منار السبيل في شرح الدليل

كتاب الظهار
مدخل
...
كتاب الظهار:
قال ابن المنذر. أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صريح الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي. وهو محرم، لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} 1 الآيات. نزلت في خويلة بنت مالك بن ثعلبه، حين ظاهر منها ابن عمها أوس بن الصامت فجاءت تشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجادله فيه، ويقول: "اتقي الله، فإنه ابن عمك" ، فما برحت حتى نزل القرآن. رواه أبو داود وصححه.
"وهو: أن يشبه امرأته، أو عضوا منها بمن تحرم عليه من رجل أو امرأة، أو بعضو منه. فمن قال لزوجته: أنت، أو: يدك علي كظهر، أو: كيد أمي" أو: كظهر أختي، أو عمتي، أو خالتي، ونحوها ممن تحرم عليه على التأبيد صار مظاهرا في قول أكثرهم، لأنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم.
"أو: كظهر، أو يد زيد" أو أبي أو أخي.
"أو: أنت علي كفلانة الأجنبية، أو أنت علي حرام، أو قال: الحل علي حرام، أو ما أحل الله لي" حرام.
"صار مظاهرا" روي ذلك عن عثمان وابن عباس، لأن هذه الألفاظ
ـــــــ
1 المجادلة من الآية/ 2.

(2/262)


صريحة في الظهار لا تحتمل غيره. وعنه: كناية يحتاج إلى نية. وعنه: يمين روى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود. وفي المتفق عليه عن ابن عباس، قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1 ذكره في الشرح وقال في الكافي: الثالثة أنه يرجع فيه إلى نيته: إن نوى اليمين كان يمينا، لأن ذلك يروى عن أبي بكر وعمر وعائشة، رضي الله عنهم.
"وإن قال: أنت علي كأمي، أو مثل أمي وأطلق" فلم ينو ظهارا ولا غيره.
"فظهار" نص عليه، لأنه المتبادر منه هذه الألفاظ.
"وإن نوى في الكرامة ونحوها" كالمحبة،
"فلا" يكون مظاهرا بل يدين، ويقبل حكما لاحتماله، وهو أعلم بمراده.
"وأنت أمي، أو مثل أمي" ليس بظهار إلا مع نية أو قرينة، لأنه في غير التحريم أظهر، فاحتمال هذه الصور لغير الظهار أكثر من احتمال الصور التي قبلها له، وكثرة الاحتمالات توجب اشتراط النية.
"أو: علي الظهار، أو: يلزمني، ليس بظهار إلا مع نية أو قرينة" دالة عليه: كأن يقولها حال خصومة أو غضب، لأنه يصير كناية فيه والقرينة تقوم مقام النية، ولأن لفظه يحتمله، وقد نواه به.
"وأنت علي كالميتة أو الدم، أو الخنزير يقع ما نواه من طلاق، أو ظهار، أو يمين" لأن لفظه يحتمله.
ـــــــ
1 الأحزاب من الآية/ 21.

(2/263)


"فإن لم ينو شيئا فظهار" كقوله: أنت علي حرام. وعنه: يمين. وقال في المغني: أكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار ليس بظهار، وهو قول: مالك وأبي حنيفة والشافعي. ووجه ذلك الآية المذكورة، ولأن التحريم يتنوع: منه ما هو بظهار، وبطلاق، وبحيض، وبإحرام، وصيام، فلا يكون التحريم صريحا في واحد منها، ولا ينصرف إليه بغير نية، كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق. انتهى. وإن قالت لزوجها: نظير ما يصير به مظاهرا منها فليس بظهار، لقوله تعالى: {... الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ...} 1 فخصهم بذلك. وعليها كفارته قياسا على الزوج. وروى الأثرم بإسناده عن عائشة بنت طلحة أنها قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي. فسألت أهل المدينة، فرأوا أن عليها الكفارة وروى سعيد أنها استفتت أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه، فتزوجته وأعتقت عبدا. وليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع قبل التكفير، وعليها التمكين لزوجها من وطئها قبل التكفير لأنه حق للزوج، فلا تمنعه كسائر حقوقه.
ـــــــ
1 المجادلة من الآية/ 2.

(2/264)


فصل يصح الظهار من كل من يصح طلاقه
...
فصل ويصح الظهار من كل من يصح طلاقه:
مسلما كان أو كافرا حرا كان أو عبدا، كبيرا أو مميزا يعقله، لأنه تحريم كالطلاق فجرى مجراه.
"منجزا، أو معلقا أو محلوفا به" كالطلاق.
"فإن نجزه لأجنبية" بأن قال لها: أنت علي كظهرأمي،
"أوعلقه بتزويجها" بأن قال: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو قال: النساء علي كظهر أمي،
"أو قال لها. أنت علي حرام ونوى أبدا: صح ظهارا" لقول عمر رضي الله عنه، في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، ثم تزوجها، قال: عليه كفارة الظهار رواه أحمد. ولأنها يمين مكفرة فصح عقدها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى. والآية خرجت مخرج الغالب.
"لا إن أطلق" فقال لأجنبية: أنت علي حرام، ولم ينو أبدا،
"أو نوى إذا" أي: أنها حرام عليه إذا، لأنه صادق في حرمتها عليه قبل عقد النكاح ويقبل منه دعوى ذلك حكما، لأنه الظاهر.
"ويصح الظهار" مطلقا غير مؤقت ويصح
"مؤقتا كـ: أنت علي كظهر أمي شهر رمضان، فإن وطئ فيه فمظاهر" عليه كفارته،

(2/265)


"وإلا فلا" أي: فيزول حكم الظهار بمضيه، لحديث سلمة بن صخر، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وفيه: ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أصاب فيه، فأمره بالكفارة ولم ينكر تقييده بخلاف الطلاق، فإنه يزيل الملك، وهذا يوقع تحريما يرفعه التكفير، أشبه الإيلاء.
"وإذا صح الظهار حرم على المظاهر الوطء ودواعيه قبل التكفير" لقوله تعالى: {... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا...} 1. وقوله: {... فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا...} 2. وقوله، صلى الله عليه وسلم: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به" رواه أهل السنن، وصححه الترمذي. ولأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه، كالطلاق والإحرام.
"فإن وطىء ثبتت الكفارة في ذمته" لقوله تعالى: {... ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ...} 1 الآية والعود: الوطء. نص عليه. ولا يجب أكثر من كفارة، لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يأمر سلمة بن صخر بأكثر منها.
"ولو مجنونا" بأن ظاهر، ثم جن فوطئ، لوجود العود.
"ثم لا يطأ حتى يكفر" للخبر السابق، ولبقاء التحريم.
"وإن مات أحدهما قبل الوطء فلا كفارة" لأنه لم يوجد الحنث، ويرثها كما بعد التكفير.
ـــــــ
1 المجادلة من الآية/ 3.
2 المجادلة من الآية/ 4.

(2/266)


فصل الكفارة فيه على الترتيب
...
فصل والكفارة فيه على الترتيب:
"عتق رقبة مؤمنة" كسائر الكفارات، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...} 1 نص على المؤمنة في كفارة القتل. وقسنا عليها سائر الكفارات، لأنها في معناها حملا للمطلق على المقيد.
"سالمة من العيوب المضرة في العمل" ضررا بينا، لأن المقصود تمليك العبد منفعته، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع العيب المذكور، كعمى وشلل يد، أو رجل أو قطع إحداهما، ونحوها، لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع.
"ولا يجزئ عتق الأخرس الأصم" لأنه ناقص بفقد حاستين تنقص قيمته بنقصها نقصا كثيرا، وكذا أخرس لا تفهم إشارته.
"ولا الجنين" لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا بعد.
"فإن لم يجد" رقبة، ولا مالا يشتريها به فاضلا عن حاجته، لنفقته وكسوته ومسكنه، وما لا بد له منه من مؤنة عياله ونحوه:
"صام شهرين متتابعين" للآية، والحديث.
"ويلزمه تبييت النية من الليل" وتعيينها لجهة الكفارة، لحديث "وإنما لكل امرئ ما نوى" .
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 92.

(2/267)


"فإن لم يستطع الصوم، للكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم ستين مسكينا" للآية ولأمره، صلى الله عليه وسلم، سلمة بن صخر بالإطعام حين أخبره بشدة شبقه وشهوته بقوله: وهل أصبت ما أصبت إلا من الصيام !. وأمر صلى الله عليه وسلم، أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته: إنه شيخ كبير ما به من صيام وقيس عليهما ما في معناهما.
"لكل مسكين مد بر" لأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة، رضي الله عنهم. قاله في الكافي.
"ونصف صاع من غيره" لما روى أحمد عن أبي يزيد المدني قال "جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للمظاهر: "أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر" . قال في الكافي: وهذا نص، ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام، فكان منها لكل فقير من التمر نصف صاع، كفدية الأذى. انتهى.
"ولا يجزئ الخبز" لخروجه عن الكيل والادخار أشبه الهريسة. وعنه: يجزئه، للآية، لأن مخرج الخبز قد أطعمهم، فعليها يعتبر أن يكون من مد بر فصاعدا.
"ولا غير ما يجزئ في الفطرة" لأن الكفارة وجبت طهرة للمكفر عنه، كما أن الفطرة طهرة للصائم فاستويا في الحكم. فإن عدمت الأصناف الخمسة أجزأ ما يقتات من حب وثمر، قياسا على الفطرة، ولقوله تعالى: {...مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} 1
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 89.

(2/268)


"ولا يجزئ العتق والصوم والإطعام إلا بالنية" لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" . ولأنه يختلف وجهه، فيقع تبرعا ونذرا وكفارة، فلا يصرفه إلى الكفارة إلا النية، ومحلها في العتق والإطعام معه، أو قبله بيسير.

(2/269)