مختصر الإنصاف والشرح الكبير

كتاب الجهاد
هو فرض كفاية، وعن ابن المسيب: فرض عين، لقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} ، 1 وقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية. 2 ولنا: قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، 3 وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . 4 فأما الآية الأولى، فقال ابن عباس: "نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية 5". رواه أبو داود، ويحتمل أنه حين استنفرهم إلى تبوك، فيجب على من استنفره الإمام.
ويشترط لوجوبه سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة، لقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} الآية 6.
وأقل ما يفعل في كل عام مرة، إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره، فيجوز بهدنة وغيرها، وإن دعت الحاجة إلى أكثر من مرة، وجب.
ويتعين في ثلاثة مواضع:
__________
1 سورة التوبة آية: 41.
2 سورة التوبة آية: 39.
3 سورة النساء آية: 95.
4 سورة التوبة آية: 122.
5 سورة التوبة آية: 122.
6 سورة التوبة آية: 91.

(1/359)


(أحدها) : إذا تقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف، لقوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} ، 1 وقوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} 2.
(والثاني) : إذا نزل العدوّ ببلد، تعيّن على أهله قتالهم.
(الثالث) : إذا استنفرهم الإمام.
وهو أفضل ما تطوع به، وغزو البحر أفضل، لقصة أم حرام.
وقتال أهل الكتاب أفضل. وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم، فقيل له في ذلك، فقال: إنهم يقاتلون على دين.
ويغزو مع كل بر وفاجر، سئل أحمد عمن قال: لا أغزو، يأخذه ولد العباس، إنما يوفر الفيء عليهم، فقال: سبحان الله! هؤلاء قوم سوء، هؤلاء القعدة المثبطون جهال. فيقال لهم: أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم، من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الإسلام؟ ما كانت تصنع الروم؟ قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} ، 3 قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين. وإن كان يعرف بشرب الخمر أو الغلول يغزى معه، إنما ذلك في نفسه. ويقاتل كل قوم من يليهم، لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} الآية 4.
وتعجب أحمد من فعل ابن المبارك فقال: كيف هذا، ولو أن أهل خراسان فعلوه، لم يجاهد الترك أحد، ولعله فعله لكونه متبرعاً بالجهاد.
وأمر الجهاد موكول إلى الإمام، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه، فإن أمّر
__________
1 سورة الأنفال آية: 45.
2 سورة الأنفال آية: 15.
3 سورة البقرة آية: 251.
4 سورة التوبة آية: 123.

(1/360)


أميراً على الجيش فمات، فلهم أن يؤمّروا أحدهم، "كما فعل الصحابة في مؤتة".
قال أحمد: يشيّع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه، "شيّع عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقّه"، وشيّع أحمد أبا الحارث ونعلاه في يده، و"ذهب إلى فعل أبي بكر، أراد أن تغبرَّ قدماه في سبيل الله".
وتمام الرباط أربعون يوماً، فإن رابط أكثر فله أجره، كما قال أبو هريرة: "ومن زاد زاده الله". قال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط، وقال: أفضل الرباط أشدهم كلباً.
ولا يستحب نقل أهله إليه، قيل لأحمد: تخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الإثم؟ قال: كيف لا أخاف؟ وهو يعرض ذريته للمشركين. وقال: كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم، فإني أنهى عنه الآن، الأمر قد اقترب ولا بد لهؤلاء القوم من يوم. قيل: فذلك في آخر الزمان؟ قال: فهذا آخر الزمان. قيل: "فالنبي صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه"، قال: هذا في الواحدة، ليس الذرية. وهذا محمول على غير أهل الثغر، فأما هم، فلا بد لهم من أهلهم، ولولا ذلك تعطلت الثغور.
وقال الأوزاعي في مساجد الثغر: لو أن لي ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون صلاتهم في مسجد واحد، فإذا جاء النفير وهم متفرقون، لم يكونوا كالمجتمعين.
وفي الحرس في سبيل الله فضل عظيم، فيه أحاديث كأحاديث ابن عباس عند الترمذي، وسهل بن الحنظلية عند أبي داود.
وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه، وتستحب لمن قدر عليه، وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل: انقطعت، لقوله: "لا هجرة بعد الفتح". 1 ولنا: حديث معاوية وغيره، والحديث معناه: لا هجرة بعد الفتح من بلد
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2783) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأحمد (1/226, 1/355) , والدارمي: السير (2512) .

(1/361)


الفتح، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} الآية، 1 وهذا وعيد شديد، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به، واجب.
وأما من عجز عنه لمرض أو غيره، فلا عليه، للآية. فإن تمكن من إظهار دينه، استحب له الهجرة ليتمكن من الجهاد، وإكثاراً لعدد المسلمين.
ومن عليه ديْن حالاً أو مؤجلاً، لم يخرج إلى الجهاد إلا بإذن غريمه، إلا إن ترك وكيلاً أو وفاء أو رهناً، وبه قال الشافعي، ورخص فيه مالك لمن لا يقدر على الوفاء؛ وإن تعين فلا إذن لغريمه.
و"من أبواه مسلمان لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما". يروى عن عمر وعثمان، وبه قال مالك والشافعي وسائر أهل العلم، لحديث عبد الله بن عمر وغيره. فإن كانا غير مسلمين، فلا إذن لهما، وقال الثوري: بلى، لعموم الأخبار. ولنا: "أن الصحابة يجاهدون، وفيهم من أبواه كافران، وأبو عبيدة قتل أباه"، فأنزل الله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية 2، فإن تعين سقط إذنهما.
ولا يجوز الفرار للمسلمين من صفهم، إلا متحرفين أو متحيزين، فإن زاد الكفار فلهم الفرار، لقوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} . 3 وحكي عن الحسن أنها في بدر خاصة. ولنا: أن الأمر مطلق والخبر عام، وعدّه النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فإن زادوا جاز، لقول ابن عباس: "من فرَّ من اثنين فقد فرَّ، ومن فرّ من ثلاثة فما فرّ".
فإذا خشي الأسر، فالأولى أن يقاتل حتى يُقتل، فإن استأسر جاز، لقصة خبيب وأصحابه. "فأخذ عاصم بالعزيمة، وخبيب بالرخصة". ومن فر قبل إحراز الغنيمة، فلا شيء له. فإن ألقى في مركبهم ناراً،
__________
1 سورة النساء آية: 97.
2 سورة المجادلة آية: 22.
3 سورة الأنفال آية: 15.

(1/362)


فالأولى فعل الذي يظن فيه السلامة، من المقام وإلقاء نفوسهم في الماء. فإن استوى الأمران، فقال أحمد: كيف شاء صنع. وقال الأوزاعي: هما موتتان فاختر أيهما، وعنه: يلزم المقام.
ويجوز تبييت الكفار، ورميهم بالمنجنيق، وقطع المياه عنهم، وهدم حصونهم، قال أحمد: وهل غزو الروم إلا البيات. قال: ولا نعلم أحداً كرهه. ونهيه عن قتل النساء والذرية محمول على التعمد لقتلهم.
ولا يجوز إحراق نخل ولا تغريقه، هذا قول عامة العلماء، وقال مالك: لا أدري ما هو. ومقتضى قول أبي حنيفة: يجوز لأن فيه غيظاً لهم، أشبه قتل بهائمهم حال القتال. وهل يجوز أخذ الشهد كله، وفيه إتلاف النحل؟ فيه روايتان.
ولا يجوز عقر دوابهم في غير حال الحرب، وبه قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز لأن فيه غيظاً لهم، وأما حال الحرب فيجوز بلا خلاف. فأما عقرها للأكل، فإن كان لا يراد إلاّ للأكل كالطيور والصيود، فكالطعام في قول الجميع، فإن كان غير ذلك كالبقر والغنم لم يبح. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد: إباحته لأنه كالطعام. وإذا ذبح الحيوان أكله ورد جلده إلى المغنم. قال عبد الرحمن بن معاذ: "كلوا لحم الشاة، وردّوا إهابها إلى المغنم". ووجه الأولى: قول ثعلبة: "أصبنا غنماً فانتهبناها" الحديث، ولأنها تكثر قيمتها ويمكن حملها إلى دار الإسلام، بخلاف الطير والطعام؛ لكن إن أذن الأمير فيها جاز، لحديث عطية بن قيس، وكذلك قسمها، لقول معاذ: "أصبنا غنماً، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بيننا طائفة، وجعل بقيتها في المغنم". 1 رواه أبو داود. وروى سعيد: "أن رجلاً نحر جزوراً في أرض الروم، فقال: يا أيها الناس، خذوا، فقال
__________
1 أبو داود: الجهاد (2707) .

(1/363)


مكحول: يا غساني، ألا تأتينا من لحمها؟ فقال: ألا ترى ما عليها من النهباء؟ فقال: لا نهباء في المأذون فيه".
وأما الزرع والشجر فثلاثة أقسام:
أحدها: ما يحتاج إلى إتلافه كما قرب من الحصون، أو يفعلونه بنا، فنفعله بهم؛ فهذا يجوز ولا خلاف فيه.
والثاني: ما يتضرر المسلمون بقطعه للاستظلال به والأكل من ثمره، أو إذا فعلناه فعلوه بنا، فهذا يحرم للإضرار بالمسلمين.
والثالث: ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظهم والإضرار بهم، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لوصية أبي بكر، وبه قال الأوزاعي والليث. والثانية: يجوز، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. وقال إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو، لقوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الآية. 1 ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بغير خلاف. "وكان أبو بكر أمر بتحريق أهل الردة، وفعَله خالد بأمره"، فأما اليوم فلا نعلم فيه مخالفاًً. وأما رميهم بالنار عند العجز عنهم، فجائز في قول أكثر أهل العلم، قال عبد الله بن قيس: لم يزل أمر المسلمين على ذلك، وكذلك فتح الثقوب عليهم لغرقهم؛ وإن قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن إتلاف النساء والذرية. وإذا ظفر بهم، لم يجز قتل الصبي الذي لم يبلغ بغير خلاف. ولا تقتل امرأة ولا شيخ، وبه قال مالك. وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر: يجوز قتل الشيوخ، لقوله: "اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم"؛ 2 قال ابن المنذر: لا أعرف حجة يستثنى
__________
1 سورة الحشر آية: 5.
2 الترمذي: السير (1583) , وأبو داود: الجهاد (2670) .

(1/364)


فيها من عموم قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} . 1 ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة ". 2 رواه أبو داود، وهو في وصية أبي بكر ليزيد، وعمر لسلمة بن قيس، رواهما أبو داود. والآية مخصوصة بما روينا، ولأنه خرج من عمومها المرأة. والحديث أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة ومعونة برأي أو تدبير، جمعاً بين الأحاديث، ولأنه خاص وحديثهم عام؛ والخاص يقدَّم على العام. ولا يُقتل زمِن ولا أعمى ولا راهب، والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ. ولنا: أن الزمِن والأعمى ليسا من أهل القتال، ولأن في وصية أبي بكر: "وستمرّون على أقوام في صوامع، فدعهم حتى يُميتهم الله على ضلالتهم". ولا يُقتل عبد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدركوا خالداً، فمُروه ألا يقتل ذرية ولا عبداً"، وهم: العبيد. ومن قاتل ممن ذكرنا، جاز قتله بلا خلاف، وكذلك من كان من هؤلاء الرجال المذكورين له رأي في الحرب يُعين به، لقصة دريد بن الصمة. ولا يُقتل الفلاح الذي لا يقاتل، لقول عمر: "اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب"، وقال الشافعي: يُقتل إلا أن يؤدي الجزية، لدخوله في عموم المشركين. ولنا: قول عمر، ولأن الصحابة لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد.
وإن تترسوا بالنساء والصبيان، جاز رميهم، ويقصد المقاتلة. ولو وقعت امرأة في صف الكفار فشتمت المسلمين أو انكشفت، جاز رميها، لحديث عكرمة في التي على حصن الطائف، وكذلك إذا التقطت لهم السهام أو سقتهم الماء أو حرضتهم على القتال، وكذلك الحكم في الصبي. وإن تترسوا بمسلم ولم تدع الحاجة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم، لم يجز رميهم؛ فإن دعت
__________
1 سورة التوبة آية: 5.
2 أبو داود: الجهاد (2614) .

(1/365)


الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين، جاز. فإن لم يخف على المسلمين، لكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي: لا يجوز، لقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الآية؛ 1 قال الليث: "ترك فتح حصن يقدر على فتحه، أفضل من قتل مسلم بغير حق".
ولا يجوز لمن أسر أسيراً أن يقتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه، فإن خافه أو خاف هربه أو امتنع من الانقياد معه بالضرب، فله قتله. فأما أسير غيره، فلا يجوز قتله، إلا أن يصير إلى حال يجوز فعله لمن أسره. فإن قتل أسيره أو أسير غيره أساء، ولا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: إن قتله قبل أن يأتي به الإمام ضمنه. ولنا: قصة بلال هو وعبد الرحمن. فإن قتل صبيا أو امرأة ضمن، لأنه صار رقيقاً بالسبي. وإن ادعى الأسير الإسلام، لم يقبل إلا ببينة، فإن شهد معه واحد وحلف خلّي. وقال الشافعي لا يقبل إلا بشهادة عدلين. ولنا: حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى، أو تضرب عنقه. فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، فقال: إلا سهيل".
والأسارى من المجوس وأهل الكتاب الذين يقرون بالجزية، يخيّر الإمام فيهم بين القتل والمنّ بغير عوض والمفاداة والاسترقاق، وعن مالك كمذهبنا. وعنه: لا يجوز المنّ بغير عوض. وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الأسرى، وقال: منّ عليه أو فاداه كما فعل بأسارى بدر، ولأن الله تعالى قال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . 2 وقال أصحاب الرأي: إن شاء
__________
1 سورة الفتح آية: 25.
2 سورة محمد آية: 4.

(1/366)


قتَلهم وإن شاء استرقّهم لا غير، لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، 1 بعد قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . 2 ولنا: على جواز المنّ والفداء الآية المذكورة، "ومنَّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة وأبي عزة الشاعر"، وقال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عديّ حياً ثم سألني هؤلاء النتنى، لأطلقتهم له" 3، "وفادى أسارى بدر وغيرهم". وأما القتل فـ"إنه قتل رجال بني النضير، وقتل يوم بدر النضر وعقبة بن أبي معيط صبرا، ً وقتل أبا عزة يوم أحد"، ولأن كل خصلة قد تكون أصلح. ومن لا يقرّ بالجزية، فيخيّر فيهم بين القتل والمنّ والفداء؛ والتخيير تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة. ومتى حصل عنده تردد فالقتل أولى. فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف، ولا يجوز التمثيل به، لحديث بريدة. "ويجوز الفداء بمال وبأسرى المسلمين، لفعله صلى الله عليه وسلم الأمرين". وعنه: لا يجوز بمال، كما لا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار.
ومنع أحمد من فداء النساء بالمال، لأن في إبقائهن تعريضاً للإسلام، وجوز "أن يفدي بهن أسرى المسلمين لفعله صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع". وقال أحمد: لا يفادى بالصبيان، لأن الصبي يصير مسلماً بإسلام السابي، وكذلك المرأة إذا أسلمت لا يجوز ردها، لقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . 4 وإن كان الصبي غير محكوم بإسلامه، كمن سبي مع أبويه، لم يجز فداؤه بمال كالمرأة، ويجوز بمسلم.
ومن استُرق أو فودي بمال كان للغانمين، لا نعلم فيه خلافاً، فإذا أسلم الأسير كان رقيقاً في الحال، وزال التخيير فيه، وقيل: يحرم قتله؛ ويخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق، وهذا الصحيح. فإن أسلم قبل الأسر، حرم ذلك كله، سواء أسلم وهو في حصر أو بضيق وغير ذلك.
__________
1 سورة التوبة آية: 5.
2 سورة محمد آية: 4.
3 البخاري: فرض الخمس (3139) , وأبو داود: الجهاد (2689) , وأحمد (4/80) .
4 سورة الممتحنة آية: 10.

(1/367)


والمسبي من الأطفال منفرداً يصير مسلماً إجماعاً، فإن كان مع أحد أبويه فكذلك، وعنه: يتبع أباه. ولنا: قوله: "فأبواه يهوِّدانه ... إلخ"، ومفهومه: أنه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما. فإن سُبي معهما فهو على دينهما، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي: يكون مسلماً، لأن السابي أحق به. ولنا: الحديث المتقدم. وإن سُبي الزوجان معاً لم ينفسخ نكاحهما، وقال مالك والشافعي: ينفسخ، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . 1 ولنا: أن الآية نزلت في أوطاس، ولم يأخذوا الرجال؛ والعموم مخصوص بالمملوكة المزوّجة في دار الإسلام، فخص محل النزاع بالقياس عليه. وإن سُبيت وحدها انفسخ بلا خلاف، للآية. وإن سُبي الرجل وحده لم ينفسخ، وقال أبو حنيفة: ينفسخ. وقال الشافعي: إن سُبي واستُرق انفسخ. ولنا: أنه لم يحكم على أسارى بدر بفسخ أنكحتهم.
ولا يجوز بيع شيء من رقيق المسلمين لكافر، مسلماً كان أو كافراً، وهذا قول الحسن؛ قال أحمد: "كتب عمر ينهى عنه أمراء الأمصار"، وعنه: يجوز، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، لأنه رد كافر إلى كافر، والأول أولى، لأنه قول عمر ولم ينكر، فكان إجماعاً.
وأجمعوا على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز، ولا بين الأب وولده، وقال مالك والليث: يجوز، لأنه لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص عليه. ولنا: أنه أحد الأبوين، ولا فرق بين الكبير والصغير في إحدى الروايتين، لعموم الخبر. وعنه: مختص بالصغير، وهو قول الأكثرين،
__________
1 سورة النساء آية: 24.

(1/368)


"لأن سلمة أتى بامرأة وابنتها، فنفله أبو بكر ابنتها، فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم"، والجدة والجد كالأبوين. ويحرم التفريق بين الإخوة في القسمة والبيع أيضاً، وبه قال أصحاب الرأي. وقال مالك والليث والشافعي وابن المنذر: لا يحرم. ولنا: ما روي عن عليّ، قال: "وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين، فبعت أحدهما. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رُدَّه! رُدَّه! ". 1 رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: "لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع". وما بعد الكبر فيه الروايتان، والأولى الجواز، "لأنه صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية، ووهب سيرين لحسّان". وأما ذوو الرحم المحرم كالعمة مع ابنة أخيها، فالأولى الجواز، لأن الأصل الحل، ولا يصح القياسُ على الأخوة لأنهم أقرب.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
الجهاد أفضل من الرباط، على الصحيح، قال الشيخ: هو المنصوص عن أحمد. وقال الشيخ: العمل بالقوس والرمح أفضل من الثغر، وفي غيره نظيره. والرباط أفضل من المجاورة بمكة، ذكره الشيخ إجماعاً. قوله: مستطيع، وعنه: يلزم العاجز ببدنه في ماله، اختاره الشيخ. وقال: الأمر بالجهاد منه ما يكون بالقلب والدعوة والبيان والحجة والرأي والتدبير والبدن، فيجب بغاية ما يمكنه.
وقال: إن كان العدو كثيراً لا يطيقهم المسلمون، أو يخافون أنهم إن انصرفوا
__________
1 الترمذي: البيوع (1284) , وابن ماجة: التجارات (2249) ، وأحمد (1/102) .

(1/369)


عطفوا على من تخلف من المسلمين، فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا؛ ومثله لو هجم العدو على البلاد، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم. وإن كان قتال طلب، فقيل المصافة بعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقاً، إلا لمتحرف أو متحيز، وقال: يسنّ انغماسه في العدو لمنفعة المسلمين، وإلا نهي عنه، وهو من التهلكة.

(1/370)


باب ما يلزم الإمام والجيش
يلزم الإمام عند المسير: تعاهد الخيل والرجال، فلا يدع فرساً حطيماً وهو: الكسير، ولا قحماً وهو: الكبير، ولا ضرعاً وهو: الصغير، ولا هزيلاً، يدخل معه في أرض العدو. ويمنع المخذّل والمرجف وهو: الذي يُقعد الناس عن الخروج والقتال، كقوله: الحَر أو البرد شديد أو المشقة شديدة، والمرجف هو: الذي يقول: لا طاقة لنا بالكفار وهم قويون، أو لهم مدد وصبر وأشباه ذلك. ولا يأذن لمن يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد بينهم، ولا لمن يُعرف بالنفاق، لقوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} الآية، 1 وقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} الآية 2.
ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان، لأن فيهم معونة، ويمنع النساء، إلا طاعنة في السن تسقي الماء ومعالجة الجرحى، لـ"حديث أنس في غزو أمه ونسوة معها"، صححه الترمذي. فإن قيل: "فإنه صلى الله عليه وسلم يخرج بمن يقع عليها القرعة"، قلنا: تلك امرأة واحدة للحاجة، ويجوز مثله للأمير عند حاجته، ولا يرخص لغيره لئلا يفضي إلى استيلاء العدو عليهن.
ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة، لما روى الزهري "أنه استعان بيهود فأسهم لهم"، رواه سعيد، و"خرج معه صفوان قبل إسلامه".
__________
1 سورة التوبة آية: 83.
2 سورة التوبة آية: 47.

(1/371)


ويستحب الخروج يوم الخميس لقول كعب: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس". 1 ويرفق بهم في السير، فيسير بهم سير أضعفهم؛ فإن دعت الحاجة إلى الجد في السير جاز، "لفعله صلى الله عليه وسلم حين بلغه كلام عبد الله بن أبيّ {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} ، 2 ليشغل الناس عن الخوض فيه". ويعدّ لهم الزاد، ويقوي أنفسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر، ويعرّف عليهم العرفاء، وهو أن يجعل في كل طائفة مقدماً عليهم ينظر في حالهم. ويعقد لهم الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء، ويغير ألوانها ليعرف كل طائفة رايتهم. ويجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به، لئلا يقع بعضهم على بعض. ويتخير لهم المنازل، ويحفظ مكانها لئلا يؤتَوا منها. ولا يغفل الحرس ليحفظهم من البيات. ويبعث العيون إلى العدو لئلا يخفى عليه أمرهم. ويمنع الجيش من المعاصي. ويعِد ذا الصبر بالأجر والنفل. ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه، ويشاور ذا الرأي. ويصفّ جيشه لقول: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ، 3 ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها، ولا يميل مع قريبه ويراعي أصحابه.
ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، لقوله في المجوس: "سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب"، 4 ولا نعلم خلافاً في ذلك. فأما من سواهم فلا يُقبل منهم إلا الإسلام، وفيه اختلاف. ومن بلغتهم الدعوة جاز قتالهم من غير دعاء، وإلا دُعوا قبل القتال، لحديث بريدة: "ادعهم إلى الإسلام"، و"أمر علياً أن يدعو أهل خيبر"، وقد بلغتهم الدعوة.
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2949, 2950) , وأبو داود: الجهاد (2605) , وأحمد (3/456, 6/390) , والدارمي: السير (2436) .
2 سورة المنافقون آية: 8.
3 سورة الصف آية: 4.
4 مالك: الزكاة (617) .

(1/372)


ولا نعلم خلافاً في أنه يجوز له أن يبذل مالاً لمن يدلّه على ما فيه مصالح المسلمين. "وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة دليلاً"، فإن كان من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً، "لأنه صلى الله عليه وسلم جعل لسرية الثلث والربع".
وله أن ينفل في البدأة الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده، وذلك إذا دخل الجيش بعث سرية تغير، وإذا رجع بعث أخرى، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما جعل لها، وقسم الباقي للجيش والسرية معاً؛ وبهذا قال جماعة من أهل العلم. وعن عمرو بن شعيب: "لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولعله احتج بقوله: {الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} . 1 وقال ابن المسيب ومالك: لا نفل إلا من الخمس. وقال الشافعي: من خمس الخمس. ولنا: حديث مسلمة: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة"، 2 وفي لفظ: "أنه كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قفل". رواهما أبو داود. وعن جرير أنه لما قدمه عمر في قومه قال له: "هل لك أن تأتي الكوفة، ولك الثلث بعد الخمس، من كل أرض وشيء؟ ". وذكر مكحول حديث حبيب بن مسلمة لعمرو بن شعيب حين قال: "لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: شغلك أكل الزبيب بالطائف"; وما ثبت له صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده، ما لم يقم دليل التخصيص.
ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث والربع، نص عليه؛ وهو قول الجمهور. وقال الشافعي: لا حدَّ للنفل، هو موكول إلى اجتهاد الإمام، لأن في حديث ابن عمر: "أنه نفل نصف السدس ونفل مرّة الثلث ومرة الربع"، وما ذكره يدل على أنه
__________
1 سورة الأنفال آية: 1.
2 أبو داود: الجهاد (2750) , وابن ماجة: الجهاد (2853) , وأحمد (4/160) , والدارمي: السير (2483) .

(1/373)


ليس لأقله حد. ونحنُ نقول به، على أن هذا مع قوله: أن النفل من خمس الخمس، يناقض. وسئل أحمد: للأمير أن يعطي رجلاً رأساً من السبي أو دابة؟ قال: إذا كان رجل له غناء ونفائل، ذلك أنفع له، يحرضه هو وغيره. وقال: إذا نفل الإمام صبيحة مغار الخيل، فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشيء، فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاؤوا بشيء دون هؤلاء؛ وظاهره من غير شرط. وحجة هذا: حديث سلمة حين "أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فاتبعتهم. فأعطاني سهم الفارس والراجل". 1 رواه مسلم، وحديث تنفيل أبي بكر له المرأة. فإن قال: من فعل كذا فله كذا، جاز في قول الأكثر، وكره مالك هذا، وقال: قتالهم على هذا الوجه للدنيا، وقال: لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة. وقال: قوله: "من قتل قتيلاً فله سلبُه" 2 بعد أن برد القتال. ولنا: تنفيل الثلث والربع، وما شرط عمر لجرير على أن يأتي الكوفة. وقوله: بعد ما برد القتال، جوابه: أن ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات.
والنفل لا يختص بنوع من المال. وقال الأوزاعي: لا نفل في الدراهم والدنانير، لأن القاتل لا يستحق شيئاً، منها فكذلك غيره. ولنا: حديث الثلث والربع وهو عام. وأما القاتل، فإنما نفل السلب فلا يستحق غير ما جعل له. قيل لأحمد: إذا قال: من رجع إلى الساقة فله دينار، والرجل يعمل في سياقة الغنم، قال: لم يزل أهل الشام يفعلون هذا. قيل له: فالإمام يخرج السرية وقد نفلهم جميعاً، فلما كان يوم المغار نادى: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس، قال: لا بأس. قيل: نفلين في شيء واحد؟ قال: نعم، ما لم يستغرق الثلث. قال أحمد: "والنفل من أربعة أخماس الغنيمة"، هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام. قال أبو عبيد: الناس اليوم على هذا. قال أحمد: كان ابن المسيب ومالك يقولان: لا نفل إلا من الخمس، فكيف خفي عليهما هذا مع علمهما؟
__________
1 أبو داود: الجهاد (2752) .
2 الترمذي: السير (1562) , وأبو داود: الجهاد (2717) , وأحمد (5/295) , ومالك: الجهاد (990) .

(1/374)


وقال طائفة: إن شاء نفلهم قبل الخمس، وإن شاء بعده. وقال أبو ثور: النفل قبل الخمس، واحتج من ذهب إليه بحديث ابن عمر: "كانت سِهْمانهم اثني عشر بعيراً، فنفلوا بعيراً بعيراً". ولنا: حديث معن: "لا نفل إلا بعد الخمس"، 1 رواه أبو داود، وحديث حبيب: "كان ينفل الربع بعد الخمس"، 2 وحديث جرير: "لك الثلث بعد الخمس"، 3 ولقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية، 4 يقتضي أن يكون خارجاً من الغنيمة، وحديث عمرو بن شعيب عن نافع عن ابن عمر قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد، وانبعث سرية من الجيش، فكانت سهمان الجيش اثني عشر بعيراً، ونفل أهل السرية بعيراً بعيراً"، إذ كانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيراً، فيمكن أن يكون نفلهم من أربعة الأخماس دون البقية؛ ويتعين حمله على هذا، لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلاً وكان قد قسم له أكثر من أربعة الأخماس، وهو خلاف الآية والأخبار. وكلام أحمد في أن النفل من أربعة الأخماس عام، ويحتمل أن قوله: من جاء بكذا فله كذا، أن يكون من الغنيمة كلها، وكذلك يحتمل أنه في زيادة بعض الغانمين على سهمه، ويكون من خمس الخمس المعد للمصالح. والمذهب الأول، لأن عطية سلمه سهم الفارس زيادة، إنما كان من أربعة الأخماس.
وإذا بعث سرية فنفلها الثلث أو الربع، فخص به بعضهم، أو جاء بعضهم بشيء فنفله ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله، شارك من نفل من لم ينفل؛ نص عليه، لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء.
ويلزم الجيش طاعة الأمير، والنصح له، والصبر، لقوله تعالى: {وَأُولِي
__________
1 أبو داود: الجهاد (2753) , وأحمد (3/470) .
2 أبو داود: الجهاد (2749) , وأحمد (4/160) .
3 أبو داود: الجهاد (2748) , وابن ماجة: الجهاد (2851, 853) , وأحمد (4/159, /160) , والدارمي: السير (2483) .
4 سورة الأنفال آية: 41.

(1/375)


الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1. ولا يجوز لأحد أن يخرج من العسكر لتحصيل علف أو حطب، ولا يبارز، ولا يحدث حدثاً، إلا بأذن الأمير، لقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا} الآية. 2 وتجوز المبارزة بإذنه قي قول عامة أهل العلم، إلا الحسن فإنه كرهها. ولنا: "أن الصحابة يبارزون في عصره صلى الله عليه وسلم وبعده"، فلم ينكر، فكان إجماعاً. ورخص فيها مالك والشافعي بلا إذن الأمير، "لأن أبا قتادة بارز رجلاً يوم حنين فقتله، ولم يستأذن"، وكذلك غيره لم يُعلم منهم استئذان. ولنا: أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان عدوه، ويفوّض ذلك إليه، لجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب الكافرين. "وأبو قتادة رأى رجلاً يريد قتل رجل، فضربه، بعد التحام الحرب"، وليس هذا هو المبارزة [بل هي: أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب، يدعو إلى المبارزة] . 3 فإن دعا كافر إليها، استحب لمن يعلم من نفسه القوة أن يبارز، ويباح أن يطلبها ابتداء. وتكره للضعيف الذي لا يعلم من نفسه ذلك. فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه، فله ذل، ك لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} . 4 ويجوز رميه قبل البراز، إلا إن جرت العادة بأن من خرج لا يعرض له، كالشرط. فإن انهزم المسلم أو أثخن بالجراح، جاز الدفع عنه بقتال الكافر، خلافاً للأوزاعي. ولنا: "أن حمزة وعلياً أعانا أبا عبيدة". وتجوز الخدعة في الحرب للمبارزة وغيره، لقوله: "الحرب خدعة"؛ جوّز الخدعة في الحرب للمبارزة وغيره، لقوله: "الحرب خدعة" 5.
واستحقاق سلب القتيل للقاتل، لا نعلم فيه خلافاً في الجملة. ويستحقه كل من يستحق السهم أو الرضخ. وللشافعي فيمن لا سهم له قولان. ولنا:
__________
1 سورة النساء آية: 59.
2 سورة النور آية: 62.
3 زيادة من المخطوطة.
4 سورة المائدة آية: 1.
5 البخاري: الجهاد والسير (3028) , ومسلم: الجهاد والسير (1740) .

(1/376)


عموم الخبر، وقال مسروق والأوزاعي: "إذا التقى الزحفان فلا سلب"، ونحوه قول نافع وغيره. ولنا: العموم، و"لأن أبا قتادة وأبا طلحة إنما أخذا الأسلاب بعد أن التقى الزحفان".
قال أحمد: السلب للقاتل في المبارزة لا يكون في الهزيمة، فإن رماه من الصف فلا سلب له، وكذلك إن أدركه منهزماً فأعطى سلبه. وقال أبو ثور وابن المنذر: السلب لكل قاتل، لعموم الخبر، وحديث سلمة. ولنا:"أن عبد الله وقف على أبي جهل، فلم يعطه سلبه، وأمر بقتل عقبة والنضر، ولم يعط سلبهما من قتلهما، وإنما أعطاه من يبارز بنفسه"، وكفى المسلمين شره. والمنهزم بعد الحرب كفى المسلمين نفسه، والذي قتله سلمة متحيز إلى فئة. ولا يخمس السلب، وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال ابن عباس: "يخمس"، وبه قال الأوزاعي ومكحول، لعموم الآية. قال إسحاق: إن استكثره الإمام خمسه، وذلك إليه، لما روي عن عمر في سلب المرزبان، رواه سعيد. ولنا: حديث عوف وخالد، رواه أبو داود. قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق من الرسول فيه شيء، إلا اتباعه. والسلب من أصل الغنيمة. وقال مالك: من خمس الخمس. ولنا: أنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم جعله منه، ولأنه لو فعله لاحتيج إلى معرفة قدره. ويستحق السلب، وإن لم يقله الإمام، وبه قال الشافعي. وقال الثوري: لا يستحق إلا أن يشرطه الإمام. وقال مالك: لم نر أن نقوله إلا بعد انقضاء الحرب. وجعلوه من الأنفال، لقوله: "لا تعطه يا خالد"، وقول سعيد لبشير في سلب العلج: "نفلناه إياه"، و"لأنه دفع إلى أبي قتادة من غير بينة". ولنا: قوله: "من قتل قتيلاً فله سلبه". 1 وهذا من قضاياه المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده، وقوله: "لا تعطه يا خالد" عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالداً بين يديه، وقول سعد: "نفلناه" سماه نفلاً، لأنه
__________
1 الترمذي: السير (1562) , وأبو داود: الجهاد (2717) , وأحمد (5/295) , ومالك: الجهاد (990) .

(1/377)


زيادة على سهم، وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له به، لكن قال أحمد: لا يعجبني أن يأخذه إلا بإذن الإمام. وقال الشافعي: له أخذه بلا إذن. وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة، وقيل بينهما. ولنا: أنه لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قضى به لاثنين. وإن اشتركا في ضربه وكان أحدهما أبلغ في ضربه من الآخر، فسلبه له، وقال: "كلاكما قتله. وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو".
وإن أسره وقتله الإمام فسلبه غنيمة، وقال مكحول: لا يكون إلا لمن قتله أو أسره. ولنا: قصة عقبة والنضر. وإن قطع يده ورجله، وقتله آخر، فسلبه غنيمة، وقيل: للقاطع، لأنه عطّله. وقيل: للقاتل، لعموم الخبر. وإن عانق رجلاً فقتله آخر، فالسلب للقاتل، وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: للمعانق. ولنا: العموم، وقصة أبي قتادة. ولا يقبل إلا ببينة. وقال الأوزاعي: يقبل بلا بينة، لقصة أبي قتادة. ولنا: قوله: "من قتل قتيلاً" الحديث، وأبو قتادة أعطي لاعتراف الخصم. وسلبه: ما لبسه وسلاحه؛ فأما المال الذي معهُ وهميانه فليس منه، وقال الشافعي: ما لا يحتاج إليه في الحرب، كالتاج والسوار ليس منه. ولنا: "أن البراء بارز المرزبان فقتله، فبلغ سواره ومنطقته ثلاثين ألفاً، فخمسه عمر فدفعه إليه"، فأما الدابة فعنه: ليست منه. وذكر حديث عمرو بن معدي كرب بأخذ سواره من منطقته يعني: ولم يذكر الدابة. وعنه: أنها منه، وبه قال الشافعي، لحديث عوف في غزوة مؤتة. ويجوز سلبهم وتركهم عراة، وكرهه الثوري وابن المنذر. ولنا: قوله لسلمة: "له سلبه أجمع". ويكره نقل الرؤوس والمثلة والتعذيب، قال الزهري: "لم يُنقل إليه، صلى الله عليه، رأس قط، وحُمل إلى أبي بكر فأنكره". وأول من حُمل إليه الرؤوس ابن الزبير. ومن أعطي شيئاً ليستعين به في غزاوته، فما فضل فهو له. و"كان ابن

(1/378)


عمر إذا أعطي شيئاً في الغزو يقول لصاحبه: إذا بلغت وادي القرى فشأنك به، وإن أعطاه لغزو مطلقاً أنفقه في غزاة أخرى".
وقال أحمد: لا يترك لأهله منه شيئاً، إلا أن يصير إلى رأس مغزاه، فيكون كهيئة ماله، فيبعث إلى عياله منه. وإذا أعطي دابة ليغزو عليها، فإذا غزا عليها ملكها، لأن الذي باع فرس عمر إنما كان بعد الغزو، إلا أنه لا يأخذه منه ويبيعه في الحال، ذكر أحمد نحو هذا، قيل له: فحديث ابنه: "إذا بلغت وادي القرى فشأنك به"؟ قال: "ابن عمر يصنع ذلك في ماله"، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: ولا أعلم أن أحداً قال: إن له أن يبيعه في مكانه. وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله، إلا أن يقول: شأنك به ما أردت. ولنا: أن حديث ابن عمر ليس فيه هذا الشرط.
وإن دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنيمتهم كغيرهم، هذا قول الأكثر، للآية. وعنه: هو لهم من غير أن يخمس، وبه قال أبو حنيفة، لأنه اكتساب مباح كالاحتطاب. وعنه: لا حق لهم فيها، هي للمسلمين؛ والأول أولى. وإن كانت الطائفة لهم منعة، ففيه روايتان: أصحهما: تخمس والباقي لهم.
ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن يخاف أن تغلبه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل. قال شيخنا: هذا فيمن دخل أرضهم بأمان، فإن كان في جيش المسلمين، فله التزوج. فأما الأسير، فلا يتزوج. وإذا اشترى منهم جارية، فلا يطؤها في أرضهم، لئلا يُغلب على ولدها.
وأجمعوا - إلا من شذ - أن الغزو إذا دخلوا أرض الحرب، أن لهم أن يأكلوا من طعامهم ويعلفوا دوابهم من علفهم، وقال الزهري: لا تؤخذ إلا بإذن الإمام.

(1/379)


ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب الدابة، لحديث رويفع مرفوعاً: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده فيه"، رواه سعيد. ونقل المروزي: لا بأس أن يركب دابة ولا يعجفها.
ولا يجوز الانتفاع بجلودهم ولا الخيوط ولا الحبال، وبه قال الشافعي. ورخص مالك في الإبرة، والحبل يتخذ من الشعر، والنعل والخف يتخذ من جلود البقر. ولنا: قوله في كبة الشعر: "نصيبي منها لك"، وقوله: "أدُّوا الخيط والمخيط ... إلخ". 1 وإن كانت كتبهم مما ينتفع به ككتب اللغة والشعر، فغنيمة. وإن كانت مما لا ينتفع به، وأمكن الانتفاع بجلودها، فهو غنيمة. فإن فضل من الطعام شيء فأدخله البلد، فإن كان كثيراً رده في المغنم بغير خلاف، وإن كان يسيراً فله أكله، وبه قال مالك. وعنه: يرده، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر والشافعي في أحد قوليه، لقوله: "أدّوا الخيط والمخيط". 2 قال أحمد: أهل الشام يتساهلون في هذا. قال الأوزاعي: "أدركت الناس يقدمون بالقديد، فيهدي بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة".
وإذا اجتمعت المغانم وفيها طعام أو علف، لم يجز أخذه إلا لضرورة. فإذا دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس، وذكر أحمد قول عبد الله: "أخذت سيفه يعني: أبا جهل، فضربته به حتى برد"، ولأنهم أجمعوا على أن يلتقط النشاب ويرمي بها العدو، وهو أبلغ.
وفي ركوب الفرس روايتان: إحداهما: يجوز. والثانية: لا يجوز، لحديث رويفع.
__________
1 ابن ماجة: الجهاد (2850) .
2 ابن ماجة: الجهاد (2850) .

(1/380)


باب قسمة الغنائم
إذا أخذ الكفار مال مسلم، ثم أخذه المسلمون، فإن كان قبل القسمة أخذه صاحبه، في قول عامة أهل العلم، لحديث ابن عمر وغيره. وإن كان بعدها، فهو أحق به بالثمن. وعنه: "لا حقَّ له فيه"، وهو قول عمر وعلي. قال أحمد: أما قول من قال: فهو أحق به بالقيمة، فهو قول ضعيف عن مجاهد. وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه قبل القسمة وبعدها. قال أحمد: إنما قال الناس فيها قولين: إذا قسم فلا شيء له، وقال قوم: إذا قسم فهو أحق به بالثمن. فأما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك، فلم يقله أحد. فإن أخذه أحد الرعية بهبة أو بسرقة، فصاحبه أحق به بغير شيء. وقال أبو حنيفة: لا يأخذه إلا بالقيمة. ولنا: ما روى مسلم: "أن قوماً أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار. فأقامت عندهم أياماً، ثم خرجت في بعض الليل. قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة. ونذرت: إن نجاني الله عليها أن أنحرها. فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها" الحديث. فأما إن اشتراه من العدو، فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه.
وحكم أموال أهل الذمة كذلك، فإن كان عليه علامة المسلمين ولم يعرف صاحبه، فهو غنيمة، وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال الشافعي: يوقف حتى يجيء صاحبه. وإن وجد عليه حبس في سبيل الله، رد كما كان، نص عليه؛ وبه قال الأوزاعي والشافعي. وقال الثوري: يقسم.

(1/381)


ويملك الكفار أموال المسلمين بالقهر، وهو قول مالك. وعنه: لا. وهو قول الشافعي، لحديث الجارية. ووجه الأولى: أن الناقة إنما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها غير مقسومة ولا مشتراة. ويملكونها قبل حيازتها إلى دار الكفر، وبه قال مالك. وعنه: بالحيازة إلى دارهم، وبه قال أبو حنيفة. وإن استولوا على حر لم يملكوه، لا نعلم فيه خلافاً.
وإذا قدر المسلمون على أهل الذمة، وجب ردهم إلى ذمتهم، ولم يجز استرقاقهم، لا نعلم فيه خلافاً.
وإذا وجد ركاز في دارهم، فإن كان في موضع يقدر عليه بنفسه، فهو له، وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة المسلمين، فهو غنيمة. ونحوه قول مالك والأوزاعي. وقال الشافعي: إن وجده في مواتهم، فهو مثل ما لو وجده في دار الإسلام. ولنا: حديث أبي الجويرية: "لقيت بأرض الروم جرة فأتيت بها الأمير فقسمها بين المسلمين". رواه أبو داود.
وإن وجد في دارهم لقطة، فإن كانت من متاع المسلمين فهي كما لو وجدها في غيره، وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة؛ وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي: ينفرد بأخذه، لأنه لو أخذه في دار الإسلام ملكه. ولنا: أنه ذو قيمة مأخوذة بقوة المسلمين. وأما ما أخذه في دار الإسلام فلا يحتاج إلى الجيش. وإن كان مما لا قيمة له، فله أخذه وهو أحق به، ولو صار له قيمة بمعالجته أو نقله، نص عليه؛ وبه قال الأوزاعي والشافعي. وقال الثوري: يرده في المقسم، وإن عالجه أعطي قدر عمله. ولنا: أن القيمة إنما صارت بعمله أو بنقله، فلم يكن غنيمة. وإن ترك صاحب المقسم شيئاً من الغنيمة عجزاً عن حمله فقال: من أخذ شيئاً فهو له، ملكه بأخذه نص عليه.

(1/382)


وسئل: عما تركه الوالي مما لا يباع ولا يشترى، أيأخذه الإنسان لنفسه؟ قال: نعم. ونحوه قول مالك، لأنه إذا لم يقدر على حمله يصير بمنزلة ما لا قيمة له.
وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب، ويجوز قسمها فيها، وبه قال مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا يقسم إلا في دار الإسلام. ولنا: قول الأوزاعي: "لا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم قسم شيئا بالمدينة من المغانم". وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال وإن لم يقاتل، لأنه ردء للمقاتل معين، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا سهم للتاجر والصانع، إلا أن يقاتلوا. وأما المريض العاجز عن القتال والمخذل والمرجف والفرس الضعيف، فلا حق له، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يسهم له كالمريض.
وإذا لحق مدداً أو هرب أسير فأدركوا الحرب قبل تقضيها، أسهم لهم، وإن جاؤوا بعد إحراز الغنيمة، فلا شيء لهم. ومن بعثهم الأمير لمصلحة الجيش أسهم لهم. وسئل أحمد: عن قوم خلفهم الأمير وأغار في جلد الخيل فقال: إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع، أسهم لهم، قيل له: فإن اعتل رجل أو اعتلت دابة، فقال له الأمير: أقم، وأسهم لك، أو انصرف أسهم لك؟ فكرهه وقال: ينصرف إلى أهله، كيف يسهم له؟!
وإذا أراد القسمة، بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها، فإن كان فيها مال مسلم أو ذمي دفعه إليه، ثم بمؤنة الغنيمة من أجرة الجمال والحافظ والمخزن والحاسب، ثم بالرضخ - وقيل يبدأ بالخمس قبله -. ثم يخمس الباقي، فيقسم خمسة على خمسة أسهم، ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن الغنيمة مخموسة، للآية، وقد ذكرناه. وقيل: يقسم على ستة أسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، لظاهر الآية. وروي عن الحسن وقتادة في سهم ذوي القربى: "كان

(1/383)


طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله". وعن ابن عباس: "أن أبا بكر وعمر قسما الخمس ثلاثة أسهم"، وهو قول أصحاب الرأي، قالوا: يقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال: مالك الفيء والخمس واحد، يجعلان في بيت المال. وقال الثوري: الخمس يضعه الإمام حيث أراه الله. وسئل ابن عباس عن سهم ذوي القربى فقال: "كنا نزعم أنه لنا فأبى علينا قومنا"، وذكر لأحمد قول أبي بكر وعمر، فسكت فلم يذهب إليه، ورأى أن قول ابن عباس أولى، لموافقة الكتاب والسنة. وقالت طائفة: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخليفة بعده، لقوله: "إذا أطعم الله نبياً طعمة ثم قبضه، فهي للذي يقوم بها من بعده". 1 رواه أبو بكر عنه: قال: "قد رأيت أن أرده على المسلمين. فاتفق هو وعمر والصحابة على وضعه في الخيل والعدة في سبيل الله".
و"كان له صلى الله عليه وسلم الصفي"، وهو شيء يختاره من الغنيمة قبل القسمة، كالعبد والجارية والثوب ونحوه، هذا قول غير واحد. وقال أحمد: هو خاص به صلى الله عليه وسلم، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن أبا ثور قال: للإمام أخذه. وأنكر قومٌ الصفي، واحتجوا بحديث جبيرك "والذي نفسي بيده ليس لي مما أفاء الله ... إلخ". ولنا: كتابه صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير، رواه أبو داود، وفيه: "وأدّيتم الصفيّ، فإنكم آمنون بأمان الله ورسوله". 2 رواه أبو داود، وقالت عائشة: "كانت صفية من الصفي". رواه أبو داود.
وسهم ذوي القربى: للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو مذهب الشافعي، وقيل: يختص بالفقراء. ولنا: عموم الآية، و"لأن عثمان وجبيراً طلبا حقهما
__________
1 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2973) .
2 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2999) .

(1/384)


وهما موسران". وسئل: عن علة المنع؟ فعلله بنصرة بني المطلب. والمشهور من مذهب الشافعي: أن اليتامى لا يستحقون إلا مع الفقر، قال شيخنا: لا أعلم في هذا نصًا عن أحمد، والآية تقتضي التعميم.
ويرضخ لمن لا سهم له، وهم: العبيد والنساء والصبيان، هذا قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك في المرأة والعبد. وقال أبو ثور: يسهم للعبد. وروي عن الحسن والنخعي، لحديث الأسود: "أسهم لهم يوم القادسية". وقال الأوزاعي: ليس لهم سهم ولا رضخ.
ويسهم للمرأة، لحديث جبير بن زياد عن جدته: "أنه أسهم لهن يوم خيبر وأسهم أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه". ولنا: حديث ابن عباس، رواه مسلم، وعن عمير مولى أبي اللحم: "أنه شهد فتح خيبر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع". رواه أبو داود، واحتج به أحمد. وأما ما روي في سهامهن، فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهماً.
وقال مالك: يسهم للصبي إذا قاتل وأطاق القتال، وكذا قال الأوزاعي: "أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بخيبر". ولنا: قول ابن المسيب: "كان الصبيان والعبيد يُحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة"، وحديث تميم بن قزع الفهري، قال الجوزجاني: هذا من مشاهير حديث مضر وجيده. فإن انفرد بالغنيمة من لا سهم له، كعبيد دخلوا في دار الحرب، أخذ خمسه، والباقي لهم.
وإن غزا الكافر مع الإمام بإذنه، فعنه: يسهم له، وبه قال الزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق. قال الجوزجاني: هذا قول أهل الثغور، وأهل العلم

(1/385)


بالبعوث. وعنه: لا يسهم له، وبه قال الشافعي ومالك. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أسهم لصفوان بن أمية يوم حنين".
وإن غزا العبد على فرس لسيده، قسم للفرس ورضخ له، وقال الشافعي: لا يسهم للفرس. ومن استعار فرساً فسهمها للمستعير، وبه قال الشافعي، وعنه: لمالكها. فإن استأجرها فسهمها له، لا نعلم فيه خلافاً. وإن غزا على فرس حبيس، فسهمها له. وأجمع أهل العلم على أن للغانمين أربعة أخماس الغنيمة، وقال أكثرهم: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة: له سهم ولفرسه سهمان. قال ابن المنذر: هذا قول عوام أهل العلم في القديم والحديث. وقال أبو حنيفة: للفرس سهم واحد. والهجين الذي أبوه عربي وأمه برذون يكون له سهم، وبه قال الحسن، وعنه: له سهمان؛ وبه قال مالك والشافعي، لعموم الخبر. ولا يسهم لأكثر من فرسين، وقال الشافعي ومالك: لا يسهم لأكثر من واحد. ولنا: أن عمر قضى بذلك. ولا يسهم لغير الخيل، وعنه: يسهم للبعير سهم.
ومن دخل دار الحرب راجلاً، ثم ملك فرساً أو استعاره فشهد به الوقعة، فله سهم فارس. وقال أبو حنيفة: الاعتبار بدخول دار الحرب، قال أحمد: أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حال كان يعطى: إن كان فارساً ففارساً، وإن كان راجلاً فراجلاً، لأن عمر قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة".
ومن غصب فرساً، فسهمه لمالكه، نص عليه. ولو قال الإمام: من أخذ شيئاً فهو له، أو فضّل بعضهم على بعض، لم يجز في إحدى الروايتين، وعنه: يجوز، لأنه عليه السلام قال يوم بدر: "من أخذ شيئاً فهو له"، 1 وقضية بدر
__________
1 أحمد (1/178) .

(1/386)


منسوخة، لأنهم اختلفوا فيها، فأنزل الله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ} الآية 1.
وأما تفضيل بعضهم على بعض، فلا يجوز. وقال الإمام أحمد في الإمام يستأجر قوماً يدخل بهم بلاد العدو: لا يسهم لهم، ويوفى لهم بأجرتهم، لحديث يعلى بن منير، رواه أبو داود، وفيه: "لا أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمّى". 2 وأما الأجير للخدمة والمكري دابته، ففيه روايتان: إحداهما: لا يسهم له، قاله إسحاق والأوزاعي. والثانية: يسهم له، وبه قال ابن المنذر ومالك، وبه قال الليث إذا قاتل. وإن اشتغل بالخدمة فلا سهم له، واحتج ابن المنذر بحديث سلمة: "أنه كان أجيراً لطلحة حين أدرك ابن عيينة حين أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل".
ومن قتل قبل حيازة الغنيمة، فلا سهم له. وقال الشافعي: إن قتل وقد حضر الوقعة قبل حيازة الغنيمة أو بعدها، أسهم له.
وإذا فصل الجيش غازياً، فخرجت منه سرية، فأيهما غنم شاركه الآخر، في قول عامة أهل العلم. وقال النخعي: إن شاء نفلهم الإمام إياه كله، يعني: السرية. ولنا: ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية من الجيش قبل أوطاس، فغنمت السرية، فأشرك بينها وبين الجيش"، ولأن كلاً منهما ردء لصاحبه. وقال أحمد: لا يشتري الأمير من المغنم شيئاً، لأنه يحابي به و"لأن عمر رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء، وقال: إنه يحابي"، احتج به أحمد.
والغالّ يحرق رحله كله، وبه قال الحسن وفقهاء الشام. وقال مالك والشافعي: لا يحرق، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولأنه منهي عن إضاعة المال. ولنا: حديث سالم
__________
1 سورة الأنفال آية: 1.
2 أبو داود: الجهاد (2527) , وأحمد (4/223) .

(1/387)


عن أبيه عن عمر، وحديثهم لا حجة فيه؛ فإن الرجل توانى في المجيء به، وليس الخلاف فيه، ولأنه جاء به من عند نفسه تائباً معتذراً، والتوبة تجبّ ما قبلها. وأما النهي عن إضاعة المال، فذلك لغير المصلحة، فأما إذا كان لمصلحة فلا يعدّ تضييعاً.
و"لا يحرق المصحف، لحرمته، ولحديث سالم، وكذلك الحيوان، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار"، وكذلك السلاح، وكذلك آلة الدابة، نص عليه. وقال الأوزاعي: يحرق، ولا يحرق ما غلَّ لأنه من الغنيمة، نصَّ عليه. وهل يحرم سهمه؟ على روايتين. ولنا: أنه لم يثبت في خبر، وإذا تاب قبل القسمة ردّه في المغنم، وبعدها، يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي؛ وبه قال الحسن والزهري ومالك. وقال الشافعي: لا أعرف للصدقة وجهاً. ولنا: أنه قول ابن مسعود ومعاوية ومن بعدهم، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم.
وفدية الأسارى غنيمة بلا خلاف، وما أهدي للأمير أو بعض قواده في حال الغزو كذلك. وقال أبو حنيفة: هي لمن أهدي لهم بكل حال.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر، وفيها روايتان. قال الشيخ: لم ينص أحمد على الملك ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب: أنهم يملكونها ملكاً مقيداً، لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه. قوله: سهم لله ولرسوله يصرف مصرف الفيء. وعنه: في المقاتلة والكراع والسلاح. وفي الانتصار: هو لمن يلي الخلافة بعده. وذكر الشيخ عن بعض أصحابنا: أن الله أضاف هذه الأموال إضافة ملك كسائر أموال الناس، ثم اختار قول بعض العلماء: أنها ليست ملكاً لأحد، بل أمرها إلى الله وإلى الرسول، ينفقها في ما أمره الله به. ويشترط في المستحقين من ذوي

(1/388)


القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، أن يكونوا مسلمين، وأن يعطوا كالزكاة بلا نزاع. واختار الشيخ إعطاء الإمام من شاء منهم للمصلحة كالزكاة. واختار أن الفيء والخمس واحد، يصرف في المصالح. واختار ابن القيم في الهدي: أن الإمام يخيّر فيهم، ولا يتعداهم، كالزكاة. ولا يسهم لغير الفرس، وعنه: يسهم للبعير. وذكر القاضي أن أحمد قال: ليس للبغل شيء إلا النفل. قال الشيخ: هذا صريح أن البغل يجوز الرضخ له، وهو قياس الأصول؛ فإن الذي ينتفع به ولا يسهم له كالمرأة والصبي، يرضخ لهم.
وإذا قال الإمام: من أخذ شيئاً فهو له، ففي جوازه روايتان. وقيل: يجوز للمصلحة، وإلا فلا؛ قلت: وهو الصواب.
وإذا فضّل بعض الغانمين على بعض، ففيه روايتان، ومحلهما إذا كان المعطى في غناء مثل الشجاعة ونحوها، فإن كان لا غناء فيه، لم يجز، قولاً واحداً. وإذا كان لغناء فيه ولم يشرطه، فالصحيح جوازه. والغالّ يحرق رحله. واختار الشيخ أنه من باب التعزير، فيجتهد الإمام بحسب المصلحة؛ قلت: وهو الصواب.

(1/389)


باب حكم الأرضين المغصوبة
...
باب حكم الأرضين المغنومة
ما أجلي عنها أهلها بالسيف، خيّر الإمام بين وقفها وقسمها؛ وعنه: تصير وقفاً بالاستيلاء، وعنه: تقسم بين الغانمين. ولا نعلم أن شيئاً مما فتح عنوة قُسم إلا خيبر. قال أحمد: ومن يقوم على أرض الصلح والعنوة؟ وأين هي؟ وإلى أين هي؟ وقال: أرض الشام عنوة، إلا حمص وموضعاً آخر. وقال: ما دون النهر صلح، وما وراءه عنوة. وقال: فتح المسلمون السواد عنوة، إلا ما كان منه صلحاً، وهي أرض الحيرة وأرض بانقيا. وقال: أرض الري خلطوا في أمرها. والذي قسم بين الغانمين لا خراج عليه، وكذلك ما أسلم أهله عليه، وما صولحوا على أن الأرض لهم، وما أحياه المسلمون كأرض البصرة. وما جلا عنها أهلها خوفاً، حكمها حكم الفيء تصير وقفاً. وعنه: حكمها حكم العنوة. والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام. وعنه: لا يزاد على ما ضرب عمر ولا ينقص؛ وعنه: يجوز الزيادة دون النقص، لقول عمر لحذيفة وعثمان: "لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق؟ فقال عثمان: والله لو شئت زدت عليهم، فقال عمر: فلا تجهدهم"، فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم.
و"كره شراء المزارع من أرض الخراج، لأن في الخراج معنى الذلة، وبهذا وردت الأخبار عن عمر وغيره"؛ ومعنى الشراء ههنا: أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها، لأن شراء هذه الأرض غير جائز.

(1/390)


باب الفيئ
...
باب الفيء
وهو: ما أُخذ من مال المشركين بغير قتال، كالجزية، والخراج، والعشر، وما تركوه فزعاً، وخمس خمس الغنيمة، ومال من لا وارث له، قال أحمد: الفيء فيه حق لكل المسلمين، وهو بين الغني والفقير.
وقال عمر (: "ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال حق، إلا العبيد، وقرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} حتى بلغ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ، 1 فقال: هذه استوعبت جميع المسلمين".
وذكر القاضي أن الفيء مختص بأهل الجهاد، ويبدأ بالجند لأنهم أهم فيعطون كفايتهم، وما فضل قدم الأهم فالأهم، من عمارة المساجد والقناطر وإصلاح الطرق، وأرزاق القضاة والأئمة، وكل ما يعود نفعه على المسلمين. ثم يقسم ما فضل على المسلمين، لما ذكرنا من الآية، وقول عمر. وللشافعي قولان كنحو ما ذكرناه. واستدلوا على أن أربعة أخماس الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، لحديث خصومة علي والعباس عند عمر وقوله: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، وكانت له خاصة دون المسلمين".
قال شيخنا: وظاهر أخبار عمر أن الفيء للمسلمين، فإنه لما قرأ الآية في سورة الحشر، قال: "استوعبت جميع المسلمين"، فأما أموال بني النضير، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله، لأنهم من أهم مصالح المسلمين؛ فيبدأ
__________
1 سورة الحشر آية: 7-10.

(1/391)


بهم ثم يجعل باقيه أسوة المال. ويحتمل أنه اختص بها من الفيء، وترك سائره لمن سمى الله في الآية. وهذا مبين في قول عمر: "كانت لرسول الله خاصة دون المسلمين". قال أحمد: لا يخمس الفيء، وهو قول الأكثر، وعنه: بلى، كالغنيمة؛ وهو قول الشافعي، لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية، 1 فظاهره أن جميعه لهؤلاء وهم أهل الخمس، ولحديث البراء وفيه: "وأخمس ماله"، وجاءت الأخبار دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه عن عمر مستدلاً بالآيات التي بعدها؛ فوجب الجمع بينهما، ففي إيجاب الخمس جمع بينهما. فإن خمسه لمن سمي في الآية، وسائره يصرف إلى من في الآيتين، قال ابن المنذر: لا يحفظ عن أحد قبل الشافعي أن في الفيء خمساً، والدليل على هذا قول الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} ، 2 فجعله كله لهم خمساً، ولم يذكر خمساً، قال عمر لما قرأها: "استوعبت جميع المسلمين".
__________
1 سورة الحشر آية: 7.
2 سورة الحشر آية: 7.

(1/392)


باب الأمان
يصح أمان المسلم المكلف، ذكراً كان أو أنثى، وفي أمان الصبي المميز روايتان: يصح من كل مسلم بالغ عاقل، ذكراً كان أو أنثى، حراً أو عبداً، وهو قول الأكثر. 1 روي عن أبي حنيفة: لا يصح أمان العبد، إلا أن يكون مأذوناً له في القتال. ولنا: حديث عليّ، وفيه: "يسعى بذمتهم أدناهم" 2.
ويصح أمان الأسير، إذا عقده غير مكره، وكذلك الأجير والتاجر في دار الحرب. وقال الثوري: لا يصح أمان أحد منهم. ولنا: عموم الحديث.
وأما الصبي المميز، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. والثانية: يصح، وبه قال مالك للعموم.
ولا يصح أمان ذمي، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". 3 ويصح أمان أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير. ولا يصح لأهل بلدة وجمع كثير، لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام. ويصح أمان الأسير بعد الاستيلاء عليه، "لأن عمر أمن الهرمزان وهو أسير". فأما أحد الرعية، فليس له ذلك، وهو مذهب الشافعي. وحكي عن الأوزاعي: أنه يصح، "لأن زينب أجارت أبا العاص وهو أسير، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم". ولنا: أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام، وحديث زينب إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
1 ظاهر النص أنه مكرر، لكن العبارة الأولى متن المقنع، والثانية من الشرح الكبير.
2 البخاري: الفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم: الحج (1370) , والترمذي: الولاء والهبة (2127) , والنسائي: القسامة (4734) , وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/81, 1/119) .
3 البخاري: الفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم: الحج (1370) , والترمذي: الولاء والهبة (2127) , والنسائي: القسامة (4734) , وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/81, 1/119) .

(1/393)


ولنا أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام وحديث زينب إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا شهد للأسير اثنان أو أكثر، أنهم أمنوه، قُبل إذا كانوا بصفة الشهود. وقال الشافعي: لا يقبل، لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم. ولنا: أنهم عدول غير متهمين، كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه. فإن شهد واحد: أني أمنته، فقال القاضي: قياس قول أحمد: أنه يقبل، وهو قول الأوزاعي، ويحتمل أن لا يقبل، وبه قال الشافعي.
وصفة الأمان الذي ورد به الشرع لفظتان: أجرتك، وأمنتك، قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، 1 وقال: "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، 2 وفي معناه: لا تخف، لا بأس عليك. وروي عن عمر أنه قال: "إذا قلتم: لا بأس، أو لا تذهل، أو مترس، فقد أمنتموه؛ فإن الله يعلم الألسنة"، ولا نعلم في هذا كله خلافاً.
فإن قال: قف، أو أقم، أو ألق سلاحك، فقيل: هو له أمان، لأن الكافر يعتقده أماناً. وقال الأوزاعي: إن ادعى الكافر أنه أمان فهو أمان، وإلا فلا يقبل. فإن قال: نويت به الأمان فهو أمان، وإن قال: لم أنوه، وقال الكافر: أعتقد أنا أماناً، رد إلى مأمنه. فإن أشار عليهم بما اعتقدوه أماناً، وقال: أردت به الأمان فهو أمان، وإن قال: لم أرد به الأمان فالقول قوله، لأنه أعلم بنيته. فإن خرجوا من حصنهم بهذه الإشارة، لم يقتلوا، ويردون إلى مأمنهم، لقول عمر: "والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل بأمانه، فقتله، لقتلته به". رواه سعيد
__________
1 سورة التوبة آية: 6.
2 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3021) .

(1/394)


وإن مات المسلم أو غاب، فإنهم يردون إلى مأمنهم، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. ومن جاء بمشرك وادعى أنه أمّنه، فأنكر، فالقول قوله. وعنه: قول الأسير. وعنه: من تدل الحال على صدقه. وإن طلب الأمان ليسمع كلام الله، وجب إجابته، ثم يرد إلى مأمنه، لا نعلم فيه خلافاً، للآية. قال الأوزاعي: هي إلى يوم القيامة. وإذا دخل حربي دار إسلام بغير أمان، فادعى أنه رسول، قُبل منه ولم يجز التعرض له، لقوله: "لولا أن الرسل لا تقتل ... إلخ". وإن ادعى أنه تاجر، وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا، لم يعرض له إذا كان معه ما يبيعه، لأنهم دخلوا يعتقدون الأمان. قال أحمد: إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم تجار مشركون من أرض العدو، يريدون دار الإسلام، لم يعرضوا لهم؛ وكل من دخل بلاد الإسلام من أرض الحرب بتجارة بويع، ولا يسأل عن شيء. وإن كان ممن ضل في الطريق، أو حملته الريح في مركب إلينا، فهو لمن أخذه، في إحدى الروايتين. والأخرى: يكون فيئاً، لأنه أخذ بغير قتال. روي عن أحمد أنه سئل عن: الدابة تخرج من بلد الروم فتدخل القرية؟ وعن القوم يضلون في الطريق فيدخلون القرية؟ قال: تكون لأهل القرية يتقاسمونها. وقال الزهري: غنيمة، وفيها الخمس. ومن دخل دار الحرب رسولاً أو تاجراً، فخيانتهم محرمة عليه، لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بترك خيانتهم، وكذلك من جاءنا منهم بأمان، فمتى خان انتقض عهده.
وإذا أودع المستأمن ماله مسلماً أو أقرضه، ثم عاد إلى دار الحرب، بقي الأمان في ماله، فإذا طلبه صاحبه بعث إليه، وإن مات في دار الحرب انتقل

(1/395)


المال إلى وارثه ولم يبطل الأمان فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي: يبطل، لأنه صار لورثته ولم يعقد فيه أماناً. ولنا: أن الأمان حق لازم متعلق بالمال، وهذا اختيار المزني؛ وإن لم يكن وارثاً صار فيئاً.
وإن أخذ المسلم من الحربي مالاً وديعة أو مضاربة، فدخل بها دار الإسلام، فهو في أمان.
وإن أطلقوا الأسير بشرط أنه يقيم عندهم مدة، لزمه الوفاء، لقوله: "المؤمنون عند شروطهم"، وقال الشافعي: لا يلزمه. وإن أطلقوه وأمنوه صاروا في أمان منه، لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه. وإن لم يشرطوا شيئاً، أو شرطوا كونه رقيقاً، فله أن يقتل ويسرق ويهرب. وإن أحلفوه على ذلك، وكان مكرهاً، لم تنعقد يمينه. وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالاً، وإن عجز عنه عاد إليهم، لزمه الوفاء، إلا أن تكون امرأة. وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضاً، نص عليه. وإن كان مكرهاً، لم يلزمه الرجوع ولا الفداء، لقوله: "عُفي لأمتي ... إلخ". وإن لم يكره وقدر على الفداء، لزمه، وبه قال الحسن وغيره. وقال الشافعي: لا يلزمه، لأنه حر لا يستحقون بدله. ولنا: قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} . 1 ولما صالح أهل الحديبية وفى لهم، وقال: "لا يصلح في ديننا الغدر"، ولأن الوفاء مصلحة للأسارى، وفي الغدر مفسدة في حقهم. فإن عجز أو كانت امرأة، لم ترجع، لقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية. 2 وفي الرجل روايتان: إحداهما: لا يرجع، وبه قال الحسن والنخعي والشافعي، لأن الرجوع إليهم معصية. والثانية: يلزمه، وهو قول الزهري والأوزاعي، لقصة أبي بصير.
وإذا اشترى المسلم أسيراً بإذنه، لزمه أن يؤدي إلى الذي اشتراه ما أداه
__________
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة الممتحنة آية: 10.

(1/396)


فيه، بغير خلاف، وإن كان بغير إذنه، لزمه أيضاً، وبه قال الحسن وغيره. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يلزمه، لأنه تبرع بما لا يلزمه. ولنا: ما روى سعيد أن عمر كتب إلى السائب: "أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه، فهو أحق به من غيره. وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما اقتسم، فلا سبيل إليه. وأيما حر اشتراه التجار، فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم؛ فإن الحرّ لا يباع ولا يشترى"، فحكم للتجار برؤوس أموالهم. ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن، لقوله: "وفكّوا العاني". 1 ويجب فداء أسير أهل الذمة، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث، لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم. وقال القاضي: إنما يجب إذا استعان بهم الإمام في قتالهم فسُبوا، وجب عليه ذلك، وهو المنصوص عن أحمد.
__________
1 البخاري: الأطعمة (5373) , وأبو داود: الجنائز (3105) , وأحمد (4/394, 4/406) , والدارمي: السير (2465) .

(1/397)


باب الهدنة
وهي جائزة، لقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، 1 وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} الآية، 2 و"صالح صلى الله عليه وسلم سهيلاً عشر سنين". وإنما تجوز للنظر للمسلمين، إما لضعفهم عن القتال، أو طمع في إسلامهم أو في أدائهم الجزية، وغير ذلك من المصالح. فإن صالحهم على مال يبذله لهم، فقد أطلق أحمد القول بالمنع، لأن فيه صغاراً، وهو مذهب الشافعي. قال أحمد: وهو محمول على غير حالة الضرورة، لـ"بذْله لعيينة ومن معه ثلث ثمار المدينة". فإن عقدها غير الإمام أو نائبه لم يصح. وإن مات الإمام أو عُزل، لم تنتقض، لقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} . 3 فإن نقضوا بقتال أو مظاهرة أو قتل مسلم أو أخذ مال، انتقض عهدهم وجاز قتالهم، لقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية، 4 وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} الآية. 5 وإن نقضه بعضه دون بعض، فسكت باقيهم عن الناقض فالكل ناقض، لأن قريشاً أعان بعضهم بني بكر على خزاعة وسكت
__________
1 سورة التوبة آية: 1.
2 سورة الأنفال آية: 61.
3 سورة التوبة آية: 4.
4 سورة التوبة آية: 12.
5 سورة التوبة آية: 7.

(1/398)


الباقون فانتقض عهدهم. وإن شرط فيها شرطاً فاسداً، كنقضها متى شاء، أو رد النساء إليهم، أو إدخالهم الحرم، لم يصح الشرط، وفي العقد وجهان. وإن قال: هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان، أو شرط ذلك لنفسه دونهم، لم يصح، لأنه ينافي مقتضى العقد، كما لو شرطه في البيع أو النكاح. وقال القاضي: يصح، وهو قول الشافعي، لقوله لأهل خيبر: "نقرّكم ما أقرّكم الله". 1 ولنا: أنه عقد لازم، فلم يجز اشتراط نقضه. وقصة أهل خيبر لم تكن هدنة، وإنما ساقاهم، وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في الهدنة: أقركم ما أقركم الله، لم يصح، فكيف يجتمعون مع الإجماع على عدم جوازه. كذلك إن شرط إدخالهم الحرم فهو فاسد، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية 2.
وإذا عقد الهدنة من غير شرط، فجاءنا منهم إنسان مسلماً أو بأمان، لم يجب ردّه ولم يجز. ولا يجب رد مهر المرأة. وقال بعض أصحاب الشافعي: إن خرج العبد إلينا قبل إسلامه، ثم أسلم، لم يرد إليهم؛ فإن أسلم قبل خروجه إلينا، لم يصر حراً، لأنه في أمان منا. وقال الشافعي في قوله: إذا جاءت امرأة مسلمة رد مهرها، لقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} الآية. 3 ولنا: أنه من غير دار الإسلام خرج إلينا، فلم يجب رده ولا رد شيء عنه كالحر، كما لو أسلم بعد خروجه. وقوله: إنه في أمان منا، قلنا: إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام الذين هم في قبضة الإمام، كما لو خرج قبل إسلامه، ولهذا "لما قتل أبو بصير الرجل، لم ينكر عليه ولم يضمنه. فلما انفرد هو وأصحابه فقطعوا الطريق عليهم، لم ينكر ذلك عليهم ولم يأمرهم بردّ ما أخذوه.
__________
1 البخاري: الشروط (2730) .
2 سورة التوبة آية: 28.
3 سورة الممتحنة آية: 10.

(1/399)


وأما المرأة فلا يردّ مهرها لأنها لم تأخذ منهم شيئاً"، ولو أخذته كانت قد قاهرتهم عليه في دار القهر، ولو وجب لوجب مهر المثل دون المسمى. وأما الآية، فقال قتادة: نسخ رد المهر، وقال عطاء والزهري: لا يعمل بها اليوم، على أنها في قصة الحديبية حين شرط رد من جاء مسلماً. وكلامنا فيما إذا وقع الصلح من غير شرط. وإذا شرط رد النساء لم يصح أيضاً. وإن شرط رد من جاء مسلماً من الرجال جاز، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز شرط رده، إلا أن يكون له عشيرة تحميه. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يخص ذا العشيرة، ولأنه إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه فهو كمن لا عشيرة له، لكن إنما يجوز هذا الشرط عند شدة الحاجة إليه. وله أن يأمره سراً بالهرب منهم ومقاتلتهم، لقصة أبي بصير، ولقول عمر لأبي جندل: "دم أحدهم دم الكلب".
وإذا طلبت امرأة مسلمة الخروج من عندهم، جاز لكل مسلم إخراجها، لقصة بنت حمزة. وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين دون غيرهم. وإن سباهم كفار آخرون، لم يجز لنا شراؤهم، وعن أبي حنيفة: يجوز. وإن خاف نقض العهد منهم، نبذ إليهم عهدهم، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الآية، 1 أي: تصير أنت وهم سواء في العلم بالنبذ.
ولا يجوز أن يبدأهم بقتال أو غارة قبل إعلامهم، للآية. ومن أتلف منهم شيئاً على مسلم ضمنه، وإن قذفه جُلد، لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين بهم.
__________
1 سورة الأنفال آية: 58.

(1/400)


باب عقد الذمة
لا تجوز إلا من الإمام أو نائبه، لا نعلم فيه خلافاً، والأصل فيه وفي إخراج الجزية: الكتاب والسنة والإجماع، كقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الآية، 1 وقول المغيرة يوم نهاوند: "أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله، أو تؤدوا الجزية". 2 رواه البخاري. وحديث بريدة، مرفوعاً: "ادعُهم إلى إحدى ثلاث خصال". 3 رواه مسلم. وأجمعوا على جواز أخذ الجزية في الجملة. ولا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب؛ فأهل الكتاب: اليهود والنصارى ومن دان بدينهم، كالسامرة يدينون بشريعة موسى وإنما خالفوهم في فروع دينه، وفِرَق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والإفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن انتسب إلى شريعة عيسى، وما عداهم ليس أهل كتاب لقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} الآية 4.
فأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود، فلا تقبل منهم، لأنهم من غير الطائفتين، ولأن هذه الصحف ليس فيها شرائع، إنما هي مواعظ. وأما الذين لهم شبهة كتاب، فهم المجوس، هذا قول الأكثر. وعن أبي ثور: أنهم من أهل الكتاب، وتحل ذبائحهم ونساؤهم، وهو خلاف الإجماع. وما روي عن عليّ: "أن لهم كتاباً ورُفع، وأنّ ملِكهم قال: إن آدم أنكح بنيه بناته، فأنا على دينه"، فقال أبو عبيد: لا أحسبه محفوظاً.
__________
1 سورة التوبة آية: 29.
2 البخاري: الجزية (3160) .
3 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: السير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجة: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352, 5/358) , والدارمي: السير (2442) .
4 سورة الأنعام آية: 156.

(1/401)


إذا ثبت هذا، فإن أخذها من أهل الكتاب والمجوس إذا لم يكونوا من العرب، ثابت بالإجماع؛ فإن الصحابة أجمعوا على ذلك. فإن كانوا من العرب، فحكمهم حكم العجم. وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العرب، لشرفهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولنا: عموم الآية، و"بعْثه خالداً إلى أكيدر دومة، فصالحه على الجزية؛ وهو من العرب. وأخذَها من نصارى نجران؛ وهم من العرب"، ولأنه إجماع، فـ"إن عمر أخذها من بني تغلب"، فلم ينكر وكان إجماعاً. فأما غيرهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام. وعنه: تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، لحديث بريدة، وعن مالك: تقبل من الجميع، إلا مشركي قريش. وعن الأوزاعي: تقبل من جميعهم، لحديث بريدة. ولنا: قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، 1وقوله: "أُمرت أن أقاتل الناس ... " 2 الحديث، وهذا عام خص منه ما ذكرنا.
ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين: أحدهما: التزام إعطاء الجزية في كل حول. الثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق وترك محرم، لقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . 3 والصابيء إذا انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله، وإلا فلا. ولا نعلم خلافاً أنها لا تجب على الصبي والمرأة، ولا زائل العقل.
__________
1 سورة التوبة آية: 5.
2 صحيح البخاري: كتاب الصلاة (393) وكتاب الزكاة (1400) وكتاب الجهاد والسير (2946) وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , وصحيح مسلم: كتاب الإيمان (20, 21) , وسنن الترمذي: كتاب الإيمان (2606, 2607) وكتاب تفسير القرآن (3341) , وسنن النسائي: كتاب الزكاة (2443) وكتاب الجهاد (3090, 3091, 3092, 3093, 3095) وكتاب تحريم الدم (3970, 3971, 3972, 3973, 3974, 3975, 3976, 3977, 3979, 3982) , وسنن أبي داود: كتاب الزكاة (1556) وكتاب الجهاد (2640) وكتاب الجنائز (3194) ، وسنن ابن ماجة: كتاب الفتن (3927, 3928, 3929) , ومسند أحمد (1/11، 1/19 ,1/35, 1/47, 2/314, 2/377, 2/423, 2/439, 2/475, 2/482, 2/502, 2/527, 2/528, 3/295, 3/300, 3/332, 3/339 , 3/394, 4/8) , وسنن الدارمي: كتاب السير (2446) .
3 سورة التوبة آية: 29.

(1/402)


باب أحكام الذمة
تقام عليهم الحدود فيما يعتقدون تحريمه، لحديث: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديين قد فجرا 1" الحديث. ويقرون على ما يعتقدون حله، إلا أنهم يمنعون من إظهاره. ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم، بحذف مقادم رؤوسهم، وترك الفرق.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
يصرف الفيء في المصالح، واختار الشيخ أنه لا حظ للرافضة فيه، وذكره في الهدي. وعن مالك وأحمد: يبدأ بالمهاجرين، ثم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز المفاضلة بينهم لمعنى فيهم، اختاره الشيخ.
ويحرم الأخذ من بيت المال، إلا بإذن الإمام. ولا يجوز الصدقة منه، وكذلك السرقة، ويسلمه للإمام، قال الشيخ: لو أتلفه ضمنه. والرسول والمستأمن لا يقيم سنة فصاعدا إلا بجزية، اختاره الشيخ. قوله: والأسير إذا أطلقه الكفار بشرط أن يقيم عندهم مدة، لزمه، قال الشيخ: لا ينبغي أن يدخل معهم في التزام الإقامة أبداً، لأن الهجرة واجبة عليه؛ ففيه التزام ترك الواجب، اللهم إلا أن يمنعوه من دينه، ففيه التزام ترك المستحب، وفيه نظر.
واختار في الرد على الرافضة أخذ الجزية [من كل فرق الكفار، وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد نزول الجزية] بل كانوا قد أسلموا،
__________
1 زيادة من المخطوطة ساقطة من الطبعة السلفية.

(1/403)


وقال في الاعتصام بالكتاب والسنة: من أخذها من الجميع، أو سوَّى بين المجوس وأهل الكتاب، فقد خالف الكتاب والسنة. وليس للإمام نقض عهدهم وتجديد الجزية عليهم، لأن عقد الذمة مؤبد، وقد عقده عمر معهم. واختار ابن عقيل جواز ذلك لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وقد فعله عمر بن عبد العزيز، واختاره الشيخ. ويكون العقد لازماً على الصحيح، يعني: عقد الهدنة، قال الشيخ: ويكون أيضاً جائزاً، فإن زاد على عشر سنين بطل في الزيادة. وإن هادنهم مطلقاً لم يصح. وقال الشيخ: يصح، وتكون جائزة ويعمل بالمصلحة، لأن الله أمر بنبذ العهود المطلقة وإتمام المؤقتة. وإن قال: هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان، لم يصح، وقيل: يصح. ولو قال: نقرّكم ما أقرّكم الله، لم يصح، وقال الشيخ: يصح. وإن منعناه في قوله: ما شئنا. قوله: ويأمره سراً بقتالهم والفرار منهم، قال في الترغيب وغيره: يعرِّض له أن لا يرجع إليهم. وإن سباهم كفار لم يجز لنا شراؤهم، وذكر الشيخ رواية منصوصة: يجوز شراؤهم من سابيهم. وفي الهدي في غزوة الفتح: أن أهل العهد إذا حاربوا من في ذمة الإمام، صاروا بذلك أهل حرب، فله أن يبيّتهم، وإنما يعلمهم إذا خاف منهم الخيانة، وأنه ينتقض عهد الجميع إذا لم ينكروا عليهم.
ومتى مات الإمام أو عُزل لزم مَن بعده الوفاء بعقده، لأنه لا ينتقض باجتهاد غيره، وجوَّز ابن عقيل وغيره نقض ما عقد الخلفاء الأربعة، نحو صلح تغلب، لاختلاف المصالح باختلاف الأزمنة.
ولا جزية على راهب، وقيل: بلى. ولا يبقي بيده مالاً إلا بُلْغته فقط، ويؤخذ ما بيده، قاله الشيخ. وقال: يؤخذ منهم ما لنا كالرزق الذي للديور والمزارع إجماعاً. [وقال: من له تجارة أو زراعة وهو مخالط لهم أو معاونهم

(1/404)


على دينهم، كمن يدعو إليه من راهب وغيره، فإنها تلزمه إجماعا] ، 1 وحكمه حكمهم بلا نزاع. ولا يُبدؤون بالسلام، وفيه احتمال: يجوز للحاجة، ومثله: كيف أصبحت؟ كيف حالك؟ وجوّزه الشيخ. وإذا سلّموا، ردّ عليهم، قال الشيخ: ترد تحيتهم، فقال: يجوز أن يقول له: أهلاً وسهلاً. وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان: إحداهما: أنه يجوز لمصلحة راجحة، كرجاء إسلامه، اختاره الشيخ.
وكره أحمد الدعاء بالبقاء لأحد، اختاره الشيخ. قوله: ويُمنعون من إحداث الكنائس والبِيع، قال الشيخ: إجماعاً. وقال الشيخ: يُمنعون من إظهار الأكل والشرب في رمضان، قال: ولو أبى من الصغار انتقض عهده. وقال في نصراني لعن مسلماً: تجب عقوبته بما يردعه وأمثاله عن ذلك.
وقال: قال أحمد فيمن زنى بمسلمة: يُقتل، قيل له: فإن أسلم؟ قال: وإن أسلم. هذا قد وجب عليه. قال الشيخ: من قهر قوماً من المسلمين، ونقلهم إلى دار الحرب، ظاهر المذهب: أنه يُقتل ولو بعد إسلامه، وأنه أشبه بالكتاب والسنة، كالمحارب. والله أعلم.
__________
1 من النسخة الخطية.

(1/405)