مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه

المقدمة          
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمّد المصطفى الأمين.
أما بعد:
فقد شاء الله عز وجل أن يدون عن الإمام أحمد كثير من المسائل عن طريق جم غفير من تلاميذه، مع كراهته لكتابة المسائل عنه وعن غيره وما ذلك إلا دليل صدقه وورعه فدوَّن كثير من أصحابه عنه مسائل جاءت متفاوتة فيما بينها في القلة والكثرة، والترتيب والتبويب، وحسن الإيراد والمناقشة.
ومن بين هذه المسائل "مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (ت251?) " وهي وإن كانت في أصلها أسئلة موجهة للإمام أحمد رحمه الله إلا أن ابن منصور وجه الأسئلة ذاتها ـ غالباً ـ إلى الإمام إسحاق بن راهويه، وقدّم لكثير منها بقول سفيان الثّوري في المسألة، فحفظ لنا بذلك مسائل جمة عن هؤلاء الأئمة أضافت إلى مكتبة الفقه الإسلامي ثروة فقهية تهم المسلمين في جميع شؤونهم.
وتعد مسائل ابن منصور هذه ومثيلاتها من المسائل الأخرى المروية عن الإمام أحمد من خير ما يبرز بوضوح معالم فقه أهل السنة والجماعة المبني على الدليل واقتفاء الأثر ومنابذة التقليد واجتناب الشذوذ كيف لا وهو -أي الإمام أحمد- القائل: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلاّ بأثر

(1/7)


فافعل". والقائل: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام". والقائل: "إنّما العلم ما جاء من فوق".
وقد امتازت مسائل ابن منصور من بين سائر المسائل بميزات أهمها:
1- مكانة مؤلِّف هذه المسائل علماً وثقة.
فقد قال فيه الحاكم: "اعتمداه في الصحيحين أي اعتماد". وقال: "وهو صاحب المسائل عن أحمد بن حنبل الذي يستهزئ به المبتدعة والمتجرئون".
2- كَثْرة المسائل التي نقلها ابن منصور عن الإمامين أحمد وإسحاق، وتطرقه إلى جزئيات كثيرة لم يتطرق إليها غيره، حيث تعد مسائله في حجمها وعددها في المرتبة الأولى إذ بلغت عدتها ثلاثة آلاف وستمائة مسألة تقريباً، ولا يضاهيها في هذا إلاّ ما ذكر عن مسائل حرب من أنّ عدتها بلغت ما يقارب أربعة آلاف مسألة، حسب المعلومات التي وصلت إلينا كما في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى1/145.
3- كَتَبَ ابن منصور هذه المسائل عن الإمام أحمد، ثم عرضها عليه مرة ثانية، فأقرها له، وأُعجب بذلك منه في قصة مشهورة، كما عرض عبد الله بن الإمام أحمد بعض هذه المسائل على أبيه، مما أضاف إليها مزيداً من التوثيق والتنقيح.
4- اهتمام العلماء بهذا الكتاب في وقت مبكر واعتمادهم عليه في نقل

(1/8)


آراء الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه.
ومِمَن اعتمد على هذا الكتاب الإمام الترمذي في جامعه عند ذكر آراء الفقهاء، والإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه اختلاف الفقهاء، واعتمد عليه ابن المنذر في الأوسط والإشراف، وابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد، وغيرهم من أهل العلم الذين عُنُوا بذكر مذاهب العلماء.
5- توافر على هذه المسائل ثلاثة أئمة من كبار علماء الإسلام في وقتهم: إسحاق بن منصور بحسن سؤاله وإيراده، والإمام أحمد وإسحاق بأجوبتهما التي جاءت بلغة العلماء الراسخين في العلم.
وبالجملة، فهذا الكتاب "مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية إسحاق بن منصور الكوسج" هو من أهم الكتب المعتمدة في نقل مذهب الإمامين أحمد وإسحاق بن راهويه، اطّلع عليه الإمام أحمد في عهده وأعجب به، واهتم به أصحابه من بعده، كما عُنِيَ به أهل العلم في نقل مذاهب الفقهاء، فحري بهذا الكتاب أن ينشر ويتبوأ مكانته في صدارة الكتب العلمية المطبوعة.
ولذلك لما خاطبت عمادة البحث العلمي الكلّيّات كيما ترشح الأقسام العلمية فيها ما ترى له الأولية في النّشر من الأعمال العلمية في تخصّصاتها وجاء ترشيح قسم الفقه في كلّيّة الشّريعة لكتاب: (مسائل ابن منصور) .

(1/9)


بادرت العمادة لتشكيل اللّجان المناسبة لفحص الكتاب والتّأكّد من صلاحيته وجاهزيته للنّشر، واقتضى هذا عملاً دؤوباً وجهوداً متواصلة، نظراً إلى حجم الكتاب من جهةٍ، وإلى وجود بعض الأبواب فيه بقيت دون تحقيق من جهةٍ أخرى، ومن جهةٍ ثالثةٍ لاختلاف مناهج التّحقيق لأجزائه المختلفة.
ويمكن تلخيص خطوات العمل التي تمت في هذا المشروع في النقاط التالية:
أولاً: استكمال تحقيق الأبواب التي لم تحقّق بعد، وقد انتدب لهذه المهمّة بعض أعضاء هيئة التّدريس، وبهذا يكون قد شارك في تحقيق هذا الكتاب عشرة من الباحثين من خلال عشرة أعمال علمية، منها خمس رسائل جامعية أربع منها من درجة العالمية "الماجستير"، وواحدة من درجة العالمية العالية "الدكتوراه"، والأعمال الخمسة الأخرى عبارة عن أبحاث علمية محكَّمة، مع العلم أن الرسائل الخمس قد أعيد تحكيمها من جديد، فكان لا بد والحالة هذه من التنسيق بين أعمال الباحثين ليأخذ الكتاب طبيعة العمل الموحد ما أمكن، فكوّن مجلس العمادة لهذا الغرض لجنتين علميتين: أساسية تتألف من ستة أعضاء من هيئة التدريس من مختلف التّخصّصات، ومساندة تتألف من عضوين آخرين من أعضاء هيئة التدريس.
ثانياً: قامت اللّجان المكلّفة بفحص الكتاب وتنسيقه وَفق الخطوات

(1/10)


الآتية:
1- التدقيق في سلامة النص المحقق وصحته، فقد أعيدت مقابلته على الأصول الخطية أكثر من مرّة.
2- نظراً لاختلاف المحقِّقين في الإشارة إلى أوائل اللوحات وفي موضع هذه الإشارة من النسختين المعتمدتين في التحقيق، بل إن بعضهم لم يشر إلى ذلك أصلاً، لذلك فقد جرى توحيد وتعميم الإشارة بذكر رمز النسخة، فرقم اللوحة، فرمز الوجه، وذلك داخل النص بين معقوفَين.
3- حذف دراسة بعض المسائل التي أثبتها بعض الباحثين في أوائل رسائلهم، إذ إنّها وضعت لإفادة الباحث، والكشف عن ملكته الفقهية لا غير.
4- حذف العناوين الجانبية التي وضعها بعض الباحثين لمسائل الكتاب، لما في إثباتها من إثقال النص، وتحميله ما لا يحتمل.
5- حذف تراجم المشهورين، والمكرّر من التّراجم وكذا المكرّر من التعريفات اللغوية والأماكن.
6- حذف بعض التعليقات التي يمكن الاستغناء عنها، كإثبات بعض المحققين رأيه الشخصي في بعض المسائل، أو ذكره لآراء بقية المذاهب الأربعة أو نقله بعض النصوص المطولة من كتب الفقه أو نحو ذلك مما لا يقتضيه منهج التحقيق المتعارف عليه، ويؤدي إلى

(1/11)


إثقال هوامش الكتاب.
7- التدقيق في تخريج الأحاديث والآثار بالإبقاء على أَتَمِّهَا وإن تأخر موضعه، واختصار بعض التخريجات المطولة بما يفي بالغرض ولا يخل بالفائدة.
8- إبقاء منهج كل محقق وطريقته في التحقيق على ما هي عليه، لأنه من الصعب جداً توحيد العمل بعد نهايته، ولأنّ في الأمر سعة في اختيار إحدى طرائق التحقيق المتبعة لدى أهل هذا الفنّ.
9- اختيار إحدى الدراسات المناسبة للكتاب والشخصيات، وإثباتها في المقدمة، وقد وقع الاختيار على دراسة الدكتور سليم بن محمد البلوشي.
10- توحيد الفهارس الفنية للكتاب وجعلها في جزء مستقل، خلا فهرسي المصادر والموضوعات، فأبقي عليهما في مكانهما من كل جزء.
هذا ويحسن التّنبّه إلى أمور:
1- وجود إحالات في هوامش بعض المسائل على مصادر كانت مخطوطة عند رجوع الباحثين إليها، إلا أنها أصبحت الآن في عداد المطبوعات، فهذه لم يتعرض لها، وأبقيت كما كانت عليه لسهولة الاهتداء إلى مواضعها بعد الطباعة.
2- غياب تطبيق بعض الفقرات المنصوص عليها في مناهج بعض المحققين،

(1/12)


ولكن بالرجوع إلى خطوات العمل في تنسيق مادة هذا الكتاب يتضح السبب.
3- وجود بعض الآثار والإشارات إلى بعض الأحاديث لم تخرج، فهذه لم تدخل ضمن أعمال اللجنة وإنما هي مسئولية الباحثين أنفسهم.
وأخيراً ومع كل ما سبق عرضه من جهود في تحقيق هذا الكتاب وتنسيقه وإعداده للنشر، لا ندعي الكمال لعملنا فالنقص والخطأ ملازم للبشر، ولكن حسبنا أننا اجتهدنا وبذلنا ما في وسعنا لإظهار هذا الكتاب بالمظهر اللائق بمنْزلته وقيمته العلمية.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عمادة البحث العلمي

(1/13)