مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه

 [الفصل الرابع: (ويشمل على المباحث) ]

المبحث الأول وصف نسخ المخطوطة ومحتوياتها

لكتاب مسائل الإمام أحمد بن حنبل برواية إسحاق بن منصور المرزوي ثلاث نسخ خطية:
1- وهي النسخة الظاهرية،
2- ونسخة دارالكتب المصرية المنسوخة من الظاهرية،
3- والنسخة العمرية.
1 - وصف النسخة الأولى:
وهي نسخة المكتبة الظاهرية، وبها نقص يسير في أول الكتاب عن النسخة العمرية، ويبتدئ الجزء الظاهر منه بقوله: قلت: الصلاة بوضوء واحد أحب إليك، أو يتوضأ لكل مكتوبة، وهذه النسخة تحتوي على العناوين والأبواب التالية:-
العناوين ... الصفحات
باب الصلاة ... 11
من كتاب الزكاة ... 30
الجزء الثاني، فيه الزكاة، والصيام، والحيض، والنكاح، والطلاق، ويتلوه باب الصيام ... 36
في الصيام ... 38

(1/201)


في الحيض ... 42
في النكاح والطلاق ... 43
المناسك ... 80
الجزء السابع من مسائل أحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية رواية إسحاق بن منصور المرزوي، في الكفارات وأول البيوع ... 100
كتاب البيوع ... 103
الجزء الخامس من مسائل أحمد بن محمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، رواية إسحاق بن منصور المرزوي سماع يوسف من ابن مسند ملك1 ... 129
في الحدود والديات ... 147
لجزء السادس من مسائل أحمد بن محمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، فيه بقية الحدود، والديات والجهاد، والذبائح والأشربة، والشهادات والفرائض. ... 159
كتاب الجهاد ... 171
__________
1 كلمة غامضة لم أعثر عليها.

(1/202)


كتاب الذبائح ... 175
في الأشربة ... 180
في الشهادات ... 181
في الفرائض ... 185
الجزء السابع من مسائل أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وفيه أبواب الوصايا والمدبر، والمكاتب ومسائل شتى، وهو آخر الكتاب ... 191
في المدبر، والمكاتب، والعتق ... 199
مسائل شتى ... 208
وجاء في آخر هذه النسخة: تم الجزء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين ورسول رب العالمين، وسلم كثيراً.
ويلاحظ على هذه النسخة أنه لم يذكر الجزء الأول، ولعله ذكره في الصفحة الأولى من الكتاب الذي لم يظهر منه إلا الشيء اليسير بسبب انطماس الكلمات والجمل فيه بفعل الرطوبة.
وكذلك لم يذكر الجزء الثالث والرابع، وكرر العنوان بالجزء السابع مع اختلاف العناوين المندرجة تحت هذين الجزأين.
وتتكون هذه النسخة من ثلاث عشرة ومائة ورقة ذات وجهين، اثنتان وعشرون ومائتي صفحة، في كل صفحة من خمسة وثلاثين إلى

(1/203)


سبعة وثلاثين سطراً تقريباً، يتراوح عدد الكلمات في كل سطر بين ست عشرة، وثماني عشرة كلمة، وهي فيما يبدو نسخة كاملة غير أنها سقط منها عدد من الأسطر من الأول، وبها بعض الانطماس في الكلمات والأسطر في البداية بفعل الرطوبة وكتبت بخط جيد دقيق شبيه بخط النسخ، والغالب عليها الإعجام، إلا في بعض الكلمات، يختلف رسم بعض الكلمات عما هو مألوف الآن كسفيان، ومالك، وإسحاق حيث يرسمها سفين، ملك، إسحق، وكذا زكاة، وجنى "من الجناية" والتقى هكذا، كذى، زكوة، جنا، التقا.
والنسخة خالية من السند إلا في موضع واحد ص 129 جاء فيه رواية إسحاق بن منصور المرزوي سماع يوسف من ابن مسند ملك إلا أن الاسم الأخير غير واضح.
ولم يذكر في النسخة اسم الناسخ، وتاريخ النسخ، ويرى الأستاذ فؤاد سزكين أنها كتبت في القرن الرابع الهجري1.
كما أن النسخة كانت في حيازة الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي.
فقد جاء في الصفحة الأولى فوق عنوان الكتاب عبارة "وقف
__________
1 تاريخ التراث العربي 1/3/228.

(1/204)


الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي رحمه الله ورضي عنه".
وجاء في الكتب التي ترجمت للحافظ ضياء الدين أبو عبد الله محمد ابن عبد الواحد أنه بنى مدرسة على باب جامع المظفري بسطح قاسيون، وأعانه عليها بعض أهل الخير، ووقف عليها كتبه، وأجزاءه.
وكانت ولادته سنة تسع وستين وخمسمائة ووفاته سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق1.
والذي يظهر أن هذه النسخة من كتاب المسائل كانت متداولة بين العلماء في القرن السادس، والسابع، وأن ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي وقفه كما ذكر ذلك مترجموه.
وجاء في الصفحة رقم مائة عبارة "وقف بالضيائية" والضيائية مدرسة يقال لها دار الحديث الضيائية المحمدية، ويقال لها درا السنة بسفح قاسيون شرقي الجامع المظفري.
قال ابن شداد: "بانيها الفقيه ضياء الدين محمد بجبل الصالحية2 والقسم الذي قمت بتحقيقه من هذه النسخة يبدأ من كتاب الجهاد
__________
1 شذرات الذهب لابن العماد 5/224وما بعده، والمقصد الأرشد 283 وما بعده، والقلائد الجواهرية في تاريخ الصالحية 1/130.
2 انظر القلائد الجواهرية في تاريخ الصالحية 1/130.

(1/205)


صفحة إحدى وسبعين ومائة إلى نهاية المدبر والمكاتب، والعتق صفحة ثمان ومائتين، وقد اخترت ترتيب هذه النسخة.
وصف النسخة الثانية
النسخة الثانية هي العمرية التي انضمت أخيراً إلى المكتبة الظاهرية وبدأت هذه النسخة بعبارة: "بسم الله الرحمن الرحيم" ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حدثنا إسحاق بن منصور بن بهرام أبو يعقوب الكوسج المرزوي قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: إذا أحدث قبل أن يسلم؟ قال يعيد الصلاة ما لم يسلم، فإن انقضاء الصلاة التسليم، فإن لم يسلم رجع فقعد، ثم سلم ما دام قريباً، فإذا تباعد ذلك أعاد.
وتشمل هذه النسخة على الأبواب والعناوين التالية:-
العناوين ... الصفاحات
بدأ بمسائل من باب الطهارة دون أن يعنون لها ... 2
باب التيمم ... 9
باب الصلاة ... 13
باب الجمعة ... 46
آخر الجزء الأول، وأول الثاني بسم الله الرحمن الرحيم باب الزكاة ... 50
باب المكاتب يزكي ما أخذه منه سيده ... 56

(1/206)


باب في زكاة مضارب يزكي غلته ... 57
باب من ابتاع قبل الفطر يطعم سيده عنه ... 59
باب في تعجيل الزكاة ... 60
كتاب الصيام ... 63
باب الحيض ... 67
بدأ في النصف الأخير من الصفحة في الكلام على غسل الميت، ولم يعنون له. ... 74
بدأ في كتاب الجهاد، ولم يعنون له ... 77
بدأ في الكلام على النكاح، ولم يبوب له ... 81
آخر الجزء الثاني، وأول الثالث ... 89
باب الرضاع ... 92
باب الظهار ... 94
باب الوصايا ... 133
باب الهبة ... 133
آخر الجزء الثالث، وأول الرابع ... 137
بقية باب الهبة ... 137
باب المكاتب ... 143
باب الأيمان ... 155
باب المناسك ... 163

(1/207)


آخر الجزء الرابع، وأول الخامس ... 184
باب الحدود ... 192
باب القسامة ... 215
باب البيوع ... 236
آخر الجزء الخامس، وأول السادس ... 246
آخر الجزء السادس، وأول السابع ... 311
باب الصيد والذبائح ... 321
باب الأشربة ... 326
باب الشهادات ... 321
كتاب المواريث ... 326
مسائل شتى ... 336
وتحتوي هذه النسخة على تسع وسبعين ومائة ورقة ذات وجهين: أربعة وستون وثلاثممائة صفحة، في كل صفحة ما بين أربعة وثلاثين، واثنتين وعشرين سطراً، وفي كل سطر خمس عشرة كلمة تقريباً، وهي بخط عادي رديء متداخلة السطور والكلمات وهي منقوطة غالباً، ويختلف رسم بعض الكلمات عن القواعد الإملائية الحديثة فيكتب عثمان، وبئر، ولوى، وأعطى، وتطلى، وشراء هكذا: عثمن، وبير، ولوا، وأعطا، وتطلا، وشرى.
ويوجد بها نقص في عدة مواضع فنقص مقدار ورقة من كتاب

(1/208)


الجهاد كما نقص في كتاب الصيد والذبائح، وفي كتاب العتق.
وكتبت هذه النسخة بخط محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد ابن عمر بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان الفراغ منها يوم السبت شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وسبعمائة بصالحية دمشق.
وجاء في آخر هذه النسخة ما نصه: "وكتبه لنفسه أفقر عبده إلى ربه عز وجل محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، ثم ساق نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: "وكان الفراغ منه يوم السبت شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وسبعمائة بمحلة الصالحين، بمنزله بصالحية دمشق المحروسة، وغفر الله له، وللمسلمين أجمعين آمين.
وكتب بالهامش: آخر الأجزاء كلها.
وامتازت هذه النسخة بأنها صححت بعض الأخطاء اللغوية التي وقعت في النسخة الظاهرية، وزادت بعض المسائل، ووضحت بعض العبارات الغامضة، وأكملت بعض الخروم التي في الظاهرية.
وقد قابلت بين النسختين، وأخذت منها المسائل التي انفردت بها عن الظاهرية ووضعتها في القسم المحقق في الموضع الذي أصادف فيه المسألة الزائدة، وأشرت في الهامش إلى أن المسألة انفردت بها النسخة العمرية.
وهناك نسخة ثالثة مصورة من دار الكتب المصرية تشتمل على

(1/209)


تسعة وعشرين وأربعمائة ورقة ذات وجهين في كل صفحة واحد وعشرون سطراً، وعدد كلمات كل سطر بين سبع، وثمان كلمات، وهي منقولة عن النسخة الظاهرية كتبت عام 1362هـ الموافق 1943 بخط عبد اللطيف فخر الدين الناسخ بالدار.
ويقع القسم الذي قمت بتحقيقه في هذه النسخة من الصفحة الثانية من المجلد الثاني من كتاب الجهاد، إلى صفحة اثنتين وأربعين ومائة آخر كتاب العتق والدبر والمكاتب.
وقد جعلت النسخة الظاهرية الأصل، وذلك لامتيازها عن بقية النسخ بالأمور التالية:
1- قدم النسخة، حيث إنها كتبت في القرن الرابع كما سبق.
2- كون النسخة كاملة، لا ينقص منها شيء في الجزء الذي اخترته.
3- عدم وجود الطمس والبياض فيها.
4- وضوح النسخة، وجودة خطها بالنسبة إلى النسخة العمرية.

(1/210)


المبحث الثاني توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه

لقد كتب المؤلف كتابه عن الإمام أحمد وإسحاق، وقام بتدريسه بخراسان، وتتلمذ عليه، وأخذ هذه المسائل عنه كثير من الأئمة كالإمام الترمذي الذي سمع بعض هذه المسائل عن الحافظ إسحاق بن منصور المروزي مباشرة، كما صرح بذلك في شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي، وقد ضمن الترمذي كتابه كثيراً من هذه المسائل وجعله العمدة في ذكر مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه.
قال الترمذي: وما كان فيه من قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فهو ما أنبأنا به إسحاق بن منصور الكوسج عن أحمد وإسحاق إلا ما في أبواب الحج، والديات، والحدود فإني لم أسمعه من إسحاق بن منصور، وأخبرني به محمد بن موسى الأصم عن إسحاق بن منصور عن أحمد وإسحاق1.
وبعد وفاة المؤلف كان الكتاب يروى من طريقين: من طريق الرواية عن تلاميذه، ومن طريق كتابه الذي كان قد فرغ من تأليفه، وتهذيبه في حياته، فنرى الخلال يروي هذه المسائل في الغالب عن طريق
__________
1 شرح علل الترمذي لابن رجب1/31.

(1/211)


محمد بن حازم، فإذا لم يذكر الراوي المسألة بتمامها، واحتاج إلى إكمالها أخذها من نسخة المؤلف وأشار إلى ذلك كما فعل في مسألة ترك التسمية على الذبيحة، فقال بعد أن روى المسألة من طريق الراوي، ثم أضاف رأي الإمام أحمد من كتاب المسائل لابن منصور وقال: قول أحمد لم يقرأه علينا الشيخ كتبناه من أصل كتابه1.
وقد اشتهرت هذه المسائل أنها من تأليف إسحاق بن منصور المروزي المعروف بالكوسج، فلم يترجم أحد له، إلا وقرنه بتأليفه كتاب المسائل عن الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ويتأيد نسبة الكتاب إلى مؤلفه ابن منصور بأمور منها:
1- عنوان الكتاب الثابت في الورقة الأولى من النسخة الظاهرية، وجاء فيه ما نصه: "كتاب المسائل عن إمامي أهل الحديث، وفقيهي أهل السنة، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني وأبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي، رضي الله عنهما، ألفه ورواه عنهما إسحاق بن منصور المروزي الحافظ رحمه الله، وجزاه خيراً."
2- كتب الترجمة ذكرت أن إسحاق بن منصور المروزي قد سأل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه مسائل، وألف كتاباً باسم مسائل الإمام أحمد وإسحاق.
__________
1 أحكام أهل الملل.

(1/212)


فقال الخطيب البغدادي: وكان إسحاق بن منصور عالماً فقيهاً، وهو الذي دون عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه المسائل في الفقه.1
وقال السمعاني: هو الذي يروي المسائل عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.2
ونقل المزي كلام الخطيب البغدادي السابق.3
وقال الذهبي: وهو صاحب المسائل عن أحمد بن حنبل الذي يستهزئ به المبتدعة، والمتجرئون.4
وقال ابن حجر: تتلمذ لأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين وله عنهم مسائل.5
3- كتب تراجم أصحاب الإمام أحمد وذكرت هذه المسائل ونسبتها إلى إسحاق بن منصور المروزي.
قال أبو يعلى الفراء: وكان إسحاق عالماً فقيهاً، وهو الذي دون عن إمامنا المسائل في الفقه، وأورد أمثلة بذكر بعض المسائل ساقها بالسند
__________
1 تاريخ بغداد6/363.
2 الأنساب للسمعاني10/295.
3 تهذيب الكمال2/477.
4 سير أعلام النبلاء12/258.
5 تهذيب التهذيب1/250.

(1/213)


التالي إلى إسحاق بن منصور:
أبنأنا رزق الله عن أبي الفتح بن أبي الفوارس قال أبو بكر بن مسلم حدثنا أبو محمد عبد الله بن العباس الطيالسي حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج1.
وقال ابن مفلح المقدسى: هو الذي دون عن إمامنا المسائل في الفقه وكان عالما فقيهاً، ونحو قول ابن مفلح قال العليمي في كتابه المنهج الأحمد2.
4- كتب الفهارس والمخطوطات ذكرت كتاب المسائل ونسبتها إلى إسحاق بن منصور المروزي، وأنه رواه عن الإمام أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، ذكر ذلك كل من بروكلمان في تاريخ الأدب العربي، وفؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي3.
5- وقد تظافرت كتب المذهب من نقل المسائل برواية إسحاق بن منصور المروزي والاحتجاج بها، مثل الفروع لابن مفلح، والمحرر، والروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى الفراء، والقواعد لابن رجب، والمغني لابن قدامة والمبدع لابن مفلح، والإنصاف للمرداوي، وقد تطابق
__________
1 طبقات الحنابلة1/114.
2 انظر المقصد الأرشد ص71، والمنهج الأحمد1/191.
3 انظر تاريخ الأدب العربي3/312، وتاريخ التراث العربي1/3/228.

(1/214)


كثير من نصوص هذه الكتب بما في مسائل ابن منصور.
وهم يشيرون إليه بلفظ: "قال أحمد في رواية ابن منصور"، أو قال: "في راوية ابن منصور"، أو: "ابن منصور الكوسج"، أو قال: "في رواية الكوسج"، وقد نقلت أثناء تحقيق الكتاب جملة من نقولاتهم.
كما أن كتب الخلاف نقلت من هذه المسائل إما بالنص، أو بالمعنى، وقد ضمن ابن المنذر مؤلفاته مثل الأوسط، والإشراف هذه المسائل واعتمد عليها في معرفة مذهب الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه وغيرهم من الأئمة المذكورة أقوالهم في الكتاب.
ونادراً ما يشير إلى الروايات الأخرى، وغالباً يذكر المسالة بنصها وكذلك فعل ابن نصر المروزي في كتابه اختلاف العلماء، فكثيراً ما نجد مسائل منقولة من هذه المسائل.
ثم توالت النقول عن هذه المسائل إما عن طريق كتب الخلاف كالأوسط والإشراف لابن المنذر كما فعل النووي في المجموع.
وإما بالرجوع إلى كتاب المسائل كما فعل أغلب من ألف في المذهب، وإما بالرجوع إلى الكتب التي نقلت عن هذه المسائل، وإلى كتاب المسائل، كما ظهر لي ذلك لدى تتبعي لكتاب المغني لابن قدامة.
6- وكان لإشاعة رجوع الإمام أحمد عن هذه المسائل أثر في شهرتها، فقد شاع في الآفاق رجوع الإمام أحمد عن هذه المسائل حتى بلغ ذلك إسحاق بن منصور بخراسان، روى الخطيب باسناده عن أحمد بن

(1/215)


الربيع بن دينار- وهو من أصدقاء أحمد بن حنبل- قال: قال أحمد: بلغني أن الكوسج يروي عني مسائل بخراسان، أشهدوا أني رجعت عن ذلك كله1.
وقال أبو نعيم: قلت لصالح بن أحمد بن حنبل: عندنا شيخ يروي حكاية عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه قال: قد رجعت عما رواه إسحاق الكوسج عني، وذكرت له هذه الحكاية، فقال صالح: إني قلت لأبي: بلغني أن إسحاق بن منصور روى بخراسان هذه المسائل التي سألك عنها، ويأخذ عليها الدراهم فغضب أبي من ذلك، واغتم مما أعلمته فقال: تسألوني عن المسائل، ثم تحدثون بها، وتأخذون عليها؟ وأنكر إنكاراً شديداً، قال صالح: فقلت له: إن أبا نعيم الفضل بن دكين كان يأخذ على الحديث، فقال: لو علمت هذا ما رويت عنه شيئاً، قال صالح: ثم أن إسحاق بن منصور قدم بعد ذلك بغداد فصار إلى أبي فأعلمته أنه على الباب فأذن له، ولم يتكلم معه بشيء من ذلك2.
وقال أبو الوليد حسان بن محمد: سمعت مشايخنا يذكرون أن إسحاق بن منصور بلغه أن أحمد بن حنبل رجع عن بعض تلك المسائل التي علقها عنه، قال فجمع إسحاق بن منصور تلك المسائل في جراب،
__________
1 تاريخ بغداد6/363.
2 تاريخ بغداد 6/363-364.

(1/216)


وحملها على ظهره، وخرج راجلاً إلى بغداد، وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة استفتاه فيها فأقر له بها ثانياً، وأعجب بذلك من شأنه1.
وبعد إقرار الإمام أحمد بهذه المسائل للمرة الثانية صارت هذه المسائل أصلاً، ومعتمداً عليه في معرفة مذهب الإمام أحمد وإسحاق ابن راهوية قال الحسن بن حامد البغدادي إمام الحنابلة في زمانه:
"وقد رأيت بعض من يزعم أنه منتسب إلى الفقه يلين القول في كتاب إسحاق بن منصور، ويقول أنه يقال: إن أبا عبد الله رجع عنه، وهذا قول من لا ثقة له بالمذهب إذ لا أعلم أن أحداً من أصحابنا قال بما ذكره، ولا أشار إليه".
وكتاب ابن منصور أصل بداية حاله، تطابق نهاية شأنه، إذ هو في بدايته سؤلات محفوظة، ونهايته: أنه عرض على أبي عبد الله فاضطرب، لأنه لم يكن يقدر أنه لما سأله عنه مدون، فما أنكر عليه من ذلك حرفاً، ولا رد عليه من جواباته جواباً بل أقر على ما نقله، أو وصف ما رسمه، واشتهر في حياة أبي عبد الله ذلك بين أصحابه، فاتخذه الناس أصلاً إلى آخر أوانه.2
__________
1 المرجع السابق 6/364، والمنهج الأحمد 1/191، وطبقات الحنابلة 1/114.
2 طبقات الحنابلة 2/174-175.

(1/217)


المبحث الثالث منهج ابن منصور في مسائله

لم يصدر إسحاق بن منصور كتابه بمقدمة يشير إلى منهجه في التأليف ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنهم في ذلك الزمن المتقدم لم يتعودوا أن يقدموا لمؤلفاتهم توطئه يبينون فيه عملهم في الكتاب.
وأثناء خدمتي للكتاب، وتتبعي لطريقة المؤلف، وعمله تبين لي أن المؤلف ينهج في كتابه النهج الآتي:
1- في الغالب الأعم يوجه السؤال إلى الإمام أحمد بلفظ "قلت لأحمد" أو "قلت" ويكتفي بمعرفة المسئول من السياق1.
أو يقول: سئل أحمد، أو سئل عن كذا دون ذكر المسئول2، أو يقول: قيل لأحمد3.
وأكثر المسائل سئل عنها بلفظ "قلت لأحمد" أو قلت فقط، والذي يظهر لي أنه فرق بين ما سأل الإمام أحمد بنفسه فعبر فيه بلفظ قلت، وبين ما سأله غيره، وسمع السؤال والإجابة عليه فعبر عنه بلفظ "سئل أحمد" أو "قيل للإمام أحمد".
__________
1 راجع المسائل 12-26-32-40-60.
2 راجع المسائل 4-9-13-15-18.
3 راجع المسائل: 237، 450

(1/219)


2- وأحياناً يعرض عليه حديثاً نبوياً، ثم يعقبه باستفسار عن بعض الأحكام التي يستفاد من الحديث1.
3- كما يعرض عليه قول صحابي، أو تابعي للوقوف على رأي الإمامين فيه2.
4- وعرض على الإمامين آراء كثير من الفقهاء، وأغلب من عرض رأيهم: سفيان الثوري، والأوزاعي، والنخعي، والقاضي شريح، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وعطاء، والإمام مالك، والحسن البصري، وقتادة، وإياس بن معاوية، وابن شهاب الزهري، وقد أكثر من عرض مسائل عن الإمام الأوزاعي في كتاب الجهاد دون بقية الأبواب ولعل السبب في ذلك وجود كتاب للأوزاعي باسم سير الأوزاعي، وللأسف الكتاب لم يصل إلينا، والذي وصل إلينا، وبقى منه هو ما ضمنه أبو يوسف الأنصاري كتابه الرد على سير الأوزاعي وما جاء ضمن كتاب الأم للإمام الشافعي بعنوان سير الأوزاعي3.
وأما قول الإمام سفيان الثوري فيعرضه غالباً قبل نهاية كل باب وأحياناً يخالف هذا المنهج، فيأتي بقوله في بداية الباب، أو وسطه.
__________
1 انظر المسالة رقم 1-6.
2 انظر المسألة 38.
3 انظر تاريخ التراث العربي 1/3/244

(1/220)


والسبب من إكثار عرض أقوال الثوري على الإمامين، أن الثوري كان من العلماء الذين جمع لهم الفقه، والحديث فكان من فقهاء المحدثين الذين اعتنى العلماء بجمع أقوالهم، وتدوينها، فنرى أن عبد الرزاق الصنعاني قد ضمن كتابه كثيراً من آرائه، وفتاويه الفقهية، وكذلك فعل ابن أبي شيبة في مصنفه، إلا أنه لم يكثر كما فعل عبد الرزاق، وصدر ابن نصر المروزي كتابه، وبداية كل مسألة فيه بآرائه، وأقواله كما اهتم بنقل أقواله ابن المنذر في كتابيه الأوسط والإشراف.
فكان للثوري مكانته العلمية المرموقة في ذلك الزمن، وكان يرأس مدرسة فقهاء أهل الحديث في زمانه، ولذا أكثر ابن منصور من عرض أقواله على الإمامين ليرى رأيهما فيه من حيث الموافقة والمخالفة.
5- وكان يعرض السؤال، وجواب الإمام أحمد وغيره من الأئمة على الإمام إسحاق بن راهويه.
والذي يظهر من أسلوب ابن منصور في الكتاب أنه كان قد سأل هذه المسائل الإمام أحمد، ودوّن إجاباته ثم ذهب إلى الإمام إسحاق، وعرض عليه تلك المسائل فما وافق فيه إسحاق أحمد كتب تحت المسألة "قال إسحاق كما قال" وإذا خالف إسحاق أحمد بين رأيه.
فلذا نراه يقدم أحمد ويذكر قوله بالتفصيل، بخلاف جواب إسحاق إذا كان موافقاً، وفعل ذلك ابن منصور ليعرف مذهبهما في المسألة وليثبت وجه الاتفاق، والاختلاف بينهما، باعتبارهما إمامي أهل السنة

(1/221)


وفقيهي أهل الحديث في زمانهما.
6- أتى بجواب الإمام إسحاق على أربعة نماذج:
أ- موافقة الإمام إسحاق للإمام أحمد، فيذكر إسحاق بن منصور موافقته هذه بعبارة: قال إسحاق كما قال، أو كما قال أحمد.
ب- موافقته على قول الإمام أحمد، وتعقيبه عليه، بما يبين المسألة ويوضحها، والاستدلال لها.
جـ- موافقته لقول من عرض رأيه على الإمام أحمد كسفيان الثوري أو الأوزاعي، ويسوقه بعبارة قال إسحاق كما قال سفيان وقد يعقب عليه بما يوضحه ويبينه.
د- مخالفته لقول الإمام أحمد، فيذكر رأيه، وغالباً يستدل على رأيه، أو بيان وجه مخالفته.
7- يذكر أحياناً قول الإمام أحمد ولا يتبعه بقول الإمام إسحاق وأحياناً يذكر قول الإمام إسحاق، ولا يذكر قول الإمام أحمد وغالباً ما يكون ذلك في نهاية الباب، أو الكتاب1.
8- يوضح المعنى المراد من قول الإمامين أحمد وإسحاق2.
9- يحاور الإمام أحمد، ويكرر عليه السؤال، ويعترض على جوابه
__________
1 انظر المسالة رقم 54-62-63.
2 انظر المسالة رقم 173.

(1/222)


بجزئيات قد يتغير من أجلها الحكم الذي قاله الإمام أحمد1.
10- كتب روايته عن الإمامين بأسلوب موجز لم يلجأ فيه إلى التطويل، فوردت عباراته على شكل أسئلة، وأجاب عنها الإمامان أحمد وإسحاق، وكانت إجاباتهم مختصرة دقيقة.
11- يشير إلى الدليل بأوجز عبارة.
فقد سأل الإمام أحمد عن المتاع يصيبه العدو، ثم يفيئه الله على المسلمين، فأجاب الإمام أحمد: أنه يرد على صاحبه ما لم يقسم، قال إسحاق بن منصور: احتج -الإمام أحمد- على قوله بحديث العضباء حيث أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة، والحديث طويل اقتصر منه بشهرته لديهم، وموضع الشاهد منه.2
وأحياناً يذكر اسم راوي الحديث، أو إلى رجل من الإسناد أو يشير إلى كلمة من متن الحديث، أو معنى فيه.
هذا من ناحية طريقته، وأسلوبه في إلقاء الأسئلة، وترتيب الكتاب، أما طريقته في اختيار الأسئلة ففي الغالب الأعم وردت أسئلته في أمور خلافية بين الفقهاء، إما لاختلاف الآثار الواردة فيها، وإما لورود حديثين في المسألة، ويختلف درجتهما من الصحة فيريد ابن منصور أن يقف على
__________
1 انظر المسألة رقم 392.
2 انظر المسألة رقم 9-54.

(1/223)


رأي الإمامين أحمد وإسحاق، وبأيهما يأخذان.
وإما أن يجتهد بعض الصحابة في بعض المسائل اجتهاداً يتعارض مع ما يبدو من ظاهر بعض النصوص فيسأل الإمامين عن رأيهما في هذا الاجتهاد1.
وإما أن يكون الأئمة اختلفوا في آية أهي منسوخة، أم غير منسوخة؟
فقد سأل ابن منصور الإمام أحمد: أيقتل الأسير، أو يفادى أحب إليك؟
وهنا خلاف بين الأئمة مرجعه اختلافهم في قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 2.
هل هي منسوخة أو هي محكمة يعمل بها؟ 3
وقد يقع السؤال في حديث عام، وله صور شتى تشملها بعمومها ويسأل عن جزئية من العموم هل يشملها العموم في النهي أو أن هناك
__________
1 انظر المسألة رقم 32.
2 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية رقم (4) .
3 انظر المسألة رقم 35، وراجع الخلاف في: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/227، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص466، ومصنف عبد الرزاق 5/205، والمغني 8/372.

(1/224)


دليلاً خاصاً يخرجها من دليل العموم.
فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الأطفال والذراري والنساء، وغير المقاتلين.
فسأل ابن منصور عن حكم شن الغارة على المشركين ليلاً وقد يصاب الذراري، والأطفال، ومن لا يجوز قتلهم، فأجاب الإمامان: أن هذا لا يدخل في عموم لفظ النهي إذا لم يقصدوا قتلهم، وأن العموم هنا مخصوص بحديث الصعب بن جثامة.1
وبعد: كان هذا سرداً موجزاً لأسلوب الحافظ إسحاق بن منصور المروزي تبين لي ذلك أثناء تتبعي طريقته في إلقائه لأسئلته، وترتيب كتابه ومراجعتي لكتب الفقه والآثار في كل مسئلة قمت بتحقيقها.
__________
1 انظر المسألة رقم 37، وراجع المسألة رقم 11.

(1/225)


المبحث الرابع أهم مميزات كتاب المسائل برواية إسحاق بن منصور المرزوي عن بقية كتب المسائل
دون كثير من أصحاب الإمام أحمد عنه مسائل وهم متفاوتون فيما بينهم في القلة والكثرة والترتيب، والتبويب، وقد امتاز كل واحد منهم عن غيره ببعض الميزات، وإن كانت كلها كتباً قيمة خرجت من مشكاة واحدة، ومتممة بعضها لبعض، وأضافت إلى مكتبة الفقه الإسلامي مسائل تهم المسلمين في حياتهم اليومية.
وقد امتاز كتاب مسائل الحافظ إسحاق بن منصور المروزي عن غيره من كتب المسائل بميزات أهمها:
1 - كثرة المسائل التي نقلها عن الإمامين، وتطرقها إلى جزئيات كثيرة، لم يتطرق إليها غيرها.
2 - نقله فقه الإمام إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهوية في هذه المسائل ومقارنته بفقه الإمام أحمد، ومعرفة سر اقتران قول الإمامين أحمد وإسحاق في كتب الخلافيات، حيث إنها نقلت ذلك من مسائل ابن منصور مباشرة أو من الكتب التي نقلت أقوالهما كسنن الترمذي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكوسج سأله مسألة لأحمد وإسحاق، وكذلك حرب الكرماني… ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد

(1/227)


وإسحاق؛ فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج1.
3 - عرضه كثيراً من أقوال الصحابة والتابعين على الإمامين، وتدوين رأي الإمامين في هذه الأقوال من حيث العمل بهذه الأقوال أو العمل بغيرها من النصوص مع بيان السبب.
4 - معرفة رأي الإمامين في أقوال الفقهاء السابقين، فقد عرض كثيراً من آراء الثوري، والنخعي، والأوزاعي، وشريح القاضي، وأخذ رأي الإمام أحمد وإسحاق في أقوالهم، ولهذا يعد كتابه من كتب الفقه المقارن، قارن بين كثير من آراء الفقهاء السابقين لعصره2.
5 - كتب هذه المسائل عن الإمام أحمد ثم عرضها عليه مرة ثانية فأقر له بها، وأعجب بذلك من شأنه، كما عرض عبد الله بن الإمام أحمد بعض مسائل ابن منصور على أبيه3 مما أضاف إلى هذه المسائل مزيداً من التوثيق والتنقيح، فصارت عمدة في المذهب4.
6 - نقل بعض مؤلفي المسائل عن الإمام أحمد من مسائل ابن منصور وتضمينهم له مع مسائلهم المدونة عن الإمام، كما فعل عبد الله
__________
1 مجموع الفتاوى 25/232.
2 مجموع الفتاوى 34/114.
3 تهذيب الكمال للمزي 2/477، مفاتيح الفقه الحنبلي 2/354.
4 طبقات الحنابلة 2/174-175.

(1/228)


ابن الإمام أحمد رحمهم الله1.
7 - اهتمام الكتب التي نقلت مذاهب العلماء بهذا الكتاب، فقد نقل ابن المنذر أغلب نصوص الكتاب في مؤلفه الأوسط والإشراف واعتمد عليه في معرفة مذهب الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة المذكورة آراؤهم في الكتاب، وكذلك فعل الترمذي في سننه وابن نصر المرزوي في كتابه اختلاف العلماء.
8 - انتشار مذهب الإمام أحمد وإسحاق في كتب الخلاف عند المذاهب الأخرى عن طريق هذه المسائل، وذلك لاعتمادهم على كتب ابن المنذر في ذكر أقوال العلماء، وسنن الترمذي.
__________
1 مفاتيح الفقه الحنبلي 2/354.

(1/229)