مختصر
الإنصاف والشرح الكبير كتاب المناسك
تجب العمرة على من يجب عليه الحج، وعنه: ليست بواجبة، وبه
قال مالك، "لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنها: أواجبة هي؟
قال: لا". صححه الترمذي، وقال الشافعي: ضعيف، لا تقوم
بمثله الحجة.
وليس فيها شيء ثابت بأنها تطوع، قال ابن عبد البر: روي ذلك
بأسانيد لا تصح. وليس على أهل مكة عمرة، نص عليه. وقال:
"كان ابن عباس يراها واجبة ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم
عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت"، ووجهه: أن ركنها الطواف،
وهم يفعلونه.
ولو حج الصبي والعبد صح، ولم يجزهما عن حجة الإسلام، حكاه
الترمذي إجماعاً، فإن بلغ الصبي وأعتق العبد بعرفة أو
قبلها غير محرمين، فأحرما ووقفا وأتما المناسك، أجزأ بغير
خلاف، وإن كان وهما محرمان أجزأ. وقال مالك: لا يجزئ،
اختاره ابن المنذر. قال أحمد: قال ابن عباس: "إذا أعتق
العبد بعرفة، أجزأت عنه حجته، فإن أعتق بجمع لم تجزئ عنه".
وهؤلاء يقولون: لا يجزئ، ومالك يقوله أيضاً؛ وكيف لا
يجزئه؟ وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاماً، وما أعلم
أحداً قال: لا يجزئه، إلا هؤلاء.
والصبي إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، وإن لم يكن مميزاً
أحرم عنه، وبه قال مالك والشافعي، ومعناه: أن يعقد له
الإحرام؛ فيصح للصبي دون الولي، كالنكاح. فإن أحرمت عنه
أمه صح، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولك أجر"، ولا يضاف
إليها إلا لكونه
(1/269)
تبعاً لها. وما عجز عنه، فعَله الولي عنه،
لقول جابر: "فأحرمنا عن الصبيان"، وفي لفظ: "فلبينا عن
الصبيان ورمينا عنهم". قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه:
يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر، "كان ابن عمر يفعله".
وأما الطواف، فإن أمكنه المشي وإلا طيف به محمولاً، وتعتبر
النية من الطائف. ويجرد كما يجرد الكبير، قال عطاء: يفعل
به كما يفعل الكبير، ويشهد المناسك، إلا أنه لا يصلى عنه.
وليس للرجل منع امرأته من حج الفرض، ولا تحليلها إن أحرمت،
بغير خلاف، حكاه ابن المنذر إجماعاً.
و (الاستطاعة) : ملك الزاد والراحلة، قال ابن المنذر:
العمل عليه عند أهل العلم. وقال عكرمة: هي الصحة. وقال
الضحاك: إن كان شاباً فليؤجر نفسه بمأكله وعقبه. وعن مالك:
إن كان يمكنه المشي وعادته السؤال، لزمه الحج. فإن تكلفه
من لا يلزمه من غير ضرر يلحق بغيره، مثل من يمشي ويتكسب
بصناعة ولا يسأل الناس، استحب له، لقوله تعالى: {يَأْتُوكَ
رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ، 1 فقدم الرجال.
ويجب الحج على الفور، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يجب
الحج وجوباً موسعاً، وله تأخيره، "لأنه صلى الله عليه وسلم
أمر أبا بكر، وتخلف هو وأكثر المسلمين". فإن عجز عنه لكبر
أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من
بلده. وقال مالك: لا حج عليه إلا أن يستطع بنفسه، ولا أرى
له ذلك. ويجوز أن تنوب المرأة عن الرجل، وكرهه الحسن بن
صالح. وقال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة، فـ"إنه
صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أن تحج عن أبيها"، وعليه
يعتمد من أجاز حج المرأة عن الرجل.
__________
1 سورة الحج آية: 27.
(1/270)
ولا يجوز الحج والعمرة عن الحي إلا بإذنه.
ومن مات وعليه حج، أخرج عنه من ماله ما يحج به عنه، وبه
قال الشافعي. وقال مالك: يسقط بالموت، فإن أوصى بها فهي من
الثلث. ويستحب أن يحج عن أبويه إذا كانا عاجزين أو ميتين،
"لأمره به صلى الله عليه وسلم أبا رزين والمرأة".
ويشترط لوجوبه على المرأة وجود محرم، وهذا قول إسحاق وابن
المنذر. وقال مالك والشافعي: ليس المحرم شرطاً، قال ابن
المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كل واحد شرطاً
لا حجة معه عليه، واحتجوا بحديث الزاد والراحلة، وبحديث
عدي: "يوشك أن تخرج الظعينة تؤم البيت. .. إلخ"؛ والأول
محمول على الرجل بدليل أنهم شرطوا معها غيرها، فجعله
المحرم الذي بينه صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا أولى،
وكذلك اشترطوا قضاء الدين ونفقة العيال وغير ذلك، وهو غير
مذكور في الحديث، واشترط كل واحد شرطاً في محل النزاع من
عند نفسه، لا من كتاب ولا من سنة. وحديث عدي يدل على وجود
السفر لا على جوازه، وكذلك لم يجز في غير الحج المفروض،
ولم يذكر خروج غيرها معها.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
الصحيح من المذهب: أن العمرة تجب، واختار الشيخ أنها سنة،
وعنه: على الأفقي، قال الشيخ: عليها نصوص. وتلزم طاعة
الوالدين في غير معصية، قال الشيخ: هذا مما فيه نفع لهما
ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب عليه وإلا فلا.
قال ابن الجوزي: من أمكنه المشي والتكسب بالصنعة فعليه
الحج، واختار الشيخ عبد الحليم ولد المجد ووالد الشيخ تقي
الدين بالقدرة على التكسب، وقال: هذا ظاهر على أصلنا، فإن
عندنا: يجبر المفلس
(1/271)
على الكسب لا على المسألة، ولو قيل بوجوب
الحج عليه إذا كان قادراً على الكسب وإن بعدت المسافة، كان
متوجهاً على أصلنا.
واختار الشيخ وجوب الكف عن طريق يستوي فيه احتمال السلامة
والهلاك، وقال: فإن لم يكف، فيكون أعان على نفسه، فلا يكون
شهيداً. وقال: الخفارة تجوز عند الحاجة إليها في الدفع عن
المخفر، ولا يجوز عند عدمها كما يأخذه السلطان من الرعايا.
واختار أن كل امرأة آمنة تحج مع عدم محرم، وقوله: بنسب أو
سبب مباح. واختار الشيخ يكون محرماً بوطء الشبهة، وذكره
قول أكثر العلماء، قال أحمد: لا يعجبني أن يأخذ دراهم ويحج
عن غيره.
(1/272)
باب المواقيت
للحج ميقاتان: ميقات زمان، وميقات مكان.
أما المكان فالخمسة المذكورة، وأجمعوا على أربعة منها،
واتفق أهل النقل على صحة الحديث فيها. وذات عرق ميقات أهل
المشرق في قول الأكثر؛ قال ابن عبد البر أجمعوا على أن
إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات. روي عن أنس:
"أنه كان يحرم من العقيق"، واستحسنه الشافعي وابن المنذر.
وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة. وعن ابن عباس: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المشرق العقيق". 1
حسنه الترمذي. قال ابن عبد البر: هو أحوط من ذات عرق، وذات
عرق ميقاتهم بالإجماع.
واختلفوا فيمن وقتها، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه
وسلم وقّتها وكذا في السنن من حديث عائشة. وقال آخرون:
"إنما وقّتها عمر"، رواه البخاري. ويجوز أن عمر لم يعلم
بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم فوقّتها برأيه فأصاب. ومن
مر على ميقات بلد صار ميقاتاً له. سئل أحمد: عن الشامي يمر
بالمدينة؟ فقال: يهلّ من ذي الحليفة. قيل: فإن بعض الناس
يقول: يهلّ من ميقاته من الجحفة. قال: سبحان الله. أليس
يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هن لهن ومن
أتى عليهن من غير أهلهنَّ "؟ 2 فإن مر من غير طريق ذي
الحليفة، فميقاته الجحفة، مدنياً كان أو شامياً، لحديث:
"يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة"، 3 والطريق الآخر من
الجحفة. رواه مسلم.
__________
1 الترمذي: الحج (832) , وأبو داود: المناسك (1740) .
2 البخاري: الحج (1524) , ومسلم: الحج (1181) , والنسائي:
مناسك الحج (2654, 2658) .
3 البخاري: العلم (133) , والترمذي: الحج (831) ,
والنسائي: مناسك الحج (2651, 2652, 2655) , وابن ماجة:
المناسك (2914) , وأحمد (2/48) , ومالك: الحج (732) .
(1/273)
ومَن منزله دون الميقات، فمِن موضعه، هذا
قول الأكثر. وعن مجاهد: يهلّ من مكة، والصحيح الأول، فإن
في حديث ابن عباس: "فمن كان دونهن، فمهلّه من أهله". 1 وكل
ميقات فخذوه بمنزلته. ثم إن كان منزله في الحل فإحرامه
منه، وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل، ليجمع في
النسك بين الحل والحرم. وأما الحج فينبغي أن يجوز له
الإحرام من أي الحرم كالمكي، لأن أفعال العمرة كلها في
الحرم، بخلاف الحج؛ قال جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح". 2 فلا فرق بين
قاطني مكة وغيرهم. ومن لم يكن طريقه على ميقات، فإذا جاء
أقرب المواقيت إليه أحرم، لقول عمر: "انظروا حذوها من
طريقكم، فوقت لهم ذات عرق".
فإن تجاوز الميقات وهو لا يريد الحرم، لم يلزمه الإحرام
بغير خلاف. فإن بدا له الإحرام أحرم من موضعه، وبه قال
مالك والشافعي. وحكى ابن المنذر عن أحمد: أنه يرجع إلى
الميقات فيحرم، وبه قال إسحاق؛ والأول أصح، وكلام أحمد
يحمل على من تجاوزه وهو يجب عليه الإحرام، لقوله صلى الله
عليه وسلم: "ممن كان يريد الحج والعمرة" 3.
فإن أراد أن يدخل مكة لقتال مباح، أو لحاجة كالحطاب وناقل
الميرة، فلا إحرام عليهم، "لأنه صلى الله عليه وسلم دخل
يوم الفتح وهو حلال، وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه". وقال
أبو حنيفة: لا يجوز لأحد أن يدخل الحرم بغير إحرام، إلا من
كان دون الميقات.
ومن لا يجب عليه الحج، كالعبد والصبي والكافر إذا أعتق أو
بلغ أو أسلم، بعد تجاوز الميقات، فإنهم يحرمون من موضعهم،
ولا دم عليهم؛ وبه قال مالك وإسحاق. والمكلف الذي يدخل
لغير قتال أو حاجة مكررة، لا يجوز له تجاوز الميقات غير
محرم؛ وعنه: ما يدل على أنه لا يجب، لما روي "أن ابن عمر
دخلها بغير
__________
1 البخاري: الحج (1526) , ومسلم: الحج (1181) , وأحمد
(1/332) .
2 مسلم: الحج (1214) .
3 البخاري: الحج (1529) , ومسلم: الحج (1181) , وأحمد
(1/249, 1/252, 1/332, 1/339) , والدارمي: المناسك (1792)
.
(1/274)
إحرام"، ولأن الوجوب من الشارع، ولم يرد به
إيجاب. ومن جاوز الميقات يريد النسك غير محرم، رجع إلى
الميقات فأحرم منه، فإن أحرم من موضعه فعليه دم؛ وعن عطاء:
لا شيء عليه. ولنا: قوله: "من ترك نسكاً فعليه دم". ويكره
الإحرام قبل الميقات. وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من
بلده، وكان علقمة والأسود يحرمان من بيوتهما. ولنا: "أنه
صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون
إلا الأفضل". قال البخاري: "كره عثمان أن يحرم من خراسان
أو كرمان". قال عطاء: انظروا إلى هذه المواقيت التي
وُقِّتت لكم، فخذوا برخص الله فيها، فإنه عسى أن يصيب
أحدكم ذنباً في إحرامه فيكون أعظم لوزره".
ويكره الإحرام بالحج قبل أشهره بغير خلاف علمناه.
فإن أحرم بالحج قبل ميقات المكان صح، بغير خلاف علمناه،
وإن أحرم قبل أشهره، صح أيضاً. وقال عطاء والشافعي: يجعله
عمرة، لقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، 1 فقدر
وقت الحج وأشهر الحج. فإذا ثبت أنه وقته لم يصح تقديمه
عليه. وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة،
ويروى عن ابن عباس: "ذو الحجة كله منها". وقال الشافعي:
آخرها ليلة النحر، لقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ} ، 2 ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر. ولنا: قوله:
"يوم الحج الأكبر: يوم النحر"، 3 ولأن فيه ركن الحج وهو
طواف الزيارة، وفيه: الرمي والحلق ويوم النحر والسعي
والرجوع إلى منى.
__________
1 سورة البقرة آية: 197.
2 سورة البقرة آية: 197.
3 البخاري: الجزية (3177) , وأبو داود: المناسك (1946) .
(1/275)
باب الإحرام
يستحب الاغتسال له، وذكر ابن المنذر الإجماع على أنه غير
واجب، لأنه لم يأمر به إلا حائضاً أو نفساء ولو وجب لأمر
به غيرهما. ويستحب للمرأة كالرجل ولو كانت حائضاً أو
نفساء، لـ"أمره أسماء بنت عميس بذلك".
ويستحب التنظف بإزلة الشعر وقطع الرائحة، لأنه أمر يسن له
الاغتسال، فسن له هذا كالجمعة. ويستحب له التطيب في بدنه
خاصة، سواء بقي عليه كالمسك أو أثره كالعود. وكان عطاء
يكرهه، وهو قول مالك، واستدل بحديث صاحب الجبة. ولنا: حديث
عائشة، وحديث صاحب الجبة في بعض ألفاظه: "عليه جبة بها أثر
الخلوق". رواه مسلم، وفي بعضها: "ردع من زعفران"، وهو منهي
عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى، ولأنه في سنة ثمان،
وحديثنا في سنة عشر. قال ابن عبد البر: لا خلاف أن قصة
صاحب الجبة كانت في عام حنين بالجعرانة، وحديث عائشة سنة
عشر. فإن طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه
فلا يلبسه. فأما إن عرق بالطيب وذاب بالشمس فسال إلى موضع
آخر، فلا شيء عليه، لقول عائشة: "كنا نضمّد جباهنا بالمسك
عند الإحرام، فإذا عرقت أجفاننا سال على وجوهنا، فرآه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا". رواه أبو داود.
ويستحب أن يلبس ثوبين أبيضين نظيفين: إزاراً ورداءً، لقوله
صلى الله عليه وسلم: "وليحرمْ أحدكم في إزار ورداء
ونعلين"، 1 ولقوله: "خيار
__________
1 أحمد (2/34) .
(1/276)
ثيابكم البياض". 1 ويتجرد عن المخيط إن كان
رجلاً. ويصلي ركعتين ويحرم عقيبهما، وعنه: أنه عقيب
الصلاة. وإذا استوت به راحلته، وإذا بدأ بالسير سواء، لأن
الجميع مروي من طرق صحيحة، والأول أولى، لحديث سعيد بن
جبير عن ابن عباس، وفيه زيادة علم وبيان.
وينوي الإحرام بنسك معيّن، وقال الشافعي في أحد قوليه:
الإطلاق أولى، لقول طاووس: "خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم من المدينة لا يسمي حجاً ينتظر القضاء، فنزل عليه
القضاء بين الصفا والمروة". ولنا: أنه أمر أصحابه بالإحرام
بنسك معيّن، وأحرم بمعيّن، والذين معه في صحبته أعلم من
طاووس.
ولا ينعقد إلا بالنية وتكفي، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بها
حتى يضيف إليها التلبية أو سوق الهدي، لقوله صلى الله عليه
وسلم: " جاءني جبريل فقال: مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم
بالتلبية". 2 ولنا: أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب يكن
في أولها كالصيام، والمراد بالخبر الاستحباب، فإن منطوقه
رفع الصوت، ولا خلاف في عدم وجوبه؛ فعلى هذا، لو نطق بغير
ما نواه، مثل أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو
بالعكس، انعقد ما نواه، ذكره ابن المنذر إجماعاً.
والاشتراط مستحبٌّ، ويفيد شيئين:
أحدهما: إذا عاقه عذر أو عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه،
فله التحلل.
الثاني: أنه متى حل بذلك فلا شيء عليه، و"أنكر ابن عمر
الاشتراط"، وبه قال مالك. ولنا: قوله: "حجي واشترطي"، 3
ولا قول لأحد معه صلى الله عليه وسلم. وإن نواه لم يتلفظ،
احتمل أن لا يصح، لقوله في حديث ابن عباس: "قولي: محلّي من
الأرض حيث تحبسني". 4
__________
1 الترمذي: الجنائز (994) , وأبو داود: اللباس (4061) ,
وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1472) , وأحمد (1/247,
1/274, 1/328, 1/355, 1/363) .
2 الترمذي: الحج (829) , والنسائي: مناسك الحج (2753) ,
وأبو داود: المناسك (1814) , ومالك: الحج (744) ,
والدارمي: المناسك (1809) .
3 البخاري: النكاح (5089) , ومسلم: الحج (1207) ,
والنسائي: مناسك الحج (2768) , وأحمد (6/164, 6/202) .
4 مسلم: الحج (1208) , والترمذي: الحج (941) , والنسائي:
مناسك الحج (2766, 2767) , وأبو داود: المناسك (1776) ,
وابن ماجة: المناسك (2938) , وأحمد (1/337, 1/352) ,
والدارمي: المناسك (1811) .
(1/277)
ولا خلاف في جواز الإحرام بأي الأنساك
الثلاثة شاء، وقد دلَّ عليه قول عائشة: "فمنا من أهلَّ
بعمرة ومنا من أهلَّ بحج ومنا من أهلَّ بهما". وأفضلها:
"التمتع"، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وعنه:
"إن ساق الهدي فالقِران أفضل، لفعله صلى الله عليه وسلم".
وذهب الثوري إلى اختيار القِران، لقول أنس: "أهلَّ بهما
جميعاً". و"ذهب مالك إلى الإفراد"، روي عن عمر وعثمان، لما
"صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أفرد الحج". ولنا: "أنه
صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا أن يحلّوا
ويجعلوها عمرة"، 1 فنقلهم من الإفراد والقِران إلى المتعة،
ولم يختلف عنه: "أنه لما قدم مكة أمرهم أن يحلّوا، إلا من
ساق هدياً وثبت على إحرامه، وقال: لو استقبلت من أمري ما
استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"، 2 ولأن التمتع في
القران دون سائر الأنساك. وأما حجتهم بفعله صلى الله عليه
وسلم، فعنها أجوبة: أحدها: منع أن يكون محرماً بغير
التمتع، لأن رواة حديثهم رووا أنه تمتع، ومرة اختلفوا؛
والقضية واحدة. وأحاديثهم في القران أصحها: حديث أنس، و"قد
أنكره ابن عمر". وأكثر الروايات أنه كان متمتعاً، وإنما
منعه من الحل الهدي. وقول أبي ذر إنها خاصة بالصحابة يخالف
الكتاب والسّنة والإجماع. قال أحمد لما ذكر له: أفيقول
بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله.
فإن قيل: "نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية"، قلنا: قد أنكر
عليهم علماء الصحابة وخالفوهم، قال سعد: "فعلناها مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهذا يومئذ كافر بالعُرُش"،
والعرش بيوت مكة. وقال عمر: "والله إني لأنهاكم عنها،
وإنها لفي كتاب الله، وقد صنعها رسول الله"، ولا خلاف أن
من خالف الكتاب والسنة حقيق بأن لا يقبل نهيه. قيل لابن
عباس: إن فلاناً
__________
1 البخاري: الحج (1651) , وأبو داود: المناسك (1789) .
2 أبو داود: المناسك (1784) .
(1/278)
نهى عن المتعة، فقال: "انظروا في كتاب
الله، فإن وجدتموها فقد كذب على الله ورسوله، وإن لم
تجدوها فيه فقد صدق".
وصفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها،
ويحرم بالحج من مكة أو قريباً منها في عامه.
والإفراد: أن يحرم بالحج مفرداً. والقِران أن يحرم بهما
جميعا، ً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج. وإذا أدخل
الحج على العمرة قبل طوافها من غير خوف الفوات جاز، وكان
قارناً بغير خلاف، وأما بعد الطواف فلا يصير قارناً. وقال
مالك: يصير قارناً. ولنا: أنه قد شرع في التحلل منها، فلم
يجز كما بعد السعي، إلا أن يكون معه الهدي فله ذلك، لأنه
لا يتحلل حتى ينحر، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، 1 فلا
يتحلل بطوافه. ويتعين إدخال الحج على العمرة لئلا يفوته
الحج، فأما إدخال العمرة على الحج فلا يجوز، فإن فعل لم
يصر قارناً. وقال أبو حنيفة: يصح ويصير قارناً. ولنا: أنه
قول علي، رواه الأثرم، ولأن إدخالها لا يفيده إلا ما أفاده
العقد الأول فلم يصح. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على
أن من أهلَّ بعمرة من أهل الآفاق في أشهر الحج من الميقات،
وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها، فحج من عامه، أنه متمتع
وعليه الهدي إن وجد، وإلا فالصيام.
والدم الواجب: شاة أو سُبُع بدنة أو بقرة؛ فإن نحر بدنة أو
ذبح بقرة فقد زاد خيراً. وقال: لا يجزئ إلا بدنة، "لأنه
صلى الله عليه وسلم لما تمتع ساق بدنة"، وهذا ترك لظاهر
القرآن وإطراح للآثار الثابتة ولا حجة فيها، لأن
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
(1/279)
إهداء البدنة لا يمنع إجزاء ما دونها،
فـ"إنه صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة"، ولا خلاف أنه
ليس بواجب. وهم يقولون إنه كان مفرداً، فكيف يكون سوق
البدنة دليلاً لهم في التمتع.
ولا نعلم خلافاً أن من اعتمر في غير أشهر الحج وفرغ منها
قبل أشهره، أنه لا يكون متمتعاً، إلا قولين شاذّين: أحدهما
عن طاووس: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى تحج،
فأنت متمتع. والآخر عن الحسن أنه قال: "من اعتمر بعد النحر
فهي متعة". قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال بواحد من
هذين. فـ"أما إن أحرم بها في غير أشهره ثم حل منها في
أشهره، فإنه لا يكون متمتعاً"؛ نقل ذلك عن جابر، وبه قال
إسحاق. وقال طاووس: عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم.
وقال الثوري: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه. وقال مالك:
عمرته في الشهر الذي يحل فيه.
وإن اعتمر في أشهره ثم لم يحج ذلك العام، فليس بمتمتع، لا
نعلم فيه خلافاً، إلا قولاً شاذاً عن الحسن: من اعتمر في
أشهر الحج فهو متمتع، حج أو لم يحج. والجمهور على خلاف
هذا، لقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ} ، 1 وهذا يقتضي الموالاة بينهما.
وإن سافر بين الحج والعمرة سفراً يقصر فيه الصلاة، فليس
بمتمتع، وقال الشافعي: إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه.
وقال مالك: إن رجع إلى مصره أو أبعد منه، بطلت متعته، وإلا
فلا. وقال الحسن: هو متمتع وإن رجع إلى بلده، واختاره ابن
المنذر، لعموم قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ} 2. ولنا: ما روي عن عمر أنه قال: "إذا
اعتمر في أشهر الحج ثم أقام، فهو متمتع. فإن خرج ورجع،
فليس بمتمتع"، ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزم
الإحرام منه،
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
2 سورة البقرة آية: 196.
(1/280)
فإذا كان بعيدا فقد أنشأ سفراً بعيداً لحجه
فلم يترفه بترك أحد السفرين، فلم يلزمه دم. والآية تناولت
المتمتع، وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر.
فإن لم يحل من إحرام العمرة حتى أدخل عليها الحج، فإنه
يصير قارناً ولا يلزمه دم المتعة، لكن عليه دم القِران.
فأما قول عروة: "لم يكن في ذلك هدي"، فإنه يحتمل أنه أراد
هدي المتعة، "لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه بقرة"؛
ولا خلاف أن دم المتعة لا يجب على حاضري الحرم، لقوله
تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، 1 والمعنى أن ميقاتهم مكة، فلا
يحصل لهم الترفه بترك أحد السفرين، ولأنه أحرم من ميقات
أشبه المفرد، وهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة القصر،
وبه قال الشافعي. وقال مالك: هم أهل مكة. وقال مجاهد: هم
أهل الحرم.
فإن دخل الآفاقي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد
تمتعه، فعليه دم المتعة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل
من نحفظ عنه من أهل العلم. ومتعة المكي صحيحة، إلا أنه لا
دم عليه، وعنه: ليس على أهل مكة، متعة ومعناه: ليس عليهم
دم المتعة.
وإن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة
واعتمر من التنعيم في أشهر الحج، وحج من عامه، فهو متمتع،
نص عليه. وذكره القاضي شرطاً سادساً لوجوب الدم، وهو: أن
ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها المتعة؛ والإجماع الذي
سبق عن ابن المنذر مخالف لهذا، لأنه قد حصل له الترفه بأحد
السفرين.
ويجب الهدي إذا أحرم بالحج، وهو قول الشافعي لقوله:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ، 2
ولأنه جعل غاية فوجد أوله لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . 3 وعنه: إذا وقف بعرفة، وهو
قول
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
2 سورة البقرة آية: 196.
3 سورة البقرة آية: 187.
(1/281)
مالك، لأن التمتع لا يحصل إلا به، لقوله
صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة". 1 وأما وقت ذبحه: فيوم
النحر، وبه قال مالك، وعنه: إن دخل مكة قبل العشر نحره، لا
يضيع أو يموت أو يرق، كذا قال عطاء. ومن قدم في العشر لا
ينحر إلا بمنى، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
كذا فعلوا.
ويجب الدم على القارن، لا نعلم فيه خلافاً، إلا عن داود.
ولنا: "أن علياً لما سمع عثمان ينهى عن المتعة، أهل بهما
ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه". وقال ابن عمر: "إنما
القِران لأهل الآفاق" وتلا الآية، ولأنه ترفه بسقوط أحد
السفرين، إلا أن يكون من حاضري المسجد الحرام في قول
الجمهور. وقال ابن الماجشون: عليه دم لأنه ليس بمتمتع.
ومن كان مفرداً أو قارناً أحببنا له الفسخ إلى العمرة، إلا
أن يكون معه هدي، فليس له أن يحل بغير خلاف. و"كان ابن
عباس يرى أن من طاف وسعى فقد حل، وإن لم ينو ذلك". وبهذا
الذي ذكرناه قال الحسن ومجاهد وداود، وذهب أكثر أهل العلم
إلى أنه لا يجوز. ولو ساق المتمتع الهدي لم يكن له أن يحل،
للآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فلا
يحل ... إلخ" 2. وقال مالك: له التحلل.
وينحر هديه عند المروة. وعنه: إن قدم قبل العشر نحر، وهو
يدل على أنه إذا قدم قبل العشر حلَّ وإن كان معه هدي.
وقال: "من لبد أو ضفر فهو بمنزلة من ساق الهدي"، لحديث
حفصة؛ والرواية الأولى أولى، لما ذكرنا من الحديث الصحيح،
وهو أولى بالاتباع.
فأما المعتمر غير المتمتع، فإنه يحل في أشهر الحج وغيرها،
معه هدي أو لا، "لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً
فكان يحل". فإن كان معه هدي نحره عند المروة، وحيث نحره من
الحرم جاز، لقوله: "كل فجاج مكة طريق ومنحر". 3 رواه أبو
داود وابن ماجة.
__________
1 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) ,
وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) ,
وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) .
2 مسلم: الحج (1236) , والنسائي: مناسك الحج (2992) , وابن
ماجة: المناسك (2983) , وأحمد (6/350, 6/351) .
3 أبو داود: المناسك (1937) , وابن ماجة: المناسك (3048) ,
والدارمي: المناسك (1879) .
(1/282)
والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت وخشيت فوات
الحج، أحرمت به وصارت قارنة. وقال أبو حنيفة: قد رفضت
العمرة وصار حجاً، وما قال هذا أحدٌ غيره؛ وحجته قول عروة
في حديث عائشة: "أهلّي بالحج ودَعي العمرة "، 1 وهذا اللفظ
انفرد به عروة، وخالف فيه كل من روى عن عائشة. وفي الصحيح
أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "قد حللت من حجك وعمرتك".
2
ومن أحرم مطلقاً يصرفه إلى ما شاء، والأولى صرفه إلى
العمرة، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى حين أحرم
بما أهلَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم". وإن أحرم
بمثل ما أحرم به فلان، انعقد إحرامه بمثله.
وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد
والنعمة لك والملك. لا شريك لك ". 3 ولا يستحب الزيادة
عليها ولا يكره، "لأنه صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته ولم
ينكر الزيادة عليها".
ويستحب رفع الصوت بها، والإكثار منها. وعن الثوري: أن
التلبية من شرط الإحرام، ولا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة،
لأن ابن عباس قال في قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ} : 4 "الإهلال". وعن عطاء وطاووس: هو التلبية.
ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته، وقيل: "لا يستحب"، وبه
قال الشافعي، ويروى عن ابن عمر، "لأن في حديث جابر ما سمّى
في تلبيته حجة ولا عمرة". ولنا: حديث أنس، وحديث ابن عباس:
"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يلبّون
بالحج". 5 متفق عليه.
و"متى لبّى بهما بدأ بذكر العمرة"، لحديث أنس، قال أحمد:
إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان، ثم لا يبالي أن
لا يقول بعد ذلك، لقوله صلى الله
__________
1 البخاري: الحيض (317, 319) والحج (1556, 1786) والمغازي
(4395) , ومسلم: الحج (1211) , والنسائي: الطهارة (242) ,
وأبو داود: المناسك (1781) , ومالك: الحج (940) .
2 مسلم: الحج (1213) , والنسائي: مناسك الحج (2763) , وأبو
داود: المناسك (1785) .
3 البخاري: الحج (1549) , ومسلم: الحج (1184) .
4 سورة البقرة آية: 197.
5 البخاري: الجمعة (1085) , ومسلم: الحج (1240) ,
والنسائي: مناسك الحج (2870, 2871) .
(1/283)
عليه وسلم للذي سمعه يلبِّي عن شبرمة:
"لبِّ عن نفسك، ثم لبِّ عن شبرمة". وهي مستحبة في جميع
الأوقات، ويتأكد استحبابها إذا علا نشزاً وهبط وادياً، وفي
دبر المكتوبة، وإقبال الليل والنهار، وإذا التقت الرفاق،
وإذا فعل محظوراً ناسياً، وإذا سمع ملبياً. وبه قال
الشافعي. وقد كان يقول مالك: لا يلبي عند اضطرام الرفاق،
والحديث يدل عليه. وكذلك قول النخعي: كانوا يستحبونها دبر
المكتوبة، وإذا هبط وادياً، وإذا علا نشزاً، وإذا لقي
راكباً، وإذا استوت به راحلته. قيل لأحمد: العامة يلبون
دبر كل صلاة ثلاثاً، فتبسم وقال: ما أدري من أين جاؤوا به.
قيل: أليس يجزئه مرة؟ قال: بلى. وكذلك لأن المروي التلبية
مطلقاً وكذلك يحصل بمرة. و"لا بأس بالتلبية في طواف
القدوم"، به قال ابن عباس والشافعي. وقال ابن عيينة: ما
رأينا أحداً يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب،
وهو قول الشافعي، لأنه يشتغل بذكر يخصه، فكان أولى. ولنا:
أنه زمن تلبية، ويمكن الجمع بينها وبين الذكر.
ولا بأس أن يلبي الحلال، وكرهه مالك. قال ابن عبد البر:
أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها،
وإنما عليها أن تسمع نفسها.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
الإحرام نية النسك، وقيل: مع التلبية أو سوق الهدي، اختاره
الشيخ. ويصلي ركعتين. واختار الشيخ أنه يستحب أن يحرم عقيب
فرض إن كان وقته، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه. واستحب
الاشتراط للخائف فقط. وعنه: إن ساق الهدي فالقِران أفضل،
ثم التمتع، اختاره الشيخ. واختار وجوب فسخ الحج على من
اعتقد عدم مساغه. وقال: لا يلبي بوقوفه بعرفة ومزدلفة،
لعدم نقله. قال في الفروع: كذا قال.
(1/284)
باب محظورات الإحرام
أجمعوا على أن المحرم لا يجوز له أخذ شيء من شعره إلا من
عذر، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الآية. 1 فإن كان له عذر من
مرض أو قمل أو غيره مما يتضرر به، فله إزالته، للآية،
ولحديث كعب بن عجرة.
وأجمعوا على أنه ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر،
وأجمعوا على أنه يزيل ظفره إذا انكسر. وأجمعوا على وجوب
الفدية على من حلق لغير علة؛ ولا فرق بين قطعه لعذر أو
غيره، عامداً أو مخطئاً؟ وقال إسحاق وابن المنذر: لا فدية
على الناسي. ولنا: أن الآية دلت على وجوبها لمن حلق وهو
معذور. فمن حلق أو قلّم ثلاثة فعليه دم، وهو قول الشافعي.
وقال مالك: إذا حلق ما أماط به الأذى وجب الدم. وقال أبو
حنيفة: لا يجب بدون ربع الرأس. وإن حلق أقل من ثلاث، ففي
كل واحدة مد من طعام، وبه قال الشافعي. وعنه: في كل شعرة
قبضة من طعام، ونحوه قول مالك. وعن مالك أيضاً فيمن أزال
شعراً يسيراً: لا ضمان عليه، لأن النص إنما أوجبه في حلق
الجميع. وعليه الفدية بأخذ الأظفار في قول الأكثر، منهم
الشافعي، وفيه رواية: لا فدية عليه، لعدم ورود الشرع به.
ولنا: أن عدم النص لا يمنع القياس، كشعر البدن مع شعر
الرأس. والحكم في فدية الأظفار كالحكم في
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
(1/285)
فدية الشعر، فيما دون الثلاث، وفيما يجب
فيها؛ وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية إلا
بتقليم يد كاملة. وإن حلق رأس حلال أو قلم أظفاره، فلا
فدية عليه. وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال: يتصدق
بدرهم. ولا فرق بين حلق الشعر وإزالته بغيره، لا نعلم فيه
خلافاً.
وشعر الرأس والبدن واحد في وجوب الفدية، في قول الأكثر،
خلافاً لداود. وإن خرج في عينيه شعر فقلعه، أو نزل شعر
فغطى عينه، أو انكسر ظفر فقصه، أو قلع جلدا عليه شعر، فلا
فدية عليه. فإن كان الأذى من غير الشعر، كالقمل والقروح،
أزاله وفدى. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا فدية عليه.
وأجمعوا على أنه ممنوع من تغطية رأسه، والأذنان منه يحرم
تغطيتهما، وأباحه الشافعي. ولنا: قوله: "الأذنان من
الرأس"، 1 ويمنع من تغطية بعضه كأجمعه لأن الله حرم حلقه
ولا يجوز حلق بعضه، وسواء غطاه بمعتاد أو غيره كعصابة، فإن
فعل ففيه الدم. وكره أحمد الاستظلال بالمحمل وما في معناه
على البعير، ورخص فيه الشافعي، لحديث ستر أسامة أو بلال
بالثوب. واحتج أحمد بـ"نهي ابن عمر عن مثل ذلك". والحديث
الذي ذكروا ذهب إليه أحمد، فلم يكره الاستتار بالثوب، فإنه
لا يقصد الاستدامة، فإن فعل فلا فدية عليه. قال أحمد: أما
الدم فلا، وعنه: يجب، وهو قول أهل المدينة. وإن حمل على
رأسه شيئاً فلا فدية عليه، وبه قال مالك. وقال الشافعي:
يفدي. وإن طلى رأسه بعسل أو صمغ ليجمع الشعر فلا يصيبه
الشعث جاز، وهو التلبيد الذي في حديث ابن عمر: "رأيته يهلّ
ملبّداً". 2 وإن طرح على شجرة ثوبا يستظل به فلا بأس
إجماعاً، لقول جابر: "أمر بقبة فضربت له" 3.
وفي
__________
1 الترمذي: الطهارة (37) , وابن ماجة: الطهارة وسننها
(444) .
2 البخاري: الحج (1540) واللباس (5914) , والنسائي: مناسك
الحج (2683) , وأبو داود: المناسك (1747) , وابن ماجة:
المناسك (3047) .
3 ابن ماجة: المناسك (3047) .
(1/286)
تغطية الوجه روايتان: إحداهما: يباح؛ روي
عن عثمان وزيد بن ثابت والشافعي. والثانية: لا. وهو مذهب
مالك، لحديث صاحب الراحلة: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه". 1
ولنا: قول من ذكرنا من الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف في
عصرهم، وتخمير الوجه في الحديث قد طعن فيه في هذه اللفظة.
والرابع: لبس المخيط، أجمعوا على أنه ممنوع من لبس القميص
والعمائم والسراويل والبرانس والخفاف؛ والأصل فيه: قوله
صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا
السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف" 2 3 الحديث؛ نص على
هذه الأشياء، وألحق بها أهل العلم ما في معناها مثل: الجبة
والدراعة وأشباه ذلك ...
ولا يجوز له ستر بدنه بما عمل على قدره، ولا يستر عضوا من
أعضائه بما عمل على قدره، كالقفازين لليدين، وليس في هذا
اختلاف، إلا أن لا يجد إزاراً فيلبس السراويل، أو لا يجد
نعلين فيلبس خفين وليقطعهما، لا نعلم فيه خلافاً، لحديث
ابن عباس، ولا فدية في لبسهما. وقال مالك: "على من لبس
السراويل الفدية"، لحديث ابن عمر. ولنا: أنه أمر به في
حديث ابن عباس، ولم يذكر فدية، وحديث ابن عمر مخصوص به،
لأنه يختص لبسه بعدم غيره كالخفين.
وإذا لبس الخفين مع عدم النعلين، لم يلزمه قطعهما في أشهر
الروايتين، وفي الأخرى يقطعهما؛ فعليها، "إن لم يقطعهما
افتدى"؛ وبه قال إسحاق وابن المنذر، لحديث ابن عمر، وهو
يتضمن زيادة على حديث ابن عباس وجابر. قال الخطابي: العجب
من أحمد في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة
لم تبلغه! وقيل: إن قوله: لم يقطعهما، من كلام نافع،
ويحتمل النسخ، لأن عمرو بن دينار رواهما قال: انظروا أيهما
كان قبل. قال الدارقطني: حديث ابن عباس بعرفات يدل على
تأخيره.
__________
1 البخاري: الجنائز (1265, 1266, 1267, 1268) , ومسلم:
الحج (1206) , والترمذي: الحج (951) , والنسائي: الجنائز
(1904) ومناسك الحج (2855, 2858) , وأبو داود: الجنائز
(3238) , وابن ماجة: المناسك (3084) , وأحمد (1/215,
1/220, 1/286, 1/328, 1/333, 1/346) , والدارمي: المناسك
(1852) .
2 البخاري: الحج (1542) , ومسلم: الحج (1177) , والترمذي:
الحج (833) , والنسائي: مناسك الحج (2667, 2669, 2674,
2675, 2681) , وأبو داود: المناسك (1823) , وابن ماجة:
المناسك (2929) , وأحمد (2/4, 2/8, 2/29, 2/32, 2/41,
2/54, 2/63, 2/65, 2/77, 2/119) , ومالك: الحج (716) ,
والدارمي: المناسك (1798, 1800) .
(1/287)
وليس له أن يعقد عليه الرداء ولا غيره، إلا
الإزار والهميان. وليس له أن يجعل لذلك زراراً ولا يخله
بشوكة ولا إبرة ولا خيطة، ولا يغرزه في إزاره. فأما الإزار
فيجوز عقده، لأنه يحتاج لستر العورة. وإن شد وسطه بالمنديل
ونحوه، جاز إذا لم يعقده. والهميان مباح له، قال ابن عبد
البر: أجازه جماعة فقهاء الأمصار. قال إبراهيم: كانوا
يرخصون في عقد الهميان للمحرم، ولا يرخصون في عقد غيره.
وسئل أحمد: عن المحرم يلبس المنطقة لوجع الظهر أو لحاجة
إليها؟ قال: يفتدي. قيل: أفلا تكون مثل الهميان؟ قال: لا.
وإن طرح على كتفيه قباء أو نحوه فدى، وإن لم يدخل يديه في
كميه، هذا مذهب مالك والشافعي. وقال الخرقي: لا فدية عليه
إن لم يدخلهما، وبه قال عطاء وإبراهيم وأبو حنيفة. وإذا
احتاج إلى تقلد السيف فله ذلك، وبه قال مالك والشافعي،
وكرهه الحسن. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية
اشترط حمل السلاح في قرابه".
وأجمعوا على أنه ممنوع من الطيب، ودل عليه قوله صلى الله
عليه وسلم في الميت: "لا تمسّوه بطيب"، 1 فالحي أولى. ولا
يجوز له لبس ثوب مطيب، لا نعلم فيه خلافاً، لقوله صلى الله
عليه وسلم: "لا يلبس من الثياب شيئاً مسّه الورس، ولا
الزعفران". 2 ولا يجوز له الجلوس عليه ولا النوم عليه، فإن
فعل افتدى. وقال أبو حنيفة: إن كان رطباً يلي بدنه أو
يابساً ينفض افتدى، وإلا فلا. فإن غسله حتى ذهب جميع ما
فيه، فلا بأس به عند جميع العلماء.
وليس له شم الأدهان المطيبة، كدهن الورد والبنفسج والزنبق
ونحوها، وليس في تحريم ذلك خلاف في المذهب. ومتى جعل شيئاً
من الطيب في مأكول أو
__________
1 البخاري: الحج (1851) , ومسلم: الحج (1206) , والنسائي:
الجنائز (1904) ومناسك الحج (2854, 2856) , وأبو داود:
الجنائز (3241) , وأحمد (1/215, 1/266, 1/328, 1/333) .
2 البخاري: اللباس (5847, 5852) , ومسلم: الحج (1177) ,
والترمذي: الحج (833) , والنسائي: مناسك الحج (2669, 2673,
2675) , وابن ماجة: المناسك (2929) , وأحمد (2/119) ,
ومالك: الحج (716) , والدارمي: المناسك (1798) .
(1/288)
مشروب فلم تذهب رائحته، لم يبح تناوله.
وكان مالك لا يرى بما مسته النار من الطعام بأساً، وإن
بقيت رائحته وطعمه ولونه. وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك
والعنبر فلا فدية، إلا أن يشمه. وإن علق بيده كالغالية
وماء الورد والمسك المسحوق، افتدى. ولو شم العود والفواكه
كلها من الأترنج وغيره ونبات الصحراء كالشيح وغيره، فلا
فدية فيه، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما روي عن ابن عمر:
"أنه كره للمحرم أن يشم شيئاً من نبات الأرض"، ولا نعلم
أحداً أوجب فيه شيئاً. وما أنبته الآدميون للطيب ولا يتخذ
منه طيب، كالريحان الفارسي والنرجس، ففيه روايتان:
إحداهما: "يباح بغير فدية"، وبه قال عثمان وابن عباس.
والثانية: "يحرم، فإن فعله افتدى"؛ وبه قال جابر وابن عمر
والشافعي، وكرهه مالك ولم يوجب فيه شيئاً.
وأما ما ينبت للطيب ويتخذ منه كالورد، ففيه الفدية، وعنه:
لا شيء في شمه لأنه زهرٌ. فأما الدهن الذي لا طيب فيه،
فنقل ابن المنذر الإجماع على أن له أن يدهن بدنه بالشحم
والزيت والسمن. وعنه في الزيت الذي يؤكل: لا يدهن به رأس
المحرم؛ فظاهره أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان، وبه قال
مالك، والشافعي لأنه يزيل الشعث، فأما سائر البدن فلا نعلم
عن أحمد فيه منعاً. وقد أجمعوا على أن إباحته في اليدين،
وفي إباحته في جميع البدن روايتان. وإن قصد شم الطيب من
غيره بفعل منه، مثل أن يجلس عند العطار لذلك، لم يجز،
وأباحه الشافعي.
ولا خلاف في تحريم قتل صيد البر واصطياده على المحرم، وما
ليس بوحش كالدجاج ونحوه، فلا بأس به، لا نعلم فيه خلافاً.
والاعتبار بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحشي وجب فيه
الجزاء كالحمام، ولو توحش الأهلي لم يجب فيه. قال أحمد:
إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله، وهذا قول أكثر
أهل العلم،
(1/289)
إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين
المأكول وغيره؛ واختلفت الرواية في الثعلب والسنور الوحشي
والأهلي والهدهد والصرد. وأجمعوا على أن من أتلف صيداً وهو
محرم، فعليه جزاؤه، إلا الحسن ومجاهد قالا: يجب في الخطإ
والنسيان، ولا يجب في العمد؛ وهو خلاف النص. ويضمن ما دل
عليه، أو أشار إليه، أو أعان على ذبحه، أو كان له أثر في
ذبحه، مثل أن يعيره سكيناً إلا أن يكون القاتل محرماً
فالجزاء بينهما. وقال مالك: لا شيء على الدالّ. ولنا: حديث
أبي قتادة.
وإن وجد من المحرم حديث عند رؤية الصيد، من ضحك أو استشراف
ففطن له غيره، فلا شيء على المحرم، لحديث أبي قتادة. ولا
خلاف في تحريم الصيد إذا صاده أو ذبحه. وإن صاده حلال
وذبحه وكان من المحرم إعانة، لم يبح أيضاً. وإن صيد من
أجله حرم عليه أكله، وبه قال مالك والشافعي؛ وأباحه أبو
حنيفة، لحديث أبي قتادة. ولنا: قصة الصعب بن جثامة، وعن
جابر رفعه: "صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد
لكم". 1 قال الترمذي: هو أحسن حديث في الباب. وحكي: "عن
علي وغيره التحريم على المحرم بكل حال"، لعموم قوله
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُماً} الآية، 2 ولحديث الصعب. ولنا: حديث أبي قتادة
وجابر، فإنهما صريحان في الحكم، وفي ذلك جمع بين الأحاديث.
وهل يباح أكل ما صيد لمحرم على محرم آخر؟ "ظاهر حديث جابر
إباحته"، وبه قال عثمان، وقيل: "يحرم"، وبه قال عليّ،
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "هل منكم أحد
أمره أن يحمل عليه، أو أشار إليه؟ "، 3 والأول أولى. وإن
ذبح المحرم صيداً صار ميتة، وقال الثوري: لا بأس بأكله،
وقال ابن المنذر: هو بمنزلة ذبيحة السارق. وإذا أتلف بيض
__________
1 الترمذي: الحج (846) , والنسائي: مناسك الحج (2827) ,
وأبو داود: المناسك (1851) , وأحمد (3/362) .
2 سورة المائدة آية: 96.
3 مسلم: الحج (1196) .
(1/290)
صيد، ضمنه بقيمته، قال ابن عباس: "في بيض
النعام قيمته". وإن ملك صيداً في الحل فأدخله الحرم لزمه
رفع يده عنه وإرساله، فإن تلف في يده ضمنه؛ قال عطاء: إن
ذبحه فعليه الجزاء. و"ممن كره إدخال الصيد الحرم: ابن عباس
وابن عمر، ورخص فيه جابر". قال هشام بن عروة: "كان ابن
الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص، وأصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم لا يرون به بأساً". ورخص فيه مالك والشافعي. وإن
صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله ذلك ولا
ضمان عليه، وبه قال الشافعي، وقيل: عليه الجزاء. فإن خلصه
من سبُع أو شبكة فتلف بذلك، فلا ضمان عليه؛ وبه قال عطاء.
وقيل: يضمن، قاله قتادة، لعموم الآية.
ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسي، بلا
خلاف، ولا في الخمس الفواسق التي أباح الشارع قتلها في
الحل والحرم، وهي: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب
العقور، وفي بعض ألفاظ الحديث: والحية مكان العقرب، وهذا
قول الأكثر. وحكي عن النخعي أنه منع من قتل الفأرة،
والحديث صريح في حل قتلها، ولا تعويل على من خالفه.
والمراد: الغراب الأبقع، وغراب البين؛ وقيل: لا يباح قتل
غراب البين لأن في بعض ألفاظه قيل: الأبقع، ولا يمكن حمله
على العموم، لأن المباح منها لا يقتل. ولنا: أن المطلق أصح
من المقيد، وغراب البين يعدو على أموال الناس، فلا وجه
لإخراجه من العموم، وفارق ما أبيح أكله فإنه ليس في معنى
ما أبيح قتله. وأما ما كان طبعه الأذى وإن لم يوجد منه،
مثل الفهد والذئب وما في معناهما، فيباح قتله ولا جزاء
فيه. وقال مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم،
مثل الأسد والذئب والنمر؛ فعلى هذا، يباح قتل كل ما فيه
أذى من سباع البهائم وجوارح الطير والحشرات المؤذية
والزنبور
(1/291)
والبق والبعوض والبراغيث والذباب، وبه قال
الشافعي. وقال أصحاب الرأي: يقتل ما في الحديث، والذئب
قياساً. ولنا: أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه،
تنبيهاً على ما هو أعلى منها: فنصه على الغراب والحدأة
تنبيه على الصقر والباز ونحوه، وعلى الفأرة تنبيه على
الحشرات، وعلى العقرب تنبيه على الحية، وعلى الكلب العقور
تنبيه على السباع التي أعلى منه.
وأما ما لا يؤذي بطبعه كالرخم والديدان، فلا أثر للحرم ولا
الإحرام فيه، ولا جزاء فيه؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك:
يحرم قتلها، فإن قتلها فداها، وكذلك كل سبع لا يعدو على
الناس. فإذا وطئ الذباب أو النمل أو الذر وقتل الزنبور،
تصدق بشيء من الطعام. ولنا: أن الله سبحانه وتعالى إنما
أوجب الجزاء في الصيد. ولا بأس أن يقرد بعيره، وقال مالك:
لا يجوز. ولنا: أنه قول عمر وابن عباس. وأما القمل، فعنه:
إباحة قتله، لأنه من أكثر الهوام أذى. وعنه: لا. لأنه
يترفه بإزالته، ولأنه لو أبيح لم يتركه كعب بن عجرة، ولا
أمره صلى الله عليه وسلم بإزالته خاصة.
ويجوز له حك رأسه برفق لئلا يقطع شعراً أو يقتل قملاً، فإن
تفلى المحرم فلا فدية، لأن كعباً أذهب قملاً كثيراً. وحكي
عن ابن عمر أنه قال: "هي أهون مقتول". وعن ابن عباس فيمن
ألقاها ثم طلبها فلم يجدها قال: "تلك ضالة لا تبتغى". وعن
أحمد فيمن قتل قملة: يطعم شيئاً، وهو قول مالك. وقال
إسحاق: تمرة فما فوقها. والخلاف في المحرم، أما في الحرم
فيباح قتله بغير خلاف.
ولا بأس بغسل رأسه وبدنه برفق، وكره مالك أن يغطس في الماء
ويغيب فيه رأسه. ويكره له غسل رأسه بالسدر ونحوه، لما فيه
من إزالة الشعث، وكرهه مالك والشافعي وأهل الرأي؛ فإن فعل
فلا فدية عليه. وقال مالك: عليه فدية، ولنا: قوله صلى الله
عليه وسلم في المحرم: "اغسلوه بماء وسدر، ولا تخمروا رأسه"
1 الحديث.
__________
1 البخاري: الجنائز (1267) , ومسلم: الحج (1206) ,
والترمذي: الحج (951) , والنسائي: الجنائز (1904) ومناسك
الحج (2854, 2855, 2856, 2857) , وأبو داود: الجنائز
(3238, 3241) , وابن ماجة: المناسك (3084) , وأحمد (1/215,
1/220, 1/266, 1/286, 1/328, 1/333, 1/346) ، والدارمي:
المناسك (1852) .
(1/292)
ولا يحرم عليه صيد البحر بغير خلاف. ولا
فرق بين البحر الملح وبين العيون والأنهار؛ فإن كان مما لا
يعيش إلا في الماء فلا خلاف فيه، وإن كان مما يعيش في البر
فهو كالسمك لا جزاء فيه. وقال عطاء: فيه الجزاء. فأما طير
الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل العلم، ولا نعلم فيه
مخالفاًً، إلا ما روي عن عطاء أنه قال: حيث ما يكون أكثر،
فهو من صيده.
ولا يباح صيد البحر في الحرم، فلا يصاد من آباره وعيونه،
وكرهه جابر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينفّر صيده"،
1 وعنه: يباح، لأن الإحرام لا يحرمه. وعنه في الجراد: هو
من صيد البحر، لا جزاء فيه. قال ابن المنذر: قال ابن عباس:
"هو من صيد البحر"، وقال عروة: "هو من نثرة الحوت". وعنه:
أنه من صيد البر، وفيه الجزاء، وهو قول الأكثر. وحديث أبي
هريرة أنه من صيد البحر وهمٌ، قاله أبو داود.
ومن اضطر إلى أكل الصيد أبيح له، بغير خلاف، وعليه ضمانه.
وقال الأوزاعي: لا يضمنه. ولنا: عموم الآية. وكذلك إن
احتاج إلى حلق، أو تغطية رأس، أو لبس مخيط، أو شيء من
المحظورات، فعَله وفدى، لحديث كعب بن عجرة، وقسنا عليه
سائر المحظورات.
ولا يجوز للمحرم أن يتزوج لنفسه، ولا يكون وليا في النكاح،
ولا وكيلاً فيه، ولا يجوز تزوج المحرمة، وأجازه ابن عباس؛
وهو قول أبي حنيفة، "لأنه صلى الله عليه وسلم تزوَّج
ميمونة وهو محرم". 2 ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطب". 3 رواه مسلم. وأما
حديث ميمونة فقال ابن المسيب: وهمَ ابن عباس، ما تزوجها
إلا حلالاً. وفي الرجعة روايتان: إحداهما: تباح، وهو قول
أكثر أهل العلم. ويباح شراء الإماء للتسري وغيره، لا نعلم
فيه خلافاً،
__________
1 البخاري: الحج (1587) , ومسلم: الحج (1353) , والنسائي:
مناسك الحج (2892) , وأبو داود: المناسك (2017) , وأحمد
(1/253, 1/259, 1/315, 1/348) .
2 البخاري: الحج (1837) , ومسلم: النكاح (1410) ,
والترمذي: الحج (842, 843, 844) , والنسائي: مناسك الحج
(2839, 2840, 2841) , وأبو داود: المناسك (1844) , وأحمد
(1/221, 1/245, 1/252, 1/266, 1/275, 1/336, 1/337, 1/346,
1/354, 1/359, 1/360, 1/362) .
3 مسلم: النكاح (1409) , والترمذي: الحج (840) , والنسائي:
مناسك الحج (2842, 2843) والنكاح (3275, 3276) , وأبو
داود: المناسك (1841) , وابن ماجة: النكاح (1966) , وأحمد
(1/57, 1/64, 1/65, 1/68, 1/69, 1/73) , ومالك: الحج (780)
, والدارمي: المناسك (1823) والنكاح (2198) .
(1/293)
ويكره له الخطبة وخطبة المحرمة، وأن يخطب
للمحلين، للحديث. ويكره أن يشهد في النكاح، فإن فعل لم
يفسد النكاح، وقيل: بلى، لأن في بعض الألفاظ: "ولا يشهد".
ولنا: أن هذه زيادة غير معروفة، فلا يثبت بها حكم.
قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء
في حال الإحرام، إلا الجماع؛ والأصل فيه ما روي عن ابن عمر
وابن عباس"، ولم يعرف لهما مخالف. قال ابن المنذر: قول ابن
عباس أعلى شيء روي فيمن وطئ في حجه؛ فإن كان قبل التحلل
الأول فسد الحج، قبل الوقوف أو بعده، وهو قول الأكثر. وقال
أصحاب الرأي: لا يفسد بعد الوقوف، لقوله: صلى الله عليه
وسلم "الحج عرفة". 1 ولنا: قول الصحابة، وهو إطلاق فيمن
جامع محرماً، وقوله: "الحج عرفة"، 2 أي: معظمه، أو أنه ركن
متأكد، ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد، بدليل العمرة،
والعمد والنسيان سواء، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي
في القديم. وقال في الجديد: لا يفسد الحج مع النسيان، ولا
يجب فيه شيء. وحكاه ابن عقيل رواية، لقوله " عُفي لأمتي"
الحديث. ولنا: أن الصحابة لم يستفصلوا.
ويجب به بدنة، وبه قال مالك والشافعي. وقال إسحاق: بدنة،
فإن لم يجد فشاة. وحكم المرأة حكم الرجل في فساد الحج،
وحكم المكرهة والنائمة حكم المطاوعة، لا نعلم فيه خلافاً.
وعليهما المضي في فاسده، وقال مالك: يجعل الحج عمرة، ولا
يقيم على حجة فاسدة. وقال داود: يخرج بالإفساد من الحج
العمرة، لقوله: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردّ ".
3 ولنا: قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} ، 4 ولأنه قول من سمّينا من الصحابة، ولم يعرف
لهم مخالف. والخبر لا دليل فيه، لأن المضي فيه بأمر الله،
ويلزمه
__________
1 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) ,
وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) ,
وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) .
2 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) ,
وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) ,
وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) .
3 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو
داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد
(6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270) .
4 سورة البقرة آية: 196.
(1/294)
القضاء من قابل. فإن كان الحج الذي أفسد
واجباً أجزأ القضاء، وإن كان نفلاً وجب القضاء أيضاً
كالمنذور؛ والقضاء على الفور، لا نعلم فيه خلافاً.
ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين، الميقات أو موضع إحرامه
الأوَّل، نصَّ عليه، ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي
أصابها فيه إلى أن يحلا. وهل هو واجب أو مستحب؟ على وجهين.
وعنه: "يتفرقان من حيث يحرمان"، رواه في الموطإ عن علي،
ومعناه: أن لا ينزل معها في فسطاط ولا يركب معها في محمل.
وحكم العمرة حكم الحج، إلا أنه لا يجب بإفسادها إلا شاة،
وقال الشافعي: عليه بدنة.
والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد الحج، وقال الزهري
والنخعي: يفسد. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد
صلاتنا فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً
أو نهاراً، فقد تم حجّه"، 1 ولأنه قول ابن عباس، ولم يعرف
لهم مخالف.
وإن فسد الإحرام بالوطء بعد جمرة العقبة، فيلزمه أن يحرم
من الحل، وبه قال عكرمة. وقال ابن عباس والشافعي: "لا
يلزمه إحرام لأن إحرامه لم يفسد جميعه، فلم يفسد بعضه".
ولنا: الطواف ركن فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح، لأن
الإحرام يجمع فيه بين الحل والحرم. ومتى وطئ بعد رمي
الجمرة لم يفسد حجه، حلق أولاً. فإن طاف للزيارة ولم يرم،
ثم وطئ لم يفسد حجه، وعليه شاة في الوطء بعد التحلل الأول،
وبه قال مالك، وعنه: بدنة؛ وبه قال الشافعي.
التاسع: المباشرة دون الفرج، فإن أنزل فعليه بدنة. وقال
الشافعي: شاة.
__________
1 الترمذي: الحج (891) , والنسائي: مناسك الحج (3039) ,
وابن ماجة: المناسك (3016) .
(1/295)
وفي فساد الحج روايتان: إحداهما: يفسد، وبه
قال مالك. والثانية: لا. وبه قال الشافعي. وإن لم ينزل لم
يفسد، لا نعلم فيه خلافا.
والمرأة إحرامها في وجهها؛ فيحرم تغطيته، لا نعلم فيه
خلافاً، إلا ما روي عن أسماء أنها تغطيه، فيحمل على السدل،
فلا يكون فيه اختلاف. فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال
قريباً منها، سدلت الثوب من فوق رأسها، لا نعلم فيه
خلافاً. قال أحمد: إنما لها أن تسدل النقاب من فوق، وليس
لها أن ترفع الثوب من أسفل. ولا بأس للمرأة أن تطوف متنقبة
إذا لم تكن محرمة، وكرهه عطاء، ثم رجع لما بلغه أن عائشة
تفعله. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها ممنوعة مما يمنع
منه الرجل إلا بعض اللباس، وأن لها لبس القميص والدرع
والسراويلات والخمر والخفاف. ويستحب لها ما يستحب للرجل
عند الإحرام من الغسل والطيب، لقول عائشة: "كنا نضمد
جباهنا بالمسك". ولا تلبس القفازين، وهو شيء يعمل لليدين
يدخلان فيه، ورخص فيه علي، وبه قال أبو حنيفة. ولنا: قوله:
"لا تلبس القفازين". 1 رواه البخاري. وروي عن عطاء أنه كره
الحلي والحرير للمحرمة، و"رخص فيه ابن عمر وعائشة"، وهو
الصحيح. وقال ابن المنذر: لا يجوز المنع منه بغير حجة.
والكحل بالإثمد مكروه، ولا فدية فيه، لا نعلم فيه خلافاً.
وسألت عائشة امرأةٌ اشتكت عينها وهي محرمة فقالت: "تكحل
بأي كحل شاءت غير الإثمد أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة
فنحن نكرهه".
ويجوز لبس المعصفر والكحل والخضاب بالحناء والنظر في
المرآة، لهما جميعاً. وكره المعصفر مالك إذا انتفض في
جسده، ومنع منه الثوري وشبهه بالورس والمزعفر. ولنا: قوله
في المحرمة: "ولتلبس بعد ذلك ما أحبت
__________
1 البخاري: الحج (1838) , والترمذي: الحج (833) , وأحمد
(2/119) .
(1/296)
من ألوان الثياب، من معصفر أو خز أو حلي".
1 رواه أبو داود. وعن عائشة وأزواجه صلى الله عليه وسلم:
"أنهن كنّ يحرمن في المعصفرات"، ولأنه قول جابر وابن عمر،
ولم يعرف لهم مخالف.
و"يستحب لها الاختضاب بالحناء عند الإحرام"، لما روي عن
ابن عمر أنه قال: "من السنة أن تدلك المرأة بدنها في حناء،
ولا بأس به في حال الإحرام". وكان مالك يكرهه للمحرمة،
ويلزمها الفدية. ولنا: قول عكرمة: "كان أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم". قال أحمد: لا بأس
أن ينظر في المرآة. ولا يصلح شعثاً، ولا ينفض غباراً. وروي
نحوه عن عطاء، لأنه قد روي في حديث: "إن المحرم الأشعث
الأغبر"، وفي حديث آخ ر: "انظروا إلى عبادي، قد أتوني
شعثاً غبراً". 2 وله أن يحتجم إذا لم يقطع شعراً، وكان
الحسن يرى فيها دماً. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم
وهو محرم". فإن احتاج إلى قطع شعر، فله قطعه ويفدي،
للحديث: "أنه احتجم وسط رأسه"، وقال أبو يوسف ومحمد: يتصدق
بشيء. ولنا: قوله: {فمن كان منكنم مريض أو به أذى من رأسه}
الآية 3.
ويجتنب ما نهي عنه من الرفث وهو: الجماع، وقيل: والتقبيل
والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام. وقال أبو عبيد:
الرفث لغا الكلام وأنشد: عن اللغا ورفث التكلم.
وكل ما فسر به الرفث، ينبغي للمحرم أن يجتنبه، إلا أنه في
الجماع أظهر، لقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ} الآية. 4
__________
1 أبو داود: المناسك (1827) .
2 أحمد (2/224) .
3 سورة البقرة آية: 196.
4 سورة البقرة آية: 187.
(1/297)
ويجتنب الفسوق وهو: السباب، لقوله: "سباب
المسلم فسوق ". 1 وعن ابن عباس: "المعاصي كلها"، والجدال
وهو: المراء، قال ابن عباس: "هو أن تماري صاحبك حتى
تغضبه". ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع، صيانة لنفسه
عن اللغو والوقوع فيما لا يحل، فإن من كثر كلامه كثر سقطه.
قال أبو داود: أصول السنن أربعة أحاديث: أحدها: قوله: "من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". 2 واحتج أحمد بـ"أن
شريحا كان إذا أحرم كأنه حية صماء". فإن تكلم بما لا إثم
فيه، أو أنشد شعراً لا يقبح، فهو مباح؛ ولا يكثر، فقد روي
عن ابن عمر: "أنه كان على ناقة له وهو محرم فجعل يقول:
كأن راكبها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل
والله أكبر. الله أكبر"، وهو يدل على الإباحة. والفضيلة ما
ذكرنا أولاً. ويجوز أن يتجر ويصنع الصنائع، لقوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ
رَبِّكُمْ} الآية 3.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: فمن حلق أو قلّم ثلاثة فعليه دم، ووجه في الفروع
احتمالاً: لا يجب الدم إلا فيما يحاط به الأذى، وهو مذهب
مالك. وفي الفائق: المختار تعلق الدم بمقدار يترفه
بإزالته. وقال الشيخ: من احتاج إلى قطعه لحجامة أو غسل، لم
يضره. ولو لبس مقطوعاً دون الكعبين مع وجود نعل، فاختار
الشيخ الجواز بلا فدية. وقال: يجوز شد وسطه بحبل أو
ونحوهما، وبرد لحاجة. وفي الرعاية: لا يقتل البراغيث ولا
البعوض ولا القراد، وقال الشيخ: إن قرصه ذلك قتله
__________
1 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) ,
والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634, 2635) ,
والنسائي: تحريم الدم (4105, 4106, 4108, 4109, 4110,
4111, 4112, 4113) , وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن
(3939) , وأحمد (1/385, 1/411, 1/417, 1/433, 1/439،
1/446، 1/454، 1/460) .
2 الترمذي: الزهد (2317) , وابن ماجة: الفتن (3976) .
3 سورة البقرة آية: 198.
(1/298)
مجاناً، وإلا فلا يقتله. ونقل مهنا: يقتل
النملة إذا عضته، والنحلة إذا آذته، واختار الشيخ: لا يجوز
قتل النحل ولو يأخذ كل عسله. وقال هو وغيره: إن لم يدفع
نملاً إلا بقتله جاز.
ومن جامع قبل التحلل فسد نسكه، عامداً كان أو ساهياً.
وعنه: لا يفسد حج الناسي والجاهل والمكره ونحوه، اختاره
الشيخ. ويلزم المجامع بعد التحلل الأول، أن يحرم من الحل،
وقال: سواء بعد أو لا. والمنصوص عن أحمد: أنه يعتمر،
فيحتمل أنه أراد هذا المعنى وسماها عمرة، لأنه أفعالها،
ويحتمل أنه أراد عمرة حقيقة. وقال الشيخ: يعتمر مطلقاً،
وعليه نصوص أحمد.
والمرأة إحرامها في وجهها، وتسدل لحاجة. وقال الشيخ: لو مس
وجهها، فالصحيح جوازه، لأن وجهها كيد الرجل.، ويستحب لها
الخضاب عند الإحرام، قال الشيخ: الخضاب بلا حاجة مختص
بالنساء.
(1/299)
باب الفدية
هي على ثلاثة أضرب:
(أحدها) : ما هو على التخيير وهو نوعان:
أحدهما: يخير فيه بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة
مساكين، أو ذبح شاة؛ وهي فدية الحلق والتقليم والتغطية
واللبس والطيب، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية 1، ولحديث
كعب، وقسنا عليه الباقي، لأنه حرم للترفه كالشعر. ولا فرق
في الحلق بين المعذور وغيره، والعامد والمخطئ. وقاله مالك
والشافعي. وعن أحمد: إذا حلق لغير عذر فعليه دم من غير
تخيير، وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الله تعالى خيّر بشرط
العذر. ولنا: أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه
تبعاً، والتبع لا يخالف أصله. وفي بعض ألفاظ حديث كعب: "صم
ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع تمر"؛
2 وبهذا قال مالك والشافعي. وقال الحسن: الصيام عشرة أيام،
والإطعام عشرة مساكين. وعن الثوري: يجزئ من البر نصف صاع،
ومن التمر والشعير صاع، واتباع السنة أولى، ويقاس على
التمر والبُرّ والشعير والزبيب. وعنه: يجزئ مدّ بُرّ لكل
مسكين. و" ومن أبيح له الحلق جاز له تقديم الكفارة، فعله
علي".
الثاني: جزاء الصيد، فيخيّر فيه بين المثل وتقويمه بدراهم
يشترى بها طعاماً،
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
2 البخاري: الحج (1816) , ومسلم: الحج (1201) , والترمذي:
تفسير القرآن (2974) , والنسائي: مناسك الحج (2851) , وأبو
داود: المناسك (1856, 1857, 1860) , ومالك: الحج (955,
956) .
(1/300)
فيطعم لكل مسكين مداً، ويصوم عن كل مد
يوماً. وإن كان لا مثل له خيِّر بين الإطعام والصيام.
وعنه: على الترتيب؛ فيجب المثل، فإن لم يجد أطعم، فإن لم
يجد صام. روي عن ابن عباس والثوري، لأن هدي المتعة على
الترتيب، وهذا آكد. وعنه: لا إطعام في كفارة الصيد، وإنما
ذكر في الآية ليعدل به الصيام، لأن من قدر على الإطعام قدر
على أن يذبح، وهذا قول الشافعي. ولنا: الآية، وسمى الله
الطعام كفارة، ولا يكون كفارة ما لا يجب إخراجه وجعله
طعاماً للمساكين، وما لا يجوز صرفه إليهم لا يكون طعاماً
لهم. وإذا اختار المثل ذبحه لفقراء الحرم، ولا يجوز الصدقة
به حياً، لأن الله سماه هدياً، والهدي يجب ذبحه؛ وله ذبحه
أي وقت شاء. وإن أراد الإطعام قوّم المثل بدراهم والدراهم
بطعام، يتصدق به على المساكين. وقال مالك: يقوّم الصيد.
وحكى ابن أبي موسى رواية: إن شاء تصدق بدراهم، والآية ذكر
فيها التخيير بين الثلاثة، ولا ذكر للدراهم. ويطعم كل
مسكين مداً كالكفارة، ومن غيره نصف صاع. ولا يجزئ إخراج
الطعام إلا على مساكين الحرم، والصوم عن كل مد يوماً، وبه
قال مالك والشافعي. وعنه: عن كل نصف صاع يوماً، قاله ابن
عباس وابن المنذر. وعن أبي ثور أن كفارة الصيد مثل كفارة
الآدمي، روي عن ابن عباس. ولنا: أنه جزاء عن متلف، فاختلف
باختلافه، ولأن الصحابة قضوا في الصيد مختلفاً، فإن بقي من
الطعام ما لا يعدل يوماً صام عنه يوماً كاملاً، لا نعلم
فيه خلافاً، لأن الصوم لا يتبعض. ولا يجب التتابع في
الصيام، وبه قال الشافعي، لأن الله أمر به مطلقاً. ولا
يجوز أن يطعم عن بعض الجزاء ويصوم عن بعض، وجوَّزه محمد بن
الحسن إذا عجز عن بعض الإطعام. فإن كان مما لا مثل له
خُيّر بين الشراء بقيمته طعاماً للمساكين
(1/301)
وبين الصيام لتعذر المثل. وهل يجوز إخراج
القيمة؟ فعنه: لا يجوز، روي عن ابن عباس، وقيل: يجوز، لأن
عمر قال لكعب: "ما جعلت على نفسك؟ قال: درهمين، قال: اجعل
ما جعلت على نفسك".
(الضرب الثاني) : على الترتيب، وهو على ثلاثة أنواع:
(أحدها) : دم المتعة والقِران، فيجب الهدي، فإن لم يجد
فالصيام للآية، والأفضل أن يكون آخر الثلاث يوم عرفة، روي
ذلك عن عطاء وعلقمة وغيرهما. وعن ابن عمر: "يصومها ما بين
إهلاله بالحج ويوم عرفة". فظاهره: أن آخرها يوم التروية،
لأن صوم عرفة بها لا يستحب، وإنما أحببنا له صوم يوم عرفة
للحاجة؛ وعلى هذا، يستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل يوم
التروية ليصومها وقت الحج، فإن صام منها شيئاً قبل إحرامه
جاز، نص عليه. وأما جواز صيامها، فإذا أحرم بالعمرة؛ وبه
قال أبو حنيفة. وعنه: إذا أحل منها. وقال مالك والشافعي:
"لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج"، روي عن ابن عمر؛ وبه قال
إسحاق وابن المنذر، لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . 1 ولنا: أن إحرام العمرة أحد
أجزاء التمتع، والآية قيل: معناه في أشهر الحج، فإنه لا بد
فيه من الإضمار إذ الحج أفعال لا يصام فيها، فهو كقوله:
{أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . 2 فتقديم الصوم على إحرام
العمرة، فلا نعلم قائلا بجوازه. ووقت الاختيار في السبعة
إذا رجع إلى أهله، وأما وقت الجواز فإذا مضت أيام التشريق.
قيل لأحمد: يصوم بالطريق أو بمكة؟ قال: حيث شاء، وبه قال
مالك. وعن عطاء ومجاهد: في الطريق، وبه قال إسحاق. وقال
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
2 سورة البقرة 197.
(1/302)
ابن المنذر: إذا رجع إلى أهله، وبه قال
الشافعي. ولنا: أن كل صوم لزمه وجاز في وطنه جاز قبل ذلك،
وأما الآية فإنه سبحانه جوَّز له تأخير الصلاة تخفيفاً،
كتأخير صوم رمضان في السفر، فإذا لم يصم الثلاثة في الحج
صامها بعده؛ وبه قال مالك والشافعي. وعن ابن عباس: "إذا
فاته الصوم في العشر، لم يصم بعده واستقر الهدي في ذمته".
ولنا: أنه صوم واجب فلم يسقط بخروج وقته كرمضان، والآية
تدل على وجوبه في الحج لا على سقوطه. "ويصوم أيام منى"،
قاله ابن عمر وعائشة ومالك والشافعي في القديم. وعن أحمد:
"لا يصومها"، روي عن علي، وهو قول ابن المنذر؛ فعليها،
يصوم بعد ذلك عشرة أيام، وكذا إذا قلنا يصوم أيام منى فلم
يصمها. واختلفت الرواية في وجوب الدم عليه.
وإذا أخر الهدي الواجب لعذر، مثل ضياع نفقته، فليس عليه
إلا القضاء. وعنه: يلزمه هدي آخر، فإنه قال فيمن تمتع فلم
يهد إلى قابل: "يهدي هديين"، كذلك قال ابن عباس. ولا يجب
التتابع في صيام التمتع، ومتى وجب عليه الصوم فشرع فيه، ثم
قدر على الهدي، لم يجب عليه الانتقال إلا أن يشاء، وبه قال
مالك والشافعي. وقال الثوري: إن أيسر قبل كمال الثلاثة،
فعليه الهدي. وإن وجب فلم يشرع، فهل يلزم الانتقال؟ على
روايتين: إحداهما: لا يلزمه. والثانية: يلزمه. سئل أحمد:
إذا لم يصم المتمتع قبل يوم النحر؟ قال: عليه هديان، يبعث
بهما إلى مكة. ومن وجب عليه صوم المتعة فمات قبله لعذر
منعه، فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر أطعم عنه كرمضان.
(النوع الثاني) : المحصر، ولا خلاف في وجوب الهدي عليه؛
فإن لم يجد صام عشرة أيام، ثم حل.
(النوع الثالث) : فدية الوطء، يجب به بدنة؛ فإن لم يجد صام
عنه عشرة
(1/303)
أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى
أهله، كدم متعة، لقضاء الصحابة به، فيكون بدله مقيساً على
بدل دم المتعة، لأنا إنما أوجبنا البدنة بقول الصحابة،
فكذلك في بدلها. والمرأة إن طاوعت فعليها بدنة. وعنه: أرجو
أن يجزئهما هدي واحد، وروي عن عطاء؛ وهو مذهب الشافعي،
لأنه جماعٌ واحد. فأما المكرهة فلا دم عليها، وعنه: عليه
أن يهدي عنها؛ وبه قال مالك. وقال أصحاب الرأي: الهدي
عليها.
(الضرب الثالث) : الدماء الواجبة للفوات أو لترك واجب أو
المباشرة في غير الفرج، فالهدي الواجب بغير النذر منصوص
عليه ومقيس عليه. فالأول: فدية الأذى وجزاء الصيد ودم
الإحصار ودم المتعة والبدنة الواجبة بالوطء. والثاني مقيس
عليه، فالبدنة الواجبة بالمباشرة مقيسة على الواجبة
بالوطء، والقِران على التمتع، وكذلك دم الفوات، إلا أن
الصيام لا يمكن أن يكون منه ثلاثة قبل يوم النحر؛ ويقاس
عليه أيضاً كل دم واجب لترك واجب، كالإحرام من الميقات
والوقوف بعرفة إلى الغروب والمبيت بمزدلفة وطواف الوداع،
فالواجب فيه ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد صام عشرة
أيام. ويقاس على فدية الأذى ما وجب بمحظور، كاللبس والطيب
والتقليم. وكل استمتاع من النساء يوجب شاة، كالوطء في
العمرة وبعد التحلل الأول والمباشرة من غير إنزال، فإنه في
معنى فدية الأذى. قال ابن عباس، فيمن وقع على امرأته في
العمرة قبل التقصير: "عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك".
رواه الأثرم. وإن أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليه بدنة،
وإن لم ينزل فعليه شاة. وبه قال ابن المسيب ومالك
والشافعي، وعنه: بدنة، روي عن الحسن. ولنا: ما روى الأثرم
أن عمر بن عبيد الله قبّل عائشة بنت طلحة فسأل، فأجمع له
على أن يهريق دماً. وسائر اللمس لشهوة كالقبلة.
(1/304)
ومن كرر محظوراً من جنس، مثل إن حلق ثم حلق
قبل التكفير، فكفارة واحدة؛ وإن كفّر عن الأول فعليه
للثاني كفارة. وعن الشافعي كقولنا، وعنه: لا يتداخل. وقال
مالك: تتداخل كفّارة الوطء دون غيره.
وإن قتل صيداً بعد صيد فعليه جزاؤهما، وعنه: جزاء واحد؛
والصحيح الأول، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنَ النَّعَمِ} . 1 وإن فعل محظوراً من أجناس، فدى لكل
واحد، وهو مذهب الشافعي. وعن أحمد: في الطيب واللبس والحلق
فدية واحدة، إذا كان في وقت واحد، وقاله إسحاق. وقال عطاء:
إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى القلنسوة أو إليهما،
فلا عليه إلا فدية واحدة. ولا فرق بين العمد والخطأ في
الحلق والتقليم، ومن لا عذر له ومن له عذر، وقاله الشافعي.
وقيل: لا فدية على الناسي، وهو قول ابن المنذر.
وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه، وبه قال مالك والشافعي
وأصحاب الرأي. وقال الزهري: على المتعمد بالكتاب، وعلى
المخطئ بالسنة. وعنه: لا كفارة على المخطئ، وبه قال ابن
عباس وابن المنذر، للآية، لقوله: {مُتَعَمِّدًا} ، ووجه
الأولى قول جابر: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الضبع يصيده المحرم كبشاً". رواه ابن ماجة.
وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً فلا كفارة، فإن تعمد
فدى، بلا خلاف. ويستوي فيه القليل والكثير، وبه قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجب الدم إلا بتطييب عضو
كامل، وفي اللباس بلباس يوم وليلة، لأن ما دونه ليس لباساً
معتاداً. ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس، وإن وليه بنفسه
فلا بأس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اغسل عنك الطيب".
ومذهب مالك
__________
1 سورة المائدة آية: 95.
(1/305)
والليث: أن الناسي يفدي. ولنا: حديث صاحب
الجبة، "ولم يأمره بالفدية، مع سؤاله عما صنع"، فدل على
أنه عذره لجهله، والناسي في معناه، والمكره كالناسي، لأنه
مقرون به في الحديث الدال على العفو.
ومن رفض إحرامه ثم فعل محظوراً، فعليه فداؤه، لأنه لو نوى
التحلل لم يحلّ. وليس له لبس مطيب بعد إحرامه، بغير خلاف،
فإن أحرم فيه فله استدامته، فإن خلعه لم يلبسه، فإن فعل
فدى. وإذا أحرم وعليه قميص أو سراويل خلعه ولم يشقه، ولا
فدية عليه في قول الأكثر. وقيل: يشقه لئلا يتغطى رأسه حين
ينزع القميص. ولنا: حديث صاحب الجبة.
والهدايا والضحايا مختصة بمساكين الحرم، لقوله تعالى:
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، 1 وكذلك
جزاء محظور فعله في الحرم؛ وذكر القاضي رواية في قتل
الصيد: يفديه حيث قتله، وهذا يخالف نص الكتاب.
وما وجب فعله في الحرم لترك نسك أو فوات، فهو لمساكين
الحرم، لأنه هدي وجب لترك نسك، كدم القِران. وما وجب نحره
في الحرم وجب تفرقة لحمه به؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك
إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقتها في الحل. ولنا: أنه أحد
مقصودي النسك كالذبح، ولأن المقصود من ذبحه التوسعة على
مساكينه. قال عطاء: الهدي بمكة، وما كان من طعام وصيام
فحيث شاء. ولنا: قول ابن عباس: "الهدي والإطعام بمكة".
ومساكينه: من فيه من أهله وممن ورد عليه، وهم الذين يجوز
لهم أخذ الزكاة. فإن عجز عن إيصاله إليهم، جاز ذبحه
وتفرقته في غيره.
__________
1 سورة الحج آية: 33.
(1/306)
وفدية الأذى إذا وجد سببها في الحل، فيجوز
في الموضع الذي حلق فيه. وقال الشافعي: لا يجوز إلا في
الحرم، لقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . 1 ولنا:
أنه أمر كعباً بالفدية بالحديبية، وهي من الحل. ونحر علي
بن الحسين بالسقيا، رواه الأثرم، والآية وردت في الهدي.
وحكم اللبس والطيب حكم الحلق إذا وجد في الحل قياساً.
ودم الإحصار حيث أحصر من حل أو حرم، فإن قدر على أطراف
الحرم ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه. والثاني: لا، "لأنه صلى
الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه"، وعنه: لا ينحر المحصر
هديه إلا في الحرم، و"يواطئ رجلاً على نحره في وقت
التحلل"، يروى هذا عن ابن مسعود فيمن لدغ في الطريق، وروي
عن الحسن وعطاء. قال شيخنا: وهذا، والله أعلم، في الحصر
الخاص، أما العام فلا ينبغي أن يقوله أحد، لأنه يفضي إلى
تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله، "ولأنه صلى الله
عليه وسلم وأصحابه نحروا في الحديبية". فإن قيل: قد قال
تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، 2 وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، 3 قلنا: هذا في غير المحصر.
وأيضاً قيل: إن ذبحه في حق المحصر في موضع حله، اقتداء به
صلى الله عليه وسلم، وأما الصيام فيجزيه في كل مكان، لا
نعلم فيه خلافاً.
وكل دم ذكرنا يجزئ فيه شاة أو سُبع بدنة، أو يجزئ عنها
بقرة، لقول جابر (: "كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل:
والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البدن". 4 رواه مسلم.
__________
1 سورة المائدة آية: 95.
2 سورة البقرة آية: 196.
3 سورة الحج آية: 33.
4 مسلم: الحج (1318) , والترمذي: الحج (904) والأضاحي
(1502) , والنسائي: الضحايا (4393) , وأبو داود: الضحايا
(2807, 2808, 2809) , وابن ماجة: الأضاحي (3132) , وأحمد
(3/293, 3/353, 3/363) , ومالك: الضحايا (1049) ,
والدارمي: الأضاحي (1956) .
(1/307)
و"من وجبت عليه بدنة أجزأ عنها سبع من
الغنم"، لحديث جابر، وعنه: لا يجزئ أقل من عشر شياه، لأنهم
يعدلونها في الغنيمة بعشر. و"من عليه سبع من الغنم أجزأ
عنه بدنة أو بقرة"، لحديث جابر.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
لا يجزئ الخبز، واختار الشيخ الإجزاء، ويكون رطلين عراقية،
كرواية في الظهار؛ قال: وينبغي أن يكون بإدام. وإن كان مما
يؤكل من بُر أو شعير فهو أفضل. وإن أخر الهدي عن أيام
النحر، فهل يلزمه دم؟ أو يلزمه مع عدم العذر، ولا يلزمه مع
العذر؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يلزم دم بحال سوى الهدي.
قال أحمد: مكة ومنى واحد. وقال مالك: لا ينحر في الحج إلا
بمنى، ولا في العمرة إلا بمكة.
(1/308)
باب جزاء الصيد
وهو ضربان:
(أحدهما) : ما له مثل من النَّعم، فيجب مثله. وهو نوعان:
أحدهما: ما قضت فيه الصحابة، ففيه ما قضت، وهو قول الأكثر.
وقال أبو حنيفة: تجب القيمة، ويجوز صرفها إلى المثل، لأن
الصيد ليس بمثليّ. ولنا: الآية، "وجعل النبي صلى الله عليه
وسلم في الضبع كبشاً"، وأجمع الصحابة على المثل. فقال عمر
وعلي وغيرهما: "في النعامة بدنة، وحكما في الظبي بشاة،
وحكم عمر في حمار الوحش ببقرة، وحكموا في الحمامة بشاة"،
وهي التي لا تبلغ قيمتها. وما قضت فيه الصحابة يجب فيه ما
قضت به، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يستأنف الحكم، لقوله:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . 1 ولنا: حكم
الصحابة، فالذي بلغنا عنهم في النعامة بدنة، وفي حمار
الوحش بقرة، وعنه: بدنة.
وروي عن أبي عبيدة وابن عباس: "وفي بقرة الوحش بقرة،
والأيل فيه بقرة، قاله ابن عباس. والأروى فيها بقرة، قاله
ابن عمر. وفي الضبع كبش، وفي الغزال شاة، وفي الأرنب عناق،
قضى بذلك عمر. واليربوع جفرة، وفي الضب جدي، قضى به عمر
وزيد. وعنه: شاة، لأنه قول جابر وعطاء"، والأول أولى. وقال
عمرو بن دينار:
__________
1سورة المائدة آية: 95.
(1/309)
ما سمعنا أن الضب واليربوع يوديان، واتباع
الآثار أولى. والجفرة: التي لها أربعة أشهر من المعز وقيل
التي فطمت ورعت، وفي الحمام شاة.
الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع فيه إلى قول عدلين
من أهل الخبرة، يحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم.
ويجب في كل واحد من الصغير والكبير والصحيح والمعيب مثله.
وقال مالك: لا يجزئ إلا كبيراً صحيحاً، لقوله: {هَدْياً
بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . 1 ولنا: أنه مقيد في الآية بالمثل،
و"قد أجمع الصحابة على إيجاب ما لا يصلح هدياً، كالجفرة".
(الضرب الثاني) : ما لا مثل له، وهو سائر الطير، فيجب فيه
قيمته، إلا ما كان أكبر من الحمام، فهل تجب القيمة أو شاة؟
ولا خلاف في وجوب ضمان الصيد من الطير، إلا ما حكى عن
داود: ما كان أصغر من الحمام لا يضمن، لأن الله قال:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} . 2 ولنا:
عموم قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} الآية. 3 وقد قيل في
قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} : 4 يعني: الفرخ والبيض وما
لا يقدر أن يفر، {وَرِمَاحُكُمْ} : 5 يعني: الكبار. و"حكم
عمر في الجراد بجزاء"، ودلالة الآية على وجوب جزاء غيره لا
يمنع من الجزاء في هذا بدليل آخر. وما كان أكبر من الحمام،
فعن ابن عباس: "فيه شاة"، وقيل: قيمته، وهو مذهب الشافعي.
وكلما قتل صيداً حكم عليه، وعنه: "لا يجب إلا في المرة
الأولى". وروي عن ابن عباس، وبه قال الحسن
__________
1سورة المائدة آية: 95.
2سورة المائدة آية: 95.
3سورة المائدة آية: 95.
4سورة المائدة آية: 94.
5سورة المائدة آية: 94.
(1/310)
وشريح وغيرهم. ولنا: أنها لا تمنع الوجوب،
بدليل قوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}
الآية. 1 وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف، وأمره
إلى الله. قال أحمد: إذا قتل القارن صيداً فعليه جزاء
واحد، وهؤلاء يقولون: جزاءان، فيلزمهم أن يقولوا: في صيد
الحرم ثلاثة.
__________
1سورة البقرة آية: 275.
(1/311)
باب صيد الحرم
الأصل في تحريمه: النصُّ والإجماع، ويضمن بمثله كالإحرام.
وعن داود: لا جزاء فيه، لأنه لم يرو فيه نص. ولنا: "أن
الصحابة قضوا في حمام الحرم بشاة"، ولم ينقل عن غيرهم
خلاف. وللصوم مدخل فيه عند الأكثرين، خلافا لأبي حنيفة.
وكل ما يضمن في الإحرام يضمن في الحرم، إلا القمل، فإنه
يباح في الحرم بغير خلاف.
وأجمعوا على تحريم قطع شجر الحرم البري الذي لم ينبته
الآدمي، وعلى إباحة الإذخر، وما أنبته الآدمي من البقول
والزرع والرياحين، حكاه ابن المنذر. وما أنبته من الشجر
فقيل: له قلعه من غير ضمان، وقال الشافعي: الجزاء بكل حال،
أنبته الآدمي أو نبت بنفسه، لعموم قوله: "لا يُعضد شجرها".
1 ويحرم قطع الشوك والعوسج، وعن الشافعي: لا يحرم، لأنه
يؤذي، أشبه السباع. ولنا: قوله: "لا يُعضد شجرها"، 2 وفي
لفظ: "لا يُختلى شوكها". 3 ولا بأس بقطع اليابس من الشجر
والحشيش، لأنه بمنزلة الميت، ولا يقطع ما انكسر ولم يبِن،
لأنه قد تلف.
ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر
بغير فعل آدمي، ولا فيما سقط، ولا نعلم فيه خلافاً، لأن
الجزاء إنما ورد في القطع؛ وأما إذا قطعه الآدمي، فقال
أحمد: من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وليس له أخذ ورق
الشجر. وقال الشافعي: له أخذه. ولنا: قوله: "لا يُخبط
__________
1 البخاري: العلم (112) , ومسلم: الحج (1355) , وأبو داود:
المناسك (2017) , وأحمد (2/238) , والدارمي: البيوع (2600)
.
2 البخاري: العلم (112) , ومسلم: الحج (1355) , وأبو داود:
المناسك (2017) , وأحمد (2/238) , والدارمي: البيوع (2600)
.
3 البخاري: العلم (112) , ومسلم: الحج (1355) .
(1/312)
شوكها، ولا يُعضد شجرها". 1 رواه مسلم. وفي
رعي الحشيش وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز، وهو مذهب الشافعي، لأن الهدايا لم ينقل سدّ
أفواهها.
ويباح أخذ الكمأة منه، لأنه يشبه الثمرة. ويجب ضمان شجر
الحرم وحشيشة [وبه قال الشافعي] . 2 وقال مالك: لا يضمن.
قال ابن المنذر: لا أجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضاً
من كتاب الله ولا سنة ولا إجماع، وأقول كما قال مالك:
يستغفر الله تعالى. ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه، "لأن
ابن عمر وابن عباس كرهاه"، ولا يكره إخراج ماء زمزم.
وصيد المدينة وشجرها وحشيشها حرام، وبه قال مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يحرم، لأنه لو حرم لبين بياناً عاماً
ولوجب فيه الجزاء. ولنا: حديث علي وابن زيد وأبي رافع وأبي
هريرة، متفق عليه. رواه مسلم عن سعد وجابر وأنس؛ وهذا يدل
على تعميم البيان، وليس هو في الدرجة دون أخبار تحريم
الحرم. وقد أثبتوه على أنه ليس بممتنع أن بينه بياناً
خاصاً أو بينه بياناً عاماً، فبنقل خاص كصفة الأذان والوتر
والإقامة.
ويفارق حرم مكة في شيئين:
أحدهما: أنه يجوز أخذ ما تدعو الحاجة إليه، من المساند
والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف، لما روى
أحمد عن جابر: أنه لما حرّم المدينة قالوا: يا رسول الله،
إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضاً غير
أرضنا، فرخص لنا. فقال: "القائمتان والوسادة والعارضة
والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيئاً".
قيل: المسند: مردود البكرة. وفي حديت علي: "إلا أن يعلف
رجل بعيره". رواه أبو داود،
__________
1 البخاري: العلم (112) وفي اللقطة (2434) والديات (6880)
, ومسلم: الحج (1355) .
2 ما بين القوسين ساقط من الطبعة السلفية.
(1/313)
الثاني: أن من صاد صيداً خارجه، ثم أدخله
إليها، يلزمه إرساله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا
عمير، ما فعل النغير؟ "، 1 وهو طائر صغير. ولا جزاء في صيد
المدينة في قول الأكثر، وعنه: فيه الجزاء، وهو قول الشافعي
في القديم، لقوله: "مثل ما حرّم إبراهيم مكة"، 2 وجزاؤه:
إباحة سلب الفاعل لمن أخذه، لحديث سعيد، رواه مسلم. وإن لم
يسلبه أحد، فلا شيء عليه إلا التوبة.
وحدّ حرمها: ما بين ثور إلى عير، وهو ما بين لابتيها، وهو
بريدٌ في بريد، كذا فسره مالك. ولا يحرم صيد وج ولا شجره،
وقال أصحاب الشافعي: "يحرم"، للحديث؛ وقد ضعفه أحمد.
__________
1 البخاري: الأدب (6129) , ومسلم: الآداب (2150) ,
والترمذي: الصلاة (333) والبر والصلة (1989) , وأبو داود:
الأدب (4969) , وابن ماجة: الأدب (3720, 3740) , وأحمد
(3/114, 3/119, 3/171, 3/188, 3/190, 3/201, 3/212, 3/222,
3/278, 3/288) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2893) .
(1/314)
باب دخول مكة
"يستحب الاغتسال له"، لحديث ابن عمر، والمرأة كالرجل
لقوله: "افعلي ما يفعل الحاج". 1 و"يستحب أن يدخل من
أعلاها من ثنية كداء، ثم يدخل من باب بني شيبة"، لحديث ابن
عمر وجابر. وإذا رأى البيت رفع يديه وكبّر، وقال: "اللهم
أنت السلام، ومنك السلام، حيّنا ربنا بالسلام". رواه
الشافعي عن ابن المسيب. وله عن ابن جريج أنه صلى الله عليه
وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: "اللهم زد هذا
البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، ومهابة وبراً. وزد من
شرفه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيما وبراً".
و"يروى رفع اليدين عند رؤية عن ابن عمر وابن عباس"، وكرهه
جابر وقال: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم
يكن يفعله". رواه النسائي.
و"يبتدئ بالطواف اقتداء به صلى الله عليه وسلم"، ولأنه
تحية المسجد الحرام. فإن كان معتمراً بدأ بطواف العمرة،
ولم يحتج لطواف القدوم. ومن دخله وقد قامت الصلاة اشتغل
بها، وإن كان مفرداً أو قارناً بدأ بطواف القدوم، وهو سنة
بغير خلاف. ويضطبع بردائه، فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن
وطرفيه على عاتقه الأيسر، وبه قال الشافعي وكثير من أهل
العلم. وقال مالك: ليس بسنة، ولا يفعله في السعي، وقال
الشافعي: يضطبع فيه. قال أحمد: ما سمعنا فيه شيئاً.
ويبتدئ الطواف من الحجر، فيحاذيه
__________
1 البخاري: الحيض (305) , وأحمد (6/273) .
(1/315)
بجميع بدنه، فإن حاذاه ببعضه احتمل أن
يجزئه، ثم يستلمه ويقبّله؛ والاستلام: المسح باليد، لحديث
عمر وابن عباس. فإن شق تقبيله استلمه وقبّل يده، لحديث ابن
عباس. فإن شق عليه، استلمه بشيء في يده وقبّله، لحديث ابن
عباس، رواه مسلم، وإلا قام بحذائه واستقبله بوجهه، وأشار
إليه وكبّر. فإن أمكنه استلامه بعصا ونحوها فعل. ويقول عند
استلامه ما روى ابن السائب: أنه صلى الله عليه وسلم قال
عند استلامه: "بسم الله والله أكبر. إيماناً بك، وتصديقاً
بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله
عليه وسلم"؛ 1 يقول ذلك كلما استلمه. فإذا أتى على الركن
اليماني استقبله وقبّل يده، ولا يقبّله، وهو قول أكثر أهل
العلم. قال ابن عبد البر: أهل العلم يرون تقبيل الأسود دون
اليماني، وأما استلامهما فأمر مجمع عليه. وأما العراقي
والشامي فلا يسن استلامهما في قول الأكثر.
ويجب الطواف سبعاً، ويرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى
الحجر، وهو: إسراع المشي مع تقارب الخطا من غير وثب. وهو
سنة في الأشواط الثلاثة من طواف القدوم وطواف العمرة
للمتمتع، لا نعلم فيه خلافاً. ويمشي أربعة. وقال طاووس
وعطاء: يمشي ما بين الركنين، "لأمره صلى الله عليه وسلم
أصحابه بذلك، وهذا في عمرة القضية، ورمل في حجة الوداع من
الحجر إلى الحجر". فإن ترك الرمَل في شوط من الثلاثة أتى
به في الاثنين الباقيين، ومن تركه في الاثنين أتى به في
الثالث كذلك. قال الشافعي: وإن نسيه لم يعده، وإن تركه
عمداً لم يلزمه شيء به. وقال عامة العلماء وحكي عن الثوري:
أن عليه دماً، لأنه نسك، وجاء: "من ترك نسكاً فعليه دم"،
والحديث عن ابن عباس، وقد قال: "من ترك الرمَل فلا شيء
عليه"، ثم قد خص بالاضطباع.
ويستحب الدنو من البيت،
__________
1 الترمذي: الأضاحي (1521) , وأبو داود: الضحايا (2810) .
(1/316)
فإن كان قربه زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ
أحداً وتمكن من الرمل، وقف ليجمع بين الرمل والدنو من
البيت. وإن لم يظن ذلك، وظن أنه إذا كان في حاشية الناس
تمكن من الرمَل فعَل، وكان أولى من الدنو. وإن لم يتمكن أو
يختلط بالنساء، فالدنو أولى. ويطوف كيفما أمكنه، فإذا وجد
فرجة رمَل فيها، وإن تباعد من البيت، أجزأه ما لم يخرج من
المسجد، لحديث أم سلمة.
وكلما حاذى الحجر والركن اليماني استلمهما وأشار إليهما،
ويقول كلما دنا من الحجر: "لا إله إلا الله، والله أكبر.
إيماناً بك"، لقول ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر كل طوفة". 1
رواه أبو داود. فإن شق استلامهما أشار إليهما، لحديث ابن
عباس. وكلما أتى الركن أشار إليه بيده وكبّر. ويقول بين
الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآية، 2
لحديث ابن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقوله
بينهما. ويدع الحديث إلا ذكر الله، لقوله: "الطواف بالبيت
صلاة، فمن تكلّم فلا يتكلّم إلا بخير". 3 ولا بأس بقراءة
القرآن، وعنه: يكره، وروي عن الحسن ومالك.
والمرأة كالرجل في البداءة بالطواف وفيما ذكر، إلا أنها
إذا قدمت مكة نهاراً ولم تخش حيضاً استحب لها تأخير الطواف
إلى الليل لأنه أستر. ولا تزاحم الرجال لتستلم الحجر.، قال
ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا رمَل عليهن بين الصفا
والمروة، لأن الأصل فيه إظهار الجلد، ولا يقصد ذلك من
النساء، إنما يقصد منهن الستر، وليس عليهن اضطباع. وليس
على أهل مكة رمل ولا اضطباع، قال أحمد: ليس عليهم رمل
البيت ولا بين الصفا والمروة،
__________
1 أبو داود: المناسك (1876) .
2 سورة البقرة آية: 201.
3 النسائي: مناسك الحج (2922) , وأحمد (3/414, 4/64) .
(1/317)
وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع.
ويصح طواف الراكب لعذر بغير خلاف، وإن كان لغير عذر فعنه:
لا يجزئ، لقوله: "الطواف بالبيت صلاة". 1 والثانية: يجزئه
وعلية دم. والثالثة: يجزئ بغير دم، وهو مذهب الشافعي وابن
المنذر، وقال: لا قول لأحد مع فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم. والطواف راجلاً أفضل بغير خلاف، لفعله صلى الله عليه
وسلم في غير تلك المرة، ولفعل أصحابه، و"حديث أم سلمة يدل
على المشي إلا لعذر"، فأما السعي محمولاً وراكباً فيجزيه،
ولو لغير عذر.
والطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحته، وبه قال
مالك والشافعي. وعنه: ليس شرطاً بل يجبر بدم. وقال أبو
حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطاً. ولنا: قوله: "لا يطوف بالبيت
عريان"، 2 وقوله: "غير ألا تطوفي بالبيت". 3 وإن شك في عدد
الطواف بني على اليقين، ذكره ابن المنذر إجماعاً. وإذا
أقيمت الصلاة المكتوبة قطع الطواف، فإذا صلى بنى على
طوافه، قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه، إلا
الحسن، فإنه قال: يستأنف. وكذا الحكم في الجنازة إذا حضرت.
وحكم السعي حكم الطواف فيما ذكرنا، وهو قول الشافعي وأبي
ثور وعطاء، ولا نعلم عن غيرهم خلافاً.
و"يستحب أن يصلي بعده ركعتين خلف المقام، يقرأ فيهما بسورة
"الإخلاص""، لحديث جابر؛ وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما
أجزأه، "لأن عمر ركعهما بذي طوى. ولما طافت أم سلمة لم
تصلّ حتى خرجت". ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة. و"كان
ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه، فتمر المرأة فينتظرها
حتى ترفع رجلها، ثم يسجد". وهما سنة مؤكدة، وبه قال مالك.
وللشافعي قولان: أحدهما: الوجوب. ولنا: قوله: "لا. إلا أن
تطوّع". "فإن صلى المكتوبة بعده
__________
1 النسائي: مناسك الحج (2922) , وأحمد (3/414, 4/64) .
2 البخاري: الصلاة (369) , ومسلم: الحج (1347) , والنسائي:
مناسك الحج (2957, 2958) , وأبو داود: المناسك (1946) ,
وأحمد (2/299) , والدارمي: الصلاة (1430) .
3 البخاري: الحيض (294) , والنسائي: الحيض والاستحاضة
(348) ومناسك الحج (2741) , وأبو داود: المناسك (1782) .
(1/318)
أجزأت عنهما"، روي عن ابن عباس. وعنه:
يصليهما بعد المكتوبة، وبه قال مالك. "ولا بأس أن يجمع بين
الأسابيع، ثم يركع لكل أسبوع ركعتين، فعلته عائشة
والمسور"، و"كرهه ابن عمر ومالك، لأنه صلى الله عليه وسلم
لم يفعله".
فإذا ركع ركعتي الطواف وأراد الخروج إلى الصفا عاد إلى
الحجر فاستلمه، لفعله صلى الله عليه وسلم، وكذلك استحبه
مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. ثم يخرج إلى الصفا من
بابه، ويسعى سبعاً. و"يبدأ بالصفا فيرقى عليه حتى يرى
البيت فيستقبله"، لحديث جابر، ويدعو بما في حديثه. قال
أحمد: ويدعو بدعاء ابن عمر. فإن لم يرق على الصفا، فلا شيء
عليه.
وحكم المرأة حكم الرجل، إلا أنها لا ترقى لئلا تزاحم
الرجال. ثم ينزل فيمشي حتى يأتي العلَم فيسعى سعياً شديداً
إلى العلَم الآخر. ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيفعل عليها
ما فعل على الصفا. ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في
موضع سعيه. يفعل ذلك سبعاً، ويكثر من الدعاء والذكر،
لحديث: "إنما جُعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة
لإقامة ذكر الله ". 1 صححه الترمذي.
والرمَل في السعي سنة، لا شيء على تاركه. ويستحب أن يسعى
طاهراً مستتراً متوالياً، وعنه: أن ذلك شرط، والأول قول
أكثر أهل العلم، لقوله: "افعلي ما يفعل الحاج، غير ألاّ
تطوفي بالبيت". 2 وإن سعى قبل الطواف لم يصح، وبه قال مالك
والشافعي وأصحاب الرأي. وعنه: يجزيه إن نسي، لقوله في
التقدم والتأخر: "لا حرج".
ولا تجب الموالاة بين الطواف والسعي، قال عطاء: لا بأس أن
يطوف أول النهار ويسعى آخره. فإذا فرغ المتمتع قصّر من
شعره أو حلق وتحلل، إلا إن كان معه هدي، فيقيم على إحرامه.
وعنه: له التقصير من شعره خاصة، لحديث معاوية. وقال مالك:
له التحلل ونحر هديه عند
__________
1 الترمذي: الحج (902) , وأبو داود: المناسك (1888) ,
وأحمد (6/64, 6/75, 6/138) , والدارمي: المناسك (1853) .
2 البخاري: الحيض (305) , وأحمد (6/273) .
(1/319)
المروة. ولنا: حديث ابن عمر وعائشة
وغيرهما. وعنه فيمن قدم متمتعاً في أشهر الحج وساق الهدي
قال: إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي إلا يوم النحر، وإن
قدم قبل العشر نحر الهدي، وبه قال عطاء، وقال: من لبد أو
ضفر فهو بمنزلة من ساق الهدي، لحديث حفصة، والأول أولى،
للأحاديث الصحيحة الصريحة.
فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل، سواء كان معه هدي أو
لم يكن، في أشهر الحج أو غيرها، "لأنه صلى الله عليه وسلم
اعتمر ثلاث عمر، عمرته التي مع حجته، بعضهن أو كلهن في ذي
القعدة، وكان يحل". فإن كان معه هدي نحره عند المروة، وحيث
نحره من الحرم جاز، لقوله: "فجاج مكة كلها طريق ومنحر". 1
رواه أبو داود. والمستحب للمتمتع إذا حل: التقصير ليؤخر
الحلق إلى الحج، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه إلا
به، فقال في حديث جابر: "حلّوا من إحرامكم بطواف،
وقصِّروا"، 2 وفي حديث ابن عمر: "من لم يكن معه هدي، فليطف
بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصّر وليحلل". متفق عليه.
وإن حلق جاز، لأنه أحد النسكين. فإن ترك الحلق والتقصير،
فعليه دم. فإن وطئ قبله فعليه دم، وبه قال مالك وأصحاب
الرأي. وحكي عن الشافعي: أن عمرته تفسد. ولنا: قول ابن
عباس فيمن وقع عليها زوجها معتمرة، قبل أن يقصر: "من ترك
شيئاً من مناسكه أو نسيه، فليهرق دماً".
والمتمتع يقطع التلبية إذا وصل البيت، وبه قال ابن عباس
والشافعي. وعن ابن عمر: "إذا وصل الحرم". ولنا: حديث ابن
عباس: "كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر".
صححه الترمذي.
__________
1 أبو داود: المناسك (1937) , وابن ماجة: المناسك (3048) ,
والدارمي: المناسك (1879) .
2 البخاري: الحج (1568) .
(1/320)
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
إذا رأى البيت رفع يديه وكبر ويدعو، وعند الشيخ: لا. فإذا
حاذى الحجر أو بعضه ببعض بدنه، لم يجزه عن ذلك الشوط،
وقيل: يجزئ، اختاره الشيخ.
ويستحب استقبالُ الحجر بوجهه، قال الشيخ: هو السنة. ويجعل
البيت عن يساره، قال الشيخ: تكون الحركة الدورية يعتمد
فيها اليمنى على اليسرى، فلما كان الإكرام ذلك للخارج جعل
اليمنى. قوله: ويقول كلما حاذى الحجر: "الله أكبر، ولا إله
إلا الله"، وقيل: يكبّر فقط. وقال الشيخ: تستحب القراءة
فيه لا الجهر، قال: وليس له القراءة إذا أغلط المصلين،
وقال: جنس القراءة أفضل من جنس الطواف. وقال أحمد في الرد
على أبي حنيفة: "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على
بعيره"، 1 وقال: هو إذا حمل فعليه دم. قوله: أو شاذروان
الكعبة، وعند الشيخ: أنه ليس من الكعبة، بل جعل عماداً
للبيت.
وعنه: يصح الطواف من حائض، ويجبر بدم. واختار الشيخ: الصحة
فيها، ومن كل معذور، وأنه لا دم على واحد منهم. ولا يشرع
تقبيل المقام ولا مسحه، قال في الفروع: إجماعاً. نقل
الفضل: يكره مسّه وتقبيله.
__________
1 البخاري: الطلاق (5293) , ومسلم: الحج (1272) ,
والنسائي: المساجد (713) ومناسك الحج (2954) , وأبو داود:
المناسك (1877) , وابن ماجة: المناسك (2948) , وأحمد
(1/214, 1/237, 1/264, 1/304) .
(1/321)
باب صفة الحج
الأولى أن نبدأ بحديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم،
ونقتصر منه على ما يخص هذا الباب، وهو صحيح رواه مسلم. وفي
أثنائه: "فحلّ الناس كلهم وقصّروا، إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا
إلى منى، فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر،
ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمسُ، وأمر بقبة من شعر فضربت له
بنمرة". ثم ذكر الحديث. قال عطاء: "كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينزل منى بالخيف". وسمي يوم الثامن يوم التروية،
لأنهم يتروون من الماء فيه ليوم عرفة.
"والمستحب لمن كان بمكة من أهلها وغيرهم وهم حلال، أن
يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى، وبه قال ابن عباس
وابن عمر"، وعن عمر أنه قال لأهل مكة: "إذا رأيتم الهلال،
فأهلّوا بالحج"، وقاله ابن الزبير. قال مالك: أحب لمن كان
بمكة أن يهلّ من المسجد لهلال ذي الحجة. ولنا: حديث جابر،
وفي بعض ألفاظه: "أُمرنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى". 1
رواه مسلم. والأفضل أن يحرم من مكة، لقوله في المواقيت:
"حتى أهل مكة يهلّون منها". 2 ومن أيها أحرم جاز، للحديث.
وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز، لقول جابر: "فأهللنا
من الأبطح"، ولأن المقصود: الجمع في النسك بين الحل
والحرم. ويفعل ما يفعل عند الإحرام من الميقات من الغسل
والتنظف،
__________
1 مسلم: الحج (1214) .
2 البخاري: الحج (1526) , ومسلم: الحج (1181) , وأحمد
(1/238, 1/252) , والدارمي: المناسك (1792) .
(1/322)
ويتجرد عن المخيط. ويطوف سبعاً ويصلي
ركعتين ثم يحرم عقيبهما. وممن استحبه: عطاء ومجاهد. ولا
يسن أن يطوف بعد إحرامه، قال ابن عباس: "لا أرى لأهل مكة
أن يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج، ولا أن يطوفوا بين الصفا
والمروة، حتى يرجعوا"، وهذا مذهب مالك وإسحاق. وإن فعل لم
يجزئ عن السعي الواجب، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يجزئه،
"فعَله ابن الزبير لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه". ولنا:
أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بما تقدم، ولو شرع لهم
الطواف لم يتفقوا على تركه. وقالت عائشة: "فطاف الذين
أهلّوا بالعمرة وبين الصفا والمروة، ثم حلّوا. ثم طافوا
طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى". و"يستحب أن يخرج كما
ذكرنا، فيصلي ثم يقيم بها حتى يصلي الصلوات الخمس، ويبيت
بها"، كما في حديث جابر، وهذا قول مالك والشافعي، ولا نعلم
فيه خلافاً. ولا يجب ذلك عند الجميع. "وقد تخلفت عائشة
ليلة التروية حتى ذهب ثلثا الليل، وصلى ابن الزبير بمكة".
فإن صادف يوم التروية جمعة، فمن كان مقيماً بمكة إلى
الزوال ممن تجب عليه، لم يخرج حتى يصليها، ولأنها فرض
والخروج في هذا الوقت ليس بفرض. فأما قبل الزوال، فإن شاء
خرج وإن شاء أقام حتى يصلي، روي أنه وجد في أيام عمر بن
عبد العزيز فخرج إلى منى. وقال عطاء: كل من أدركت يصنعونه
إذا أدركتهم يجمع بمكة إمامهم ويخطب، ومرة لا يجمع ولا
يخطب؛ فعلى هذا، إذا خرج الإمام، أمر من تخلف أن يصلي
الجمعة بالناس.
و"يستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس، فيقيم
بنمرة"، لما تقدم من حديث جابر. "فإذا زالت الشمس، استحب
للإمام أن يخطب يعلّم الناس مناسكهم: من موضع الوقف ووقته
والدفع والمبيت بمزدلفة
(1/323)
وأخذ الجمار"، لحديث جابر. ثم يأمر
بالأذان، فينزل فيصلي الظهر والعصر يجمع بينهما، ويقيم لكل
صلاة. وقال أبو ثور: يؤذن إذا صعد الإمام المنبر، فإذا فرغ
خطب، وقيل: يؤذن في آخر الخطبة، و"حديث جابر يدل على أنه
أذن بعدها". وإن لم يؤذن للأولى فلا بأس، هكذا قال أحمد،
لأن كلاً مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقال: مالك يؤذن
لكل صلاة، واتباع السنة أولى. والسنة تعجيل الصلاة وتقصير
الخطبة، لقول سالم للحجاج: "إن كنت تريد السنة، فقصِّر
الخطبة وعجِّل الصلاة"، فقال ابن عمر: "صدق"، رواه
البخاري، ولأن التطويل يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت
الزوال، والسنة التعجيل في ذلك، لقول ابن عمر للحجاج. قال
ابن عبد البر: هذا كله مما لا خلاف فيه. قال ابن المنذر:
أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر
بعرفة، وكل من صلى معه. وذكر أصحابنا أنه لا يجمع إلا من
بينه وبين وطنه مسافة قصر، والصحيح: الأول، فإنه صلى الله
عليه وسلم جمع معه من حضر من المكيين، فلم يأمرهم بترك
الجمع كما قال: " أتموا، فإنا قوم سفر". 1 فأما القصر فلا
يجوز، وبه قال الشافعي. وقال مالك والأوزاعي: لهم القصر.
ثم يروح إلى الموقف، وعرفة كلها موقف، إلا بطن عُرَنة.
و"يستحب أن يغتسل للوقوف، لأن ابن مسعود فعله"، وبه قال
الشافعي وابن المنذر. ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل
الرحمة راكباً، وقيل: الراجل أفضل. ويكثر من الدعاء، ومن
قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله
الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير". ويختار المأثور
من الأدعية، ويدعو بما أحب من الدعاء والذكر إلى الغروب.
ولا نعلم خلافاً
__________
1 مالك: النداء للصلاة (349) .
(1/324)
أن آخر وقت الوقوف: طلوع الفجر يوم النحر،
وأما أوله: فمن طلوع الفجر يوم عرفة. وقال مالك والشافعي:
أوله: وقت الزوال يوم عرفة. ولنا: قوله: "وقد وقف قبل ذلك
بعرفة ليلاً أو نهارا ... إلخً". 1 وكيفما حصل بعرفة وهو
عاقل أجزأه، ولو نائما أو مرَّ بها ولم يعرفها، وقال مالك
والشافعي وأبو ثور: لا يجزئه، لأنه لا يكون واقفاً إلا
بالإرادة، ومن وقف وهو مغمًى عليه أو مجنون أو لم يفق حتى
خرج منها لم يجزئه، وبه قال الشافعي. وقال مالك في المغمى
عليه: يجزئه. وتوقف أحمد فيها. والحسن يقول: بطل حجه.
وعطاء لم يرخص فيه.
وقال أحمد: يستحب أن يشاهد المناسك كلها على وضوء، ولا يجب
ذلك، حكاه ابن المنذر إجماعاً، لحديث عائشة: " افعلي ما
يفعل الحاج"، 2 ولا يشرط له سترة ولا استقبال ولا نية، لا
نعلم فيه خلافاً.
ومن دفع قبل الغروب فعليه دم، وقال مالك: لا حج له. قال
ابن عبد البر: لا نعلم أحداً قال بقول مالك. وعن ابن جريج:
عليه بدنة، ونحوه قول الحسن. ولنا: قول ابن عباس: "من ترك
نسكاً فعليه دم". وإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهاراً حتى
غربت، فلا دم عليه، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو ثور:
عليه دم. وإذا لم يأت بها 3 حتى غابت فوقف ليلاً، تم حجه
ولا شيء عليه، لا نعلم فيه مخالفاًً، لقوله: "من أدرك
عرفات بليل، فقد أدرك الحج". 4
"ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة وعليه السكينة، فإذا وجد
فجوة أسرع"، لحديث جابر وأسامة. قال أحمد: لا يعجبني أن
يدفع قبل الإمام. وسئل عن: رجل دفع قبل الإمام بعد غروب
الشمس؟ فقال: ما وجدت عن أحد سهّل في الدفع قبله، كلهم
يشدّدون فيه، ويكون ملبياً ذاكراً، لقوله: {فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآية. 5 ويمضي على طريق
المأزمين "لأنه صلى الله عليه
__________
1 الترمذي: الحج (891) , والنسائي: مناسك الحج (3039) ,
وأبو داود: المناسك (1950) , وابن ماجة: المناسك (3016) ,
وأحمد (4/15, 4/261, 4/262) , والدارمي: المناسك (1888) .
2 البخاري: الحيض (305) , وأحمد (6/273) .
3 كذا في المخطوطة والمطبوعة ولعل صوابه: وإذا لم يأتها.
4 الترمذي: تفسير القرآن (2975) .
5 سورة البقرة آية: 198.
(1/325)
وسلم سلكها". والسنة أن لا يصلي المغرب إلا
بمزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء بغير خلاف. ويجمع قبل
حط الرحال، ويقيم لكل صلاة إقامة. "وممن روي عنه الجمع
بينهما بإقامتين بلا أذان: ابن عمر وسالم" والقاسم
والشافعي وإسحاق. و"إن اقتصر على إقامة الأولى، فلا بأس؛
روي عن ابن عمر". و"إن أذن للأولى وأقام الثانية فحسن"،
وهو في حديث جابر، وبه قال ابن المنذر، وقال: الأولى آخر
قولي أحمد، لأنها رواية أسامة، وهو أعلم بحاله لكونه
رديفة. وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها، بخلاف
المجموعتين بعرفة. وقال مالك: "يجمع بينهما بأذانين
وإقامتين، روي عن عمر وابن مسعود"، واتباع السنة أولى. قال
ابن عبد البر: لا أعلم فيما قال مالك حديثاً مرفوعاً. وقال
قوم: "إنما أمر عمر بالتأذين للثانية، لأن الناس تفرقوا
لعشائهم، وكذلك ابن مسعود، فإنه يجعل العشاء بمزدلفة بين
الصلاتين"، والسنة أن لا يتطوع بينهما. قال ابن المنذر: لا
يختلفون في ذلك. وإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة
وأجزأه، وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري: لا يجزئه،
ولا نعلم خلافاً أنه إذا فاته الجمع مع الإمام بمزدلفة أنه
يجمع وحده، وكذلك لو فرق لم يبطل الجمع لقوله: "ثم أناخ كل
إنسان بعيره ثم صلى العشاء"، و"كذا إن فاته الجمع مع
الإمام بعرفة بين الظهر والعصر، فعله ابن عمر"، وبه قال
مالك والشافعي. وقال الثوري: له لا يجمع إلا مع الإمام.
والمبيت بمزدلفة واجب، من تركه فعليه دم، وقال علقمة: فاته
الحج، لقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، 1
ولقوله: "من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا ... إلخ"، 2 ومنطوق
الآية ليس بركن إجماعاً، فإنه لو بات ولم يذكر الله ولم
يشهد الصلاة، صح حجه، وكذلك شهود صلاة
__________
1 سورة البقرة آية: 198.
2 الترمذي: الحج (891) , والنسائي: مناسك الحج (3039,
3040, 3041, 3042, 3043) , وأبو داود: المناسك (1950) ,
وابن ماجة: المناسك (3016) , وأحمد (4/15, 4/261, 4/262) ,
والدارمي: المناسك (1888) .
(1/326)
الفجر. فلو أفاض من عرفة آخر ليلة النحر
أمكنه ذلك، فيتعين حمله على الإيجاب أو الفضيلة.
ولا يدفع قبل نصف الليل، فإن فعل فعليه دم، وإن دفع بعده
فلا شيء عليه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن مرَّ فلم
ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. ولنا: "أنه
صلى الله عليه وسلم بات بها وقال: خذوا عني مناسككم". 1
وإنما"أبيح الدفع بعد النصف للرخصة الواردة"، لحديث ابن
عباس وأم سلمة، وإن عاد فدفع بعد النصف فلا دم عليه،
كالعائد إلى عرفة نهاراً.
ويجب الدم على من دفع قبل النصف، وعلى من ترك المبيت بمنى،
عمداً أو سهواً، عالماً أو جاهلاً، لأنه أرخص لأهل السقاية
والرعاية في ترك البيتوتة. فلو وافاها بعد نصف الليل فلا
دم عليه، وإن جاء بعد الفجر فعليه دم. والمستحب: "الاقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت إلى أن يصبح، ثم
يقف حتى يسفر". ولا بأس بتقديم الضعفة، "وممن كان يقدم
ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف، وعائشة"، ولا نعلم فيه
خلافاً.
ويستحب أن يعجل صلاة الفجر ليتسع وقت الوقوف عند المشعر
الحرام، "ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عنده أو يرقى عليه إن
أمكنه، فيذكر الله تعالى ويجتهد إلى أن يسفر"، لحديث جابر،
ولا نعلم خلافاً في استحباب الدفع من قبل طلوع الشمس. وكان
مالك يرى الدفع من قبل الإسفار. ولنا: حديث جابر.
و"يستحب أن يسير وعليه السكينة، فإذا بلغ محّسراً أسرع قدر
رمية بحجر"، لحديث جابر. ويلبي في طريقه، لأنه من شعائر
الحج، ولا ينقطع إلا بالشروع في الإحلال، وأوله رمي جمرة
العقبة. ثم يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة، ومن حيث
أخذه جاز، لئلا يشتغل عند قدومه بشيء قبل الرمي، لأنه تحية
له كما أن الطواف تحية المسجد الحرام. ولا يبدأ بشيء قبله.
__________
1 النسائي: مناسك الحج (3062) .
(1/327)
"وكان ابن عمر يأخذ من جمع"، واستحبه
الشافعي. وقال أحمد: من حيث شاء، اختاره ابن المنذر، وهو
أصح، لحديث ابن عباس: "القط لي حصى ... إلخ"، 1 وكان ذلك
بمنى.
ويستحب أن يكون كحصى الخذف، للخبر، ولقول جابر: "كل حصاة
منها مثل حصى الخذف، فإن رمى بحجر كبير أو صغير أجزأه".
وقال أحمد: لا يجوز حتى يأتي بالحصى على ما فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بهذا القدر، ونهى عن
مجاوزته؛ والأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد. وعنه:
"يستحب غسله، لأنه مروي عن ابن عمر". وعنه: لا. وقال: لم
يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وهذا هو
الصحيح. وعدده: سبعون حصاة، يرمي بسبع منها يوم النحر،
وباقيها في أيام منى، كل يوم بإحدى وعشرين. فإذا وصل إلى
منى بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع، يكبّر مع كل حصاة.
ويستحب سلوك الطريق التي تخرج على الجمرة الكبرى، لفعله
صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر: "فرماها بسبع يكبّر مع
كل حصاة". 2 وإن رماها دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة،
نصَّ عليه، وقال عطاء: يجزيه. ويكبّر لكل حصاة، ويرميها
راجلاً وراكباً، وكيفما شاء، "لأنه صلى الله عليه وسلم
رماها على راحلته، ولا يقف عندها"، لحديث ابن عمر. وقال
نافع: "كان ابن عمر يرميها على راحلته يوم النحر، ولا يأتي
سائرها بعد ذلك إلا ماشياً ذاهباً وراجعاً"، رواه أحمد،
وفيه التفريق بين هذه الجمرة وغيرها، لأنها مما يستحب
البداءة به. ولا يسن عندها وقوف، فلو سن له المشي شغله
النزول عن الابتداء بها. ولا يجزئه إلا أن يقع الحصى في
المرمى، فإن وقع دونه لم يجزه،
__________
1 النسائي: مناسك الحج (3057) .
2 البخاري: الحج (1750) , ومسلم: الحج (1296) , والترمذي:
الحج (901) , والنسائي: مناسك الحج (3073) , وابن ماجة:
المناسك (3030) , وأحمد (1/427, 1/430, 1/432, 1/456,
1/458) .
(1/328)
لا نعلم فيه خلافاً، وكذلك إن وضعها في
المرمى في قول الجميع، لأنه مأمور بالرمي.
ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي، وعن سعد وعائشة: "إذا راح
إلى الموقف". وعن علي وأم سلمة: "أنهما يلبيان حتى تزول
الشمس يوم عرفة".
ويجزئ الرمي بكل ما يسمى حصى، وقال أبو حنيفة: يجزئ بالطين
والمدر، وما كان من جنس الأرض. وعن سكينة بنت الحسين أنها
رمت الجمرة ورجل يناولها الحصى، وسقطت حصاة فرمت بخاتمها.
ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي بمثل حصى
الخذف". وإن رمى بحصى أُخذ من المرمى لم يجزه. ولنا: أنه
لو جاز لما احتاج أحد إلى أخذه من غير مكانه، لأن ابن عباس
قال: ?"ما تُقبل منه رفع".
ويرميها قبل طلوع الشمس، قال ابن عبد البر: أجمعوا: "أنه
صلى الله عليه وسلم رماها ضحى ذلك اليوم"؛ ويجوز من نصف
الليل، وبه قال عطاء والشافعي، وعنه: يجزئ بعد الفجر قبل
طلوع الشمس، وبه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الثوري: لا
يرمي إلا بعد طلوع الشمس، لحديث ابن عباس. ولنا: قصة أم
سلمة، احتج به أحمد وغيره محمول على الاستحباب. قال ابن
عبد البر: أجمعوا على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب،
فقد رماها في وقت لها. فإن أخرها إلى الليل، لم يرمها حتى
تزول الشمس من الغد. وقال الشافعي وابن المنذر: يرمي
ليلاً، لقوله عليه السلام: "ارم ولا حرج". 1 ولنا: أن ابن
عمر قال: "من فاته الرمي حتى تغيب الشمس، فلا يرمي حتى
تزول الشمس من الغد"، وقوله: "ارم ولا حرج"، في النهار،
لأنه سأله يوم النحر، ولا يكون اليوم إلا قبل الغروب. وقال
مالك: يرمي ليلاً وعليه دم، ومرة قال: لا دم عليه.
ثم ينحر هدياً إن كان معه، ويحلق أو يقصر من جميع شعره،
وعنه:
__________
1 البخاري: العلم (83) , ومسلم: الحج (1306) , والترمذي:
الحج (916) , وأبو داود: المناسك (2014) , وأحمد (2/159,
2/192, 2/202, 2/210, 2/217) , ومالك: الحج (959) ,
والدارمي: المناسك (1907) .
(1/329)
يجزئه بعضه. ويتولى النحر بيده، ويجوز أن
يستنيب فيه. ويفرّقه على مساكين الحرم، ويقسم جلودها
وجلالها، للخبر، ولأنه جعله لله.
ويلزم الحلق والتقصير من جميع شعره، وكذلك المرأة، وبه قال
مالك، وعنه: يجزئه بعضه. وقال الشافعي: يجزئه التقصير من
ثلاث شعرات. وقال ابن المنذر: يجزئه ما يقع عليه اسم
التقصير. ولنا: قوله: {محلقين رؤوسهم} الآية، 1 "وحلق صلى
الله عليه وسلم جميع رأسه"، 2 وتفسير المطلق الأمر به. وأي
قدر قصر من الشعر أجزأه، قال أحمد: "يقصر قدر الأنملة"،
وهو قول ابن عمر، وهو محمول على الاستحباب. قال ابن
المنذر: أجمعوا على إجزاء التقصير، إلا أنه يروى عن الحسن
إيجاب الحلق في الحجة الأولى، ولا يصح هذا: لقوله:
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} . 3 والحلق
أفضل، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله". وأما من لبّد أو
عقص أو ضفر، فقال أحمد: من فعله حلق، وبه قال مالك
والشافعى، لما روي مرفوعاً: "من لبّد فليحلقْ". وثبت عن
عمر وابنه: "أنهما أمرا من لبّد بالحلق"، والصحيح:
التخيير، إلا إن ثبت الخبر، وهو قول عمر وابنه، وخالفهما
ابن عباس.
والمرأة تقصر، حكاه ابن المنذر إجماعاً لأن حلقها مثلة.
قال أحمد: نعم، تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من
أطرافه قدر الأنملة. "والذي ليس على رأسه شعر، يستحب له
إمرار الموسى على رأسه"، روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك
والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. وحكاه ابن المنذر إجماعاً،
وليس بواجب. وقال أبو حنيفة: يجب لقوله: "إذا أمرتكم بأمر،
فأتوا منه ما استطعتم ". 4 ولنا: أن الحلق
__________
1سورة الفتح آية: 27.
2 البخاري: المغازي (4252) , وأحمد (2/124) .
3 سورة الفتح آية: 27.
4 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج
(1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة:
المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428,
2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508, 2/517) .
(1/330)
محله الشعر، كالعضو إذا قُطع سقط غسله.
ويستحب تقليم أظفاره، والأخذ من شاربه، قال ابن المنذر:
ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم لما حلق قلّم أظفاره". "وكان
ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره". وكان عطاء وغيره يحبون لو
أخذ من لحيته شيئاً. وكان ابن عمر يقول للحالق: "ابلغ
العظمين، وافصل الرأس من اللحية". وكان عطاء يقول: "من
السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين".
ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، وعنه: إلا الوطء في الفرج؛
والأول: قول عائشة وابن الزبير والشافعي. والثاني: يروى عن
ابن عباس. وعن عمر: "يحل كل شيء إلا النساء والطيب لأنه من
دواعي الوطء". وعن عروة: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا
يتطيب، وروي فيه حديث. ولنا: قول عائشة: "طيبت رسول الله
صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف
بالبيت". 1 وعن سالم عن أبيه قال: قال عمر: "إذا رميتم
وذبحتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب. فقالت عائشة:
طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحق أن تُتّبع". رواه سعيد.
وقال مالك: لا يحل النساء والطيب ولا قتل الصيد، لقوله
تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} الآية، 2 وهذا حرام، وقد
ذكرنا ما يردّ هذا، فإنه ليس بمحرم، وإنما بقي بعض أحكام
الإحرام.
والحلق والتقصير نسك، إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم؟
وممن رآه نسكاً الثلاثة، وعنه: ليس بنسك، وإنما هو إطلاق
من محظور، ووجهه: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحل من
العمرة قبله"، لقول أبي موسى: "أمرني فطفت بالصفا والمروة
فقال لي: أحلّ"، وفي حديث جابر: "من ليس معه
__________
1 البخاري: الغسل (270) والحج (1539) واللباس (5928) ,
ومسلم: الحج (1189) , والنسائي: مناسك الحج (2684, 2685,
2686, 2688, 2691) , وأبو داود: المناسك (1745) , وابن
ماجة: المناسك (3042) , ومالك: الحج (727) .
2 سورة المائدة آية رقم: 95.
(1/331)
هدي فليحلّ"، 1 والأول أصح، فإنه صلى الله
عليه وسلم أمر به، ولقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ} ، 2 فلو لم يكن من المناسك لما وصفهم به
كاللبس، ولأنه ترحّم على المحلقين ثلاثاً والمقصرين مرة،
ولو لم يكن منسكاً لما دخله التفضيل كالمباحات، ولو لم يكن
منسكاً لما داوموا عليه، بل لم يفعلوه إلا نادراً، لأنه لم
يكن من عادتهم. وأما أمره بالحل فمعناه، والله أعلم، الحل
بفعله، لأنه مشهور عندهم، ولا يمتنع الحل من العبادة بما
كان محرما فيه، كالسلام في الصلاة. وإذا قلنا: إنه نسك جاز
تأخيره إلى آخر أيام النحر، لأنه إذا جاز تأخير النحر فهو
أولى. فإن أخره عن ذلك فلا دم عليه، وعنه: عليه دم.
ولا فرق بين العامد والساهي، وقال مالك وغيره: من تركه حتى
يحل فعليه دم، لأنه نسك، فوجب أن يؤتي به قبل الحل. ولنا:
ما تقدم. وهل يحل قبله؟ فيه روايتان:
إحداهما: إنما يحصل بالحلق والرمي معاً، وهو قول الشافعي،
لقوله: "إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء، إلا النساء"
3.
والثانية: يحصل له التحلل بالرمي وحده، وهو قول مالك،
لقوله: "إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء، إلا
النساء"، 4 وكذلك قال ابن عباس. وإن قدم الحلق على الرمي
أو على النحر، جاهلاً أو ناسياً، فلا شيء عليه. والسنة:
"أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف، لفعله صلى الله عليه
وسلم". وقال أبو حنيفة: إن قدم الحلق على الرمي أو على
النحر، فعليه دم. وإن فعله متعمداً، فقال عطاء وإسحاق: لا
دم عليه، لإطلاق حديث ابن عباس وابن عمر من
__________
1 أحمد (3/366) .
2 سورة الفتح آية: 27.
3 أبو داود: المناسك (1978) , وأحمد (6/143) .
4 النسائي: مناسك الحج (3084) , وابن ماجة: المناسك (3041)
, وأحمد (1/234, 1/344) .
(1/332)
رواية ابن عيينة. وعنه: عليه دم، لقوله:
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} ؛ 1 والمطلق قد جاء مقيداً، فيحمل المطلق على
المقيد. قال أبو عبد الله: أما المتعمد، فلا، لقول الرجل:
لم أشعر. قيل له: ابن عيينة لا يقول: لم أشعر. قال: نعم،
لكن مالكاً والناس عن الزهري: "لم أشعر" وهم في الحديث.
وقال مالك: إن قدم الحلق على الرمي، فعليه دم. وإن قدّمه
على النحر، أو النحر على الرمي، فلا شيء عليه، لأنه
بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول. فأما النحر
قبل الرمي فجائز، لأن الهدي قد بلغ محله. ولنا: الحديث،
فإنه لم يفرّق، ولا نعلم بينهم خلافاً أن مخالفاًت الترتيب
لا تمنع الإجزاء، وإنما اختلفوا في الدم. فإن قدم الإفاضة
على الرمي أجزأ طوافه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا
يجزئه، يرمي ثم ينحر ثم يفيض. ولنا: ما روى عطاء: "أن رجلا
قال: يا رسول الله أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج"، 2
وعنه مرفوعاً: "من قدّم شيئاً من قبل شيء، فلا حرج". 3
رواهما سعيد. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي:
"أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج"؛ 4 فعلى هذا، لو وطئ
قبل الرمي وبعد الإفاضة، لم يفسد حجه وعليه دم. فإن رجع
إلى أهله ولم يرم، فعليه دم.
ثم يخطب الإمام خطبة يعلّمهم النحر والإفاضة، وبه قال
الشافعي. وقال مالك: لا يخطب، لأنها في اليوم الذي قبله.
ولنا: حديث ابن عباس. ثم يفيض ويطوف للزيارة ويعيّنه
بالنية، وقال الشافعي: يجزئه وإن لم ينو الفرض. ولنا:
قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، 5 وهذا ركن لا يتم الحج إلا
به بغير خلاف، لحديث صفية: "أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد
أفاضت، قال: اخرجوا". 6
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
2 مسلم: الحج (1306) , وأحمد (2/210) .
3 ابن ماجة: المناسك (3049) .
4 البخاري: العلم (124) , ومسلم: الحج (1306) , وأبو داود:
المناسك (2014) , وأحمد (2/159, 2/202, 2/210) , ومالك:
الحج (959) , والدارمي: المناسك (1907, 1908) .
5 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) ,
والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75)
والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود:
الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25,
1/43) .
6 البخاري: الحج (1757) , وأبو داود: المناسك (2003) ,
وابن ماجة: المناسك (3072) , وأحمد (6/38, 6/82) .
(1/333)
وأول وقته: بعد نصف الليل ليلة النحر، ووقت
الفضيلة: يوم النحر. وآخره: أيام التشريق، والصحيح أن آخر
وقته غير محدود، لأنه متى أتى به صح بغير خلاف، وإنما
الخلاف في وجوب الدم.
ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً، أو لم يسع مع
طواف القدوم. وإن سعى معه لم يسع، لأن السعي الذي سعاه
المتمتع إن كان للعمرة فيشرع له أن يسعى للحج، وإن كان
القارن والمفرد لم يسعيا مع طواف القدوم سعيا بعد طواف
الزيارة، لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف، لأنه صلى الله
عليه وسلم لم يسع إلا بعده. وإن كان قد سعى مع طواف القدوم
لم يسع، لأنه لا يستحب التطوع به كسائر الأنساك، ولا نعلم
خلافاً فيه. فإن لم يسع لم يحلّ إن قلنا: إنه ركن. وإن
قلنا: إنه سنة، فهل يحل؟ على وجهين. قال الخرقي: يستحب
للمتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة، لأن المتمتع لم يأت به
قبل ذلك؛ فإن الطواف الذي طافه في الأول طواف العمرة، وقد
نص عليه في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله: إذا رجع
المتمتع كم يسعى ويطوف؟ قال يطوف ويسعى لحجه، ويطوف طوافاً
آخر للزيارة. عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه.
وكذا القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر،
ولا طافا للقدوم، يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة،
ونص عليه أيضاً، واحتج بقول عائشة: "فطاف الذين أهلّوا
بالعمرة، وبين الصفا والمروة، ثم أحلّوا. ثم طافوا طوافاً
آخر بعد ما رجعوا من منى لحجهم. وأما الذين جمعوا الحج
والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً"، فحمل أحمد أن طوافهم
لحجهم هو طواف القدوم، قال شيخنا: لا أعلم أحداً وافق أحمد
على هذا، بل المشروع طواف واحدٌ
(1/334)
للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة،
فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عنه صلى
الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة
الوداع، ولا أمر به أحداً. وحديث عائشة دليل على هذا،
فإنها قالت: "طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى
لحجهم"، وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافاً آخر. ولو
كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم، لكانت قد أخلت بذكر طواف
الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به، وذكرت ما
يستغنى عنه: وعلى كل حال، فما ذكرت إلا طوافاً واحداً، فمن
أين يستدل به على طوافين؟
وأطوفة الحج ثلاثة:
طواف الزيارة، وهو ركن بغير خلاف.
طواف القدوم، وهو سنّة.
طواف الوداع، واجب في تركه دم.
وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم، ولا شيء على تارك
طواف الوداع. وما زاد على هذه فنفل. ولا يشرع في حقه أكثر
من سعي واحد بغير خلاف علمناه.
ويستحب أن يدخل البيت ويكبّر في نواحيه، ويصلي فيه ويدعو.
وقدم أهل العلم كلام بلال في صلاته على كلام أسامة، لأنه
مثبت وأسامة ناف. وإن لم يدخله فلا بأس، "لأنه صلى الله
عليه وسلم لم يدخله في عمرته"، ولقوله: "لو استقبلت من
أمري ما استدبرت، ما دخلتها" 1.
ويستحب أن يأتي زمزم ويشرب من مائها لما أحب، ويتضلع منه،
لحديث رواه ابن ماجة. ثم يرجع إلى منى ولا يبيت ليالي منى
إلا بها، وهو واجب؛
__________
1 الترمذي: الحج (873) , وأبو داود: المناسك (2029) , وابن
ماجة: المناسك (3064) .
(1/335)
وبه قال مالك والشافعي. وعنه: ليس بواجب،
روي عن الحسن. ووجه الأولى: "رخصه للعباس من أجل السقاية"،
ففيه دليل على أنه لا رخصة لغيره.
ويرمي الجمرات بها في أيام التشريق، كل جمرة بسبع: يبدأ
بالأولى وهي أبعدهن من مكة، فيجعلها عن يساره ويرميها
بسبع. ثم يتقدم قليلاً فيقف ويدعو الله ويطيل. ثم يأتي
الوسطى ويجعلها عن يمينه ويرميها بسبع. ثم يتقدم قليلاً
فيقف ويدعو الله. ثم يرمي جمرة العقبة بسبع، ويستبطن
الوادي، ولا يقف عندها. ويستقبل القبلة في الجمرات كلها،
لا نعلم في جميع ذلك خلافاً، إلا أن مالكاً قال: ليس بموضع
لرفع اليدين.
"ولا يرمي إلا بعد الزوال، فإن رمى قبله أعاد"، روي ذلك عن
ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي. ورخص إسحاق وأصحاب الرأي
في الرمي قبله في يوم النفر، ولا ينفر إلا بعد الزوال.
ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم إنما رمى ذلك اليوم بعد
الزوال". وأي وقت رمى بعد الزوال أجزأه، إلا أنه يستحب
المبادرة حين الزوال. فإن ترك الوقوف عندها والدعاء، فلا
شيء عليه. وعن الثوري: يطعم شيئاً، وإن أراق دماً فهو أحب
إليَّ.
والترتيب في الجمرات واجب، فإن بدأ بجمرة العقبة ثم
الثانية ثم الأولى، أو بالوسطى لم تجزئه الأولى. وإن رمى
القصوى ثم الأولى ثم الوسطى، أعاد القصوى وحدها؛ وبه قال
مالك والشافعي. وقال عطاء: لا يجب الترتيب، لما روي: "من
قدّم نسكاً بين يدي نسك، فلا حرج". ولنا: "أنه صلى الله
عليه وسلم رتّبها وقال: خذوا عني مناسككم"، 1 والحديث إنما
هو فيمن قدّم نسكا على نسك، لا فيمن قدّم بعض نسك على بعض.
والأولى أن لا ينقص عن سبع حصيات، فإن نقص حصاة أو حصاتين،
فلا بأس؛ ولا ينقص أكثر من ذلك. وعنه: إن رمى بست ناسياً،
فلا شيء عليه؛ فإن تعمّد تصدّق بشيء.
__________
1 النسائي: مناسك الحج (3062) .
(1/336)
وعنه: أن السبع شرط، فإن أخل بحصاة واجبة
من الأولى، لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى، لإخلاله
بالترتيب.
فإن أخر الرمي كله حتى رماه آخر أيام التشريق، أجزأه،
ويرتبه بنيته. فإن أخّره عنها أو ترك المبيت بمنى في
لياليه، فعليه دم. قال أحمد: قال بعضهم: ليس عليه دم. وقال
إبراهيم: عليه دم! وضحك وقال: دم بمرة! تشدد بمرة! قيل:
ليس إلا أن يطعم شيئاً؟ قال: نعم، يطعم تمراً أو نحوه.
وليس على أهل سقاية الحاج ولا الرعاة مبيت بمنى، فإن غربت
الشمس وهم بها لزم الرعاة المبيت؛ وأهل السقاية وأهل
الأعذار كالمرضى. ومن خاف ضياع ماله ونحوهم كالرعاة، لأن
الرخصة لهؤلاء تنبيه على غيرهم.
ومن كان مريضاً أو محبوساً أو له عذر، جاز أن يستنيب من
يرمي عنه، وبه قال الشافعي ومالك، إلا أنه قال: يتحرى
المريض حين رميهم فيكبّر سبع تكبيرات. ومن تركه من غير عذر
فعليه دم، وكذا من ترك جمرة واحدة؛ وبه قال الشافعي. وعنه:
أن في كل حصاة دماً، وبه قال مالك والليث بن سعد. وعنه: في
الثلاث دم، وبه قال الشافعي، وفيما دون ذلك في كل حصاة مد.
ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام، لفعل
الصحابة. ويخطب في الثاني من أيام التشريق خطبة يعلّمهم
التعجيل والتأخير والوداع، وبه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: لا يستحب. ولنا: ما روى أبو داود عن رجلين من بني
بكر: "أنه خطب في هذا اليوم، وهما عند راحلته" 1.
وأجمعوا على أن من أراد الخروج من منى شاخصاً عن الحرم، أن
له النفر بعد الزوال، في اليوم الثاني من أيام التشريق.
فإن أحب الإقامة بمكة، فقال أحمد: لا يعجبني. وقال مالك في
أهل مكة: من كان له عذر، فله أن يتعجل في
__________
1 أبو داود: المناسك (1952) .
(1/337)
يومين، فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر
الحج فلا. واحتج من ذهب إلى هذا بقول عمر: "من شاء من
الناس أن ينفر في النفر الأول، إلا آل خزيمة، فلا ينفروا
إلا في النفر الآخر". جعل أحمد وإسحاق معناه: أنهم أهل
الحرم. وقول عامة العلماء: جوازه لكل أحد، للآي؛. قال
عطاء: هي عامة، وكلام أحمد أراد به الاستحباب موافقة لعمر.
وروى أبو داود عن يحيى بن يعمر، مرفوعاً: "أيام منى ثلاثة،
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه".
1 قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان. وقال وكيع:
هذا الحديث أم المناسك.
"فإن غابت الشمس قبل خروجه من منى لم ينفر، ارتحل أو لم
يرتحل"، وهذا قول عمر، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو
حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث، لأنه لم
يدخل وقت الرمي. ولنا: الآية؛ فمن أدركه الليل فما تعجل في
يومين. قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: "من أدركه
المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد حتى ينفر مع
الناس". قال بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن يأتي في
المحصَّب - وهو الأبطح - فليصلّ به الظهر والعصر والمغرب
والعشاء، ثم يهجع يسيراً ثم يدخل مكة. و"كان ابن عمر يرى
التحصيب سنة"، و"كان ابن عباس وعائشة لا يريانه سنّة".
قال أحمد: ثياب الكعبة إذا نزعت يُتصدق بها، وقال: إذا
أراد أن يستشفى بشيء من طيب الكعبة، فيأتي بطيب من عنده
فيلزقه بالبيت، ثم يأخذه، ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً،
ولا يأخذ من تراب الحرم، ولا يدخل فيه من الحل. كذا قال
ابن عمر وابن عباس. ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل،
والخروج أشد؛ إلا ماء زمزم أخرجه كعب.
قال أحمد: كيف لنا بالجوار بمكة، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " والله إنك لأحب البقاع إلى
__________
1 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) ,
وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) ,
وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) .
(1/338)
الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"، 1
وإنما "كره عمر المجاورة بمكة لمن هاجر منها". "وجابر بن
عبد الله جاور بمكة بعد". وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من
يهاجر. "وابن عمر كان يقيم بمكة". والمقام بالمدينة أحب
إليَّ من المقام بمكة لمن قوي عليها، لأنها مهاجَر
المسلمين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصبر أحد
على لأوائها وشدتها، إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة. ومن
أتى مكة فأقام، فلا وداع عليه". 2 وبه قال الشافعي. وقال
أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر، لم يسقط
الطواف. ولنا: أنه غير مفارق، فيلزمه وداع، كمن نواها قبل
حل النفر. وأما الخارج فلا يخرج حتى يودّع البيت بالطواف،
وهو واجب يجب بتركه دم. وقال الشافعي: لا يجب بتركه شيء،
لسقوطه عن الحائض. ولنا: أنه مأمور به، وسقوطه عن المعذور
لا يوجب سقوطه عن غيره، كالصلاة. بل تخصيص الحائض بسقوطه،
دليل على وجوبه على غيرها. ولا وداع على من منزله بالحرم،
لأنهم كانوا أهل مكة. وإن كان منزله خارج الحرم قريباً
منه، فعليه الوداع. وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن
عامر وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة. ولنا: قوله: "لا
ينفر أحد حتى يكون آخر عهده البيت". 3 فإن ودع ثم اشتغل
بتجارة أو أقام، أعاد؛ وبه قال الشافعي ومالك. وقال أصحاب
الرأي: إذا طاف الوداع أو تطوع بعد ما حل له النفر، أجزأه
وإن أقام شهراً. ولنا: الحديث المتقدم.
وإن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زاداً أو شيئاً لنفسه في
طريقه، لم يعد، لأنه ليس بإقامة، ولا نعلم فيه خلافاً.
فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، أجزأ، وعنه: لا.
ومن خرج قبل الوداع، فعليه الرجوع إن كان قريباً. وكان
عطاء يرى الطائف قريباً. وقال الثوري: ما خرج من
__________
1 الترمذي: المناقب (3925) , والدارمي: السير (2510) .
2 مسلم: الحج (1377) , والترمذي: المناقب (3918) , وأحمد
(2/119) .
3 مسلم: الحج (1327) , وأبو داود: المناسك (2002) , وابن
ماجة: المناسك (3070) , وأحمد (1/222) , والدارمي: المناسك
(1932) .
(1/339)
الحرم فهو بعيد. فأما إن ودع وخرج فقال
أحمد: أحب إليَّ أن لا يدخل مكة إلا محرماً، وأن يودع
البيت.
والحائض والنفساء لا وداع عليهما ولا فدية، في قول عامة
أهل العلم، و"كان زيد بن ثابت يرى لها الإقامة حتى تودع،
ثم رجع".
و"يستحب أن يقف المودع في الملتزم، فيلزمه ويلصق به صدره
ووجهه ويدعو"، لحديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن صفوان،
رواهما أبو داود. قال أحمد: إذا ودع يقوم عند الباب إذا
خرج، ويدعو. فإذا ولى فلا يلتفت. فإذا التفت رجع وودع؛
وهذا على الاستحباب، إذ لا نعلم لإيجابه دليلاً.
فإن خرج قبل طواف الزيارة، رجع حراما حتى يطوف، لأنه ركن
لا يتم الحج إلا به، ولا يحل من إحرامه حتى يفعله. فمتى لم
يفعله لم ينفك من إحرامه ولو رفضه، وبه قال مالك والشافعي
وأصحاب الرأي. وقال الحسن: يحج من العام القابل، ونحوه عن
عطاء. وترْك بعض الطواف كترْكه كله، وبه قال مالك
والشافعي. فإن ترك طواف الزيارة بعد الرمي، لم يبق محرماً
إلا عن النساء خاصة.
ومن أراد العمرة من أهل الحرم، خرج إلى الحل فأحرم منه
وكان ميقاتاً له، لا نعلم فيه خلافاً، والأفضل من التنعيم.
وعنه: كلما تباعد فهو أعظم للأجر. فإن أحرم من الحرم لم
يُجْزئ، وينعقد وعليه دم. فإن خرج قبل الطواف ثم عاد،
أجزأه، لجمعه بين الحل والحرم. فإن لم يفعل حتى قضى عمرته،
صحت ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، ثم قد حل من عمرته.
وتجزئ عمرة القارن. والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام.
لا نعلم خلافاً في إجزاء عمرة المتمتع. وعنه: أن عمرة
القارن لا تجزئ، لإعمار عائشة
(1/340)
من التنعيم، ولو أجزأت عمرة القارن لم
يعمرها.
"ولا بأس أن يعتمر في السنة مراراً"، روي عن علي وابن عمر
وغيرهما. وكره العمرة في السنة مرتين: الحسن ومالك. ولنا:
"أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمره صلى الله عليه وسلم"،
ولقوله: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". 1 فأما
الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما، فلا يستحب في ظاهر
قول السلف، والحق في اتباعهم.
والوقوف بعرفة ركن إجماعاً، وكذا طواف الإفاضة لا خلاف
فيه. وأما الإحرام، فعنه: أنه ركن، وعنه: ليس بركن، لحديث
الثوري: "الحج عرفة". 2 وأما السعي، فعنه: أنه ركن، وهو
قول عائشة ومالك والشافعي. وعنه: سنّة، روي عن ابن عباس
وغيره. وقال القاضي: واجب يجب بتركه دم، وهو قول الثوري؛
وهذا أولى، لأن دليل من أوجبه دل على الوجوب، لأنه لا يتم
الحج إلا به، وقول عائشة معارض بقول من خالفها من الصحابة.
وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى
الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والمبيت بمنى،
والرمي، والحلاق أو التقصير، وطواف الوداع.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
هل الحج ماشياً أفضل، أو راكباً، أو سواء؟
اختار الشيخ أن ذلك يختلف باختلاف الناس. ووقت الوقوف من
طلوع الفجر يوم عرفة، وقيل: من الزوال يوم عرفة، اختاره
الشيخ، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً. ولو خاف فوات الوقوف
إن صلى صلاة آمن، صلى صلاة خائف، اختاره الشيخ، ثم قد حل
له كل شيء إلا النساء، قيل: وعقد النكاح. واختار الشيخ حل
__________
1 صحيح البخاري: كتاب الحج (1773) , وصحيح مسلم: كتاب الحج
(1349) , وسنن النسائي: كتاب مناسك الحج (2622, 2629) ,
وسنن ابن ماجة: كتاب المناسك (2888) , ومسند أحمد (3/447)
, وموطأ مالك: كتاب الحج (776) .
2 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) ,
وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) ,
وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) .
(1/341)
العقد، وذكره عن أحمد. وقال الشيخ: لا
يستحب للمتمتع أن يطوف للقدوم بعد رجوعه من عرفة قبل
الإفاضة.
قوله: ثم يسعى إن كان متمتعاً، وعنه: يكتفي بسعي عمرته،
اختاره الشيخ. قال الزركشي: في ما قال الأصحاب: أنه يستقبل
القبلة بعد جمرة العقبة: نظر، إذ ليس ذلك في الحديث. ويدفن
بقية الحصى، وقيل: لا.
وليس للإمام التعجيل لأجل من يتأخر، ذكره الشيخ.
قال في الفروع: لو ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة، يتوجه
جوازه، وإن خرج غير حاج، فظاهر كلام شيخنا: لا يودع. وقيل:
لا يولي ظهره حتى يغيب، قال الشيخ: هذا بدعة مكروهة.
والصحيح: كراهة الإكثار من العمرة والموالاة بينهما. قال
في الفروع: يتوجه مرادهم: إذا عوض بالطواف وإلا لم يكره،
خلافاً لشيخنا. وكره الشيخ الخروج من مكة للعمرة إذا كان
تطوعاً، وقال: هو بدعة، "لأنه لم يفعله صلى الله عليه
وسلم، ولا صحابي على عهده، إلا عائشة"، لا في رمضان ولا في
غيره، اتفاقاً.
(1/342)
باب الفوات والإحصار
من لم يدرك الوقوف حتى طلع الفجر يوم النحر، فاته الحج، لا
نعلم فيه خلافاً؛ ويتحلل بطواف وسعي وحلاق، وهو قول مالك
والشافعي وأصحاب الرأي. وقال المزني: يمضي في حج فاسد، أي:
يفعل أفعال الحاج. ولنا: أنه قول عمر وغيره من الصحابة،
ولم يعرف لهم مخالف، ولأنه يجوز فسخه إلى العمرة من غير
فوات، فمعه أولى. فيجعل إحرامه بعمرة. وعنه: لا يصير
إحرامه بعمرة، بل يتحلل، وهو مذهب مالك والشافعي، لأن
إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر. وفي وجوب
القضاء روايتان:
إحداهما: يجب ولو تطوع، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب
الرأي.
والثانية: لا قضاء عليه، روي عن عطاء. ووجه الأولى: الحديث
وإجماع الصحابة. وإذا قضى أجزأ القضاء عن الحجة الواجبة،
لا نعلم فيه مخالفاًً.
ويجب عليه الهدي، وهو قول مَن سمّينا من الصحابة والفقهاء،
إلا أصحاب الرأي. فإن اختار البقاء على إحرامه إلى قابل،
فله ذلك. ويحتمل أنه ليس له، وبه قال الشافعي، لظاهر الخبر
وقول الصحابة. فإن كان قارناً حلَّ، وعليه مثل الذي فاته
من قابل؛ وبه قال مالك والشافعي. ويحتمل أن يجزئه ما فعله
عن عمرة الإسلام، وليس عليه إلا قضاء الحج، ويلزمه هديان
لقرنه وفواته، وبه قال مالك والشافعي. وقيل: يلزمه ثالث،
وليس بشيء.
وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأ، وإن أخطأ
بعضهم فاته
(1/343)
الحج. ومن أحرم فحصره عدوٌّ ولم يكن له
طريق إلى الحج، نحر هديه في موضعه وحل، لا خلاف، إلا أنه
حكي عن مالك: أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوات،
ولا يصح ذلك، لأن الآية نزلت في عمرة الحديبية، وعلى من
تحلل بالإحصار الهدي في قول الأكثر. وعن مالك: لا هدي
عليه، لأنه لم يفرط. ولنا: قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . 1 وقال الشافعي: لا
خلاف أنها نزلت في حصر الحديبية.
فإن أمكنه الوصول من طريق أخرى، لم يتحلل ولو خشي الفوات،
لأنه إن فاته تحلل بعمرة. وليس له التحلل قبل ذبح الهدي؛
فإن كان معه ذبحه، وإلا لزمه شراؤه إن أمكنه. ويجزئ شاة أو
سُبع بدنة. وله نحره في حل أو حرم، وبه قال مالك والشافعي.
فإن قدر على أطراف الحرم، فقيل: يلزمه نحره فيه، وقيل:
ينحره في موضعه، لفعله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان مفردًا أو قارناً، فله التحلل وقت حصره. وعنه: لا
يحل، ولا ينحره إلا يوم النحر، لأن للهدي محل زمان ومكان.
قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه: أن من يئس أن يصل إلى
البيت، فجاز له الحل فلم يحل حتى خلا سبيله، ألا عليه أن
يقضي مناسكه. وإن زال بعد فوات الحج، تحلل بعمرة. فإن فات
الحج قبل زوال الحصر، تحلل بهدي. فإن لم يجد، صام عشرة
أيام ثم حل؛ وبه قال الشافعي في أحد قوليه. وقال مالك: لا
بد له، لأنه لم يذكر. وهل يلزمه الحلق مع الهدي؟ فعنه: لا،
وعنه: بلى، لفعله صلى الله عليه وسلم. وفي وجوب القضاء على
المحصر روايتان: إحداهما: لا يجب، وبه قال مالك والشافعي.
والثانية: بلى، روي عن مجاهد وغيره، لفعله صلى الله عليه
وسلم عمرة القضية. ووجه الأولى: "أن الذين اعتمروا معه
__________
1 سورة البقرة آية: 196.
(1/344)
صلى الله عليه وسلم كانوا دون أولئك، ولم
ينقل أنه أمر بالقضاء"؛ وإنما سميت عمرة القضية أي: التي
تقاضوا عليها.
فإن صد عن عرفة دون البيت، تحلل بعمرة ولا شيء عليه، وبه
قال الشافعي. وقال مالك: يخرج إلى الحل، فيفعل ما يفعل
المعتمر. وإن أُحصر عن البيت بعد الوقوف، تحلل، لأن الحصر
يفيد التحلل من الجميع، فكذا التحلل من البعض. و"من أُحصر
لمرض أو ذهاب نفقة، لم يكن له التحلل"، روي عن ابن عمر
وابن عباس، وبه قال مالك والشافعي. وقيل: "له التحلل"، روي
عن ابن مسعود، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي، لقوله: "من
كسر أو عرج، فقد حلّ، وعليه حجة أخرى ". 1 رواه النسائي،
ولأنه محصور فيدخل في الآية. ووجه الأولى: قوله لضباعة:
"اشترطي"، فلو أباحه لمرض ما احتاجت إلى شرط، وحديثهم
متروك الظاهر، فإن مجرد الكسر والعرج لا يكون حلالاً. فإن
حملوه على الإباحة حملناه على ما إذا اشترط، على أن فيه
كلاماً لابن عباس يرويه ومذهبه بخلافه: "من اشترط فله
التحلل لجميع ذلك، ولا شيء عليه".
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: وإن أخطأ الناس ... إلخ، قال الشيخ: هل هو يوم عرفة
باطناً، فيه خلاف، بناء على أن الهلال لما يطلع في السماء
أو لما يراه الناس ويعلمونه، فيه خلاف مشهور. فيه عن أحمد
روايتان. وقال: الثاني: الصواب، ويدل عليه لو أخطأ وغلط في
العدد أو في الطريق ونحوه، فوقفوا العاشر لم يجزهم
إجماعاً؛ فلو اغتفر الخطأ للجميع لاغتفر لهم، فعلم أنه يوم
عرفة باطناً وظاهراً، يوضحه لو كان هنا خطأ وصواب لا يستحب
الوقوف مرتين، وهو بدعة لم يفعله أحد من السلف في الحج،
فعلم أنه لا خطأ. ومن اعتبر كون الرائي
__________
1 الترمذي: الحج (940) , والنسائي: مناسك الحج (2860,
2861) , وأبو داود: المناسك (1862) , وابن ماجة: المناسك
(3077, 3078) , وأحمد (3/450) , والدارمي: المناسك (1894)
.
(1/345)
من مكة دون مسافة القصر أو بمكان لا تختلف
فيه المطالع، فلم يقله أحد من السلف في الحج، فلو رآه
طائفة قليلة وقفوا مع الجمهور.
قوله: ومن أحصر لمرض أو ذهاب نفقة لم يتحلل، ويحتمل له
التحلل، اختاره الشيخ، وقال: مثله حائض تعذّر مقامها وحرم
طوافها، أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو
لعجزها عنه، أو لذهاب الرفقة، قال في الفروع: وكذا من ضل
عن الطريق.
(1/346)
باب الهدي والأضحي
...
باب الهدي والأضاحي
الأصل في مشروعية الأضحية: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، 1 قال
بعضهم: المراد به: الأضحية بعد صلاة العيد.
ويستحب لمن أتى مكة أن يهدي هدياً، "لأنه صلى الله عليه
وسلم أهدى في حجته مائة بدنة"، 2 "وكان يبعث بهديه ويقيم
بالمدينة" 3.
وأفضل الهدايا والأضاحي: الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ثم
شرك في بدنة، ثم شرك في بقرة، وبه قال الشافعي. وقال به
مالك في الهدي. وقال في الأضحية: الأفضل: الجذع من الضأن،
ثم البقرة، ثم البدنة، "لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى
بكبشين" 4 الحديث متفق عليه، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم
الله سبحانه وتعالى أفضل منه لفدى به إسماعيل. ولنا: قوله:
"من اغتسل يوم الجمعة ثم راح، فكأنما قرب بدنة ... إلخ"، 5
وأما التضحية بالكبش فلأنه أفضل أنواع الغنم، وكذلك حصول
الفداء به، والشاة أفضل من الشرك في بدنة، ولأن إراقة الدم
مقصودة. والذكر والأنثى سواء، لقوله تعالى: {عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} ، 6 وقال:
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}
الآية 7.
__________
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 أحمد (1/260) .
3 الدارمي: المناسك (1936) .
4 البخاري: الحج (1712) والأضاحي (5553, 5558, 5564, 5565)
والتوحيد (7399) , ومسلم: الأضاحي (1966) , والنسائي:
الضحايا (4418) , وأبو داود: الضحايا (2793, 2794) , وابن
ماجة: الأضاحي (3120) , وأحمد (3/115, 3/170, 3/189,
3/211, 3/214, 3/222, 3/255, 3/268، 3/272، 3/279، 3/281)
، والدارمي: الأضاحي (1945) .
5 البخاري: الجمعة (881) , ومسلم: الجمعة (850) ,
والترمذي: الجمعة (499) , والنسائي: الجمعة (1388) , وأبو
داود: الطهارة (351) , وأحمد (2/460) , ومالك: النداء
للصلاة (227) .
6 سورة الحج آية: 28.
7 سورة الحج آية: 36.
(1/347)
وممن أجاز ذكران الإبل في الهدي: مالك
والشافعي. وعن ابن عمر: "ما رأيت أحداً فاعلاً ذلك".
والأول أولى لما ذكرنا، وثبت "أنه صلى الله عليه وسلم أهدى
جملاً لأبي جهل، في أنفه برة من فضة". 1 رواه أبو داود.
والضأن أفضل من المعز، لأنه أطيب لحماً، ويحتمل أن الثني
من المعز أفضل من الجذع، لقوله: "لا تذبحوا إلا مسنّة، فإن
عزّ عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن ". 2 رواه مسلم.
ويسن استسمانها واستعظامها واستحسانها، ولأن ذلك أعظم
لأجرها ونفعها.
والأفضل في نوع الغنم: البياض، لما ورد؛ ولا يجزئ إلا
الجذع من الضأن، وهو: ما له ستة أشهر، والثني مما سواه،
وبه قال مالك والشافعي. قال ابن عمر: "لا يجزئ الجذع، لأنه
لا يجزئ من غيرها. ولنا على إجزائه: حديث مجاشع وأبي
هريرة: "الجذع يوفي مما يوفي منه الثني". 3 رواه أبو داود
والنسائي وابن ماجة. وعلى عدم إجزائه من غيره، قوله: "لا
تذبحوا إلا مسنّة ". 4 وكان عطاء والأوزاعي يقولان: يجزئ
الجذع من كل شيء، لقوله: "إن الجذع يوفي مما يوفي منه
الثني". 5 رواه أبو داود، وهو محمول على الضأن، للحديث.
وثني الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر: ما له سنتان، ومن
المعز: ما له سنة. وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة، سواء
أراد جميعهم القربة أو بعضهم، والباقون اللحم. وقال أبو
حنيفة: تجوز إذا تقربوا كلهم. وعن ابن عمر: "لا يجزئ نفس
عن سبعة". قال أحمد: ما علمت أن أحداً لا يرخص فيه، إلا
ابن عمر. وعن ابن المسيب: "الجزور عن عشرة"، لحديث رافع في
قسمة الغنيمة. ولنا: حديث جابر. وأما حديث رافع، فهو في
القيمة. ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة،
لحديث أبي داود وأبي هريرة، وكرهه الثوري.
ولا تجزئ العوراء البيّن عورها، ولا العجفاء الهزيلة التي
لا تنقي، ولا العرجاء
__________
1 ابن ماجة: المناسك (3076) .
2 مسلم: الأضاحي (1963) , والنسائي: الضحايا (4378) , وأبو
داود: الضحايا (2797) , وابن ماجة: الأضاحي (3141) , وأحمد
(3/312, 3/327) .
3 النسائي: الضحايا (4383) .
4 مسلم: الأضاحي (1963) , والنسائي: الضحايا (4378) , وأبو
داود: الضحايا (2797) , وابن ماجة: الأضاحي (3141) , وأحمد
(3/312, 3/327) .
5 النسائي: الضحايا (4383, 4384) , وأبو داود: الضحايا
(2799) , وابن ماجة: الأضاحي (3140) .
(1/348)
البيّن ضلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم،
ولا العضباء وهي: التي ذهبت أكثر أذنها أو قرنها. لا خلاف
أن هذه الأربعة تمنع الإجزاء في الهدي والأضحية، لحديث
البراء في الأضاحي، والهدي مقيس عليه.
قال شيخنا: والذي في الحديث: "المريضة البيّن مرضها"، 1
وهو الذي بان أثره عليها، فمن فسره بالجرباء التي لا يرجى
برؤها، فتخصيص للعموم بلا دليل. وقال الشافعي: "تجزئ
مكسورة القرن"، روي نحوه عن عمار. وقال مالك: إن كان قرنها
يدمي لم تجزئ، وإلا أجزأت. وقال عطاء: إذا ذهبت الأذن كلها
لم تجزئ. ولنا: حديث علي. قال ابن المسيب: العضب النصف
فأكثر. ولا تجزئ العمياء، وإن لم يكن بيّناً، لأنه يمنع
مشيها مع الغنم. قال ابن عباس: "لا تجوز العجفاء ولا
الجداء"، قال أحمد: هي التي يبس ضرعها، ولأنه أبلغ في
الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين.
و"تكره معيبة الأذن، بخرق أو شق أو قطع الأقل من النصف"،
لحديث عليّ. وما كان كامل الخلقة فهو أفضل، "لأنه صلى الله
عليه وسلم ضحى بكبش أقرن". 2 ويجزئه الخصي، لا نعلم فيه
خلافاً.
والسنة: نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر
والغنم. وممن استحبه مالك والشافعي، وقال عطاء: يستحب وهي
باركة. وجوز الثوري كلا الأمرين. ولنا: حديث ابن عمر،
وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 3 دليل على ذلك،
وقيل: في قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ} 4 أي: قياماً.
ويستحب توجيهها إلى القبلة، ويقول: "بسم الله والله أكبر".
قال ابن
__________
1 الترمذي: الأضاحي (1497) , والنسائي: الضحايا (4369) ,
وأبو داود: الضحايا (2802) , وابن ماجة: الأضاحي (3144) ,
وأحمد (4/284, 4/289, 4/300, 4/301) , ومالك: الضحايا
(1041) , والدارمي: الأضاحي (1949, 1950) .
2 الترمذي: الأضاحي (1496) , والنسائي: الضحايا (4390) ,
وأبو داود: الضحايا (2796) , وابن ماجة: الأضاحي (3128) .
3 سورة الحج آية: 36.
4 سورة الحج آية: 36.
(1/349)
المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا ذبح يقول: "بسم الله والله أكبر". 1 وإن قال مما
ورد مما زاد، فحسن. وإن قال: "اللهم تقبل مني ومن فلان"،
فحسن. قال أبو حنيفة: يكره أن يذكر غير اسم الله، لقوله
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ِ} 2.
وذبحها بيده أفضل، لفعله صلى الله عليه وسلم، والاستنابة
جائزة بلا خلاف.
أول وقت الذبح: إذا دخل وقت صلاة العيد ومضى قدر الصلاة،
وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. وعنه: لا بد من صلاة الإمام
وخطبته، وهو مذهب مالك؛ فإن ذبح بعد الصلاة وقبل الخطبة
أجزأ، لتعليقه المنع على فعل الصلاة.
وأما غير أهل القرى، فإن أوله في حقهم: قدر الصلاة والخطبة
بعد حل الصلاة، وقال عطاء: إذا طلعت الشمس. فإن لم يصل
الإمام في المصر، لم تذبح حتى تزول الشمس، عند من اعتبر
نفس الصلاة، لسقوطها حينئذ.
ولا يستحب أن يذبح قبل الإمام، فإن فعل أجزأه، وعن مالك:
لا يجزئ، والصحيح: الأول، لما ذكرنا من الأحاديث.
و"آخر الذبح: اليوم الثاني من أيام التشريق"، وهذا قول عمر
وعلي، وذهب إليه مالك وأبو حنيفة. وعن عليّ: "آخر أيام
التشريق"، وبه قال الشافعي. وقال ابن سيرين: لا تجوز إلا
يوم النحر. وعن عطاء بن يسار: إلى هلال المحرم. ولنا: "أنه
صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث"، فلا
يجوز الذبح في وقت لا يجوز الادخار فيه، ولأنه قول خمسة من
الصحابة، ولا مخالف لهم إلا رواية عن عليّ، وحديثهم: "ومنى
كلها منحر"، 3 وليس فيه ذكر الأيام. ولا يجزئ في ليلتها،
__________
1 الترمذي: الأضاحي (1521) , وأبو داود: الضحايا (2810) .
2 سورة المائدة آية: 3.
3 مسلم: الحج (1218) , وأبو داود: المناسك (1907) .
(1/350)
وبه قال مالك، لقوله: {فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ} ، 1 وعنه: يجوز، وبه قال الشافعي، لأن الليل
دخل في مدة الذبح، فإن فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء.
وأما التطوع فلا يصح أيضاً، وقال أبو حنيفة: يسلّمها
للفقراء، فإن ذبح قبل الوقت لم يجز، وعليه بدلها إن وجبت،
لقوله: "من ذبح قبل أن يصلّي، فليعد مكانها أخرى". 2
والشاة المذبوحة شاة لحم، كما وصفها صلى الله عليه وسلم،
ومعناه: يصنع بها ما شاء، كشاة ذبحها للحمها. ويحتمل أن
يكون حكمها حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب لا يخرج عن حكمه،
ويكون معناه شاة لحم، يعني: أنها تفارقها في الثواب خاصة.
ويتعين الهدي بقوله: "هذا هدي"، وتقليده وإشعاره مع النية،
وبه قال الثوري وإسحاق.
وكذلك الأضحية، بقول: "هذه أضحية"، وبه قال الشافعي. وقال
مالك: إذا اشتراها بنية الضحية، وجبت كالهدي بالإشعار. فإن
عيّن ما لا يجزئ وجب ذبحه، ولم يجز عن الأضحية. وإن تعيبت
لم يجز بيعها، ولا هبتها، إلا أن يبدلها بخير منها فيجوز،
وقيل: يجوز بيعها ويشتري خيراً منها، نص عليه؛ وهو قول
عطاء وأبي حنيفة، "لأنه صلى الله عليه وسلم أشرك علياً في
بدنة"، وهو نوع من الهبة. ولنا: أنه يجوز إبدال المصحف،
ولم يجز بيعه. وقصة عليّ يحتمل أنه قبل إيجابها، أو في
ثوابها وأجرها. فأما إبدالها بخير منها فيجوز، وهو قول
مالك وأبي حنيفة، وقيل: لا. وهو مذهب الشافعي. ولنا: حديث
عليّ. ولا يجوز إبدالها بدونها بغير خلاف، ولا يجوز بمثلها
أيضاً. فإن مات وعليه دين لم تُبع، وقال الأوزاعي تباع إذا
لم يكن لديْنه وفاء إلا منها. وقال مالك: إن تشاجر الورثة
باعوها. وله ركوبها عند الحاجة،
__________
1سورة الحج آية رقم 28.
2 البخاري: الأضاحي (5562) , ومسلم: الأضاحي (1960) ,
والنسائي: الضحايا (4368, 4398) , وأحمد (4/312) .
(1/351)
ما لم يضرّ بها، وبه قال الشافعي، لقوله
صلى الله عليه وسلم: " اركبها"، ومع عدم الحاجة روايتان.
وإذا عيّن أضحية فولدت، فحكم ولدها حكمها، وبه قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يذبحه، ويدفعه إلى المساكين
حياً. ولا يجوز ذبحه قبل أمه، ولا تأخيره عن آخر الوقت.
ولا يشرب من لبنها، إلا ما فضل عن ولدها، إن لم ينقص لحمها
ويضر بها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحلبها،
ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن، فإن حلبها تصدق به.
ولنا: قول عليّ: "لا يحلبها إلا ما فضل عن تيسير ولدها".
وله جز صوفها إذا كان أنفع لها، ويتصدق به، ولا يعطي
الجازر بأجرته شيئاً منها، وبه قال مالك والشافعي. ورخص
الحسن في إعطائه الجلد. ولنا: حديث عليّ في البدن.
ولا خلاف في جواز الانتفاع بجلودها وجلالها.
ولا يجوز بيع شيء منها، وبه قال الشافعي. ورخص الحسن في
الجلد يبيعه ويشتري به الغربال وآلة البيت. وحكى ابن
المنذر عن أحمد وإسحاق: يبيع الجلد ويتصدق بثمنه. ولنا:
حديث عليّ في البدن، وما ذكروه في شراء آلة البيت يبطل
باللحم.
وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذنه أجزأت، وقال مالك: هي
شاة لحم، لمالكها أرشها، وعليه بدلها، لأن الذبح عبادة.
وإن اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيباً، فإن شاء
ردَّها، وإن شاء أخذ أرشها. ثم إن كان عيبها يمنع الإجزاء،
لم يصح التضحية بها، وإن لم يمنع ذلك فله ذلك والأرش له.
فإن علم به بعد الإيجاب، فقيل: يردها وقيل: لا يردّها،
كالعلم بعيب العبد بعد عتقه، وهذا مذهب الشافعي. وإذا أتلف
الأضحية الواجبة، فعليه قيمتها يوم التلف. وإن عطب الهدي
في الطريق، نحره وصبغ نعله التي في عنقه من دمه، وضرب بها
صفحة سنامه، يعرفه الفقراء فيأخذوه. ولا يأكل منها هو ولا
أحد من
(1/352)
أهل رفقته. وروي عن ابن عمر "أنه أكل من
هديه الذي عطب". وقال مالك: يباح لرفقته غير صاحبه وسائقه،
لحديث ناجية بن كعب: "ثم خلِّ بينه وبين الناس". 1 ولنا:
حديث ابن عباس عن ذؤيب: "لا تطعمها أنت، ولا أحد من أهل
رفقتك". 2 رواه مسلم.
وإذا عين أضحية سليمة ثم تعيبت، ذبحها وأجزأت، وبه قال
مالك والشافعي.
ويباح للفقراء الأخذ من الهدي بالإذن أو دلالة الحال، وقال
الشافعي في أحد قوليه: لا يباح إلا باللفظ. ولنا: قوله:
"اصبغ نعلها ... إلخ". وسوق الهدي مسنون، لا يجب إلا
بالنذر.
و"يستحب أن يقفه بعرفة، ويجمع فيه بين الحل والحرم، ولا
يجب"، روي عن ابن عباس، وبه قال الشافعي. و"كان ابن عمر لا
يرى الهدي إلا ما عرف به".
ويسن تقليد الإبل والبقر وإشعارها، وهو شق صفحة سنامها
الأيمن حتى يدميها، في قول أكثر أهل العلم. وقال أبو
حنيفة: هذا مثلة غير جائز، قال مالك: إذا كانت بقرة ذات
سنام، فلا بأس بإشعارها، وإلا فلا. ولنا: فعله صلى الله
عليه وسلم وفعل أصحابه. والسنة في صفحتها اليمنى، وبه قال
الشافعي. وقال مالك: اليسرى، لأن ابن عمر فعله. ولنا: حديث
ابن عباس، رواه مسلم.
وإذا ساقه قبل الميقات استحب إشعاره وتقليده من الميقات،
لحديث ابن عباس. وأما الغنم فلا يسن إشعارها، لأنها ضعيفة،
يقلدها نعلاً وآذان القرب أو علاقة إداوة أو عروة. وقال
مالك: لا يسن تقليدها لأنه لم ينقل. ولنا: حديث عائشة،
رواه البخاري. وإذا نذر هدياً مطلقاً أو معيّناً، وأطلق
مكانه، وجب إيصاله إلى فقراء الحرم. وجوّز أبو حنيفة ذبحه
كيف شاء. ولنا: قوله:
__________
1 الترمذي: الحج (910) , وأبو داود: المناسك (1762) , وابن
ماجة: المناسك (3106) , وأحمد (4/333, 4/334) , ومالك:
الحج (862) , والدارمي: المناسك (1909) .
2 مسلم: الحج (1326) , وابن ماجة: المناسك (3105) , وأحمد
(4/224) .
(1/353)
{ثم مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} . 1 فإن عيّن لنذره موضعاً غير الحرم، لزم
ذبحه فيه، لحديث بوانة.
ويستحب أن يأكل من هديه، سواء ما أوجبه بالتعيين أو
تطوعاً، وقيل يجب الأكل منها، لظاهر الأمر. ولا يأكل من
واجب، إلا دم المتعة والقران، لأن سببها غير محظور. وعنه:
"يأكل مما سوى النذر وجزاء الصيد"، وهو قول ابن عمر
وإسحاق. وقال الشافعي: لا يأكل من واجب، لأنه هدي وجب
بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كالكفارة. ولنا: "أن أزواجه
صلى الله عليه وسلم أكلن من لحوم البقر التي ذبحت عنهن لما
تمتعن".
والأكثر يرون الأضحية سنة مؤكدة، وقال أبو حنيفة: واجبة،
وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها. وروي عن بلال: "لأن أضعه في
يتيم قد ترب فوه أحب إلي"، وبه قال الشعبي. ولنا: "أنه صلى
الله عليه وسلم ضحى والخلفاء من بعده"، ولو علموا أن
الصدقة أفضل لعدلوا إليها.
ويستحب أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث، وقال
أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله. وقيل: ما كثر من الصدقة
فهو أفضل. ولنا: حديث ابن عباس في صفة أضحيته صلى الله
عليه وسلم، ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر، ولم يعرف لهم
مخالف من الصحابة، ولأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . 2 والقانع:
السائل، والمعتر: الذي يتعرض لك لتعطيه ولا يسأل. وأما
قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ} ، 3 فلم يبيّن
__________
1 سورة الحج آية: 33.
2 سورة الحج آية: 36.
3 سورة الحج آية: 28.
(1/354)
قدر المأكول والمتصدق به. وأما خبر الهدي،
فالهدي يكثر ولا يتمكن الإنسان من قسمه وأخذ ثلثه؛ والأمر
في هذا واسع، فمتى أكل وأطعم فقد أتى بما أمر. وقال
الشافعي: يجوز أكلها كلها. ولنا: الآية، وظاهر الأمر
الوجوب.
ويجوز أن يطعم منها كافراً، وكره مالك إعطاء النصراني
جلدها، وإن أكلها كلها، ضمن ما يجزئ في الصدقة؛ وقيل: يضمن
الثلث.
ويجوز ادخار لحمها فوق ثلاث، في قول عامتهم، و"لم يجزه
عليّ وابن عمر، للنهي عنه". ولنا: أنه رخص بعد النهي، قال
أحمد: وفيه أسانيد صحاح.
ولا يضحي عما في البطن، ولا نعلم فيه خلافاً.
ومن أراد أن يضحي فدخل العشْر، فلا يأخذ من شعره ولا بشرته
شيئاً، لحديث أم سلمة في النهي عنه، رواه مسلم، وهو قول
ابن المسيب وإسحاق، وقيل: مكروه غير محرم، وبه قال مالك
والشافعي، لحديث عائشة، فإن فعل فلا فدية إجماعاً.
(والعقيقة) سنة مؤكدة في قول أئمة الأمصار، وقال أصحاب
الرأي: هي من أمر الجاهلية، وقال الحسن وداود: هي واجبة،
لحديث: "كل غلام رهينة بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه،
ويسمَّى ويُحلق"، 1 قال أحمد: إسناده جيد. ولنا: قوله: "من
أحب أن ينسك عن المولود، فليفعل". 2 رواه مالك في الموطإ،
وهي أفضل من الصدقة بقيمتها، قال أحمد: إذا لم يكن عنده ما
يعق واستقرض، رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنة. قال ابن
المنذر: صدق أحمد، إحياء السنن واتباعها أفضل.
عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، هذا قول الأكثر. وكان
ابن عمر يقول: "شاتان عنهما لفعله صلى الله عليه وسلم عن
الحسن والحسين"، وكان الحسن وقتادة لا يريانها عن الجارية.
ولنا:
__________
1 الترمذي: الأضاحي (1522) , والنسائي: العقيقة (4220) ,
وأبو داود: الضحايا (2837، 2838) , وابن ماجة: الذبائح
(3165) , وأحمد (5/7, 5/12, 5/17, 5/22) , والدارمي:
الأضاحي (1969) .
2 النسائي: العقيقة (4212) , وأبو داود: الضحايا (2842) ,
وأحمد (2/182, 2/193) .
(1/355)
حديث عائشة وأم كرز. ويستحب أن يكونا
متماثلين، لقوله متكافئتان، والحديث في الحسن والحسين يدل
على الجواز، والذكَر أفضل، "لفعله صلى الله عليه وسلم عن
الحسن والحسين، وفعله في الأضحية".
وتذبح يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويتصدق بوزنه ورقاً؛ ولا
نعلم خلافاً في استحبابها يوم السابع بين القائلين بها.
و"يستحب أن يحلق رأسه يوم السابع ويسمّى"، لحديث سمرة، وأن
يُتصدق بوزن شعره فضة، "لأمره بذلك فاطمة لما ولدت الحسن"،
رواه أحمد. وإن سماه قبل السابع فحسن، لقوله: "ولد لي
الليلة ولد، فسميته باسم أبي إبراهيم"، 1 ولحديث عبد الله
بن أبي طلحة.
ويستحب تحسين اسمه، للأمر بذلك، رواه أبو داود. "فإن فات
السابع، ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين"؛ وهذا
قول إسحاق، لأنه مروي عن عائشة. فإن ذبح قبل ذلك أو بعده
أجزأ، وإن كبر ولم يعق عنه، فقال أحمد: ذلك على الوالد،
يعني: لا يعق عن نفسه. وقال عطاء: يعق عن نفسه. ويكره أن
يلطخ رأس الصبي بدم، وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق. وعن
قتادة: يستحب، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً قاله، إلا
الحسن وقتادة. وأنكره سائر أهل العلم وكرهوه، لقوله:
"اهرقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى". رواه أبو داود. فأما
ما روي فيدمي، فقال أبو داود: وهم همام.
ويستحب أن يفصلها أعضاء، ولا يكسر عظامها، لما روي عن
عائشة: "لأنها أول ذبيحة ذبحت عنه، واستحب ذلك تفاؤلاً
بالسلامة". كذلك قالت عائشة: "وحكمها حكم الأضحية". وكانت
عائشة تقول: "ائتوني به أعيَن أقرن".
وعن ابن سيرين: اصنع بلحمها كيف شئت، حكاه أحمد. وقال
أحمد: يباع الجلد والرأس والسقطة، ويتصدق به. ونص في
الأضحية على خلاف هذا.
وقال بعضهم: يؤذّن في أذن المولود، لحديث عبد الله بن
رافع.
__________
1 مسلم: الفضائل (2315) , وأبو داود: الجنائز (3126) ,
وأحمد (3/194) .
(1/356)
ولا تسن الفرعة ولا العتيرة، الفرعة: ذبح
أول ولد الناقة، والعتيرة: ذبح رجب؛ هذا قول علماء
الأمصار، سوى ابن سيرين، فإنه كان يذبح العتيرة ويروي فيها
شيئاً. ولنا: حديث أبي هريرة: "لا فرع ولا عتيرة". 1 متفق
عليه، وهو ناسخ، لأن أبا هريرة متأخر الإسلام، ولأن فعلها
متقدم. ولو قدر تقدم النهي، لكانت قد نسخت، ثم نسخ ناسخها.
والمراد بالخبر نفي كونها سنة، لا يحرم فعلها ولا يكره.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: أفضلها: الإبل ... إلخ، قال أحمد: يعجبني البياض.
واختار الشيخ: الأجر على قدر القيمة مطلقاً، ورجح تفضيل
البدنة السمينة على السبع، قال ابن رجب: في سنن أبي داود
حديث يدل عليه.
وقال في الفروع: يتوجه احتمال: يجوز أعضب الأذن والقرن
مطلقاً، لأن في صحة الخبر نظراً كقطع الذنب وأولى، قلت:
هذا هو الصواب.
وقال الشيخ: يجزئ الهتماء، وهي: التي سقط بعض أسنانها.
قوله: ويقول: "بسم الله والله أكبر". قال الشيخ: ويقول:
"وجهت وجهي" - إلى قوله – "وأنا من المسلمين"، ويقول:
"اللهم تقبّل مني كما تقبّلت من إبراهيم خليلك".
قوله: إلى آخر يومين ... إلخ، واختار الشيخ أن آخره اليوم
الثالث.
قوله: ولو نوى حال الشراء لم يتعين، وعنه: بلى، اختاره
الشيخ. ونسخ تحريم الادخار، قال الشيخ: إلا في مجاعة.
و"يستحب الحلق بعد الذبح"، قال أحمد: هو على ما فعل ابن
عمر تعظيماً لذلك اليوم، وعنه: لا يستحب، اختاره الشيخ،
واختار أنه لا تضحية بمكة، وإنما هو الهدي.
قوله: وحكمها
__________
1 البخاري: العقيقة (5473) , ومسلم: الأضاحي (1976) ,
والترمذي: الأضاحي (1512) , والنسائي: الفرع والعتيرة
(4222, 4223) , وأبو داود: الضحايا (2831) , وابن ماجة:
الذبائح (3168) , وأحمد (2/229, 2/239, 2/279, 2/409,
2/490) , والدارمي: الأضاحي (1964) .
(1/357)
حكم الأضحية، قال الشارح: يحتمل الفرق من
حيث أن الأضحية شرعت يوم النحر، والعقيقة شرعت عند سرور
حادث وتجدد نعمة، كالذبح في الوليمة، ولأنها لم تخرج عن
ملكه هنا، فله أن يفعل فيها ما شاء من بيع وغيره.
ولم يعتبر الشيخ التمليك، قيل لأحمد لما ذكر أن طبخها
أفضل: يشق عليهم، قال: يتحملون ذلك.
وقال أبو بكر في التنبيه: يستحب أن تعطى القابلة منها
فخذاً.
(1/358)
|