مختصر
الإنصاف والشرح الكبير كتاب الوصايا
الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع، لقوله تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية، 1
وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
. 2 وأما السنة: فحديث سعد وابن عمر وغيرهما. وأجمعوا على
جوازها. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنها غير واجبة إلا
على من عليه حق بغير بيّنة، أو أمانة بغير إشهاد، إلا
طائفة شذت فأوجبتها؛ روي عن الزهري وأبي مجلز، وهو قول
داود. ولنا: أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يوصوا، ولم ينقل لذلك نكير. وأما الآية فقال ابن عباس
وابن عمر: "نسختها آية الميراث"، وحديث ابن عمر محمول على
من عليه واجب.
وتصح من السفيه المحجور عليه، ومن الصبي إذا جاوز العشر لا
من دون سبع، وفي ما بينهما روايتان. وعن ابن عباس: "لا تصح
حتى يبلغ"، وللشافعي قولان. ولنا: ما روي: "أن صبياً من
غسان له عشر سنين أوصى إلى إخوانه، فرفع إلى عمر فأجازه،
رواه في الموطإ، وفيه: "أن الوصية بيعت بثلاثين ألفاً"؛
وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر.
ومن له فوق السبع فيه روايتان: إحداهما: تصح، قال شريح
وعبد الله بن عتبة: من أصاب الحق أجزنا وصيته، وأما الطفل
والمجنون فلا تجوز
__________
1 سورة البقرة آية: 180.
2 سورة النساء آية: 11.
(1/628)
في قول الأكثر، ولا نعلم أحداً خالفهم، إلا
إياس بن معاوية، فإنه قال في الصبي والمجنون: إذا وافقت
وصيتهما الحق جازت.
وتصح وصية الأخرس بالإشارة، لا من اعتقل لسانه، ويحتمل
الصحة؛ وهو قول الشافعي وابن المنذر، واحتج بـ"صلاته صلى
الله عليه وسلم وهو قاعد، فأشار إليهم: أن اجلسوا".
وإن وجدت وصية مكتوبة بخطه صحت، وعنه: لا تصح حتى يُشهد.
ووجه الأولى: حديث ابن عمر. وإن كتب وصيته وقال: اشهدوا
على ما في هذه الورقة لم يجز، ويحتمل أن يجوز، وهو قول
مالك والليث والأوزاعي وأبي عبيد، واحتج بـ"كتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى عماله والخلفاء من كتبهم إلى
ولاتهم بالأحكام التي فيها الدماء والفروج، مختومة لا يعلم
حاملها ما فيها". وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن
عبد العزيز وقال: ولا نعلم أحداً أنكر ذلك مع شهرته، فيكون
إجماعاً. وعن أنس: "كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: هذا ما
أوصى به فلان بن فلان: أنه يشهد أن لا إله إلا الله [وحده
لا شريك له] 1 وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا
ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصى من ترك من
أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله
ورسوله إن كانوا مؤمنين. وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه
ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
2". أخرجه سعيد عن فضيل عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن
أنس.
والوصية مستحبة لمن ترك خيراً، للآية؛ فنسخ الوجوب وبقي
الاستحباب
__________
1 من المخطوطة.
2 سورة البقرة آية: 132.
(1/629)
في حق من لا يرث، فإن كان له ورثة محتاجون
وهو فقير، فلا يستحبّ، لحديث سعد.
واختلف في قدر الخير، فقال ابن عباس: "من ترك سبعمائة
درهم، ليس عليه وصية". وعن علي: "أربعمائة دينار". وقال
طاووس: الخير ثمانون. قال شيخنا: والذي يقوى عندي: أنه متى
كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب، لتعليله صلى
الله عليه وسلم بقوله: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك
... إلخ"؛ 1 فيختلف باختلاف كثرة الورثة وقلّتهم وغنائهم
وحاجتهم. والأوْلى: أن لا يستوعب الثلث وإن كان غنياً،
لحديث سعد. وعن إبراهيم كانوا يقولون: صاحب الربع أفضل من
صاحب الثلث، وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع. "وأوصى أبو
بكر الصديق بالخمس وقال: رضيت ما رضي الله به لنفسه"، يريد
قوله: {فأن لله خمسه} 2.
والأفضل أن يجعلها لأقاربه الذين لا يرثون إن كانوا فقراء،
قال ابن عبد البر: لا خلاف فيه إذا كانوا ذوي حاجة، لأن
الله كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج الوارث وبقي
سائرهم على الوصية. فإن أوصى لغيرهم وتركهم صحت في قول
الأكثر. وعن طاووس: يردّ إلى قرابته. وعن ابن المسيب
والحسن: للذي أوصي له [ثلث] 3 الثلث، والباقي يردّ إلى
قرابته. ولنا: حديث عمران في ستة الأعبد، فأما من لا وارث
له فتجوز بجميع ماله، وعنه: ليس له إلا الثلث. ووجه
الأولى: حديث سعد، وهنا لا وارث له، وهو مروي عن ابن مسعود
وعبيدة ومسروق. فأما ذوو الأرحام فظاهر كلام الخرقي أنه لا
يمنع الوصية بجميع المال، ويحتمل كلام شيخنا أنه لا ينفذ
__________
1 البخاري: الجنائز (1296) , ومسلم: الوصية (1628) ,
والترمذي: الوصايا (2116) , والنسائي: الوصايا (3626,
3628) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/176, 1/179)
, ومالك: الأقضية (1495) , والدارمي: الوصايا (3196) .
2 سورة الأنفال آية: 41.
3 زيادة المخطوطة، وهو الموافق لعبارة الأصل.
(1/630)
إلا الثلث، لدخولهم في قوله: "إنك أن تذر
ورثتك ... إلخ" 1.
والوصية لغير وارث تلزم في الثلث من غير إجازة الورثة، وما
زاد يقف على إجازة الورثة. قال ابن المنذر أجمعوا على أنها
تبطل فيما زاد على الثلث، بردّ الورثة وبردّهم في الوصية
للوارث، وإن أجازوا جازت في قول الأكثر. وقال المزني
والظاهرية: الوصية لبعضهم باطلة، وإن أجاز الورثة، ولا
نعلم خلافاً في أن اعتبارها بالموت. فلو وصى لثلاثة إخوة
له مفترقين، ولا ولد له، ومات ولم يولد له، لم تصح لغير
الأخ من الأب، وإن ولد له صحت للجميع. ولا تصح إجازتهم
وردّهم إلا بعد موت الموصي، وما قبله لا عبرة به، نص عليه؛
وهو قول الشافعي. وقال الحسن والأوزاعي: يجوز كما لو رضي
المشتري بالعيب. وقال مالك: إن أذنوا له في صحته، فلهم
الرجوع. وإن كان في مرضه حين يحجب عن ماله، فذلك جائز
عليهم. وإن مات الموصى له قبل موت الموصي، بطل في قول أكثر
أهل العلم.
واتفق أهل العلم على أن له أن يرجع في كل ما أوصى به وفي
بعضه، إلا العتق؛ فالأكثر على جواز الرجوع. قال ابن
المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أنه إذا أوصى لرجل بطعام
فأكله، أو بشيء فأتلفه أو وهبه، أو بجارية فأحبلها، أنه
رجوع. وتخرج الواجبات من رأس المال، أوصى بها أو لا، لقوله
سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
2.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
عن الشيخ: أن إجازة الورثة تثبت قبل موت الموصي. وأن
المجيز لو قال: ظننت باقي المال كثيراً قبل قوله، أو ظننت
قيمته ألفاً فبان أكثر، وأن الموصى بوقفه إذا نما بعد
الموت وقبل إيقافه، صرف النماء مصرف الوقف إلى آخره.
__________
1 البخاري: الجنائز (1296) , ومسلم: الوصية (1628) ,
والترمذي: الوصايا (2116) , والنسائي: الوصايا (3626,
3628) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/176, 1/179)
, ومالك: الأقضية (1495) , والدارمي: الوصايا (3196) .
2 سورة النساء آية: 11.
(1/631)
باب الموصى له
تصح لمسلم وذمي وحربي، لا نعلم فيه خلافاً، قال ابن
الحنفية في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} : 1 هو وصية المسلم لليهودي
والنصراني. وقال أبو حنيفة: لا تصح للحربي إذا كان في دار
الحرب، لقوله: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. 2 ولنا: أنها
حجة في من لم يقاتل، وأما المقاتل فنهى عن توليه لا عن
بره، وحديث عمر في الحلة التي كساها مشركاً بمكة.
ولا نعلم خلافاً في صحة الوصية للحمل. وإن وصى في أبواب
البر صرف في القرب كلها. وإن أوصى لجيرانه تناول أربعين
داراً من كل جانب، نص عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: الجار الملاصق، لقوله: "الجار أحق بصقبه". 3 وقال
قتادة: الجار الدار والداران. ولنا: حديث أبي هريرة،
مرفوعاً: "الجار أربعون داراً، هكذا وهكذا وهكذا وهكذا ".
وهذا نص إن صح، وإن لم يثبت فالجار يرجع إلى العرف. وقال
أبو بكر: مستدار أربعين داراً، يعني: من كل جانب، والحديث
يحتمله.
__________
1 سورة الأحزاب آية: 6.
2 سورة آية: 9.
3 البخاري: الحيل (6977) , والنسائي: البيوع (4702) , وأبو
داود: البيوع (3516) , وابن ماجة: الأحكام (2495) , وأحمد
(6/390) .
(1/632)
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
أفتى الشيخ بدخول المعدوم في الوصية تبعاً، كمن وصى بغلّة
ثمرة للفقراء إلى أن يحدث لولده ولد. واشترط أيضاً في صحة
الوصية: كونها على قربة. قوله: وإن وصى لصنف من أصناف
الزكاة أو لجميع الأصناف صح.
قال في الفائق: الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن
السبيل: مصارف الزكاة، فيعطى في فداء الأسرى لمن يفديه،
قال الشيخ: أو يوفى ما استدان فيهم.
(1/633)
باب الموصى به
تصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه، لأنها إذا صحت
بالمعدوم كالحمل فهذا أولى.
وتصح بالمعدوم كما لو قال: بما تحمل هذه الجارية، فإن وصى
بمائة لا يملكها صح، فإن قدر عليها عند الموت وإلا بطلت.
وتصح بالمجهول كعبد وشاة، وإن وصى له بطبل حرب صحت الوصية
لأن فيه منفعة مباحة، وإن كان بطبل لهْو لم تصح. وإن أوصى
بثلثه فاستحدث مالاً دخل ثلثه في الوصية، في قول أكثر أهل
العلم.
وتصح بالمنفعة المفردة وبغلّة دار وثمرة بستان، فإن أراد
الموصى له بمنفعة الدار إجارتها في تلك المدة فله ذلك.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وقال ابن المنذر: أجمع من أحفظ
عنه: على أن الرجل إذا أوصي له بشيء فهلك الشيء، ألاّ شيء
له في مال الميت.
والاعتبار في قيمة الوصية وخروجها من الثلث أو عدم خروجها
بحالة الموت، وهذا قول الشافعي، لا نعلم فيه خلافاً.
(1/634)
باب الموصى إليه
تصح وصية المسلم إلى كل مسلم عاقل عدل، وإن كان عبداً أو
مراهقاً أو امرأة. وقال الأوزاعي: تصح إلى عبده لا عبد
غيره. وقال الشافعي: لا تجوز إلى العبد بحال.
ويحتمل أن لا تصح إلى الصبي، وهو مذهب الشافعي. ولم يجز
عطاء الوصية إلى المرأة. ولنا: "أن عمر أوصى إلى حفصة".
ولا تصح وصية المسلم إلى كافر، بغير خلاف، وأما الفاسق،
فعنه: لا تصح؛ وهو قول مالك والشافعي. وعنه: تصح، وهو مذهب
أبي حنيفة. وإذا أوصى إلى رجل، وبعده إلى آخر، فهما وصيان؛
وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، إلا أن يجعل ذلك إليه.
وإذا قال: إلى زيد، فإن مات فإلى عمرو، صح لحديث زيد وجعفر
وعبد الله. وله عزل نفسه متى شاء، وبه قال الشافعي، وعنه:
لا يجوز بعد موت الموصى. وليس له أن يوصي إلا أن يجعل ذلك
إليه، وعنه: له ذلك. وأما من لا ولاية له عليهم، كالإخوة
والأعمام وسائر من عدا الأولاد، فلا تصح الوصية عليهم، لا
نعلم فيه خلافاً، إلا أن أبا حنيفة والشافعي قالا: للجد
ولاية على ابن ابنه وإن سفل. ولأصحاب الشافعي في الأم عند
عدم الأب والجد وجهان.
ولا بأس بالدخول في الوصية، فـ"إن الصحابة يوصي بعضهم إلى
بعض فيقبلون". وإن مات رجل لا وصي له ولا حاكم فى بلده،
فظاهر كلام أحمد: أنه يجوز لرجل من المسلمين أن يتولى
أمره، ويبيع ما دعت الحاجة إلى بيعه.
(1/635)
وإذا علم الموصى إليه أن على الميت ديناً،
فقال أحمد: لا يقضيه إلا ببيّنة. قيل له: فإن كان ابن
الميت فصدّقه؟ قال: يكون في حصة من أقر بقدر حصته. ونقل
أبو داود في رجل أوصى أن لفلان عليَّ كذا: ينبغي للوصي أن
ينفذه، ولا يحل له إلا أن ينفذه؛ فهذه محمولة على أن
الورثة يصدقون، والأولى إذا لم يصدقوا، جمعاً بين
الروايتين. فقيل له: فإن علم الموصى إليه أن لرجل حقاً على
الميت فجاء الغريم يطالب الوصي، وقدمه إلى القاضي ليستحلفه
أن ما لي في يديك حق؟ قال: لا يحلف، ويعلم القاضي، فإن
أعطاه القاضي فهو أعلم. فإن ادعى رجل ديْنا على الميت
وأقام بيّنة، فهل يجوز للوصي قضاء الدين من غير حضور حاكم؟
فكلام أحمد يدل على روايتين. وقال أحمد: إذا كان في يده
مال للمساكين وأبواب البر وهو محتاج، فلا يأكل منه شيئاً؛
إنما أمر بتنفيذه، وبه قال مالك والشافعي.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
لا نظر لحاكم مع وصي خاص إذا كان كفؤاً. قال الشيخ فيمن
أوصى إليه بإخراج حجة: إن ولاية إخراجها والتعيين للناظر،
إجماعاً؛ وإنما للولي العام الاعتراض لعدم أهليته أو فعله
محرماً. قوله: وإن دعت الحاجة إلى بيع بعض العقار لقضاء
دين الميت أو حاجة الصغار وفي بيع [بعضه] 1 نقص، فله البيع
على الصغار والكبار إذا امتنعوا أو غابوا. قال في الفائق:
والمنصوص: الإجبار على بيع غير قابل للقسمة إذا حصل ببيع
بعضه نقص، ولو كان الكل كبارا وامتنع البعض، نص عليه،
واختاره شيخنا، لتعلق الحق بنصف القيمة للشريك، لا بقيمة
النصف.
__________
1 لفظ المطبوعة: (بعض حقه) .
(1/636)
|