منار السبيل في شرح الدليل

كتاب الأطعمة
مدخل
مدخل
...
كتاب الأطعمة:
الأصل فيها الحل، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} 1 وقوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} 2 وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 3
"يباح كل طعام طاهر لا مضرة فيه" لما تقدم. ويحرم مضر: كسم، لقوله تعالى: {... وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 4 والسم مما يقتل غالبا.
"إن حلف: لا يشرب" مما لا يؤكل عادة: كقشر بيض، وقرن حيوان مذكى إذا دقا. وسأله الشالنجي عن المسك يجعل في الدواء ويشرب، قال: لا بأس به.
"ويحرم النجس: كالميتة، والدم، ولحم الخنزير" لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 5 وقوله صلى الله عليه وسلم في الخمر "أكفئوها فإنها رجس" .
"والبول، والروث، ولو طاهرين" لاستقذارهما، فإن اضطر إليهما أو إلى أحدهما أبيحا، لقصة العرنيين.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/29.
2 البقرة من الآية/168.
3 المائدة من الآية/5.
4 البقرة من الآية/195.
5 المائدة من الآية/3.

(2/410)


"ويحرم من حيوان البر. الحمر الأهلية" لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل متفق عليه. قال أحمد: خمسة وعشرون من الصحابة كرهوها. وقال ابن عبد البر: لا خلاف اليوم في تحريمها. قال في الشرح: وألبان الحمر محرمة في قول الأكثر، ورخص فيها عطاء وطاووس. وأما الفيل: فقال أحمد، ليس هو من طعام المسلمين. وقال الحسن: هو مسخ، ولأنه مستخبث، وذو ناب من السباع.
"وما يفترس بنابه: كأسد ونمر وذئب وفهد وكلب" لحديث أبي ثعلبة الخشني نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أكل كل ذي ناب من السباع متفق عليه. وعن أبي ذر مرفوعا: "كل ذي ناب حرام" رواه مسلم. قال ابن عبد البر: هذا نص صحيح صريح يخص العموم.
"وقرد" لأن له نابا، وهو مسخ، فهو من الخبائث. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا في أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه. ذكره في الشرح.
"ودب، ونمس، وابن آوى" شبه الثعلب، ورائحته كريهة.
"وابن عرس، وسنور ولو بريا" لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وأكل ثمنها رواه أبو داود، وابن ماجه.
"وثعلب" على الأصح،
"وسنجاب، وسمور" لأنها من السباع، فتدخل في العموم.
"ويحرم من الطير ما يصيد بمخلبه" في قول الأكثر.
"كعقاب، وباز، وصقر، وباشق، وحدأة، وبومة" لحديث ابن عباس

(2/411)


نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير رواه الجماعة، إلا البخاري والترمذي.
"وما يأكل الجيف: كنسر، ورخم، وقاق" وهو العقعق، طائر نحو الحمامة طويل المذنب، فيه بياض، وسواد، نوع من الغربان.
"ولقلق" طائر نحو الأوزة، طويل العنق، يأكل الحيات.
"وغراب" بين وأبقع،1 قال عروة: ومن يأكل الغراب، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم فاسقا؟! والله ما هو من الطيبات. ولإباحة قتله في الحل والحرم، ولأن هذه مستخبثة لأكلها الخبائث.
"وخفاش" وهو: الوطواط. قال أحمد: ومن يأكل الخفاش؟
"وفار" نص عليه، لكونها فويسقة لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله في الحرم ولا يجوز فيه قتل صيد مأكول.
"وزنبور، ونحل، وذباب" لأنها مستخبثة غير مستطابة.
"وهدهد، وخطاف" لحديث ابن عباس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد2 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف رواه البيهقي مرسلا.
"وقنقذ ونيص" نص عليه، لحديث أبي هريرة ذكر القنفذ
ـــــــ
1 الغراب الأبقع: الذي فيه سواد وبياض.
2 الصرد: طائر ضخم الرأس، أبيض البطن، أخضر الظهر، يصطاد صغار الطير. وهو بتشديد الصاد المضمومة.

(2/412)


لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو خبيثة من الخبائث" رواه أبو داود. والنيص مثله، لأنه يقال: هو عظيم القنافذ.
"وحية" لأن لها نابا من السباع. نص عليه.
"وحشرات" كديدان، وجعلان، وبنات وردان،1 وخنافس، ووزغ، وحرباء، وورل،2 وعقرب، وصراصر، وجرذان، وبراغيث، وقمل، وأشباهها لأنها مستخبثة، فيعمها قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3.
"ويؤكل ما تولد من مأكول طاهر: كذباب الباقلاء ودود الخل والجبن، تبعا لا انفرادا" قال أحمد في الباقلاء المدودة: تجنبه أحب إلي، وإن لم يتقذره، فأرجو. وقال عن تفتيش التمر الممدود: لا بأس به إذا علمه.
ـــــــ
1 بنت وردان: دويبة كريهة الريح، تألف الأماكن القذرة في البيوت، وهي ذات ألوان مختلفة.
2 الورل: هو دابة على خلقة الضب أعظم منه، طويل الذنب دقيقه.
3 الأعراف من الآية/157.

(2/413)


فصل ويباح ماعدا هذا كبهيمة الأنعام:
من إبل، وبقر، وغنم لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} 1
"والخيل" كلها. نص عليه. وروي عن ابن الزبير، لحديث جابر، وتقدم. وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/1.

(2/413)


"وباقي الوحش: كضبع" رخص فيه: سعد، وابن عمر، وأبو هريرة. وقال عروة بن الزبير: ما زالت العرب تأكل الضبع، لا ترى بأكله بأسا. وقال عبد الرحمن: قلت لجابر: الضبع: صيد هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا يخصص النهي عن كل ذي ناب من السباع جمعا بين الأخبار. وفي الروضة: لكن إن عرف بأكل الميتة فكالجلالة1.
"وزرافة" نص عليه، لأنها من الطيبات.
"وأرنب" رخص فيها أبو سعيد، وأكلها سعد بن أبي وقاص. وقال أنس أنفجنا أرنبا، فسعى القوم فلغبوا، فأخذتها، فجئت إلى أبي طلحة فذبحها، وبعث بوركها، أو قال: فخذها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبله2 متفق عليه. وعن محمد بن صفوان أنه صاد أرنبين فذبحهما بمرتين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلهما رواه أحمد والنسائي، وابن ماجه.
"ووبر، ويربوع، وبقر وحش، وحمره" على اختلاف أنواعها، لأنها مستطابة.
قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم.
"وضب" وإباحته: قول عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة. ولم يعرف عن صحابي خلافه، فيكون إجماعا، قاله في الشرح. وقال
ـــــــ
1 الجلالة: بفتح الجيم وتشديد اللام المفتوحة: البهيمة التي تأكل العذرة.
2 أنفج الأرنب: أثارها من مجثمها. ومعنى فلغبوا أي: تعبوا من السر خلفها.

(2/414)


أبو سعيد كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة وأكله خالد بن الوليد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر متفق عليه.
"وظباء" وهي: الغزلان، على اختلاف أنواعها، لأنها مستطابة تفدى في الإحرام والحرم.
"وباقي الطير: كنعام، ودجاج" لقول أبي موسى رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج متفق عليه.
"وطاوس، وببغاء" وهي: الدرة.
"وزاغ" طائر صغير أغبر.
"وغراب زرع" وهو أسود كبير أحمر المنقار. والرجل يأكل الزرع، ويطير مع الزاغ، وكحمام بأنواعه، وعصافير وقنابر، وكركي وكروان، وبط وأوز، وأشباهها مما يلتقط الحب، ويفدى في الإحرام، لأنه مستطاب، فيتناوله عموم قوله تعالى: {... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ...} 1 وعن سفينة قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى2 رواه أبو داود.
"ويحل كل ما في البحر" لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ...} 3 وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" صححه الترمذي.
ـــــــ
1 الأعراف من الآية/157..
2 الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي وأطول عنقا يضرب به المثل في البلاهة.
3 المائدة من الآية/96.

(2/415)


"غير ضفدع" فيحرم. نص عليه، واحتج بالنهي عن قتله.
"وحية" لأنها من المستخبثات.
"وتمساح" نص عليه، لأن له نابا يفترس به. واختار ابن حامد والقاضي: يحرم الكوسج، لأنه ذو ناب، وهو: سمكة لها خرطوم كالمنشار، وتسمى: المقرش.
والأشهر أنه مباح: كخنزير الماء وكلبه وإنسانه، لعموم الآية والأخبار، وروى البخاري "أن الحسن بن علي ركب على سرج عليه من جلود كلاب الماء".
"وتحرم الجلالة: وهي التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها" لحديث ابن عمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها رواه أحمد وأبو داود، وفي رواية له نهى عن ركوب جلالة الإبل وعن ابن عباس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة رواه أحمد، وأبو داود. والترمذي، وصححه. وبيضها كلبنها، لأنه متولد منها.
"حتى تحبس ثلاثا، وتطعم الطاهر" لأن ابن عمر كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا وقال مالك: تحبس الناقة، والبقرة أربعين يوما، وقدمه في الكافي، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة أن لا يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة رواه الخلال. والبقرة في معناها، ويحبس الطائر ثلاثا، لفعل ابن عمر. والأول: المذهب ويحرم ما سقي من الزرع والثمار، أو سمد بنجس. نص عليه، لأنه يتغذى بالنجاسات كالجلالة إذا حبست،

(2/416)


وأطعمت الطاهر وعن ابن عباس، قال كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يدخلوها بعذرة الناس ولو لا تأثير ذلك لما اشترط عليهم تركه.
"ويكره أكل تراب وفحم وطين" لضرره، نص عليه. وغدة1.
"وأذن قلب" نص عليه. قاله في رواية عبد الله كره النبي صلى الله عليه وسلم أكل الغدة ونقل أبو طالب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أذن القلب.
"وبصل، وثوم، ونحوهما" ككراث، وفجل. صرح أحمد بأنه كرهه لمكان الصلاة، وعن جابر مرفوعا: "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" متفق عليه.
"ما لم ينضج بطبخ" لحديث أبي أيوب في الطعام الذي فيه الثوم، قال فيه: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه" حسنه الترمذي. وعن علي رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا النهي عن أكل الثوم إلا مطبوخا رواه الترمذي. وعن عائشة قالت إن آخر طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بصل رواه أبو داود. وقال عمر في خطبته في البصل والثوم: فمن أكلهما فليمتهما طبخا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.
ـــــــ
1 الغدة: لحم يحدث من داء بين الجلد واللحم، يتحرك بالتحريك.

(2/417)


فصل ومن اضطر جاز له أن يأكل من المحرم ما يسد رمقه فقط:
لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1 وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} 2 وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 3 فإذا أكل ما يسد رمقه. زالت الضرورة، فتزول الإباحة. وهو اختيار الخرقي. وعنه: له الشبع. اختاره أبو بكر، لأنه طعام أبيح له أكله، فجاز له الشبع منه كالحلال. ويجب الأكل. نص عليه، لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 4 وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 5 قال مسروق: من اضطر، فلم يأكل ولم يشرب فمات: دخل النار. وقيل: لا يجب لما روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملك الروم حبسه، ومعه لحم خنزير مشوي، وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام، فأبى أن يأكله، وقال: لقد أحله الله لي، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ويجب تقديم السؤال على أكل المحرم، نص عليه. وقال لسائل: قم قائما ليكون لك عذر عند الله.
ـــــــ
1 البقرة: من الآية/ 173.
2 المائدة من الآية/ 3.
3 الأنعام من الآية/ 119.
4 النساء من الآية/ 29.
5 البقرة: من الآية/195.

(2/418)


"ومن لم يجد إلا آدميا مباح الدم: كحربي وزان محصن: فله قتله، وأكله" لأنه لا حرمة له، أشبه السباع.
"ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه" كثياب لدفع برد، ودلو وحبل لاستقاء ماء.
"وجب على ربه بذله مجانا" بلا عوض، لأنه تعالى ذم على منعه بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1 فإن احتاج ربه إليه، فهو أحق به من غيره لتميزه بالملك.
"ومن مر بثمر بستان لا حائط عليه ولا ناظر: فله من غير أن يصعد على شجرة أو يرميه بحجر أن يأكل ولا يحمل" لقول أبي زينب التميمي سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وهو قول: عمر، وابن عباس. قال عمر: يأكل ولا يتخذ خبنة2 وكون سعد أبى الأكل لا يدل على تحريمه، لأن الإنسان قد يترك المباح غناء عنه، أو تورعا، وعن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترم، وكل ما وقع، أشبعك الله وأرواك" صححه الترمذي.
وعنه: له الأكل إن كان جائعا فقط، لحديث عمر، وابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: "ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن
ـــــــ
1 الماعون من الآية/7.
2 أخبن الطعام: أخبأه في خبنة ثيابه، أي: ثنيها، والخبنة: ما يحمل في الخبنة من الطعام. والمراد هنا أن يأكل ولا يحمل معه في ثيابه.

(2/419)


أخذ منه من غير حاجة، فعليه غرامة مثليه: والعقوبة" قال في الشرح: وعليه أكثر الفقهاء. ولنا قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف منهم، فإن كانت محوطة، لم يجز الدخول، قال ابن عباس إن كان عليها حائطا فهو حريم، فلا تأكل1. انتهى. وكذا إن كان ثم حارس، لدلالة ذلك عن شح صاحبه به، وعدم المسامحة.
"وكذا الباقلاء، والحمص" وشبههما مما يؤكل رطبا وفي الزرع، وشرب لبن الماشية روايتان: إحداهما: يجوز. لحديث سمرة في الماشية صححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم والثانية: لا يجوز، لحديث ابن عمر: "لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه..." الحديث متفق عليه.
"وتجب ضيافة المسلم على المسلم في القرى دون الأمصار يوما وليلة، وتستحب ثلاثا" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته" . قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه، وليلته" والضيافة ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهو صدقة. "ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه" قيل: يا رسول الله: كيف يؤثمه؟ قال "يقيم عنده، وليس عنده ما يقريه" وعن عقبة بن عامر: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا، فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى؟ فقال: "إذا نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف: فاقبلوا. وإن لم يفعلوا: فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له" متفق عليه. ولو لم تجب الضيافة، لم يأمرهم بالأخذ، واختص ذلك بالمسافر،
ـــــــ
1 حريم: حرز.

(2/420)


لقول عقبة إنك تبعثنا فننزل وبأهل القرى لقوله بقوم والقوم إنما ينصرف إلى الجماعات دون أهل الأمصار. وقال أحمد: كأنها على أهل القرى، فأما مثلنا الآن فكأن ليس مثلهم، وذلك أن أهل القرى فليس عادتهم بيع القوت ذكره في الشرح. وعنه: تجب للذمي. نقله الجماعة. وظاهر نصوصه: تجب للحاضر وفي المصر. ذكره في الفروع بمعناه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" .

(2/421)


باب الذكاة
مدخل
...
باب الذكاة:
"وهي: ذبح أو نحر الحيوان المقدور عليه" فلا يباح إلا بها لأنه تعالى حرم الميتة وما لم يذك، فهو ميتة، ويباح الجراد والسمك، وما لا يعيش إلا في الماء بدونها، لحديث ابن عمر مرفوعا: "أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان: فالحوت، والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال" رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني.
"وشروطها أربعة:"
"أحدها: كون الفاعل عاقلا، مميزا قاصدا للذكاة" فلا يباح ما ذكاه مجنون، وطفل لم يميز لأنهما لا قصد لهما، ولأن الذكاة أمر يعتبر له الدين فاعتبر فيه العقل: كالغسل
"فيحل ذبح الأنثى، والقن، والجنب" لحديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت له غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمها موتاء فكسرت حجرا، فذبحتها به. فقال لهم: لا تأكلوا حتى

(2/421)


أسأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه، فأمر من يسأله. وإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أو أرسل إليه فأمر بأكلها رواه أحمد، والبخاري ففيه إباحة ذبيحة المرأة، والأمة، والحائض، والجنب لأنه عليه السلام، لم يستفصل عنها، وفيه أيضا: إباحة الذبح بالحجر. وما خيف عليه الموت. وحل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه، وغير ذلك وقال ابن المنذر: أجمعوا على إباحة ذبيحة المرأة والصبي.
"والكتابي" لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 قال البخاري: قال ابن عباس طعامهم: ذبائحهم ومعناه عن ابن مسعود رواه سعيد.
"إلا المرتد، والمجوسي. والوثني، والدرزي، والنصيري" لمفهوم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 وإنما أخذت الجزية من المجوس لأن لهم شبهة كتاب.
"الثاني: الآلة فيحل الذبح بكل محدد من حجر وقصب، وخشب وعظم غير السن والظفر" نص عليه، لما تقدم. وعن رافع بن خديج مرفوعا "ما أنهر الدم فكل ليس السن والظفر" متفق عليه وعنه: لا يذكى بالعظم وبه قال النخعي، لقوله: أما السن فعظم.
"الثالث: قطع الحلقوم" أى: مجرى النفس.
"والمريء" 2 مجرى الطعام والشراب.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/5.
2 المريء: وزان كريم رأس المعدة والكرش اللازق بالحلقوم يجري فيه الطعام والشراب. وهو مهموز أو بغير همز، وياؤه مشددة.

(2/422)


"ويكفي قطع البعض منهما" فلا تشترط إبانتهما، لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة معه، لما روي عن عمر أنه نادى: "إن النحر في اللبة، أو الحلق لمن قدر" أخرجه سعيد، ورواه الدارقطني مرفوعا بنحوه. وعنه: ويشترط فري الودجين - وهما: عرقان محيطان بالحلقوم1 لحديث أبي هريرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي: التي تذبح، فيقطع الجلد، ولا تفري الأوداج، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. وذكر الشيخ تقي الدين وجها: يكفي قطع ثلاثة من الأربعة. وقال: إنه الأقوى. وسئل عمن قطع الحلقوم والودجين، لكن فوق الجوزة، فقال: هذا فيه نزاع. والصحيح: أنها تحل. انتهى. وحكاه في الإقناع عن الشيخ تقي الدين أي: سواء فوق الغلصمة أو تحتها. وجزم به في شرح المنتهى.
"فلو قطع رأسه حل" سواء من جهة وجهه وقفاه لقول علي، رضي الله عنه، فيمن ضرب وجه ثور بالسيف: تلك ذكاة وأفتى بأكلها عمران بن حصين، ولا مخالف لهما.
"ويحل ذبح ما أصابه سبب الموت: من منخنقة، ومريضة وأكيلة سبع وما صيد بشبكة، أو فخ أو أنقذه من مهلكة إن ذكاه وفيه حياة مستقرة: كتحريك يده أو رجله أو طرف عينه" لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 2 مع أن ما تقدم ذكره أسباب للموت، ولحديث كعب بن مالك المتقدم وقال ابن عباس في ذئب عدا على شاة، فوضع قصبها بالأرض.
ـــــــ
1 مفردها: ودج: بفتح الدال، والكسر فيه لغة.
2 المائدة من الآية/4.

(2/423)


فأدركها فذبحها بحجر، قال: يلقي ما أصاب الأرض منها، ويأكل سائرها قال أحمد: إذا مصعت1 بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو ذكره في الشرح.
"وما قطع حلقومه، أو أبينت حشوته" أي: قطعت أمعاؤه ونحوها مما لا تبقى معه حياة.
"فوجود حياته كعدمها" قال في الشرح: والأول أصح، لعموم الآية ولأنه صلى الله عليه وسلم، لم يستفصل في حديث، جارية كعب.
"لكن لو قطع الذابح الحلقوم، ثم رفع يده قبل قطع المريء: لم يضر إن عاد فأتم الذكاة على الفور" كما لو لم يرفعها.
"وما عجز عن ذبحه: كواقع في بئر. ومتوحش، فذكاته لجرحه في أي محل كان" روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، لحديث رافع بن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فند بعير -وكان في القوم خيل يسير- فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد 2 كأوابد الوحش: فما غلبكم منها فاصنعوا به كذا" . وفي لفظ: "فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا" متفق عليه.
ـــــــ
1 مصعت الدابة بذنبها مصعا حركته من غير عدد. وطرف بصره بفتح الراء يطرف بكسرها: إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر.
2 أبد الشيء: من بابي: ضرب، وقتل: يأبد ويأبد أبودأ: نفر وتوحش فهو آبد على فاعل، وأبدت الوحوش: نفرت من الإنس، فهي أوابد.

(2/424)


وفي حديث أبي العشراء عن أبيه مرفوعا: "لو طعنت في فخذها لأجزأك" رواه الخمسة. قال المجد: وهذا فيما لا يقدر عليه.
"الرابع: قول: بسم الله. لا يجزئ غيرها عند حركة يده بالذبح" لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} 1
"وتجزئ بغير العربية ولو أحسنها" لأن المقصود ذكر الله تعالى.
"ويسن التكبير" مع التسمية، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال: "بسم الله، والله أكبر" وكان ابن عمر يقوله. قال في الشرح: ولا خلاف أن التسمية تجزئ.
"وتسقط التسمية سهوا" روي عن إبن عباس.
"لا جهلا" وعن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم، إذا لم يتعمد" أخرجه سعيد. ولحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" والآية محمولة على العمد، جمعا بين الأخبار.
"ومن ذكر" عند الذبح
"مع اسم الله تعالى اسم غيره لم تحل" الذبيحة. روي ذلك، عن علي رضي الله عنه. وحرم عليه ذلك لأنه شرك.
ـــــــ
1 الأ نعام من الآية/121.

(2/425)


فصل وتحصل ذكاة الجنين بذكاة أمه:
إذا خرح ميتا أو متحركا كحركة المذبوح. روي عن علي، وابن عمر، لحديث جابر مرفوعا: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" رواه أبو داود بإسناد جيد. ورواه الدارقطني من حديث ابن عمر، وأبي هريرة، واستحب أحمد ذبحه، ليخرج الدم الذي في جوفه. وذكر ذلك عن ابن عمر. وقال ابن المنذر: كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدا خالف ما قالوا، إلى أن جاء النعمان، فقال: لا يحل، لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة لنفسين. انتهى.
"وإن خرج حيا حياة مستقرة لم يبح إلا بذبحه" نص عليه، لأنه مستقل بحياته، أشبه ما ولدته قبل ذبحها.
"ويكره الذبح بآلة كالة" لأنه تعذيب للحيوان، ولقوله صلى الله عليه وسلم "وإن ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" رواه أحمد، والنسائي وابن ماجه.
"وسلخ الحيوان، أو كسر عنقه قبل زهوق نفسه" لحديث أبي هريرة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى بكلمات، منها: "لا تعجلوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال" رواه الدارقطني. وقال عمر لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم، لحصوله بعد الذبح.
وقال البخاري: قال ابن عمر وابن عباس: إذا قطع الرأس فلا بأس به.

(2/426)


"وسن توجيهه للقبلة" لأن ابن عمر كان يستحب ذلك، لأنها أولى الجهات بالاستقبال.
"على جنبه الأيسر" والرفق به،
"والإسراع في الذبح" لما تقدم.
"وما ذبح، فغرق، أو تردى من علو، أو وطئ عليه شيء يقتله مثله: لم يحل" نص عليه. واختاره الخرقي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعدي بن حاتم: "فإن وقعت في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك" متفق عليه. ولأن ذلك يعين على الزهوق، فيحصل من سبب مبيح ومحرم، فغلب التحريم. وقال الأكثر: يحل، لحصوله بعد الذبح والحل.

(2/427)