منار السبيل في شرح الدليل

كتاب الأيمان
مدخل
مدخل
...
كتاب الأيمان:
جمع يمين، وهو: الحلف والقسم.
"لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى" لقوله تعالى: {...فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ...} 1 وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...} 2 وحديث "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" متفق عليه.
"أو اسم من أسمائه" لا يسمى به غيره: كقوله: والله، والرحمن، ومالك يوم الدين، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ...} 3 فجعل لفظة: الله، ولفظة الرحمن، سواء في الدعاء، فيكونان سواء في الحلف. أو يسمى به غيره، ولم ينو الحالف الغير: كالرحيم، والعظيم، والقادر، والرب، والمولى، لأنه بإطلاقه ينصرف إلى اليمين، وهذا مذهب الشافعي. قاله في الشرح.
"أو صفة من صفاته: كعزة الله، وقدرته" وعظمته، وجلاله، فتنعقد بها اليمين في قولهم جميعا. وورد القسم بها. كقول الخارج من النار: وعزتك، لا أسأل غيرها. وفي القرآن: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4
"وأمانته" لأنها صفة من صفاته. وكذا عهده، وميثاقه، لأن ذلك
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 107.
2 الأنعام من الآية/ 109.
3 الإسراء من الآية/ 110.
4 ص من الآية/ 82.

(2/432)


بإضافته إلى اسم الله تعالى، صار يمينا بذكر اسمه تعالى معه، وقرينة الاستعمال صارفة إليه.
"وإن قال: يمينا بالله أو قسما، أو شهادة انعقدت" لا نعلم فيه خلافا. قاله في الشرح، لقوله تعالى: {...فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ...} 1 {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ...} 2 {...فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ...} 3 ولأن تقديره: أقسمت قسما بالله ونحوه.
"وتنعقد بالقرآن وبالمصحف" وبسورة منه، أو آية، لأنه صفة من صفاته تعالى. فمن حلف به، أو ب شيء منه: كان حالفا بصفته تعالى. والمصحف يتضمن القرآن، ولذلك أطلق عليه في حديث "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" وقالت عائشة: "ما بين دفتي المصحف كلام الله" وكان قتادة يحلف بالمصحف. ولم يكرهه أحمد وإسحاق.
وفيها كفارة واحدة لأنها يمين واحدة، ولأن الحلف بصفات الله، وتكرار اليمين بها لا يوجب أكثر من كفارة، وهذا أولى. وعنه: بكل آية كفارة. لأن ذلك يروى عن ابن مسعود. قال أحمد: ما أعلم شيئا يدفعه. قال في الكافي: ويحتمل أن ذلك ندب غير واجب، لأنه قال: عليه بكل آية كفارة يمين، فإن لم يمكنه، فعليه كفارة يمين. ورده إلى كفارة واحدة عند العجز دليل على أن الزائد عليها غير واجب.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 107.
2 الأنعام من الآية/109.
3 النور من الآية/ 6.

(2/433)


"وبالتوراة، ونحوها من الكتب المنزلة" كالإنجيل والزبور، لأن الإطلاق ينصرف إلى المنزل من عند الله، لا المغير والمبدل. ولا تسقط حرمة ذلك بكونه نسخ بالقرآن، كالمنسوخ حكمه من القرآن، وذلك لا يخرجه عن كونه كلام الله.
"ومن حلف بمخلوق: كالأولياء، والأنبياء عليهم السلام. أو: بالكعبة أو نحوها: حرم" قال ابن عبد البر: هذا أمر مجمع عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت" متفق عليه. وعن ابن عمر مرفوعا: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" حسنه الترمذي. وقال ابن مسعود: أن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا قال الشيخ تقي الدين: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. يشير إلى حديث ابن عمر السابق.
"ولا كفارة" ولو حنث، لأنها وجبت في الحلف بالله تعالى، صيانة لأسمائه وصفاته تعالى، وغيره لا يساويه في ذلك. ولأن الحلف بغير الله شرك. وكفارته: التوحيد، لحديث: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" وعن أبي هريرة مرفوعا: "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله..." الحديث، رواه أحمد.

(2/434)


فصل وشروط وجوب الكفارة خمسة أشياء:
"1- كون الحالف مكلفا" فلا تجب الكفارة على نائم، وصغير ومجنون، ومغمى عليه، لأن لا قصد لهم، ولحديث: "رفع القلم عن ثلاثة..." .
"2- كونه مختارا" لليمين، فلا تنعقد من مكره، لحديث "رفع عن أمتي الخطأ و النسيان وما استكرهوا عليه" .
"3- كونه قاصدا لليمين، فلا تنعقد ممن سبق على لسانه بلا قصد كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه" لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 1 الآية. وعن عائشة مرفوعا: "اللغو في اليمين: كلام الرجل في بيته: لا والله وبلى والله" رواه أبو داود، ورواه البخاري وغيره موقوفا. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن لغو اليمين لا كفارة فيه. ذكره في الشرح.
"4- كونها على أمر مستقل" يمكن فيها البر والحنث. قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بالإجماع: التي على المستقبل، كمن حلف ليضربن غلامه، أو لا يضربه.
"فلا كفارة على ماض. بل إن تعمد الكذب فحرام" لأنها اليمين
ـــــــ
1 البقرة من الآية/225.

(2/435)


الغموس، ولا كفارة لها في قول الأكثر. ذكره في الشرح، لحديث أبي هريرة مرفوعا: "خمس ليس لهن كفارة: .. ذكر منهن: الحلف على يمين فاجرة، يقتطع بها مال امرئ مسلم" .
"وإلا فلا شيء عليه" إذا لم يتعمد الكذب: كمن حلف ظانا صدق نفسه، فيبين بخلافه. لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 1 وهذا منه، لأنه يكثر. فلو وجبت به كفارة لشق وحصل الضرر، وهو منتف شرعا. وقال في الشرح: أكثر أهل العلم على عدم الكفارة.
"5- الحنث بفعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله" مختارا ذاكرا ليمينه. فإن لم يحنث فلا كفارة، لأنه لم يهتك حرمة القسم. فإن حنث مكرها أو ناسيا: فلا كفارة، لأنه غير آثم، لحديث "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" واختار الشيخ تقي الدين: إن فعله ناسيا فلا حنث، ويمينه باقية.
"فإن كان عين وقتا تعين" فإن فعله فيه: بر، وإلا: حنث، لأنه مقتضى يمينه،
"وإلا لم يحنث حتى ييأس من فعله بتلف المحلوف عليه، أو موت الحالف" لقوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} 2 وهو حق، ولم تأت بعد. ولقول عمر: يا رسول الله: ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك آتيه العام؟" قال: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به" . الحديث. ولأن فعله ممكن في كل وقت، فلا تحقق مخالفة اليمين إلا باليأس.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/225.
2 سبأ من الآية/3.

(2/436)


"ومن حلف بالله لا يفعل كذا، أو ليفعلن كذا إن شاء الله، أوإن أراد الله، أوإلا أن يشاء الله، واتصل لفظا أو حكما" كقطعه بتنفس، أو سعال، أو عطاس.
"لم يحنث، فعل، أو ترك" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال: إن شاء الله: لم يحنث" رواه أحمد والترمذي وعن ابن عمر مرفوعا: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله: فلا حنث عليه" رواه الخمسة إلا أبا داود. ويعتبر نطق غير مظلوم به. نص عليه. وقال في الشرح: ويشترط أن يستثني بلسانه. لا نعلم فيه خلافا. انتهى. لقوله، عليه الصلاة والسلام: "...فقال: إن شاء الله..." . والقول باللسان. وأما المظلوم الخائف: فتكفيه نية الاستثناء، لأن يمينه غير منعقدة، أو لأنه بمنزلة المتأول. قال القاضي:
"بشرط أن يقصد الاستثناء قبل تمام المستثنى منه" فإن سبق لسانه إليه من غير قصد: لم يصح، لأن اليمين يعتبرلها القصد، فكذلك ما يرفع حكمها. قاله في الكافي. ولحديث "إنما الأعمال بالنيات..." .

(2/437)


فصل ومن قال طعامي علي حرام:
"أو: إن أكلت كذا فحرام أو: إن فعلت كذا فحرام: لم يحرم" لأن اليمين على ال شيء لا تحرمه.
"وعليه إن فعل كفارة يمين" نص عليه، لأن ذلك يروى عن أبي بكر وعمر وغيرهما، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ...} إلى قوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ...} 1 وسبب نزولها:
ـــــــ
1 التحريم من الآية/1-2.

(2/437)


أنه، عليه السلام، قال: "لن أعود إلى شرب العسل" متفق عليه. وعن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، جعل تحريم الحلال يمينا.
"ومن قال: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو يعبد الصليب، أو الشرق إن فعل كذا، أو: هو بريء من الإسلام، أو من النبي صلى الله عليه وسلم، أو: هو كافر بالله تعالى إن لم يفعل كذا: فقد ارتكب محرما" لحديث ثابت بن الضحاك مرفوعا: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال" رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن بريدة مرفوعا: "من قال: هو بريء من الإسلام: فإن كان كاذبا فهو كما قال، و إن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
"وعليه كفارة يمين إن فعل ما نفاه، أو ترك ما أثبته" لحديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الرجل يقول: هو يهودى، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء؟ فقال: "عليه كفارة يمين" رواه أبو بكر. وعنه: لا كفارة عليه، لأنه لم يحلف باسم الله ولا صفته. وهو قول: مالك والشافعي. ذكره في الشرح.
"ومن أخبر عن نفسه بأنه حلف بالله، ولم يكن حلف: فكذبة لا كفارة فيها" نص عليه، واختاره أبو بكر.

(2/438)


فصل وكفارة اليمين على التخيير:
"إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام" لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} 1
"متتابعة وجوبا إن لم يكن عذر" من مرض ونحوه، لقراءة أبي، وابن مسعود: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} .
"ولا يصح أن يكفر الرقيق بغير الصوم" لأنه لا مال له يكفر منه.
"وعكسه الكافر" لا يكفر بالصوم، لأنه لا يصح منه.
"وإخراج الكفارة قبل الحنث وبعده سواء" روي عن عمر وابنه وغيرهما، وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير" وفي لفظ "فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" متفق عليهما. وروي عن عدي بن حاتم وأبي هريرة، وأبي موسى مرفوعا نحوه. ولا تجزئ كفارة قبل الحلف إجماعا.
"ومن حنث، ولو في ألف يمين بالله تعالى، ولم يكفر: فكفارة واحدة" نص عليه، لأنها كفارات من جنس، فتداخلت كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها، كما لوزنى بنساء أو سرق من جماعة.
ـــــــ
1 المائدة: من الآية/89.

(2/439)


باب جامع الأيمان
مدخل
...
باب جامع الأيمان:
"يرجع في الأيمان إلى نية الحالف" إذا احتملها اللفظ ولم يكن ظالما. نص عليه، لحديث "...وإثما لكل امرئ ما نوى..." .
"فمن دعي لغداء، فحلف لا يتغدى: لم يحنث بغير غدائه إن قصده" أو دل عليه سبب اليمين، لأن قرينة حاله دالة على إرادة الخاص.
"أو حلف: لا يدخل دار فلان وقال: نويت اليوم: قبل حكما" لأنه محتمل، ولا يعلم إلا منه،
"فلا يحنث بالدخول في غيره" لتعلق قصده بما نواه، فاختص الحنث به.
"ولا عدت رأيتك تدخلين دار فلان ينوي منعها فدخلتها: حنث ولو لم يرها" إلغاء لقوله: رأيتك. وإن لم ينو منعها: لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعا للفظه. قاله في الكافي.
"فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها" لدلالة ذلك على النية.
"فمن حلف: ليقضين زيدا حقه غدا، فقضاه قبله" لم يحنث إذا قصد أن لا يتجاوزه، أو اقتضاه السبب، لأن مقتضى يمينه تعجيل القضاء قبل خروج الغد، فتعلقت يمينه به، كما لو صرح به.

(2/440)


"أو: لا يبيع كذا إلا بمائة، فباعه بأكثر" لم يحنث، لدلالة القرينة.
"أو: لا يدخل بلد كذا لظلم فيها، فزال ودخلها" لم يحنث، تقديما للسبب على عموم لفظه. وقال القاضي: يحنث، وذكر أن أحمد نص عليه.
"أو: لا يكلم زيدا لشربه الخمر، فكلمه وقد تركه: لم يحنث في الجميع" لدلالة الحال على أن المراد ما دام كذلك، وقد انقطع ذلك.

(2/441)


فصل فإن عدم النية والسبب رجع إلى التعيين:
لأنه أبلغ من دلالة الاسم على مسماه، لنفيه الابهام بالكلية.
"فمن حلف: لا يدخل دار فلان هذه، فدخلها وقد باعها، أو: وهي فضاء. أو: لا كلمت هذا الصبي، فصار شيخا فكلمه. أو: لا أكلت هذا الرطب، فصار تمرا ثم أكله: حنث في الجميع" لأن عين المحلوف عليه باقية
فصل
"فإن عدم النية، والسبب، والتعيين: رجع إلى ما تناوله الاسم" لأنه مقتضاه، ولا صارف عنه.
"وهو ثلاثة: شرعي، فعرفي، فلغوي، فاليمين المطلقة تنصرف إلى الشرعي" لأنه المتبادر للفهم عند الإطلاق، ولذلك حمل عليه كلام الشارع حيث لا صارف.

(2/441)


"وتتناول الصحيح منه" بخلاف الفاسد فإنه ممنوع منه شرعا.
"فمن حلف: لا ينكح، أو لا يبيع، أو لا يشتري، فعقد عقدا فاسدا: لم يحنث" لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ...} 1 وإنما أحل الصحيح منه، وكذا النكاح.
"لكن لو قيد يمينه بممتنع الصحة، كحلفه: لا يبيع الخمر" أو الحر،
"ثم باعه: حنث بصورة ذلك" لتعذر الصحيح، فتنصرف اليمين إلى ما كان على صورته.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/275.

(2/442)


فصل فإن عدم الشرعي فالأيمان مبناها على العرف:
دون الحقيقة، لأنها صارت مهجورة، فلا يعرفها أكثر الناس.
"فمن حلف: لا يطأ امرأته: حنث بجماعها" لانصراف اللفظ إليه عرفا ولذلك لو حلف على ترك وطئها كان مؤليا.
"أو: لا يطأ، أو يضع قدمه في دار فلان: حنث بدخوله راكبا، أو ماشيا حافيأ. أو منتعلا" لأن ظاهر الحال أن القصد امتناعه من دخولها.
"أو: لا يدخل بيتا: حنث بدخول المسجد، والحمام، وبيت الشعر" لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} 2 وفي الحديث: "ثم يخرج إلى بيت من بيوت الله" .
ـــــــ
1 آل عمران من الآية/96.
2 النور من الآية/36.

(2/442)


وحديث "بئس البيت الحمام" رواه أبو داود وغيره. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} 1 "أو: لا يضرب فلانة فخنقها، أو نتف شعرها، أوعضها: حنث" لوجود المقصود بالضرب، وهو التألم.
ـــــــ
1 النحل من الآية/80.

(2/443)


فصل فإن عدم العرف رجع إلى اللغة:
"فمن حلف: لا يأكل لحما حنث بكل لحم حتى بالمحرم: كالميتة والخنزير" ولحم السباع، وكل ما يسمى لحما، لدخوله في مسماه،
"لا بما لا يسمى لحما كالشحم ونحوه" كمخ، وكبد، وكلية وكرش، ونحوها، لأن إطلاق إسم اللحم لا يتناول شيئا من ذلك. وحديث: "أحل لنا ميتتان ودمان" يدل على أن الكبد والطحال ليسا بلحم، إلا بنية اجتناب الدسم، فيحنث بذلك، وكذا لو اقتضاه السبب.
"ولا يأكل لبنا، فأكل ولو من لبن آدمية: حنث" لأن الإسم يتناوله حقيقة وعرفا. وسواء كان حليبا، أو رائبا، مائعا أو جامدا.
"ولا يأكل رأسا ولا بيضا: حنث بكل رأس وبيض حتى برأس الجراد وبيضه" لدخوله في المسمى.
"ولا يأكل فاكهة: حنث بكل ما يتفكه به حتى بالطبخ" لأنه ينضج ويحلو ويتفكه به، فيدخل في مسمى الفاكهة.
"لا القثاء والخيار" لأنهما من الخضر،

(2/443)


"والزيتون" لأن المقصود زيته، ولا يتفكه به.
"والزعرور الأحمر" بخلاف الأبيض.
"ولا يتغذى فأكل بعد الزوال، أو لا يتعشى فأكل بعد نصف اليل، أو لا يتسحر فأكل قبله: لم يحنث" حيث لا نية، لأن الغداء مأخوذ من الغدوة، وهي من طلوع الفجرإلى الزوال. والعشاء من العشي، وهو: من الزوال إلى نصف الليل. والسحور من السحر، وهو: من نصف الليل إلى طلوع الفجر.
"ولا يأكل من هذه الشجرة: حنث بأكل ثمرتها فقط" لأنها التي تتبادر للذهن، فاختص اليمين بها.
"ولا يأكل من هذه البقرة: حنث بأكل شيء منها لا من لبنها وولدها" لأنهما ليسا من أجزائها.
"ولا يشرب من هذا النهر أو البئر، فاغترف بإناء وشرب: حنث" لأنهما ليسا آلتا شرب عادة، بل الشرب منهما عرفا بالاغتراف باليد أو الإناء.
"لا إن حلف: لا يشرب من هذا الإناء فاغترف منه وشرب" لأن الإناء آلة شرب، فالشرب منه حقيقة: الكرع فيه، ولم يوجد.

(2/444)


فصل ومن حلف لا يدخل دار فلان:
"أو لا يركب دابته: حنث بما جعله لعبده" من دار ودابة، لأنه ملك سيده،
"أو آجره أو استأجره" منها لبقاء ملكه للمؤجر، ولملكه منافع ما استأجره،
"لا بما استعاره" فلان من هذه، لأنه لا يملك منافعه، بل الإعارة إباحة بخلاف الإجارة.
"ولا يكلم إنسانا: حنث بكلام كل إنسان" ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، لأنه نكرة في سياق النفي فيعم.
"حتى بقول: اسكت" لأنه كلام، فيدخل فيما حلف على عدمه.
"ولا كلمت فلانا، فكاتبه أو راسله: حنث" لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} 1 وحديث: "ما بين دفتي المصحف كلام الله" .
"ولا بدأت فلانا بكلام فتكلما معا: لم يحنث" لأ نه لم يبدأه به حيث لم يتقدمه.
"ولا ملك له: لم يحنث بدين" لاختصاص الملك بالأعيان المالية، والدين إنما يتعين الملك فيما يقبضه منه.
ـــــــ
1 الشورى من الآية/ 51.

(2/445)


"ولا مال له، أو لا يملك مالا: حنث بالدين" لأنه مال تجب فيه الزكاة، ويصح التصرف فيه بالإبراء، والحوالة، ونحوهما.
"وليضربن فلانا بمائة، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة: بر" لأنه ضربه بالمائة،
"لا إن حلف ليضربنه مائة" فجمعها وضربه بها ضربة واحدة، لأن ظاهر يمينه أن يضربه مائة ضربة، ليتكرر ألمه بتكرر الضرب.
"ومن حلف: لا يسكن هذه الدار، أو ليخرجن، أو ليرحلن منها: لزمه الخروج بنفسه وأهله ومتاعه المقصود" لأن الدار يخرج منها صاحبها كل يوم عادة، وظاهر حاله: إرادة خروج غير المعتاد.
"فإن أقام فوق زمن يمكنه الخروج فيه عادة، ولم يخرج. حنث. فإن لم يجد مسكنا" ينتقل إليه فأقام أياما في طلب النقلة: لم يحنث، لأن إقامته لدفع الضرر لا للسكنى.
"أو أبت زوجته الخروج معه، ولا يمكنه إجبارها، فخرج وحده، لم يحنث" لوجود مقدوره من النقلة.
"وكذا البلد" إذا حلف: ليرحلن، أو ليخرجن منها،
"إلا أنه يبر بخروجه وحده إذا حلف ليخرجن منه" لأنه صدق عليه أنه خرج منه، إذا بخلاف الدار، فإن صاحبها يخرج منها في اليوم مرات، ولا يبر إذا حلف: ليرحلن من البلد، بخروجه وحده، بل بأهله ومتاعه المقصود كما تقدم.
"ولا يحنث في الجميع بالعود" إلى الدار والبلد، لأن يمينه انحلت بالخروج المحلوف عليه.

(2/446)


"ما لم تكن نية أو سبب" يقتضي هجران ما حلف: ليخرجن، أو ليرحلن منه: فيحنث بعوده.
"والسفر القصير: سفر يبر به من حلف: ليسافرن ويحنث به من حلف: لا يسافر" لدخوله في مسمى السفر. ونقل الأثرم عن أحمد: أقل من يوم يكون سفرا، إلا أنه لا تقصر فيه الصلاة.
"وكذا النوم اليسير" يبر به من حلف: لينامن، ويحنث به من حلف: لا ينام.
"ومن حلف: لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت: حنث" لأن إقراره على خدمته استخدام له.
"ولا يبات 1 ، أو لا يأكل ببلد كذا، فبات، أو أكل خارج بنيانه: لم يحنث" لعدم وجود المحلوف عليه.
"وفعل الوكيل كالموكل، فمن حلف: لا يفعل كذا، فوكل فيه من يفعله: حنث" لصحة إضافة الفعل إلى من فعل عنه، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} 2 وقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} 3 وإنما الحالق غيرهم. وكذا وقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} 4 ونحوه. وهذ ا فيما تدخله النيابة، بخلاف من حلف: ليطأن، أو ليأكلن، ونحوه: فلا يقوم غيره مقامه فيه.
ـــــــ
1 قال في المصباح: وبات يبات من باب تعب: لغة.
2 البقرة من الآية/196.
3 الفتح من الآية/27.
4 غافر من الآية/36.

(2/447)


باب النذر
مدخل
...
باب النذر:
"وهو مكروه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء" لحديث ابن عمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن النذر، وقال: "إنه لا يرد شيئا" وفي لفظ "لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" رواه الجماعة إلا الترمذي. والنهي: للكراهة، لا التحريم، لأن الله تعالى مدح الموفين به.
"ولا يصح إلا بالقول" كالنكاح والطلاق
"من مكلف مختار" لحديث "رفع القلم عن ثلاثة..." .
"وأنواعه المنعقدة ستة أحكامها مختلفة:"
"1- النذر المطلق، كقوله: لله علي نذر، فيلزمه كفارة يمين" في قول الأكثر، لا نعلم فيه مخالفا إلا الشافعي. قاله في الشرح، لحديث عقبة بن عامر مرفوعا "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال حسن صحيح غريب.
"2- نذر لجاج وغضب، كـ: إن كلمتك، أو: إن لم أعطك، أو: إن كان هذا كذا: فعلي الحج، أو العتق، أو صوم سنة، أو مالي صدقة: فيخير بين الفعل، أو كفارة يمين" لحديث عمران بن حصين: سمعت

(2/448)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" رواه سعيد في سننه.
3-"نذر مباح. كـ: لله علي أن ألبس ثوبي، أو أركب دابتي: فيخير أيضا" بين فعله وكفارة يمين، كما لو حلف عليه. وروى أبو داود وسعيد بن منصور أن امرأة قالت: يا رسول الله: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوفي بنذرك" .
4-"نذر مكروه، كطلاق، ونحوه: فيسن أن يكفر ولا يفعله" لأن تركه أولى. وإن فعله فلا كفارة لعدم الحنث.
5-"نذر معصية: كشرب الخمر، وصوم يوم العيد: فيحرم الوفاء به" لحديث عائشة مرفوعا: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" رواه الجماعة إلا مسلما.
"ويكفر" من لم يفعله كفارة يمين. روي نحوه عن ابن مسعود، وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب. وعن عائشة مرفوعا: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" رواه الخمسة، واحتج به أحمد. فإن فعل المعصية لم يكفر. نقله مهنا، ذكره في الفروع.
"ويقضي الصوم" المنذور في يوم العيد، أو أيام التشريق بعدها، فتصح القربة، ويلغو التعيين لأنه معصية.
6-"نذر تبرر: كصلاة، وصيام ولو واجبين، واعتكاف، وصدقة، وحج، وعمرة بقصد التقرب" غير معلق بشرط، فيلزم الوفاء به في قول الأكثر.
"أو يعلق ذلك بشرط حصول نعمة، أو دفع نقمة، كـ: إن شفى الله

(2/449)


مريضي، أو سلم مالي فعلي كذا: فهذا يجب الوفاء به" إذا وجد شرطه. نص عليه، لحديث عائشة المتقدم. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله {... بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} 1 ومن نذر طاعة، وما ليس بطاعة: لزمه فعل الطاعة فقط، لحديث ابن عباس بينما النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه، فليجلس وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه" رواه البخاري. ويكفر لما ترك كفارة واحدة، ولو كثر، لأنه نذر واحد، لقول عقبة بن عامر: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا. مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام" رواه الخمسة، ومن نذر طاعة ومات قبل فعلها: فعلها الولي عنه استحبابا على سبيل الصلة. أفتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت: أمر أن تمشي ابنتها عنها وقال البخاري في صحيحه وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء - يعني: ثم ماتت - فقال: صلي عنها وروى سعيد أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على الولي، للأخبار. وإن نذر أن يطوف على أربع: طاف طوافين. نص عليه، وقاله ابن عباس.
فائدة: قال الشيخ تقي الدين: النذر للقبور، أو لأهلها: كالنذر
ـــــــ
1 التوبة من الآية/77.

(2/450)


لإبراهيم الخليل، عليه السلام، والشيخ فلان: نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وإن تصدق بما نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين، كان خيرا له عند الله وأنفع. وقال: من نذر إسراج بئر، أو مقبرة، أو جبل، أو شجرة، أو نذر له، أو لسكانه، أو المضافين إلى ذلك المكان: لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعا، ويصرف في المصالح، ما لم يعرف ربه، ومن الحسن صرفه في نظيره من المشروع. وفي لزوم الكفارة خلاف. انتهى.

(2/451)


فصل ومن نذر صوم شهر معين لزمه صومه متتابعا:
لأن إطلاقه يقتضي التتابع.
"فإن أفطر لغير عذر: حرم" لعموم حديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" .
"ولزمه استئناف الصوم" لئلا يفوت التتابع، لأن القضاء يكون بصفة الأداء فيما يمكن.
"مع كفارة يمين لفوات المحل" فيما يصومه بعد الشهر.
"و" إن أفطر.
"لعذر: بنى" على ما صامه، وقضى ما أفطره متتابعا متصلا بتمامه،
"ويكفر لفوات التتابع" لما تقدم.
"ولو نذر شهرا مطلقا" أي: غير معين: لزمه التتابع، لأن إطلاق الشهر يقتضيه، سواء صام شهرا هلاليا، أو ثلاثين يوما بالعدد،

(2/451)


"أو صوما متتابعا غير مقيد بزمن: لزمه التتابع" وفاء بنذره. وإن نذر صوم أيام معدودة بغير شرط التتابع ولا نية: لم يلزمه التتابع. نص عليه، لأن الأيام لا دلالة لها على التتابع، بدليل قوله تعالى: {...فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...} 1
"فإن أفطر لغير عذر: لزمه استئنافه" ليتدارك ما تركه من التتابع المنذور بلا عذر،
"بلا كفارة" لإتيانه بالمنذور على وجهه.
"ولعذر: خير بين استئنافه، ولا شيء عليه" لإتيانه به على وجهه،
"وبين البناء، ويكفر" لأنه لم يأت بالمنذور على وجهه.
"ولمن نذر صلاة جالسا أن يصليها قائما" وظاهره: ولا كفارة، لإتيانه بالأفضل: كمن نذر صلاة المسجد الأقصى، يجزئه في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث جابر. رواه أحمد وأبو داود.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/185.

(2/452)