منار السبيل في شرح الدليل

كتاب القضاء
مدخل
مدخل
...
كتاب القضاء:
الأصل في مشروعيته: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...} 1 وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...} 2 الآية وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى...} 3 الآية.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم، فأصاب: فله أجران، وإن أخطأ: فله أجر" متفق عليه. وأجمع المسلمون على مشروعيته.
"وهو فرض كفاية" لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس، وبعث عليا إلى اليمن للقضاء، وحكم الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة في الأمصار ولأن الظلم في الطباع، فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم: فوجب نصبه.
فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحدا: تعين عليه، فإن امتنع: أجبر عليه، لأن الكفاية لا تحصل إلا به. قاله في الكافي.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/49.
2 النساء من الآية65.
3 صّ من الآية/26.

(2/453)


وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به، وأدى الحق فيه. وفيه خطر كثير، ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه. فلذلك كان السلف يمتنعون منه. قال في الفروع: والواجب اتخاذها دينا وقربة، فإنها من أفضل القربات. وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه: لم يلزمه ما يعجز عنه. قال في الشرح: وإن وجد غيره، كره له طلبه بغير خلاف، لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تسأل الإمارة..." . الحديث، متفق عليه.
"فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا" لأنه لا يمكنه أن يباشر الخصومات في جميع البلدان بنفسه، فوجب أن يترتب في كل إقليم من يتولى فصل الخصومات بينهم، لئلا تضيع الحقوق،
"وأن يختار لذلك أفضل من يجد علما وورعا" لأن الإمام ناظر للمسلمين، فيجب عليه اختيار الأصلح لهم.
"ويأمره بالتقوى" لأنها رأس الدين،
"وتحري العدل" أي: إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل، لأنه المقصود من القضاء. ويجتهد القاضي في إقامته.
"وتصح ولاية القضاء، والإمارة منجزة كـ: وليتك الآن، ومعلقة" بشرط، نحو قول الإمام: إن مات فلان القاضي أو الأمير، ففلان عوضه. لحديث "أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة" رواه البخاري.
"وشرط لصحة التولية: كونها من إمام أو نائبه فيه" أي: القضاء،

(2/454)


لأنها من المصالح العامة: كعقد الذمة، ولأن الإمام صاحب الأمر والنهي، فلا يفتأت عليه في ذلك.
"وأن يعين له ما يوليه في الحكم والعمل" وهو ما يجمع بلادا وقرى متفرقة: كمصر ونواحيها، أو العراق ونواحيه،
"وبلد" كمكة، والمدينة، ليعلم محل ولايته، فيحكم فيه دون غيره وبعث عمر، رضي الله عنه، في كل مصر قاضيا وواليا ومشافهته بها إن كان حاضرا، ومكاتبته بها إن كان غائبا لأنه صلى الله عليه وسلم، كتب لعمرو بن حزم حين بعثه لليمن وكتب عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد: فإني قد بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله قاضيا، فاسمعوا لهما وأطيعوا.
"وألفاظ التولية الصريحة سبعة: وليتك الحكم، أو قلدتكه وفوضت، أو رددت، أو جعلت إليك الحكم، واستحلفتك، واستنبتك في الحكم" فإذا وجد أحدها، وقبل المولى: انعقدت الولاية، كالبيع والنكاح.
"والكناية نحو: اعتمدت، أو عولت عليك، أو وكلتك، أو أسندت إليك: لا تنعقد بها إلا بقرينة، نحو: فاحكم أو: فتول ما عولت عليك فيه" لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا ينصرف إلى التولية إلا بقرينة تنفي الاحتمال.

(2/455)


فصل وتفيد ولاية الحكم العامة:
وهي: التي لم تقيد بحال دون أخرى
"فصل الخصومات، وأخذ الحق، ودفعه للمستحق، والنظر في مال اليتيم، والمجنون، والسفيه" الذين لا ولي لهم،
"و" مال
"الغائب" ما لم يكن له وكيل،
"والحجر لسفه، وفلس، والنظر في الأوقاف" التي في عمله،
"لتجري على شروطها" والنظر في مصالح طرق عمله وأفنيته،
"وتزويج من لا ولي لها" من النساء، وتصفح حال شهوده وأمنائه، ليستبدل بمن ثبت جرحه، وإقامة إمامة جمعة وعيد، ما لم يخصا بإمام، عملا بالعادة في ذلك.
"ولا يستفيد الاحتساب على الباعة ولا إلزامهم بالشرع" لأن العادة لم تجر بتولي القضاة ذلك.
"ولا ينفذ حكمه في غير محل عمله" إذا ولاه في محل خاص، فينفذ حكمه في مقيم به، وطارئ إليه، لأنه يصير من أهل ذلك المحل في كثير من الأحكام، ولا ينفذ في غيره، لأنه لم يدخل تحت ولايته. وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه مع الحاجة في قول أكثر أهل العلم. قاله في الشرح. لما روي عن عمر، رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت

(2/456)


على القضاء، وفرض له رزقا، ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وروي أن أبا بكر الصديق لما ولي الخلافة: أخذ الذراع وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي يضيعون. ففرضوا له كل يوم درهمين وبعث عمر إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا، وابن مسعود قاضيا، وعثمان بن حنيف ماسحا، وفرض لهم كل يوم شاة: نصفها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان1 وكتب إلى معاذ بن جبل، وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام، أن: انظرا رجالا من صالحي من قبلكم، فاستعملوهم على القضاء، وارزقوهم، وأوسعوا عليهم من مال الله تعالى. ولا يجوز له أن يوليه على أن يحكم بمذهب إمام بعينه. لا نعلم فيه خلافا.
قاله في الشرح، لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ...} 2 وإنما يظهر الحق بالدليل.
وإذا ولى الإمام قاضيا، ثم مات الإمام أو عزل: لم ينعزل القاضي، لأن الخلفاء ولوا حكاما، فلم ينعزلوا بموتهم. فإن عزله الإمام الذي ولاه، أو غيره: انعزل. لأن عمر يولي الولاة ثم يعزلهم. ومن لم يعزله عثمان بعده إلا القليل. وقال عمر، رضي الله عنه لأعزلن أبا مريم - يعني: عن قضاء البصرة - وأولي رجلا إذا رآه الفاجر فرقه. فعزله، وولى كعب ابن سوار وولى علي أبا الأسود ثم عزله، فقال: لم عزلتني، وما خنت وما جنيت؟! قال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين.
ـــــــ
1 الماسح: الذي ينظر مساحة الأرض.
2 صّ من الآية26.

(2/457)


فصل ويشترط في القاضي عشر خصال:
"كونه بالغا، عاقلا" لأن غير المكلف تحت ولاية غيره، فلا يكون واليا على غيره.
"ذكرا" لحديث "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري. ولأنها ضعيفة الرأي، ناقصة العقل، ليست أهلا لحضور الرجال، ومحافل الخصوم.
"حرا" لأن غيره منقوص برقه، مشغول بحقوق سيده.
"مسلما" لأن الإسلام شرط للعدالة.
"عدلا" فلا يجوز تولية الفاسق، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا...} 1
"سميعا" ليسمع كلام الخصمين.
"بصيرا" ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له، والشاهد من المشهود عليه.
"متكلما" لينطق بالفصل بين الخصوم.
"مجتهدا" ذكره ابن حزم إجماعا، لقوله تعالى: {...لِتَحْكُمَ بَيْنَ
ـــــــ
1 الحجرات من الآية/6.

(2/458)


النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 1 والمجتهد: العالم بطرق الأحكام، لحديث "القضاة ثلاثة..." . الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
"ولو" كان اجتهاده.
"في مذهب إمامه للضرورة" بأن لم يوجد مجتهد مطلق، فيراعي ألفاظ إمامه، ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، لأنهم أدرى به وقال الشيخ تقي الدين: هذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل. وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره. فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا، وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد. وقال أيضا: ويحرم الحكم والفتوى بالهوى إجماعا، وبقول، أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا. ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا. ذكره في الفروع.
"فلو حكم اثنان فأكثر بينهما شخصا صالحا للقضاء: نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه الإمام أو نائبه" لحديث أبى شريح، وفيه أنه قال يا رسول الله: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. قال: "ما أحسن هذا !" رواه النسائي. وتحاكم عمر وأبي إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا.
"ويرفع الخلاف، فلا يحل لأحد نقضه حيث أصاب الحق" لأن من جاز حكمه لزم كقاضي الإمام.
ـــــــ
1 النساء من الآية/105.

(2/459)


فصل في آداب القاضي:
"ويسن كون الحاكم قويا بلا عنف" لئلا يطمع فيه الظالم.
"لينا بلا ضعف" لئلا يهابه المحق،
"حليما" لئلا يغضب من كلام الخصم فيمنعه الحكم
"متأنيا" لئلا تودي عجلته إلى ما لا ينبغي،
"متفطنا" متيقظا لا يؤتى من غفل. ولا يخدع لغرة، ذا ورع ونزاهة وصدق،
"عفيفا" لئلا يطمع في ميله بإطماعه،
"بصيرا بأحكام الحكام قبله" ليسهل عليه الحكم، وتتضح له طريقه. قال علي، رضي الله عنه لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى تكمل فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم وقال عمر بن عبد العزيز: سبع خلال إن فات القاضي منها واحدة فهي وصمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم.
"ويجب عليه العدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه والدخول عليه" لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر"

(2/460)


رواه عمر بن أبي شيبة في كتاب قضاة البصرة. وكتب عمر إلى أبي موسى واس بين الناس في وجهك، ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك وجاء رجل إلى شريح وعنده السري، فقال: أعدني على هذا الجالس إلى جنبك، فقال للسري: قم فاجلس مع خصمك، قال: إني أسمعك من مكاني، قال: قم فاجلس مع خصمك، فإن مجلسك يريبه، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر.
"إلا المسلم مع الكافر: فيقدم دخولا، ويرفع، جلوسا" لحرمة الإسلام ولما روى إبراهيم التيمي أن عليا، رضى الله عنه، حاكم يهوديا إلى شريح، فقام شريح من مجلسه، وأجلس عليا فيه، فقال علي، رضي الله عنه: لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تساووهم في المجالس" .
"ويحرم عليه أخذ الرشوة" لحديث ابن عمر، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الراشي والمرتشي صححه الترمذي. ورواه أبو هريرة، وزاد في الحكم ورواه أبو بكر في زاد المسافر، وزاد والرائش وهو: السفير بينهما. وكذا الهدية، لحديث أبي حميد الساعدي مرفوعا: "هدايا العمال غلول" رواه أحمد. وقال عمر بن عبد العزيز: كانت الهدية فيما مضى هدية، وأما اليوم فهي رشوة. قال في الفروع: وقال كعب الأحبار قرأت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكم وقال الشاعر:
إذا أتت الهدية دارقوم ... تطايرت الأمانة من كواها
إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته بشرط أن لا يكون له حكومة فيباح

(2/461)


قبولها، لانتفاء التهمة. واستحب القاضي التنزه عنها، لأنه لا يأمن أن تكون لحكومة منتظرة. ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه، لئلا يحابى فيجري مجرى الهدية. وروى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده مرفوعا: "ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا" وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان فإن احتاج لم يكره، لأن أبا بكر الصديق قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه.
"ولا يسار أحد الخصمين، أو يضيفه، أو يقوم له دون الآخر" لأنه إعانة له على خصمه، وكسر لقلبه. وروي عن علي، رضي الله عنه أنه نزل به رجل، فقال: ألك خصم؟ قال: نعم، قال: تحول عنا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه" .
"ويحرم عليه الحكم، وهو غضبان كثيرا" لحديث أبي بكر مرفوعا: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه.
"أو حاقن، أو في شدة جوع، أو عطش، أو هم. أو ملل، أو كسل، أو نعاس، أو برد مؤلم، أو حر مزعج" قياسا على الغضب، لأنه في معناه، لأن هذه الأمور تشغل قلبه، ولا يتوفر على الاجتهاد في الحكم، وتأمل الحادثة.
"فإن خالف وحكم" في حال من هذه الأحوال.
"صح إن أصاب الحق" لأن النبي صلى الله عليه وسلم، حكم في حال غضبه في حديث مخاصمة الأنصاري والزبير في شراج الحرة رواه الجماعة.

(2/462)


"ويحرم عليه أن يحكم بالجهل. أو هو متردد. فإن خالف وحكم: لم يصح. ولو أصاب" الحق لحديث بريدة مرفوعا: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم: فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل: فهو في النار" رواه أبو داود وابن ماجه.
"ويوصي الوكلاء والأعوان ببابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع" لئلا يضروا بالناس،
"ويجتهد أن يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والعفة والصيانة" ليكونوا أقل شرا فإن الشباب شعبة من الجنون.
"ويباح له أن يتخذ كاتبا يكتب الوقائع" وقيل: يسن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره في أمر الناس، فيشق عليه تولي الكتابة بنفسه.
"ويشترط كونه مسلما مكلفا عدلا" لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ...} 1 الآية وقال عمر: لا تؤمنوهم وقد خونهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله ولأن الكتابة موضع أمانة فاشترط لها العدالة.
"ويسن كونه حافظا عالما" لأن فيه إعانة على أمره، وكونه جيد الخط عارفا، لئلا يفسد ما يكتبه بجهله، وكونه ورعا نزها كيلا يستمال بالطمع. وقال ابن المنذر: يكره للحاكم أن يفتي في الأحكام، كان شريح يقول: أنا أقضي ولا أفتي.
ـــــــ
1 آل عمران من الآية/118.

(2/463)


باب طريق الحكم وصفته
مدخل
...
باب طريق الحكم وصفته:
"إذا حضر إلى الحاكم خصمان: فله أن يسكت حتى يبتدئا، وله أن يقول: أيكما المدعي؟" لأنه لا تخصيص في ذلك لأحدهما.
"فإذا ادعى أحدهما: اشترط كون الدعوى معلومة" أي: ب شيء معلوم، ليتمكن الحاكم من الإلزام به، وكونها محررة لترتب الحكم عليها، لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما أقضي على نحو ما أسمع" .
"وكونها منفكة عما يكذبها" فلا يصح الدعوى على شخص بأنه قتل أو سرق من عشرين سنة، وسنه دونها.
"ثم إن كانت بدين: اشترط كونه حالا" فلا تصح بالمؤجل، لأنه لا يملك الطلب به قبل أجله.
"وإن كانت بعين: اشترط حضورها لمجلس الحكم لتعين بالإشارة" نفيا للبس.
"فإن كانت غائبة عن البلد: وصفها كصفات السلم" بأن يذكر ما يضبطها من الصفات. وإن ادعى عقارا غائبا عن البلد: ذكر موضعه وحدوده، وتكفي شهرته عندهما، وعند حاكم عن تحديده، لحديث الحضرمي والكندي.
"فإذا أتم المدعي دعواه: فإن أقر خصمه بما ادعاه، أو اعترف بسبب الحق، ثم ادعى البراءة: لم يلتفت لقوله، بل يحلف المدعي على نفي ما ادعاه" المدعى عليه من البراءة بالإبراء أو الأداء،

(2/464)


"ويلزمه بالحق، إلا أن يقيم" المدعى عليه
"بينة ببراءته" فيبرأ. فإن عجز عن إقامتها: حلف المدعي على بقاء حقه.
"وإن أنكر الخصم ابتداء: بأن قال لمدع قرضا أو ثمنا: ما أقرضني، أو: ما باعني، أو لا يستحق علي شيئا مما ادعاه، أو لا حق له علي: صح الجواب" لنفيه عين ما ادعى به.
"فيقول الحاكم للمدعي: هل لك بينة؟" لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم: حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله: إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، للحضرمي: "ألك بينة؟" فقال: لا. قال: "فلك يمينه" صححه الترمذي.
"فإن قال: نعم، قال له: إن شئت فأحضرها، فإذا أحضرها وشهدت سمعها، وحرم ترديده" ويكره نعسها وانتهارها، لئلا يكون وسيلة إلى الكتمان. وكان شريح يقول للشاهدين: ما أنا دعوتكما، ولا أنهاكما أن ترجعا، وما يقضي على هذا المسلم غيركما، وإني بكما أقضي اليوم، وبكما أتقي يوم القيامة.

(2/465)


فصل ويعتبر في البينة العدالة ظاهرا وباطنا:
لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2 إلا في عقد النكاح، فتكفي العدالة ظاهرا. وعنه: تقبل شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة. واختاره: الخرقي، وأبو بكر وصاحب الروضة لقبوله صلى الله عليه وسلم، شهادة الأعرابي برؤية الهلال وقول عمر، رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض.
"وللحاكم أن يعمل بعمله فيما أقربه في مجلس حكمه" وإن لم يسمعه غيره. نص عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع..." . الحديث، رواه الجماعة.
"وفي عدالة البينة وفسقها" بغير خلاف، لئلا يتسلل لاحتياجه إلى معرفة عدالة المزكين أو جرحهم، ثم يحتاجون أيضا إلى مزكين.
"فإن ارتاب منها: فلا بد من المزكين لها" لتثبيت عدالتها.
"فإن طلب المدعي من الحاكم أن يحبس غريمه حتى يأتي بمن يزكي بينته: أجابه لما سأل، وانتظره ثلاثة أيام" لقول عمر في كتابه إلى أبي
ـــــــ
1 الطلاق من الآية/2.
2 البقرة من الآية/282.

(2/466)


موسى الأشعري واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له حقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإنه أنفى للشك، وأجلى للغم.
"فإذا أتى بالمزكين اعتبر معرفتهم لمن يزكونه بالصحبة والمعاملة" لما روى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك، فأتني بمن يعرفك. فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، قال: بأي شيء تعرفه؟ فقال: بالعدالة، قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه. ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك.
"فإن ادعى الغريم فسق المزكين، أو فسق البينة المزكاة، وأقام بذلك بينة: سمعت، وبطلت الشهادة" لأن الجرح مقدم على التعديل، لأن الجارح يخبر بأمر باطن خفي على المعدل، وشاهد العدالة يخبر بأمر ظاهر، ولأن الجارح مثبت، والمعدل ناف، فقدم الإثبات.
"ولا يقبل من النساء تعديل ولا تجريح" لأنها شهادة بما ليس بمال، ولا المقصود منه المال. ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود. قاله في الكافي. ولا يسمع جرح لم يبين سببه، بذكر قادح فيه عن رؤية، أو سماع، أو استفاضة عند الناس، لأن ذلك شهادة عن

(2/467)


علم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 لكن يعرض جارح بزنى أو لواط، لئلا يجب عليه الحد.
"وحيث ظهر فسق بينة المدعي، أو قال ابتداء: ليس لي بينة، قال الحاكم: ليس لك على غريمك إلا اليمين" لقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث: الحضرمي والكندي "شاهداك أو يمينه" ، فقال: إنه لا يتورع من شيء، قال: "ليس لك إلا ذلك" رواه مسلم.
"فيحلف الغريم على صفة جوابه في الدعوى، ويخلى سبيله" لانقطاع الخصومة.
"ويحرم تحليفه بعد ذلك" نص عليه، لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك، لما تقدم.
"وإن كان للمدعي بينة، فله أن يقيمها بعد ذلك" لما روي عن عمر أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة هذا إن لم يكن قال: لا بينة لي، فإن قال ذلك، ثم أقامها: لم تسمع، لأنه مكذب لها.
"وإن لم يحلف الغريم: قال له الحاكم: إن لم تحلف، وإلا حكمت عليك بالنكول" نص عليه.
"ويسن تكراره ثلاثا" قطعا لحجته،
"فإن لم يحلف: قضى عليه بالنكول وألزمه الحق" لحديث ابن عمر أنه باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالما بعيبه، فأنكره ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: احلف أنك ما علمت به عيبا، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد رواه
ـــــــ
1 الزخرف من الآية/86.

(2/468)


أحمد. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "اليمين على المدعى عليه" فحصرها في جنبته، فلم تشرع لغيره. وقيل: ترد اليمين على الخصم، اختاره أبو الخطاب، وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني. وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالا، فتحاكما إلى عمر، فقال عثمان: هو سبعة آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف، فقال عمر: أنصفك. احلف أنها كما تقول، وخذها رواه أبو عبيد، وقال: فهذا عمر قد حكم برد اليمين، ورأى ذلك المقداد، ولم ينكره عثمان. وروى أبو عبيد أيضا عن شريح، وعبد الله بن عقبة أنهما قضيا برد اليمين. وقال علي إن رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {...أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} 1 وأما السنة فحديث القسامة انتهى.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/108.

(2/469)


فصل وحكم الحاكم يرفع الخلاف لكن لا يزيل الشيء عن صفته باطنا:
لحديث: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه: فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه.
"فمتى حكم له ببينة زور بزوجية امرأة ووطء مع العلم: فكالزنا" فيجب عليه الحد بذلك، وعليها الامتناع منه ما أمكنها، فإن أكرهها فالإثم عليه دونها.

(2/469)


"وإن باع حنبلي متروك التسمية" عمدا من ذبيحة أو صيد،
"فحكم بصحته شافعي: نفذ" عند أصحابنا إلا أبا الخطاب. قاله في الفروع. وكذا إن حكم حنفي لحنبلي بشفعة جوار.
"ومن قلد" مجتهدا،
"في نكاح" مختلف فيه،
"صح ولم يفارق" زوجته
"بتغير اجتهاده" أي: المجتهد الذي قلده في صحته
"كالحاكم بذلك" أي: كما لو حكم له حاكم مجتهد بصحة نكاح، فتغير اجتهاده: فلا يفارق.

(2/470)


فصل وتصح الدعوى بحقوق الآدميين على الميت:
"وعلى غير المكلف، وعلى الغائب مسافة قصر، وكذا دونها إن كان مستترا بشرط البينة في الكل" لحديث هند قالت: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه. فقضى لها، ولم يكن أبو سفيان حاضرا. ويحمل حديث علي على ما إذا كانا حاضرين. وعنه لا يجوز القضاء على الغائب، وهو اختيار ابن أبي موسى، لحديث علي مرفوعا: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء" حسنه الترمذي. والميت وغير المكلف كالغائب، لأن كلا منهم لا يعبر عن نفسه. وأما المستتر فلتعذر حضوره

(2/470)


كالغائب بل أولى، لأن الغائب قد يكون له عذر بخلاف المتواري. ولئلا يجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق فإن أمكن إحضاره أحضر، بعدت المسافة أو قربت، لما روي أن أبا بكر، رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية أن: ابعث إلي بقيس بن المكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يمينا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ما قتل دادويه ولأنا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق. قاله في الكافي.
"ويصح أن يكتب القاضي الذي ثبت عنده الحق" أي: كل حق للآدمي لا في حد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على الستر، والدرء بالشبهات.
"إلى قاض آخر معين أو غير معين" كأن يكتب إلى من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين من غير تعيين بما ثبت عنده، ليحكم به، وبما حكم لينفذه، ويكتب.
"بصورة الدعوى الواقعة على الغائب بشرط أن يقرأ ذلك على عدلين، ثم يدفعه لهما" لأن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر، كالعقود. قاله في الكافي. وقال في الشرح: وحكي عن الحسن وسوار والعنبري أنهم قالوا: إذا عرف خطه وختمه: قبله. وهو قول: أبي ثور.
"ويقول فيه: وإن ذلك قد ثبت عندي، وإنك تأخذ الحق للمستحق" لما روى الضحاك بن سفيان قال "كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" رواه أبو داود والترمذي.

(2/471)


"فيلزم القاضي الواصل إليه ذلك العمل به" لإجماع الأمة على قبوله، لقوله تعالى: {...إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} 1 ولأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك الأطراف وإلى عماله وسعاته.
ـــــــ
1 النمل من الآية/29.

(2/472)


باب القسمة
مدخل
...
باب القسمة:
أجمعوا عليها، لقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} 1 وقوله: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ...} 2 وحديث: "إنما الشفعة فيما لم يقسم" وقسم النبي صلى الله عليه وسلم، الغنائم بين أصحابه ولحاجة الشركاء إليها ليتخلصوا من سوء المشاركة. و ذكرت في القضاء، لأن منها ما يقع بإجبار الحاكم عليه.
"وهي نوعان قسمة تراض" وهي: ما فيه ضرر أو رد عوض.
"وقسمة إجبار" وهي: ما لا ضرر فيه ولا رد عوض.
"فلا قسمة في مشترك إلا برضى الشركاء كلهم، حيث كان في القسمة ضرر ينقص القيمة" لحديث "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد ومالك في الموطأ.
"كحمام، ودور صغار" بحيث يتعطل الانتفاع بها، أو يقل إذا قسمت،
"وشجر مفرد وحيوان" وأرض ببعضها بئر أو بناء، ولا تتعدل
ـــــــ
1 النساء من الآية/8.
2 القمر من الآية/28.

(2/472)


بأجزاء ولا قيمة، لأن فيها إما ضررا أو رد عوض، وكلاهما لا يجبر الإنسان عليه.
"وحيث تراضيا صحت، وكانت بيعا يثبت فيها ما يثبت فيه من الأحكام" من خيار مجلس، وشرط، وغبن، ورد بعيب، لأنها معاوضة.
"وإن لم يتراضيا ودعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك، أو إلى بيع عبد أو بهيمة أو سيف ونحوه مما هو شركة بينهما: أجبر إن امتنع" دفعا للضرر.
"فإن أبى: بيع عليهما" أي: باعه الحاكم،
"وقسم الثمن" بينهما على قدر حصصهما. نص عليه في رواية الميموني وحنبل.
"ولا إجبار في قسمة المنافع" بأن ينتفع أحدهما بمكان، والآخر بآخر، أو كل منهما ينتفع شهرا ونحوه، لأنها معاوضة فلا يجبر عليها الممتنع كالبيع، ولأن القسمة بالزمان يأخذ أحدهما قبل الآخر فلا تسوية لتأخر حق الآخر.
"فإن اقتسماها بالزمن: كهذا شهرا، والآخر مثله، أو بالمكان: كهذا في بيت، والآخر في بيت: صح جائزا ولكل الرجوع" متى شاء، فلو رجع أحدهما بعد استيفاء نوبته: غرم ما انفرد به، أي: أجرة مثل حصة شريكه مدة انتفاعه. وقال الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه.

(2/473)


فصل النوع الثاني قسمة إجبار:
"وهي: ما لا ضرر فيها، ولا رد عوض" سميت بذلك لإجبار الممتنع منها إذا كملت الشروط.
"وتتأتى في كل مكيل وموزون، وفي دار كبيرة، وأرض واسعة، ويدخل الشجر تبعا" للأرض، كالأخذ بالشفعة.
"وهذا النوع ليس بيعا" لمخالفته له في الأحكام والأسباب كسائر العقود، فلو كانت بيعا لم تصح بغير رضي الشريك، ولوجبت فيها الشفعة، ولما لزمت بالقرعة، بل إفراز للنصيبين، وتمييز للحقين. فيصح قسم لحم هدي وأضحية، مع أنه لا يصح بيع شيء منهما.
"فيجبر الحاكم أحد الشريكين إذا امتنع" ويشترط لذلك ثبوت ملك الشركاء وثبوت أن لا ضرر فيها، وثبوت إمكان تعديل السهام في المقسوم، فإذا اجتمعت أجبر الممتنع، لأن طالبها يطلب إزالة ضرر الشركة عنه وعن شريكه، وحصول النفع لكل منهما بتصرفه في ملكه بحسب اختياره من غير ضرر بأحد، فوجبت إجابته. ويقسم عن غير مكلف وليه، فإن امتنع أجبر، ويقسم الحاكم على غائب بطلب شريكه أو وليه، لأنها حق عليه، فجاز الحكم به كسائر الحقوق.
"ويصح أن يتقاسما بأنفسهما، وأن ينصبا قاسما بينهما" لأن الحق لا يعدوهما، أو يسألا الحاكم نصبه، لأنه أعلم بمن يصلح للقسمة، فإذا سألاه وجبت إجابتهما لقطع النزاع.

(2/474)


"ويشترط إسلامه وعدالته وتكليفه" ليقبل قوله في القسمة،
"ومعرفته بالقسمة" ليحصل منه المقصود، ويكفي واحد إن لم يكن في القسمة تقويم، لأنه بالحاكم.
"وأجرته بينهما على قدر أملاكهما" نص عليه، ولو شرط خلافه.
"وإن تقاسما بالقرعة جاز ولزمت القسمة بمجرد خروج القرعة" لأن القاسم، كحاكم، وقرعته حكم. نص عليه.
"ولو فيها رداءة وضرر" إذا تراضيا عليها، وخرجت القرعة إذ القاسم يجتهد في تعديل السهام، كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته، كقسمة الإجبار.
"وإن خير أحدهما الآخر بلا قرعة، وتراضيا: لزمت بالتفرق" بأبدانهما كالبيع.
"وإن خرج في نصيب أحدهما عيب جهله: خير بين فسخ وإمساك، ويأخذ الأرش" كالمشتري، لوجود النقص.
"وإن غبن غبنا فاحشا: بطلت" لتبين فساد الإفراز.
"وإن ادعى كل أن هذا من سهمه" وأنكره الآخر،
"تحالفا، ونقضت" القسمة، لأن المدعى لا يخرج عن ملكهما، ولا سبيل لدفعه إلى مستحقه منهما بدون نقض القسمة.
"وإن حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر: بطلت" لعدم تمكن الداخل من الانتفاع بما حصل له بالقسمة، فلا تكون السهام معدلة، والتعديل واجب في جميع الحقوق. وقال ابن قندس: فإن أخذه راضيا عالما أنه لا طريق له جاز، لأن قسمة التراضي بيع، وشراؤه على هذا الوجه جائز.

(2/475)


باب الدعاوى والبينات:
الدعوى لغة: الطلب. واصطلاحا: إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره، أو في ذمته. والمدعي: من يطالب غيره بحق. والمدعى عليه: المطالب، ويقال أيضا: المدعي: من إذا ترك ترك، والمدعى عليه: من إذا ترك لا يترك. والبينة: العلامة، كالشاهد فأكثر. وأصل هذا الباب حديث ابن عباس مرفوعا: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" رواه أحمد ومسلم.
"ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف" أي: حر مكلف رشيد.
"وإن تداعيا عينا لم تخل من أربعة أحوال:"
"1- أن لا تكون بيد أحد، ولا ثم ظاهر" يعمل به
"ولا بينة" لأحدهما،
"فيتحالفان ويتناصفانها" لاستوائهما في الدعوى، وليس أحدهما أولى بها من الآخر، لعدم المرجح.
"وإن وجد ظاهر" يرجع أنها
"لأحدهما عمل به" فيحلف ويأخذها. فلو تنازع الزوجان في قماش البيت ونحوه: فما يصلح لرجل فهو له، وما يصلح لها فلها، ولهما فلهما.

(2/476)


"2- أن تكون بيد أحدهما فهي له بيمينه" لما تقدم، ولحديث "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك" ولأن الظاهر من اليد الملك، فإن كان للمدعي بينة حكم له بها.
"فإن لم يحلف قضي عليه بالنكول ولو أقام بينة" لجواز أن يكون مستند بينته رؤية التصرف، ومشاهدة اليد، ولعدم حاجته إليها. وفي شرح المنتهى، قلت: بل هو محتاج إليها لدفع التهمة، واليمين عنه. انتهى. وقال في الشرح وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها، ولم يحلف، وهو قول أهل الفتيا. وقال شريح والنخعي: يحلف. انتهى. ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها فكانت أولى من اليمين التي يتهم فيها. قاله في الكافي.
"3- أن تكون بيديهما كشيء: كل 1 ممسك ببعضه فيتحالفان، ويتناصفانه" لا نعلم فيه خلافا. قاله في الشرح، لحديث أبي موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دابة ليس لأحدهما بينة: فجعلها بينهما نصفين رواه الخمسة إلا الترمذي.
"فإن قويت يد أحدهما، كحيوان: واحد سائقه، والآخر راكبه" فللثاني بيمينه، لأن تصرفه أقوى، ويده آكد، وهو المستوفي لمنفعة الحيوان.
"أو قميص: واحد آخذ بكمه، والثاني لابسه: فللثاني بيمينه" لما تقدم.
ـــــــ
1 قوله كل: بتشديد اللام وضمها لأنها مبتدأ، وممسك خبر والجملة صفة لشيء.

(2/477)


"وإن تنازع صانعان في آلة دكانهما: فآلة كل صنعة لصانعها" كنجار وحداد بدكان، فآلة النجارة للنجار، وآلة الحدادة للحداد بيمينه حيث لا بينة عملا بالظاهر.
"ومتى كان لأحدهما بينة فالعين له" لحديث الحضرمي والكندي1
"فإذا كان لكل منهما بينة به وتساوتا من كل وجه تعارضتا وتساقطتا" لأن كلا منهما تنفي ما تثبته الأخرى
"فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما" لحديث أبي موسى أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله فبعث كل منهما بشاهدين، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم، بينهما رواه أبو داود.
"ويقترعان فيما عداه" أي: فيما ليس بيديهما، أو بيد ثالث لا يدعيه.
"فمن خرجت له القرعة فهو له بيمينه" روي عن ابن عمر وابن الزبير، وبه قال إسحاق وأبو عبيد: ذكره في الشرح. كما لو لم يكن لواحد منهما بينة، لحديث أبي هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم يكن
ـــــــ
1 ونصه: عن وائل بن حجر، قال "جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت للأبي، قال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، للحضرمي: "ألك بينة؟" قال: لا، قال: "فلك يمينه" ، فقال : يا رسول الله. الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف علبه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس لك منه إلا ذلك" ، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أدبر الرجل: "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما: ليلقين الله وهو عنه معرض" رواه مسلم والترمذي وصححه.

(2/478)


لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود. وروى الشافعي عن ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أمر، فجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بينهما.
"وإن كانت العين بيد أحدهما: فهو داخل، والآخر خارج، وبينة الخارج مقدمة على بيعة الداخل" لحديث: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه" وفي لفظ: "واليمين على من أنكر" رواه الترمذي. وحديث: "شاهداك أو يمينه" وعن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قضى باليمين على المدعى عليه متفق عليه.
"لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه، والداخل بينة أنه اشتراها منه: قدمت بينته" أي: الداخل،
"هنا، لما معها من زيادة العلم" لشهادتها بأمر حدث على الملك خفي على الأولى، كما لو ادعى بدين وأقام به بينة، فقال المدعى عليه: أبرأني، وأقام بينة بذلك: قدمت، لما معها من زيادة العلم،
"أو أقام أحدهما بينة أنه اشتراها من فلان، وأقام الآخر بينة كذلك عمل بأسبقهما تاريخا" لإثباتها أنه اشتراها من مالكها، ولمصادفة التصرف الثاني ملك غيره فوجب بطلانه، فإن لم يعلم التاريخ، أو اتفق: تساقطتا، لتعارضهما وعدم المرجح.
"4- أن تكون بيد ثالث، فإن ادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينا" لأنهما اثنان، كلاهما يدعيها.

(2/479)


"فإن نكل أخذها منه مع بدلها" أي: مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت متقومة، لتلف العين بتفريطه، وهو ترك اليمين للأول، أشبه ما لو أتلفها.
"واقترعا عليهما" أي: العين وبدلها، لأن المحكوم له بالعين غير معين.
"وإن أقر بها لهما اقتسماها" نصفين،
"وحلف لكل واحد يمينا" بالنسبة إلى النصف الذي أقر به، لصاحبه، لأنه يدعيه له، كما لو أقر بها، لأحدهما فإنه يحلف للآخر.
"وحلف كل واحد لصاحبه على النصف المحكوم له به" كما لو كانت العين بيديهما ابتداء.
"وإن قال: هي لأحدهما، وأجهله، فصدقاه" على جهله به،
"لم يحلف" لتصديقهما له في دعواه،
"وإلا" يصدقاه
"حلف يمينا واحدة" لأن صاحب الحق منهما واحد غير معين،
"ويقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها" نص عليه، لحديث أبي هريرة السابق.

(2/480)