منار السبيل في شرح الدليل

المجلد الثاني
كتاب الوقف
مدخل
مدخل
...
كتاب الوقف:
قال الشافعي رحمه الله: لم تحبس أهل الجاهلية، وإنما حبس أهل الإسلام. وهو مستحب، لحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه الجماعة إلا البخارى وابن ماجه. وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ذو مقدرة إلا وقف. ويجوز وقف الأرض والجزء المشاع لحديث ابن عمر قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالاً بخيبر لم أصب قط مالاً أنفس عندى منه، فما تأمرني فيه؟ فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" ، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه. وفي لفظ: "غير متأثل" متفق عليه، وعنه أيضاً قال: قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المائة سهم التي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إلي منها، وقد أردت أن أتصدق بها. فقال صلى الله عليه وسلم: "احبس أصلها وسبل ثمرتها" رواه النسائي وابن ماجه. وهذا وصف المشاع.

(2/3)


"يحصل بأحد أمرين: بالفعل، مع دليل يدل عليه: كأن يبني بنياناً على هيئة المسجد، ويأذن إذناً عاماً بالصلاة فيه، أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن إذناً عاماً بالدفن فيها" أو سقاية ويشرعها لهم، ويأذن في دخولها، لأن العرف جار بذلك، وفيه دلالة على الوقف، فجاز أن يثبت به كالقول، وجرى مجرى من قدم طعاماً لضيفانه، أو نثر نثاراً. قال في الكافي.
"وبالقول، وله صريح وكناية، فصريحه: وقفت وحبست وسبلت" متى وقف بواحدة منها صار وقفاً لأنه ثبت لها عرف الاستعمال، وعرف الشرع بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها" فصارت كلفظ الطلاق. وإضافة التحبيس إلى الأصل والتسبيل إلى الثمرة لا يقتضي المغايرة في المعنى، فإن الثمرة أيضاً محبسة على ما شرط صرفها إليه.
"وكنايته: تصدقت، وحرمت، وأبدت" فليست صريحة لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات.
"فلا بد فيها من نية الوقف" فمن نوى بها الوقف لزمه حكماً، لأنها بالنية صارت ظاهرة فيه.
"ما لم يقل: على قبيلة كذا، أو طائفة كذا" أو يقرن الكناية بحكم الوقف كقوله: تصدقت به صدقةً لا تباع، أو لا توهب، أو لا تورث، لأن ذلك كله لا يستعمل في غير الوقف.

(2/4)


فصل شروط الوقف سبعة:
1- "كونه من مالك جائز التصرف" فلا يصح من محجور عليه، ولا من مجنون.
"أو ممن يقوم مقامه" كوكيله فيه.
2- "كون الموقوف عيناً يصح بيعها" فلا يصح وقف أم ولد وكلب وخمر ومرهون.
"وينتفع بها نفعاً مباحاً مع بقاء عينها" كالعقار والحيوان والسلاح. قال الإمام أحمد: إنما الوقف في الأرضين والدور على ما وقف أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد: لا بأس به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" متفق عليه. قال الخطابي: الأعتاد: ما يعده الرجل من مركوب وسلاح وآلة الجهاد. وعن أبي هريرة مرفوعاً: "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه حسنات" رواه البخاري، وقالت أم معقل: يا رسول الله: إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله. فقال: "اركبيه فإن الحج من سبيل الله" 1 رواه أبو داود وروى الخلال عن نافع
ـــــــ
1 الناضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء.

(2/5)


أن حفصة ابتاعت حلياً بعشرين ألفاً حبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته.
"فلا يصح وقف مطعوم ومشروب غير الماء، ولا وقف دهن وشمع وأثمان وقناديل نقد على المساجد، ولا على غيرها" 1 لأن ما لا ينتفع به إلا بإتلافه لا يصح وقفه، لأنه يراد للدوام ليكون صدقة جارية، ولا يوجد ذلك فيما لا تبقى عينه.
3- "كونه على جهة بر وقربة: كالمساكين والمساجد والقناطر والأقارب" والسقايات وكتب العلم، لأنه شرع لتحصيل الثواب. فإذا لم يكن على بر لم يحصل مقصوده الذي شرع لأجله. قال في الكافي: فإن قيل: كيف جاز الوقف على المساجد، وهي لا تملك؟ قلنا: الوقف إنما هو على المسلمين، لكن عين نفعاً خاصاً لهم.
"فلا يصح على الكنائس، ولا على اليهود والنصارى، ولا على جنس الأغنياء والفساق" وقطاع الطريق، لأن ذلك إعانة على المعصية. وقد غضب النبي، صلى الله عليه وسلم، حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي" وقال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعاً كثيرة، وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا، والضياع بيد النصارى، فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم.
"لكن لو وقف على ذمي أو فاسق أو غني معين صح" لما روي "أن
ـــــــ
1 النقد: يريد به الذهب والفضة.

(2/6)


صفية بنت حيي زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقفت على أخ لها يهودي.
4- "كونه على معين غير نفسه يصح أن يملك فلا يصح الوقف على مجهول، كرجل ومسجد، ولا على أحد هذين" الرجلين أو المسجدين لتردده، كبعتك أحد هذين العبدين، ولأن تمليك غير المعين لا يصح.
"ولا على نفسه" عند الأكثر. نقل حنبل وأبو طالب عن الإمام أحمد: ما سمعت بهذا ولا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى. ويصرف في الحال لمن بعده، كمنقطع الابتداء. وعنه: يصح. قال في التنقيح: اختاره جماعة منهم ابن أبي موسى والشيخ تقي الدين، وصححه ابن عقيل والحارثي وأبو المعالي في النهاية وغيرهم، وعليه العمل في زمننا وقبله عند حكامنا، وهو أظهر. وفي الإنصاف: وهو الصواب، وفيه مصلحة عظيمة، وترغيب في فعل الخير. انتهى. وإن وقف شيئاً على غيره، واستثنى غلته أو بعضها مدة حياته أو مدة معينة له أو لولده صح الوقف والشرط. احتج أحمد بما روي عن حجر المدري أن في صدقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر ويدل له أيضاً قول عمر لما وقف: لا جناح على من وليها أن يكل منها، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه وكان الوقف في يده إلى أن مات، ثم بنته حفصة ثم ابنه عبد الله.
"ولا على من لا يملك كالرقيق ولو مكاتباً، والملائكة والجن والبهائم والأموات" لأن الوقف تمليك، فلا يصح على من لا يملك.
"ولا على الحمل استقلالا" لأنه لا يملك إذاً.

(2/7)


"بل تبعاً" كقوله: وقفت كذا على أولادي ثم على أولادهم وفيهم حمل فيشمله.
5- "كون الوقف منجزاً" أي: غير معلق ولا موقت ولا مشروط فيه خيار أو نحوه.
"فلا يصح تعليقه إلا بموته، فيلزم من حين الوقف إن خرج من الثلث" احتج بقول عمر: إن حدث بي حدث الموت فإن ثمغاً صدقة وذكر الحديث. ورواه أبو داود بنحوه. ووقفه هذا كان بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، واشتهر في الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً. وثمغ: بالفتح مال بالمدينة لعمر وقفه. قاله في القاموس.
"6- أن لا يشترط فيه ما ينافيه كقوله: وقفت كذا على أن أبيعه أو أهبه متى شيء ت، أو بشرط الخيار لي، أو بشرط أن أحوله من جهة إلى جهة" فإذا شرط أن يبيعه متى شاء، أو يهبه، أو يرجع فيه بطل الوقف والشرط. قاله في الشرح وغيره، لمنافاته لمقتضاه.
"7- أن يقفه على التأبيد، فلا يصح: وقفته شهراً، أو إلى سنة ونحوها" لأنه إخراج مال على سبيل القربة، فلم يجز إلى مدة كالعتق. قاله في الكافي.
"ولا يشرط تعيين الجهة، فلو قال: وقفت كذا وسكت صح، وكان لورثته من النسب" لا ولاءً ولا نكاحاً.
"على قدر إرثهم" وقفاً عليهم، لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببره، فكأنه عينهم لصرفه. فإن عدموا فهو للفقراء والمساكين وقفاً عليهم، لأنهم مصرف الصدقات، ونصه يصرف في مصالح المسلمين.

(2/8)


فصل ويلزم الوقف بمجرده ويملكه الموقوف عليه
إذا كان معيناً، لأن الوقف سبب نقل الملك عن الواقف. ولم يخرج عن المالية، فوجب أن ينتقل الملك إليه كالهبة والبيع.
"فينظر فيه هو" أي: الموقوف عليه إن كان مكلفاً رشيداً.
"أو وليه" إن كان محجوراً عليه كالطلق1.
"ما لم يشترط الواقف ناظراً فيتعين" لأن عمر جعل وقفه إلى ابنته حفصة، ثم يليه ذو الرأي من أهلها.
"ويتعين صرفه إلى الجهة التي وقف عليها في الحال" لأن تعيينه لها صرف له عما سواها، لأنه لو لم يجب إتباع تعيينه لم يكن له فائدة.
"ما لم يستثن الواقف منفعته أو غلته له أو لولده أو لصديقه مدة حياته أو مدة معلومة فيعمل بذلك" لما تقدم.
"وحيث انقطعت الجهة والواقف حي رجع إليه وقفاً" أي: متى قلنا يرجع إلى أقارب الواقف وقفاً، وكان الواقف حياً رجع إليه وقفاً.
"ومن وقف على الفقراء فافتقر تناول منه" لوجود الوصف الذى هو الفقر فيه. ولو وقف مسجداً أو مقبرة أو مدرسة فهو كغيره في الانتفاع به، لما روي أن عثمان، رضي الله عنه، سبل بئر رومة وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين2.
ـــــــ
1 كذا في الأصل وأظنها: الطلاق.
2 بئر رومة: بضم الراء: التي حفرها عثمان بناحية المدينة، وقيل: اشتراها وسبلها.

(2/9)


"ولا يصح عتق الرقيق الموقوف بحال" لتعلق حق من يؤول إليه الوقف به، ولأن الوقف عقد لازم لا يمكن إبطاله، وفي القول بنفوذ عتقه إبطال له. وإن كان بعضه غير موقوف فأعتقه مالكه صح، ولم يسر إلى البعض الموقوف، لأنه إذا لم يعتق بالمباشرة لم يعتق بالسراية.
"لكن لو وطئ الموقوفه عليه حرم" لأن ملكه لها ناقص، ولا حد بوطئه للشبهة، ولا مهر لأنه لو وجب لكان له. ولا يجب للإنسان على نفسه شيء.
"فإن حملت صارت أم ولد تعتق بموته" لولادتها منه وهو مالكها.
"وتجب قيمتها في تركته" لأنه أتلفها على من بعده من البطون.
"يشترى بها مثلها" يكون وقفاً مكانها، وولده منها حر للشبهة، وعليه قيمته يوم وضعه حياً، لتفويته رقه على من يؤول إليه الوقف بعده.

(2/10)


فصل ويرجع في مصرف الوقف إلى شرط الواقف
لأن عمر، رضي الله عنه، شرط في وقفه شروطاً، ولو لم يجب إتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة أن الزبير وقف على ولده، وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضراً بها، فإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه.
"فإن جهل، عمل بالعادة الجارية، فإن لم تكن فبالعرف" لأن العادة المستمرة، والعرف المستقر يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة. قاله الشيخ تقي الدين.

(2/10)


"فإن لم يكن" عادة، ولا عرف ببلد الواقف
"فالتساوي بين المستحقين" لثبوت الشركة دون التفضيل.
"ويرجع إلى شرطه في الترتيب بين البطون" بأن يقول: على أولادي، ثم أولادهم، ثم أولاد أولادهم.
"أو الاشتراك" كأن يقف على أولاده وأولادهم.
"وفي إيجار الوقف أو عدمه، وفي قدر مدة الإيجار، فلا يزاد على ما قدر" إلا عند الضرورة.
"ونص الواقف كنص الشارع" في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل. قاله الشيخ تقي الدين.
"يجب العمل بجميع ما شرطه ما لم يفض إلى الإخلال بالمقصود" الشرعي.
"فيعمل به فيما إذا شرط أن لا ينزل في الوقف فاسق ولا شرير ولا ذو جاه" لأنه ثبت بوقفه فوجب أن يتبع فيه شرطه.
"وإن خصص مقبرة أو مدرسة أو إمامتها بأهل مذهب أو بلد أو قبيلة تخصصت" بهم عملاً بشرطه.
"لا المصلين بها" فلا تختص بهم، ولغيرهم الصلاة بها لعدم التزاحم، ولو وقع فهو أفضل، لأن الجماعة تراد له.
"ولا" يعمل بشرطه
"إن شرط عدم استحقاق من ارتكب طريق الصلاح" قال الشيخ: إذا شرط استحقاق ريع الوقف للعزوبة فالمتأهل أحق من المتعزب إذا استويا في سائر الصفات.

(2/11)


فصل فيما يشترط في الناظر:
"ويرجع في شرطه إلى الناظر" في الوقف إما بالتعيين كفلان، أو بالوصف كالأرشد أو الأعلم، فمن وجد فيه الشرط ثبت له النظر عملاً بالشرط.
"ويشترط في الناظر خمسة أشياء:"
"1- الإسلام" إن كان الوقف على مسلم، أو جهة من جهات الإسلام كالمساجد والمدارس والربط ونحوها، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1.
"2- التكليف" لأن غير المكلف لا ينظر في ملكه الطلق، ففي الوقف أولى.
"3- الكفاية للتصرف 4- والخبرة به 5- والقوة عليه" لأن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعاً. وإذا لم يكن الناظر متصفاً بهذه الصفات لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف.
"فإن كان ضعيفاً ضم إليه قوي أمين" ليحصل المقصود.
"ولا تشترط الذكورة" لأن عمر، رضي الله عنه، جعل النظر في وقفه إلى ابنته حفصة ثم إلى ذي الرأي من أهلها.
ـــــــ
1 النساء من الآية/141.

(2/12)


"ولا العدالة حيث كان بجعل الواقف له" ويضم إلى الفاسق أمين لحفظ الوقف، ولم تزل يده لأنه أمكن الجمع بين الحقين.
"فإن كان من غيره" أي: غير الواقف، كمن ولاه حاكم أو ناظر.
"فلا بد فيه من العدالة" لأنها ولاية على مال، فاشترط لها العدالة، كالولاية على مال يتيم.
"فإن لم يشترط الواقف ناظراً فالنظر للموقوف عليه مطلقاً" أي: عدلاً كان أو فاسقاً، رجلاً أو امرأة، رشيداً أو محجوراً عليه.
"حيث كان محصوراً" كأولاده وأولاد أولاده كل واحد منهم ينظر على حصته كالملك المطلق.
"وإلا فللحاكم" أو نائبه النظر إذا كان الوقف على غير معين كالوقف على الفقراء أو المساجد والربط ونحوها إذا لم يعين الواقف ناظراً عليه لأنه ليس له مالك معين، ويتعلق به حق الموجودين ومن يأتي بعدهم، ففوض الأمر فيه إلى الحاكم.
"ولا نظر للحاكم مع ناظر خاص" قال في الفروع: أطلقه الأصحاب.
"لكن له أن يعترض عليه إن فعل ما لا يسوغ" فعله لعموم ولايته.
"ووظيفة الناظر: حفظ الوقف وعمارته، وإيجاره وزرعه، والمخاصمة فيه وتحصيل ريعه، والاجتهاد في تنميته، وصرف الريع في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء المستحقين" لأن الناظر هو الذي يلي الوقف وحفظه، وحفظ ريعه وتنفيذ شرط واقفه، وطلب الحفظ فيه مطلوب شرعاً، فكان ذلك إلى الناظر.
"وإن آجره بأنقص" من أجر مثله.

(2/13)


"صح" عقد الإجارة،
"وضمن" الناظر
"النقص" إن كان المستحق غيره لأنه يتصرف في مال غيره على وجه الحط، فضمن ما نقصه بعقده كالوكيل.
"وله الأكل بمعروف" نص عليه.
"ولو لم يكن محتاجاً" قاله في القواعد
"وله التقرير في وظائفه" لأنه من مصالحه، فينصب إمام المسجد ومؤذنه وقيمه ونحوهم، ويجب أن يولي في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعاً.
"ومن قرر في وظيفة على وفق الشرع حرم إخراجه منها بلا موجب شرعي" كتعطيله القيام بها. قال الشيخ تقي الدين: ومن لم يقم بوظيفته غيره من له الولاية بمن يقوم بها إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب.
"ومن نزل عن وظيفة بيده لمن هو أهل لها صح، وكان أحق بها" من غيره.
"وما يأخذه الفقهاء من الوقف فكالرزق من بيت المال لا كجعل ولا كأجرة" في أصح الأقوال، فلا ينقص به الأجر مع الإخلاص. قال الشيخ تقي الدين: وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة وكذلك المال الموقوف على أعمال البر، والموصى به، أو المنذور له ليس كالأجرة والجعل. انتهى1. وينبني عليه أن القائل
ـــــــ
1 قال شيخ الإسلام في الاختيارات ص/178: ومن أكل المال بالباطل: قوم لهم رواتب أضعاف حاجتهم، وقوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه، وينيبون غيرهم بيسير.

(2/14)


بالمنع من أخذ الأجرة على نوع القرب لا يمنع ممن أخذ المشروط في الوقف. قاله الحارثي.

(2/15)


فصل ومن وقف على ولده أو ولد غيره دخل الموجودون
حال الوقف ولو حملاً.
"فقط" نص عليه.
"من الذكور والإناث" لأن اللفظ يشملهم، لأن الجميع أولاده.
"بالسوية من غير تفضيل" لأنه شرك بينهم، وكما لو أقر لهم ب شيء وعنه: يدخل ولد حدث بعد الوقف. اختاره ابن أبي موسى، وأفتى به ابن الزاغوني، وهو ظاهر كلام القاضي وابن عقيل، وجزم به في المبهج و المستوعب، واختاره في الإقناع.
"ودخل أولاد الذكور خاصة" لأنهم دخلوا في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1 لأن كل موضع ذكر الله فيه الولد دخل ولد البنين. فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة يحمل على المطلق من كلام الله تعالى ويفسر بما فسر به.
"وإن قال: على ولدي، دخل أولاده الموجودون ومن يولد لهم" أي: لأولاده الموجودين.
"لا الحادثون، وعلى ولدي ومن يولد لي دخل الموجودون والحادثون تبعاً" للموجودين.
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 11.

(2/15)


"ومن وقف على عقبه أو نسله أو ولد ولده أو ذريته دخل الذكور والإناث لا أولاد الإناث" لأنهم لم يدخلوا في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1 لأنهم إنما ينسبون إلى قبيلة آبائهم دون قبيلة أمهاتهم. وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} 2 وقال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد3
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد" ونحوه، فمن خصائصه انتساب أولاد فاطمة إليه.
"إلا بقرينة" كقوله: من مات عن ولد فنصيبه لولده. وقوله: وقفت على أولادي فلان وفلان وفلانة، ثم أولادهم، أو: على أن لولد الذكر سهمين ولولد الأنثى سهماً ونحوه.
"ومن وقف على بنيه أو بني فلان فللذكور خاصة" لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة. قال تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} 4 وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ...} 5 وإن وقف على بناته اختص بهن، وإن كانوا قبيلة كبني هاشم وتميم دخل نساؤهم،
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 11.
2 الأحزاب من الآية/ 5.
3 جاخزانة الأدب لعبد القادر البغدادي في الشاهد/ 73 مايلي: "المعنى: أن بني أبنائنا مثل بنينا... وهذا البيت لا يعرف قائله مع شهرته في كتب النحاة وغيرهم. قال العيني: هذا البيت استشهد به النحاة على جواز تقديم الخبر، والرضيون على دخول أبناء الأبناء في الميراث، وأن الايساب إلى الآباء، والفقهاء كذلك في الوصية، وأهل المعاني والبيان في التشبيه. ولم أر أحدا منهم عزاه إلى قائله. اهـ.".
4 الصافات من الآية/ 153.
5 آل عمران من الآية/ 14.

(2/16)


لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها. وروي أن جواري من بني النجار قلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
دون أولادهن من رجال غيرهم لأنهم إنما ينتسبون لآبائهم كما تقدم.
"ويكره هنا" أي: فما الوقف.
"أن يفضل بعض أولاده على بعض لغير سبب" شرعي لأنه يؤدي إلى التقاطع.
ولقوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث النعمان بن بشير: "...اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" . قال: فرجع أبي في تلك الصدقة رواه مسلم.
"والسنة أن لا يزاد ذكر على أنثى" واختار الموفق، وتبعه في الشرح و المبدع وغيره: للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب قسمة الله في الميراث، كالعطية، والذكر في مظنة الحاجة غالباً بوجوب حقوق تترتب عليه بخلاف الأنثى.
"فإن كان لبعضهم عيال أو به حاجة أو عاجز عن التكسب" فخصه بالوقف أو فضله.
"أو خص المشتغلين بالعلم، أو خص ذا الدين والصلاح فلا بأس بذلك" نص عليه، لأنه لغرض مقصود شرعاً.

(2/17)


فصل والوقف عقد لازم
بمجرد القول أو الفعل الدال عليه.
"لا يفسخ بإقاله ولا غيرها" لأنه عقد يقتضي التأبيد، سواء حكم به حاكم أو لا، أشبه العتق.
"ولا يوهب ولا يرهن ولا يورث ولا يباع" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث" قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وإجماع الصحابة على ذلك، فيحرم بيعه ولا يصح.
"إلا أن تتعطل منافعه بخراب أو غيره" كخشب تشعث وخيف سقوطه
"ولم يوجد ما يعمر به، فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله" نص عليه أحمد، قال: إذا كان في المسجد خشبات لها قيمة جاز بيعها وصرف ثمنها عليه. وقال: يحول المسجد خوفاً من اللصوص، وإذا كان موضعه قذراً. قال أبو بكر:1 وروي عنه أن المساجد لا تباع، إنما تنقل آلتها. قال: وبالقول الأول أقول، لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو، فإن لم يبلغ ثمن الفرس أعين به في فرس حبيس. نص عليه، لأن الوقف مؤبد، فإذا لم يمكن تأبيده بعينه استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى.
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد أبوبكر المعروف بالخلال، المتوفى 311 نقل عن أصحاب الإمام أحمد المسائل الكثيرة، وله المؤلفات القيمة.

(2/18)


واتصال الإبدال يجري مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض، كذبح الهدي إذا أعطب في موضعه مع اختصاصه بموضع آخر، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفي منه ما أمكن. قاله ابن عقيل وغيره. وقوله: فيباع - أي: وجوباً - كما مال إليه في الفروع، ونقل معناه القاضي وأصحابه، والموفق والشيخ تقي الدين.
"وبمجرد شراء البدل يصير وقفاً" كبدل أضحية، وبدل رهن أتلف، لأنه كالوكيل في الشراء، وشراء الوكيل يقع لموكله، والاحتياط وقفه، لئلا ينقضه بعد ذلك من لا يرى وقفه بمجرد الشراء.
"وكذا حكم المسجد لو ضاق على أهله" نص عليه، وفي المغني: ولم تمكن توسعته في موضعه.
"أو خربت محلته اًو استقذر موضعه" لما تقدم. قال القاضي: يعني إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه فيباع.
"ويجوز نقل آلته وحجارته لمسجد آخر احتاج إليها وذلك أولى من بيعه" لما روى أن عمر، رضي الله عنه، كتب إلى سعد لما بلغه أن بيت المال الذي في الكوفة نقب، أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان كالإجماع.
"ويجوز نقض منارة المسجد وجعلها في حائطه لتحصينه" من نحو كلاب. نص عليه، في رواية محمد بن الحكم لأنه نفع.
"ومن وقف على ثغر فاختل صرف في ثغر مثله" قاله في التنقيح.
"وعلى قياسه مسجد ورباط 1 ونحوهما" كسقاية فإذا تعذر
ـــــــ
1 الرباط: مساكن مجتمعة يسكنها الغرباء والفقهاء.

(2/19)


الصرف فيها صرف في مثلها تحصيلاً لغرض الواقف حسب الإمكان. ونص أحمد في رواية حرب فيمن وقف على قنطرة فانحرف الماء: يرصد لعله يرجع - أي: الماء - إلى القنطرة فيصرف عليها ما وقف عليها. قال في الاختيارات: وجوز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة، كجعل الدور حوانيت والحكورة المشهورة. انتهى. قال ابن قندس: يريد بذلك أن كثيراً من الأوقاف كان بساتين، فأحكروها وجعلت بيوتاً وحوانيت، ولم ينكر ذلك العلماء الأعيان. انتهى. وما فضل من حاجة الموقوف عليه مسجداً كان أو غيره: من حصر وزيت وأنقاض وآلة جديدة، يجوز صرفه في مثله، لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له، ويجوز صرفه إلى فقير. نص عليه. واحتج بأن شيبة بن عثمان الحجبي كان يتصدق بخلقان الكعبة. وروي الخلال بإسناده أن عائشة أمرته بذلك ولأنه مال الله ولم يبق له مصرف، فصرف إلى المساكين.
"ويحرم حفر البئر وغرس الشجر بالمساجد" لأن البقعة مستحقة للصلاة فتعطيلها عدوان، فإن فعل طمث البئر وقلعت الشجرة. نص عليه. قال: غرست بغير حق ظالم غرس فيما لا يملك.
"ولعل هذا" أي: تحريم حفر البئر في المسجد.
"حيث لم يكن فيه مصلحة" قال في الإقناع: ويتوجه جواز حفر بئر إن كان فيه مصلحة ولم يحصل به ضيق. قال في الرعاية: لم يكره أحمد حفرها فيه.

(2/20)


باب الهبة
مدخل
...
باب الهبة
"وهي التبع بالمال في حال الحياة" خرج الوصية.
"وهي مستحبة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا" وهي أفضل من الوصية، لحديث أبي هريرة سئل النبي، صلى الله عليه وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا" رواه مسلم بمعناه.
"منعقدة بكل قول" يدل على الهبة بأن يقول: وهبتك أو أهديتك أو أعطيتك ونحوه.
"أو فعل يدل عليها" لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يهدي ويهدى إليه، ويعطي ويعطى، ويفرق الصدقات، ويأمر سعاته بأخذها وتفريقها، وكان أصحابه يفعلون ذلك، ولم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول، ولو كان شرطاً لنقل عنهم نقلاً متواتراً أو مشهوراً، ولأن دلالة الرضى بنقل الملك تقوم مقام الإيجاب والقبول.
"وشروطها ثمانية:"
"1- كونها من جائز التصرف" وهو الحر المكلف الرشيد.
"2- كونه مختاراً غير هازل" فلا تصح من مكره ولا هازل.
"3- كون الموهوب يصح بيعه" اختاره القاضي وقدمه في الفروع،

(2/21)


لأنه عقد يقصد به تمليك العين، أشبه البيع. قال في الكافي: وتجوز هبة الكلب وما يجوز الانتفاع به من النجاسات، لأنه تبرع فجاز في ذلك كالوصية، ولا تجوز في مجهول ولا عجوز عن تسليمه.
"4- كون الموهوب له يصح تمليكه" فلا تصح لحمل، لأن تمليكه تعليق على خروجه حياً، والهبة لا تقبل التعليق.
"5- كونه يقبل ما وهب له بقول أو فعل يدل عليه" لما تقدم.
"قبل تشاغلهما بما يقطع البيع عرفاً" على ما تقدم تفصيله.
"6- كون الهبة منجزة" فلا تصح معلقه كإذا قدم زيد فهذا لعمرو، لأنها تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع إلا تعليقها بموجب الواهب فيصح، وتكون وصية، وأما قوله صلى الله عليه وسلم، لأم سلمة - "إني قد أهديت إلى النجاشي حلةً، وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودةً علي، فإن ردت فهي لك" الحديث رواه أحمد - فوعد لا هبة.
"7- كونها غير مؤقتة" كوهبتكه شهراً أو سنة، لأنه تعليق لانتهاء الهبة، فلا تصح معه كالبيع.
"لكن لو وقتت بعمر أحدهما" كقوله جعلتها لك عمرك أو حياتك أو عمري.
"لزمت ولغى التوقيت" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه" رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالعمرى لمن وهبت له متفق عليه. وعن جابر أن رجلاً

(2/22)


من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها فماتت، فجاء إخوته، فقالوا نحن فيه شرع سواء. قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثاً رواه أحمد.
والرقبى: أن يقول: إن مت قبلي عادت إلي، وإن مت قبلك فهي لك. قال مجاهد: هي أن يقول: هي للآخر منى ومنك موتاً سميت رقبى، لأن كلاً منهما يرقب موت صاحبه. ففيها روايتان. إحداهما: هي لازمة لا تعود إلى الأول، لعموم الأخبار، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو له حياته ومماته" رواه أحمد ومسلم وفي حديث جابر مرفوعاً: "العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها" رواه الخمسة. وهو قول جابر بن عبد الله وابن عمر وابن عباس ومعاوية وزيد بن ثابت، وقضى بها طارق بالمدينة بأمر عبد الملك. قال في الشرح. ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة فلم يكن تقديره بحياته منافياً لحكم الأملاك، ولأنه شرط رجوعها على غير الموهوب له، وهو وارثه بعد ما زال ملك الموهوب له فلم يؤثر، كما لو شرط بعد لزوم العقد شرطاً ينافي مقتضاه. وعنه: ترجع إلى المعمر والمرقب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم" وسئل القاسم عنها، فقال: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم، وما أعطوا. وقال جابر: إنما العمرى الذي أجاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها متقق عليه. وأجيب عنه بأنه من قول جابر نفسه، فلا يعارض ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقول القاسم لا يقبل في مقابلة من

(2/23)


سمينا من الصحابة والتابعين، فكيف في مخالفة سيد المرسلين؟! قاله في الشرح.
"وكونها بغير عوض فإن كانت بعرض معلوم فبيع" يثبت فيها الخيار، والشفعة، وضمان العهدة. وعنه: يغلب فيها حكم الهبة، فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به، لقول عمر: من وهب هبةً أراد بها الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها رواه مالك في الموطأ. وعن أبي هريرة مرفوعاً "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها" 1 رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي. وقال أحمد: إذا وهب على وجه الإثابة فلا يجوز له إلا أن يثيبه منها.
"وبعوض مجهول فباطلة" كالبيع بثمن مجهول، فترد بزيادتها المتصلة والمنفصلة. وإن تلفت ضمنها ببدلها. وعنه: تصح، ويعطيه ما يرضيه، أو يردها، ويحتمل أن يعطيه قيمتها، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع، لما روى عن عمر. قاله في الكافي.
"ومن أهدى ليهدى له أكثر فلا بأس" لحديث "المستعذر يثاب من هبة" لغير النبي، صلى الله عليه وسلم2، لقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 3 ولما فيه من الحرص والمضنة.
ـــــــ
1 قوله: مالم يثبت منها، أي: مالم يعوض عنها. ومعنى الحديث أن للواهب الرجوع في هبته، وأنه إذا رجع ترد عليه هبته مالم يعوض عنها، وهو مذهب أبي حنيفة. انتهى. انظر حاشية السندي على سنن ابن ماجه والمناوي في فيض القدير.
2 انظر غاية المنتهى 3/12. بتحقيقنا ففيه الكثير من خصوصياته، صلى الله عليه وآله وسلم.
3 المدثر من الآية/ 6.

(2/24)


"ويكره رد الهبة وإن قلت" لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "لا تردوا الهدية" رواه أحمد.
"بل السنة أن يكافى أو يدعو" لحديث "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" رواه أحمد وغيره. وحكى أحمد في رواية مثنى عن وهب قال: ترك المكافآت من التطفيف، وقاله مقاتل.
"وإن علم أنه أهدى حياء وجب الرد" قاله ابن الجوزي. قال في الآداب: وهو قول حسن، لأن المقاصد في العقود عندنا معتبرة.

(2/25)


فصل وتملك الهبة بالعقد
لما روي عن علي وابن مسعود أنهما قالا: الهبة إذا كانت معلومة فهي جائزة قبضت أو لم تقبض فيصح تصرف الموهوب له فيها قبل القبض على المذهب. نص عليه. والنماء للمتهب. قاله في الإنصاف.
"وتلزم بالقبض بشرط أن يكون القبض بأذن الواهب" قال المروزي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة. وقال الصديق لما حضرته الوفاة لعائشة: يا بنية إني كنت نحلتك جاد1 عشرين وسقاً، ولو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث فاقتسموه على كتاب الله تعالى رواه مالك في الموطأ.
ـــــــ
1 قوله جاد عشرين: بتشديد الدال المهملة، أي: أعطاها ما يجد عشرين وسقا. أي: ما يحصل من ثمرته ذلك. والجد: صرام النخل.

(2/25)


وتبطل بموت متهب قبل قبضها، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "إني قد أهديت إلى النجاشي حلةً وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودةً علي، فإن ردت فهي لك" . قالت: فكان ما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة رواه أحمد.
"فقبض ما وهب بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك، وقبض الصبرة، وما ينقل بالنقل، وقبض ما يتناول بالتناول، وقبض غير ذلك بالتخلية" كقبض مبيع.
"ويقبل ويقبض لصغير ومجنون وليهما" وهو أب، أو وصيه، أو الحاكم، أو أمينه كالبيع والشراء. قال أحمد: لا أعرف للأم قبضاً. ولا يحتاح أب وهب موليه إلى توكيل، لانتفاء التهمة قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن الرجل إذا وهب لولده الطفل داراً بعينها، أو عبداً بعينه، وقبض له من نفسه، وأشهد عليه: أنها تامة، وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض. وصحح في المغني: أن الأب وغيره في هذا سواء لانتفاء التهمه هنا بخلاف البيع.
"ويصح أن يهب شيئاً ويستثني نفعه مدة معلومة" نحو شهر وسنة كالبيع.
"وأن يهب حاملاً، ويستثني حملها" كالعتق.
"وإن وهبه وشرط الرجوع متى شاء لزمت ولغى الشرط" لأنه شرط ينافيها، فتصح هي مع فساد الشرط، كالبيع بشرط أن لا يخسر.

(2/26)


"وإن وهب دينه لمدينه، أًو أبرأه منه، أو تركه له صح، ولزم بمجرده، ولو قبل حلوله" لأن تأجيله لا يمنع ثبوته في الذمة.
"وتصح البراءة ولو مجهولاً" لهما أو لأحدهما، لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين: "اقتسما وتوخيا الحق، واستهما، ثم تحالا" .
"ولا تصح هبة الدين لغير من هو عليه" لأنه غير مقدور على تسليمه "إلا إن كان ضامناً" فإنها تصح لتعلقه في ذمته.

(2/27)


فصل ولكل واهب أن يرجع في هبته قبل إقباضها
لبقاء ملكه مع الكراهة خروجاً من خلاف من قال: تلزم بالعقد، لحديث "العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه" متفق عليه. ولأنه يروى عن علي، وابن مسعود.
"ولا يصح الرجوع إلا بالقول" نحو رجعت في هبتي أو إرتجعتها، أو رددتها، لأن الملك ثابت للموهوب له يقيناً، فلا يزول إلا بيقين، وهو صريح الرجوع.
"وبعد إقباضها يحرم ولا يصح" لحديث ابن عباس مرفوعاً: "العائد في هبته كالكلب يقيء القيء، ثم يعود في قيئه" متفق عليه. قال أحمد في رواية: قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حراماً.
"ما لم يكن أباً فإن له أن يرجع" فيما وهبه لولده، قصد التسوية أو لا، لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" رواه الخمسة، وصححه الترمذي.

(2/27)


" بشروط أربعة":
"1- أن لا يسقط حقه من الرجوع" فإن أسقطه سقط.
"2- أن لا تزيد زيادة متصلة" كالسمن والتعلم فإن زادت فلا رجوع. وأما الزيادة المنفصلة فهي للابن، ولا تمنع الرجوع.
"3- أن تكون باقيةً في ملكه" لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره.
"4- أن لا يرهنها" الولد فإن رهنها أو حجر عليه لفلس سقط الرجوع، لما فيه من إسقاط حق المرتهن والغرماء.
"وللأب الحر أن يتملك من مال ولده ما شاء" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" رواه سعيد وابن ماجه، ورواه الطبراني في معجمه مطولاً وعن عائشة مرفوعاً: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" رواه سعيد والترمذي وحسنه.
"بشروط خمسة:"
"1- أن لا يضره" لحديث "لا ضرر ولا ضرار" ولأنه أحق بما تعلقت به حاجته.
"2- أن لا يكون في مرض موت أحدهما" المخوف فلا يصح فيه، لانعقاد سبب الإرث.
"3- أن لا يعطيه لولد آخر" نص عليه، لأنه ممنوع من التخصيص من مال نفسه فلأن يمنع من تخصيصه بما أخذه من مال ولده الآخر أولى.
"4- أن يكون التملك بالقبض مع القول أو النية" لأن القبض يكون للتملك وغيره فاعتبر ما يعين وجهه.

(2/28)


"5- أن يكون ما تملكه عيناً موجودة، فلا يصح أن يتملك ما في ذمته من دين ولده، ولا أن يبرئ نفسه" كإبرائه غريمه، لأن الولد لا يملكه إلا بقبضه.
"وليس لولده أن يطالبه بما في ذمته من الدين" وقيمة المتلف وغير ذلك، لحديث "أنت ومالك لأبيك" .
"بل إذا مات أخذه من تركته من رأس المال" لأنه حق ثابت عليه لا تهمة فيه، كدين الأجنبي، وله مطالبته بنفقته الواجبة، لفقره وعجزه عن التكسب، لضرورة حفظ النفس.

(2/29)


فصل يباح للإنسان أن يقسم ماله بين ورثته في حال حياته
على فرائض الله عز وجل، لعدم الجور فيها.
"ويعطي من حدث حصته وجوباً" ليحصل التعديل الواجب.
"ويجب عليه التسوية بينهم على قدر إرثهم" إقتداء بقسمة الله تعالى. وقياساً لحال الحياة على حال الموت. وسائر الأقارب في ذلك كالأولاد. قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى، وقال إبراهيم: كانوا يستحبون التسوية بينهم حتى في القبلة فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وما ذكر عن ابن عباس مرفوعاً: "سووا بين أولادكم ولو كنت مؤثراً لآثرت النساء" الصحيح أنه مرسل، ذكره في الشرح.
"فإن زوج أحدهم أو خصصه بلا إذن البقية حرم عليه" لقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث النعمان "لا تشهدني على جور" متفق عليه.

(2/29)


والجور حرام. وكان الحسن يكرهه، ويجيزه في القضاء، وأجازه مالك والشافعي، لخبر أبي بكر لما نحل عائشة ولنا حديث النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا" ؟ فقال: لا. فقال: "فأرجعه" متفق عليه. ذكره في الشرح.
"ولزمه أن يعطيهم حتى يستووا" نص عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" رواه مسلم.
"فإن مات قبل التسوية، وليس التخصيص بمرض موته المخوف ثبت للآخذ" فلا رجوع لبقية الورثة عليه. نص عليه، لقول الصديق: وددت لو أنك حزتيه وقول عمر: لا عطية إلا ما حازه الولد.. وهو قول أكثر أهل العلم. قاله في الشرح.
"وإن كان بمرض موته لم يثبت له شيء زائد عنهم إلا بإجازتهم" لأن حكمه كالوصية، وفي الحديث: "لا وصية لوارث" .
"ما لم يكن وقفاً، فيصح بالثلث كالأجنبي" احتج أحمد بحديث عمر، وتقدم في الوقف، وبأن الوقف لا يباع، ولا يورث، ولا يصير ملكاً للورثة. وقال أحمد: إن كان على طريق الأثرة1 فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال، أو به حاجة فلا بأس، لأن الزبير خص المردودة من بناته ذكره في الشرح.
ـــــــ
1 الأثرة، كما في اللسان: بفتح الهمزة والثاء الاسم من آثر يؤثر إيثارا إذا أعطى.

(2/30)


فصل في المرض المخوف وغيره:
"المرض غير المخوف كالصداع، ووجع الضرس" والرمد، وحمى ساعة، ونحوها
"تبرع صاحبه نافذ في جميع ماله كتصرف الصحيح" لأن مثل هذه لا يخاف منها في العادة.
"حتى ولو صار مخوفاً، ومات منه بعد ذلك" اعتبارا بحال العطية لأنه إذ ذاك في حكم الصحيح.
"والمرض المخوف كالبرسام" وهو: وجع في الدماغ يختل به العقل. وقال عياض: هو ورم في الدماغ يتغير منه عقل الإنسان ويهذي.
"وذات الجنب" قروح بباطن الجنب.
"والرعاف الدائم" لأنه يصفي الدم فتذهب القوة.
"والقيام المتدارك" أي: الإسهال معه دم، لأنه يضعف القوة. وأول فالج - وهو: داء معروف يرخي بعض البدن - وآخر سل، والحمى المطبقة، وحمى الربع، ومن أخذها الطلق مع ألم حتى تنجو، نص عليه. وما قال طبيبان مسلمان أنه مخوف.
"وكذلك" أي: وألحق بالمرض المخوف
"من بين الصفين وقت الحرب" وكل من الطائفتين مكافئ أو كان من المقهورة.

(2/31)


"أو كان باللجة وقت الهيجان" أي: ثوران البحر بريح عاصف، لأن الله وصف من في هذه الحالة بشدة الخوف، فقال: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} 1.
"أو وقع الطاعون ببلده" لأن توقع التلف من أولئك كتوقع المريض وأكثر. قال أبو السعادات فيه: هو المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهوى، فتفسد به الأمزجة والأبدان. وقال عياض: هو قروح تخرج من المغابن2 لا يلبث صاحبها، وتعم إذا ظهرت. وقال النووي في شرح مسلم: هو بثر وورم مؤلم جداً يخرج معه لهب، ويسود ما حوله، ويخضر، ويحمر حمرة بنفسجية، ويحصل معه خفقان القلب. انتهى. وعن أبي موسى مرفوعاً: "فناء أمتي بالطعن والطاعون" . فقيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: "وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة" رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني. وفي حديث عائشة "غدة كغدة البعير، المقيم به كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف" رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني.
"أو قدم للقتل أو حبس له" لظهور التلف وقربه.
"أو جرح جرحاً موحياً" أي: مهلكاً مع ثبات عقله لأن عمر، رضي الله عنه، لما جرح سقاه الطبيب لبناً فخرج من جرحه، فقال له الطبيب: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم ووصى، فاتفق الصحابة على قبول
ـــــــ
1 يونس من الآية/ 22.
2 المغابن: ج مغبن وهو: الإبط والرفع وما أطاف به، أي: بطن الفخذ عند الحالب من غبن الثوب إذا أثناه وعطفه، وهي معاطف الجلد أيضا.

(2/32)


عهده ووصيته وعلي، رضي الله عنه، بعد ضرب ابن ملجم أوصى وأمر ونهى فإن لم يثبت عقله فلا حكم لعطيته، بل ولا لكلامه.
"فكل من أصابه شيء من ذلك، ثم تبرع ومات نفذ تبرعه بالثلث فقط" أي: ثلث ماله عند الموت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادةً في أعمالكم" رواه ابن ماجة.
"للأجنبي فقط" لحديث: "لا وصية لوارث" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.
"وإن لم يمت" من مرضه المخوف.
"فكالصحيح" في نفوذ عطاياه كلها، وصحة تصرفه لعدم المانع.

(2/33)