منار
السبيل في شرح الدليل
كتاب النفقات
مدخل
مدخل
...
كتاب النفقات:
أي: ما يجب على الإنسان من النفقة بالنكاح
والقرابة والملك، وما يتعلق بذلك.
"يجب على الزوج ما لا غناء لزوجته عنه من
مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن بالمعروف" لقوله
تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}
1 الآية وهي: في سياق أحكام الزوجات. وعن جابر
مرفوعا: "اتقوا الله في النساء: فإنهن عوان
عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم
فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف" رواه مسلم وأبو داود. والمعروف: قدر
الكفاية. وأجمعوا على وجوب نفقة الزوجة على
الزوج إذا كانا بالغين، ولم تكن ناشزا. ذكره
ابن المنذر وغيره. ولأن الزوجة محبوسة لحق
الزوج فيمنعها ذلك من التصرف والكسب، فتجب
نفقتها عليه.
"ويعتبر الحاكم ذلك إن تنازعا بحالهما" جميعا،
يسارا وإعسارا لهما أو لأحدهما، لأنه أمر
يختلف باختلاف حال الزوجين، فرجع فيه إلى
اجتهاد الحاكم كسائر المختلفات. وقال تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 2 وقال النبي
صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 الطلاق من الآية/ 7.
2 البقرة من الآية/ 233.
(2/297)
"خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف" فاعتبر حالها. وقال تعالى:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية1
فاعتبر حاله. فاعتبار حالهما جمع بين
الدليلين. والشرع ورد بالإنفاق من غير تقدير
فيرد إلى العرف. ذكره في الشرح.
"وعليه مؤنة نظافتها من دهن وسدر وثمن ماء
الشراب، والطهارة من الحدث والخبث وغسل
الثياب" لأن ذلك كله من حوائجها المعتادة.
"وعليه لها خادم إن كانت ممن يخدم مثلها" لأن
ذلك من المعاشرة بالمعروف، ولأنه من حاجتها،
كالنفقة. ولا يلزمه أكثر من واحد، لأن خدمتها
في نفسها تحصل بالواحد.
"وتلزمه مؤنسة لحاجة" كخوف مكانها، وعدو تخاف
على نفسها منه، لأنه ليس من المعاشرة بالمعروف
إقامتها بمكان لا تأمن فيه على نفسها.
ـــــــ
1 الطلاق من الآية/ 7.
(2/298)
فصل والواجب عليه دفع الطعام في أول كل يوم:
عند طلوع شمسه، لأنه أول وقت الحاجة إليه فلا
يجوز تأخيره عنه.
"ويجوز دفع عوضه إن تراضيا" وكذا تعجيل النفقة
وتأخيرها عن وقت الوجوب، لأن الحق لا يعدوهما.
"ولا يملك الحاكم أن يفرض عوض القوت دراهم
مثلا إلا بتراضيهما" فلا يجبر من امتنع منهما.
قال في الهدي: أما فرض الدراهم: فلا أصل
(2/298)
له في كتاب ولا
سنة، ولا نص عليه أحد من الأئمة، لأنها معارضة
بغير الرضى عن غير مستقر. وفي الفروع: وأما مع
الشقاق والحاجة كالغائب مثلا فيتوجه الفرض
للحاجة إليه قطعا للنزاع. ولا تعتاض عن الواجب
الماضي بربوي، كحنطة عن خبز، ولو تراضيا عليه،
لأنه ربا.
"وفرضه ليس بلازم" لأنه فرض غير الواجب.
"ويجب لها الكسوة في أول كل عام" للآية
والخبر، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على
الدوام، فلزمه كالنفقة، فيعطيها كسوة السنة،
لأنه لا يمكن ترديد الكسوة شيئا فشيئا بل هو
شيء واحد يستدام إلى أن يبلى.
"وتملكها" أي النفقة والكسوة
"بالقبض" كما يملك رب الدين دينه بقبضه.
"فلا بدل لما سرق أو بلي" لأنها قبضت حقها منه
فلم يلزمه غيره.
"وإن انقضى العام، والكسوة باقية فعليه كسوة
للعام الجديد" اعتبارا بمضي الزمان دون حقيقة
الحاجة، كما أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه
بدلها، وكذا غطاء ووطاء وستارة يحتاج إليها.
واختار الشيخ تقي الدين، وتبعه ابن نصر الله،
وغيره: أنه كماعون الدار ومشط يجب بقدر
الحاجة، وعليه العمل.
"وإن مات أو ماتت قبل انقضائه" أي: قبل مضي
العام
"رجع عليها بقسط ما بقي" من العام، لتبين عدم
استحقاقه، كنفقة تعجلتها. وقدم في الكافي: لا
يرجع لأنه دفع ما استحق دفعه، فلم يرجع به
كنفقة اليوم.
(2/299)
"وإن أكلت معه
عادة، أو كساها بلا إذن" منها أو من وليها،
وكان ذلك بقدر الواجب عليه:
"سقطت" نفقتها وكسوتها عملا بالعرف. ومن غاب
عن زوجته مدة، ولم
ينفق عليها لزمته نفقة الزمن الماضي، ولو لم
يفرضها حاكم، لاستقرارها في ذمته، فلم تسقط
بمضي الزمان، كأجرة العقار، ولأن عمر، رضي
الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا
عن نسائهم يأمرهم بأن ينفقوا أويطلقوا، فإن
طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى قال ابن المنذر: ثبت
ذلك عن عمر. وكذا لو كان حاضرا ولم ينفق، لعذر
أو لا، لأنه حق يجب مع اليسار والإعسار.
(2/300)
فصل والرجعية مطلقا:
أي: سواء كانت حاملا أو لا، لها السكنى
والنفقة والكسوة، لأنها زوجة، لقوله تعالى:
{... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذَلِكَ...} 1 ولأنه يلحق طلاقه وظهاره،
أشبه ما قبل الطلاق.
"والبائن" الحامل كالزوجة، لقوله تعالى: {...
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2
وفي بعض أخبار فاطمة بنت قيس: "لا نفقة لك،
إلا أن تكوني حاملا" رواه أحمد وأبو داود
والنسائي، ورواه مسلم بمعناه.
"والناشز الحامل" كالزوجة، لأن النفقة للحمل،
فلا تسقط بنشوز أمه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 228.
2 الطلاق من الآية/ 6.
(2/300)
"والمتوفى عنها
زوجها حاملا كالزوجة في النفقة، والكسوة،
والمسكن" من حصة الحمل من التركة إن كانت،
لأنه موسر فلا تجب نفقته على غيره، وإلا فعلى
وارثه الموسر للقرابة.
"ولا شيء لغير الحامل منهن" أي: البائن،
والناشز، والمتوفى عنها، لمفهوم ما سبق. وأما
قول عمر، ومن وافقه في المبتوتة: فقد خالفه
علي وابن عباس ومن وافقهما، والحجة معهما.
ذكره في الشرح. ولأن النفقة للحمل فتجب
بوجوده، وتسقط بعدمه، وتسقط بمضي الزمان كسائر
الأقارب. قال المنقح: ما لم تستدن بإذن حاكم،
أو تنفق بنية الرجوع.
"ولا" نفقة
"لمن سافرت لحاجتها، أو لنزهة أو زيارة ولو
بإذن الزوج" لتفويتها التمكين لحظ نفسها وقضاء
أربها، إلا أن يكون مسافرا معها متمكنا منها.
"وإن ادعى نشوزها، أو أنها أخذت نفقتها
وأنكرت، فقولها بيمينها" لأن الأصل عدم ذلك.
واختار الشيخ تقي الدين وابن القيم في النفقة:
القول قول من يشهد له العرف، لأنه تعارض الأصل
والظاهر، والغالب أنها تكون راضية، وإنما
تطالبه عند الشقاق.
"ومتى أعسر بنفقة المعسر، أو كسوته أو مسكنه،
أو صار لا يجد النفقة إلا يوما دون يوم، أو
غاب الموسر وتعذرت عليها النفقة بالاستدانة
وغيرها، فلها الفسخ فورا ومتراخيا" للحوق
الضرر الغالب بذلك بها، إذ البدن لا يقوم بدون
كفايته، وهو قول عمر وعلي وأبي هريرة،
(2/301)
لقوله تعالى:
{... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ...} 1 وقد تعذر الإمساك بالمعروف
فيتعين التسريح بالإحسان، لحديث: "لا ضرر ولا
ضرار" وعن أبي هريرة مرفوعا: في الرجل لا يجد
ما ينفق على امرأته. قال: "يفرق بينهما" رواه
الدارقطني. وسئل ابن المسيب عن الرجل لا يجد
ما ينفق على امرأته، أيفرق بينهما؟ قال: نعم،
قيل: سنة؟ قال: سنة. وقال ابن المنذر: ثبت أن
عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن
نسائهم يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا وقد سبق.
ولأن جواز الفسخ بذلك أولى من العنة. لأن
الضرر فيه أكثر.
"ولا يصح بلا حاكم" لأنه فسخ مختلف فيه، فلم
يجز بغير الحاكم، كالفسخ للعنة.
"فيفسخ بطلبها، أو تفسخ بأمره" لأنه لحقها فلم
يجز بدون طلبها.
"وإن امتنع الموسر من النفقة أو الكسوة، وقدرت
على ماله: فلها الأخذ منه بلا إذنه بقدر
كفايتها، وكفاية ولدها الصغير" لأن هندا بنت
عتبة، قالت: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل
شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي،
فقال صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف" متفق عليه. فرخص لها في أخذ تمام
الكفاية بغير علمه، لأنه موضع حاجة إذ لا غنى
عن النفقة، ولا قوام إلا بها، وتتجدد بتجدد
الزمن فتشق المرافعة بها إلى الحاكم،
والمطالبة بها كل يوم.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 229.
(2/302)
باب نفقة الأقارب والمماليك
مدخل
...
باب نفقة الأقارب والمماليك:
من الآدميين والبهائم. أجمعوا على وجوب نفقة
الوالدين والمولودين. حكاه ابن المنذر وغيره،
لقوله تعالى: {... وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً...} 1 ومن الإحسان إليهما: الإنفاق
عليهما عند حاجتهما. وقال تعالى: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 2 وعن عائشة
مرفوعا: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن
ولده من كسبه" رواه أبو داود. ولحديث هند
المتقدم
"ويجب على القريب نفقة أقاربه، وكسوتهم،
وسكناهم بالمعروف" لقوله تعالى: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 2 ثم قال:
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} 2 فأوجب
على الأب نفقة الرضاع، ثم أوجب على الوارث مثل
ذلك. وروى أبو داود أن رجلا سأل النبي، صلى
الله عليه وسلم، من أبر؟ قال: "أمك وأباك،
وأختك وأخاك" وفي لفظ "ومولاك الذي هو أدناك
حقا واجبا، ورحما موصولا" وقضى عمر رضي الله
عنه، على بني عم منفوس بنفقته احتج به أحمد.
ـــــــ
1 الإسراء من الآية/ 23.
2 البقرة من الآية/ 233.
(2/303)
"بثلاثة شروط"
"الأول: أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب"
لأنها مواساة، فلا تستحق مع الغناء عنها،
كالزكاة،
"الثاني أن يكون المنفق غنيا. إما بماله أو
كسبه، وأن يفضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه
يومه وليلته" وكسوتهم وسكناهم، لحديث جابر
مرفوعا: "إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه،
فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى
قرابته" وفي لفظ "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"
صححه الترمذي. ولأن وجوب نفقة القريب على سبيل
المواساة فيجب أن تكون في الفاضل عن الحاجة
الأصلية.
"الثالث أن يكون وارثا لهم بفرض أو تعصيب"
للآية.
"إلا الأصول والفروع فتجب لهم وعليهم مطلقا"
أي: سواء ورثوا أو لا، لعموم ما تقدم. ويدخل
الأجداد وأولاد الأولاد في اسم الآباء
والأولاد. قال تعالى: {... مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ...} 1 وقال: {... يَا بَنِي
آدَمَ...} 2 {... يَا بَنِي إِسْرائيلَ...} 3
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحسن "إن
ابني هذا سيد" ولأن بينهما قرابة توجب العتق،
ورد الشهادة، أشبه الولد والوالدين الأقربين.
"وإذا كان للفقير ورثة دون الأب فنفقته على
قدر إرثهم" منه، لأن الله تعالى رتب النفقة
على الإرث بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ...} 4 فوجب أن يرتب مقدار النفقة على
مقدار الإرث.
ـــــــ
1 الحج من الآية/ 78.
2 الأعراف من الآية/ 31 وغيرها.
3 البقرة من الآية/ 40 وغيرها.
4 البقرة من الآية/ 233.
(2/304)
"ولا يلزم
الموسر منهم مع فقر الآخر سوى قدر إرثه" لأن
ذلك القدر هو الواجب عليه يسار الآخر، فلا
يتحمل عن غيره إذا لم يجد الغير ما يجب عليه.
"ومن قدر على الكسب أجبر" عليه.
"لنفقة من تجب عليه" نفقته،
"من قريب وزوجة" لأن تركه مع قدرته عليه تضيع
لمن يعول، وهو منهي عنه. ولا تجبر امرأة على
نكاح، لنفقة على قريبها الفقير.
"ومن لم يجد ما يكفي الجميع بدأ بنفسه" لحديث
"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" .
"فزوجته" لأن نفقتها معاوضة، فقدمت على ما وجب
مواساة، ولذلك تجب مع يسارهما وإعسارهما بخلاف
نفقة القريب.
"فرقيقه" لوجوبها مع اليسار والإعسار، كنفقة
الزوجة.
"فولده" لوجوب نفقته بالنص.
"فأبيه" لانفراده بالولاء، واستحقاقه الأخذ من
مال ولده، وقد أضافه إليه بقوله عليه الصلاة
والسلام "أنت ومالك لأبيك" .
"فأمه" لأن لها فضيلة الحمل والرضاع والتربية.
وقيل: الأم أحق، لما روي أن رجلا قال: يا رسول
الله: من أبر؟ قال: "أمك" . قال: ثم من؟ قال:
"أمك" . قال: ثم من؟ قال: "أمك" . قال: ثم من؟
قال: "أباك" متفق عليه. وقيل: هما سواء
لتساويهما في القرابة.
"فولد ابنه، فجده، فأخيه، ثم الأقرب فالأقرب"
لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت:
يا رسول الله: من أبر؟ قال:
(2/305)
"أمك" . قلت:
ثم من؟ قال: "أمك" . قلت: ثم من؟ قال "أمك" .
قلت: ثم من؟ قال: "أباك، ثم الأقرب فالأقرب"
رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن طارق
المحاربي مرفوعا: "إبدأ بمن تعول: أمك، وأباك،
وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك" رواه النسائي.
ولأن النفقة صلة وبر، ومن قرب أولى بالبر ممن
بعد.
"ولمستحق النفقة أن يأخذ ما يكفيه من مال من
تجب عليه بلا إذنه" لحديث هند السابق. وقيس
عليه سائر من تجب له النفقة.
"وحيث امتنع منها زوج أو قريب، وأنفق أجنبي
بنية الرجوع رجع" لأنه قام عنه بواجب، كقضاء
دينه.
"ولا نفقة مع اختلاف الدين" بقرابة، ولو من
عمودي نسب، لأنهما لا يتوارثان.
"إلا بالولاء" فتجب للعتيق على معتقه بشرطه،
وإن باينه في دينه، لأنه يرثه مع ذلك، فدخل في
عموم قوله تعالى: {... وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْلُ ذَلِكَ...} 1.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 233.
(2/306)
فصل وعلى السيد نففة مملوكه وكسوته ومسكنه:
لحديث أبي هريرة مرفوعا: "للمملوك طعامه
وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا
يطيق" رواه أحمد ومسلم والشافعي في مسنده.
وأجمعوا
(2/306)
على أن نفقة
المملوك على سيده، ولأنه لا بد له من نفقة،
ومنافعه لسيده، وهو أحق الناس به، فوجبت عليه
نفقته كبهيمته.
"وتزويجه إن طلب" أو بيعه، لقوله تعالى: {...
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ...} 1.
"وله أن يسافر بعبده المزوج وأن يستخدمه
نهارا" ويمكنه من الإستمتاع بها ليلا.
"وعليه إعفاف أمته: إما بوطئها، أو تزويجها،
أو بيعها" إزالة لضرر الشهوة عنها.
"ويحرم أن يضربه على وجهه" لحديث ابن عمر
مرفوعا: "من لطم غلامه فكفارته عتقه" رواه
مسلم.
"أو يشتم أبويه ولو كافرين" قال أحمد: لا يعود
لسانه الخنى والردى2 ولا يدخل الجنة سيئ
الملكة، وهو: الذي يسيء إلى مماليكه3
"أو يكلفه من العمل ما لا يطيق" لما تقدم. وفي
حديث أبي ذر "ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن
كلفتموهم فأعينوهم عليه" متفق عليه.
"ويجب أن يريحه وقت القيلولة، ووقت النوم،
والصلاة المفروضة" لأنه العادة، ولأن تركه
إضرار بهم. وفي الحديث "لا ضرر ولا ضرار" .
"وتسن مداواته إن مرض" إزالة للضرر عنه.
ـــــــ
1 النور من الآية/ 32.
2 الخنى: الفاحش من الكلام.
3 قال في اللسان: وفي الحديث "لا يدخل الجنة
سيئ الملكة" أي: الذي يسيء صحبة المماليك.
(2/307)
"وأن يطعمه من
طعامه" ويلبسه من لباسه، لحديث أبي ذر مرفوعا:
"هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم
فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل،
وليلبسه مما يلبس" الحديث، متفق عليه. وعن أبي
هريرة مرفوعا: "إذا أتى أحدكم خادمة بطعامه،
فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو
أكلة أو أكلتين، فإنه ولي حره وعلاجه" رواه
الجماعة. وعن أنس قال: كان عامة وصية رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، حين حضرته الوفاة
وهو يغرغر بنفسه: "الصلاة، وما ملكت أيمانكم"
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
"وله تقييده إن خاف عليه" إباقا. نص عليه.
وقال: يباع أحب إلي.
"وتأديبه" إن أذنب، ولا يجوز بلا ذنب. ويستحب
العفو عنه مرة أو مرتين
"ولا يصح نفله إن أبق" لحديث جرير مرفوعا
"أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة" وفي لفظ
"إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة" رواه مسلم.
"وللإنسان تأديب زوجته وولده ولو مكلفا بضرب
غير مبرح" إن أذنبوا، لحديث "لا يجلد فوق عشرة
أسواط إلا في حد من حدود الله" رواه الجماعة
إلا النسائي.
"ولا يلزمه بيع رقيقه مع قيامه بحقوقه" لأن
الملك للسيد، والحق له، فلا يجبر على بيعه،
كما لا يجبر على طلاق زوجته مع قيامه بما يجب
لها. فإن لم يقم بحقه وطلب بيعه، لزمه إجابته
إزالة للضرر. وفي الخبر
(2/308)
"عبدك يقول:
أطعمني، وإلا فبعني. وامرأتك تقول: أطعمني، أو
طلقني" رواه أحمد والدارقطني بمعناه.
(2/309)
فصل وعلى مالك البهيمة إطعامها وسقيها:
لحديث ابن عمر مرفوعا: "عذبت امرأة في هرة
حبستها حتى ماتت جوعا، فلا هي أطعمتها، ولا هي
أرسلتها تأكل من خشاش الأرض" متفق عليه.
"فإن امتنع أجبر" أي: أجبره الحاكم لقيامه
مقام الممتنع من أداء الواجب، كقضاء دينه.
"فإن أبى أو عجز: أجبر على بيعها، أو إجارتها،
أو ذبحها إن كانت تؤكل" إزالة للضرر عنها.
لقوله، صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"
ولأنها تتلف إذا تركت بلا نفقة. وإضاعة المال
منهي عنها.
"ويحرم لعنها" لحديث عمران أن النبي، صلى الله
عليه وسلم، كان في سفر، فلعنت امرأة ناقة،
فقال: "خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة" .
فكأني أراها الآن تمشي في الناس لا يعرض لها
أحد وحديث أبي برزة "لا تصاحبنا ناقة عليها
لعنة" رواهما أحمد ومسلم.
"وتحميلها مشقا" لما في ذلك من تعذيب الحيوان
والإضرار به.
"وحلبها ما يضر ولدها" لأن لبنها مخلوق له،
أشبه ولد الأمة، ولعموم حديث "لا ضرر ولا
ضرار" .
"وضربها في وجهها ووسمها فيه" لأنه، صلى الله
عليه وسلم، لعن من وسم، أو ضرب الوجه، ونهى
عنه ذكره في الفروع.
(2/309)
"وذبحها إن
كانت لا تؤكل" لأنه إضاعة مال.
"ويجوز استعمالها في غير ما خلقت له" كبقر
لركوب وحمل، وإبل وحمر لحرث، لأن مقتضى الملك
جواز الانتفاع بها فيما يمكن، وهذا منه كالذي
خلقت له، وبه جرت عادة بعض الناس. وحديث:
بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها، إذ قالت:
إني لم أخلق لذلك. إنما خلقت للحرث متفق عليه.
أي: هو معظم النفع، ولا يلزم منه منع غيره.
(2/310)
باب الحضانة
مدخل
...
باب الحضانة:
تجب لحفظ صغير، ومعتوه، ومجنون، لأنهم يهلكون
بتركها ويضيعون، فلذلك وجبت إنجاء من الهلكة.
"وهي حفظ الطفل غالبا عما يضره والقيام
بمصالحه: كغسل رأسه وثيابه ودهنه وتكحيله
وربطه في المهد ونحوه وتحريكه لينام" ونحو ذلك
مما يصلحه.
"والأحق بها: الأم" لشفقتها. قال في الشرح: لا
نعلم فيه خلافا. ولقوله، صلى الله عليه وسلم
"أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه أبو داود. وقضى
أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، بعاصم بن عمر
بن الخطاب لأمه أم عاصم وقال لعمر: ريحها،
وشمها، ولطفها، خير له منك رواه سعيد. واشتهر
ذلك في الصحابة فكان إجماعا. قاله في الكافي.
وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الأم إذا
تزوجت سقطت حضانتها. ذكره في الشرح.
(2/310)
"ولو بأجرة
مثلها مع وجود متبرعة" كالرضاع.
"ثم أمهاتها القربى فالقربى" لأنهن في معنى
الأم، لتحقق ولادتهن وقد قضى أبو بكر على عمر،
رضي الله عنهما، أن يدفع ابنه إلى جدته وهي
بقباء، وعمر بالمدينة قاله أحمد.
"ثم الأب" لأنه أصل النسب وأحق بولاية المال.
"ثم أمهاته" لأنهن يدلين بعصبة قريبة.
"ثم الجد" لأب، لأنه في معنى الأب.
"ثم أمهاته" القربى فالقربى، لإدلائهن بعصبة.
"ثم الأخت لأبوين" لقوة قرابتها ومشاركتها له
في النسب.
"ثم لأم" لإدلائها بالأم كالجدات.
"ثم لأب" لأنها تقوم مقام الشقيقة وترث
ميراثها.
"ثم الخالة لأبوين، ثم لأم ثم لأب" لإدلاء
الخالات بالأم، وعنه أن الخالة تقدم على الأب،
لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخالة بمنزلة
الأم" متفق عليه.
"ثم العمات كذلك" أي: تقدم العمة لأبوين، ثم
لأم، ثم لأب، لأنهن يدلين بالأب
"ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمات أبيه"
كذلك لأنهن نساء من أهل الحضانة، فقدمن على من
بدرجتهن من الرجال: كتقديم الأم على الأب.
"ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه
وعماته" على التفصيل المتقدم.
(2/311)
"ثم لباقي
العصبة: الأقرب فالأقرب" فتقدم الإخوة، ثم
بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم، ثم أعمام الأب،
ثم بنوهم، وهكذا. قال في الشرح: وللرجال من
العصبات مدخل في الحضانة لأنه، صلى الله عليه
وسلم، لم ينكر على علي وجعفر مخاصمتهما زيدا
في حضانة ابنة حمزة انتهى بمعناه.
"ولا حضانة لمن فيه رق" ولو قل، لأنها ولاية،
وليس هو من أهلها.
"ولا لفاسق" ظاهرا، لأنه لا يوثق به في أداء
واجب الحضانة، ولا حظ للولد في حضانته، لأنه
ربما نشأ على طريقته.
"ولا لكافر على مسلم" لأنه أولى بذلك من
الفاسق.
"ولا لمتزوجة بأجنبي" من المحضون، للحديث
السابق.
"ومتى زال المانع، أو أسقط الأحق حقه ثم عاد،
عاد الحق له" في الحضانة لقيام سببها مع زوال
المانع.
"وإن أراد أحد الأبوين السفر ويرجع، فالمقيم
أحق بالحصانة" إزالة لضرر السفر.
"وإن كان لسكنى - وهو: مسافة قصر - فالأب أحق"
إن كان الطريق آمنا، لأنه الذي يقوم بتأديبه
وتخريجه وحفظ نسبه. فإذا لم يكن الولد في بلد
الأب ضاع.
"ودونها" أي: دون مسافة القصر.
"فالأم أحق" لأنها أتم شفقة، ولأن مراعاة الأب
له ممكنة، ولما
(2/312)
سبق عن أبي
بكر، رضي الله عنه. وهذا كله إن لم يقصد
المسافر به مضارة الآخر، وإلا فالأم أحق، كما
ذكره الشيخ تقي الدين وابن القيم.
(2/313)
فصل وإذا بلغ الصبي سبع سنين عاقلا خير بين
أبويه:
لحديث أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه
وسلم، خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد
والشافعي. وعنه أيضا جاءت امرأة إلى النبي،
صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله: إن
زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر
أبي عنبة، وقد نفعني. فقال رسول الله، صلى
الله عليه وسلم: "هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد
أيهما شئت" . فأخذ بيد أمه، فانطلقت به رواه
أبو داود والنسائي. وعن عمر أنه: خير غلاما
بين أبيه وأمه رواه سعيد. وعن عمارة الحربي
خيرني علي بين أمي وعمي، وكنت ابن سبع أو ثمان
ولأن التقديم في الحضانة لحق الولد، فيقدم من
هو أشفق. واختياره دليل ذلك. قال في الشرح:
ولأنه إجماع الصحابة.
"فإن اختار أباه كان عنده ليلا ونهارا" ليحفظه
ويعلمه ويؤدبه.
"ولا يمنع من زيارة أمه، ولا هي من زيارته"
لما فيه من الإغراء بالعقوق وقطيعة الرحم.
"وإن اختار أمه كان عندها ليلا" لأنه وقت
الانحياز إلى المساكن،
"وعند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه" لئلا يضيع،
ولأن النهار وقت التصرف في الحوائج، وعمل
الصنائع.
(2/313)
"وإذا بلغت
الأنثى سبعا كانت عند أبيها وجوبا إلى أن
تتزوج" لأنه أحفظ لها وأحق بولايتها،
ولمقاربتها الصلاحية للتزويج. وإنما تخطب من
أبيها، لأنه وليها، وأعلم بالكفء. ولم يرد
الشرع بتخييرها. ولا يصح قياسها على الغلام،
لأنه لا يحتاج إلى ما تحتاج إليه الأنثى.
"ويمنعها" الأب
"ومن يقوم مقامه من الإنفراد" بنفسها خشية
عليها، لأنه لا يؤمن عليها دخول المفسدين.
قاله في الكافي.
"ولا تمنع الأم من زيارتها، ولا هي من زيارة
أمها إن لم يخف الفساد" وتمنع من الخلوة بها
إن خيف أن تفسد قلبها. قاله في الواضح وغيره.
"والمجنون، ولو أنثى عند أمه مطلقا" صغيرا كان
أو كبيرا، لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره،
والنساء أعرف بذلك، وأمه أشفق عليه من غيرها.
"ولا يترك المحضون بيد من لا يصونه ويصلحه"
لأن وجوده كعدمه فتنتقل الحضانة عنه إلى من
يليه. قال الشيخ تقي الدين: ولو كان الأب
عاجزا عن حفظها، أو يهمله لاشتغاله عنه، أو
قلة دينه، والأم قائمة بحفظها: قدمت. وكذا إ
ذا تركها عند ضرة أمها لا تعمل مصلحتها، بل
تؤذيها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها:
فالحضانة هنا للأم قطعا انتهى.
(2/314)
|