: "نافلة" أي: له ثواب، كما سمى الركعة نافلة، وهي واجبة على الشاك بلا خلاف.
فأما ما لا يبطل عمده فغير واجب، قال أحمد: إنما يجب السجود فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم، يعني: وما في معناه؛ فنقيس على زيادة خامسة سائر زيادات الأفعال من جنسها، وعلى ترك التشهد [الأول] 2 ترك غيره من الواجبات، وعلى التسليم من نقصان زيادات الأقوال المبطلة عمداً، فإن ترك الواجب عمداً، فإن كان قبل السلام بطلت، وإن كان بعده لم تبطل، وعنه: ما يدل على البطلان، وعنه: التوقف.
إذا سها سهوين أو أكثر من جنس، كفاه سجدتان، لا نعلم أحداً خالف فيه. وإن كان من جنسين فكذلك، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال الأوزاعي: يسجد سجودين، لقوله: "لكل سهو سجدتان". 3 ولنا: قوله: "إذا نسي أحدكم، فليسجد سجدتين"، 4 "ولأنه صلى الله عليه وسلم سها فسلّم وتكلم بعد سلامه، فسجد سجوداً واحداً"، وحديثهم في إسناده مقال، ثم المراد به كل سهو في
__________
1 أبو داود: الصلاة (1024) .
2 زيادة من المخطوطة 465/86.
3 أبو داود: الصلاة (1038) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1219) , وأحمد (5/280) .
4 البخاري: الصلاة (401) والأيمان والنذور (6671) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1242, 1243, 1244, 1245, 1246) , وأبو داود: الصلاة (1020, 1022) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1203, 1212) , وأحمد (1/379, 1/424) .

(1/147)


صلاة، والسهو وإن كثر فهو داخل في لفظ السهو لأنه اسم جنس، ولذلك قال: "لكل سهو سجدتان بعد السلام" 1 هكذا في رواية أبي داود، [ولا] 2 يلزمه بعد السلام سجودان، ومعنى الجنسين: أن يكون أحدهما قبل السلام والآخر بعده.
وليس على المأموم سجود سهو، إلا أن يسهو إمامه فيسجد، في قول عامة أهل العلم. وعن مكحول أنه قام عن قعود إمامه فسجد. ولنا: حديث معاوية بن الحكم. وإذا سها الإمام، فعلى المأموم متابعته، حكاه ابن المنذر إجماعاً.
وإذا كان مسبوقاً فسها الإمام فيما لم يدركه فيه، فعليه متابعته. وقال ابن سيرين وإسحاق: يقضي ثم يسجد. وقال مالك والشافعي في السجود قبل السلام كقولنا، وبعده كقول ابن سيرين. ولنا: قوله: " فإذا سجد فاسجدوا"، 3 وقوله: " فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه ". إذا ثبت هذا، فمتى قضى ففي إعادة السجود روايتان: إحداهما: يعيده، لأنه مع إمامه متابعاً له. والثانية: لا يلزمه السجود، لأن سجود إمامه قد كملت به الصلاة في حقهما.
فإن نسي الإمام السجود، سجد المسبوق في آخر صلاته، رواية واحدة. إذا سها المأموم فيما ينفرد فيه بالقضاء، سجد، رواية واحدة.
وهكذا لو سها فسلّم مع إمامه، قام فأتم، ثم سجد بعد السلام. فأما غير المسبوق إذا سها إمامه فلم يسجد، فهل يسجد؟ فيه روايتان: إحداهما: يسجد، وهو قول مالك والشافعي. والثانية: لا يسجد، روي عن عطاء والحسن والقاسم وأصحاب الرأي.
وإذا قام المأموم لقضاء ما فاته، فسجد إمامه بعد السلام، فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول، نص عليه.
وليس على المسبوق ببعض الصلاة سجود، في قول أكثر أهل
__________
1 أبو داود: الصلاة (1038) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1219) , وأحمد (5/280) .
2 لفظ: (لا) زيادة من المخطوطة 465/86.
3 البخاري: الصلاة (378) , ومسلم: الصلاة (411) , والترمذي: الصلاة (361) , والنسائي: الإمامة (794) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) .

(1/148)


العلم. ويروى عن ابن عمر وابن الزبير وإسحاق: "فيمن أدرك وتراً من صلاة إمامه، سجد للسهو، لأنه يجلس للتشهد في غير موضعه". ولنا: قوله: "وما فاتكم فأتموا"، 1 ولم يأمر بالسجود، وقد "فاته صلى الله عليه وسلم بعض الصلاة مع عبد الرحمن بن عوف، فقضى"، ولم يكن لذلك سجود، والحديث رواه مسلم، وقد جلس في غير موضع تشهده.
ولا يشرع السجود لشيء تركه أو فعله عمداً. وقال الشافعي: يسجد لترك التشهد والقنوت عمداً.
وحكم النافلة حكم الفرض، في قول عامة أهل العلم، إلا ابن سيرين، وهو يخالف عموم الأمر به.
ولو قام إلى ثالثة في صلاة الليل، كالقيام إلى ثالثة لفجر، نص عليه. وقال مالك: يتمها أربعاً ويسجد. وقال الأوزاعي في صلاة النهار كقوله، وفي صلاة الليل: إن ذكر قبل ركوعه في الثالثة جلس، وإلا أتمها أربعاً. ولنا: قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" 2.
ولا يُشْرَع في صلاة جنازة وسجود تلاوة وسجود سهو، قال إسحاق: هو إجماع.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
ظاهر كلام الأصحاب: لا يرجع إلى فعل المأموم. ونقل أبو طالب: إذا صلى بقوم تحرى ونظر إلى من خلفه، فإن قاموا تحرى وقام، وإن سبحوا به، تحرى وفعل ما يفعلون.
واختار المجد: لا تبطل بالعمل الكثير سهواً، لقصة ذي اليدين، فإنه مشى وتكلم ودخل منزله، وبنى على ما تقدم من صلاته. وإن تكلم في صلبها بطلت، عمداً أو سهواً، وعنه: لا تبطل [في السهو] ، 3 اختاره الشيخ. ولو نام فتكلم، أو سبق على لسانه حال قراءة، أو غلبة سعال أو
__________
1 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) .
2 البخاري: الجمعة (991) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (749) , والترمذي: الصلاة (437) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1666, 1667, 1668, 1669, 1670, 1671, 1672, 1673, 1674, 1692, 1694) , وأبو داود: الصلاة (1421) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1174, 1175, 1322) , وأحمد (2/26, 2/44, 2/51, 2/58, 2/71, 2/76, 2/81, 2/100, 2/102, 2/113, 2/119, 2/133, 2/134, 2/141, 2/148, 2/154) , ومالك: النداء للصلاة (269) , والدارمي: الصلاة (1458) .
3 من المخطوطة السابقة.

(1/149)


عطاس أو تثاؤب ونحوه، فبان حرفان، لم تبطل. وإن لم يغلبه، بطلت، وقال الشيخ: هو كالنفخ وأولى. وإن قهقه فبان حرفان فكالكلام، وعنه: كالكلام ولو لم يبن حرفان، اختاره الشيخ. واختار أن النفخ ليس كالكلام، ولو بان حرفان فأكثر لا تبطل به.
ومن شك في عدد الركعات بنى على اليقين، وعنه: على غالب ظنه، اختاره الشيخ، [وقال:] 1 على هذا عامة أمور الشرع؛ وإن مثله يقال في طواف وسعي ورمي جمار وغير ذلك.
والسجود قبل السلام أو بعده، لا خلاف في جواز الأمرين، قاله القاضي. وإنما الكلام في الأفضل. وذكره بعض المالكية والشافعية إجماعاً، وقيل: محله وجوباً، اختاره الشيخ. وقال: عليه يدل كلام أحمد، وإن نسيه قبل السلام قضاه ما لم يطل الفصل. وعنه: يسجد وإن بعد، اختاره الشيخ. وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص كان قبله، فيسجد من أخذ باليقين قبل السلام، ومن أخذ بظنه بعده، اختاره الشيخ.
__________
1 من المخطوطة السابقة.

(1/150)


باب صلاة التطوع
التطوع قسمان: تطوع في ليل، فلا يجوز إلا مثنى، هذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعاً [وإن شئت ستاً] . 1 ولنا: حديث عائشة، متفق عليه.
وتطوع النهار الأفضل فيه مثنى مثنى، لحديث علي البارقي: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". رواه أبو داود، ولأنه أشبه بتطوعاته صلى الله عليه وسلم.
وذهب مالك والشافعي إلى أن الليل والنهار مثنى مثنى، والصحيح: أنه "إن تطوع في النهار أربعاً فلا بأس، فعله ابن عمر". وكان إسحاق يقول: صلاة النهار أربعاً، وإن صلى ركعتين جاز. ومفهوم الحديث المتفق عليه يدل على جواز الأربع، لا تفضيلها. وأما حديث البارقي، فتفرد بزيادة النهار، ورواه عن ابن عمر نحو من خمس عشرة نفساً، لم يقله أحد سواه. "وكان ابن عمر يصلي أربعاً".
والتطوع قسمان:
أحدهما: ما تسن له الجماعة، كالكسوف والتراويح.
والثاني: ما يفعل على الانفراد، وهي قسمان: سنة معيّنة، ونافلة مطلقة.
فأما المعيّنة: فأنواع، منها الرواتب وهي عشر. وقال الشافعي: "قبل الظهر أربع"، لحديث عائشة، رواه مسلم. وآكدها: ركعتا الفجر، لما ورد، و"يستحب
__________
1 زيادة من المخطوطة السابقة.

(1/151)


تخفيفهما"، لحديث عائشة، و"يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1 و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، 2" لحديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس، في آيتي "البقرة" و"آل عمران"، رواه مسلم.
ويستحب الاضطجاع بعدها على جنبه الأيمن. وعنه: "ليس بسنة، لأن ابن مسعود أنكره"، ولنا: حديث عائشة: "ويقرأ في الركعتين بعد المغرب بسورتي الإخلاص"، 3 لحديث ابن مسعود، رواه الترمذي.
ويستحب فعل السنن في البيت، قال أحمد: ليس ههنا آكد من الركعتين بعد المغرب، وذكر حديث ابن إسحاق: "صلوا هاتين الركعتين في بيوتكم"، 4 وقال: لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التطوع، إلا ركعتي الفجر، والركعتين بعد العصر؛ قال ابن حامد: وقسنا الباقي عليه.
وأما الركعتان بعد أذان المغرب، فظاهر كلام أحمد: أنهما جائزتان وليستا سنة، وقال: فيهما أحاديث جياد. وأما الركعتان بعد الوتر، فقال: أرجو إن فعله إنسان ألا يضيق عليه، ولكن وهو جالس. قيل له: تفعله أنت؟ قال: لا. والصحيح أنهما ليستا بسنة، لأن أكثر من وصف تهجده صلى الله عليه وسلم لم يذكرهما، وأكثر الصحابة ومن بعدهم على تركهما.
وصلاة الضحى مستحبة، لحديث أبي هريرة وأبي الدرداء، رواهما مسلم. وأقلهما: ركعتان، للخبر. و [أفضل] 5 وقتها: إذا علت الشمس واشتد حرها، لقوله: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". 6 رواه مسلم.
ويسن لمن دخل المسجد أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين.
فأما النوافل المطلقة، فتشرع، إلا في أوقات النهي.
وتطوع الليل أفضل، قال أحمد ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من
__________
1 سورة الكافرون آية: 1.
2 سورة الإخلاص آية: 1.
3 الترمذي: الصلاة (431) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1166) .
4 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1165) .
5 زيادة من المخطوطة السابقة.
6 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (748) , وأحمد (4/366, 4/367, 4/372, 4/374) , والدارمي: الصلاة (1457) .

(1/152)


قيام الليل. وعن أبي هريرة، رفعه: "أفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل". 1 رواه مسلم.
و"أفضل التهجد جوف الليل الآخر"، لحديث عائشة وابن عباس، قال أحمد: إذا أغفى، يعني: بعد التهجد، فإنه لا يبين عليه أثر السهر، وإذا لم يغف يبين عليه. ويستحب أن يتسوك، يعني: إذا قام من الليل، لحديث حذيفة، وأن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين، لحديث أبي هريرة. و"يستحب أن يقرأ جزءاً من القرآن في تهجده، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وهو مخير بين الجهر والإسرار"، لحديث عائشة.
ومن كان له تهجد ففاته، استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر، للحديث.
و"يجوز التطوع جماعة وفرادى، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين".
ولا نعلم خلافاً في إباحة التطوع جالساً، وأن القيام أفضل. و"هو مخير في الركوع والسجود، إن شاء من قيام، وإن شاء من قعود، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين"، قال أحمد: العمل على كلا الحديثين.
والوتر ركعة، نص عليه، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال هؤلاء: يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يوتر بركعة. قال أحمد: أنا أذهب في الوتر إلى ركعة، ومن أوتر بثلاث أو أكثر فلا بأس.
والقنوت مسنون في جميع السنة، وعنه: في النصف الأخير من رمضان، وبه قال مالك والشافعي. وعنه: لا يقنت في صلاة بحال، ويقنت بعد الركوع، نص عليه، وبه قال الشافعي. وعنه: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، وإن قنت قبله فلا بأس.
وقال مالك: قبل الركوع. ولنا: حديث أبي هريرة وأنس وغير واحد، وحديث ابن مسعود يرويه أبان بن أبي عياش، وهو متروك، وحديث أُبيّ قد تُكُلِّم فيه، وقيل: ذكر القنوت فيه غير صحيح. ويستحب
__________
1 مسلم: الصيام (1163) , والترمذي: الصلاة (438) , وأبو داود: الصوم (2429) , وأحمد (2/303, 2/329, 2/342, 2/344, 2/535) .

(1/153)


أن يقول في قنوت الوتر ما روى الحسن بن علي. وعن عمر: "أنه قنت بسورتي أبي"، قال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، والجد، أي: الحق لا اللعب، وملحِق، بكسر الحاء: لاحق؛ هكذا يروى. يقال: لحقت القوم وألحقتهم بمعنى واحد. ومن فتح الحاء، أراد: أن الله ملحقهم إياه، وهو معنى صحيح، غير أن الرواية هي الأولى. ويؤمّن من خلف الإمام، لا نعلم فيه خلافاً، قاله إسحاق. وقال الأثرم: كان أحمد يرفع يديه في القنوت إلى صدره، واحتج بأن "ابن مسعود رفع يديه إلى صدره في القنوت"، أنكره مالك.
وهل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ؟ فيه روايتان: إحداهما: لا، قال أحمد: ما سمعت فيه بشيء. ولا يسن القنوت قي الصبح ولا غيرها، سوى الوتر. وعن مالك والشافعي: يقنت في الصبح، ولنا: حديث أنس وأبي هريرة، قال إبراهيم: "أول من قنت: عليّ في صلاة الغداة"، وذلك أنه كان محارباً يدعو على أعدائه، وقنوت عمر يحتمل أنه في النوازل، فإن أكثر الروايات عنه: أنه لم يكن يقنت.
قال أحمد: إذا نزل بالمسلمين أمر، قنت الإمام في الفجر، وأمّن من خلفه، ثم قال: مثل ما نزل بالمسلمين من هذا الكافر، يعني: بابك. قال عبد الله عن أبيه: "كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت، فإنما هو في الفجر، ولا يقنت إلا في الفجر إذا كان مستنصراً يدعو للمسلمين". وقال أبو الخطاب: يقنت في الفجر والمغرب.
والذي اختار أحمد: أن تفصل ركعة الوتر مما قبلها، وقال: إن أوتر بثلاث لم يسلّم فيهن، لم يضيق عليه. وحجة من لم يفصل: قول عائشة: "أنه كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث"، 1 وقولها: "كان يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. ثم يصلي أربعاً كذلك، ثم يصلي ثلاثاً". 2 وقالت: "كان يوتر بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن". 3 رواه مسلم. ولنا: قولها: "كان يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة"، 4 وقوله: "صلاة الليل
__________
1 أبو داود: الصلاة (1362) .
2 البخاري: الجمعة (1147) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (738) , والترمذي: الصلاة (439) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1697) , وأبو داود: الصلاة (1341) , وأحمد (6/36, 6/39, 6/73, 6/104) , ومالك: النداء للصلاة (265) .
3 النسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1717) .
4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (736) , والنسائي: الأذان (685) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1358) , وأحمد (6/143, 6/215) , والدارمي: الصلاة (1447, 1473, 1585) .

(1/154)


مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"، 1 وقال: " الوتر ركعة من آخر الليل". 2 رواه مسلم. وحديثها الذي ذكروه ليس فيه تصريح بأنها بتسليم واحد، وأما إذا أوتر بخمس فيأتي.
وقال أحمد فيمن يوتر فيسلّم من الثنتين، فيكرهونه أهل المسجد: فلو صار إلى ما يريدون. يعني: لا تضر موافقتهم.
ويجوز أن يوتر بإحدى عشرة، وبتسع، وبسبع، وبخمس، وبثلاث، وبواحدة. فإن أوتر بإحدى عشرة سلّم من ركعتين، وإن أوتر بثلاث سلّم من الثنتين وأوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهنَّ، وإن أوتر بسبع جلس عقيب السادسة فتشهد ولم يسلّم، ثم يجلس بعد السابعة فيتشهد ويسلم. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا عقيب الثامنة، فيتشهد [ثم يقوم ويأتي 3 بالتاسعة] ، ويسلم. ونحوه قال إسحاق، ثم ذكر حديث زيد بن ثابت في الخمس، وكذلك حديث عائشة. وأما التسع والسبع فذكر فيهن حديث سعيد بن هشام عن عائشة. وقال القاضي في السبع: لا يجلس إلا في آخرهن كالخمس، ولعله يحتج بحديث ابن عباس: "صلى سبعاً أو خمساً، لم يجلس إلا في آخرهن". وعن أم سلمة نحوه، رواه ابن ماجة، وكلا الحديثين فيه شك في السبع، وليس في واحد منهما أنه لا يجلس عقيب السادسة.
والوتر غير واجب، وبه قال مالك والشافعي، وأوجبه أبو حنيفة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به، ولحديث بريدة، مرفوعاً: "من لم يوتر فليس منا". 4 رواه أحمد. ولنا: حديث عبادة، وفيه: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله ... إلخ"، 5 وحديث ضمام، وأحاديثهم قد تكلم فيها. ثم المراد بها تأكيد فضيلته، والأفضل فعله آخر الليل. و"من كان له تهجد، جعله بعده، لفعله صلى الله عليه وسلم".
__________
1 البخاري: الجمعة (991) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (749) , والترمذي: الصلاة (437) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1666, 1667, 1668, 1669, 1670, 1671, 1672, 1673, 1674, 1692, 1694) , وأبو داود: الصلاة (1421) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1174, 1175, 1322) , وأحمد (2/26, 2/44, 2/51, 2/58, 2/71, 2/76, 2/81, 2/100, 2/102, 2/113, 2/119, 2/133, 2/134, 2/141, 2/148, 2/154) , ومالك: النداء للصلاة (269) , والدارمي: الصلاة (1458) .
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (752) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1689, 1690, 1691) , وأبو داود: الصلاة (1421) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1175) , وأحمد (2/43) .
3 زيادة من المخطوطة السابقة.
4 أبو داود: الصلاة (1419) , وأحمد (5/357) .
5 النسائي: الصلاة (461) , وأبو داود: الصلاة (425, 1420) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) , وأحمد (5/315, 5/317, 5/319, 5/322) , ومالك: النداء للصلاة (270) , والدارمي: الصلاة (1577) .

(1/155)


فإن خاف ألا يقوم من آخر الليل، استحب له أن يوتر أوله، لأنه صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة وغيره بالوتر قبل النوم وقال: "من خاف أن لا يقوم آخر الليل، فليوتر من أوله". 1 وكلها صحاح. وأي وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأ، لا نعلم فيه خلافاً.
[فأما] 2 من أوتر ثم قام للتهجد، فالأفضل أن يصلي مثنى مثنى، ولا ينقض وتره؛ وبه قال مالك. قيل لأحمد: لا ترى نقض الوتر؟ قال: لا، ثم قال: وإن ذهب إليه رجل فأرجو، لأنه قد فعله جماعة، وهو قول إسحاق؛ ولعلهم ذهبوا إلى قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً". 3 ولنا: حديث طلق بن علي، رفعه: "لا وتران في ليلة". 4 حسنه الترمذي.
فإن صلى مع الإمام وأحب متابعته، لم يسلم وقام فصلى ركعة شفع بها صلاته، نص عليه، وقال: إن شاء قام على وتره وشفع إذا قام، وإن شاء صلى مثنى. قال: ويشفع مع الإمام بركعة أحب إلي.
ويستحب أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث: في الأولى بـ"سبح"، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، 5 وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . 6 وقال الشافعي: "يقرأ في الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، 7 والمعوذتين"، لحديث عائشة، رواه ابن ماجة. ولنا: حديث أبيّ بن كعب، وحديث عائشة لا يثبت. وقد أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين. قال أحمد: الأحاديث التي جاءت: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة كان قبلها صلاة متقدمة، قيل له: أيوتر في السفر بواحدة؟ قال: يصلي قبلها ركعتين".
قيل لأحمد: رجل قام يتطوع، ثم بدا له فجعل تلك الركعة وتراً، قال: لا. وكيف يكون؟ هذا قد قلب نيته. قيل له: أيبتدئ الوتر؟ قال: نعم. انتهى من الشرح.
وقال: إذا قنت قبل الركوع، كبر ثم أخذ في القنوت. وقد روي عن عمر: "أنه إذا فرغ من القراءة كبر، ثم قنت، ثم كبر حين يركع"، روي ذلك
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (755) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1187) , وأحمد (3/337, 3/348, 3/389) .
2 كذا في المخطوطة، وفي نسخة: (و) .
3 البخاري: الجمعة (998) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (751) , وأبو داود: الصلاة (1438) .
4 الترمذي: الصلاة (470) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1679) , وأبو داود: الصلاة (1439) .
5 سورة الكافرون آية: 1.
6 سورة الإخلاص آية: 1.
7 سورة الإخلاص آية: 1.

(1/156)


عن علي وابن مسعود، ولا نعلم فيه مخالفاًً. و"يستحب أن يقول بعد وتره: "سبحان الملك القدوس" ثلاثاً، ويمد صوته في الثالثة"، لحديث أبيّ بن كعب وابن أبزى.
و"صلاة التراويح سنّة مؤكدة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنسب إلى عمر، لأنه جمع الناس على أبيّ بن كعب". والمختار عند أحمد: عشرون ركعة، وبه قال الشافعي. وقال مالك: ستة وثلاثون. ولنا: "أنّ عمر لما جمع الناس على أبيّ، كان يصلي بهم عشرين ركعة". وأما ما رواه صالح، فإن صالحاً ضعيف، ثم ما ندري مَنِ الناس الذين روى عنهم، وما كان عليه الصحابة أولى؟
والمختار عند أحمد: فعلها في الجماعة، وقال: إن كان رجل يقتدي به فصلاها في بيته، خفت أن يقتدى به. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا بالخلفاء". وقال مالك والشافعي: هي لمن قوي في البيت أحب إلينا، لحديث زيد بن ثابت: "احتجز رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة، فجاء رجال يصلّون بصلاته"، فيه: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة". 1 رواه مسلم. ولنا: إجماع الصحابة، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله، وقال في حديث أبي ذر: "إن القوم إذا صلَّوا مع الإمام حتى ينصرف، كتب لهم قيام تلك الليلة"، 2 وهذا خاص في قيام رمضان، فيقدم على عموم ما احتجوا به.
وقال أحمد: يقرأ بالقوم في رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم. وقال: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه، لقوله: "إذا قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلته". 3 وقيل له: تؤخر القيام في التراويح إلى آخر الليل؟ قال: لا، سنة المسلمين أحب إليّ. وكره أحمد التطوع بين التراويح، وقال: فيه عن ثلاثة من الصحابة. قيل: فيه رخصة عن بعض الصحابة؟ قال: هذا باطل، إنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير وعن أبي الدرداء: "أنه بصر من يصلي بين التراويح، فقال: أتصلي وإمامك بين يديك؟ ليس
__________
1 البخاري: الأدب (6113) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (781) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1599) , وأبو داود: الصلاة (1447) , وأحمد (5/182) , والدارمي: الصلاة (1366) .
2 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , والدارمي: الصوم (1777) .
3 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , وأبو داود: الصلاة (1375) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) , وأحمد (5/159, 5/163) , والدارمي: الصوم (1777) .

(1/157)


منا من رغب عنا"، وقال: "من قلة فقه الرجل: أن يُرى أنه في المسجد وليس في صلاة". وأما التعقيب وهو: أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى في جماعة، أو التراويح في جماعة أخرى، فعنه: لا بأس، لأن أنساً قال: "ما يرجعون إلاّ لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه".
وسئل أحمد: عن ختم القرآن في الوتر أو التراويح، فقال: في التراويح حتى يكون لنا دعاءان. وقال حنبل: سمعته يقول: إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، 1 فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع. فقلت: إلى أي شيء تذهب؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وابن عيينة يفعله معهم. قال العباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركت الناس بمكة والبصرة. ويروي أهل المدينة في هذا أشياء. وذكر عن عثمان بن عفان. وسئل أحمد: إذا قرأ سورة "الناس"، هل يقرأ من "البقرة" شيئاً؟ قال: لا. وقال: "كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده". واستحسن أحمد التكبير عند آخر كل سورة من "الضحى".
وسئل: عن الإمام في رمضان يدع الآيات من السورة، ينبغي لمن خلفه أن يقرأها؟ قال: نعم. ينبغي له أن يفعل. قد كانوا بمكة يوكلون رجلاً يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها، فإذا كان ليلة الختمة أعاده؛ وإنما استحب ذلك لتتم الختمة.
ولا بأس بالقراءة في الطريق، والإنسان مضطجع. وعن إبراهيم التيمي قال: "كنت أقرأ على أبي موسى وهو يمشي في الطريق، فإذا قرأت سجدة قلت له: أسجد في الطريق؟ قال: نعم".
و"يستحب أن يختم في كل سبعة أيام"، لحديث عبد الله بن عمرو وحديث أوس بن حذيفة، رواه أبو داود.
وعنه: أنه غير مقدر على حسب النشاط والقوة، "لأن عثمان كان يختمه في ليلة"، والترتيل أفضل،
__________
1 سورة الناس آية: 1.

(1/158)


لقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} . 1 وكره أحمد القراءة بالألحان، وقال: هي بدعة؛ وكلامه يحمل على الإفراط، وجعل الحركات حروفاً، فأما ما يحسن القراءة والترجيع فغير ما رواه، لحديث ابن المغفل وغيره في قراءة سورة "الفتح".
ويجوز قضاء الفرائض في أوقات النهي، روي ذلك عن غير واحد من الصحابة؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا تقضى في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر، إلا عصر يومه يصليها قبل غروب الشمس، لعموم النهي، و "لأنه صلى الله عليه وسلم لما نام عن الفجر حتى طلعت الشمس، أخّرها حتى ابيضت". 2 ولنا: قوله: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها". 3 وفي حديث أبي قتادة: "فليصلّها حين ينتبه". متفق عليهما، وخبر النهي مخصوص بالقضاء في الوقتين الآخرين وبعصر يومه، وحديث أبي قتادة يدل على جواز التأخير، لا على تحريم الفعل. ويركع للطواف، وهذا مذهب الشافعي، وأنكره مالك لعموم النهي. ولنا: حديث جبير بن مطعم: "يا بني عبد مناف" الحديث صححه الترمذي، وحديثهم مخصوص بالفوائت، وحديثنا لا تخصيص فيه.
وأما صلاة الجنازة بعد الصبح والعصر، فلا خلاف فيه، قاله ابن المنذر. وأما في الأوقات الثلاثة، فلا يجوز، قال أحمد: لا يعجبني، ثم ذكر حديث عقبة بن عامر؛ قال الخطابي: هذا قول أكثر أهل العلم. وعنه: تجوز في جميع أوقات النهي، وهو مذهب الشافعي. ولنا: حديث عقبة بن عامر، وذكره للصلاة مقروناً بالدفن دليل على إرادة صلاة الجنازة.
ومن صلى فرضه، ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة، استحب له إعادتها أي صلاة كانت، بشرط أن تقام وهو في المسجد، أو يدخل وهم يصلون، وهذا قول للشافعي. فإن أقيمت وهو خارج المسجد،
__________
1 سورة المزمل آية: 4.
2 البخاري: التوحيد (7471) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (681) , والنسائي: الإمامة (846) , وأبو داود: الصلاة (437) , وأحمد (5/298, 5/302) .
3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (684) , والنسائي: المواقيت (614) , وابن ماجة: الصلاة (695) , وأحمد (3/184) , والدارمي: الصلاة (1229) .

(1/159)


لم يستحب له الدخول. واشترط القاضي أن يكون مع إمام الحي، وكلام أحمد يدل على أن إمام الحي وغيره سواء. قال الأثرم: سألته عمن صلى في جماعة ثم دخل المسجد وهم يصلون، يصلي معهم؟ قال: نعم. وذكر حديث أبي هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم". إنما هي نافلة فلا يدخل، فإن دخل صلى، وإن كان قد صلى في جماعة. قيل له: والمغرب؟ قال: نعم، إلا أنه في المغرب يشفع. وقال مالك: إن صلى وحده، أعاد المغرب. وإن صلى جماعة لم يعدها، لأن الحديث: "صلّينا في رحلنا". وقال أبو حنيفة: لا تعاد الفجر والعصر، لأجل وقت النهي، ولا المغرب، لأن التطوع لا يكون بوتر. ولنا: حديث يزيد بن الأسود، وحديث أبي ذرّ: "صل معهم، فإنها لك نافلة". وهذه الأحاديث بعمومها تدل على محل النزاع، وحديث يزيد صريح في إعادة الفجر، والأحاديث بإطلاقها تدل على الإعادة مع إمام الحي أو غيره، أو صلى وحده أو في جماعة.
وإذا أعاد المغرب شفعها برابعة، وهذا مذهب الشافعي. وعن حذيفة أنه قال لما أعاد المغرب: "ذهبت أقوم في الثالثة، فأجلسني"، وهذا يحتمل أنه أمره بالاقتصار على ركعتين، أو أمره بمثل صلاة الإمام.
ولا تجب الإعادة، وقيل: "تجب مع إمام الحي، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بها". ولنا: أنها نافلة، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تصلى صلاة في يوم مرتين". 1 رواه أبو داود، ومعناه: واجبتان.
وإن لم يدرك إلا ركعتين، فقيل: يسلم معهم، لأنها نافلة، ويستحب أن يتمها. ونص أحمد أنه يتمها أربعاً، لقوله: "وما فاتكم فأتموا ". 2 والأوقات الخمسة منهي عن الصلاة فيها، وهو قول الشافعي. وقال ابن المنذر: المنهي عنه في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة، وقول عائشة: "وهم عمر، إنما نهى أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها". 3 ولنا: الأحاديث الصحيحة االصريحة، والتخصيص في بعض لا يعارض العموم الموافق له، بل يدل على
__________
1 أبو داود: الصلاة (579) , وأحمد (2/19, 2/41) .
2 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) .
3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (833) , والنسائي: المواقيت (570) .

(1/160)


تأكيد الحكم فيما خصه. وقول عائشة غير مقبول لأن عمر مثبت، وقد رواه عمرو بن عبسة وأبو هريرة وابن عمر وغيرهم. والنهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بالصلاة، لا نعلم فيه خلافاً، وأما بعد الفجر فيتعلق بطلوع الفجر، وبه قال ابن المسيب وأصحاب الرأي. قال النخعي: كانوا يكرهون ذلك، يعني: التطوع بعد طلوع الفجر. وعنه: النهي متعلق بفعل الصلاة، روي عن الحسن والشافعي.
ولا أعلم خلافاً في المذهب أنه لا يجوز أن يبتدئ صلاة التطوع في هذه الأوقات، غير ذات سبب، وهو قول الشافعي. وقال ابن المنذر: رخصت طائفة في الصلاة بعد العصر. وحكي عن أحمد: لا نفعله ولا نعيب فاعله، لقول عائشة: "ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط"، 1 ولا الأحاديث الصحيحة الصريحة، وحديث عائشة روي عنها أنه خاص به صلى الله عليه وسلم.
وأما التطوع لسبب، فالمنصوص عن أحمد: أن الوتر يفعل قبل صلاة الفجر، وبه قال مالك والشافعي، وأنكره عطاء والنخعي، واحتجوا بعموم النهي. ولنا: حديث أبي بصرة، مرفوعاً: " إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح ". 2 احتج به أحمد. وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي بعد الفجر.
وأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز، إلا أن أحمد اختار أن يقضيها من الضحى، وقال: إن صلاها بعد الفجر أجزأه. وقال الشافعي: يقضيهما بعدها، لحديث قيس بن فهد، وسكوته صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز. وقال أصحاب الرأي: لا يجوز لعموم النهي.
وأما قضاء السنن الراتبة بعد العصر، فالصحيح جوازه، لفعله صلى الله عليه وسلم. ومنعه أصحاب الرأي.
وأما قضاء السنن في سائر أوقات النهي، وفعل ما له سبب، كتحية المسجد وسجود التلاوة، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لعموم النهي.
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (591) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (835) , والنسائي: المواقيت (574) , وأبو داود: الصلاة (1279) , وأحمد (6/96, 6/109, 6/113, 6/169, 6/200, 6/253) , والدارمي: الصلاة (1435) .
2 أحمد (6/7) .

(1/161)


والثانية: تجوز، لأن قوله في تحية المسجد والكسوف خاص في هذه الصلاة، فيقدم على النهي العام، ولا فرق بين مكة وغيرها. وقال الشافعي: لا يمنع. ولنا: عموم النهي، وحديث جبير أراد به الطواف، ولا فرق في وقت الزوال بين يوم الجمعة وغيره، ورخص فيه الحسن وطاووس والشافعي، لحديث أبي سعيد: "نهى عن الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة". 1 ولنا: عموم النهي، وذكر لأحمد الرخصة في نصف النهار يوم الجمعة، فقال: في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه: حديث عمرو بن عبسة، وحديث عقبة بن عامر، وحديث الصنابحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلع معها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها. ثم إذا استوت قارنها، وإذا دنت للغروب قارنها. فإذا غربت فارقها". 2 ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات، وحديثهم ضعيف.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وقال الشيخ لما ذكر تفضيل أحمد للجهاد، والشافعي للصلاة، ومالك للذكر: والتحقيق لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حال، وإن الطواف أفضل من الصلاة في المسجد الحرام، وذكره عن جمهور العلماء. وعن ابن عباس: "الطواف لأهل العراق، والصلاة لأهل مكة"، وذكره أحمد عن عطاء والحسن ومجاهد.
وليس الوتر بواجب، واختار الشيخ وجوبه على من يتهجد بالليل، وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمين، وخير الشيخ بين الفصل والوصل.
وفي دعاء القنوت بين فعله وتركه، وأنه إن صلى بهم قيام رمضان فقنت جميع الشهر أو نصفه أو لم يقنت، فقد أحسن. قوله: إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة، فلإمام خاصة القنوت، وعنه: ونائبه. وعنه:
__________
1 أبو داود: الصلاة (1083) .
2 النسائي: المواقيت (559) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1253) , وأحمد (4/348) , ومالك: النداء للصلاة (510) .

(1/162)


ويقنت إمام جماعة. وعنه: وكل مصلّ، اختاره الشيخ. وقوله: في صلاة الفجر، وعنه: في الفجر والمغرب فقط. وعنه: يقنت في جميع المكتوبات، خلا الجمعة، اختاره الشيخ.
قوله: ركعتان قبل الظهر، وعند الشيخ: أربع قبلها، ويقضي الوتر. وعنه: لا يقضي، اختاره الشيخ.
والتراويح: عشرون ركعة، قال أحمد: روي في ذلك ألوان، ولم يقض فيه بشيء، قال الشيخ: كل ذلك، أو إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، حسن، كما نص عليه أحمد، لعدم التوقيت؛ فيكون تقليل الركعات وتكثيرها بحسب طول القيام وقصره. وقال: من صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة.
وقال: لا يجوز التطوع مضجعها لغير عذر، وتجويزه قول شاذ لا أعرف له أصلاً في السلف.
وكثرة الركوع والسجود أفضل، وعنه: طول القيام أفضل، وعنه: التساوي، اختاره الشيخ. وقال: التحقيق أن ذكر القيام وهو القرآن، أفضل من ذكر الركوع والسجود، وأما نفس الركوع والسجود فأفضل من نفس القيام، فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاته عليه الصلاة والسلام معتدلة: إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود بحسب ذلك حتى يتقاربا. ولا يداوم على صلاة الضحى، واختار الشيخ المداومة عليها لمن لم يقم الليل؛ وله قاعدة في ذلك وهي: ما ليس براتب لا يداوم عليه كالراتب. واختار أن سجود التلاوة وسجود الشكر خارج الصلاة لا يفتقر إلى وضوء، وبالوضوء أفضل. وسجود التلاوة سنة، وعنه: واجب في الصلاة، وعنه: واجب مطلقاً، اختاره الشيخ.
ولا يقوم ركوع ولا سجود عن سجدة التلاوة في الصلاة، وعنه: تقوم سجدة الصلاة عنه. والأفضل أن يكون سجوده عن

(1/163)


قيام، واختاره الشيخ، وعنه: يسجد وهو قاعد. قوله: وعند قيامها حتى تزول، وظاهر كلام الخرقي: أنه ليس بوقت نهي، واختاره الشيخ في يوم الجمعة خاص. واختار فعل ركعتي الطواف، وإعادة الجماعة في الأوقات كلها، وصلاة الجنازة، وذوات الأسباب كلها، كالصلاة بعد الوضوء وصلاة الاستخارة، فيما يفوت.

(1/164)


باب صلاة الجماعة
هي: واجبة على الرجال المكلفين، وقال مالك والشافعي: لا تجب لحديث: "صلاة الجماعة تفضل ... إلخ". 1 ولنا: أنها لو لم تجب لأرخص فيها في حال الخوف، ولم يجز الإخلال بالواجبات من أجلها. وليست شرطاً، وقيل: شرط. ولا نعلم من أوجب الإعادة على من صلى وحده، إلا أنه روي عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له". وتنعقد باثنين بغير خلاف. وله فعلها في بيته، وعنه: أن حضور المسجد واجب على القريب منه، والأفضل المسجد الذي لا تقام فيه إلا بحضوره، وكذا إن كان في قصد غيره كسر قلب إمامه أو جماعته، ثم ما كان أكثر جماعة، لحديث: "ما كان أكثر جماعة، فهو أحب إلى الله". 2 رواه أحمد. والأبعد أفضل، لقوله: "أعظم الناس أجراً في الصلاة: أبعدهم فأبعدهم ممشى". 3 رواه البخاري. ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، إلا أن يتأخر، لفعل أبي بكر. فإن صلى وأقيمت وهو في المسجد، استحب له إعادتها، إلا المغرب، وعنه: يعيدها ويشفعها بركعة، لحديث أبي ذر ويزيد بن الأسود. ولا تجب الإعادة، وقيل: بلى، مع إمام الحي الظاهر الأمر. ولا تكره الإعادة في غير المساجد الثلاثة. وقال مالك والشافعي: لا تعاد في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس، لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والتهاون بها مع الإمام. فأما الثلاثة، فروي عن أحمد الكراهة، لئلا يتوانى الناس عن
__________
1 البخاري: الأذان (645) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (650) , والترمذي: الصلاة (215) , والنسائي: الإمامة (837) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (789) , وأحمد (2/17, 2/65, 2/102, 2/112, 2/156) , ومالك: النداء للصلاة (290) .
2 النسائي: الإمامة (843) , وأبو داود: الصلاة (554) , وأحمد (5/140) .
3 البخاري: الأذان (651) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (662) .

(1/165)


الراتب. وإذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة. وقال مالك: إن لم يخف فوات الركعة ركع، فإن أقيمت وهو في نافلة، أتمها خفيفة.
و"من أدرك الركوع أدرك الركعة"، لحديث أبي داود، و"أجزأته تكبيرة واحدة"، لأنه روي عن يزيد وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وقال أحمد: إن كبر اثنتين ليس فيه اختلاف.
ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته وإن لم يعتدّ به، لحديث أبي هريرة، وما أدرك فهو آخر صلاته، وعنه: أولها.
قال شيخنا: لا أعلم خلافاً بين الأربعة في أنه يقرأ "الفاتحة" وسورة، وهذا مما يقوي الأول. فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب أو الرباعية، ففي موضع تشهّده، روايتان: إحداهما: يستفتح، ويأتي بركعتين متواليتين، ثم يتشهد. والثانية: "يقرأ "الحمد" وسورة، ثم يجلس، ثم يقوم فيأتي بأخرى يقرأ "الحمد" وحدها"، وبه قال ابن مسعود. ولا تجب القراءة على المأموم في قول الأكثر، وأوجبها الشافعي، لقول أبي هريرة: "إقرأ بها في نفسك"، ولحديث عبادة عند أبي داود: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب". 1 ولنا: قوله: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة"، 2 وقول أبي هريرة من رأيه، وخالفه غيره من الصحابة، وحديث عبادة لم يروه غير ابن إسحاق ونافع بن محمود، وهو أدنى حالاً منه.
و"يستحب أن يقرأ في سكتات الإمام، وفيما لا يجهر فيه، أو لا يسمعه لبعده"، روي عن ابن عمر وغيره. ومن ركع أو سجد قبل إمامه، رجع فأتى به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت، فإن ركع قبله عمداً فهل تبطل؟ على وجهين. وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل، للحديث، وهل تبطل الركعة؟ فيه روايتان. فإن تخلف لعذر، من نعاس أو غفلة أو زحام أو عجلة إمام، فعل ما سبق به وأدرك إمامه،
__________
1 أبو داود: الصلاة (823) , وأحمد (5/316, 5/322) .
2 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) , وأحمد (3/339) .

(1/166)


ولا شيء عليه، قال شيخنا: لا أعلم فيه خلافاً. وإن كان بركعة كاملة أو أكثر، تبع إمامه وقضى ما سبق به، وعنه: يعيد. وإن سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة، لم يعتدّ بتلك الركعة، قاله أحمد. وقال الشافعي: يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركن، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله بعسفان في صلاة الخوف: سجد الصف الأول والثاني قيام" 1.
و"يستحب للإمام تخفيف الصلاة مع إتمامها، لفعله صلى الله عليه وسلم، وتطويل الأولى أكثر من الثانية"، لحديث أبي قتادة، متفق عليه.
ويستحب انتظار الداخل، إذا لم يشق على من خلفه، وكرهه الأوزاعي لأنه تشريك في العبادة. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يطيل الأولى حتى لا يسمع وقع قدم. وأطال السجود لما ركب الحسن على ظهره لئلا يعجله". وإذا استأذنت المرأة في المسجد، كره منعها، وبيتها خير لها، للحديث.
والسنة أن يؤم القوم أقرؤهم، وقال الشافعي: يقدم الأفقه إن كان يقرأ ما يكفي، ولنا: قوله: "وإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة" 2. وإن أقيمت الجماعة في بيت، فصاحبه أحق إذا كان ممن تصلح إمامته، فإن كان فيه ذو سلطان قدِّم، لأن ولايته على البيت وصاحبه، وكذلك إمام المسجد الراتب أولى من غيره. وإذا قدَّم المستحقُّ غيره جاز، لقوله: "إلا بإذنه". وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف؟ على روايتين.
وإذا أقيمت وهو في المسجد والإمام لا يصلح، فإن شاء صلى خلفه وأعاد، وإن نوى الانفراد ووافقه في أفعالها صح، وعنه: يعيد.
وفي إمامة أقطع اليدين روايتان. وأما أقطع الرجلين، فلا تصح لعجزه عن القيام.
وإذا صلى خلف من يشك في إسلامه صح.
ولا تصح إمامة العاجز عن شيء من أركان الأفعال بالقادر عليه، وأجازه
__________
1 البخاري: المغازي (4130) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (841, 842, 843) , والترمذي: الجمعة (565) , والنسائي: صلاة الخوف (1536, 1537, 1552, 1554) , وأبو داود: الصلاة (1237, 1238, 1239) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1259) , وأحمد (3/348) , ومالك: النداء للصلاة (440, 441) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي: الصلاة (235) , والنسائي: الإمامة (780) , وأبو داود: الصلاة (582) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/117, 4/121, 5/272) .

(1/167)


الشافعي، إلا إمام الحي المرجو زوال علته، إذا عجز عن القيام، فإن صلوا خلفه قياماً صحت، وقيل: لا تصح، أومأ إليه أحمد.
فإن استخلف بعض الأئمة ثم حضر، فهل يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر؟ فية ثلاث روايات: إحداهن: ليس له، لأنه خاص بالنبي. والثانية: يجوز لأن ما فعله صلى الله عليه وسلم جائز لأمته، ما لم يقم دليل على الخصوصية. والثالثة: يجوز للخليفة خاصة.
ولا تصح إمامة صبي لبالغ في فرض، وعنه: تصح، لقوله: "يؤم القوم أقرؤهم ... إلخ". 1 وحديث عمرو بن سلمة رواه البخاري، وهو ابن سبع أو ثمان سنين. فـ"إن صلى الإمام محدثاً جاهلاً هو والمأمومين حتى سلموا، صحت صلاتهم دون الإمام"، يروى عن عمر وعثمان. فإن علمه في الصلاة، استأنفوا الصلاة؛ وقال الشافعي: يبنون على ما مضى.
ولا تصح إمامة الأمي - وهو من لا يحسن "الفاتحة"، أو يحيل المعنى - إلا بمثله، وأجازه الشافعي. و"يكره أن يؤم قوماً أكثرهم له كارهون"، لحديث أبي أمامة وابن عمر، رواه أبو داود؛ قال أحمد: إذا كرهه اثنان أو ثلاثة، فلا بأس، حتى يكرهه أكثرهم. قال منصور: أما إنا سألنا عن ذلك فقيل: عني به الظلمة، فأما من أقام السنة، فالإثم على من كرهه.
ويصح ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، نص عليه، وكذا عكسه. ويصح ائتمام المفترض بالمتنفل، ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر، في إحدى الروايتين.
والسنة أن يقف المأمومون خلف الإمام، "لأن أصحابه صلى الله عليه وسلم يقفون خلفه، وأخر جابراً وجباراً لما وقفا عن يمينه وشماله"، وحديث ابن مسعود يدل على جواز ذلك. فإن كان أحدهما صبياً، فكذلك إن كانت تطوعاً، ويحتمل أن يصح في الفرض، وإن كان واحداً وقف عن يمينه. فإن
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي: الصلاة (235) , والنسائي: الإمامة (780) , وأبو داود: الصلاة (582) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/117, 4/121, 5/272) .

(1/168)


وقفوا قدامه لم يصح، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك وإسحاق: يصح. ولنا: قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" 1.
ومن صلى وحده خلف الإمام ركعة كاملة، لم تصح صلاته، لأمره من فعله بالإعادة، قال ابن المنذر: ثبت الحديث. و"إن أمَّ امرأة، وقفت خلفه"، لحديث أنس، رواه مسلم.
و"السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والدين، ويلي الإمام أكملهم"، لحديث ابن مسعود وغيره. و"الصف الأول للرجال، والنساء بالعكس"، للحديث، رواه أبو داود. و"ميامن الصفوف أفضل"، لحديث عائشة.
و"يستحب توسط الصف للإمام"، للحديث، رواه أبو داود.
وإذا رأى المأمومون مَنْ وراء الإمام صحت صلاتهم إذا اتصلت الصفوف، وإن لم يروهم لم تصح، وعنه: تصح إذا كانوا في المسجد. وإن كان بينهما حائل يمنع رؤية الإمام ومَن وراءه، ففيه روايتان. وإن كان بينهما طريق أو نهر، فروايتان.
ولا يكون الإمام أعلى من المأموم، ولو أراد تعليمهم، وقال الشافعي: له ذلك إن أراد تعليمهم، لحديث سهل. ولنا: "أن عماراً صلى بالمدائن فقام على دكان، والناس أسفل منه. فأخذ حذيفة بيده، فاتبعه عمار حتى أنزله. فلما فرغ قال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أمّ رجل قوماً فلا يقومنّ في مقام أرفع من مقامهم؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذتَ بيدي". رواه أبو داود، وحديث سهل الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم على الدرجة السفلى، فيكون ارتفاعاً يسيراً لا بأس به، جمعاً بين الأخبار.
فإن كان المأموم أعلى فلا بأس، "لأن أبا هريرة صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام".
و"يكره للإمام أن يدخل في الطاق، كرهه ابن مسعود وغيره"، لأنه ستر عن بعض المأمومين، وفعله سعيد بن جبير وأبو
__________
1 البخاري: الصلاة (378) , ومسلم: الصلاة (411) , والترمذي: الصلاة (361) , والنسائي: الإمامة (794, 832) والتطبيق (1061) , وأبو داود: الصلاة (601) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) , ومالك: النداء للصلاة (306) , والدارمي: الصلاة (1256) .

(1/169)


عبد الرحمن السلمي. ولا يكره لحاجة، كضيق المسجد. و"يكره للإمام أن يتطوع في موضع المكتوبة"، قال أحمد: كذا قال علي. ويكره للمأمومين الوقوف بين السواري إذا قطعت الصفوف، "كرهه ابن مسعود"، وأرخص فيه مالك وغيره. وعند ابن ماجة حديث في النهي عنه.
ويكره للإمام إطالة القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة، لأنهم لا ينصرفون قبله، فإذا أطال ذلك شق عليهم. "فإن كان معه نساء، لبث قليلاً لينصرفن. ولا يجلسن بعد الصلاة لئلا يختلطن بالرجال. وينصرف الإمام حيث شاء"، لقول ابن مسعود، رواه مسلم.
واختلفت الرواية، هل يستحب للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، وكرهه مالك وغيره. "وأذن صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها". 1 رواه أبو داود، وتقوم وسطهن، لا نعلم فيه خلافاً.
قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً أن للمريض ترك الجماعة، و"يعذر من يدافع أحد الأخبثين أو بحضرة طعام محتاج إليه"، لحديث عائشة، سواء خاف فوات الجماعة أو لا، والخائف من ضياع ماله، أو خاف ضرراً من سلطان، أو ملازمة غريم ولا شيء معه، لأن في أمره بالصلاة في الرحال لأجل الطين والمطر تنبيهاً على الجواز، وكذا إن خاف موت قريبه ولا يشهده، فهذا كله عذر في ترك الجمعة والجماعة، ولا نعلم فيه خلافاً، "لفعل ابن عمر لما مات سعيد بن زيد"، وكذا خوف فوات رفقته، أو غلبة النعاس، أو تأذٍّ بالمطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، لأن الذي انفرد عن معاذ لما طوّل لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
1 أبو داود: الصلاة (591) .

(1/170)


ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وعنه: أن الجماعة شرط لصحة الصلاة، اختاره الشيخ، ولو صلّى منفرداً لعذر لم ينقص أجره. وقال: خبر التفضيل في المعذور الذي يباح له الصلاة وحده، واختار أنه لا يدرك الجماعة إلا بركعة، وأن المأموم يقرأ إذا لم يسمع قراءة الإمام لبعده. واختار كراهة الاستفتاح والاستعاذة للمأموم.
وقال: يلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه، وقال: ليس له أن يزيد على القدر المشروع، ويفعل غالباً ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله غالباً، ويزيد وينقص للمصلحة كفعله صلى الله عليه وسلم.
واختار صحة إمامة عاجز عن ركن أو شرط، وقال: الروايات عن أحمد في ترك الإمام ما يجوز عنده دون المأموم لا توجب اختلافاً، وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيه بخطإ الإمام يوجب الإعادة وإلا فلا، وهو الذي تدل عليه السنة والآثار والقياس.
وقال: لا بأس بقراءة اللحّان عجزاً. وقال: الذي يؤم قوماً أكثرهم له كارهون أتى بواجب ومحرم مقاوم صلاته فلم تقبل، إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها صاحبها. وقال: إذا كان بينهم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب، لم ينبغ أن يؤمهم، لأن المقصود بالصلاة جماعة إنما يتم بالائتلاف.
واختار صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، وصحة ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها. واختار صحة وقوف المأموم قدام الإمام في الجمعة والعيد والجنازة ونحوها لعذر.
وقال: تصح الفذ لعذر، وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كُرهت إلا لعذر. والمأموم إذا كان بينه وبين الإمام ما يمنع الرؤية والاستطراق صحت صلاته إذا كان لعذر، وهو قول في مذهب أحمد، بل نص أحمد وغيره.

(1/171)


باب صلاة أهل الأعذار
أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلي جالساً. وإن أمكنه القيام، إلا أنه يخشى زيادة مرض أو شق عليه مشقة شديدة، صلّى قاعداً أو نحوه، قال مالك وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه صلّى جالساً. وروي عن أحمد نحوه. ولنا: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، 1 "ولأنه صلى الله عليه وسلم صلّى جالساً لما جحش شقّه"، والظاهر أنه لم يعجز عن القيام بالكلية.
وإن قدر على القيام بأن يتكئ على عصا أو حائط، لزمه. وإن قدَر عليه كهيئة الراكع، كمن هو في بيت قصير السقف لا يمكنه الخروج، أو خائف إذا رفع رأسه، فإن كان لحدب أو كِبرٍ لزمه القيام، وإن كان لغير ذلك احتمل أن يلزمه واحتمل أن لا يلزمه، لقوله: "فإن لم تستطعْ فقاعداً" 2.
ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع والسجود، لم يسقط عنه القيام، فيومئ بالركوع، ثم يجلس فيومئ بالسجود، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسقط القيام، كصلاة النافلة على الراحلة. ولنا: قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، 3 وقوله: "صلِّ قائماً. .. إلخ". 4 وإن قدر على القيام وحده لا مع الإمام، احتمل أن يلزمه ويصلي وحده لأنه ركن، واحتمل أنه مخير بين
__________
1 سورة الحج آية: 78.
2 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) .
3 سورة البقرة آية: 238.
4 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) .

(1/172)


الأمرين، لأنا أبحنا له ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي، ولأن الأجر يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام؛ وهذا أحسن وهو مذهب الشافعي.
فإن عجز قاعداً، صلّى على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، وهذا قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: يصلّي مستلقياً ورجلاه إلى القبلة. ولنا: قوله: "فإن لم تستطعْ، فعلى جنب". 1 والمستحب أن يصلّي على جنبه الأيمن، فإن صلى على الأيسر جاز، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعيِّن جنباً.
وإن عجز صلى مستلقياً، للخبر. وإن كان في عينيه مرض، فقال ثقات من الأطباء: إن صليتَ مستلقياً أمكن مداواتك، فقال القاضي: قياس المذهب جوازه، وهو قول الثوري. وقال مالك: لا يجوز، لما روي عن ابن عباس: "أنه لما كفّ بصره أتاه رجل فقال: لو صبرت عليّ سبعة أيام لم تصلِّ إلا مستلقياً داويت عينك، ورجوت أن تبرأ. فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّ قال له: إن متّ في هذه الأيام ما تصنع بالصلاة؟ فترك معالجة عينه". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم صلّى جالسا لَمّا جحش شقّه" لأجل المشقة أو خوف ضرر، وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ههنا. ودلت الأخبار على جواز الصلاة على الراحلة خوفاً من ضرر الطين في ثيابه وبدنه، وجاز ترك الجمعة والجماعة صيانة لنفسه ولثيابه من البلل والتلوث بالطين. وجاز ترك القيام اتباعاً لإمام الحي والصلاة على جنبه ومستلقياً في حال الخوف، وخبر ابن عباس إن صح فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين، وإنما قال: أرجو، ولكونه مجهول الحال بخلاف مَسْأَلتنا.
وإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل السجود أخفض. وإن عجز عن
__________
1 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) .

(1/173)


السجود ركع وأومأ بالسجود. وإن وضع بين يديه شيئاً عالياً جاز، إذا لم يمكنه أكثر من ذلك. وحكى ابن المنذر عن أحمد قال: أختار السجود على المرفقة، وهو أحب إلي من الإيماء. وكذلك قال إسحاق، وجوّزه الشافعي، ورخص فيه ابن عباس. و"سجدت أم سلمة على المرفقة"، وكرهه ابن مسعود وقال: "يومئ إيماء، ولا يرفع إلى وجهه شيئاً". وعن جابر وابن عمر وأنس مثله، وهو مذهب مالك.
وإن لم يقدر على الإيماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه، ولا تسقط الصلاة ما دام عقله حاضراً. وحكي عن أبي حنيفة أن الصلاة تسقط. وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن يزيد، لما روي عن أبي سعيد الخدري: "أنه قيل له في مرضه: الصلاة، فقال: قد كفاني. إنما العمل في الصحة". ولنا: [ما ذكر] 1 من حديث عمران.
ومتى قدر في أثنائها على ما كان عاجزاً عنه انتقل إليه، وبنى على ما مضى من صلاته. والله أعلم.
ومذهب أحمد "أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخاً، مسيرة يومين"، وهو قول ابن عباس وابن عمر. وهو مذهب مالك والشافعي. وقال ابن المنذر: ثبت: "أن ابن عمر كان يقصر إلى أرض له هي ثلاثون ميلاً"، ونحوه عن ابن عباس، فإنه قال: "يقصر في اليوم، لا ما دونه"؛ وإليه ذهب الأوزاعي. وقال ابن المنذر: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تام، وبه نأخذ.
وروي عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم. قال الأوزاعي: "كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ". وعن دحية: "أنه خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان، ثم إنه أفطر. وأفطر معه أناس كثير، وكره آخرون أن يفطروا. فلما رجع إلى
__________
1 زيادة من المخطوطة 465/86.

(1/174)


قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه: إن قوماً رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول ذلك للذين صاموا". رواه أبو داود. قال الموفق: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة مختلفة متعارضة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، لأنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن ظاهر القرآن إباحة القصر لمن ضرب في أرض، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} الآية، وليس له أصل يُرد إليه؛ والحجة مع من أباح القصْر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
وليس لمن نوى السفر القصرُ حتى يخرج من بيوت قريته، وبهذا قال مالك والشافعي. وحكي عن عطاء أنه أباح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث بن ربيعة: "أنه أراد سفراً، فصلى بهم في منزله ركعتين، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله". ولنا: قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} الآية، 1 ولا يكون ضارباً حتى يخرج، ولحديث أنس: "صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين". 2 متفق عليه. إذا ثبت هذا، فإنه يجوز وإن كان قريباً من البيوت. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الذي يريد السفر له أن يقصر إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها. ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية، نص عليه, وقال الأوزاعي وأبو حنيفة: له ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح.
والجمع بين الصلاتين جائز في قول الأكثر. وقال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي: لا يجوز إلا في يوم عرفة بعرفة، وليلة المزدلفة بها؛ وهو رواية
__________
1 سورة النساء آية: 101.
2 البخاري: الجمعة (1089) , والدارمي: الصلاة (1507) .

(1/175)


عن مالك، لأن المواقيت ثبتت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر واحد. ولنا: ما روى نافع عن ابن عمر: "أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جدّ به السير جمع بينهما"، 1 ولحديث أنس، متفق عليهما. وقولهم: لا نترك الأخبار المتواترة ... إلخ، قلنا: لا نتركها، وإنما نخصصها؛ وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع.
وظاهر كلام الخرقي: إنما يجوز الجمع إذا كان سائراً في وقت الأولى، فيؤخر إلى وقت الثانية ثم يجمع بينهما. وروي عن أحمد جواز تقديم الثانية، وهو الصحيح، إن شاء الله.
وإن أحب الجمع، جاز نازلاً وسائراً مقيماً في بلد إقامة لا تمنع القصر، وبه قال عطاء وجمهور علماء المدينة والشافعي وإسحاق، لحديث معاذ في غزوة تبوك، رواه أبو داود والترمذي وحسنه. وروى مالك في الموطإ عن معاذ: "أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال: فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً". 2 قال ابن عبد البر: حديث صحيح. وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير، "لأنه عليه السلام يجمع وهو نازل غير سائر، ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعاً، ثم ينصرف إلى خبائه". رواه مسلم؛ والأخذ بهذا الحديث متعين لثبوته. والله أعلم.
والمرض الذي يلحقه بترك الجمع، فيه مشقة وضعف، نص أحمد على جواز الجمع للمريض. ويجوز الجمع للمستحاضة، ومن به سلس البول، وما في معناهما، لما في الحديث، والمطر الذي يبل الثياب، إلا أن جمع المطر يختص
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (703) , والنسائي: المواقيت (592, 598) , وأحمد (2/54) , ومالك: النداء للصلاة (331) , والدارمي: الصلاة (1517) .
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (706) , والنسائي: المواقيت (587) , وأبو داود: الصلاة (1206) , وأحمد (5/237) , ومالك: النداء للصلاة (330) , والدارمي: الصلاة (1515) .

(1/176)


بالعِشاءين. فأما الجمع لأجل المطر بين الظهر والعصر، فالصحيح أنه لا يجوز؛ قيل لأحمد: الجمع بين الظهر والعصر في المطر؟ قال: لا. ما سمعته. والمطر المبيح للجمع هو: ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه. والثلج والبرد في ذلك كالمطر. فأما الوحل، فقال القاضي: هو عذر، لأن المشقة تلحق به في النعال والثياب كالمطر، وهو قول مال؛. وقيل: لا يبيح، وهو مذهب الشافعي، والأول أصح لأنه يساوي المطر في ترك الجمعة والجماعة.
فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، فقيل: تبيح الجمع، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وقيل: لا، لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر.
وهل يجوز الجمع للمنفرد، أو من كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع المطر، أو من كان مقامه في المسجد؟ على وجهين: أحدهما: الجواز، لأن العذر إذا وجد استوى فيه حال المشقة وعدمها، كالسفر، ولأن الحاجة العامة إذا وجدت ثبت الحكم فيمن ليس له حاجة، كالسلم وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية لمن لا يحتاج إليهما، ولأنه روي: "أنه صلى الله عليه وسلم جمع في مطر"، وليس بين حجرته والمسجد شيء. والثاني: المنع، لأن الجمع لأجل المشقة.
ويجوز الجمع لمرض، وهو قول عطاء ومالك. وقال الشافعي: لا يجوز، لأن أخبار التوقيت لا تترك بأمر محتمل. ولنا: قوله: "جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر"، 1 وفي رواية: "مِن غير خوف ولا سفر". 2 رواه مسلم. وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر، فثبت أنه كان لمرض. وروي عن أحمد في حديث ابن عباس هذا، قال: فيه رخصة عندي للمريض والمرضع، وقد "أمر سهلة وحمنة بالجمع لأجل الاستحاضة"، وأخبار المواقيت مخصوصة بالصور التي أجمعنا عليها.
وسئل أحمد عن الجمع بين الصلاتين في المطر،
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (705) , والترمذي: الصلاة (187) , والنسائي: المواقيت (602) , وأبو داود: الصلاة (1210, 1211) , وأحمد (1/283) , ومالك: النداء للصلاة (332) .
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (705) , والترمذي: الصلاة (187) , والنسائي: المواقيت (601, 602) , وأبو داود: الصلاة (1210, 1211) , وأحمد (1/223, 1/283, 1/354) , ومالك: النداء للصلاة (332) .

(1/177)


قال: "يجمع بينهما إذا اختلط الظلام قبل أن يغيب الشفق، كذا صنع ابن عمر". وقال الأثرم: حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع قال: "كان أمراؤنا إذا كانت الليلة المطيرة أبطؤوا بالمغرب، وعجلوا العشاء قبل أن يغيب الشفق، فكان ابن عمر يصلي معهم". قال عبيد الله: ورأيت القاسم وسالماً يصليان معهم. قيل لأحمد: فكأن سنة الجمع في المطر عندك قبل أن يغيب الشفق، وفي السفر نؤخر حتى يغيب الشفق؟ قال: نعم.
ولا يجوز الجمع لغير ما ذكرنا، وقال ابن شبرمة: "يجوز إذا كان حاجة أو شيء، ما لم يتخذ عادة، لحديث ابن عباس، وفيه: أراد أن لا يحرج أمته".
وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة، قال ابن عقيل: فيه روايتان: إحداهما: له. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن له قصرها، وإذا دخل مع مقيم أتم. قال الأثرم: سألت أحمد عن المسافر يدخل في تشهده المقيم؟ قال: "يصلي أربعاً"، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال الشافعي. وقال إسحاق: له القصر. وقال مالك: إن أدرك ركعة من الصلاة أتم، وإن أدرك دونها قصر، لقوله: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدركها". 1 ولنا: ما روي عن ابن عباس: "قيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم؟ قال: تلك السنة". رواه أحمد. "وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً". رواه مسلم، ولقوله: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه" 2.
وأجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتمَّ بمسافر، وسلم المسافر من ركعتين، أنّ على المقيم الإتمام. وإذا أمّ المسافر المقيمين فأتم، فصلاتهم صحيحة، وبه قال الشافعي. وقال الثوري: تفسد صلاة المقيمين، لأن الآخرتين نفل من الإمام.
والمشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (580) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (607) , والترمذي: الجمعة (524) , والنسائي: المواقيت (553, 554, 555, 556) , وأبو داود: الصلاة (1121) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) , وأحمد (2/241, 2/265, 2/270, 2/280, 2/375) , ومالك: وقوت الصلاة (15) , والدارمي: الصلاة (1220) .
2 البخاري: الصلاة (378) , ومسلم: الصلاة (411) , والترمذي: الصلاة (361) , والنسائي: الإمامة (794, 832) والتطبيق (1061) , وأبو داود: الصلاة (601) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) , ومالك: النداء للصلاة (306) , والدارمي: الصلاة (1256) .

(1/178)


هي: ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. وعنه: إن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم، وهو قول مالك والشافعي، لأن الثلاث حد القلة، ولقوله: "يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً". 1 وقال الثوري: "إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه، أتم". روي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث. وعن ابن عباس: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين، فنحن إذا أقمناها نصلي ركعتين، وإن زدنا أتممنا". 2 رواه البخاري. وقال الحسن: "صل ركعتين، إلا أن تقدم مصراً". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر". متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس: "أنه صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، وكان يقصر في هذه الأيام". وقد أجمع على إقامتها. فإذا أجمع أن يقيم كما أقام صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم. قال: وحديث أنس كلام ليس يفقهه كل أحد: قوله: "أقام عشراً يقصر، قدم لصبح رابعة وخامسة وسادسة وسابعة. ثم قال: وثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة"، فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقامه بمنى ومكة. وإن مرَّ في طريقه على بلد له فيه أهل أو مال، فقال أحمد في موضع: يتم، وقال في موضع: يتم، إلا أن يكون ماراً. وقال الشافعي وابن المنذر: يقصر ما لم يجمع على إقامة أربع.
ومن لم يجمع الإقامة مدة تزيد على ما ذكرنا، فله القصر، ولو أقام سنين، حكاه ابن المنذر إجماعاً.
ولا بأس بالتطوع، نازلاً وسائراً على الراحلة، ويصلي ركعتي الفجر والوتر، وأما سائر السنن والتطوعات، فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس. وعن الحسن: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون،
__________
1 مسلم: الحج (1352) , والترمذي: الحج (949) , والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1455) , وأحمد (4/339, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1511, 1512) .
2 البخاري: الجمعة (1081) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (693) , والترمذي: الجمعة (548) , والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1438, 1452) , وأبو داود: الصلاة (1233) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) , والدارمي: الصلاة (1510) .

(1/179)


فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها"، وهو قول مالك والشافعي. "وكان ابن عمر لا يتطوع إلا من جوف الليل"، ونقل عن ابن المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين.
والخوف لا يؤثر في عدد الركعات للإمام والمأموم جميعاً، فإذا كان في سفر يبيح القصر صلى بهم ركعتين، بكل طائفة ركعة، وتتم لأنفسها أخرى، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد، ويسلم بهم.
قال القاضي: من شرطها: كون العدو في غير جهة القبلة، ونص أحمد على خلاف ذلك. قال الأثرم: قلت: حديث سهل نستعمله مستقبلين القبلة أو مستدبرين؟ قال: نعم. هو إنكاء، لأن العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عُسفان، لانتشارهم أو خوف كمين.
ويقرأ ويتشهد ويطيل حال الانتظار، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقرأ حال الانتظار، بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية، ليسوي بين الطائفتين. ولنا: أن الصلاة ليس فيها محل سكوت، والقيام محل القراءة كالتشهد إذا انتظرهم فله يتشهد ولا يسكت، وإذا جلس للتشهد قاموا فصلّوا ركعة أخرى، وأطال حتى يدركوه ويسلّم بهم.
وقال مالك: يتشهدون معه، فإذا سلم قاموا فقضوا؛ وما ذكرناه أولى، لقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ، وهو يدل على أن صلاتهم كلها معه. وفي حديث سهل: "أنه صلى الله عليه وسلم قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم سلّم". 1 رواه أبو داود. وروي: "أنه سلّم بالطائفة الثانية"، وبه قال مالك والشافعي، إلا فيما ذكرنا. وقال أبو حنيفة: يصلي كما روى ابن
__________
1 أبو داود: الصلاة (1237) .

(1/180)


عمر قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين، والطائفة الأخرى مواجهة العدو. ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلّم. ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة". 1 متفق عليه.
وقال أبو حنيفة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدوّ. ثم تنصرف التي صلت معه إلى وجه العدو وهي في صلاتها، ثم تجيء الأخرى فتصلي معه الركعة الثانية. ثم يسلم الإمام، وترجع إلى وجه العدو وهى في الصلاة. ثم تأتي الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها فتصلي ركعة منفردة لا تقرأ فيها، لأنها في حكم الائتمام. ثم تنصرف إلى وجه العدو. ثم تأتي الأخرى فتفعل كذلك، إلا أنها تقرأ لأنها فارقت الإمام.
ولنا: ما روى صالح بن خوات عمن صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفّت معه وطائفة وجاه العدوّ، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، وصفّوا وجاه العدو. وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم. ثم سلم بهم". 2 رواه مسلم. وروى سهل بن أبي حثمة مثله.
وهذا أشبه بكتاب الله، فإن قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} 3 يقتضي أن جميع صلاتها معه. وعنده: تصلي ركعة معه فقط، وعندنا: جميع صلاتها معه: إحدى الركعتين توافقه في أفعاله، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه.
ومن مفهوم قوله: {لَمْ يُصَلُّوا} أن الأولى قد صلّت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصلّ إلا بعضها.
وإن خاف وهو مقيم، صلى بكل طائفة ركعتين. وصلاة الخوف جائزة في الحضر، وبه قال الشافعي. وعن
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (839) , والترمذي: الجمعة (564) , والنسائي: صلاة الخوف (1540) , وأحمد (2/150) .
2 البخاري: المغازي (4131) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (842) , والترمذي: الجمعة (565) , والنسائي: صلاة الخوف (1536, 1553) , وأبو داود: الصلاة (1238) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1259) , وأحمد (3/448) , ومالك: النداء للصلاة (441) , والدارمي: الصلاة (1522) .
3 سورة النساء آية: 102.

(1/181)


مالك: لا تجوز في الحضر، لأن الآية إنما دلت على ركعتين، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر. ولنا: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} ، 1 وهو عام في كل حال، وتركه صلى الله عليه وسلم لفعلها في الحضر لغنائه عنها.
قولهم: إنما دلت على ركعتين، قلنا: قد يكون في الحضر الصبح والجمعة، وإذا صلى بهم الرباعية صلى بكل طائفة ركعتين، فهل تفارقه الأولى في التشهد أو حين يقوم إلى الثالثة؟ الثاني: قول مالك، لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار، والتشهد الأول يستحب تخفيفه. وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بالطائفة الأولى ركعتين وأتمت لأنفسها ركعة، وبالأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين، وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه. وفي الآخر: يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، لأنه روي عن علي: "أنه صلى ليلة الهرير هكذا".
ويستحب أن يحمل السلاح فيها، لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} ، 2 ولأنهم لا يأمنون أن يفجأهم العدو فيميلون عليه ميلة واحدة كما في الآية. ولا يجب حمله في قول أكثر أهل العلم، ويحتمل الوجوب، وبه قال داود والشافعي في أحد قوليه؛ والحجة معهم لأن ظاهر الأمر الوجوب. وقد اقترن به قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً} الآية 3. فإن كان بهم لم يجب بغير خلاف، لتصريح النص به.
ويجوز أن يصلي على كل صفة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال: ستة وجوه أو سبعة تروى فيها، كلها جائزة. قال الأثرم قلت له: تقول
__________
1 سورة النساء آية: 102.
2 سورة النساء آية: 102.
3 سورة النساء آية: 102.

(1/182)


بالأحاديث، كل حديث في موضعه، أو تختار واحداً منها؟ قال: من ذهب إليها كلها فحسن، وأنا أختار حديث سهل. وقد ذكرنا منها وجهين: حديث سهل وحديث ابن عمر.
والثالث: صلاة عُسفان: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه، فصف خلفه صف، وصف خلف ذلك الصف صف. فركع رسول الله، وركعوا جميعاً. ثم سجد، وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخر يحرس. فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا، سجد الذين خلفهم. ثم تأخر الصف الأول إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول. ثم ركع وركعوا جميعاً. ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسون. فلما جلس والذي يليه، سجد الآخرون. ثم جلسوا جميعاً، فسلّم عليهم. فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم". رواه أبو داود. و"روى جابر عنه صلى الله عليه وسلم نحوه"، أخرجه مسلم.
الوجه الرابع: أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة، ويسلّم بها، كما رواه أبو بكرة، أخرجه أبو داود؛ وهذه حسنة قليلة الكلفة، وهي مذهب الحسن؛ ليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين.
الوجه الخامس: أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم، ثم تسلم الطائفة وتنصرف ولا تقضي شيئاً. وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعتين ويسلم بها، ولا تقضي شيئا. و"هذا مثل الذي قبله، إلا أن الإمام لا يسلِّم في الأوليين"، لحديث جابر في ذات الرقاع، متفق عليه. وتأوله القاضي على أنه صلى بهم كصلاة الحضر، وأن كل طائفة قضت ركعتين؛ وهذا ظاهر الفساد لأنه صفة الرواية وقول أحمد.

(1/183)


والوجه السادس: أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئاً، لحديث ابن عباس يوم ذي قرد، رواه الأثرم. ولأبي داود نحوه من حديث حذيفة، وروي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة. قال أبو داود في السنن: هو مذهب ابن عباس وجابر. قال جابر: "إنما القصر ركعة عند القتال". وقال طاووس والحسن ومجاهد وقتادة: ركعة في شدة الخوف يومئ إيماء. وقال إسحاق: يجزيك عند الشدة ركعة تومئ إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة. وهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها، لأنه ذكر ستة أوجه، ولا أعلم وجهاً سادساً سواها، وأصحابنا ينكرون ذلك، قال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قول أكثر أهل العلم، والذي قال: ركعة، إنما جعلها عند شدة القتال.
وإذا كان الخوف شديداً وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يؤمئون إيماء، ويكرّون ويفرُّون، ولا يؤخرون الصلاة؛ وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يصلي مع المسايفة ولا مع المشي، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ يوم الخندق، وأخّرها". ولنا: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ، 1 قال ابن عمر: "فإن كان خوفاً أشد من ذلك، صلّوا رجالاً قياماً على أقدامهم، وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها". متفق عليه، "ولأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالمشي إلى وجاه العدو، ثم يعودون لما بقي"؛ وهذا مشي كثير وعمل طويل واستدبار القبلة. ومن العجب أن أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل وسوَّغه، مع إمكان الصلاة بدونه، ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه‍! وكان
__________
1 سورة البقرة آية: 239.

(1/184)


العكس أولى، لا سيما مع نص الله سبحانه على الرخصة في هذه الحال. وأما تأخيره يوم الخندق، فروى أبو سعيد: أنه قبل نزول صلاة الخوف. ويحتمل أنه نسي الصلاة، فقد نقل عنه ما يدل على ذلك.
وإن هرب من عدو هرباً مباحاً، أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص بدون الهرب، صلى صلاة شدة الخوف، سواء خاف على نفسه أو أهله أو ماله، نص عليه أحمد في الأسير.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: ولو عجز المريض عن الإيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه. واختار جواز القصر في سفر المعصية، وجوز القصر في مسافة فرسخ، وقال: إن حد فتحديده ببريد أجود، قال: ولا حجة للتحديد، بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. واختار كراهة الإتمام للمسافر.
وقال: يسن ترك التطوع بغير الوتر وسنة الفجر، ونقل ابن هاني: يتطوع أفضل، واختاره الشيخ في غير الرواتب. واختار أن الجمع والقصر لا يحتاج إلى نية. وقال في البلغة: إقامة الجيش للغزو لا تمنع الترخص وإن طالت، لفعله صلى الله عليه وسلم. واختار الشيخ أن المسافر له القصر والفطر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن، وقال: الجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة، لأنه من رخص السفر المطلقة، كالقصر.
واختار الشيخ جواز الجمع للطباخ والخباز ونحوهما، ممن يخشى فساد ماله أو مال غيره بترك الجمع.
قال أحمد: الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة،

(1/185)


مثل مرض أو شغل، واختار الشيخ أن الجمع بين الظهر والعصر يجوز للمطر. واختار جواز الجمع لتحصيل الجماعة، والصلاة في حمام مع جوازها فيه، خوف فوات الوقت، ولخوف يخرج في تركه أي مشقة، وأن الأفضل: فعل الأرفق به من تقديم وتأخير. واختار في جمع التقديم عدم اشتراط الموالاة. ويجوز للخائف فوات وقت الوقوف بعرفة صلاة 1 الخوف. [اختاره الشيخ 2] .
__________
1 في الطبعة السلفية: (صلاة شدة الخوف) .
2 زيادة من المخطوطة.

(1/186)


باب صلاة الجمعة
المستحب إقامتها بعد الزوال، لفعله صلى الله عليه وسلم. ويصعد للخطبة على المنبر ليسمع الناس، وليس بواجب، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم على الأرض قبل أن يصنع المنبر".
ويستحب إذا خرج أن يسلّم على الناس، ثم إذا صعد المنبر فاستقبلهم سلّم عليهم. ويجلس إلى فراغ المؤذن، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يسلّم عقيب الاستقبال، لأنه سلّم حال خروجه.
وأما مشروعية الأذان عقيب صعود الإمام، فلا خلاف فيه؛ وهو الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، لأنه الذي كان على عهده صلى الله عليه وسلم، فتعلق الحكم به. وتحريم البيع مختص بالمخاطبين، وحكي في غيرهم روايتان؛ والصحيح ما ذكرنا، فإن الله نهى من أمره بالسعي.
وكلما بكر من أول النهار فهو أفضل، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك: لا يستحب قبل الزوال. ولنا: حديث أبي هريرة في الساعات، وروى الترمذي وحسنه: " من غسل واغتسل، وبكّر وابتكر، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة، صيامها وقيامها". 1 ورواه ابن ماجة وزاد: "ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلْغُ". 2 وقوله: بكّر: خرج في بكرة النهار، وابتكر: بالغ في التبكير، وقيل: معناه: ابتكر العبادة مع بكورها. وقيل: ابتكر الخطبة، أي حضرها، من باكورة الثمرة أي: أولها. وغير هذا أجود، لأن من جاء أول النهار لزم أن يحضر أول الخطبة. قال أحمد: "من غسّل" مشددة يريد: من غسل أهله. وكان غير واحد من التابعين يستحبه ليكون
__________
1 الترمذي: الجمعة (496) , والنسائي: الجمعة (1381) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها
(1087) , وأحمد (4/104) , والدارمي: الصلاة (1547) .
2 الترمذي: الجمعة (496) , والنسائي: الجمعة (1381, 1384, 1398) , وأبو داود: الطهارة (345) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1087) , وأحمد (4/8, 4/9, 4/10, 4/104) , والدارمي: الصلاة (1547) .

(1/187)


أسكن لنفسه. وقيل: غسل رأسه، واغتسل في بدنه، حكي عن ابن المبارك. وقوله: غسل الجنابة على هذا، أي: كغسل الجنابة.
والمستحب: أن يمشي، لقوله: "ومشى ولم يركب". وتجب ولو كان من يقيمها مبتدعاً، نص عليه. ولا تعاد، والظاهر من حال الصحابة أنهم لم يكونوا يعيدونها.
والخطبة شرط، لا تصح بدونها، ولا نعلم فيه مخالفاًً إلا الحسن، قال: تجزيهم جمعتهم، خطب أو لم يخطب. ولنا: قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، 1 والذكر: الخطبة.
وسئل أحمد عن الخطبة قاعداً، فلم تعجبه، قال: قال الله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . 2 ويستحب لهم أن يستقبلوه إذا خطب، قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وعن الحسن: أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام.
ويشترط للجمعة خطبتان، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: يجزئه خطبة واحدة. ويشترط لكل واحدة منهما حمد الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن لا تجب الصلاة عليه، لأنها لم تذكر في خطبته.
وأما القراءة، فقال القاضي: يحتمل أن تشترط. قال أصحابنا: ولا يكفي أقل من آية، وظاهر كلام أحمد: لا يشترط ذلك، لأنه قال: القراءة في الخطبة ليس فيها شيء مؤقت.
وقال: إن خطب وهو جنب، ثم اغتسل وصلى بهم، أجزأه؛ والجنب ممنوع من قراءة آية. ويحتمل أن لا يجب سوى حمد الله والموعظة، لأنه يسمى خطبة، وما عداهما ليس على اشتراطه دليل، ولكن "يستحب أن يقرأ آيات لما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم".
ويستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة، وقال الشافعي: "هي واجبة لأنه صلى الله
__________
1 سورة الجمعة آية: 9.
2 سورة الجمعة آية: 11.

(1/188)


عليه وسلم يجلسها". ولنا: "أنه سرد الخطبة جماعة من الصحابة، منهم المغيرة وأبيّ بن كعب"، قاله أحمد. والسنة: أن يخطب متطهراً، وعنه: أنه من شرائطها.
ويسن أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة، وإن خطب رجل وصلى آخر جاز، لكن قال أحمد: لا يعجبني لغير عذر. وهل يشترط أن يكون المصلي ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان.
من السنة أن يقصد تلقاء وجهه، لأنه لو التفت لأعرض عن الجانب الآخر. ويستحب أن يرفع صوته، لقول جابر: "كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم " 1.
ويستحب تقصيرها، لحديث عمار وغيره، وأن يعتمد على عصا أو قوس أو سيف، لحديث الحكم، وفيه: "فقام متوكئاً على عصا أو قوس". 2 رواه أبو داود.
وسئل أحمد: عمن قرأ سورة الحج على المنبر؟ قال: لا. لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله، والصلاة على رسوله.
و"إن قرأ السجدة في أثناء الخطبة، فإن شاء نزل فسجد، وإن شاء ترك؛ فعل عمر وترك"، وبه قال الشافعي. "ونزل عثمان وأبو موسى وغيرهما"، وبه قال أصحاب الرأي، لأن السجود عندهم واجب. وقال مالك: لا ينزل، لأنها تطوع فلا يشتغل بها في أثناء الخطبة. ولنا: فعل عمر وتركه، وفعل مَن سمّينا من الصحابة.
ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ولنفسه وللحاضرين، وإن دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسنٌ. وروى ضبة بن محصن: "أن أبا موسى إذا خطب فحمد الله وصلى على النبي، يدعو لعمر، فأنكر عليه ضبة البدأة بعمر قبل الدعاء لأبي بكر، فرفع إلى عمر. فقال لضبة: أنت أوفق منه وأرشد". وقال عطاء: هو محدث.
__________
1 مسلم: الجمعة (867) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/337, 3/371) .
2 أبو داود: الصلاة (1096) , وأحمد (4/212) .

(1/189)


وصلاة الجمعة ركعتان، يقرأ في كل ركعة بـ"الحمد" وسورة، ويجهرُ بالقراءة، لا خلاف في ذلك كله. و"يستحبُّ أن يقرأ فيهما بـ"الجمعة" و"المنافقين"، لحديث أبي هريرة"، رواه مسلم، "أو "سبح" و"الغاشية""، لحديث النعمان بن بشير، رواه مسلم.
وأكثر أهل العلم يرون أن من أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، فهو مدرك لها؛ يضيف إليها أخرى وتجزئه. وقال عطاء وغيره: "من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً". ولنا: حديث أبي هريرة، ولأنه قول ابن مسعود وأنس وابن عمر؛ ولا مخالف لهم في عصرهم. ومن أدرك أقل بنى عليها ظهراً، إذا دخل بنية الظهر؛ وهو قول جميع من ذكرنا في التي قبلها. وقال حماد والحكم: يدرك بأي قدر أدركه. ولنا: حديث أبي هريرة المتقدم، ولأنه قول مّن سمّينا من الصحابة والتابعين، ولا مخالف لهم في عصرهم؛ فيكون إجماعاً.
ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم فلم يقدر على السجود والركوع حتى سلّم الإمام، فعنه: يكون مدركاً، ويصلي ركعتين؛ وهو قول الحسن والأوزاعي. وعنه: يصلي أربعاً، وهو قول الشافعي وابن المنذر. فإن قدر على السجود على ظهر إنسان أو قدميه، لزمه وأجزأه، وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال مالك: لا يفعل، وتبطل به الصلاة، لقوله: "مكّن جبهتك من الأرض". ولنا: قول عمر: "إذا اشتد الزحام، فليسجد على ظهر أخيه". رواه سعيد. قاله بمحضر من الصحابة في يوم جمعة.
و"من دخل والإمام يخطب، لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما"، وبه قال الشافعي، لحديث جابر، رواه مسلم. وقال مالك: يجلس ولا يركع، لقوله: "اجلس! فقد آذيت"، 1 وهي قضية عين، الظاهر أنه أمره ليكفّ أذاه عن الناس.
ويجب الإنصات من حين يأخذ في الخطبة، وكره الكلام حينئذ عامة أهل العلم،
__________
1 النسائي: الجمعة (1399) , وأبو داود: الصلاة (1118) .

(1/190)


وعنه: لا يحرم الكلام. "وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي يتكلمون والحجاج يخطب"، وقال بعضهم: "إنا لا نؤمر أن ننصت لهذا". واحتج من أجازه بحديث أنس: "أن رجلاً قال لرسول الله وهو يخطب: هلك الكراع، هلك الشاء؛ فادع الله! ". 1 الحديث متفق عليه. ولنا: قوله: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت! فقد لغوت". 2 متفق عليه، وما احتجوا به يحتمل أنه مختص بمن كلّم الإمام. ولا يحرم الكلام على الخطيب، ولا على من سأله الخطيب، "لأنه صلى الله عليه وسلم سأل سليكا: أصلّيتَ؟ قال: لا". 3 "وعمر سأل عثمان". وإذا سمع متكلماً لم ينهه بالكلام، لحديث أبي هريرة، ولكن بالإشارة. نص عليه. وكره طاووس الإشارة. وسئل أحمد: عن رد السلام، وتشميت العاطس، والإمام يخطب؟ فقال: نعم. قد فعله غير واحد. وعنه: إن كان يسمع الخطبة فلا.
وللبعيد أن يذكر الله ولا يرفع صوته، ورخص له في الذكر والقراءة عطاء وغيره. ولا يكره الكلام قبل الخطبة ولا بعدها، وبه قال عطاء وغيره، وقال ابن عبد البر: "ابن عمر وابن عباس يكرهان الكلام بعد خروج الإمام"، ولا مخالف لهما في الصحابة. وقد ذكرنا عن عمومهم خلاف هذا، وقوله: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب ... " 4 الحديث، وروى ثعلبة: "أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة إذا جلس عمر على المنبر" الحديث.
فأما الكلام في الجلسة بينهما، فيحتمل جوازه، وهو قول الحسن، ويحتمل المنع، وهو قول مالك والشافعي. وهل يسوغ الكلام إذا كان في دعاء؟ احتمالان.
ويكره العبث وهو يخطب، لقوله: "مَن مسّ الحصى فقد لغا ". 5 ويكره الشرب والإمام يخطب، وبه قال مالك، ورخص فيه الشافعي. قال أحمد: لا يتصدق على السائل والإمام يخطب، و"إن حصبه كان أعجب إليّ، لفعل
__________
1 البخاري: الجمعة (932) والمناقب (3582) , وأبو داود: الصلاة (1174) .
2 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: الجمعة (1401, 1402) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/244) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548, 1549) .
3 مسلم: الجمعة (875) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1112) .
4 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: الجمعة (1401, 1402) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/280) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548, 1549) .
5 مسلم: الجمعة (857) , والترمذي: الجمعة (498) , وأبو داود: الصلاة (1050) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090) , وأحمد (2/424) .

(1/191)


ابن عمر". ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب، روي عن جماعة من الصحابة، قال أبو داود: لم يبلغني أن أحداً كرهه، إلا عبادة بن نسي، لأن سهل بن معاذ روى: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب". 1 رواه أبو داود، وفي إسناده مقال. قال ابن المنذر: الأوْلى تركه، لأجل الخبر وإن كان ضعيفاً.
وإنما تجب بشروط سبعة: القرية، والأربعين، والذكورية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والاستيطان. وهذا قول أكثر أهل العلم.
فأما القرية فيعتبر أن تكون مبنية بما جرت العادة به، من طين أو قصب أو شجر ونحوه. فأما أهل الخيام وبيوت الشعر، فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم، لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالباً؛ ولذلك كان الذين حول المدينة لم يقيموا جمعة، ولا أمرهم بها صلى الله عليه وسلم. ومتى كانت القرية لا تجب على أهلها الجمعة فسمعوا النداء من المصر أو من قرية تقام فيها، لزمهم السعي إليها، لعموم الآية.
والأربعون شرط لصحة الجمعة، وهو مذهب مالك والشافعي. وعنه: تنعقد بثلاثة، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور. وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر، لحديث جابر: "فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً". 2 رواه مسلم. ولنا: حديث كعب بن مالك، وفيه: "كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون". 3 فأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل له فيه، فإن التقديرات بابها التوقيف.
وإذن الإمام ليس بشرط، وبه قال مالك والشافعي. وعن الحسن وأبي حنيفة: لا يقيمُها إلا الأئمة في كل عصر، فكان إجماعاً. ولنا: "أن علياً صلى الجمعة بالناس، وعثمان محصور، فلم ينكر. وصوّبه عثمان، وأمر بالصلاة معه". رواه البخاري عن عبيد الله بن عدي. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا
__________
1 الترمذي: الجمعة (514) , وأبو داود: الصلاة (1110) , وأحمد (3/439) .
2 البخاري: الجمعة (936) , ومسلم: الجمعة (863) , والترمذي: تفسير القرآن (3311) , وأحمد (3/313, 3/370) .
3 البخاري: المغازي (4152) , والدارمي: المقدمة (27) .

(1/192)


يجمعون.
ولا يشترط لها المصر، وبه قال مالك والشافعي. وعن أبي حنيفة: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. ولنا: قول كعب بن مالك: "أول من جمع بنا: أسعد بن زرارة في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: الخضمات". رواه أبو داود. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أكان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الخطابي: حرة بني بياضة: قرية على ميل من المدينة. وحديث ابن عباس: "في جواثا".
ولا يشترط لها البنيان، فتجوز فيما قاربه من الصحراء. وقال الشافعي: لا تجوز. ولنا: "أن مصعبا جمع بهم في نقيع الخضمات"، والنقيع: بطن من الأرض يستنقع الماء فيه مدة، فإذا نضب نبت الكلأ.
وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة فيها جائزة، وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها، لأن الحدود تقام فيها في موضعين. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: "لا تجوز في بلد واحد إلا في موضع واحد، لأنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لم يجمعوا إلا في واحد". ولنا: "أن علياً كان يستخلف أبا مسعود (البدري) يوم العيد، يصلي بضعفة الناس". ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار، صُليت في أماكن فلم ينكر، فكان إجماعاً. قال أحمد: يقام بالمدينة قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار، فجمع بهم وهم أربعون. فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن عطاء قيل له: إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر. قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن لا جمعة على النساء. فأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أن لا جمعة عليه. وحكي عن النخعي أنها تجب. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها في سفر، ولا

(1/193)


خلفاؤه"، وكذلك غيرهم من الصحابة. قال إبراهيم: "كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين، لا يجمعون ولا يشرقون"، وأما العيد ففيه روايتان.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة، أن ذلك يجزئ عنهن.
ولا تنعقد الجمعة بمن لا تجب عليه ولا يصح أن يكون إماماً فيها، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز أن يكون العبد والمسافر إماماً فيها، ووافقهم مالك في المسافر.
وإن ظن أنه لا يدرك الجمعة، انتظر حتى يصلي الإمام، ثم يصلي الظهر؛ وبه قال مالك والشافعي في الجديد. وقال في القديم، وأبو حنيفة: يصلي ظهراً. فأما من لا تجب عليه، فله أن يصلي قبل الإمام، في قول الأكثر.
و"لا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها، أن يصلي جماعة إذا أمن أن ينسب إلى مخالفة الإمام، فعله ابن مسعود وغيره"؛ وهو قول الشافعي. وكرهه مالك. ولنا: حديث فضل الجماعة. "وفاتت الجمعة عبد الله، فصلى بعلقمة والأسود". احتج به أحمدُ وقال: ما أعجب الناس! ينكرون هذا!
ويستحب لمن ظهر للجمعة أن يغتسل ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب، ولا خلاف في هذا كله؛ وفيه آثار صحيحة، وليس بواجب [في قول الأكثر. قال ابن المنذر: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً: ليس غسل الجمعة بفرض واجب 1] . وعنه: أنه واجب. ولنا: قوله: "ومن اغتسل فالغسل أفضل"، 2 وقصة عمر عن عثمان.
ووقت الغسل بعد طلوع الفجر، وهو قول الشافعي. وعن مالك: لا يجزيه إلا أن يتعقبه الرواح. وإن أحدث بعده، أجزأه الغسل وكفاه الوضوء، وبه قال مالك والشافعي. واستحب طاووس وغيره إعادة الغسل.
__________
1 ما بين القوسين زيادة من النسخة الخطية.
2 الترمذي: الجمعة (497) , والنسائي: الجمعة (1380) , وأبو داود: الطهارة (354) , وأحمد (5/8, 5/11, 5/15, 5/16, 5/22) , والدارمي: الصلاة (1540) .

(1/194)


ومن لا يأتي الجمعة لا غسل فيه. "وكان ابن عمر لا يغتسل". وكان عطاء لا يغتسل، "وكان طلحة يغتسل". وروي عن مجاهد وطاووس ولعلهم أخذوا بالعموم. ولنا: قوله: "من أتى الجمعة فليغتسل". 1 ويستحب أن يلبس ثوبين نظيفين، لحديث عبد الله بن سلام، رواه مسلم. والتطيب مندوب إليه والسواك، لما ورد.
ولا يتخطى رقاب الناس، ولا يفرّق بين اثنين، لما ورد، فإن رأى فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، فروايتان. قال الحسن: يتخطى رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد، فإنهم لا حرمة لهم. وعنه: إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس، وإن كثر كرهناه. ولعل الرواية الأولى وكلام الحسن فيما إذا تركوا مكاناً واسعاً، والثاني فيمن لم يفرط.
وإذا جلس في مكان فبدت له حاجة، أو احتاج إلى الوضوء، فله الخروج، لحديث عقبة في قسمة التبر، وفيه: "قام مسرعاً يتخطى رقاب الناس". 2 رواه البخاري. ثم إذا رجع، فهو أحق بمجلسه، لقوله: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه، فهو أحق به". 3 رواه مسلم.
و"ليس له أن يقيم إنساناً ويجلس في موضعه"، لحديث ابن عمر. فإن قدم رجلاً، حتى إذا جاء قام، جاز، لأنه يقوم باختياره. وعن ابن سيرين: "أنه يرسل غلاماً له يوم الجمعة فيجلس مكانه، فإذا جاء محمد قام الغلام، وجلس فيه".
ويستحب له الدنو من الإمام، لقوله: "ودنا من الإمام"، ولحديث سمرة: "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها". 4 رواه أبو داود.
وتكره الصلاة في المقصورة التي تحمى، نص عليه، "ورخص فيه أنس وغيره". وقال أحمد: ما أدري هل الصف الأول الذي يقطعه المنبر أو الذي يليه. و"يستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول من
__________
1 البخاري: الجمعة (877, 894, 919) , ومسلم: الجمعة (844) , والترمذي: الجمعة (492) , والنسائي: الجمعة (1376, 1405, 1407) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1088) , وأحمد (2/3, 2/9, 2/35, 2/37, 2/41, 2/42, 2/47, 2/48, 2/51, 2/53, 2/55, 2/57, 2/64, 2/75, 2/77, 2/78, 2/101, 2/105, 2/115, 2/120, 2/141, 2/145, 2/149) , ومالك: النداء للصلاة (231) , والدارمي: الصلاة (1536) .
2 البخاري: الأذان (851) .
3 مسلم: السلام (2179) , وأبو داود: الأدب (4853) , وابن ماجة: الأدب (3717) , وأحمد (2/263, 2/283, 2/342, 2/389, 2/446, 2/447, 2/483, 2/527, 2/537) , والدارمي: الاستئذان (2654) .
4 أبو داود: الصلاة (1108) , وأحمد (5/11) .

(1/195)


موضعه"، لحديث ابن عمر. ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، لحديث أوس، وفيه: "أكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". 1 رواه أبو داود.
ويستحب قراءة الكهف في يومها، والإكثار من الدعاء ليوافق ساعة الإجابة.
وإن صلوا الجمعة في الساعة السادسة قبل الزوال أجزأتهم، "روي عن ابن مسعود وغيره أنهم صلوها قبل الزوال". وعنه: تجوز في وقت صلاة العيد، وقال أكثر أهل العلم: وقتها وقت الظهر، إلا أنه يستحب تعجيلها. ولنا على جوازها في السادسة: قول جابر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي - يعني: 2 الجمعة - ثم نذهب إلى جمالنا، فنريحها حين تزول الشمس". رواه مسلم. وعن سهل قال: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". متفق عليه. قال ابن قتيبة: لا يسمى غداء ولا قائلة إلا بعد الزوال، وأما في أول النهار فلا تجوز، كما ذكر أكثر أهل العلم؛ والأولى أن لا يصلي إلا بعد الزوال، كصلاته صلى الله عليه وسلم في غالب أوقاته.
فإن اتفق عيد ويوم الجمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، وهو قول النخعي والشعبي والأوزاعي. وقال أكثر الفقهاء: تجب الجمعة لعموم الأخبار، وعموم الآية. ولنا: حديث زيد بن أرقم، وما احتجوا به مخصوص بما روينا، وأما الإمام فلا تسقط عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنا مجمعون". وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد، فعنه: يجزئه، ولا يلزمه شيء إلى العصر، لفعل ابن الزبير. قال الخطابي: هذا لا يحمل إلا على قول من يجوز تقديم الجمعة قبل الزوال.
وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ، في غير أهل المصر. قال أحمد: أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها، سمعوا النداء أو لم يسمعوا؛ وهذا قول مالك.
__________
1 النسائي: الجمعة (1374) , وأبو داود: الصلاة (1047, 1531) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1636) , وأحمد (4/8) , والدارمي: الصلاة (1572) .
2 هكذا في الأصل وفي الطبعة السلفية: (معنا) ، وفي المخطوطة: (يوم) ، وكلها ظاهرة المعنى.

(1/196)


وعن عبد الله بن عمر: "الجمعة على من سمع النداء"، وهو قول الشافعي. وعن ابن عمر وغيره: "الجمعة على من أواه الليل إلى أهله". وقال أصحاب الرأي: لا جمعة على من كان خارج المصر، "لأن عثمان صلى العيد يوم الجمعة، وأرخص لأهل العوالي". ولنا: الآية، وإرخاص عثمان لاجتماع العيدين، كما قررناه.
ومن تجب عليه الجمعة لا يجوز له السفر بعد دخول وقتها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز، لقول عمر: "الجمعة لا تحبس عن سفر". و"روي عن ابنه وعائشة ما يدل على الكراهة"، فيعارض قوله. وإن سافر قبل الوقت، فعنه: يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم. وذكر أبو الخطاب أن الوقت الذي يمنع ويختلف فيما قبل زوال الشمس.
قال أحمد: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين، وإن شاء صلى أربعاً، وفي رواية: "إن شاء ستاً"، لحديث أبي هريرة في الأربع، رواه مسلم، وحديث ابن عمر في الركعتين، متفق عليه. وقال أحمد: "لو صلى مع الإمام ثم لم يصل شيئاً حتى العصر جاز"، قد فعله عمران بن حصين.
و"يستحب لمن أراد الركوع يوم الجمعة، أن يفصل بينها وبينه بكلام أو قيام من مكانه"، لحديث معاوية، رواه مسلم. قال أحمد: إذا قرؤوا الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب إلي أن يسمع، إذا كان فتحاً من فتوح المسلمين، أو فيه شيء من أمور المسلمين. وإن كان إنما فيه ذكرهم فلا يستمع. وقال: الذين يصلون في الطرقات إذا لم يكن بينهم باب مغلق، فلا بأس. وسئل أحمد: عن الرجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس.
و"يستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة بـ"الم السجدة" و"هل أتى [على الإنسان] ""، لحديث أبي هريرة وابن عباس، رواهما مسلم. قال أحمد:

(1/197)


ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: مستوطناً ببناء، واختار الشيخ وجوبها على المستوطنين بعمود أو خيام، لكن اشترط في موضع آخر أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية.
ولا تجب على مسافر، وقال الشيخ: يحتمل أن تلزمه تبعاً للمقيمين.
واختار انعقادها بثلاثة، وأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لا شرط؛ وأوجبها مع الدعاء الواجب، وتقديمها عليه لوجوب تقديمها على النفس. واختار وجوب الشهادتين في الخطبة، وأن الخطبة لا يكفي فيها ذم الدنيا وذكر الموت، لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفاً.
يقرأ في فجرها بـ" (الم) السجدة"، و"هل أتى"، قال الشيخ: لتضمنهما ابتداء خلق السموات والأرض وابتداء خلق الإنسان، إلى أن يدخل الجنة أو النار، قال: ويكره تحريه قراءة سجدة غيرها.
قال: والصلاة قبل الجمعة حسنة وليست سنة راتب، فمن فعل أو ترك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وحينئذ فقد يكون الترك أفضل، إذا اعتقد الجهلة أنها سنة راتبة.
وأوجب الغسل للجمعة على من به عرَق أو ريح يتأذى به الناسُ. واختار تحريم التخطي إذا لم يجد فرجة، قال: وليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة، لا يوم الجمعة ولا غيره. قال أحمد: أكثر الأحاديث أن ساعة الإجابة بعد العصر، وإن وجد مصلى مفروشاً، فقال الشيخ: له رفعه، في أظهر قولي العلماء، قال: وليس له فرشه.

(1/198)


باب صلاة العيدين
الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} ، 1 المشهور: أن المراد: صلاة العيد، وهي فرض كفاية، وقيل: فرض عين. وقال مالك: سنّة مؤكدة، لقوله في الخمس: "هل عليَّ غيرها؟ قال: لا". 2 ولنا على وجوبها في الجملة: مداومته صلى الله عليه وسلم، ولأنها من الأعلام الظاهرة، والحديث لا حجة لهم فيه، لأن الأعراب لا جمعة عليهم، فالعيد أولى، وأيضاً وجوب الخمس وتكررها لا ينفي وجوب غيرها نادراً، كصلاة الجنازة والمنذورة.
ويستحب إظهار التكبير في ليلتي العيد في المساجد والمنازل والطرق، للمقيم والمسافر، قال أحمد: "كان ابن عمر يكبّر في العيدين جميعاً"، وأوجبه داود في الفطر، لظاهر الآية، وليس فيها أمر، وإنما أخبر عن إرادته تعالى.
ويستحب التكبير في أيام العشر كلها، قال البخاري: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبّران، ويكبّر الناس بتكبيرهما". ويستحب الاجتهاد في عمل الخير، لحديث ابن عباس.
ولا خلاف أن التكبير مشروع في عيد النحر، واختلفوا في مدته. فذهب أحمد إلى "أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق"، لحديث جابر. وقيل
__________
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578) .

(1/199)


لأحمد: بأي حديث تذهب إلى ذلك؟ قال: بإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، والمشروع التكبير عقيب الفرائض في الجماعات. قيل لأحمد: تذهب إلى فعل ابن عمر "أنه لا يكبر إذا صلى وحده"؟ قال: نعم. وقال مالك: لا يكبر عقيب النوافل، ويكبر عقيب الفرائض كلها. وقال الشافعي: يكبر عقيب الفريضة والنافلة، والمسافر كالمقيم، وكذا النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز. والمسبوق يكبر إذا فرغ، في قول الأكثر، وقال الحسن: يكبر ثم يقضي.
ويستحب أن يغتسل للعيد، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر، ويتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد. قال مالك: أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد. وقال أحمد: طاووس يأمر بزينة الثياب، وعطاء قال: هو يوم تخشع واستحسِنُهما جميعاً.
ويستحب للمعتكف الخروج في ثياب اعتكافه، والسنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي، لا نعلم فيه خلافاً. "ويفطر على التمر ويأكلهن وتراً"، لحديث أنس، رواه البخاري. قال أحمد: والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح، وإذا لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل.
ويصلي العيد في المصلى، وحكي عن الشافعي إذا كان المسجد واسعاً فهو أولى لأنه خير البقاع. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك الأفضل مع قربه، ويتكلف الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل. والنفل في البيت أفضل مع شرف المسجد. و"يستخلف من يصلي بضعفة الناس كما فعل علي". وإن كان عذر من مطر أو غيره يمنع الخروج، صلوا في المسجد، لحديث أبي هريرة، رواه أبو داود.

(1/200)


ويستحب التبكير بعد صلاة الصبح إلا الإمام، فيتأخر إلى وقت الصلاة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، قال أبو سعيد: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به: الصلاة". 1 رواه مسلم. ويخرج ماشياً وعليه السكينة والوقار، قال علي: "إن من السنة أن يأتي العيد ماشياً"، حسنه الترمذي. وإن ركب لعذر فلا بأس. ويكبّر في الطريق ويرفع صوته بالتكبير، قال أحمد: يكبّر جهراً إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى. وقال أبو حنيفة: لا يكبّر مع الفطر، لأن "ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر فقال: أمجانين الناس؟! ". ولنا: أنه فعله ناس من الصحابة، وأما ابن عباس فكان يقول: "يكبّرون مع الإمام ولا يكبرون وحدهم"، وهو خلاف مذهبه.
ولا بأس بخروج النساء إلى المصلى، وقال ابن حامد: يستحب. "وكان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله في العيدين". قالت أم عطية: "كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض فيكنّ خلف الناس، فيكبرون بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته". رواه البخاري. ويخرجن تفلات ولا يخالطن الرجال.
ووقتها: من ارتفاع الشمس إلى أن يقوم قائم الظهيرة، وقال أصحاب الشافعي: أول وقتها: إذا طلعت الشمس، لحديث ابن بسر، وفيه: "إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين صلاة التسبيح". رواه أبو داود. ولنا: أنه وقت نهي عن الصلاة فيه، ولأنه صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يصلوا حتى ارتفعت، بدليل الإجماع على أنه أفضل، ولا يفعل إلا الأفضل. ولو كان لها وقت قبل ذلك لكان تقييده بطلوع الشمس تحكماً، ولعل عبد الله بن بسر أنكر إبطاء الإمام عن وقتها المجمع عليه.
__________
1 البخاري: الجمعة (956) , ومسلم: صلاة العيدين (889) , وأحمد (3/56) .

(1/201)


ويسن تقديم الأضحى ليتسع وقت التضحية، وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر، ولا أعلم فيه خلافاً.
بلا أذان ولا إقامة، لا نعلم فيه خلافاً يعتدّ به. وقال الشافعي: ينادي لها: "الصلاة جامعة"، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. ولا نعلم خلافاً أنه يقرأ "الفاتحة" وسورة في ركعة، وأنه يسن الجهر. و"يستحب أن يقرأ في الأولى بـ"سبح" وفي الثانية بـ"الغاشية""، نص عليه، لحديث النعمان بن بشير، رواه مسلم. وقال الشافعي: "بـ"ق" و"اقتربت""، لحديث أبي واقد، رواه مسلم.
ويكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً. وقال الشافعي: "يكبر في الأولى سبعاً سوى تكبيرة الافتتاح"، لحديث عائشة. وقال الثوري: "في الأولى والثانية ثلاثاً"، لحديث أبي موسى. ولنا: حديث كثير وعبد الله بن عمر وعائشة. قال ابن عبد البر: روي عنه صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة حسان: "أنه كبّر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً"، 1 ولم يرو عنه من وجه قوي خلافه. وتكون القراءة بعد التكبير في الركعتين، نص عليه. وقيل: يكبّر في الثانية بعد القراءة، لحديث أبي موسى: "كان رسول الله يكبر تكبيرة على الجنازة، ويوالي بين القراءتين"، رواه أبو داود. قال الخطابي: ضعيف، وليس في رواية أبي داود أنه والى بين القراءتين، ثم يحمل على قراءة "الفاتحة" والسورة.
ويرفع يديه في حال تكبيره، وقال مالك: لا يرفعهما في ما عدا تكبيرة الإحرام. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبيرة". 2 قال أحمد: أما أنا، أرى أن الحديث يدخل فيه هذا كله.
ويستفتح في أولها، ويحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين. وعنه: أن الاستفتاح بعد التكبير، لئلا يفصل بينه وبين الاستعاذة. وقال مالك: يكبر متوالياً، لأنه لو كان بينهما ذكر مشروع
__________
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1277) , والدارمي: الصلاة (1606) .
2 أبو داود: الصلاة (725) .

(1/202)


لنقل. ولنا: ما نقل عن عبد الله وأبي موسى وحذيفة، رواه الأثرم. والتكبيرات وما بينها سنة، لا تبطل الصلاة بتركه، لا أعلم فيه خلافاً، فإن نسيه حتى شرع في القراءة لم يعد إليه، وقال مالك: يعود إليه.
والخطبة بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً، إلا عن بني أمية؛ ولا يعتد بخلافهم، لأنه أُنكر وعُدّ بدعة. ويجلس عقيب صعوده المنبر، وقيل: لا، لأنها يوم الجمعة للأذان، ولا أذان هنا.
والخطبتان سنة، لا يجب حضورهما، لقوله: "من أحب أن يذهب، فليذهبْ". 1 قال أبو داود: مرسل. وعن الحسن وابن سيرين أنهما كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب. وقال إبراهيم: يخطب بقدر رجوع النساء إلى بيوتهن. وهذا يدل على أنه لا يستحب لهن الجلوس، وموعظته صلى الله عليه وسلم لهن تدل على جلوسهن؛ والسنة أولى بالاتباع. وتكره الصلاة قبلها وبعدها في موضعها، قال أحمد: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها. وأهل البصرة يتطوعون قبلها وبعدها. وأهل الكوفة لا يتطوعون قبلها ويتطوعون بعدها.
وقال الشافعي: يكره التطوع للإمام دون المأموم. قال الأثرم: قلتُ لأحمد: قال سليمان بن حرب: إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التطوع لأنه كان إماماً، قال أحمد: فالذين رووا عنه لم يتطوعوا. ثم قال: ابن عمر وابن عباس روياه، وعملا به.
وإذا غدا من طريق رجع من غيره لفعله صلى الله عليه وسلم.
ومن فاتته، صلى أربعاً، قال أحمد: يقوي ذلك حديث علي: "أنه أمر رجلاً يصلي بضعفة الناس أربعاً ولا يخطب"، وإن شاء كصلاة العيد، لما روي عن أنس: "أنه إذا لم يشهدها مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما". وإذا لم يعلم بالعيد إلا بعد
__________
1 النسائي: صلاة العيدين (1571) , وأبو داود: الصلاة (1155) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1290) .

(1/203)


الزوال، خرج من الغد فصلى بهم. وعن أبي حنيفة: لا يقضي. وقال الشافعي إن علم بعد غروب الشمس خرج، فإن علم بعد الزوال لم يصل. ولنا: حديث أبي عمير: "أن ركباً جاؤوا فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم". رواه أبو داود، وقال الخطابي: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب. ويشترط الاستيطان "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها في سفر".
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
هي فرض كفاية، وعنه: فرض عين، اختاره الشيخ، وقال: قد يقال بوجوبها على النساء. وقال: يسن التزين للإمام الأعظم، وإن خرج من المعتكف. قال: ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته. واختار الشيخ افتتاح خطبة العيد بالحمد، واختار أن التكبير في الأضحى آكد، ونصره بأدلة كثيرة. ولم ير التعريف لغير من بعرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر وفاعله ضال.

(1/204)


باب صلاة الكسوف
لا نعلم خلافاً في مشروعيتها لكسوف الشمس، والأكثر على مشروعيتها لكسوف القمر. وقال مالك: ليس لكسوف القمر سنة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان ... إلخ" 1.
وتسن جماعة وفرادى، وقال الثوري: إن صلى الإمام صلّوا معه، وإلا فلا. ولنا: قوله: "فإذا رأيتموهما فصلّوا". 2 وتسن في الحضر والسفر، بإذن الإمام وبغير إذنه. وقال أبو بكر: هي كالعيد، فيها روايتان. ولنا: قوله: " فإذا رأيتموهما فصلّوا". 3 و"يسن أن ينادى لها: "الصلاة جامعة""، لحديث ابن عمر، متفق عليه.
وحكي عن مالك والشافعي أنهما قالا: لا يطيل السجود، وقالا: لا يجهر في كسوف الشمس. ولنا: أن في حديث عائشة: "ثم سجد سجوداً طويلاً"، 4 وترك ذكره في الحديث لا يمنع مشروعيته إذا ثبت. وعن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف". متفق عليه. وقال أبو حنيفة: يصلي ركعتين كصلاة التطوع. وقال الشافعي: يخطب لها كخطبتي الجمعة، لما في حديث عائشة: "فخطب الناس".
__________
1 البخاري: الجمعة (1040) , والنسائي: الكسوف (1459, 1463, 1502) , وأحمد (5/37) .
2 البخاري: الجمعة (1040) , والنسائي: الكسوف (1463, 1491, 1502) , وأحمد (5/37) .
3 البخاري: الجمعة (1040) , والنسائي: الكسوف (1463, 1491, 1502) , وأحمد (5/37) .
4 البخاري: الجمعة (1047) , ومسلم: الكسوف (901) , والترمذي: الجمعة (561) , والنسائي: الكسوف (1470, 1472, 1474, 1475, 1476) , وأبو داود: الصلاة (1177, 1180) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1263) , وأحمد (6/32, 6/44, 6/53, 6/76, 6/81, 6/87, 6/98, 6/158, 6/164, 6/168, 6/238) , ومالك: النداء للصلاة (444, 446) , والدارمي: الصلاة (1527) .

(1/205)


باب صلاة الاستسقاء
قال أبو القاسم: إذا أجدبت الأرض واحتبس المطر، خرجوا مع الإمام، فكانوا في خروجهم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه إذا خرج للاستسقاء خرج متبذلاً متخشعاً متذللاً متضرعاً".
ولا يستحب إخراج البهائم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله. ولا نعلم خلافاً في أنها ركعتان. واختلفت الرواية هل يكبر بتكبير العيد أم لا؟ قال ابن المنذر: ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب"، وبه قال عوام أهل العلم، إلا أبا حنيفة، وخالفه صاحباه فوافقا سائر العلماء؛ والسنة يستغنى بها عن كل قول.
ويسن أن يجهر بالقراءة، لحديث عبد الله بن زيد، متفق عليه. ولا يسن لها أذان ولا إقامة، لا نعلم فيه خلافاً.
ولا وقت لها، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بلا خلاف؛ والأولى وقت صلاة العيد، لقول عائشة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس". 1 رواه أبو داود.
والمشهور من الروايات: أن لها خطبة كالعيد، والصحيح بعد الصلاة، وبه قال مالك والشافعي. قال ابن عبد البر: عليه جماعة الفقهاء، لقول أبي هريرة: "صلى ركعتين ثم خطبنا". والثانية: "يخطب قبلها"، روي عن ابن عمر وابن الزبير، وإليه ذهب الليث وابن المنذر، لحديث عبد الله بن زيد وفيه: "ثم صلى ركعتين". والثالثة: مخير، لورود الأخبار بكلا الأمرين. والرابعة: لا يخطب، بل يدعو ويتضرع، لقول ابن عباس: "لم يخطب كخطبتكم هذه لكنه لم يزل في الدعاء والتضرع
__________
1 أبو داود: الصلاة (1173) .

(1/206)


والتكبير". والأوْلى: أن يخطب بعدها، فإن أغيثوا لم يحتاجوا إلى الصلاة في المطر، وقول ابن عباس نفي للصفة، لا لأصل الخطبة.
ويستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة، لما روي عبد الله بن زيد: "أنه صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فحوّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو" 1.
ويستحب أن يحوّل رداءه في حال استقبال القبلة، للإمام والمأموم، في قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يسن؛ والسنة أحق أن تتبع. وحكي عن ابن المسيب أن تحويل الرداء مختص بالإمام؛ وصفته: أن يجعل ما على الأيمن على اليسرى وبالعكس. وكان الشافعي يقول به، ثم رجع فقال: يجعل أعلاه أسفله، "لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يفعله، فلما ثقل عليه جعل العطاف الذي على الأيسر على عاتقه الأيمن وعكسه". ولنا: فعله صلى الله عليه وسلم، وتلك إن ثبتت فهي ظن من الراوي، لا يترك لها فعله.
و"يستحب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء"، لحديث أنس، رواه البخاري، ويدعو ويدعون ويكثرون الاستغفار. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى ميمون بن مهران: قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا، وأمرتهم بالصدقة والصلاة، قال الله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، 2 وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية. 3 ثم ذكر دعوة نوح ويونس وموسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} . 4 وهل من شرطها إذن الإمام؟ على روايتين: إحداهما:
__________
1 البخاري: الجمعة (1025) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (894) .
2 سورة آية: 14-15.
3 سورة الأعراف آية: 23.
4 سورة القصص آية: 16.

(1/207)


لا يستحبُّ إلا بخروجه، أو رجل من قِبله. قال أبو بكر: إذا خرجوا من غير إذنه دعوا وانصرفوا. وعنه: يصلون لأنفسهم، ويخطب أحدهم. ووجه الأولى: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها"، وإنما فعلها على صفة فلا نتعداها. فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث، وبه قال مالك والشافعي. وقال إسحاق: لا يخرجون إلا مرة، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلا مرة". ولنا: أنه سبحانه يحب الملحين، وكونه لم يخرج ثانياً فلاستغنائه بالإجابة.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وجعل الشيخ مسألة التوسل به صلى الله عليه وسلم كمسألة اليمين به، قال: والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وبدعائه وشفاعته ونحوه مما هو فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه، مشروع إجماعاً؛ وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} . 1 وقال الإمام أحمد وغيره من العلماء، في قوله: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق": 2 الاستعاذة لا تكون بمخلوق.
ويرفع يديه، بلا نزاع، وظهورهما نحو السماء، واختار الشيخ بطونهما وقال: صار كفهما نحو السماء لشدة الرفع لا قصداً منه، وإنما كان يوجه بطونهما مع القصد. ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، وقيل: بعدها.
__________
1 سورة المائدة آية: 35.
2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجة: الطب (3547) , وأحمد (6/377, 6/378, 6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) .

(1/208)