نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب نَيْلُ المَآرِب
بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب
للشَّيخِ عَبد القَادِرْ بْن عُمَر الشَّيْبَانِي
المشهُور بابْن أبى تغلب
عَلى مذهَب الإمَام المبجّل أحمَد بْن حنبَل - رضي الله عنه -
الجُزءُ الأوَّل
حَقَّقَهُ
الدكتور محمد سُليمان عبد الله الأشقر
مكتبة الفلاح
(/)
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1403 هـ - 1983 م
مكتبة الفلاح - الكويت
ص. ب 4848 - الكويت - شارع بيروت - عمارة الحساوي
مقابل بريد حولي - تليفون 547784
(1/2)
نَيْلُ المَآرِب
بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب
(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن
محمداً عبد الله ورسوله إمام المؤمنين، الذي أقام الله به الدين، وأثبت به
حجّته على العالمين، وأظهر به الحق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فصلى الله عليه وعلى إخوانه النبيين وعلى آله وصحبه الهداة المهديين، وسلم
تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن الفقه الإسلامي وهو ثمرة أدلة الأحكام الشرعية الفرعية، وثمرة
اجتهاد النخبة من علماء الملة، جمعه الجهابذة الأعلام في مؤلفات بين
مطوّلات ومختصرات، ذكروا فيها ما علموه أو غلب على ظنهم من أحكام الله
تعالى من أفعال العباد، تيسيراً للعمل بشريعة الله، وتعليماً للناس،
وإبلاغاً لهم. واستقرّت تلك المؤلفات على أوضاع معينة. وإن كان اختلاف
العصور يستدعي تغييراً في الأساليب والتعبير، وتغييراً في طرق التأليف،
وتعديلاً في موضوعات المسائل، حتى يهمل ما لم يعد الناس بحاجة إليه، ويدخل
ما هم بحاجة إليه مما استدعته التطورات الاقتصادية والسياسية وغيرها،
وتيسيراً في طرق العرض تستفيد من الأوضاع الجديدة في علوم التربية
والمناهج، من كل ما يسهّل قبول أحكام الله تعالى والعمل بها. بالإِضافة إلى
حاجتها إلى تنقيح جملة كثيرة من مسائل الفقه اتبع بعض الفقهاء فيها بعضاً،
ولعل مبنى كثير منها حديث ضعيف، أو قياس باطل، أو مصلحة موقوتة، أو وهم
عابر.
(1/9)
فما أحوج الفقه الإِسلامي إذن إلى ثورة
جديدة تعيده إلى قمة الحيوية والنشاط، وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون في
تراثنا الفقهي ثروة وأي ثروة، هي كنوز من المعرفة لا تعدلها الكنوز.
وإن إخراج تلك الكنوز إلى حيز النور، على وضع يليق بها، لهو من خير مما
ييسّر السبيل لثورة الفقه المنشودة.
وهذا الكتاب الذي نضعه بين يديك قارئي العزيز، هو خلاصة ما استقر عليه
العمل في المذهب الحنبلي، وهو المذهب الذي تميز بمزيد قربه من الكتاب
والسنة، إذ إنه في أصله قام على كراهية القول بالرأي في مسائل الدين، وعلى
الاعتماد على الآيات والأحاديث والآثار.
نقدمه لك، ونحن نبين لك -إن كنت من أهل العلم والنظر- أن واجبك الأخذ
بدلالة الكتاب والسنة، والعود إليهما في كل ما تعتقد من أحكام الدين، وأنه
ليس لك أن تأخذ بقول مما في هذا الكتاب ولا غيره ما لم يتبين لك أنه الحق
بدليله. وإنما هذا الكتاب وأمثاله يبصّرك بالطريق، ويفرّع لك المسائل،
ويعطيك فيها حكماً. وعليك أن تنظر وتقارن، وتستدل وتستوضح. والله الهادي
إلى أقوم طريق.
ونقدم لك بين يدي الكتاب ترجمة لصاحب المتن وصاحب الشرحِ ونقدم أيضاً
بيانات عن العملين، ثم نقدم ترجمة للمحقق بقلمه، وبيانًا لنهجه في التحقيق.
(1/10)
الشيخ مرعي بن يوسف الكَرمي
صَاحِب مَتنِ دَليلِ الطَّالب
(1033هـ)
هو مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد، الكرمي ثم
المقدسي. نسبته إلى "طُوركَرْم" وهي قرية من قرى نابلس، تقع غربيها إلى جهة
البحر، تبعد عنها قريباً من 16 كيلو متراً. وهي الآن مدينة، ومركز قضاء.
وتسمى في لسان أهل فلسطين الآن "طولْكرمْ ". ويظهر من كلام الذين ترجموا له
أنه ولد في طولكرم، ثم انتقل إلى القدس، ثم إلى القاهرة واستوطنها. وبها
توفي ودفن بتربة المجاورين.
أخذ في بلاده عن الشيخ محمد المرداوي، والقاضي يحيى بن موسى الحجاوي. وفي
مصر عن الشيخ محمد حجازي، والشيخ أحمد الغنيمي، وغيرهم كثير.
قال فيه المحبّي: "أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر. كان إماماً محدثاً
فقيهاً، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفةٍ تامة بالعلوم
المتداولة. وتصدر للإِقراء والتدريس بالجامع الأزهر، ثم تولّى المشيخة
بجامع السلطان حسن. وكان منهمكاً على العلوم انهماكاً كلِّيًّا، فقطع
زمانَهُ بالِإفتاء والتدريس، والتحقيق والتصنيف. فسارت بتآليفه الركبان
وتحدث بها الناس زماناً بعد زمان. ومع كثرة أعدائه وأضداده ما أمكن أن يطعن
فيها أحد، ولا أن ينظر فيها بعين الِإزراء". ويتبين من قائمة مؤلفاته أنه
كان مفسراً أيضاً وأديباً ومؤرِّخاً. وله في التصوف ضلع.
(1/11)
من مؤلفاته "غاية المنتهى في الجمع بين
الإِقناع والمنتهى" طبع حديثاً على نفقة حاكم قطر. ومنزلة هذا الكتاب عالية
بين كتب المذهب أثنى عليه الشيخ عبد القادر بن بدران في المدخل وقال: "سلك
فيه مؤلفه مسالك المجتهدين -أي في التصحيح والترجيح- ولكنه جاء على حين
فترة من علماء هذا المذهب، فلم ينتشر انتشار غيره".
وعليه شرحه المشهور "مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى" في خمسة
مجلدات. وهو مطبوع متداول.
وقد أورد المحبّيّ قائمة مؤلفاته فزادت عن السبعين، ونقلها عنه صاحب "مختصر
طبقات الحنابلة" ص 99، وأوردها كذلك صاحب "هدية العارفين" مرتبة على
الحروف. فليرجع إليها من شاء. إلا أننا نودّ الإِشارة إلى أن تنوعها يدلّ
على طول باع المترجم، وحسن تصرفه في كثير من العلوم والآداب. رحمه الله.
(1/12)
دليل الطالب لنيل
المطالب
هو متنٌ مختصر مشهور عند الحنابلة. عني به المتأخرون منهم دراسة وشرحاً
وتحشية ونظماً، كما تراه في ما يلي. "وذلك لما عرفوه من غزارة علمه وكثرة
فوائده ... وما عنوا به إلا لجلالة قدره عندهم ومعرفتهم بما تضمنه من
التحقيق، ولهذا قال مؤلفه: لم أذكر فيه إلا ما جزم بصحته أهل التصحيح
والعرفان، وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح والإتقان" (1). وهو يكاد يكون
مختصراً للكتاب المشهور (منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح
وزيادات) من تأليف الشيخ أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المصري المشهور
بابن النجار (- 972 هـ)، و (المنتهى) كان عمدة المتأخرين في المذهب الحنبلي
وقد حُرِّرتْ مسائله على ما هو الراجح في المذهب.
بل قد صرح الشيخ محمد بن مانع بأن (دليل الطالب) اختصره مؤلفه من شرح
المنتهى، وكذلك صرح به الشيخ صالح البهوتي شارحه، حيث قال في مقدمة شرحه:
"لما رأيت مختصر منتهى الِإرادات الموسوم بدليلِ الطالب إلخ" وفي افتتاحية
(دليل الطالب) ما لعلّه يشير به إلى هذا إشارةً خفيةً حيث قال: "وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله ... الفائز بمنتهى الإِرادات من ربّه".
__________
(1) من كلام الشيخ ابن مانع (مقدمة منار السبيل 19/ 1).
(1/13)
شروح دليل الطالب وحواشيه وما خُدِم به:
1 - عليه حاشية لابن عوض ينقل منها اللبدي في حاشيته على "نيل المآرب".
وذكرها ابن بدران. وهو أحمد بن عوض بن محمد المرداوي المقدسي، تلميذ الشيخ
عثمان النجدي. وكان موجوداً سنة 1101 هـ. وقال ابن بدران: إنها في مجلّدين.
2 - وعليه حاشية لطيفة للشيخ مصطفى الدومي الصالحي مفتي رواق الحنابلة في
مصر. ذكرها ابن بدران أيضاً.
3 - وعليه حاشية للشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع من أهل عنيزة بالقصيم.
وقد طبعت الحاشية المذكورة مع متن الدليل بإشراف الشيخ قاسم بن درويش فخرو.
4 - وعليه شرحٌ للجراعي، وهو إسماعيل بن عبد الكريم بن محيي الدين الدمشقي
(1134 - 1202هـ). ذكره ابن بدران أيضاً. وقال: ولم يتمّ الكتاب.
5 - وعليه شرحه للسفاريني، وهو محمد بن أحمد السفاريني (1114 - 1188هـ)،
ذكره ابن بدران أيضاً. قلتُ: في "سلك الدرر" (4/ 32): إن هذا الشرح لم
يتمّ.
6 - وعليه شرحه للشيخ عبد الله المقدسي، ذكره ابن عوض في حاشيته، على ما في
كلام الشيخ محمد بن مانع.
7 - وعليه شرحه المسمى "مسلك الرّاغب شرح دليل الطالب" لمؤلفه الشيخ صالح
البهوتي. اطلعت على نسخة بدار الكتب المصرية برقم (62 - فقه حنبلي) من نصفه
الأول انتهى فيه إلى باب الوكالة. والنسخة المذكورة كتبت سنة 1234 هـ.
وذكرها بروكلمان.
8 - "منار السبيل بشرح الدليل" لمؤلفه الشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن
ضويّان (1275 - 1353هـ) وهو مطبوع بإشراف الشيخ
(1/14)
قاسم بن درويش فخرو من أهل قطر، في مجلدين.
وامتاز هذا الشرح بكثرة إيراد أحاديث الأحكام عند الاستدلال على مسائلها،
إلا أن تفريعاته قليلة بالنسبة إلى ما حواه "نيل المآرب". وقد خرّج أحاديثه
تخريجاً فريداً أخونا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في "إرواء الغليل في
تخريج أحاديث منار السبيل" في ثمانية مجلدات فأجاد وأفاد ووفى بالمراد،
جزاه الله خيراً.
9 - "نيل المآرب بشرح دليل الطالب". وهو هذا الكتاب الذي نعيد نشره اليوم
بفضل الله تعالى.
10 - ونَظَمه محمد بن إبراهيم بن عريكان من أهل القصيم من بلد الخَبْرا.
ذكر ذلك الشيخ ابن مانع.
11 - ونظمه أيضاً أحد علماء حلب كما ذكر ذلك الشيخ محمد راغب الطباخ
المتوفى بحلب 1370 هـ. على ما ذكره الشيخ ابن مانع أيضاً.
(1/15)
المراجع
1 - المحبّي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 358/ 4
2 - محمد جميل الشطي ومحمد زهير الشاويش: تقديم كتاب "غاية المنتهى في
الجمع بين الإِقناع والمنتهى" للشيخ مرعي الحنبلي، دمشق، المكتب الإِسلامي،
1378 هـ.
3 - عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 218/ 12
4 - إسماعيل باشا البغدادي: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين.
استانبول، مطبعة وكالة المعارف، 1955م 1/ 426 وفيها قائمة كتب مصنّف
الدليل.
5 - أسعد طلس: الكشاف عن مخطوطات خزائن كتب الأوقاف، بغداد، 1372 هـ، ص 19
6 - إسماعيل باشا البغدادي: "إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون" 7/ 1 ومواضع
منه كثيرة تنظر في "معجم المؤلفين" 219/ 12
7 - عبد القادر بدران: "المدخل إلى مذهب الإِمام أحمد بن حنبل" ص 226، 227
(1/16)
ابن أبي تغلب
(صاحب نيل المآرب)
(1057هـ - وفي هدية العارفين: 1052 - 1135هـ)
هو عبد القادر بن عمر بن عبد القادر بن عمر بن أبي تغلب بن سالم، أبو
التُّقى، التغلبيّ، الشيباني، من فقهاء الحنابلة. قال عبد القادر ابن بدران
في المدخل: "رأيت في بعض المجاميع نسبته إلى دوما". يغلب على ظنّنا أن
شهرته كانت "ابن أبي تغلب" تبعاً لما ذكره البغدادي في "هدية العارفين" حيث
قال: "المعروف بابن أبي تغلب" ويكون هذا أولى مما شهره به صاحب "معجم
المؤلفين" وصاحب "الأعلام" من أنه "التغلبي".
ثم هذه النسبة "التغلبي" يظهر أنها نسبة إلى جدّ جده "أبي تغلب" لا إلى
القبيلة العربية المشهورة، فإن نسبته إلى "شيبان"، إن كانت نسبة إلى الجدّ
الجاهلي، تنفي ذلك، إذ إن "شيبان" من "بكر بن وائل" وبكر أخت "تغلب" إذ هما
ابنا وائل، وهو شعب من ربيعة.
والمترجم فقيه حنبلي، صوفي، كان له معرفة بالفرائض.
مولده بدمشق، وبها كانت وفاته في 18 من ربيع الآخر ودفن بها بمقبرة مرج
الدحداح. ترجم له صاحب سلك الدرر (58/ 3) فقال: "قرأ القرآن العظيم في
صغره، ولزم الشيخ عبد الباقي الحنبلي، وولده أبا المواهب. وقرأ عليهما
كتباً كثيرة في عدة فنون. وأعاد للثاني درسه. ولازم الشيخ محمد البلباني
وأجازه بمروياته". ثم عدّ من شيوخه محمد
(1/17)
بن يحيى الخباز البطنيني، وإبراهيم
الكوراني المدني، وعثمان القطان، ومحمد بن محمد العيتاوي، وسعودي الغزّي،
ومحمد الدلجموني المصري، ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي، وغيرهم ممن ضمّنهم
ثَبْتَهُ. وكان يرتزق من عمله في تجليد الكتب ومن ملك له في قرية "دوما".
قال المحبي: "وكان ديّناً صالحاً ناسكاً بَشُوشاً، ولا يخالط الحكام".
مؤلفاته:
لم تذكر المراجعِ التي بين أيدينا لابن أبي تغلب من المؤلفات إلا (نيل
المآرب) وإلا "ثبتاً"، ذكره صاحب معجم المؤلفين.
(1/18)
نَيْل المآرب
شرح دليل الطالب
هذا الكتاب لمؤلفه "ابن أبي تغلب" هو أحد شروح دليل الطالب. وهو في غالبه
مستخلص من المنتهى وشرحه للشيخ منصور بن يونس البهوتي. غير أنه ينقل قليلاً
عن الفروع والإِنصاف والمغني والمحرر وكشاف القناع وغيرها من كتب الحنابلة.
وللشارح المذكور آراء خاصة أدخلها في شرحه، إلا أنها قليلة، والغالب عليه
النقل.
قال الشيخ عبد القادر بن بدران في "المدخل إلى مذهب الِإمام أحمد بن حنبل"
ص 227: "وشرحه هذا متداول مطبوع، ولكنه غير محرر، وليس بواف بمقصود المتن".
وأثبت هذا الحكم على هذا الكتاب -الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع رحمه
الله في مقدمته لمنار السبيل، فقال أيضاً: "يعوزه التحقيق، وعلى هذا الشرح
حاشية للشيخ عبد الغني اللبدي، وهي حاشية مفيدة جدًا تَحَررَ بها شرح
التغلبي".
ولعل مما يشفع لمؤلِّفه أنه ألَّفه في ريعان الشباب. ففي خاتمته أنه فرغ من
تأليفه سنة (1091هـ) ومعنى ذلك أن سنّه إذ ذاك كانت لا تزيد عن 34 عاماً.
ولعله شرع فيه ولا يزيد سنه عن الثلاثين.
(1/19)
وقد يسّر الله تعالى تحرير كثير من مسائله
ضمن تحقيقنا هذا كما ستراه إن شاء الله. وإن أمكنت طباعة حاشيته للشيخ
اللبدي حصل بها تمام تحرير هذا الشرح إن شاء الله.
نسخ هذا الكتاب:
أولاً: الطبعات:
1 - طبع نيل المآرب بالمطبعة البولاقية بمصر سنة 1288هـ، في جزأين في مجلد
واحد صفحاتهما 316 صفحة، على نفقة رجل من أهالي الكويت اسمه "علي بن محمد
بن إبراهيم". وهذه الطبعة وإن كانت جيدة، إلا أنها لا ترقى إلى المستوى
الذي عهد من المطبعة البولاقية، من التحقيق والإِتقان. وسوف ترى في تحقيقنا
إشارات إلى مواضع كثيرة من الخطأ في الطبعة البولاقية تبيّنت عند المقابلة
بنسخة الأوقاف الكويتية، وعند عملنا في تحقيق الكتاب.
2 - وقد أعيد إصدار الكتاب في الكويت سنة 1397 هـ، أعادته مطابع مؤسسة فهد
المرزوق الصحفية، بالتصوير عن إحدى نسخ الطبعة البولاقية. إلا أن في
هوامشها زيادة تعليقات يسيرة في الصفحات العشرين الأولى منها. وهي تعليقات
ليست ذات بال، إذ هي غالباً من بابِ توضيح الواضحات. وقد نقلنا منها في
تحقيقنا شيئاً يسيراً.
3 - وأعيد طبع الكتاب في مصر أيضاً في مجلد واحد من جزأين في 385 صفحة
بالمطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1324 هـ، وبهامشها "الروض المربع شرح زاد
المستقنع" للشيخ منصور بن يونس البهوتي. ومع كل جزء فهرس. ذكر ذلك في فهرس
الأزهرية. (جزء 2 - الفقه، ص 651).
4 - ثم أعادت طبعه بمصر أيضاً مطبعة محمد علي صبيح سنة 1374 هـ، في مجلد
واحد من جزأين كذلك في 396 صفحة. بتصحيح وإشراف الشيخ رشدي محمد سليمان.
ويظهر أن طابعها اعتمد
(1/20)
النسخة البولاقية، إذ إنها حوت أخطاءها
كلها وزادت عليها، كما يتبين من التحقيق الذي قمنا به.
ثانياً: مخطوطات الكتاب:
1 - نسخة مخطوطة بمكتبة الأوقاف الكويتية (برقم 182خ)، في مجلّد واحد من
397 ورقة ومسطرتها 19 سطراً. وهي نسخة كثيرة الخطأ والتحريف. وهي بقلم كاظم
بن الحاج عبد الله طعمة (؟) "الشافعي مذهباً، والبغدادي منبتاً ومسكناً"
فرغ منها سنة 1235 هـ. وقد اعتمدنا عليها في التحقيق كثيراً.
2 - نسخة أخرى بمكتبة الأزهر في مجلّد بقلم معتاد بخط مصطفى بن عبد الله
السفاريني الحنبلي، كتبت سنة 1209هـ، بهامشها حواشٍ وبها تلويث وأكل أرضة
في 227 ورقة. ومسطرتها 24 سطراً (فهرس الأزهرية جـ2 - فقه حنبلي [69]،
15701)
3 - نسخة أخرى بمكتبة الأزهر في مجلد بقلم معتاد بخط حسن بن عبد العليم
صالح، كتبت سنة 1285 هـ، بها أكل أرضة. في 271 ورقة ومسطرتها 21 سطراً.
(فهرس الأزهرية جـ2 - الفقه الحنبلي ص 652 برقم [86] 22636)
4 - نسخة أخرى بمكتبة الأزهر في مجلد بقلم معتاد بخط محمود بن ياسين بن طه
بن أحمد اللبدي الحنبلي، كتبت سنة 1192هـ. بهامشها حواش وبها تلويث في 260
ورقة ومسطرتها 25 سطراً (فهرس الأزهرية جـ2 - الفقه الحنبلي ص 652 برقم
[615] 47853)
5 - نسخة بمكتبة الأوقاف ببغداد برقم 7413 ذكرها السيد عبد الله الجبوري في
(فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد - مطبعة الإِرشاد،
1393 هـ 666/ 1) وقال: خطه حديث، فيه 161 ورقة. وذكرها الدكتور أسعد طلس في
الكشاف ص 93
(1/21)
6 - نسخة بدار الكتب المصرية اطلعت عليها
وهي برقم (136 فقه حنبلي) مكتوبة بقلم أسعد بن إسماعيل الحمدان الزيتاوي.
فرغ منها سنة 1276هـ , وهي بخط معتاد قريب من 150 ورقة.
ما خدم به هذا الكتاب:
لم نطلع على أحد خدم هذا الشرح إلا ما صنعه الشيخ عبد الغني ابن ياسين
اللبدي. وحاشيته جيدة. قال فيها الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع: "مفيدة
جدًّا تحرّر بها شرح التغلبي" وهي شهادة قيمة.
وقد اطلعت على نسخة من الحاشية المذكورة. واستفدت منها في تحقيق الكتاب.
أما الحواشي التي ذكرت على هوامش النسخ الأزهرية فلم نطّلع على حال أصحابها
ولعل الله أن ييسر ذلك، فلعل منها ما يحسن التنويه به.
هذا وإن صاحب "منار السبيل" لا شك اطلع على (نيل المآرب) وأدخل كثيراً من
مسائله في كتابه.
تنبيه: أرجو ممن لديه اطلاع على مكان وجود النسخة الأصلية المخطوطة من
حاشية الشيخ عبد الغني اللبدي أن يتفضل بإفادتي عنها لعلها أن تنشر مع هذا
الكتاب في طبعته الثانية والله يتولى حسن الجزاء لكل من سعى في إحياء جهود
العلماء.
المحقق
(1/22)
المَرَاجع
1 - المرادي: سلك الدرر 3/ 58
2 - عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 296/ 5
3 - إسماعيل باشا البغدادي: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين،
ط. استانبول 1951م. 1/ 603
4 - إسماعيل باشا البغدادي: إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون. ط. ثالثة، طهران
1378هـ، 2/ 698هـ
5 - سركيس: معجم المطبوعات العربية والمعربة. القاهرة، مطبعة سركيس، ص
1162، 1290
6 - أسعد طلس: الكشاف عن مخطوطات خزائن كتب الأوقاف، بغداد، مطبعة العاني،
1372 هـ، ص 93
7 - عبد الله الجبوري: فهرس المخطوطات العربية بمكتبة الأوقاف العامة
ببغداد 666/ 1.
8 - فهرس المكتبة الأزهرية. القاهرة 2/ 651
9 - خير الدين الزركلي: الأعلام.
10 - عبد القادر بدران: المدخل ص 227
(1/23)
محَمَّد سُليَمان الأَشقَر
محُقِّق الكِتَاب
محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد (وهو الأشقر) بن سليمان دغلس. من أهل
(بُرْقة) (1) بفلسطين ردّها الله إلى أحضان المسلمين. وبرقة قرية من قرى
نابلس تبعد عنها إلى الشمال مسافة 16 كيلومتراً تقريباً. تقع في منطقة
جبليّة على سفح جبلين أحدهما شرقيها وآخر شماليها، وتحيط بها بساتين
الزيتون والتين وبها من سائر الأشجار المثمرة. وتمتاز ببرودة الهواء وطيبه.
وبها عيون كثيرة طيبة عذبة الماء. قال فيها مصطفى الدباغ: "ومن يشرف عليها
ير منظراً من أجمل المناظر في الوطن الحبيب ... ". وأهلها في أغلبهم من
(الحفاة) وهم فرع من (الروقة) من قبيلة (عتيبة) على ما ذكرته دائرة معارف
البستاني في مادة (أحفاة). وذكره (إحسان النمر) في كتابه "تاريخ جبل
نابلس"، وذكره أيضاً مصطفى الدباغ في كتابه المذكور آنفاً. ومن الحفاة آل
دغلس الذين أنتمي إليهم.
وقد مرّ ببرقة الشيخ عبد الغني النابلسي سنة (1101هـ) وقال فيها:
ضفنا ببرقةَ من أعمالِ نابُلُسٍ ..... أهلَ المكارمِ والأخلاقِ والشِّيَمِ
__________
(1) هي بضم الباء، وقد تحدث عنها السيد مصطفى مراد الدباغ في كتابه القيم
"بلادنا فلسطين" في القسم الأول من الجزء الخاص بالديار النابلسية ص 413 -
421
(1/24)
قوماً لقد جمع الله الكريم لهم ..... بين
القرينين بَشِّ الوجه والكرمِ
ولدت ببرقة في 16 من أيلول سنة 1930م، ونشأت في كنف والديّ، وكان والدي
رحمه الله أمّيًّا، إلا أنه كان يحب أهل العلم والإيمان ويبرّهم. وحرص على
تعليم أولاده وحملهم على مكارم الأخلاق. وكان أكثر عمله في الزراعة.
ووالدتي حفظها الله كذلك في حرصها على تربية بنيها على حب العلم والدين.
وقد قرأت القرآن دون معلم.
التحقت بالدراسة الابتدائية بقريتنا، وتخرجت منها عام 1944م ثم التحقت
بالدراسة الثانوية بالمدرسة الصلاحية بنابلس حيث مكثت بها أربع سنين، ذهبت
بعدها إلى المملكة العربية السعودية فعملت في التدريس الابتدائي سنةً في
مدينة بريدة (سنة 1369هـ) وعملت في التجارة بالرياض (سنة 1370هـ) وعندما
افتتح معهد الرياض الديني الثانوي (سنة 1371هـ) بادرت إلى الالتحاق به إلى
أن تخرجت من كلية الشريعة بالرياض (1376هـ) في الفوج الأول، وأخذت فيها
العلم عن مشايخ أجلّاء، فأخذت التفسير وأصوله وأصول الفقه على الشيخ محمد
الأمين الشنقيطي، والفقه والعقيدة على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن
باز، والفرائض على الشيخ عبد العزيز بن رشيد، والحديث على الشيخ عبد الرحمن
الإِفريقي، والنحو على الشيخ عبد اللطيف سرحان والشيخ إبراهيم الضبع،
وغيرهم. رحم الله الموتى منهم وحفظ الأحياء وجزاهم عنا أحسن الجزاء. ثم
عملت في التدريس بمعهد (شقراء) العلمي، وأسندت إليّ إدارته عام (1377هـ)
نقلت بعدها للتدريس بكلية الشريعة بالرياض، وكنت أول من درَّس بها من
خريجيها. فبقيت كذلك من (1378 - 1383هـ) ثم التحقت بالتدريس في الجامعة
الإِسلامية بالمدينة المنورة فبقيت فيها سنتين إلى أن أراد الله تعالى لي
النقلة إلى أرض الكويت حيث أسندت إليّ أمانة مكتبة وزارة الأوقاف والشؤون
الإِسلامية اثني عشر عاماً من سنة (1385 - 1397هـ) حصلت في أثناء ذلك على
درجتي الماجستير والدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة الأزهر.
(1/25)
وكانت رسالتي للدكتوراه بعنوان (أفعال
الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية).
وهي في ما يتعلّق من علم أصول الفقه بالسنن الفعلية. وكانت بإشراف الشيخ
عبد الغني عبد الخالق حفظه الله. وقد يسّر الله تعالى فيها كشف كثير من
غوامض هذا العلم والحمد لله على فضله.
ولما أن استأنفت وزارة الأوقاف بالكويت (مشروع الموسوعة الفقهية) نُقِلت
للعمل مع العاملين فيه. والله المسؤول أن يأخذ بيد القائمين عليه حتى يكمل
على خير الوجوه.
وشاركتُ في لجنة الفتوى الشرعية بالكويت كعضو من أعضائها منذ سنة 1969م.
والله المستعان أن يتم علينا نعمته بالهداية والسداد ويوفقنا لصالح القول
والعمل ويختم لنا عليهما.
مؤلفاتي المطبوعة:
1 - رسالة (أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام
الشرعية).
2 - الواضح في علم الأصول للمبتدئين.
3 - الفتيا ومناهج الإِفتاء.
4 - فهرس المغني لابن قدامة.
5 - الفهرسة الهجائية والترتيب المعجمي.
مؤلفاتي المخطوطة:
6 - معجم النحو والبلاغة وسائر علوم العربية (عن الأئمة).
7 - ديوان خطب منبرية.
8 - مجموعة فتاوى وإجابات في مهمات الدين.
(1/26)
9 - فهرس هجائي لتاريخ ابن كثير (البداية
والنهاية؛ ونهاية البداية).
أعمال أخرى
10 - وقد قمت بمراجعة (معجم الفقه الحنبلي) المستخلص من كتاب المغني الذي
أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالكويت، وقمت على ترتيبه وتصحيحه
حتى يسّر الله إخراجه نموذجاً للمعاجم الفقهية كوسيلة مهمة من وسائل تسهيل
الرجوع إلى فقهنا الإِسلامي العظيم.
11 - وقد كتبت أبحاثاً كثيرة ظهرت في المجلدات التي صدرت في موسوعة الفقه
الإِسلامي، وأبحاثاً أخرى ستظهر في المجلدات اللاحقة إن شاء الله.
12 - وأقدم اليوم هذا التحقيق لكتاب "نيل المآرب".
(1/27)
عَملي في تحقيق "نيل المآرب"
اعتمدتُ على النسخة البولاقية كأصل، وذلك لما عُهِد عن هذه المطبعة من
التدقيق والضبط والاتقان، ورجعت في تحقيق النص أيضاً إلى طبعة محمد علي
صبيح. وقد وجدت في الطبعتين من التحريف والأخطاء شيئاً كثيراً. وقد أعانني
على اكتشاف كثير من ذلك مراجعة النص كله على نسخة مكتبة وزارة الأوقاف
المخطوطة، وهي وإن كانت كثيرة التحريف أيضاً إلا أن اجتماع النسختين أفادني
كثيراً. وكم وددت أن أكون حصلت على صورة النسخة التي كتبها الشيخ محمود بن
ياسين اللبدي والمحفوظة بالمكتبة الأزهرية إذ هي أقدم النسخ الموجودة
وأقربها بالمؤلف عهداً، وكاتبها يبدو أنه من أهل العلم. ولكن لم تتح الفرصة
لذلك. ولعل الله تعالى ييسّر للمكتبة الأزهرية وسائل النسخ والتصوير
الحديثة ليمكنها من إمداد الباحثين بصور لما عندها من الذخائر. وأكثرتُ
الرجوع كذلك إلى (شرح منتهى الإِرادات) للشيخ منصور البهوتي، إذ المنتهى
أصل الدليل، وشرح المنتهى أصل النيل. ورجعت أيضاً في المسائل المشكلة إلى
حاشية الشيخ اللبدي رحمه الله. وبقي الإِشكال في أشياء يسيرة رجعت لتحقيقها
إلى المغني لابن قدامة والإِنصاف والفروع وغيرها، وإلى كتب اللغة.
وقد قمت بالإِضافة إلى تحقيق النص بحلّ بعض غوامض تعبيرات الشارح، وإضافة
بعض البيان للخلاف في بعض المسائل حيث يقوى
(1/28)
الدليل. وأضفت أحياناً قليلةً ذكر بعض
الأمور المكملة لما في الشرح. وخرّجت الأحاديث الواردة في المتن معتمداً
كثيراً على (إرواء الغليل) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وعلى غيره من
كتب الحديث.
على أن مما أريده أن يكون معلوماً لدى القارئ أن كثيراً من المسائل التي في
هذا الشرح قد يكون رأيي فيها خلاف ما ذكره الشارح. فأذكر ذلك أحياناً
قليلة، والغالب أنني لا أذكره، إذ إن ذلك مما يحتاج إلى استدلال وإفاضة
ويطول به الكتاب، فأعرضتُ عنه إيثاراً للاختصار، فلا يؤخذنّ علي أنه منّي
لكل ما في الكتاب إقرار.
والله تعالى المسؤول أن ينفع بهذا الكتاب، ويجعل عملي فيه له خالصاً. إنه
جواد كريم وهو نعم المولى ونعم النصير.
الكويت - الفروانية
غرة المحرم من السنة الأولى من القرن الخامس عشر من الهجرة النبوية
(1/29)
رُمُوز هَذا الكِتاب
إلخ: إلى آخره.
ب: نسخة طبعة بولاق من نيل المآرب.
ص: نسخة طبعة صبيح.
ف: النسخة المخطوطة بمكتبة وزارة الأوقاف بالكويت.
الأصول: عبارة عن النسخ الثلاث إذا اتفقت.
كـ: حواشٍ على الطبعة التي أخرجتها بالكويت مطبعة مؤسسة المرزوَق مصورة عن
الطبعة البولاقية.
م: لسنوات التقويم الميلادي.
هـ: لسنوات التقويم الهجري.
(1/30)
نيل المآرب
بشرح دليل الطالب
للشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني
المشهور بابن أبي تغلب
على مذهب الإمام المبجّل أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -
الجزء الأول
حققه
الدكتور محمد سليمان عبد الله الأشقر
(1/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنفرد بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال والجمال، المتحبّب
إلى خلقه بالإِنعام والإِفضال، والعطاء والنوال، المحسن على ممر الأيام
والليال. أحمده حمداً لا تغيّر له ولا زوال، وأشكره شكراً لا تحوّل له ولا
انفصال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مِثْلَ له ولا مثال، شهادةً
أدّخرها ليومٍ لا بيعٌ فيه ولا خلال.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى أصح الأقوال وأسدّ الأفعال،
اُلمحْكِمِ للأحكام، والمميِّز بين الحرام والحلال. صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، صلاةً دائمة بالغدوّ والآصال.
(أما بعدُ)، فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القربات، وأجلّ الطاعات، وآكد
العبادات، خصوصاً علم الحلال والحرام، الذي به قوام الأنام، وُيتَوصَّل به
إلى العلم بالأولى والأخرى، وتحصل به السعادة في الأولى والعقبى.
ولما رأيت الكتاب الموسوم بـ "دليل الطالب لنيل المطالب" تأليف الشيخ
الإِمام، والحبر البحر الهُمام، مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي
(1/33)
تغمده الله برحمته، ورضوانه وأسكنه فسيح
جنانه - في غاية الوقع، وأعظم النفع، من سائر المختصرات. لم يأت أحد بمثاله
ولا نسج على منواله، غير أنه يحتاج إلى شرح يُسْفِرُ عن وجوه مخدراته
النقاب، ويُبْرِزُ من خفيّ مكنونه ما وراء الحجاب، فاستخرت الله تعالى،
وطلبت منه المعونة والرشاد والسداد، وسألته أن يُمِدَّني بمدده. وأسأل من
وقف عليه أن يَسْتُرَ زَلَلِي، فإنَ بضاعتي مزجاة، ولست من أهل هذا
الميدان. ولكن علقته لنفسي، ولمن شاء الله تعالى من بعدي.
وسميته (نيل المآرب بشرح دليل الطالب) (1) والله أسأل أن ينفع به من اشتغل
به وأن يجعله خالصاً لوجْهه الكريم، مقرباً لديه في جنات النعيم. إنه رؤوف
رحيم.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب
العزيز، وعملاً بحديث "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبْدَأ فيه بِبِسْمِ الله
الرحمنِ الرحيم فهو أبتر" (2) أي ناقص البركة. و"الله" عَلَمٌ على الذات
الواجبِ الوجود، المستحِقّ لجميع المحامد. و"الرحمن الرحيم" وصفان لله
تعالى، مشتقان من الرحمة. ومعنى "الرحمن" المفيض لجلائل النعم، و"الرحيم"
المفيض لدقائقها.
(الحمد لله) أي الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم والتبجيل ثابت لله
تعالى. و"الحمد" عُرْفاً فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على
الحامد أو غيره. (ربِّ العالمين) أي مالك جميع
__________
(1) في ف: "نيل المطالب ... " والصواب ما أثبتناه.
(2) الحديث بلفظ "كل أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم
أقطع" رواه عبد القادر الرّهَاوي في الأربعين من رواية أبي هريرة. وضعفه
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ضعيف الجامع الصغير) وبلفظ "أبتر" رواه
الخطيب في الجامع (عبد الغني).
(1/34)
الخلق، من الإِنس والجنّ والملائكة والدواب
وغيرهم. وكل منها يطلق عليه "عالمٌ" يقَال: عالَم الإِنس، وعالَم الجن، إلى
غير ذلك. وهو من العلامة، لأنه علامة على موجِدِه.
(وأشهد) أي أعْلَمُ (أن لا إله) أي معبود بحق في الوجود (إلا اللهُ وحده لا
شريك له) في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (مالك يوم الدين) أي يوم
الجزاء، وهو يوم القيامة. وخُصَّ بالذكر لأنه لا مُلْك (1) ظاهر لأحد إلا
لله سبحانه وتعالى.
(وأشهد) أي أعلم (أن محمداً) سمي به لكثرة خصاله الحميدة (2) (عبدُه) قال
أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرفَ ولا أتمَّ للمؤمن من الوصف بالعبودية (3)
(ورسولهُ) إلى الخلق أجمعين. والرسول إنسان أٌوحِيَ إليه بشرع وأُمِر
بتبليغه، أخصُّ (4) من النبي (المبيِّن) الموضِّح الأحكام شرائع الدين) من
حلالٍ وحرامٍ ومكروه ومباحٍ ومندوب [وواجب] (5) (الفائزُ بمنتهى الإِرادات
من ربه) من النظر إلى ربه بعينيْ رأسه الشريف (6)، والشفاعة العظمى،
وغيرهما مما لا يحصى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (فمن تمسَّك
بشريعته) باتباع الأوامر، واجتناب المناهي (فهو من
__________
(1) أي لا ملك في ذلك اليوم ظاهر .. أما في الدنيا فيدعيه أناس.
(2) أي تفاؤلاً بأن يكون كذلك، على العادة في تسمية الأطفال.
(3) ولهذا وصف الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية في أشرف
مقاماته، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وقال {الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وقال {وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقال الشاعر:
لا تدعُني إلا بيا عَبْدَها ......... فإنه أشرف أسمائي
اهـ (كـ)
(4) في ف: فهو أخصّ.
(5) زيادة يقتضيها التقسيم.
(6) على أحد قولين للعلماء. والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه
بقلبه. قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا رأى ربّه فقد أعظم على
الله الفرية. ويشهد لهذا قول الله تعالى لموسى {قَالَ لَنْ تَرَانِي} أي في
هذه الدنيا.
(1/35)
الفائزين) دنيا وأخرى (صلى الله وسلم عليه)
الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن غيرهم التضرع والدعاء.
وقال بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - كلما ذُكِرَ اسمُة جماعة،
منهم ابن بطة من الحنابلة، وشيخنا البَلْبَانيُّ، والحُلَيْمِى من
الشافعية، واللَّخْمِيّ من المالكية، والطَّحَاوِيُّ من الحنفية (1) (وعلى
جميع الأنبياء والمرسلين) عدد ما كان، وعدد ما يكون، وعدد ما هو كائن في
علم الله تعالى إلى يوم الدين (وعلى آل كلٍّ) من جميع الأنبياء والمرسلين
(وصحبه) نقل الخطيبُ عن الإِمام أحمد، رحمه الله، قال: أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - من صَحِبَه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه
فهو من أصحابه" وهذا مذهب أهل الحديث، نقله عنهم البخاري وغيره (2)
(أجمعين) تأكيد للآل والصحب، لإِفادة الإِحاطة والشمول.
(وبعد) يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، أي من كلامٍ إلى كلامٍ آخر،
استحباباً في الخطب والمكاتبات. (فهذا) إشارةٌ إلى ما استحضره في ذهنه،
وأقامه مقام الملفوظ المقروء الموجود بالعيان، سواء كانت الخطبة قبل
التأليف أو بعده، بناء على أن مسمى الكتاب الألفاظ من حيث دلالتها على
المعاني. (مختصر) أي كتابٌ مختصر اللفظ تامُّ المعنى، (في الفقه) وهو لغةً:
الفهم، وعُرْفاً: معرفة الأحكام الشرعيّة الفرعية (3)، بالفعل أو بالقوّة
القريبة. والفقيه: من عَرَف جملةً غالبةً منها كذلك، (على المذهب الأحمد)
أي المرضيّ، (مذهب) بفتح الميم،
__________
(1) وأما السلام فهو بمعنى التحية، أو السلامة من الرذائل والنقائص، أو
الأمان له ولأمته - صلى الله عليه وسلم - (كـ).
(2) يعني من رآه مؤمناً ومات على ذلك. وقيل: لا يكون صحابيا إلا من طالت
صحبته. وقيل غير ذلك. وانظر فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي 4/ 28 -
31
(3) أي خلاف الأصولية، فليست معرفة القواعد الأصولية -في الاصطلاح- من
الفقه.
(1/36)
هو الطريق. يقال: ذهب مذهباً حقاً،
وذهاباً، وذُهُوباً. وجمعه مذاهب. (الإِمام أحمد) بن محمد بن حنبل الشيباني
(1)، والصديق الثاني، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلَّبه ومثواه،
وجمعنا به في دار كرامته آمين. (بالغت في إيضاحه رجاء الغفران) من الله جل
وعلا، (وبَيّنْتُ فيه الأحكام) جمع حكم، وهو: خطاب الله تعالى المتعلق
بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير (2)، أو الوضع (3). (أحسنَ بيان. لم
أذكر فيه) أي في هذا المختصر (إلا ما جزم بصحته أهلُ التصحيح والعرفان) من
أئمة المذهب، منهم العلامة القاضي علاءُ الدين علي المَرْدَاوِيّ (4)
(وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح) من أئمة المذهب (والإتقان/ وسميته بـ
(دليل الطالب لنيل المطالب).
(واللهَ أسألُ) لا غيرَه (أن ينفع به) كل (من اشتغل به، و) الله أسألُ (أن
يرحمني والمسلمين إنه أرحم الراحمين).
__________
(1) وشيبان حيٌّ من بكر بن وائل (كـ)
(2) الاقتضاء الطلب. والأحكام الاقتضائية: الايجاب والتحريم والاستحباب
والكراهة. أما الحكم التخييري فهو الإباحة.
(3) الوضع جعل الشيء علامة لشيء. والأحكام الوضعية: السببية، والشرطية،
والمانعية. كسببية الزوال لوجوب صلاة الظهر، وشرطية الطهارة لصحة الصلاة،
ومانعية الأمومة لصحة عقد النكاح. وبعضهم يضيف الصحة والفساد.
(4) هو صاحب "الإِنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" و"تصحيح الفروع" وكلاهما
مطبوع متداول.
(1/37)
|