منار
السبيل في شرح الدليل
كتاب الجنايات
مدخل
...
كتاب الجنايات:
"وهي: التعدي على البدن بما يوجب قصاصا أو
مالا" وأجمعوا على تحريم القتل بغير حق، لقوله
تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ...}
الآية1 وحديث ابن مسعود مرفوعا: "لا يحل دم
امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول
الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس
بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة" متفق
عليه. فمن قتل مسلما متعمدا فسق، وأمره إلى
الله تعالى، وتوبته مقبولة عند أكثر العلم،
لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ} 2.
"والقتل ثلاثة أقسام:" عمد، وشبه عمد، وخطأ،
هذا تقسيم أكثر أهل العلم، وهو مروي عن عمر
وعلي. وأنكر مالك شبه العمد، وجعله من قسم
العمد، قال في الشرح: ولنا قوله، صلى الله
عليه وسلم، "ألا إن دية الخطإ شبه العمد ما
كان بالسوط والعصا: مائة من الإبل: منها
أربعون في بطونها أولادها" رواه أبو داود.
"أحدهما: العمد العدوان، ويختص القصاص به" فلا
يثبت في غيره
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 92.
2 النساء من الآية/ 48.
(2/315)
"أو الدية
فالولي مخير" لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية 1 وقال
النبي، صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل
فهو بخير النظرين إما أن يقتل، وإما أن يفدي"
متفق عليه فإن اختار القود فله أخذ الدية
والصلح على أكثر منها. قال الموفق: لا أعلم
فيه خلافا. وليست هذه الدية هي الواجبة بالقتل
بل بدل عن القصاص، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده مرفوعا: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء
المقتول، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا
الدية، وهي: ثلاثون حقة وثلاثون جذعة، وأربعون
خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد
العقل" 2 رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، وروي
أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص
والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو
عنه، فأبى ذلك وقتله.
وإن عفا مطلقا فلم يقيد بقصاص، ولا دية فله
الدية، لانصراف العفو إلى القصاص دون الدية،
لأنه المطلوب الأعظم في باب القود، فتبقى
الدية على أصلها.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 178.
2 الحقة: بكسر الحاء وتشديد القاف والجمع
حقاق: وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في
الرابعة. والجذعة: بفتح الجيم والدال: وهي
التي أتى عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة.
والخلفة بكسر اللام: الحاملة.
وكلمة: العقل في الأصل: القتل. والصحيح ما
أثبتناه. والمراد بالعقل هنا: الدنة، ولما كان
القاتل يجمعها ويعقلها بفناء أولياء
المقتول.... منه سميت عقلا.
(2/316)
"وعفوه مجانا
أفضل" لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى} 1 وفي الحديث الصحيح "وما زاد
الله عبدا بعفو إلا عزا"
"وهو: أن يقصد الجاني من يعلمه آدميا معصوما
فيقتله بما يغلب علي الظن موته به" محددا كان
أو غيره، فلا قصاص إن لم يقصد القتل، أو قصده
بما لا يقتل غالبا.
"فلو تعمد جماعة قتل واحد قتلوا جميعا إن صلح
فعل كل واحد منهم للقتل، وإن جرح واحد منهم
جرحا والآخر مائة" لإجماع الصحابة. وروى سعيد
بن المسيب عن عمر أنه قتل سبعة من أهل صنعاء
قتلوا رجلا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء
لقتلتهم به جميعا وعن علي أنه قتل ثلاثة قتلوا
رجلا وعن ابن عباس أنه قتل جماعة قتلوا واحدا
ولم يعرف لهم مخالف، فكان إجماعا. ولأن فعل كل
واحد لو انفرد لوجب به القصاص، ولأن القتل
عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت له على
الجماعة، كحد القذف. ويفارق الدية فإنها
تتبعض، والقصاص لا يتبعض. وإن ترتبت الجناية
كأن قطع أحدهما يده، ثم ذبحه الآخر فعلى الأول
ما على قاطع اليد منفردة، والثاني هو القاتل،
لأنه قطع سراية القطع، كما لو اندمل القطع، ثم
قتله. وإن كان قطع اليد آخر فالأول هو القاتل،
ولا ضمان على قاطع اليد، لأنه صار في حكم
الميت، ولا حكم لكلامه في وصيته ولا غيرها.
وإن أجافه جائفة يتحقق الموت منها، إلا أن
الحياة فيه مستقرة، ثم ذبحه آخر فالقاتل
الثاني، لأن حكم الحياة باق، كما لو قتل مريضا
مأيوسا منه. ولهذا
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 237.
(2/317)
أوصى عمر بعد
ما أيس منه فقبلت الصحابة عهده، وأجمعوا على
قبول وصاياه. وإن ألقى رجلا من شاهق، فتلقاه
آخر بسيف فقده قبل وقوعه: فالقصاص عليه، لأنه
مباشر للإتلاف، فانقطع حكم المتسبب، كالحافر
مع الدافع. قاله في الكافي.
"ومن قطع أو بط سلعة خطوة من مكلف بلا إذنه،
أو من غير مكلف بلا إذن وليه فمات فعليه
القود" لتعديه بذلك بغير إذنه.
"الثاني: شبه العمد" ويسمى خطأ العمد، وعمد
الخطإ لاجتماع الخطأ. والعمد فيه، لأنه عمد
الفعل، وأخطأ في القتل. قاله في المغني.
"وهو: أن يقصده بجناية لا تقتل غالبا ولم
يجرحه بها" كمن ضرب شخصا في غير مقتل بسوط، أو
عصا، أو حجر صغير، أو لكزه بيده، أو صاح بعاقل
اغتفله، ونحو ذلك فمات، فلا قود عليه، والدية
على العاقلة في قول أكثر أهل العلم. قاله في
الشرح، لقوله، صلى الله عليه وسلم "ألا إن في
قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا: مائة من
الإبل" رواه أبو داود وحديث أبي هريرة اقتتلت
امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر
فقتلتها، وما في بطنها، فقضى النبي، صلى الله
عليه وسلم، أن دية جنينها عبد أو وليدة، وقضى
بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه. ويحمل
الحجر على الصغير، والعصا على ما دون عمود
الفسطاط جمعا بين الأخبار، لأنه صلى الله عليه
وسلم لما سئل عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود
فسطاط فقتلتها وجنينها: قضى في الجنين بغرة،
وقضى بالدية على عاقلتها1 رواه أحمد ومسلم.
قال
ـــــــ
1 الغرة: بضم الغين وتشديد الراء وفتحها.
أصلها: البياض في وجه الفرس وهي هنا: العبد أو
الأمة: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله.
(2/318)
في الشرح:
والعاقلة لا تحمل العمد فدل على أنها التي
تتخذها العرب لبيوتها وفيها دقه.
"فإن جرحه، ولو جرحا صغيرا قتل به" لأن له
مورا وسراية في البدن. وفي البدن مقاتل خفية،
أشبه ما لو غرزه في مقتل. قاله في الكافي.
ولأن الظاهر موته به.
"الثالث: الخطأ. وهو: أن يفعل ما يجوز له فعله
من دق، أو رمي صيد، أو نحوه" كهدف وغرض فيقتل
إنسانا.
"أو" رمى من يظنه
"مباح الدم" كحربي ومرتد وزان محصن:
"فيبين آدميا معصوما" لم يقصده بالقتل فيقتله.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن قتل الخطأ أن
يرمي شيئا فيصيب غيره. انتهى. وعمد الصغير
والمجنون كخطأ المكلف، لأنه لا قصد لهما. قال
في الشرح: ولا خلاف أنه لا قصاص على صبي،
ومجنون، ومن زال عقله بسبب يعذر فيه.
"ففي القسمين الأخيرين" وهما: شبه العمد
والخطأ
"الكفارة على القاتل والدية على عاقلته" لقوله
تعالى: {... وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ...} 1 وللأحاديث
السابقة. قال في الشرح: ولا قصاص في شيء من
هذا، لأن الله لم يذكره.
"ومن قال لإنسان: اقتلني أو اجرحني، فقتله أو
جرحه: لم يلزمه شيء"
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 92.
(2/319)
نص عليه، لإذنه
في الجناية عليه، فسقط حقه منها، كما لو أمره
بإلقاء متاعه في البحر ففعل.
"وكذا لو دفع لغير مكلف آلة قتل، ولم يأمره
به" أي: القتل فقتل بالآلة لم يلزم دافع الآلة
شيء، لأنه لم يأمر بالقتل، ولم يباشره.
(2/320)
باب شروط القصاص في النفس:
"وهي أربعة:"
"1- تكليف القاتل" لأن القصاص عقوبة مغلظة،
فلا تجب على غير المكلف:
"فلا قصاص على صغير، ومجنون" ونائم، لحديث
"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن
المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ" .
"بل الكفارة في مالهما، والدية على عاقلتهما"
كالقاتل خطأ.
"2- عصمة المقتول" بأن لا يكون مهدر الدم:
"فلا كفارة، ولا دية على قاتل حربي، أو مرتد،
أو زان محصن ولو أنه مثله" في عدم العصمة: بأن
قتل حربي حربيا أو مرتدا، وزانيا محصنا. وعكسه
لوجود الصفة المبيحة لدمه، ويعذر قاتل
لافتئاته على ولي الأمر.
"3- المكافأة: بأن لا يفضل القاتل المقتول حال
الجناية بالإسلام، أو الحرية أو الملك، فلا
يقتل المسلم ولو عبدا بالكافر ولو حرا" في قول
الأكثر. وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن
ثابت ومعاوية،
(2/320)
لحديث:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم
أدناهم، ولا يقتل مؤمن بكافر" رواه أحمد وأبو
داود. وفي لفظ "لا يقتل مسلم بكافر" رواه
البخاري وأبو داود. وعن علي من السنة: أن لا
يقتل مؤمن بكافر رواه أحمد.
"ولا الحر ولو ذميا بالعبد ولو مسلما" لقوله
تعالى: {...الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ...} 1 ولقول علي: من السنة أن لا
يقتل حر بعبد رواه أحمد. وعن ابن عباس مرفوعا
مثله. رواه الدارقطني. قال في الكافي: وإن قتل
ذمي حر عبدا مسلما فعليه قيمته، ويقتل بنقضه
العهد.
"ولا المكاتب بعبده" لأنه مالك رقبة، أشبه
الحر
"ولو كان ذا رحم محرم له" لأنه ملكه، فلا يقتل
به كغيره من عبيده
"ويقتل الحر المسلم، ولو ذكرا بالحر المسلم،
ولو أنثى" لقوله تعالى: {...وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ...} 1 وقوله: {...الْحُرُّ
بِالْحُرِّ...} 2 وعن عمرو بن حزم أن النبي،
صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن
الرجل يقتل بالمرأة رواه النسائي. وعن أنس أن
يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من
فعل هذا بك: فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي،
فأومت برأسها، فجيء به فاعترف، فأمر به النبي،
صلى الله عليه وسلم، فرض رأسه بحجرين رواه
الجماعة.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 45.
2 المائدة من الآية/ 178.
(2/321)
"والرقيق كذلك"
يعني: يقتل الرقيق المسلم ولو ذكرا بالرقيق
المسلم ولو أنثى، وإن اختلفت قيمتهما. كما
يؤخذ الجميل بالدميم، والشريف بضده، لقوله
تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 1
"وبمن هو أعلى منه" فيقتل الكافر الحر بالمسلم
الحر، ويتتل العبد بالحر، والأنثى بالذكر
"والذمي كذلك" فيقتل الذمي الرقيق بالذمي
الحر، لأ نه إذا قتل بمثله فبمن هو أعلى منه
أولى.
"الرابع: أن يكون المقتول ليس بولد للقاتل"
وإن نزل، وسواء في ذلك ولد البنين أو البنات.
"فلا يقتل الأب وإن علا، ولا الأم وإن علت
بالولد، ولا ولد الولد وإن سفل" لحديث عمر
وابن عباس مرفوعا: "لا يقتل والد بولده"
رواهما ابن ماجه. وروى النسائي حديث عمر. قال
ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم
بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته
وقبوله، والعمل به عن الإسناد حتى يكون
الإسناد في مثله تكلفا. وعليه الدية في ماله.
نص عليه. وعن عمر، رضي الله عنه أنه أخذ من
قتادة المدلجي دية ابنه رواه مالك. ويقتل
الولد بكل من الأبوين، لعموم قوله تعالى:
{...كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى...} 1 خص منه ما تقدم، وبقي ما
عداه.
"ويورث القصاص على قدر الميراث" حتى الزوجين
وذي الرحم، لأن القود حق ثبت للوارث على سبيل
الإرث، لأنه بدل نفس المقتول، كالدية.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 178.
(2/322)
"فمتى ورث
القاتل، أو ولده شيئا من القصاص فلا قصاص"
لأنه لا يتبعض، ولا يتصور وجوبه للإنسان على
نفسه، ولا لولده عليه. فلو قتل زوجته فورثها
ولدها منه: سقط القصاص. أو قتل أخاها فورثته،
ثم ماتت، فورثها القاتل بالزوجية، أو ورثها
ولده: سقط القصاص لذلك. ومن قتل شخصا في داره،
وادعى أنه دخل لقتله أو أخذ ماله، أو وجده
يفجر بأهله، فأنكر الولي: فعليه القود، لأن
الأصل عدم ذلك. قال في المغنى: ولا أعلم فيه
مخالفا. وروي عن علي، رضي الله عنه أنه سئل
عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله. فقال: إن لم
يأت بأربعة شهداء فليعط برمته1، فإن اعترف
الولي بذلك فلا قصاص ولا دية، لاعتراف الولي
بما يهدر الدم. ولما روي عن عمر أنه كان يوما
يتغدى، إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ
بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس
مع عمر، فجاء الآخرون، فقالوا: يا أمير
المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما
تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي
امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال
عمر: ما تقولون؟ قالوا يا أمير المؤمنين إنه
ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة
فأخذ عمر سيفة فهزه، ثم دفعه إليه، وقال: إن
عاد فعد رواه سعيد.
ـــــــ
1 الرمة: الحبل والمراد به الحبل الذي يقاد به
الجاني.
(2/323)
باب شروط استيفاء القصاص
مدخل
...
باب شروط استيفاء القصاص:
"وهي ثلاثة:"
"الأول: تكليف المستحق" أي كونه بالغا عاقلا
لأن غيره ليس أهلا للاستيفاء، ولا تدخله
النيابة.
"فإن كان صغيرا أو مجنونا حبس الجاني إلى
تكليفه" لأن معاوية حبس هدبة بن خشرم في قصاص
حتى بلغ ابن القتيل وكان في عصر الصحابة، ولم
ينكر. وبذل الحسن والحسين، وسعيد بن العاص،
لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها.
"فإن احتاج إلى نفقة فلولي المجنون فقط العفو
إلى الدية" لأن الجنون لا حد له ينتهي إليه
عادة، بخلاف الصغير.
"الثاني: اتفاق المستحقين على استيفائه، فلا
ينفرد به بعضهم" لأنه يكون مستوفيا لحق غيره
بغير إذنه، ولا ولاية له عليه.
"وينتظر قدوم، وتكليف غير المكلف" لأنهم شركاء
في القصاص.
"ومن مات من المستحقين فوارثه كهو" لقيامه
مقامه، لأنه حق للميت، فانتقل إلى وارثه كسائر
حقوقه. وعنه: للكبار استيفاوه، لأن الحسن، رضي
الله عنه قتل ابن ملجم، وفي الورثة صغار، فلم
ينكر وقيل قتله لكفره وقيل لسعيه في الأرض
بالفساد ومتى انفرد به من منع من الإنفراد به
عذر فقط، ولا قصاص عليه،
(2/324)
لأنه شريك في
الاستحقاق، وعليه لشركائه حقهم من الدية،
لإتلافه ما كان مستحقا لشريكه. والوجه الثاني:
يجب في تركة القاتل الأول، لأنه قود سقط إلى
مال فوجب في تركة القاتل، كما لو قتله أجنبي.
ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم
بدية ما عدا نصيبه. ذكر معناه في الكافي.
"وإن عفا بعضهم، ولو زوجا أو زوجة" سقط
القصاص، لأنه لا يتبعض. وأحد الزوجين من جملة
الورثة، فيدخل في قوله، صلى الله عليه وسلم
"فأهله بين خيرتين" وهذا عام في جميع أهله،
والزوجة من أهله، بدليل قوله، صلى الله عليه
وسلم "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي،
وما علمت على أهلي إلا خيرا. ولقد ذكروا رجلا
ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي
إلا معي" - يريد عائشة - وقال له أسامة: أهلك،
ولا نعلم إلا خيرا وعن زيد بن وهب أن عمر، رضي
الله عنه أتي برجل قتل قتيلا فجاء ورثة
المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول - وهي:
أخت القاتل -: قد عفوت عن حقي. فقال عمر: الله
أكبر، عتق القتيل رواه أبو داود. وروى قتادة
أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلا، فقال أولاد
المقتول، وقد عفا بعضهم، فقال عمر لابن مسعود:
ما تقول؟ قال: إنه قد أحرز من القتل، فضرب على
كتفه، وقال: كنيف ملئ علما1.
"أو أقر بعفو شريكه سقط القصاص" وكذا لو شهد
بعفو شريكه،
ـــــــ
1 الكنف: الوعاء. ومنه حديث ابن عمر أنه قال
لابن مسعود: كنيف ملئ علما وهو: تصغير تعظيم
للكنف.
(2/325)
لإقراره بسقوط
نصيبه. ولمن لم يعف من الورثة حقه من الدية
على جان. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا.
وسواء عفا شريكه مجانا أو إلى الدية، لأنها
بدل عما فاته من القصاص. وعن زيد بن وهب أن
رجلا دخل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها،
فاستعدى عليه إخوتها عمر، رضي الله عنه، فقال
بعض إخوتها: قد تصدقت. فقضى لسائرهم بالدية.
"الثالث: أن يؤمن في استيفائه تعديه إلى
الغير" أي: غير الجاني لقوله تعالى: {...فَلا
يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ...} 1
"فلو لزم القصاص حاملا" أو حملت بعد وجوبه:
"لم تقتل حتى تضع" حملها، وتسقيه اللبأ2. لا
نعلم فيه خلافا. قاله في الشرح، لأن تركه يضر
الولد، وفي الغالب لا يعيش إلا به. ولابن ماجه
عن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة، وعبادة بن
الصامت، وشداد بن أوس مرفوعا: "إذا قتلت
المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها،
وحتى تكفل ولدها" ولقوله، صلى الله عليه وسلم،
للغامدية "ارجعي حتى تضعي ما في بطنك" ، ثم
قال لها: "ارجعي حتى ترضعيه" الحديث، رواه
أحمد ومسلم وأبو داود.
"ثم ان وجد من يرضعه قتلت" لقيامه مقامها في
إرضاعه، وتربيته فلا عذر،
"وإلا فلا حتى ترضعه حولين" لما تقدم، ولأنه
إذا وجب حفظه، وهو حمل فحفظه، وهو مولود أولى.
قاله في لكافي.
ـــــــ
1 الإسراء من الآية/ 33.
2 اللبأ: أول اللبن في النتاج.
(2/326)
فصل ويحرم استيفاء القصاص بلا حضرة سلطان أو
نائبه:
لافتقاره إلى اجتهاده، ولا يؤمن فيه الحيف مع
قصد التشفي، ويعذر مخالف لافتئاته بفعل ما منع
منه.
"ويقع الموقع" لأنه استوفى حقه. وعن أبي هريرة
مرفوعا: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد
حل لهم أن يفقؤوا عينه" رواه أحمد ومسلم،
وترجم عليه النسائي: جواز الاقتصاص بغير إذن
الحاكم. ويعضده حديث عمر السابق. وعن عثمان
نحوه. وعن عبادة مرفوعا: "منزل الرجل حريمه
فمن دخل على حريمك فاقتله" قاله أحمد.
"ويحرم قتل الجاني بغير السيف، وقطع طرفه بغير
السكين، لئلا يحيف" في الاستيفاء، لحديث
"لاقود إلا بالسيف" رواه ابن ماجه. ونهى، صلى
الله عليه وسلم عن المثلة رواه النسائي.
ولحديث "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" وعنه: يفعل
به كما فعل. اختاره الشيخ تقي الدين، وقال:
هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل. انتهى، لقوله
تعالى: {...وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...} 1 وصح أن
النبي صلى الله عليه وسلم، أمر باليهودي الذي
رض رأس الجارية بحجرين فرض رأسه بحجرين وروي
أنه، صلى الله عليه وسلم، قال
ـــــــ
1 النحل من الآية/126.
(2/327)
"من حرق
حرقناه، ومن غرق غرقناه" ولأن القصاص مشعر
بالمماثلة فيجب أن يعمل بمقتضاه. قاله في
الكافي.
"وإن بطش ولي المقتول بالجاني، فظن أنه قتله،
فلم يكن، وداواه أهله حتى برئ: فإن شاء الولي
دفع دية فعله وقتله، وإلا تركه" قال في
الفروع: هذا رأي عمر وعلي ويعلى بن أمية. ذكره
أحمد.
(2/328)
باب شروط القصاص فيما دون النفس:
"من أخذ بغيره في النفس أخد به فيما دونها"
لقوله تعالى: {... وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...}
الآية1 ولحديث أنس بن النضر وفيه "كتاب الله
القصاص" رواه البخاري وغيره.
"ومن لا" يؤخذ بغيره في النفس
"فلا" يؤخذ به فيما دونها بغير خلاف. قاله في
الكافي. كالأبوين مع ولدهما، الحر مع العبد،
والمسلم مع الكافر، لعدم المكافأة.
"وشروطه أربعة:"
"أحدها: العمد العدوان فلا قصاص في غيره" فلا
قصاص في الخطأ إجماعا، لأنه لا يوجب القصاص في
النفس وهي الأصل، ففيما دونها أولى، ولا في
شبه العمد. والآية مخصوصة بالخطأ، فكذا شبه
العمد. وقياسا على النفس.
"الثاني: إمكان الاستيفاء بلا حيف: بأن يكون
القطع من مفصل، أو ينتهي إلى حد كمارن الأنف،
وهو: ما لان منه" دون قصبته.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 45.
(2/328)
"فلا قصاص في
جائفة، ولا في قطع القصبة" أي: قصبة الأنف.
"أو قطع بعض ساعده، أو" بعض.
"ساق، أو" بعض.
"عضد، أو" بعض.
"ورك" بغير خلاف، لأنه لا يمكن الاستيفاء منها
بلا حيف، بل ربما أخذ أكثر من حقه، أو سرى إلى
عضو آخر، أو إلى النفس، فيمنع منه، لما روى
ثمران بن حارثة عن أبيه أن رجلا ضرب رجلا على
ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدى
عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، فأمر له
النبي، صلى الله عليه وسلم، بالدية، فقال: إني
أريد القصاص، قال: "خذ الدية بارك الله لك
فيها" . ولم يقض له بالقصاص رواه ابن ماجه.
"فإن خالف فاقتص بقدر حقه، ولم يسر: وقع
الموقع، ولم يلزمه شيء" لأنه حقه. وإنما منع
منه لتوهم الزيادة. قاله في الكافي.
"الثالث: المساواة في الاسم" كالعين بالعين،
والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن،
للآية.
"فلا تقطع اليد بالرجل وعكسه" لأن القصاص
يقتضي المساواة والاختلاف في الاسم دليل على
الاختلاف في المعنى.
"و" المساواة
"في الموضع: فلا تقطع اليمين" من يد، ورجل،
وعين، وأذن ونحوها
(2/329)
"بالشمال،
وعكسه" لعدم المماثلة، ولأنها جوارح مختلفة
المنافع والأماكن، فلم يؤخذ بعضها ببعض. قاله
في الكافي.
"الرابع: مراعاة الصحة والكمال، فلا يؤخذ
كاملة الأصابع والأظافر بناقصتها" رضي الجاني
بذلك أو لا، لأنه أكثر.
"ولا عين صحيحة بقائمة" وهي: التي بياضها
وسوادها صافيان غير أن صاحبها لا يبصر بها.
قاله الأزهري، لنقص منفعتها فلا تؤخذ بها
كاملة المنفعة.
"ولا لسان ناطق بأخرس" لأنه أكثر من حقه.
"ولا صحيح بأشل من يد ورجل وأصبع وذكر"
والشلل: فساد العضو، وذهاب حركته، فإذا شل
ذهبت منفعته فلا يؤخذ به الصحيح، لزيادته
عليه، كعين البصير بعين الأعمى.
"ولا ذكر فحل بذكر خصي" أو عنين، لعدم
المماثلة.
"ويؤخذ مارن صحيح بمارن أشل" وهو: الذي لا يجد
رائحة شيء لأنه لعلة في الدماغ، والأنف صحيح.
"وأذن صحيحة بأذن شلاء" أي: أذن السميع بأذن
الأصم وعكسه لأن الصمم لعلة في الدماغ.
(2/330)
"ويشترط لجواز
القصاص في الجروح" زيادة على ما سبق
"انتهاؤها إلى عظم: كجرح العضد والساعد،
والفخذ والساق، والقدم، وكالموضحة" في رأس أو
وجه، لقوله تعالى: {... وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ...} 1 ولإمكان الاستيفاء بلا حيف، ولا
زيادة، لانتهائه إلى عظم، فأشبه الموضحة2
المتفق على جواز القصاص فيها.
"والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة" 3 لا يجب
فيها قصاص، لأن المماثلة غير ممكنة وله أن
يقتص عنها موضحة، لأنها بعض حقه في محل
جنايته، ويأخذ ما بين ديتها ودية تلك الشجة
التي هي أعظم، لتعذر القصاص فيها فينتقل إلى
البدل، كما لو تعذر في جميعها. وهو قول ابن
حامد. قاله في الكافي. فيأخذ في هاشمة: خمسا
من الإبل، وفي منقلة: عشرا، وفي مأمومة:
ثمانية وعشرين بعيرا وثلث بعير. واختار أبو
بكر: لا يجب الأرش للباقي، لأنه جرح واحد فلم
يجمع فيه بين قصاص وأرش، كالشلاء بالصحيحة.
"وسراية القصاص هدر" أي: غير مضمونة، لقول عمر
وعلي: من مات من حد أو قصاص لا دية له: الحق
قتله رواه سعيد بمعناه.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 45.
2 الموضحة بكسر الضاد: الشجة التي تبدي وضح
العظم.
3 الهاشمة: هي التي تهشم العظم. والمنقلة بفتح
النون وتشديد القاف مع الكسر: وهي التي تنقل
العظم أو تكسره. والمأمومة: هي الجناية
البالغة أم الدماغ.
(2/331)
"وسراية
الجناية مضمونة" بقود ودية في النفس، وما
دونها بغير خلاف، لحصول التلف بفعل الجاني،
أشبه ما لو باشره. وإن اقتص بعد الاندمال، ثم
انتقض جرح الجناية فسرى إلى النفس وجب القصاص
به، لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص. قاله في
الكافي.
"ما لم يقتص ربها قبل برئه: فهدر أيضا" لحديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رجلا طعن
بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال: أقدني، قال: "حتى تبرأ" ، ثم جاء
إليه، فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه،
فقال: يا رسول الله: عرجت، فقال: "قد نهيتك
فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك". ثم نهى
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقتص من
جرح حتى يبرأ صاحبه". رواه أحمد والدارقطني.
ولأنه باقتصاصه قبل الاندمال استعجل ما ليس له
استعجاله فبطل حقه، كقاتل مورثه.
(2/332)
|