مختصر الإنصاف والشرح الكبير

كتاب الشهادات
الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} الآية، 1وغيرها، وقوله: "شاهداك أو يمينه" 2.
تحمُّل الشهادة وأداؤها فرض كفاية، وهل يأثم بالامتناع إذا دعي مع وجود غيره؟ قيل: يأثم، لقوله: {وَلا يَأْبَ {الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، 3 وقيل: لا.
ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة، وكذا من لم تتعين عليه، في الأصح. ومن عنده شهادة في حد، أبيح إقامتها ولم يستحب. وللحاكم أن يعرض له بالوقوف عنها، لقصة عمر. ومن كانت عنده شهادة لإنسان، لم يقمها قبل سؤاله. فإن لم يعلم، استحب إعلامه، وله إقامتها قبل ذلك.
وتجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقيناً، وقد يحصل بالسماع؛ ولهذا قبلت رواية الأعمى، ورواية من روى عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن. فإن لم يعرف المشهود عليه وعرفه إياه من يعرفه، فعنه: لا يشهد، وحمل على الاستحباب، لتجويزه الشهادة بالاستفاضة. وقال: لا تشهد على امرأة إلا بإذن زوجها، وهذا يحتمل ألا يدخل عليها بيتها إلا بإذنه لِـ"نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستأذن على النساء إلا بإذن أزواجهن". رواه أحمد.
__________
1 سورة البقرة آية: 282.
2 البخاري: الرهن (2516) , ومسلم: الإيمان (138) , والترمذي: البيوع (1269) وتفسير القرآن (2996) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجة: الأحكام (2323) , وأحمد (1/377, 1/379, 1/416, 1/426, 1/442, 1/460) .
3 سورة البقرة آية: 282.

(1/766)


وإذا عرف خطه ولم يذكرها، فهل يجوز له أن يشهد؟ على روايتين.
وأجمعوا على صحة الشهادة بالاستفاضة على النسب، واختلفوا فيما سواه، فقال أصحابنا: تجوز في تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل. وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت. ولنا: أن هذه تتعذر الشهادة عليها غالباً لمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها، فجازت كالنسب. قال مالك: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع.
وقال: السماع في الأجناس والولاء جائز. قيل لأحمد: أتشهد أن فلانة امرأة فلان، ولم يُشهد؟ قال: نعم، إذا كان مستفيضاً. فأشهد أن فاطمة بنت رسول الله، وأن خديجة وعائشة زوجتاه، وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة.
ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم، وقيل: تسمع من عدلين، وهو قول المتأخرين من الشافعية. وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه، فشهد شاهدان أنه وارثه، لا يعلمان له وارثاً غيره، سلّم المال إليه ولو لم يكونا من أهل الخبرة. فإن قالا: لا نعلم له غيره في هذه البلد، احتمل أن يسلّم المال إليه، واحتمل ألا يسلّم. فالأول قول أبي حنيفة، والاحتمال الثاني قول مالك والشافعي.
وتجوز شهادة المستخفي، وهو قول الشافعي، وعنه: لا. وقال مالك: إن كان المشهود عليه ضعيفاً يخدع لم يقبل عليه، وإلا قبلت. ومن سمع من يقر بحق، أو سمع حاكماً يحكم، أو يشهد على حكمه، جاز

(1/767)


أن يشهد، وعنه: لا حتى يشهده. وعنه: إن سمعه يقر بقرض لا يشهد، وإن سمعه يقر بديْن شهد، لأن المقترض يجوز أن يكون أوفاه.
وحق الآدمي المعيّن لا تسمع الشهادة به إلا بعد الدعوى، والذي على غير معيّن كالوقف أو حق خالص لله كالحدود الخالصة والزكاة أو الكفارة، فلا يفتقر إلى تقدم الدعوى، كما "شهد أبو بكرة وأصحابه وأبو هريرة على قدامة".

(1/768)


باب شروط من تقبل شهاداته
...
باب شروط من تقبل شهادته
وهي ستة:
أحدها: (البلوغ) : فلا تقبل شهادة الصبيان، وعنه: تقبل ممن هو في حال العدالة، وعنه: لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق. قال إبراهيم: كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض.
الثاني: (العقل) .
الثالث: (الكلام) :فلا شهادة لأخرس، قيل لأحمد: فإن كتبها؟ قال: لا أدري. وقال مالك والشافعي: تقبل إذا فهمت إشارته.
الرابع: (الإسلام) : إلا في الوصية في السفر، وقيل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، ثم اختلف من قاله؛ فمنهم من قال: الكفر ملّة واحدة، فتقبل شهادة اليهودي على النصراني وعكسه، قاله الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وعن إسحاق وأبي عبيد: لا تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض.
الخامس: (الحفظ) : فلا شهادة لمغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان.
السادس: (العدالة) : وهي استواء أحواله في دينه، وقيل: من لم تظهر منه ريبة. وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه: قبول شهادة أهل الأهواء، ويتخرج قبول شهادة أهل الذمة على شهادة أهل الأهواء إذا لم يتدين بالشهادة الموافقة على مخالفيه، كالخطابية.
وكل لعب فيه قمار فهو محرم، وهو من الميسر، وأما الذي لا عوض فيه، فمنه محرم كاللعب بالنرد، والشطرنج كالنرد في التحريم. فأما اللعب بالحراب كما فعل الحبشة وما في معناه إذا لم يتضمن ضرراً ولا شغلا عن فرض، فالأصل إباحته.
والملاهي ثلاثة:

(1/769)


محرم، وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير والعود والطنبور والمعرقة والرباب ونحوها.
ومباح، وهو الدف. فأما الضرب بالقضيب، فيكره إذا انضم إليه مكروه أو محرم، كالتصفيق والغناء والرقص.
واختلف أصحابنا في حكم الغناء، فقال بعضهم: مباح إذا لم يكن معه منكر، لحديث الجاريتين. وقال الشافعي: مكروه غير محرم. وذهب آخرون إلى تحريمه، واحتجوا بقول ابن الحنفية في قوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ?} ، 1 قال: الغناء. ويقول ابن مسعود وابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} : 2 "إنه الغناء".
والحداء الذي تساق به الإبل مباح، وكذلك سائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء. والشعر كالكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، وليس في إباحته الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء.
ولا يعتبر في التوبة إصلاح العمل، وعنه: يعتبر إصلاح العمل سنة.
وشهادة ولد الزنى جائزة في قول الأكثر، وكذا شهادة الإنسان على فعل نفسه، كالمرضعة والقاسم والحاكم. وكذا شهادة البدوي على القروي.
ويمنع قبول شهادة القرابة، فلا تقبل شهادة والد لولده وعكسه، ولو ولد بنات، وعنه: تقبل شهادة الابن لأبيه لا عكسه، وعنه: تقبل شهادة كل منهما فيما لا تهمة فيه، كالنكاح والقصاص والمال إذا كان مستغنياً عنه، وبه قال إسحاق وابن المنذر، لعموم الآيات. وتقبل شهادة بعضهم على بعض في الأصح.
ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه، وبه قال مال، وعنه: تقبل؛ وبه
__________
1 سورة الحج آية: 30.
2 سورة لقمان آية: 6.

(1/770)


قال الشافعي. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وقال مالك: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف، ولا تقبل ممن يجر بها إلى نفسه نفعاً، كالوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال، ولا شهادة الشفيع ببيع ما له فيه شفعة، ولا شهادة الغرماء بديْن المفلس، ولا شهادة الموصى له للميت، ولا الوكيل لموكله بما هو موكل فيه، ولا الشريك لشريكه، لا نعلم فيه خلافاً أي: الشريك، ولا شهادة الوصي للموصى إليهم إذا كانوا في حجره، في قول الأكثر، وأجازها شريح وأبو ثور، إذا كان الخصم غيره.
ولا تقبل شهادة من يدفع بها عن نفسه ضرراً، قال الزهري: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم، ولا ظنين وهو: المتهم. ولا تقبل شهادته على عدوه، في قول أكثر أهل العلم، لحديث: "ولا ذي غمر على أخيه". 1 وإن شهد الفاسق فردّت، ثم تاب فأعادها، لم تقبل للتهمة، وبه قال الشافعي، وقال المزني وأبو ثور: لا يشترط في التحمل العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام. و"كان ناس يروون عنه صلى الله عليه وسلم بعد أن كبروا، مثل الحسنين 2 وابن الزبير"، وعن مالك: ترد فيمن أسلم وبلغ.
والمشهود به خمسة أقسام:
(أحدها) : الزنى، فلا يقبل فيه إلا أربعة، وأجمعوا على اشتراط عدالتهم باطناً وظاهراً، والأكثر على اشتراط كونهم رجالاً أحراراً. وهل يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين أو أربعة؟ على روايتين.
(الثاني) : القصاص وسائر الحدود، فلا يقبل إلا رجلان حرّان، إلا ما روي عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه رجل وامرأتان. ولا تقبل الشهادة على القتل إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشهادة نحو: ضربه فقتله.
__________
1 أبو داود: الأقضية (3600) , وأحمد (2/204, 2/208) .
2 في الأصل: (كالحسن والحسين) وتناهما تغليباً.

(1/771)


(الثالث) : ما ليس بمال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً، كالنكاح والطلاق والوكالة في غير المال والوصية وما أشبه ذلك، فلا يقبل فيه إلا رجلان. وعنه في النكاح والرجعة والعتق: يقبل رجل وامرأتان. وعنه في العتق: شاهد ويمين المدعي. وعنه في الإعسار: لا يثبت إلا بثلاثة، لحديث قبيصة. وقال القاضي: حديثه في حل المسألة، لا في الإعسار.
(الرابع) : المال وما يقصد به المال، كالبيع والقرض والرهن وجناية الخطإ، يقبل شاهد ويمين.
(الخامس) : ما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة ونحوه، فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة، وعنه: لا يقبل أقل من امرأتين.
ولا نعلم خلافاً في قبول النساء المنفردات في الجملة.
والشهادة على الشهادة جائزة إجماعاً، في المال وما يقصد به المال. وقال مالك: يقبل في الحدود وفي كل حق. وشروطها تعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة القصر. وعنه: لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل، ولا يجوز له أن يشهد حتى يسترعيه. وثبتت شهادة شاهدي الأصل بشاهدين يشهدان عليهما. وقال ابن بطة: لا بد من أربعة، على كل واحد اثنان. قال أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على هذا، شريح فمن دونه، إلا أن أبا حنيفة أنكره.
ومتى رجع شهود المال بعد الحكم، لزمهم الضمان، ولم ينقض الحكم. وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة. وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى. وإذا عين العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص، قبلت منه ما لم يحكم بشهادته.

(1/772)


والحقوق على ضربين:
أحدهما: 1 ما هو حق الآدمي وهو على ضربين:
أحدهما: مال أو مقصود به المال، كالبيع والقرض والصلح.
الثاني: ما ليس بمال ولا مقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين، كالقصاص، ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف المدعى عليه. قال أحمد: لم أسمع من مضي جوّز الأيمان، إلا في الأموال خاصة. والثانية: يستحلف في الطلاق والقصاص. وقال الشافعي: يستحلف في كل حق لآدمي.
وحقوق الله لا يستحلف فيها، بلا خلاف في الحدود، وأما الزكاة، فإذا ادعى الساعي أن الحول تم أو النصاب، فقال أحمد: لا يستحلف الناس على صدقاتهم. وقال الشافعي: يستحلف. ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه في الإثبات، حلف على البت وعلى نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم. وقال الشافعي والنخعي كلها على نفي العلم. ومن توجهت عليه يمين لجماعة فقال: أحلف يميناً واحدة، فرضوا جاز، وإلا حلف لكل واحد يميناً. ولا تدخل اليمين النيابة، فلا يحلف الولي عن الصغير والمجنون.
__________
1 لم يذكر الثاني، ولعله من قوله: وحقوق الله "الطبعة السلفية".

(1/773)