نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتاب الطهارة
أي مكتوب جامع لأحكام المسائل التي تتعلق بالطهارة.
وبدأ الفقهاء بالطهارة لأن آكد أركان الدين بعد الشهادتين الصلاة المشترط
لها الطهارة. والشرط مقدّم على المشروط.
ثم الطهارة، معناها لغة: النزاهة والنظافة عن الأقذار.
(وهي) شرعاً (رفع الحدث)، وهو زوال الوصف الحاصل بالبدن، المانع من الصلاة
والطواف ومس المصحف. وينقسم الحدث إلى أصغر وأكبر، فما أوجب الغسل يسمى
أكبر، وما أوجب الوضوء يسمى أصغر. (وزوال الخَبَث) أي النجاسة الطارئة على
محل طاهر.
(وأقسام الماء) باعتبار ما يتنوع إليه في الشرع (ثلاثة) لأنه إما أن يجوز
به الوضوء، أوْ لا، الأوّل الطهور. والثاني: إمّا أن يجوز شربه، أوْ لا،
الأوّل الطاهر، والثاني النجس.
(أحدها: طهور) أي مطهر لغيره، وغيرُه من الماء والمائعات لا يطهّر، (وهو)
أي الماء الطهور في الحكم (الباقي على خلقته) التي خلق عليها، مطلقاً، فلا
يُقَيد بوصف دون وصف. وهو ما نزل من السماء، أو نبع من الأرض، سواء كان
عذباً أو ملحاً، بارداً أو حاراً (يرفع) وحده
(1/38)
(الحدث) نص عليه (1)، (ويزيل الخَبَث)
الطارئ على محل طاهر قبل طروّه، لأنَّ نَجِسَ العينِ لا يَطهُر.
(وهو) أي الماء الطهور (أربعة أنواع):
أشار للأوّل بقوله: (ما) أي نوع (يحرم استعماله) مطلقاً، (ولا يرفع الحدث،
ويزيل الخبث) مع حرمة استعماله (وهو ما ليس مباحاً) كمسروق ومنهوب، بخلاف
ما إذا غصب إناء ووضع فيه ماء مباحاً، فإن الطهارة به صحيحة، مع حرمة
استعمال الإِناء.
وأشار إلى الثاني بقوله: (وما) أي نوع من الطهور (يرفع حدث الأنثى، لا
الرجل البالغ (2) والخنثى، وهو ما خَلَتْ به المرأة المكلفة) ولو كافرة
(لطهارةٍ كاملةٍ) لا بعضِها (عن حدث) لا خَبَثٍ وطهرٍ مستحبّ.
والمراد بالخلوة بأن لا يشاهدها مميّز.
ولا فرق بين الحرّ والعبد، والمرأة والرجل، والكافر والمسلم، في المشاهدة.
وظاهره أنها إذا خَلَتْ بالتراب للتيمم لا تؤثر خلوتها، وأنه يجوز للرجل
إزالة الخبث بما خلت به، وأنه لا تأثير لخلوة الخنثى بالماء القليل.
ويشترط كون الماء أقل من قلتين.
وأشار للثالث بقوله: (وما) أي نوع (يكره استعماله) في حق
__________
(1) أي نصّ عليه الإمام أحمد. وعن أبي حنيفة جواز التوضّي بالنبيذ.
(2) "لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"
رواه أبو داود وغيره. وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. قال أحمد في رواية
أبي طالب "أكثر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون ذلك." وهو
تعبديٌّ لا تعقل حكمته (كـ)
(1/39)
الرجل والمرأة والخنثى، وظاهره الكراهة في
أكل وشرب وطهارة وغير ذلك (مع عدم الاحتياج إليه) لأن كراهته من طريق
الورع. ومع الحاجة إليه يتعين وجوباً (1) استعماله.
(وهو ماء بئرٍ بمقبرة) بتثليث الباء، وكره أحمد شوكها.
(و) كره منه أيضاً (ما اشتدّ حره أو بَرْدُه) ووجهه ظاهر (2).
(أو سُخِّن بنجاسة) فإنه يكره ولو بَرَد، لأنه لا يسلم غالباً من صعود
أجزاءٍ لطيفةٍ من النجاسة إليه.
(أو سخِّن بمغصوب) فإنه يكره.
(أو استعمِل في طهارة لم تجب) فإنه يكره، كتجديد وضوء، وغسلة ثانية وثالثة،
أو في غسلٍ من الستةَ عشَرَ غسلاً. وتأتي إن شاء الله تعالى (3) (أو)
استعمل (في غسلِ كافرٍ) لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يُزِلْ نَجَساً.
وشمل الذمية التي تغتسل من الحيض والنفاس لحلِّ وطئها لزوجها المسلم، لأنه
لا يسلبه الطهورية.
(أو تغير) ريحه أو طعمه أو لونه (بملحٍ مائيّ) فطهورٌ مكروه، لأن المتغيّر
به منعقد من الماء، فأشبه الثلج.
واقتضى ذلك أنّ الملح المائيّ لو انعقد من ماء طاهر فحكمه كباقي الطاهرات
(4).
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ف): وجوب استعماله. قلت كلاهما فيه نظر. ولعل الصواب
"جواز استعماله " أي من غير كراهة.
(2) أي لأذاه ومنعه كمال الطهارة.
(3) انظر الصفحة 82 من هذا الجزء.
(4) في (ب، ص): الطهارات، والتصويب من ف.
(1/40)
وعلم منه أن الماء إن تغير بالملح المعدني
سَلَبَهُ الطهورية.
(أو) تغير (بما لا يمازجه) من الطاهرات (1) (كتغيره بالعود القَمَارِيّ)
(2) بفتح/ القاف (وقطع الكافور والدهن) فطهورٌ مكروه.
(ولا يكره ماء زمزم إلا في إزالة الخَبَثِ) فقط، تشريفاً له. ولا يكره
استعماله في الطهارة من الحدث.
وأشار للرابع بقوله: (وما) أيْ نوع (لا يكره استعماله) مطلقاً (كماء البحر
والآبار (3) والعيون والأنهار والحمام) وظاهره ولو كان وقوده نجساً، لأن
الصحابة رضي الله عنهم دخلوه ورخّصوا فيه.
(ولا يكره المسخَّن بالشمس) سواء سُخِّنَ بإناءٍ منطبعٍ (4) أو غيره، في
بلاد حارة أو باردة. وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
لعائشة -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها- وقد سخنت ماء في الشمس: "لا تفعلي
فإنه يورِثُ البَرَصَ" قال النووي: هو حديث ضعيف باتفاق المحدّثين. ومنهم
من يقول: هو موضوع. وكذا حديث أنس "لا تغتسلوا بالماء الذي سُخِّنَ بالشمس
فإنه يعدي من البَرَص" قال ابن المنجا. غير صحيح (5).
(و) لا يكره (المتغير بطول المكث، أو بالريح، من نحو ميتة) كمجاورة محل
القاذورات (أو بما يشق صونُ الماء عنه) مما يغيره (كطحلب) وهو خضرة تعلو
على وجه الماء المزمن. ولا يكره ما تغير
__________
(1) في (ب، ص): الطهارات، والتصويب من ف كذلك.
(2) العود القَماريّ منسوب إلى موضع ببلاد الهند (لسان العرب).
(3) إلاَّ آبار ديار ثمود غير بئر الناقة، فظاهر كلامهم عدم صحة التطهر
منها لتحريم استعمالها (كـ وشرح المنتهى).
(4) أي نحاس وحديد ونحوهما (عبد الغني).
(5) ولكن روى ابن حَبَّان في "الثقات" من قول عمر رضي الله عنه "لا تغتسلوا
بالماء المشَمّس فإنه يورث البَرَص" (كنز العمّال، ط دمشق 9/ 572).
(1/41)
بسَمَكٍ وجراد، وبما لا نفس له سائلة
كالخنفساء والعقرب والصراصير إن لم تكن من كنُفٍ ونحوها، لمشقة الاحتراز عن
ذلك. (وورق شجر، ما لم يوضعا) أي الطحلب وورق الشجر. وشرط الوضع أن يكون
قَصْداً من آدميٍّ عاقلٍ، فلو كان الوضع من بهيمة أو صغير أو مجنون لا يسلب
الماء الطهورية.
(الثاني) من المياه: (طاهرٌ) غير مطهِّر، (يجوز استعماله في غير رفع الحدث
وزوال الخبث (1)) كالأكل والشرب والطبخ وغير ذلك من العادات (وهو) أي
الطاهر (ما تغير كثيرٌ من لونه أو طعمه أو ريحه) بمخالطة (شيء طاهر) من غير
جنس الماء، لا يشق صون الماء عنه (2)، سواء طُبِخَ فيه، كمرق الباقلا (3)،
أوْ لا، كما لو سقط فيه زعفران بقصد أو غيره.
ولا يسلبه التغيرُ اليسيرُ من صفَةٍ من صفاته.
وعلم من كلامه أنه لو كان التغير اليسيرُ من صفاته الثلاثة أثَّر، وكذلك من
صفتين.
(فإن زال تغيره) أي الماء المتغير بالطاهر (بنفسه، عاد إلى طهوريته).
(ومن الطاهر ما كان قليلاً) أي أقل من قلتين (واستُعمِل في رفع حدث) لأنه
أزالَ مانعاً من الصلاة، فأشبه ما لو أزال به نجاسة.
(أو انغمست فيه) أي في الماء القليل (كل يد المسلم المكلف
__________
(1) ونحوهما كتجديد الوضوء وغسل الجمعة وغسل الميت (عبد الغني).
(2) فلو تغير بما يشقّ صون الماء عنه، كالمتغيّر في ممرِّه أو مَقَرِّه
بطاهر لم يسلبه الطهورية، كما لو تغيّر بالجص الذي قُصرت به البئر (عبد
الغني).
(3) الباقلاء كلمة سَوَاديَّة (نسبة إلى سوادَ العراق) وهي القول. كذا في
لسان العرب.
(1/42)
النائم ليلاً نوماً ينقض الوضوء) أو كان
(قبل غسلها ثلاثاً) وكل واحدة منهن واجبة (بنية وتسمية) عند أوّل الغسل.
(وذلك) أي الغسل ثلاثاً بعد النية والتسمية (واجب) ولو باتت مكتوفة، أو في
جراب ونحوه.
فتلخص من ذلك: أنّ غسل يد القائم من نوم الليل لا يسلبه الطهورية إلا إذا
استوفى جميع هذه الشروط السبعة: أشار للأوّل بقوله: "كل"، وللثاني بقوله:
"يد"، وللثالث بقوله: "المسلم"، وللرابع بقوله: "المكلف"، وللخامس بقوله:
"النائم ليلاً"، وللسادس بقوله: "ينقض الوضوء"، وللسابع بقوله: "قبل غسلها
ثلاثاً بالصفة المذكورة".
تنبيه: إذا غَمَسَ بعضَها بنيةٍ سَلَبَ الماء الطهورية.
(الثالث) من أنواع المياه: (نجس يحرم استعماله، إلا لضرورةٍ) كدفع لقمةٍ
غصَّ بها، وليس عنده طهور ولا طاهر.
(ولا يرفع الحدث) وهو ما أوجب وضوءاً أو غسلاً (ولا يزيل الخَبَثَ) الطارئ.
(وهو) أي الماء النجس (ما وقعت فيه نجاسة، وهو قليل) تغيَّر أوْ لا، مضى
زمن تسري فيه النجاسة أوْ لا، ولو لم يدركها الطرْف.
(أو كان كثيراً) أكثر من قلتين، (وتغيّر بها) أي بالنجاسة الواقعة فيه (أحد
أوصافه) طعمِه أو لونِه أو ريِحه، قَلَّ التغير أو كثر.
(فإن زال تغيره) أي الكثير (بنفسه، طهر، أو بإضافة طهورٍ) كثير (1) (إليه،
أو بنزحٍ منه) أي الكثير (ويبقى بعده) أي بعد النزح (كثير)، أي
__________
(1) الأصحّ لا يشترط أن يكون المضاف كثيراً، لأنه لو زال تغير الكثير بنفسه
طهر، فبالمضاف القليل أولى (عبد الغني).
(1/43)
قلَّتان فأكثر، (طهر) أي صار طهوراً.
(والكثير قلَّتان/ تقريباً) لا تحديداً، فيعفى عن نقصٍ يسيرٍ، كرطلٍ أو
رطلين عراقية.
(واليسير ما دونهما) أي القُلَّتين.
(وهما) أي: القلتان (1) (خمسمائة رطل بالعراقي، وثمانون رطلاً وسُبُعانِ
ونصف سُبُعٍ رطلٍ بالقدسيّ) وما وافقه، ومائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل
دمشقي.
(ومساحتهما) أي: مساحة ما يسع القلتين من الماء حال كونه مربعاً (ذراعٌ
وربعٌ طولاً، و) ذراع وربع (عرضاً، و) ذراع وربع (عمقاً). وحال كونه
مدوّراً ذراع طولاً، وذراعان ونصف عمقاً. والمراد بالذراع هنا ذراع اليد
(2) من الآدمي المعتدل. وهو أربع وعشرون أصبعاً معترضةً معتدلة. والأصبع ست
شعيرات. والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون، بطون بعضها إلى بعض (3).
(فإذا كان الماء الطهور كثيراً، ولم يتغير بالنجاسة، فهو طهور).
وله استعماله (ولو مع بقائها) أي النجاسة (فيه) أي: في الماء
__________
(1) إنما حدّوا الماء الكثير الذي لا تضره النجاسة الواقعة فيه ولم تغيّره،
بقُلّتين فما زاد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا كان الماء
قُلّتين لم يحمل الخَبَثَ" رواه الشافعي في القديم والحاكم عن ابن عمر (كنز
العمال 9/ 398) والقُلّة الجَرّة، وجمعها قِلال. واختلف الفقهاء واللغويون
في مقدار القلة. وروي عن الإمام أحمد أن القُلّة قربتان. وفي "لسان العرب"
تقديرات أخرى. قال الأزهري في الزاهر (ط الكويت ص 60): كأنَّما سُمِّيَتْ
قُلَّةً لأن الرجل القويّ يُقِلُّها: أي يحملها.
(2) ذراع اليد من المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. وهو 54 سم تقريباً.
(3) ليس للشعرة بطن ولا ظهر. ولكن هكذا (ب، ص). أما (ف) فأسقط (بطون بعضها
إلي بعض) وألحقه بعضهم بالهامش. والصواب أن هذه العبارة متعلّقة بالشعيرات
لا بالشَّعَرات، فإن للشعيرة بطناً وظهراً. وكذلك هي في (شرح المنتهى) في
باب قصر الصلاة 1/ 275
(1/44)
الكثير الذي لم يتغير بسقوطها فيه، ولو كان
بينه وبينها قليل.
(وإن شك في كثرته) أي الماء الذي وقعت فيه نجاسة، ولم تغيره (فهو نجس ...
وإن اشتبه ما تجوز به الطهارهَ، بما لا تجوز به الطهارة، لم يتحرّ) (1)،
ولو زاد عدد ما تجوز به الطهارة. أما للشرب والأكل فيلزمه التحرّي، كما لو
اشتبه محرم بمباح، أو طهور بنجس (ويتيمَّم بلا إراقة) للماء، وَوَجَبَ عليه
الكف عنهما كما لو اشتبهت عليه أخته بأجنبية. لكن إن أمْكَنَ تطهيرُ أحدهما
بالآخر، بأن يكون الطهور قلتين فأكثر، وكان عنده إناء يسعهما، لزمه الخلط.
وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ منهما وضوءاً واحداً، من هذا غَرْفة، ومن هذا
غرفة، ولو مع طهور بيقين.
(ويلزم من) أي: إنساناً (علم بنجاسة شيء) من الماء أو غيره (إعلام من أراد
أن يستعمله) في طهارة أو شرب أو غيرهما. وظاهره أنه يلزمه الإِعلام سواء
كانت إزالتها شرطاً للصلاة أم لا.
__________
(1) في (ب، ص). لم يتحرّ "به الطهارة" وقد سقط ذلك من (ف) وهو الصواب.
(1/45)
باب الآنيَة
الآنية لغة وعرفاً: الأوعية , جمع إناء.
ويذكر فيه المؤلف أحكام الآنية، وثيابِ الكفار، وأجزاءِ الميتة.
(يباح اتخاذ كلِّ إناءٍ طاهر، واستعماله، ولو) كان الإِناء (ثميناً) كجوهر،
وبلّوْر، وياقوت، وزمرذ (1) (إلا آنيةَ الذهب والفضة، و) إلا (المموّه
بهما).
وكيفية التمويه أن يُذَاب الذهب أو الفضة، ويلقى فيه الإِناء من الحديد
ونحوه.
تنبيه: عظم الآدميّ، وجلده، والمغصوب
يحرم اتخاذها واستعمالها.
(وتصحّ الطهارة بها) أي بآنية الذهب والفضة، وفيها، ومنها، وإليها.
(و) تصح الطهارة أيضاً (بالإِناء المغصوب) وبالإِناء الذي ثمنه المعيَّن
حرام.
__________
(1) في (ب): ذمرذ، وفي (ص): ذمرّد، وفي (ف): زمرّد، وهو المشهور على
الألسنة، ولكن صاحب اللسان ضبطه (زمرّذ) بزاي في أوله وآخره ذال معجمة.
(1/46)
ويحرم استعمال إناء الذهب والفضة، ولو
ميلاً، أو مَبْخَرة، أو قُمْقُماً (1) (ويباح إناء ضُبِّبَ) بأربعة شروط:
الأول: ما أشار إليه بقوله: (بضبة) احترز به عما لو وضع الفضة عليه لغيرها،
فإنها تكون كالمُطَعَّم.
الثاني: ما أشار إليه بقوله: (يسيرة) عُرْفاً، لا كبيرة، فإنها محرمة.
الثالث: ما أشار إليه بقوله: (من فضة) لا من ذهب، فإنها محرمة مطلقاً.
الرابع: ما أشار إليه بقوله: (لغير زينة) لما روى أنس بن مالك رضي الله
تعالى عنه "أن قَدَحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَرَ، فاتَّخَذَ
مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً من فِضَّة" رواه البخاري.
وتجوز الضبَّة لحاجة. والحاجة أن يتعلق بها غرضٌ غيرُ زينةٍ، وليس المراد
أن لا تندفع بغيره.
(وآنية الكفار) كلهم (وثيابهم) ولو لم تَحِلَّ ذبائحهُم، ولو وَليَتْ
عوراتِهِم (طاهرة).
ثم ذكر قاعدة (و) هي أنه (لا ينجس شيء) من ماءٍ أو غيرِه (بالشك ما لم
تُعْلَمْ نجاسته) يعني: إذا فارقنا شيئاً طاهراً، ثم شككنا في نجاسته،
فالأصل الطهارة. كما أننا لا نوجب بالشك، ولا نحرِّم بالشّكّ.
(وعَظْمُ الميتة، وقَرْنُها، وظُفُرها، وحافِرُها، وعَصَبُها، وجِلْدُها،
نجس) / لأنها من أجزاءِ الميتة.
(ولا يطهر) الجلد مطلقاً (بالدباغ) لكن يباح دبغ جلد نجُس
__________
(1) القمقم إناء ضيق الرأس، من حديد أو نحاس غالبا، يستعمل لتسخين الماء.
(1/47)
بموت، واستعماله بعده في يابس لا في مائع.
(والشعر والصوف والوبر والريش طاهر إذا كان من ميتةٍ طاهرةٍ في الحياة)
فإنه لا ينجس بالموت، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} والآية في
سياق الامتنان. فالظاهر شمولها الحالتين: الحياة والموت. والريش مقيسٌ على
الثلاثة. (ولو كانت غير مأكولةٍ، كالهرِّ والفَأر).
(وَسُنَّ تغطيةُ الآنية) ولو بِعَرْضِ عودٍ. ويتوجَّه أنَّ العودَ عند عدم
ما يخمِّر به، لرواية مسلم "فَإنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ أنْ يَعْرِضَ على
إنائه عُوداً ... " (1) (وإيكاءُ) أي: رَبْطُ (الأسقية) والسقاء جِلْدُ
السخلة إذا أجذع يكون للماء [واللبَن]، (2) وظاهره، كالمنتهى، أن التغطية
والإِيكاء سُنَّةٌ سواء كان الوقت ليلاً أو نهاراً. وقال في الإِقناع: إذا
أمسى.
__________
(1) الحديث بتمامه: عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
"غَطُّوا الإِناءَ، وأوْكُوا السّقاء، وأغلقوا البابَ، وأطفئوا السِّراجَ،
فإن الشيطان لا يَحُلُّ سقَاءً، ولا يفتَحُ باباً، ولا يَكْشِفُ إناءً. فإن
لم يجدْ أحدُكم إلا أن يعرُضَ على إنائِهِ عوداً، ويذكر اسم الله فليفعَلْ"
(صحيح مسلم بتحقيق فؤاد عبد الباقي 3/ 1594)
(2) الزيادة من القاموس.
(1/48)
بابُ الاسْتِنجَاءِ وَآدَابُ التَّخَلِي
(الاستنجاءُ هو إزالة ما خرج من السبيلين بماءٍ) متعلق بإزالة (طهورٍ) ولو
لم يُبَحْ (أو) رفع حكمه بما يقوم مقام الماءِ من (حَجَر) أو خِرَقٍ أو
خَزَفٍ، أو نحوها، بشروط للمستجمرِ به.
منها: أن يكون بـ (طاهِر) فلا يكفي المتنجس.
ومنها: أن يكون بـ (مباح) فلو كان بمغصوبٍ ونحوه لا يكفي، لأن الاستجمار
بالحجر رخصة، والرخصة لا تباح بالمعصية.
ومنها: أن يكون بـ (مُنَقٍّ) احترز به عن الأملس، كالزجاج والرخام.
ومنها: أن يكون جامداً، فلا يكفي الطين. (فالإِنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى)
بعد استكمال الشروط (أثرٌ لا يزيله إلا الماء) فإن بقي ما يزال بغيره لا
يكفي.
ثم أخذ في شروط الفعل فقال: (ولا يجزئ أقلُّ من ثلاث مَسَحَاتٍ) ولو أنقى.
وهو الشرط الأول (تَعُمُّ كل مسحةٍ المحلّ) أي: المَسْرُبة والصفحتين. وهو
الشرط الثاني. ذكر في المتن ثمانية شروط، ويستفاد من الإِقناع بقيةُ اثني
عشر. قال: "ولا يجزئ الاستجمار في
(1/49)
قُبُلَيْ خنثى مشكلٍ، ولا في مخرجٍ غيرِ
فرج، كتنجس مخرج (1) بغير خارج، ولا إن خرجتْ أجزاء الحقنة. فهذه أربعة
شروط. وتقدَّم ستة. وتأتي البقية.
(والإِنقاء بالماء عَوْدُ خشونةِ المحلّ) بأن يدلُكه حتى يرجع خَشِناً.
(كما كان) قبل خروج الخارج. ويواصِل صَبَّ الماء، ويسترخي قليلاً. قال في
المُبْدِع: "الأولى أنْ يُقال: عود المحلّ إلى ما كان، لئلا ينتقض
بالأمْرَدِ ونحوه".
(وظنه) أي: الإِنقاء (كافٍ) فلا يشترط التحقّق. قال في الإِنصاف: "لو أتى
بالعدد المعتبر اكتفي في زوالها بغلبة الظن".
فتلخَّص أن شروط الاستنجاء أربعة: الأول: كونه بماء. الثاني: كون الماء
طهوراً. الثالث: أن يغسل سبع غسلات. الرابع: الإِنقاء.
(وسنّ الاستنجاء بالحجر) أو نحوه كالخرق (ثم) بعده (بالماء).
(فإن عكس) بأن بدأ بالماء، ثم ثَنّى بالحجر، (كُرِهَ) له ذلك.
(ويجزئ أحدهما) أي الاستنجاء بالماء فقط، أو بالحجر فقط، وإن كان على نهر
جارٍ.
(والماء) وحده (أفضل) من الحجر وحده.
(ويكره استقبال القبلة، واستدبارها)، في حال الاستنجاء أو الاستجمار بفضاء.
(ويحرم) الاستجمار (بِرَوْثٍ)، ولو كان لمأكولٍ، (وعظم) لقوله - صلى الله
عليه وسلم -: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم فإنه زاد إخوانكم من الجن"
رواه مسلم.
__________
(1) في (ب، ص): كتنجُّس مخرج فرج بغير خارج. وقد حذفنا، على ما في (ف) وشرح
المنتهى.
(1/50)
(و) يحرم الاستجمار بـ (طعامٍ، ولو) كان
(لبهيمة. فإن فعل) أي استجمر بما نهى الشارع عنه لحرمته (لم يجزئه بعد ذلك
إلا الماء) هذا سابع الشروط في المتن كما لو استجمر بمتنجِّس.
أما لو استجمر بما لا ينقي (1) لملاسته فيكفي الحجر ونحوه بعده.
و (كما لو تعدى الخارج موضع العادة) فلا يجزئ في المتعدّي وحده غيرُ الماء.
وهذا الثامن في المتن.
(ويجب الاستنجاء لكل خارج) من سبيلٍ ولو نادراً كالدود (إلا الطاهر)
كالمنيّ وإلا/ الريح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استنجى من الريح
فليس منا" (2) (و) إلا (النجس الذي لم يلوِّث المحل) كالبَعَرِ الناشف
والحصا.
فصل [في آداب الخلاء]
(يُسَنُّ لداخلِ الخلاء) بالمدّ، وهو المكان المُعَدُّ لقضاء الحاجة،
ومريدٍ لقضاءِ حاجةٍ بالصحراء (تقديمُ اليسرى) دخولاً، لأن اليسرى
تُقَدَّمُ للأذى، واليمنى لما سواه (وقول (3): "بِسْمِ الله. أعُوذُ مِنَ
الُخبْثِ والَخبَائِثِ" لأن التسمية يبدأ بها للتبرك، ثم يستعيذ، وإنما
قدَّم التعوُّذ في القراءة على البسملة لأنها من القرآن، والاستعاذة من أجل
القراءة. والخُبْثُ الشَّرُّ، والخَبَائِثُ
__________
(1) في (ب): بما لا يكفي لملاسَتِهِ، وفي (ص) بما يكفي لملاسَتِهِ، وفي
(ف): أما لملاسته. وما ذكرناه هو الصواب.
(2) حديث "من استنجى من الريح فليس منَّا" رواه الطبراني في الكبير وقال
أحمد: ليس في الريح استنجاء. (شرح المنتهى) وابن عساكر. والحديث ضعيف (ضعيف
الجامع الصغير).
(3) للحديث الوارد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء
يتعوذ بهذا اللفظ. متفق عليه (المغني ط 3، 1/ 167)
(1/51)
الشياطين. وقيل: الخبْثُ الكفر والخبائث
الشياطين" (1).
(وإذا خرج) المتخلي (قدم) رجله (اليمنى)، لأنها أحق بالتقديم إلى الأماكن
الطيبة (وقال: غفرانك) نصب على المفعولية. أي: أسألك غفرانك، مأخوذٌ من
الغَفْر، وهو الستر (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني") لما روى أنس
قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: الحَمْدُ
لله الّذِي أذْهبَ عَنِّي الأذَى وَعَافَانِي" رواه ابن ماجه (2).
(ويكره في حال التخلّي) لقضاء الحاجة (استقبال الشمس والقمر)
بلا حائل، لما فيهما من نور الله عز وجل (ومَهَبّ الريح) بلا حائل، خشيةَ
أن تَرُدَّ عليه البول فينجّسه.
(و) يكره (الكلام) في الخلاء، ولو سلاماً أو ردَّ سلامٍ.
ويكره الكلام في مواضع المهن المستقذرة كالخلاءِ والحمّام (3) وما أشبه
ذلك. نقله في الغنية.
(و) يكره (البول في إناء) بلا حاجة.
(و) يكره البول في (شَقّ) بفتح الشين.
(و) يكره البول في (نارٍ) لأنه يورث السقم.
(و) يكره البول في (رماد) ذكره في الرعاية.
__________
(1) وقيل في تفسير (الخبث والخبائث) الخُبث بضم الباء ذُكران الشياطن، جمع
خبيث. والخبائث إناثهم، جمع خبيثة.
(2) قول (غفرانَك) وحده رواه أحمد والأربعة. وهو حسن (صحيح الجامع الصغير)،
وأما حديث ابن ماجه فقد رواه أيضاً النسائي عن أبي ذر. وهو ضعيف (ضعيف
الجامع الصغير).
(3) كذا في الأصول. وهو مشكل، لما فيه من التكرار، ولأن الخلاء ليس موضع
مهنة. ولعله محرّف من (موضع الحذّاء والحجّام).
(3) لا يعرف في النهي عن البول في النار والرماد دليل قويم، ولا تعليل
مستقيم.
(1/52)
(ولا يكره البول قائماً) ولو لغير حاجة،
بشرطين: أن يأمن تلويثاً.
والثاني: أن يأمن ناظراً.
(ويحرم استقبال القبلة واستدبارها) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا
أَتَيْتُم الغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ وَلَا
تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرَبُوا" رواه الشيخان. وإنما
يحرم بشرطين: الأول: أن يكون (في الصحراء). والثاني: أن يكون (بلا حائل).
(ويكفي إرخاء ذيله) والاستتار بدابة، وجدارٍ، وجَبَل ولو كَمُؤْخِرَةِ
رَحلٍ.
(و) يحرم (أن يبول أو يتغوَّط بطريقٍ مسلوكٍ) لقوله - صلى الله عليه وسلم
-: "اتَّقُوا الملاعِنَ الثَّلَاثَ: البَرَازَ في المَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ
الطَّرِيقِ، والظَلِّ النافع" (1).
(و) يحرم أن يبول أو يتغوَّطَ (بظلٍّ نافع) ومثله مُتَشَمَّس (2) الناس زمن
الشتاء، ومتحدَّثُ الناس، إلا أن يكون حديثهم غِيبَةً أو نميمة (وتحت شجرة
عليها ثَمَرٌ يُقصَد) مأكولٌ أوْ لا، لأنه يفسدها وتعافها النفس.
(و) يحرم أن يبول أو يتغوّط (بين قبور المسلمين،) وعليها.
(و) يحرم (أن يلبث في الخلاء (فوق) قدر (حاجته.) ولا فرق بين أن يكون في
ظلمة، أو حمام، بحضرة مَلَكٍ أو جنّيّ أو حيوان، أوْ لا، ذكره في الرعاية.
__________
(1) حديث "اتقوا البراز ... " رواه أبو داود وابن ماجه. وليس فيه "النافع".
(2) في الأصول "مُشَمَّس" زمن الشتاء والتصويب من (شرح المنتهى 1/ 32)
(1/53)
باب السِّوَاك
السِّواكُ والمِسْوَاكُ اسم للعودِ (1) الذي يُتَسَوَّكُ به.
(يُسَنُّ) السواك (بعودٍ) لينٍ (رطب) يُنَقَّي الفَمَ ولا يَجْرَح، و (لا
يتَفَّتَتُ) في الفم. ويكره بما يجرحه أو يضره كعود رمان، أو يتفتت، لأنه
مضاد لغرض السواك.
(وهو) أي السواك (مسنونٌ مطلقاً) أي في جميع الأوقات (إلا بعد الزوال
للصائم) (2) برطب أو يابس (فيكره).
(ويسن) السواك (له) أي للصائم (قبله) أي قبل الزوال (بعود يابس).
(ويباح) السواك للصائم (قبله) أي الزوال (بـ) عود (رطب).
(ولم يصب السنة من استاك بغير عود) كمن استاك بأصبعه، أو خرقة. وسواء كانت
أصبعه متصلةً أو منفصلة، وسواء كانت خشنة أو لا.
(ويتأكد) السواك في عشرة مواضع:
أشار إلى الأول بقوله: (عند وضوء) لحديث أبي هريرة/ رضي الله عنه مرفوعاً
"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل
__________
(1) ويكون أيضاً اسماً للاستياك. وهو المراد هنا، كما لا يخفى (عبد الغني).
(2) وقيل: يسنّ حتي للصائم بعد الزوال. وهو أولى (عبد الغني).
(1/54)
وضوء" (1) أي أمر إيجاب.
وأشار للثاني بقوله: (وصلاة) قال في المبدع: "وهو عام في الفرض والنفل، حتى
صلاة المتيمم وفاقد الطهورين، وصلاة جنازة.
والظاهر أنه لا يدخل فيه الطواف، وسجدة الشكر، والتلاوة." اهـ
وأشار للثالث بقوله: (وقراءة القرآن) تَطْيِيباً للفم، لئلا يتأذى الملك
حين يضع فاه على فيه، لتلقُّف القرآن.
وأشار للرابع بقوله: (وانتباهٍ من نوم) ليلاً أو نهاراً. وظاهره: ولو لم
يَنْقُضِ الوضوء، لتسميتهم له نوماً.
وأشار للخامس بقوله: (وتغيُّر رائحة فم) بأكْلٍ أو غيرِه، لأن السواك مشروع
لتطيب الفم وإزالة رائحته. فتأكد عند تغيره.
وأشار للسادس بقوله: (وكذا عند دخول مسجد) (2) جزم به الزركشي.
وأشار للسابع بقوله: (ومنزل) اختاره المجد، لِقول عائشة رضي الله عنها وعن
أبيها: "كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ
يَبْتَدِئُ بالسِّواكِ" (3).
وَأشَارَ للثامن بقوله: (وإطالة سكوتٍ) لأنه مَظِنَّةُ تغير رائحةِ الفم.
وأشار للتاسع بقوله: (وَصُفْرَة أسنانٍ) لِإزالتها.
والعاشر: خلوّ المعدة من الطعام.
والسنة أن يكون المِسْواك في اليسرى، ويبتدئُ بالشق الأيمن.
__________
(1) حديث (لولا أن اشقْ .. ) رواه الجماعة (شرح المنتهى 1/ 38).
(2) هذا لم يذكره الموفق في المغني. ولا يبعد أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان لا يفعله في المسجد أصلاً، لما يصحبه من إخراج البصاق عادة.
وكذا لم يذكر تأكُّد استحبابه عند دخول المنزل، وإطالة السكوت، وخلو المعدة
من الطعام، واصفرار الأسنان. وفي شرح المنتهى 1/ 39 أن الذي زادها الزركشي
وتبعه في الإِقناع. فينظر أدلتها.
(3) رواه مسلم، كما في المغني.
(1/55)
ويكون عَرْضاً بالنسبة إلى الأسنان.
ومن أعظم فوائده أنه يذكر الشهادة عند الموت، ويرضي الربّ، ويهضم الطعام،
ويغذّي الجائع.
(ولا بأس أنْ يتسوّك بالعود الواحد اثنان فصاعداً) (4) لحديث عائشة رضي
الله عنها وعن أبيها.
فصل [في سنن الفطرة ونحوها]
(يُسَنُّ حلق العانة) وهو الاستحداد. وله قَصُّه، وإزالته بما شاء من
تَنْويرٍ وغيره.
وتكره كثرة التنوير. قال الغزالي: "قيل إن النورة في كل شهر مرةً تُطْفِئُ
الحرارة وتنقّي البدن، وفي نسخة: اللون، وتزيد في الجماع".
ولم يذكروا الأنف. فظاهره إبقاؤه. ويتوجّه أخذُه إذا فحش. قاله في الفروع.
(و) يسن (نتف الإِبط) فإن شقَّ حَلَقَهُ أو تنوَّر.
(و) يسن (تقليم الأظفار) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الفِطْرَةُ
خَمْسٌ: الخِتَانُ، والاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ
الأَظْفَار، وَنَتْفُ الإِبِط" متفق عليه.
ويسن مُخَالَفاً، فيبدأُ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإِبهام، ثم البنصر،
ثم السبابة؛ ثم إبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السبابة، ثم
البنصر. صححه في الإِنصاف. وروي: "مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفاً لَمْ
يَرَ في عينيه رَمَداً" وَفَسَّر الحديثَ ابنُ بَطَّةَ بما ذُكر.
__________
(4) لعله: بعد غسله من أثر الأول. لئلا ينقل مرضاً.
(1/56)
ويستحب غسلها بعده.
ويكون ذلك يوم الجمعة، زاد في الإِقناع: قبل الصلاة.
(و) يسن (النظر في المرآة) وقول: "اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي،
وحرِّمْ وجهي على النار" (1).
(و) يسن (التطيّب بالطيب) فللرجل: بما يظهر ريحه ويخفى لونُه، كالعود
والمسك والعنبر، وللمرأة في بيتها بما شاءت، وفي غيره بما يظهر لونه (2)
كالياسمين والورد والحناء.
(و) يسن (الاكتحال كل ليلة) قبل النوم (في كل عين ثلاثاً) بإِثْمِدٍ
مُطَيَّب.
(و) يسن (حف الشارب) قال في النهاية: إحفاء الشوارب أن تبالِغَ في قصّها.
(و) يسن (إعفاء اللحية) بأن لا يأخذ منها شيئاً. قال في المذهب: ما لم
يُسْتَهْجَن طولها (وحَرُمَ حلقها) ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى.
(ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها) هكذا نَصُّ الإِمامِ أحمد.
(والختانُ واجبٌ على الذَّكر) بأخذ جِلْدَة الحَشَفَة (و) واجب على
(الأنثى) (3) بأخذ جلدةٍ فوق محل الإِيلاج، تشبه عُرْفَ الديك، ويستحب
__________
(1) لما في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً. وهو صحيح (صحيح
الجامع الصغير) وليس فيه "وحرّم وجهي على النار" ولكن لا بأس في مثل هذا
بأن يدعو بما شاء.
(2) أي عند نسائها ومحارمها. لما في الحديث (طيب الرجال ما خفيَ لونه وظهر
ريحه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه".
وفي تمثيله بالياسمين والورد لما خفي ريحه نظر، فإنهما من أقوى الطيوب
ريحاً.
والتمثيل السديد بالأصباغ النسائية التي تخفى رائحتها، كما في شرح المنتهى
1/ 42 "وللمرأة حفّ وجهها وتحسينه بتحميرٍ ونحوه".
(3) وفي قول: هو للأنثى مستحب غير واجب، وعليه اقتصر صاحب المغني (1/ 86)
(1/57)
أن لا تؤخذ كلّها منها. وخنثى في فرجيها
(عند البلوغ) لأنه ليس أهلاً للتكليف قبله، مالم يَخَفْ على نَفْسِه فيباح
(1).
(و) الختان (قبله) أي البلوغ (أفضل) فيعايا بها (2).
والأفضل أن يختتن يوم حادي وعشرين، فإن فات تُرِكَ حتى يشتد ويقوى. قاله في
"المستوعب" في العقيقة.
__________
(1) إن خاف على نفسه فالذي تقتضيه قواعد الشرع تحريمه، لقول الله تعالى
{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
(2) أي يقال: في أي موضع تكون السنة أفضل من الواجب؟ فيقال: هنا. وكذا رد
السلام واجب، وبدؤه سنة، وهو أفضل (عبد الغني).
(1/58)
باب الوضُوء
أي هذا بابٌ يذكر فيه فروض الوضوء، وشروطه، وواجباته (1).
(تجب فيه) أي الوضوء (التسمية) وتجب أيضاً في الغسل، والتيمم، وغسل يديْ
قائمٍ من نوم ليلٍ ناقض لوضوءٍ. أي قول "بسم الله".
(و) على الوجوب (تسقط سهواً وجهلاً) قال شيخنا البلباني: كغسل وغيره مما
تجب له التسمية.
(وإن ذكرها) أي التسمية (في أثنائه) أي في أثناء الوضوء والغسل (ابتدأ)
لأنه أمكنه أن يأتي بها على جميعه، فوجب، كما لو ذكرها في أوله. وعُلِمَ
منه أنه إذا لم يذكرها حتى فرغ لم تلزمْه الإِعادة. وقال في الإِقناع: سمّى
وبَنَى.
(وفروضه) أي الوضوء ولو مستحبًّا (ستة):
الأول: (غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق).
(و) الثاني: (غسل اليدين مع المرفقين).
(و) الثالث: (مسح الرأس كله، ومنه الأذنان).
__________
(1) صوابه "وواجبه" لأنه ليس فيه إلا واجب واحد، وهو التسمية (عبد الغني).
(1/59)
(و) الرابع: (غسل الرجلين مع الكعبين).
(و) الخامس: (الترتيب) بين الأعضاء المذكورة، كما ذكر الله تعالى.
وأما الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين فلا يجب، حكى ابن
المنذر الإِجماع على ذلك.
فإن نكَّس وضوءه، بأن بدأ بشيء قبل غسل الوجه، فلا يحتسب.
(و) السادس: (الموالاة) وهي أن لا يؤخّر غسل عضو حتى يجفَّ ما قبله بزمن
معتدل. فلو لم تجب لأجزأ غسل اللمعة (1) فقط.
وإنما لم يشترط في الغسل لأن المغسول فيه بمنزلة العضو الواحد.
(وشروطه) أي الوضوء (ثمانية) ولو مستحبًّا:
الأول: (انقطاع ما يوجبه) من حيض ونفاس ونحوهما.
(و) الثاني: (النية) لخبر "إنما الأعمال بالنيات" أي لا عمل جائزٌ إلا
بالنّيّة. فإن قيل: الإِسلام عبادة، ولا يفتقر إلى نية، [والنية عبادة ولا
تفتقر إلى نية] (2) فقال أبو البقاء: "ليس بعبادة، لصدوره من الكافر.
سلَّمْنا، لكن للضرورة. وأما النية فلقطع التسلسل".
(و) الثالث: (الإِسلام).
(و) الرابع: (العقل).
(و) الخامس: (التمييز لأن سنّ التمييز) أدنى سنٍّ يعتبر قصد الصغير فيه
شرعاً.
__________
(1) يشير إلى ما روي أن رجلاً توضأ وفي رجله لمعةٌ قَدْرُ الدِّرهم لم
يُصِبْها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء، وفي
رواية: والصلاة. فهذا يدل على اشتراط الموالاة وإلا لأمره بغسل اللمعة فقط
(عبد الغني) والحديث المذكور رواه أحمد وأبو داود من حديث خالد بن معدان
مرفوعاً، ولفظة (الصلاة) من رواية أبي داود وحده (شرح المنتهى 1/ 46) وقال:
فيه بقيَّة، وهو ثقة.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(1/60)
(و) السادس: (الماء الطهور المباح).
(و) السابع: (إزالة ما يمنع وصوله) أي الماء الطهور المباح من شمع أو
عَجينٍ ونحوهما.
(و) الثامن: (الاستنجاء أو الاستجمار).
فصل [في النية]
(فالنّية هنا) في الوضوء (قصد (1) رفع الحدث) بذلك الوضوء، (أو قصد)
استباحة (ما) أي: فعلٍ (تجب له الطهارة، كـ) استباحة (صلاةٍ و) استباحةِ
(طوافٍ و) استباحةِ (مَسِّ مصحف.)
وتتعيّن نية الاستباحة لمن حدثه دائم، كمستحاضة، ومن به سلس بول، ونحو ذلك.
ويرتفع حدثه. ولا يحتاج إلى تعيين نية الفرض، (أو قصد ما) أي قولٍ أو فعلٍ
(تُسَنّ لَهُ) الطهارة، كأن ينوي الوضوء (لِقِراءةٍ، وذكرٍ، وأذانٍ، ونومٍ،
ورفعِ شكٍّ، وغضبٍ) لأنه من الشيطان، والشيطان من النار، والماء يطفئ
النار، (وكلامٍ محرّم) كغيبة ونحوها، (وجلوسٍ بمسجد، وتدريسِ عِلْم)
قدَّمَهُ في الرعاية. (وأكلٍ) وزيارةِ قبرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
(فمتى نوى شيئاً من ذلك ارتفع حدثُهُ). أما إذا نوى التجديد المسنون، بأن
صلى بالأوَّل، ناسياً حدثه (2)، فإنه يرتفع حدثه، فلو لم يصلّ بالأول، أو
كان ذاكراً لحدثه، لم يرتفع.
__________
(1) والتلفظ بها أي النية وبما نواه من وضوء وغسل وتيمم، وفي سائر
العبادات، بدعة قاله ابن تيمية في الفتاوى المصرية، وقال: لم يفعله النبي -
صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه. وفي الهدي لابن القيم: لم يكن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقول في أول الوضوء: نويت استباحة الصلاة، هو ولا
أحد من أصحابه ولم يرد عنه في ذلك حرف بسند صحيح ولا ضعيف (كـ).
(2) أي وكان عند التجديد ناسياً حدثه.
(1/61)
(ولا يضرّ سَبْقُ لسانِه بغير ما نوى) كما
لو أراد أن يقول: نويت أصلي الظهر، فقال نويت صيامَ غدٍ.
(ولا) يضر (شكّه في النية، أو في فرضٍ، بعد فراغ كل عبادةٍ) من العبادات،
سواءٌ كانت صلاة، أو صياماً، أو غيرهما. (وإن شك فيها) أي في النية (في
الأثناءِ استأنَفَ) لأن الأصل أنه لم يأت بها، كما لو شك في غسلِ عضوٍ، أو
مسح رأسِهِ في الأثناء.
فصل (في صفة الوضوء) الكامل
(وهي أنْ ينويَ) الوضوءَ للصَّلاةِ ونحوها، أو ينوي رفع الحدث.
(ثم يسمّي) أي يقولُ: بسم الله، لا يكفيه غيرها. وكذا كلُّ موضعٍ وجبت فيه.
ظاهر ترتيبه بِثُمَّ أنه لو قدم التسميةَ على النيةِ لم يصحّ وضوؤه. أفاده
شيخنا البلباني.
(ويغسل كفهِ ثلاثاً).
(ثم يتمضمض) ثلاثاً (ويستنشق) ثلاثاً، إن شاء من غَرْفَةٍ، وهو أفضل (1)،
وإن شاء من ثلاثٍ، وإن شاء من ستٍّ.
(ثم يغسل وجهه) ثلاثاً (من منابِتِ شعر الرأس المعتاد) غالباً، فلا عبرة
بالأفْرَعِ -بالفاء- وهو الذي ينبت شعره في بعضِ جبهته، ولا بالأجلح الذي
انحسر شعرُه عن مقدّم رأسه. مع ما انحدر من اللحيين والذَّقَنَ طولَاً، ومن
الأذن إلى الأذن عرضاً.
__________
(1) بل الأفضل من ثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل غرفة. لحديث عليٍّ "أنه
تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات" متفق عليه. وأما الواحدة فهي من الشارح
وهم على ما في المنتهى وشرحه (1/ 51)
(1/62)
(ولا يجزئ) غسل ظاهر شعر اللحية، إلا أن لا
يصف البشرة) فإنه يجزئ غسل ظاهره. وحكم عنفقةٍ، وشاربٍ، وحاجبٍ، ولحيةٍ
امرأة، وخنثى إذا كانت كثيفة أو خفيفة، حكم اللحية.
(ثم يغسل يديه مع مرفقيه) وأصبعٍ زائدةٍ، ويدٍ أصلها بمحل فرضٍ أو بغيره،
ولم تتميز (ولا يضرُّ وسخٌ يسيرٌ تحت ظفر ونحوه) كالوسخ داخل أنفه، يشق
التحرز منه أوْ لا، قال في حاشية المنتهى: قلت: ومثله ما يَعْلَقُ بأصول
الشعر من قملٍ ونحوه، وما يكون بشقوقِ الرجل من الوسخ. وألحق به الشَّيخُ
كلَّ يسيرٍ مَنَع، حيث كان من البدن، كدمٍ وعجينٍ ونحوهما، واختاره.
(ثم) إذا غسل يديه (يمسح جميعَ ظاهرِ رأسه) بالماء، فلو مسح من له شعرٌ
البشرةَ لم يجزِه، كما لو غسل باطن اللحية. ولو حلق البعضَ فنزل عليه
شَعَرُ ما لم يحلقْ أجزأه المسح عليه (من حد الوجه إلى ما يسمى قفاً (1).
والبياض فوق الأذنين منه) يُمِرُّ يديهِ من مقدَّمه إلى قفاه، ثم يردّهما
إلى الموضع الذي بدأ منه (ويدخل سَبَّابَتَيْهِ في صماخِ أذنيه، ويمسح
بإبهاميه ظاهرهما) وهذه هي الصفة المسنونة. وكيف مَسَحَ كَفَى.
(ثم) بعد مسح رأسِهِ وأذنيه (يغسل رجليه مع كعبيه، وهم العظمان الناتئان)
اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم، ويغسل الأقْطَعُ من مفصل مرفِقٍ
وكعبٍ طرف (2) عضد وساق.
__________
(1) في الأصول (ف، ب، ص): قَفاءً, بالمدّ، والتصويب مما ضبطه في شرح
المنتهى.
(2) في الأصول (ف، ب، ص): وطرف. وذكر الواو خطأ، فحذفناها.
(1/63)
فصل [في سنن
الوضوء]
(وسننه) أي الوضوء (ثمانَ عَشْرَة) سُنَّةً:
الأول (1): (استقبال القبلة).
(و) الثاني: (السواك) عند المضمضمة.
(و) الثالث: (غسل الكفين ثلاثاً) لغير قائم من نوم ليل ناقض لوضوء، وتقدم.
(و) الرابع: (البداءة قبل غسل الوجه بالمضمضة و) بعده (الاستنشاق).
(و) الخامس: (المبالغة فيهما) أي في المضمضة والاستنشاق (لغير الصائم).
(و) السادس: (المبالغة في سائر الأعضاء مطلقاً) لصائم وغيره، وهي دَلْكُ ما
ينبو عنه الماء وَعَرْكُهُ به.
(و) السابع: (الزيادة في ماء الوجه) لأساريره ودواخله وخوارجه وشعوره. قاله
أحمد.
(و) الثامن: (تخليل اللحية الكثيفة) عند غسلها، وإن شاء إذا مسح رأسه،
نصًّا.
(و) التاسع: (تخليل الأصابع) من اليدين والرجلين، فيخلِّل أصابع رجليه
بخنصره اليسرى، من باطن رجله. فيبدأ بخنصر يمنى إلى إبهامها، ويسرى يبدأ من
إبهامها إلى خنصرها، ليحصل التيامن في التخليل، وتخليل أصابع يديه إحداهما
بالأخرى.
(و) العاشر: (أخذ ماء جديدٍ للأذنين) بعد مسح رأس.
__________
(1) الأولى أن يقول: الأولى، الثانية، الثالثة الخ ..
(1/64)
(و) الحادي عشر: (تقديم اليمنى على اليسرى)
حتى للقائم من نوم الليل، وبين الأذنين.
(و) الثاني عشر: (مجاوزة محل الفرض) في الأعضاء الأربعة.
(و) الثالث عشر: (الغَسْلة الثانية والثالثة) قال القاضي وغيره: الأولى
فريضة، والثانية فضيلة، والثالثة سنة. قال في "المستوعب": وإذا قيل لك: أي
موضعٍ تقدَّم فيه الفضيلة على السنة؟ فقل: هنا.
(و) الرابع عشر: (استصحاب ذكر النية إلى آخر الوضوء) بقلبه، بأن يكون
مستحضراً لها في جميع الطهارة، لتكون أفعاله كلها مقترنة بالنّية.
(و) الخامس عشر: (الإِتيانُ بها) أي: النيّة (عند غسلِ الكفين)، فإن
غَسَلَهما بغير نية فكمن لم يغسلهما.
(و) السادس عشر: (النطق بها) أي النية (1)./ (سراً) أي ليوافق اللسان
القلب.
(و) السابع عشر: (قول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله" مع رفع بصرِهِ إلى السماء بعد فراغه) لما روي عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَا
مِنْكًمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ الوُضوءَ، أو: يسْبغُ
الوُضوءَ، ثُمّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ الله، وَحْدَهُ لا
شَرِيكَ لَه، وَأشْهَدُ أن مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلاَّ فُتِحَت
لَهُ أبْوَابُ الجَنَةِ الثَّمانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيِّها شَاءَ" رواه
مسلم. وفي رواية "فَأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى
السَّماءِ". وَسَاقَ الحديث.
(و) الثامن عشر: (أن يتولّى وضوءَه بنفسِه من غيرِ معاونةٍ).
وتباح المعَاوَنَةُ وتنشيف أعضائه. وتركهما أفضل.
__________
(1) انظر خلافه فيما تقدم آنفاً عن ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
(1/65)
باب مَسحِ الخُفَّين
وما في معناهما كالجرمُوقين والجورَبين
وهو رخصة (يجوز بشروط سبعة):
أشار للأول بقوله: (لبسُهما) أي لبس زوجَي الخُفِّ (بعد كمال الطهارة) فلو
أدخل اليمنى في الخف بعد غسلها وقبل غسل اليسرى، ثم غَسَل اليسرى وأدخلها
فيه، وأراد المسح، لزمه نزع اليمنى ولبسها قبل الحدث، (بالماء) فلو لبسهما
على طهارةِ تَيَمُّمٍ لم يصحّ المسح.
وأشار للثاني بقوله: (وسَتْرُهما لمحل الفرضِ ولو) كان الستر لمحل الفرض
(بربطهما) كالزربول الذي له ساق وَعُرى.
وأشار للثالث بقوله: (وإمكان المشي بهما عُرْفاً) لا كونه يمنع نفوذ الماء،
ولا كونه معتاداً، فيصح على الخفِّ من الجلود واللبود، والخشب والحديد،
والزجاج الذي لا يصف البشرة. ونحو ذلك، حيث أمكن المشيُ فيه.
وأشار للرابع بقوله: (وثبوتهما بنفسهما) أو بنعلين إلى خلعهما، لا بربطهما
أو شَدِّهما.
وأشار للخامِسِ بقوله: (وإباحتُهما) سواءٌ كانَتْ هناك ضرورة تدعو إلى لبسه
كَخَوفِ سقُوط أصابعه من شدة البرد، أو لم تكنْ. فلا يصحُّ على مغصوبٍ، ولا
لرجل على حريرٍ، بخلاف المرأة.
(1/66)
وأشار للسادس بقوله: (وطهارةُ عينِهما) ولو
لضرورةٍ. ويتيمَّمُ مِع الضرورة لمستورٍ بالنجسٍ، ويعيد ما صلى به. فإن كان
النجس خُفَّا تيمَّمَ مع خوفِ نزعهِ لغسل الرجلين. وإن كان عمامةً تيمَّمَ
مع خوفِ نزعِهَا لِمَسْحِ الرأس. وإن كان جبيرة تيمم مع خوف نزعها لغسل ذلك
العضو المشدود.
وأشار للسابع بقوله: (وعدُم وصفِهما البشرة) لصفائه كالزجاج الرقيق، أو
خِفَّتِه كالجورب الذي يصف القدم.
(فيمسحُ المقيم، والعاصي بسفره، من الحدث بعد اللبس يوماً وليلة) أي من
ابتداء حدثِهِ. فلو مضى من الحدث يومٌ وليلةٌ لمقيمٍ أو ثلاث إن كان
لمسافرٍ، ولم يمسحْ، انقضتِ المدة.
(و) يمسح (المسافر) سفرَ قَصْرٍ لم يعصِ بِهِ (ثلاثَةَ أيامٍ بلياليهن. فلو
مَسَحَ في السفر ثم أقام) قبل مضيّ يومٍ وليلةٍ (أو في الحضر ثم سافر) قبل
مضيِّ يومٍ وليلةٍ (أو شكَّ في ابتداءِ المَسْحِ) بأن شك هل ابتدأ بعد أن
شرع في السفر، أو قبل أن يشرع فيه، فالحكم في هذه المسألة أنه (لم يَزِدْ
على مسح مقيمٍ) لأنّ المسحَ عبادةٌ يختلف حكمُهَا بالسفر والحضر، فلا بد من
تحقق وجود جميعها بالسفر حتى يحكم عليها بحكم السَّفر.
(ويجب مسح أكثر أعلى الخف) ونحوه.
وسُنَّ أن يكون بأصابع يده، مبتدئاً من أصابع رجليه إلى ساقيه.
(ولا يجزئ مسح أسفله) أي الخلف (وعَقبِهِ. ولا يُسَنُّ) مسحهما مع الخف.
(ومتى حصل) شيء (مما يوجب الغُسْلَ) من جماعٍ أو غَيرِهِ (أوْ ظَهَرَ بعضُ
محلّ الفرض) أو خرج قدم أو بعضه إلى ساق خفه، (أو انقضت المدة) وهي اليوم
والليلة للمقيم، والثلاثة للمسافر (بطل الوضوء) وبطلت الصلاة.
(1/67)
فصل [في المسح
على الجبيرة]
(وصاحب الجبيرة) وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكِسر أو نحوه، سميت بذلك
تفاؤلاً، (إن وضَعَها على طهارةٍ، ولم تتجاوز محل الحاجة، غسل الصحيحَ،
ومسح عليها بالماء، وأجزأ) من غير تيمُّمٍ، كمسحِ الخفِّ، بل أولى،
للضرورة.
(وإلا) بأن وضعها على غير طهارة، وخاف الضَّرَرَ بنزعها (وجب مع الغَسْل)
أي غسل الصحيح (أن يتيمَّمَ لها) لأنه موضعٌ يخاف الضرر باستعمال الماء
فيه، فجاز التيمم له، كجرحٍ غير مشدودٍ.
(ولا مَسْحَ) مع تيمُّمٍ (ما لم توضع) أَي الجبيرة (على طهارة، وتتجاوز
المحلّ، فيغسل ويمسح ويتيمم لها).
فائدة: إعلم أن الجبيرةَ تخالف الخف في مسائل عديدة، منها: عدم التوقيت
بمدة، ومنها: وجوب المسح على جميعها، ومنها: دخولها في الطهارة الكبرى،
ومنها: أنّ شدها مخصوص بحال الضرورة، ومنها: أن المسح عليها عزيمة، ومنها:
أنه لا يشترط سترها لمحل الفرض، ومنها: أنه يتعّين مسحها. نبّه على ذلك في
"الإِنصاف".
(1/68)
باب نَواقِض الوُضُوء
جمع ناقضةٍ (وهي) مفسداته.
أنواعها (ثمانية):
(أحدها: الخارج من السبيلين، قليلاً كان أو كثيراً، طاهراً) كولدٍ بلا دم
(أو نجساً) كالبول وغيره، ولو ريحاً من قُبُلٍ، نادراً كان الخارج كالدود،
أو معتاداً كالبول.
(الثاني) من الثمانِيَةِ: (خروج النجاسة من بقية البدن) وفيها تفصيل (فإن
كان الخارج بولَاً أو غائطاً نقض مطلقاً) أي سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً،
من تحت المعدة أو من فوقها، وسواء كان السبيلان مفتوحين أو مسدودين. لكن لو
انسد المخرج، وانفتح غيره، فاحكام المخرج باقية.
(وإن كان) الخارج (غيرَهما) أي غير البول والغائط (كالدم والقيء نقض إن
فَحُشَ في نفس كل أحدٍ بحسَبِه) لأنّ اعتبارَ حالِ الإِنسان بما يستفحشه
غيرُه حرج، فيكون منفياً.
(الثالث) من الثمانية: (زوال العقل) كحدوث جنون، أو برسام، كثيراً كان أو
قليلاً، (أو تغطيتُهُ) بِسُكْرٍ، أو (بإغماءٍ، أو نومِ) وهو غَشْيَةٌ
ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، إلا نومَ النبيّ - صلى الله
عليه وسلم - (ما لم يكن النوم يسيراً عرفاً من جالس وقائم).
(1/69)
فإن شك في كثرةِ نومِهِ لم يلتفتْ للشك.
وينقض اليسيرُ من راكعٍ وساجد ومضطجعٍ ومستندٍ ومتكئٍ ومحتبٍ. قال شَيخنا
البلبانيّ رحمه الله تعالى: وماشٍ.
(الرابع) من الثمانية: (مسُّه) أي الماسّ (بيده) ولو زائدةً (لا ظُفرِه)
فلا ينقض المسُّ به، لأنه في حكم المنفصل، فينقضُ اللَّمسُ بحرفِ الكف،
وظهرِهِ وبطنِهِ (فرجَ الآدميّ) سواء كان ذكرَ رجلٍ أو قُبُلَ امرأةٍ، وهو
فرجُها الذي بين إسْكَتَيْها. وسواء كان صغيراً أو كبيراً (المتّصلَ) فلا
ينقض المنفصل لذهاب الحرمة بالقطع. ويشترط أن يكون الفَرْجُ أصليًّا، فلا
نَقْضَ بمسِّ أحد فرجَيْ خُنثى مشكلٍ، إلاَّ أنْ يَمَسَّ الرجل ذَكَرَه
بشهوةٍ أو تَمَسَّ المرأة فرجَها بها. (بلا حائل) فإنْ مَسَّهُ مِنْ وراء
حائلٍ لم ينقضْ، لأنه مسّ الحائل (أو مَسَّ حلقةَ دُبُره) أي الآدميّ، فـ
(لا) ينقض (مسُّ الخصيتين، ولا) ينقضُ (مَسُّ محل الفرج البائن) لذهاب
الاسم. وينقض مس الذكر بفرجٍ غير ذكرٍ، فينقضُ مسُّ الذَكَرِ بِقُبُلِ
أنثى، أو دبرٍ مطلقاً بلا حائل، لأنه أفحشَ من مسَّه باليد. ولا ينقض مسُّ
ذكرٍ بذكرٍ، ولا قبلٍ بقبلٍ أو دُبُرٍ، وعكسه.
(الخامس) من الثمانية: (لَمْسُ بشرةِ الذكَرِ الأنثى، أو الأنثى الذكَر
لشهوةٍ) لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وأما كون اللمس لا
ينقضُ إلاَّ إذا كان لشهوةٍ فللجمعِ بين الآيةِ والأخبار (من غير حائلٍ،
ولو كان الملموسُ ميتاً) كما يجب الغُسْلُ بوطءِ الميّت، (أو) كان الملموسُ
(عَجُوزاً) جزَمَ به في "المستوعِبِ والمغني والكافي وغيرهم" (أو) كان
الملموسُ (مَحْرَماً، لا) نقض بـ (لمس من دون سبعٍ) ولا المرأةِ للطفل/ ومن
ولد فهو طفل أو طفلة إلى سن التمييز، وهو تمام السبع سنين (1).
__________
(1) ف: سبع سنين، بغير تعريف. وهو أصوب من حيث اللغة.
(1/70)
ولا نقض بلمس امرأة امرأة قاله في "شرح
المنتهى".
(ولا) نقض بـ (لمس سن وظفر وشعر، ولا ينقض المس بذلك) أي بالسن والشعر
والظفر، لأنه في حكم المنفصل.
وإذا لم ينقض مس أنثى استُحِبَّ الوضوء. نص عليه الإِمام أحمد ذكره في
الفروع (1).
(ولا ينتقض وضوء الممسوس فرجُه، أو الملموس بدنُه، ولو وَجَدَ شهوة) أما
الممسوس فرجه فقال في الإِنصاف: لا ينتقض وضوؤه ذكراً كان أو أنثى، رواية
واحدة. وأما الملموس لشهوة فصحَّحَ المجد والأزجي (2) في النهاية وابن
هبيرة وغيرهم عدم النقض. ونقله والذي قبله في المنتهى.
ولا نقض بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر.
(السادس) من الثمانية: (غسل الميت) مسلماً كان أو كافراً، صغيراً أو
كبيراً، ذكراً أو أنثى. وهو من المفردات (3) (أو) غسل (بعضه) أي بعض الميت،
ولو في قميص. ومفهومه أنه لو غسل يد السارق بعد قطعها لا ينتقض وضوؤه، لأنه
بعضُ حيٍّ، ولا إن يَمَّمَهُ. صرح بالثانية في الإِقناع والمنتهى.
(والغاسل هو من يقلب الميت ويباشره لا من يصب الماء) ونحوه.
(السابع) من الثمانية: (أكل لحم الإِبل) سواء علمه، أو جهله، وسواء كان
عالماً بالحديث (4) الوارد في ذلك أو لا (ولو) أكله (نيئاً أو
__________
(1) ف: نص عليه في الفروع.
(2) ص: والآدجي.
(3) أي مفردات المذهب الحنبلي، وهي الأحكام التي لم يوافقه عليها أي من
سائر المذاهب الأربعة.
(4) الحديث المراد "من أكل لحم جزور فليتوضأ" وحديث البراء بن عازب، سئل
النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال:" نعم" رواه أحمد
وأبو داود. وروى مسلم عن جابر بن سمرة مثله (شرح المنتهى 1/ 69).
(1/71)
مطبوخاً) تعبُّداً (1) (فلا نقض ببقية
أجزائها، ككبد وقلب وطحال وكرش وشحم وكلية) بضم الكاف (ولسان ورأس وسنامٍ
وكوارع ومُصرانٍ ومرق ولحم. ولا يحنث بـ) أكل (ذلك من حلف: لا يأكل لحمًا)
لأنه لا يسمى لحمًا، وينفرد عنه باسمه وصفته. ولو أمر وكيله بشراء لحمٍ،
فاشترى شيئاً من ذلك لم يكن ممتثلاً، ولا ينفذ الشراء. فإن كان الحالف أراد
اجتناب الدسم، أو اقتضاة السبب، حنث لما فيه من الدسم.
(الثامن) من النواقض: (الردة) عن الإسلام أعاذنا الله منها. قال القاضي: لا
معنى لجعلها من النواقض، مع وجوب الطهارة الكبرى، يعني إذا عاد إلى
الإسلام. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: له فائدة، تظهر بما إذا
عاد إلى الإسلام فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل. فإن نواهما بالغسل أجزأه،
وإن قلنا لم ينتقض وضوؤه لم يجب عليه إلا الغسل. وحكى ابن حمدان وجهاً بأن
الوضوء لا يجب بالإسلام.
(وكلُّ ما أوجب الغسلَ، أوجب الوضوء، غيرَ الموت) فإنه يوجب الغسل ولا يوجب
الوضوء. ولا نقض بإزالة شعرٍ، وكشط جلدة، ونحوهما.
هذه النواقض المشتركة بين الماسح وغيره، وأما المخصوصة به، كبطلان طهارة
المسح على الخفين ونحوهما بفراغ مدته، وخلع حائله، ونقض طهارة المستحاضة
ونحوها بخروج الوقت، فمذكور في أبوابه.
__________
(1) التعبدي من الأحكام ما لم يكن له علة معقولة. ومن أجل ذلك فلا يقاس
عليه غير المنصوص إذ القياس يتبع معرفة العلة. وينظر وجه الفرق بين هذا
وبين لحم الخنزير لم ألحقوا به كتحريم جمع أجزاء الخنزير. ذكره في المغني
(1/ 191) وسائر أجزائه في التحريم ولم يلحقوها هنا. وفي قول: النقض بجميع
أجزاء الإبل.
(1/72)
فصل [فيما يحرم
على المحدث]
(من تيقَّن الطهارة وشك في الحدث، وتيقَّن الحدث وشك في الطهارة، عمل بما
تيقن) وهو الطهارة في الأولى، والحدث في الثانية، لحديث عبد الله بن زيد
قال شُكِيَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرجلُ يخيَّل إليه أنه يجد
الشيء في الصلاة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينصرف حتى يسمَعَ صوتاً
أو يجدَ ريحاً" متفق عليه. ولو عارضه ظن.
(ويحرم على المحدث) حدثاً أصغر أو أكبر (الصلاة) لقول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "لا يقبل الله تعالى صلاةً بغير طهور، ولا صدقةً من غلول"
رواه الجماعة إلا البخاري، والصلاة شاملة للفرض والنفل، والسجود المجرد
كسجود التلاوة والشكر، والقيام المجرد كصلاة الجنازة.
ولا يكفر من صلى محدثا.
(و) يحرم عليه أيضاً (الطواف) ولو نفلاً، لأن الطهارة شرط فيه.
(و) يحرم عليه أيضاً (مس المصحف) لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ} وهو خبر معناه النهي، وبعضِهِ وحواشيهِ (ببشرته بلا حائل)
ولو بغير يد حتى الورق الأبيض المتصل به ولو كان الماسُّ صغيراً إلا بطهارة
كاملة، ولو تيمماً، سواء مسَ صغير لوحاً فيه قرآن، فلا يحرم مسُّه للوح من
المحل الخالي من الكتابة. ولا يجوز تمكين الصغير من المحل المكتوب فيه. أما
مسُّه بحائلٍ فلا يضرّ، كتصفحه بكمِّه، أو عودٍ، وحمله بعِلاقَة، وفي كيس.
ولا يحرم مسُّ التفسير، ومنسوخ التلاوة، وإن بقي حكمه، ومسّ المأثورِ عن
الله تعالى، كالأحاديث القدسية، والتوراة، والإنجيل.
(ويزيد من عليه غسلُ) على من هو محدث حدثاً أصغر (بـ) شيئين
(1/73)
(قراءة القرآن) أي قراءة آية فصاعداً. رويت
(1) كراهة ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، لا بعضِ آية ولو كرره، ما لم
يتحيّل على قراءةٍ تحرم عليه. وله تهجّيهِ، والذكر، وقراءةٌ لا تجزئ في
الصلاة لإِسرارها (2).
وله قول ما وافق قرآناً ولم يقصده، كالبسملة، والتحميد، وآية الاسترجاع،
وآية الركوب (واللُّبث في المسجد بلا وضوء) ولو مصلَّى عيدٍ. قال الشيخ:
وحينئذ فيجوز أن ينام فيه حيث ينام غيره، وإن كان النوم الكثير ينقض
الوضوء، فلو تعذر الوضوء، واحتيج إليه جاز من غير تيمم نصًّا. واللبث
بالتيمم أولى. ويتيمَّمُ للبثه فيه لغسل إذا تعذر الوضوء عليه (3).
__________
(1) في (ب، ص) "رواية"، والتصويب من (ف).
(2) أي يجوز له القراءة التي لا يخرج فيها صوتاً، لأن أقلّ ما يجزئ في
الصلاة عندهم أن تكون قراءة الفاتحة بصوت يسمعه بنفسه. أي لأن ما دون ذلك
ليس بقراءة في الحقيقة.
(3) أي إذا أراد أن يلبث في المسجد ليغتسل فيه، فليتمَّمُ لأجل اللبث.
(1/74)
باب مَا يُوجبُ الغسْل
بالضم: الاغتسال، والماء يغتسل به، وبالفتح: مصدر غَسَل (وهو) أي موجبه
(سبعة) أشياء:
(أحدها): (انتقال المني) يعني أن الغسل
يجب بمجرد إحساس الرجل بانتقال المنيّ من صلبه، والمرأة بانتقاله عن
ترائبها، وهي عظام الصدر. (فلو أحسّ بانتقاله، فحبسه فلم يخرج، وجب) عليه
(الغسل) كخروجه.
ويثبت به حكم بلوغٍ وفطر وغيرهما. (فلو اغتسل له) أي للانتقال (ثم خرج
بعده) أي بعد الغسل (بلا لذة. لم يُعِدِ الغسل) كما لو خرج دفعة واحدة،
لأنه خارج بلا شهوةٍ، أشبه الخارج لِبَرْدٍ. وبه علل أحمد رضي الله تعالى
عنه.
(الثاني) من موجبات الغسل: (خروجه) أي المنيّ (من مخرجه) المعتاد (4)، فلو
خرج من غير مخرجه، لم يجب غسل (ولو دما) أي أحمر، لقصور الشهوة عن قصره (5)
(ويشترط) لوجوب الغسل بخروجه (أن يكون
__________
(4) استشكل (عبد الغني) جعل خروج المني من مخرجه المعتاد سببا للغسل، مع
جعلهم انتقاله سببا. فإنه إذا انتقل وجب الغسل، فما معنى أن يكون خروجه من
غير مخرجه المعتاد غير موجب. فانه لا يخرج إلا وقد انتقل.
(5) كذا في الأصول، ولم يظهر لنا المراد به ..
(1/75)
بلذة، ما لم يكن) الخارج منه المني
(نائماً، ونحوه) كمغمىً عليه. ويلزم من وجود اللذة أن يكون دفقاً فلهذا
استغني عن ذكره.
(الثالث): من موجبات الغسل (تغييب الحشفة كلها) أي حشفة الذكر، وهي ما تحت
الجلدة المقطوعة من الذكر في الختان، بشرط كونها أصلية (أو) تغييب (قدرها
من مقطوعها).
ويترتب على تغييب الحشفة أحكام (1): منها تحريم الصلاة، والطواف، وسجود
الشكر، والتلاوة، ومس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد إلا بوضوء،
ويفسد الصلاة، وعلى مُغَيبِها في الحيض أو في النفاس الكفارة، وُيبطِل
الاعتكاف، وُيفسِد الحج والعمرة، وتحليل المبتوتة، وتقرير المسمى، أو مهر
المثل، ويوجب العدة، والاستبراء، والجلد، والتغريب، والرجم، ولحوق الولد،
وإزالة الإِجبار عن الكبيرة، وتحصين الزوجين، والفيئة في الإِيلاء، وتحريم
بنت الزوجة، وإحضار الماء للغسل، ويفسد الصوم الواجب، والتطوع، ويقطع
التتابع في النذر المتتابع، نهاراً، وفي الظهار مطلقاً (2) للمظاهر منها،
ويوجب الكفارة في الصوم، والكفارة على الحالف على عدم الوطء، والعقوبة في
نكاح المتعة، ودفع العنت، وتحصل به الرجعة للحر والعبد والمبعض، وسقوط خيار
المعتقة تحت عبده.
وتغييبها الذي يوجب الغسل يشترط أن يكون (بلا حائل) لانتفاء التقاء
الختانين مع الحائل، لأن الحائل هو الملاقي لختان كل من المغيِّب والمغيَّب
فيه، (في فرجٍ) أصلي، فلا غسل بتغيب حشفةٍ أصليةٍ في قُبُل
__________
(1) في تحفة الودود لابن القيم أن بعضهم جمع أحكام تغييب الحشفة، فكانت 392
حكما (عبد الغني).
(2) أي أن الجماع يقطع تتابع صوم النذر ان وقع نهاراً، بخلاف الصوم في
كفارة الظهار، فينقطع تتابعه سواء وقع الجماع ليلاً أو نهاراً لقوله تعالى
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.
(1/76)
خنثى مشكلٍ (ولو) كان الفرج الأصليُّ
(دُبراً) لوجود الفرج الأصلي, ولو (لميّت) لأنه إيلاج في فرج (أو) كان
(لبهيمة أو طيرٍ) لأنه إيلاج في فرج، أشبه الآدمية (لكن لا يجب الغسل إلاَّ
عَلَى ابن عشر وبنت تسع.)
فيلزم الغسل من ذُكِر إذا أراد ما يتوقف على غسلٍ أو وضوءٍ، كصلاة، وطواف،
ومس مصحف. ولا يلزمه الوضوء إذا أراد اللبث في المسجد. وإن مات شهيداً قبل
غَسْلِهِ غُسِلَ.
(الرابع): من موجبات الغسل: (إسلام الكافر ولو مرتداً) أو مميزاً، سواءٌ
وُجِد في كفره ما يوجبه أو لا، وسواء اغتسل قبل إسلامه أو لا.
(الخامس): من موجبات الغسل: (خروج دم الحيض.)
وانقطاعه شرط لصحة الغسل له.
(السادس): من موجبات الغسل: (خروج دم النِّفاس) فلا يجب بولادة عرت عنه
(1)، كما لو ألقت علقة.
(السابع): من موجبات الغسل: (الموت، تعبداً) لأنه لو كان عن حدث لم يرتفع،
لبقاء سببه، كالحائض. ولو كان عن نَجَسٍ لم يطهر مع بقاء سبب التنجيس وهو
الموت. ويستثنى من ذلك الشهيد، والمقتول ظلماً.
فصل [شروط صحة الغسل وواجباته وسننه]
(وشروط) صحة (الغسل سبعة) الأول: (انقطاع ما يوجبه) كفراغ جماع، وانقطاعِ
حيضٍ. (و) الثاني: (النية) للخبر السابق. (و) الثالث: (الإِسلام. و)
الرابع: (العقل. و) الخامس: (التمييز، و)
__________
(1) كذا في الأصول. والصواب (عَرِيَتْ).
(1/77)
السادس: (الماء الطهور المباح، و) السابع:
(إزالة ما يمنع وصوله) ولا تشترط إزالة النجاسة التي لا تمنع وصول الماء.
(وواجبه) واحد، وهو (التسمية. وتسقط سهواً) وجهلاً كالوضوء.
(وفرضه) واحد وهو (أن يعمّ بالماءِ جميع بدنه، وداخلَ فمِهِ وأنفِهِ)
كوضوء، لأنهما في حكم الظاهر (حتى ما يظهرُ من فرج المرأة عند القعود) على
رجليها (لـ) قضاء (حاجتها) لأنه في حكم الظاهر، لا ما أمكن من داخله، ولا
غَسْل داخل عينٍ، ويجب غسل ما تحت خاتمٍ ونحوه (وحتى باطنَ شعرها) أي
المرأة، وكذلك الرجل، مسترسلاً كان أو غيره.
(ويجب نقضه) أي الشعر (في الحيض والنفاس، لا الجنابة) أي لا يجب نقضه
للجنابة، إن روَّتْ أصوله، وحتى حشفةَ أقلف (1) مفتوقة.
(ويكفي الظن) أي ظن المغتسل (في الإِسباغ) أي في وصول الماء إلى البشرة.
[سنن الغسل:]
(وسننه) أي الغسل:
(الوضوءُ قبله) وصفته كالوضوءِ المنفرد عن الغسل.
(وإزالة ما لوّثه من أذًى) أي لطَّخه من منيٍّ أو غيره بفرجه أو غيره.
(وإفراغه) أي المغتسل (الماءَ على رأسه ثلاثاً) يحثي الماء عليه ثلاث
حَثَيَات.
(و) إفراغُه الماء (على بقية جسده) بإفاضة الماء عليه (ثلاثاً) لما روت
عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا
اغتَسَلَ من الجنابَة غَسَلَ يَدَيْهِ ثلاثاً، وتوضّأَ وضوءَه للصلاة، ثم
يخلّل شعره بِيَدَيهِ، حتّى إذا ظنَّ أنَّه
__________
(1) الأقلف غير المختون.
(1/78)
قَدْ روّى بَشَرَتَهُ أفاضَ الماءَ عليهِ
ثلاثَ مراتٍ، ثمّ غَسَلَ سائِرَ جَسَدَهِ" متفق عليه.
(والتيامن) بأن يغسل شِقَّه الأيمن قبل شِقّه الأيسر.
(والموالاة) وهي أن لا يؤخَّر غسل بعض جسده حتى يجفّ ما غسله.
(وإمرار اليد على الجسد) لأنه أنقى، وبه يتيقّن وصول الماء إلى مَغَابِنِه
(1) وجميع بدنه، وبه يخرج من الخلاف (2). قال في الشرح: "يستحب إمرار يده
على جسده في الغسل والوضوء، ولا يجب إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء
إلى جميع جسده".
(وإعادة غسل رجليه بمكان آخر) ولو في حمّامٍ ونحوه مما لا طين فيه.
وإن أخر غسل قدميه في وضوئهِ، فغسلهما آخَر غُسْلِهَ فلا بأس (3).
(ومن نوى غسلاً مسنوناً) كغسل الجمعة، والعيدين، أجزأ عن الغسل الواجب
لجنابةٍ أو غيرِها إن كان ناسياً للحديث الذي أوجبه، ذكره في الوجيز، وهو
مقتضى قولهم: أو نوى التجديد ناسياً حدثه، خصوصاً وقد جعلوا تلك أصلاً لهذه
فقاسوها عليها (4)، كذا في شرح الإِقناع.
(أو) نوى غسلاً (واجباً أجزأ عن الآخر) أي عن المسنون بطريق الأولى.
وإن نواهما حَصَلا.
والمستحبّ أن يغتسل للواجب غسلاً، ثم للمسنون آخر (5).
(وإن نوى) أي المغتسل بغسله (رفع الحدثين) الأكبر والأصغر أجزأ
__________
(1) المغابن أماكن انطواء الجلد، كالإِبط والعُكَنِ، وما تحت الألية، وباطن
الرّكبة.
(2) أي خلاف المالكية فانهم يوجبون الدَّلك.
(3) أي بأن قدم من الوضوء غسل الوجه واليدين ومسح الرأس. ولم يغسل رجليه
إلا بعد إفاضة الماء.
(4) يعني ما تقدم في تجديد الوضوء.
(5) في هذا الاستحباب نظر، إذ لا دليل عليه. ولم يذكره في شرح المنتهى.
(1/79)
عنهما، ولم يلزمه ترتيب ولا موالاة، لأن
الله تعالى أمرَ الجُنُبَ بالتطهير، ولم يأمره معه بوضوء. ولأنهما عبادتان،
فتداخَلَتَا في الفعل، كالعمرة في الحج. قال في شرح الإِقناع: "وظاهره
كالشرح والمبدع وغيرهما: يسقط مسح الرأس اكتفاءً عنه بغسله، وإن لم يمر
يده" (أو) نوى رفع (الحدث وأطلق) فلم يقيده بالأكبر ولا بالأصغر، أجزأ
عنهما، لشمول الحدث لهما، (أو) نوى بغسله (أمراً لا يباح إلا بوضوء وغسل،)
كمسّ مصحفٍ، وطوافٍ (أجزأ) هذا الغسل (عنهما) أي عن الطهارتين منفردتين،
ويسقط الترتيب والموالاة، فلو اغتسل إلا أعضاءَ الوضوءِ، لم يجب الترتيب في
غسلها, لأن حكم الجنابة باقٍ.
وإن نوى قراءة القرآن ارتفع الأكبر فقط.
(ويسن) للمتوضِّئ (الوضوء بمدٍّ،) أي بزنة مدّ من الماء (1).
(وهو رطل وثلث (2) بالعراقي).
وزِنَةُ المد بالدراهم مائة وأحَدٌ وسبعون درهماً إسلاميًّا وثلاثة أسباع
درهم.
(وأوقيّتان وأربعة أسباع أوقية بالقدسيّ)، وثلاثُ أواقٍ وثلاثة أسباعِ
أوقيّةٍ دمشقية.
(و) يسن الاغتسال بصاعٍ، وهو) أي الصاعُ (خمسة أرطالٍ وثلثُ رطل بالعراقي)
نقله الجماعة (3) عن أحمد، وفاقاً لمالك والشافعيّ.
__________
(1) قال في شرح المنتهى "بمد من الماء" وهو الأوجه، لأن المد كيل. فتوضؤه
بما كيله مُدّ، لا بما زنته مُدّ. وبينهما فرق. ومثل هذا يقال في الصاع ..
(2) المُدُّ مكيالٌ مقداره ربع صاعٍ. ولأجل تحديده قدروه بما يَسَع من
البُرِّ الرزين ما وزنه رطل وثلث بالعراقي. وهكذا قلْ في التقديرات الآتية
بالدراهم وغيرها في كلام المصنف والشارح. ومثل البرّ الرزين العدس. أما لو
قُدِّر بالشعير فإنه يتسع لأقلّ من رطل، لأن الشعير أخف. وانظر شرح المنتهى
1/ 82
(3) أي رواة أحمد وهم: صالح، وعبد الله، وحنْبَلٌ، والمرُّوذي، وإبراهيم
الحربيّ، =
(1/80)
(وعشر أواقٍ وسبعان بالقدسيّ).
وزنة الصاع بالدراهم الإِسلامية ستُّمائة وخمسة وثمانون درهماً، وخمسة
أسباع درهم.
ورطلٌ وأوقية وخمسة أسباع أوقية بالدمشقي.
وبيان المدّ والصاع ينفعك هنا، وفي الفُطرة، والفدية، والكفارة بأنواعها،
وغير ذلك كما لو نذر الصدقة بمدٍّ أو صاع.
(ويكره الإِسراف) في الماء، ولو على نهر جارٍ، في الوضوء والغسل (لا
الإِسباغ بدونِ ما ذُكِر) من الوضوء بالمدّ، والغسلِ بالصّاع. والإِسباغ
فيهما تعميم العضو بالماء بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحاً.
(ويباح الغسل) والوضوء (في المسجد ما لم يؤذ به) أحداً، أو يؤذ المسجد (1).
ولا يغسل فيه ميت. قاله (2) الشيخ. ويكره إراقة ماء الوضوء وماء الغسل في
المسجد، أو في مكان يداس فيه، كالطريق، تنزيهاً للماء لأنه أثر عبادة.
(و) يباح الغسل في (الحمّام) فإنه روي أن ابن عباس دخل حمّاماً بالجحفة،
(إن أمِنَ الوقوع في المحرّم) بأن يَسْلَمَ من النظر إلى عوراتِ الناس،
ومسّها، ويسلَم من نظرهم إلى عورته ومسّها.
(فإن خيف) الوقوع في المحرّم بدخوله (كُره) له ذلك. (وإن علم) الوقوع في
محرّم بدخوله (حَرم) عليه دخوله. كل ذلك في حق الرجل.
أما المرأة فلها دخوله بشروط، منها: أن تسلم من النظر إلى عورات الناس
ومسّها، ومنها: أن يسلم الناس من النظر إلى عورتها ومسّها.
__________
= والميموني (عبد الغني) وقال: هذا ما كان في حفظي قديماً.
(1) فيجوز جعل مكان في المسجد لأجل الوضوء، أو لأجل الغسل، ولكن لا تزال
فيه نجاسة (عبد الغني).
(2) في (ف): "قال الشيخ .. "
(1/81)
ومنها: أن يوجد لها عذر من حيض أو نفاس أو
جنابة أو مرض أو حاجة إلى الغسل.
ومن آدابه أن يقدِّم رجلَه اليسرى في الدخول، والمغتسلِ، ونحوهما. والأوْلى
أن يغسل قدميه وإبطيه بماء بارد عند الدخول. ويلزمُ الحائط. ويقصدُ موضعاً
خالياً. ولا يدخلُ البيتَ الحارّ حتى يعرق في الأول. ويقلّل الالتفات. ولا
يطيلُ المقام إلا بقدر الحاجة. ويغسل قدميه عند خروجه بماء بارد، فإنه
يُذْهب الصداع.
ولا يكَره دخولُه قُرْبَ الغروبِ، ولا بينَ العشاءَيْن.
ويحرم أن يغتسل عُرْياناً بين الناس، فإن سَتَرَهُ إنسانٌ بِثوبٍ، أو اغتسل
عرياناً خالياً عن الناس فَلا بأس. والتستر أفضل.
وتكره القراءة فيه، ولو خَفَض صوته. وكذا السلامُ، لا الذِّكْر.
فصل في الأغْسال المستحبة
(وهي ستة عشر) غُسْلاً:
(آكدها) الغسل (لصلاة جمعةٍ في يومها) أي الجمعة. وأوّله من طلوع الفجر،
فلا يجزئ قبله (لذَكَر) لا لمرأةٍ نصًّا، (حَضَرَها) أي الجمعة، لقوله -
صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدُكم إلى الجُمُعةِ فِليغتسل" (1) رواه
ابن عمر. ولو لم تجب عليه كالمسافر والعبد. والأفضل عند مضي (2) إليها، وعن
جماع، فإن اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء.
__________
(1) حديث "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة ... " لم نجده بهذا اللفظ، وهو عند
أحمد والشيخين والترمذي بلفظ "من أتى الجمعة فليغتسل".
(2) (ب، ص) بدون قوله (إليها).
(1/82)
ومفهوم قولِهِ: لصلاةِ جمعة، أنه إذا اغتسل
بعد الصلاة لم يصب السنة.
(ثم) يلي غسل الجمعة في الآكدية الغسل (لغسلِ ميتٍ) مسلمٍ أو كافرٍ.
(ثم) الثالث من الأغسال المستحبة: الغسل (لـ) صلاة (عيدٍ في يوميه) أي
العيد، لحاضرها إن صلى.
وأوله من الفجر. وقال ابن عقيل: المنصوص عن الإِمام أحمد أنه قبل الفجر
وبعده، لأنّ زمنَه أضيق من الجمعة.
(و) الرابع: (لـ) صلاة (كسوفٍ).
(و) الخامس: لصلاة (استسقاء) لأنهما صلاتان تجتمع لهما الناس، فاستُحِبّ
الغسلُ لهما، كصلاة الجمعة والعيدين.
(و) السادس والسابع: الغسل لـ (جنونٍ وإغماءٍ) بلا إنزال. والجنون مرضٌ
يصير به العقل مسلوباً، لعدم تمييزِه بين الحدثِ وغيره.
والإِغماء هو ما يكون به العقل مغلوباً، لأنه فوق النوم (1). (و) الثامن:
الغسل (لاستحاضة لكل صلاة).
(و) التاسع: الغسل (لِإحرامٍ) بحج أو عمرة أو بهما، حتى لحائض ونفساء. قاله
في المنتهى.
(و) العاشر: الغسل (لدخول مكة) ولو مع حيضٍ، قاله في المستوعب. قال الفتوحي
في شرحه على المنتهى: وظاهره ولو (2) كان بالحرم، كالذي بمنًى إذا أراد
دخول مكة، فإنه يستحب له الغسل كذلك.
(و) الحادي عشر: الغسل لدخول (حرمها) أي مكة.
(و) الثاني عشر: الغسل لِـ (وقوفٍ بعرفة) رواه مالك عن نافع عن
__________
(1) أي فيغتسل لاحتمال أن يكون احتلم فيهما ولم يشعر (ش المنتهى).
(2) في ف: لو (بدون واو).
(1/83)
ابن عمر. وهذا السند يسمى بسلسلة الذهب عند
المحدثين.
(و) الثالث عشر: الغسل لـ (طواف زيارةٍ).
(و) الرابع عشر: الغسل لـ (طواف وداعٍ).
(و) الخامس عشر: الغسل لـ (مبيت بمزدلفة).
(و) السادس عشر: الغسل لـ (رمي جمارٍ) ظاهره في كل يوم. ولم أرَ من تعرَّضَ
لذلك. وإنما يؤخذ من التعليل. فإنهم قالوا: لأن هذه أنساكٌ تجتمع لها الناس
ويزدحمون، فيعرقون، فيؤذي بعضهم بعضاً، فاسْتُحِبّ كالجمعة.
وفي منسك ابن الزاغوني: وَلسَعْيٍ.
قال في المبدع: ونصَّ أحمد: ولزيارة قبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: لكل اجتماع مستحب.
ولا يستحبُّ الغسل لدخول طيبة (1) ولا للحجامة.
(ويتيمَّم) استحباباً (للكل) أي لكلِّ الأغسال المستحبة (لحاجةٍ) أي عند
حاجة الصحيح إلى الماء، إما لعدمه، أو لعدوٍّ يحول بينه وبين الماء، أو
يكون الماء يسيراً، أو يكون الماء ببئرٍ ولا يجد آلة يستقي بها، أو نحو
ذلك.
(و) يستحب التيمم (لما يُسَنُّ له الوضوء) كقراءة قرآنٍ وذكرٍ (إن تعذر)
كالمريض والجريح العاجز عن أن يمسَّ الماءُ بَشَرَتَهُ. قال في المبدع:
وظاهر ما قدمه في الرعاية: لا لغير عذر.
تذنيب: وقت الغسل للاستسقاء عند إرادة الخروج للصلاة، وللكسوف عند وقوعه،
وفي الحج عند إرادة النسك الذي يريد أن يفعله قريباً، قاله في الإِنصاف.
__________
(1) وهي المدينة المنورة.
(1/84)
باب التَّيَمُّم
التيمم في اللغة: القصد، وفي عرف الفقهاء: استعمالُ ترابٍ مخصوصٍ، في
أعضاءٍ مخصوصة، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص.
(يصح) أي التيمم (بشروط ثمانية:
الأول: (النية).
(و) الثاني: (الإِسلام) فلا يصح من كافر.
(و) الثالث: (العقل) فلا يصح من غير عاقل.
(و) الرابع: (التمييز) فلا يصح قبله.
(و) الخامس: (الاستنجاء أو الاستجمار) المستوفيان للشروط.
(والسادس: دخول وقت الصلاة) التي يريد أن يتيمم لها، من فرضٍ، أو راتبةٍ،
أو صلاة ضحًى. ويصح لفائتةٍ إذا ذكرهها وأراد فعلها، (فلا يصح التيمم
لصلاةٍ قبل وقتها) وإنما جاز الوضوء قبل الوقت لكونه رافعاً للحدث، بخلاف
التيمم فإنه طهارة ضرورة، فلا يجزئ (1) قبل الوقت، كطهارة المستحاضة.
(ولا) يصح التيمم (لنافلةٍ وقتَ نهي) لأنه ليس وقتاً له. ويصح
__________
(1) في ف: فلم يُجَزْ.
(1/85)
لركعتي طوافٍ كلَّ وقتٍ لِإباحتهما إذن.
(السابع): من شروط صحة التيمم (تعذّر استعمال الماء، إما لعدمهِ) أي الماء،
إما بحبس الماء عنه، أو حبسِهِ عن الماء، أو قطعِ عدوٍّ ماءَ بلده، أو عجزٍ
عن تناول الماء من بئر أو غيره ولو بفم، لفقد آلةٍ يتناول بها، كمقطوع
اليدين، والصحيح الذي لا يجد ما يستقي به من حبلٍ أو دلوٍ أو غيرِهما.
ولا فرق في ذلك بين كونه مقيماً أو مسافراً سفراً طويلاً أو قصيراً.
فمن اتصف بصفة من هذه الصفاتِ جاز له أن يتيمم.
(أو لخوفِهِ) أي المتيمم (باستعمالِهِ) أي الماء (الضررَ) من بردٍ شديدٍ،
أو فوتِ رفقةٍ، أو مالٍ، أو خافَ عطَشَ نفسِهِ أو غيرِه من آدميٍّ أو
بهيمةٍ محترمين، أو احتياجِهِ لطبخٍ أو عجن.
فمن خاف شيئاً من ذلك أبيح له التيمم.
أو لا يجده إلا بزيادةٍ كثيرةٍ عادةً على ثمنِ مثلٍ في ذلك المكان الذي هما
به.
(ويجب) على من معه ماء يستغني عن شربه (بَذْلُهُ للعطشانِ) ولو كان الماءُ
نجساً، لأنه إنقاذٌ من مهلكةٍ، كإنقاذ الغريق، وعُلِمَ منه أن الطاهرَ يجبُ
بذْلُهُ بالأولى (من آدميٍّ، أو بهيمة) محترمين.
(ومن وَجَدَ ماء) وهو محدِثٌ أو جُنبٌ (لا يكفي لطهارته استعمله فيما يكفي
وجوباً، ثم تيمّم) للباقي من أعضاءِ طهارته الذي لم يجدْ له ماءً. ولا يصح
تيمُّمُه قبل استعماله إذا لم يحتج إليه كما تقدم. وإنما لزمه استعماله
لأنه قدر على بعض الشرط، فلزمه فعله، كبعض السترة (1). وكما لو كان بعض
بدنه جريحاً وبعضُه صحيحاً، فإنه يلزمه
__________
(1) أي فكذلك إن وجد بعض اللباس لستر العورة وجب استعماله ولو لم يستر كل
العورة.
(1/86)
غسل الصحيح. قاله في شرح المنتهى لمؤلفه.
وإن وجد تراباً لا يكفيه للتيمم استعمله وصلى. قاله في شرح الإِقناع. قلت:
ولا يزيد على ما يجزئ على ما يأتي.
وظاهره: ولا إعادة. وفي الرعاية: ثم يعيد الصلاة إن وجد ما يكفيه من ماء أو
تراب، انتهى.
(وإن وصل المسافر إلى الماء وقد ضاق الوقت) عن طهارته به، (أو) لم يضق
الوقت عن الطهارة به، ولكن (علم أن النَّوْبَةَ) أي نوبة استقائه منه (لا
تصل إليه إلا بعد خروجِهِ) أي بعد خروج الوقت، أو علمه المسافر العادم
للماء قريباً عُرْفاً، أو دلَّه عليه ثقةٌ قريباً عُرْفاً، وخافَ بطلبِهِ
فوتَ الوقتِ، أو دخولَ وقتِ الضرورةِ، أو فوتَ غرضِهِ المباح (عَدَل إلى
التيمم) لأنه غير قادرٍ على استعماله في الوقت، أشبه العادم له.
(وغيره) أي غير المسافر فيما ذكر (لا) يَعدِلُ إلى التيمم (ولو فاتَهُ
الوقت) كمن خاف فوت جنازة، وعيد إذا توضأ، فلا يجوز له التيمم.
(ومن في الوقت) أي وقت الصلاة الحاضرة (أراق الماء، أو مرَّ به وأمكنه
الوضوء منه، ويعلم أنه لا يجد غيرَهُ) ولم يتوضأ منه، أو باعَهُ، أو
وهَبَهُ، وقد دخل الوقت، ولم يترك منه ما يتطهر به (حَرُم) عليه ذلك، ولم
يصح البيع ولا الهبة، لتعلُّقِ حق الله تعالى به، كالأضحية المعينة.
(ثم إن) لم يجد غيره، و (تيمَّم وصلَّى لم يُعِدْ) لأنها صلاة بتيمم صحيح،
لعدم القدرة على الماء حينئذ، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت.
(وإن وجد محدِثٌ ببدنه أو ثوبه نجاسةٌ) لا يُعفى عنها (ماءً) مفعول وجد (لا
يكفي) للحديث والنجاسة (وجب غَسْلُ ثوبِهِ) أوَّلاً، لأنه
(1/87)
لا يصح التيمم عنه. ظاهره أنَّ شرطه أن
يكون يكفي للسبعِ غَسَلاتٍ في نجاسة الثوب أو البدن. وإلاَّ فحكمه حكم
عادمه. انتهى.
(ثم إنْ فَضَلَ) بعد إزالة النجاسة عن ثوبه (شيء غَسَل بدنه).
(ثم إن فضل) بعد ذلك (شيءٌ تطهَّر به. وإلا) بأن لم يفضلْ شيء (تيمَّمَ)
وجوباً.
وإن كان على بدنه نجاسة، وهو محدث، والماءُ يكفي أحَدَهما غَسَل النجاسة ثم
تيممَ عن الحدث، إلا أن تكون النجاسة في محلٍّ يصحُّ تطهيره من الحدث،
فيستعمله فيه عنهما.
(ويصحّ التيمم لكل حدثٍ) أما للحدث الأصغر فبالاتفاق، وأما للأكبر ففي قول
أكثر العلماء.
وحكم الحائض والنفساء إذا انقطع دمهما حكم الجنب.
(و) يصح التيمم (للنجاسة) إذا كانت (على البدن). قال أحمد: هو بمنزلة
الجنب، يتيمم. (بعد تخفيفها) عن بدنه (ما أمكن) بمسحِ رَطْبِهِ، وحكِّ
يابِسِهِ لزوماً. ولا إعادة عليه. ولا فرق بين كون النجاسةِ على موضعٍ
صحيحٍ أو جريحٍ. قاله في شرح المنتهى. (فإن تيمم لها قبل تخفيفها لم يصحّ).
قال في شرح المنتهى: وعلم مما تقدم أنه لا يتيمم للنجاسة على الثوب، ولا
على المكان.
الشرط (الثامن: أن يكون) التيمم (بترابٍ) فلا يجوز بالرمل والنورة والجِصِّ
ونَحِيتِ الحجارة وما في معنى ذلك.
(طهورٍ) فلا يجوز التيمم بترابٍ تيُمِّمَ به، لزوال طهوريته باستعماله،
وذلك هو التراب المتناثر عن الوجه واليدين بعد مسحهما به، والباقي عليهما.
(1/88)
(مباحٍ) لا يجزئ التيمم بترابٍ مغصوبٍ.
(غيرِ محترقٍ) فلا يجوز بما دُقَّ من خزفٍ، أو آجُرٍّ، ونحوهما، لأن الطبخَ
أخرجَه عن أن يقع عليه اسم التراب.
(له غبارٌ يَعْلَقُ باليد) أو غيرها. وخرج بِذلك السَّبِخَةُ وغيرها مما
ليس له غبار يَعْلَقُ باليد، فإنه لا يصح التيمم به.
وشمل كلامُة ما لو ضرب على لِبَدٍ، أو بساطٍ، أو صخرةٍ، أو حيوانٍ، أو
بَرْذَعَةِ حمارٍ أو شجرٍ، أو خشب، أو عِدْلِ شعيرٍ، أو نحوِهِ مما عليه
غبار يعلق باليد، فإنه يصح التيمم به.
وإن خالط الترابَ ذو غبار كالجصّ والنورة، فإن كانت الغلبة للتراب جاز
التيمم، وإن كانت الغلبة للمُخالِطِ لم يجز التيمُّم به، قياساً على الماء.
قاله في شرح المنتهى.
[صلاة عادم الماء والتراب]
(فإن لم يجد ذلك) أي الماء والتراب، كمن حُبِسَ بمحلٍّ لا ماءَ به ولا
تراب، أو ببدنه قروحٌ أو جراحاتٌ لا يستطيع معها مسَّ البشرةِ لا بماءٍ ولا
تراب، (صلَّى الفَرْضَ فقط) دون النوافل (على حَسَب حالِهِ) لأن العجز عن
الشرط لا يوجب ترك المشروط، كما لو عَجَز عن السترة والاستقبال. (ولا يزيد
في صلاته على ما يجزئ) في الصلاة، فلا يقرأ زائداً على الفاتحة، ولا
يُسَبِّح زائداً على المرَّة، ولا يزيد على ما يجزئ في طمأنينة ركوعٍ أو
سجودٍ أو جلوسٍ بين السجدتين. وإذا فرغ من الفاتحة ركع في الحال. وإذا
فَرَغ مما يجزئ في التشهد الأول نهض في الحال. وإذا فرغ مما يجزئ في التشهد
الأخير سلَّم في الحال.
(1/89)
(ولا إعادة) عليه، لأنه أتى بما أُمِرَ به.
وتبطل بحدثٍ ونحوه فيها.
وإن وجد ثلجاً، وتعذَّر تذويبه، مَسَحَ به أعضاءه لزوماً، وصلَّى ولم
يُعِدْ إن جَرَى بِمسٍّ. فإن لم يَجْرِ أعادَ.
ومثله لو صلى بلا تيمم، مع وجود طين يابس عنده، لعدم وجود ما يدقه به.
فصل [فروض التيمم وواجباته]
(واجب التيمم التسمية) ظاهره. ولو عن نجاسةٍ ببدنٍ. (وتسقط سهواً).
(وفروضه) أي التيمم (خمسة):
الأول من فروض التيمم: (مسحُ الوجه) سوى ما تحت شعره، ولو خفيفاً، وداخِلِ
فمٍ وأنفٍ، ويكره إدخالُ الترابِ في الفمِ والأنف.
(و) الثاني من فروض التيمم: (مسح اليدين إلى الكوعين) للآية الكريمة (1).
وإذا عُلِّق حكمٌ بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذراع، كقطع يد السارق، ومسّ
الفرج.
ولو أَمَرَّ المحلَّ الذي يجب مسحه في التيمم على ترابٍ، ومَسَحَه به، أو
نَصَبَ المحلَّ الذي يجب مسحه لريح فعمَّه التراب، ومَسَحَه به، صحّ
التيمم. لا إن سَفَتْهُ بغير قصد.
(الثالث) من فروض التيمم: (الترتيب في الطهارة الصغرى) لا
__________
(1) وهي قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
(1/90)
الكبرى، (فيلزم مَنْ جُرْحُه ببعض أعضاءِ
وضوئِه إذا توضأ أن يتيمم له عند غَسْلِهِ لو كان صحيحاً) فلو كان الجرح في
الوجه، بحيث لا يمكنه غسل شيء منه, تيمم أوّلاً، ثم أتمّ الوضوء.
وإن كان في بعض وجهِهِ خُير بين غسل الصحيح منه ثم يتيمَّمُ للجرح منه،
وبين التيمم، ثم يغسل صحيحَ وجهِهِ وُيتِمُّ الوضوءَ.
وإن كان الجرح في عضو آخر لزمه غسل ما قبله، ثم كان الحكم فيه على ما ذكرنا
في الوجه.
وإن كان في وجهه ويديه ورجليه احتاجَ في كلّ عضوٍ إلى تيمّم في محلِّ
غَسْلِهِ، ليحصل الترتيب.
ولو غسل صحيح وجهه، ثم تيمم له وليديه تيمماً واحداً، لم يجزئه، لأنه يؤدي
إلى سقوط الفرض عن جزءٍ من الوجه واليدينِ في حال واحدة. فإن قيل: هذا
يَبْطُل بالتيمم عن جملة الطهارة، حيث يسقط الفرض عن جميع الأعضاء بالتيمم
جملةً واحدة؟ قلنا: إذا كان عن جملة الطهارة فالحكم له دونها، وإن كان عن
بعضها ناب عن ذلك البعض، فاعتُبر فيه ما يُعْتَبَرُ فيما ينوب عنه من
الترتيب. قاله في الشرح.
(الرابع) من فروض التيمم: (الموالاة) في الطهارة الصغرى (فيلزمه) أن يعيد
(غسل الصحيح عند كل تيمم) فلو كان الجرح في رِجْلٍ، فتيمَّمَ له، عند
غسلها، ثم بعد زمنٍ لا تمكن فيه الموالاة خَرَجَ الوقت، بَطَلَ تيممه،
وبطلت طهارته بالماء أيضاً، لفوات الموالاة، فيعيد غسل الصحيح ثم يتيمم له
عقبه.
وعُلِمَ مما تقدم أن التيمم عن جرح لو (1) كان في غسل جنابة لم تبطل طهارته
بالماء بخروج الوقت، لعدم وجوب الترتيب والموالاة فيه.
__________
(1) في (ف): "ولو" لصواب ما في (ب، ص) بدون واو.
(1/91)
(الخامس) من فروض التيمم: (تعيين النية لما
يتيمم له) كصلاةٍ، وطوافٍ، ومسِّ مصحفٍ (من حدثٍ) أكبر أو أصغر (أو نجاسةٍ)
على بدنه، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة، فلم يكن بدٌّ من
التعيين، تقويةً لضَعْفِهِ.
وصفة التعيين أن ينوي استباحةَ صلاةِ الظهر مثلاً، من الجنابة إن كان
جُنباً، أو من الحدث إن كان محدثاً، أو منهما إن كان جنباً محدثاً، وما
أشبه ذلك (فلا تكفي نية أحدهما عن الآخر).
ولو اجتمع حدثٌ ونجاسة على بدنٍ، وعيَّنَ بتيمُّمِه أحدَهما دون الآخرِ، لم
يكتَفِ بهذا التيمم، ولا أحد المحدثين عن الآخر.
(وإن نواهما) أي الحدثين بتيممه الواحد، أو أحَدَ أسباب أَحَدِهما، كما لو
بالَ، ومسَّ ذكره، ولَمَسَ امرأة لشهوةٍ، ونوى بتيممه أحد هذه الأسباب
(أجزأ) هذا التيمم عن الجميع.
وكذا إذا وجد منه موجباتٌ للغسل، ونوى بتيممه أحدها (1)، فإنه يجزئ عن
جميعها.
[مبطلات التيمم]
(ومبطلاته) أي التيمم، حتى تيمم جنبٍ لقراءة قرآن، ولُبْث بمسجد، وتيممِ
حائضٍ لوطءٍ، ولنجاسة ببدن، وجنازة، ونافلة، ونحوها (خمسة):
أشار للأوّل بقوله: (ما أبطل الوضوء) كخروج شيء من سبيلٍ، ومسِّ فرجٍ ونحو
ذلك من نواقض الوضوء المتقدمة. هذا إذا كان تيممه عن حدثٍ أصغر، لأنه بدل
الوضوء، فيبطله ما أبطله.
__________
(1) في (ب، ص): "أحدهما" والتصويب من (ف).
(1/92)
ويبطل تيممٌ عن حدثٍ أكبرَ بما يوجبه
كالجماع وخروج المنيِّ بلذةٍ، إلا غُسْلَ حيضٍ ونفاس، إذا تيممتْ له، فلا
يبطل بمبطلاتِ غسلٍ ووضوءٍ، بل بوجود حيضٍ ونفاس. فلو تيممتْ بعد طُهْرِها
من حيضٍ، له، ثم أجنبت، فله الوطء، لبقاءِ حكمِ تيممِ الحيضِ. والوطء إنما
يوجبُ حدثَ الجنابةِ.
وأشار للثاني بقوله: (ووجود الماء) لعادمِهِ إذا قدر على استعماله بلا ضرر،
قال في الفروع: وإن قدر عليه في تيممه (1) بَطَلَ. وكذا بعده قبل الصلاة.
وأشار للثالث بقوله: (وخروج الوقت) ما لم يكن في صلاةِ جُمعةٍ، ويخرج الوقت
فيها، فلا يبطل ما دام فيها، ويتمُّها لأنها لا تقضى. جزم به في الإِقناع
والمنتهى. قال في شرحه: قلت: فَيُعايا بها. فيلزم من تيممَ لقراءةٍ ووطءٍ
ونحوهِ كلبثٍ، التركُ حتى يعيد التيمم. لكن لو نوى الجمع في وقت الثانية،
ثم تيمم للمجموعة أو الفائتة في وقت الأولى لم يبطل التيمم بخروج وقت
الأولى، لأنّ نية الجمع صيرت الوقتين كالوقت الواحد.
وأشار للرابع بقوله: (وزوالُ المبيحِ له) أي للتيمم، كما لو تيمم لمرض
فعوفي، أو لبردٍ فزال. ثم إن زالَ بعد صلاته، أو طوافه، لم تجب إعادته. قال
في شرح الإِقناع: قلت: فتستحب الإِعادة. انتهى.
وأشار للخامس بقوله: (وخلع ما مسح عليه) (2) كخفٍّ وعمامةٍ، إن تيمَّم وهو
عليه. قال في الإِقناع: وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خَلَعَهُ
بطل تيممه، نصًّا. قال في شرحه: وظاهره: ولا فرق بين أن
__________
(1) أي في أثناء تيممه.
(2) في هذا من الحرج ما فيه. ولم نطلع على تعليلهم لذلك. وقال الشيخ عبد
الغني اللبدي "لي فيه وقفة، فلْيُحَرَّر.".
(1/93)
يكون مَسَحَ عليه قبل التيمم أوْ لا. وكذا
إذا انقضت مدة المسح. جزم بالثانية في شرح المنتهى.
(وإن وجد الماء) من تيمم لعدمه (وهو في الصلاة، بطلت) صلاته، فيتوضأ إن كان
محدثاً. ويغتسل إن كان جنباً، ويبتدئ الصلاة.
(وإن انقضت) الصلاة (لم تجب الإِعادة) ولو لم يخرج الوقت، قاله في شرح
المنتهى. والطواف كالصلاة.
[صفة التيمم]
(وصفته) أي التيمم (أن ينوي) بالتيمم استباحةَ ما تيمم له، مع تعيين الحدث
الذي تيمم عنه.
(ثم يسمّي) أي يقول: "بسم الله" لا يقوم غيرها مقامها.
(ويضرب الترابَ بيديه مفرَّجتي الأصابع) ليصل الترابُ إلى ما بينها (ضربةً
واحدةً).
ولو كان التراب ناعماً فوضع يديه على التراب وضعاً من غيرِ ضربٍ، فعلِقَ
التراب بيديه، أجزأه.
(والأحوط اثنتان) أي ضربتان: واحدة للوجه، وأخرى لليدين. قال في المبدع:
قال القاضي والشيرازي وابن الزغوني، وهو رواية: المسنونُ ضربتان، يمسح
بإحداهما وجهَة، وبالأخرى يديه إلى المرفقين. (بعد نزع خاتَمٍ ونحوه) ليصل
التراب إلى ما تحته.
فإن علق بيديه ترابٌ كثير نفخه إن شاء. وإن كان خفيفاً كُره نفخه لئلا يذهب
فيحتاج إلى إعادة الضرب.
(فيمسح وجهَهُ بباطنِ أصابِعِه وكفيه براحتيه) قال في الإِنصاف: الصحيح من
المذهب أن المسنونَ والواجب ضربةٌ واحدة. نص عليه.
(1/94)
وعليه جمهور الأصحاب. انتهى.
[تأخير التيمم لمن يرجو الماء]
(ويسن لمن يرجو وجود الماء) وعالمِ وجودهِ، ومستوٍ عنده الوجود والعدم
(تأخيرُ التيمُّم إلى آخر الوقت المختار) بحيث يدرك الصلاة كلها قبل خروجه،
لأنه يستحب تأخير الصلاة لِإدراك الجماعة، فتأخيرها لِإدراك الطهارة أولى.
قال في شرح المنتهى: وعُلم مما تقدم أنه لو تيمَّم وصلى أوّل الوقتِ أجزأه،
ولو وجد الماء بعد ذلك في الوقت، كمن صلى عريَاناً ثم قدر على سترة في أول
الوقت. وكمن صلَّى جالساً ثم بَرَأ (1) في الوقت. انتهى.
(وله أن يصلِّيَ بتيممٍ واحدٍ ما شاء من الفرضِ والنفل) إن تيمم للفرض،
(لكن لو تيمم للنفل لم يستبح الفرض) لأنه تيمم للأدنى، فلا يجوز له الأعلى.
[ما يستباح بالتيمم]
تنبيه: مَنْ نوى بتيممه استباحةَ شيءٍ تشترط له الطهارة استباحَهُ، لأنه
منويٌّ، واستباح مثله ودونه، فمن نوى بتيممه صلاة الظهر مثلاً فله فعلها
وفعلُ مثلِها، كفائته، لأنهما في حكم صلاة واحدةٍ، واستباح دونَهُ
كالنَّفْلِ في المثال.
ولا يستبيحُ أعلى مما نواه، فمن نوى النفل لا يستبيح الفرضَ، فإن نوى
نفلاً، أو أطلق النية للصلاة، بأن نوى استباحةَ الصلاة، ولم ينو
__________
(1) في (ب، ص): "بَرئ" وأصوب منه "بَرَأ" يقال: بريء من الحق، وبَرَأ من
اَلمرَض.
(1/95)
فرضاً ولا نفلاً لم يصل إلاَّ نفلاً. فأعلى
(1) ما يباح بالتيمم فرضُ عينٍ، فنذرُ صلاةٍ، ففرضُ كفايةٍ، فنافلة، فطواف
نفلٍ، فمسُّ مصحفٍ، فقراءةٌ، فلُبْثٌ.
قال في الشرح: وإن نوى نافلةً أبيح له قراءة القرآن، ومسُّ المصحف،
والطواف، لأن النافلة آكد من ذلك كله، لكون الطهارةِ مشترطةً لها،
بالإِجماع.
قال: وإن نوى فرضَ الطوافِ استباحَ نَفْلَه، ولا يستبيح الفرضَ منه بنية
النفلِ، كالصلاة. وقال في المبدع: ويباح الطواف بنية النافلة في الأشهر،
كمسّ المصحف. قال الشيخ تقي الدين: ولو كان الطواف فرضاً. انتهى.
__________
(1) لو قال (وأعلى) لكان أفضل.
(1/96)
باب إزَالَة النَّجَاسَة الحكميَّة
أي الطارئة على الأعيان الطاهرة، وحكمْ زُوَالِها، وذِكْرُ النجاسات، وذكرُ
ما يعفى عن يسيره.
(يشترط لـ) تطهير (كل متنجّسٍ) حتى ذيلِ امرأةٍ وأسفلِ خفٍّ وحذاء (سبعُ
غَسَلاتٍ) إن أنقتْ، وإلاَّ فحتّى تُنْقى، مع حتٍّ وقَرْصٍ لحاجةٍ.
(و) يشترط (أن تكون إحداهما) أي الغَسَلات السبع (بترابٍ طاهر طهور (1))
ومحل هذا أن كانت النجاسة على غير الأرض.
ويشترط كون التراب يستوعب المحل المتنجس، إلا فيما يضر، فِيكفي مسمّاه.
ويعتبر ماءٌ طهور يوصل التراب إلى المحلّ، فلا يكفي ذَرُّه.
والأُولى من الغَسَلات أولى بالتراب (أو صابونٍ ونحوه) كالنُّخالة، وكل ما
له قوة في الإِزالة.
(ولا يشترط استعمال التراب إلا في متنجَّسٍ بكلبٍ أو) متنجس (بخنزيرٍ)
وبمتولّد من أحدهما.
(ويضرُّ بقاء طعم النجاسة) فلا يحكم بطهارة المحل المغسول مع
__________
(1) في ف "بتراب طهور" ولعله أولى لأن ذكر الطهور يغني عن ذكر الطاهر.
(1/97)
بقاء طعم النجاسة فيه، لدلالته على بقاء
العين، ولسهولة إزالته. (لا) يضر بقاء (لونها) أي النجاسة (أو ريحها، أو
هما) أي اللون والريح (عجزاً) عن إزالتهما فإن ذلك لا يضرّ. وإن لم تزل
النجاسة إلا بملحٍ وأُشْنَانٍ ونحوِهما مع الماء لم يجب. قال في شرح
المنتهى: ويتوجه احتمال الوجوب. ويحتَمِلُه كلام أحمد. فعلى هذا يلطخ أثر
الحبر بخردل مسحوقٍ مجبولٍ بماء، ثم يغسل بماء وصابون.
(ويجزئ في بولِ) لا غائطِ (غلامٍ) احترز به عن بول الجارية والخنثى (لم
يأكل الطعام بشهوةٍ) قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى: الصبيُّ إذا طَعِمَ
الطعامَ وأراده واشتهاه غُسِل بوله، وليس إذا أُطْعِمَ، لأنه قد يلعَقُ
العسَلَ ساعةَ يولدَ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حَنَّكَ بالتمر
(نَضْحُه، وهو غَمْرُهُ بالماء) (1) وإن لم ينفصل الماء عن المحل. ويطهر
بالنضح.
وكذا قيئه، وهو أخفُّ من بوله، فيكفي نضحه بالأوْلى.
والحكمة فيه أن بول الغلام يخرج بقوَّةٍ فينتشر، أو أنه يكثر حمله على
الأيدي، فتعظُمُ المشقةُ بغسله، أو أن مزاجَهُ حارٌّ فبوله رقيق، بخلاف
الجارية. وقال الشافعي: لم يظهر لي فرقٌ من السُّنَّة بينهما. وأفاد ابن
ماجة في سننه: أن الغلام أصله من الماء والتراب، والجارية من اللحم والدم
(2).
(ويجزئ في تطهير صخرٍ) وأَجْرِنَة حَمَّامٍ ونحوه، صغارٍ مبنية، أو كبارٍ
مطلقاً، قاله في الرعاية، وحيطانٍ، (وأحواضٍ، وأرضٍ تنجست بمائع،) كبول
(ولو من كلبٍ أو خنزيرٍ مكاثَرَتُها بالماءِ) ولو من مطرٍ أو سيلٍ (بحيثُ
يَذْهَبُ لون النجاسة وريحُها) لأن بقاءهما، أو بقاء
__________
(1) أيْ رشُّه به رشًّا يبلُّه بَلَلاً كاملاً.
(2) هذا يستقيم في شأن حواء لا في شأن بناتها!!
(1/98)
أحدهما، يدل على بقاء النجاسة، ما لم يعجزْ
عن إذهابهما أو إذهاب أحدهما. قال في المبدع: وإن كان مما لا تزال إلا
بمشقة سقط، كالثوب، ذكره في الشرح.
(ولا تطهر الأرض) المتنجّسة (بالشَّمس، و) لا بـ (الريح)، ولا بـ (الجفاف،
و) لا تطهر (النجاسة بالنار) فرمادها نجس، ولا بالاستحالة، فالمتولد منها
كدودِ جُرْحٍ: وصراصِرِ كُنُفٍ، أو كلابٍ تُلقى في الملاَّحة فتصيرُ ملحاً،
نجس.
(وتطهر الخمرة بإنائِها) كمحتفر من الأرض فيه ماء كثير حُكِمَ بنجاسته
بتغيّرها بها، ثم زال تغيره بنفسه، فإنه يُحْكَم بطهارةِ محله من الأرض
تَبعاً له. (إن انقلبت خلاً بنفسها.) فعلم منه أنها لو خُلِّلتْ، أو
نُقِلَتْ (1) لقصد التخليل أنها لا تطهر. وهو المذهب. كذا في شرح المنتهى.
قال شيخنا الشيخ عبد الباقي مفتي الحنابلة بالديار الشامية: إن الإِناء
يطهر إذا كان تنجُّسُه بالخمرة التي خُلِّلتْ، فإن كان متنجساً بغيرها من
خمرٍ أو غيره لم يطهر بتخللها فيه.
(وإذا خفي موضع النجاسة) في بدنٍ أو ثوبٍ (غُسِلَ) كل محلٍّ احتمل أن
النجاسة أصابته من البدن والثوب (حتى يتيقَّن غَسْلها) فإن لم يعلم جهتها
من البدن أو الثوب، بأن لم يعلم هل كانت مما يقع عليه نظره من ذلك أوْ لا،
غَسَلَهُ كلَّه. وإن علمها في أحد الكمَّين ونسيه، غسلهما. وإن رآها في
بدنِهِ أو ثوبه الذي عليه غَسَل كل ما يدركُه بصرُه من بدنِهِ، أو ثوبِه،
لا إن خفيت النجاسة في صحراء، أو حَوْشٍ واسع، ونحوهما، فإنه لا يجب غسل
جميعه، ويصلَّى فيهما بلا تحرٍّ.
__________
(1) في (ب، ص) "انقلبت" والتصويب من (ف).
(1/99)
فصل [في
النجاسات]
(المسكر المائع) نجس سواء كان خمراً أو غيرَه مما فيه شِدَّةٌ مُطربَة.
(وكذا الحشيشة) المسكرة نجسة، قاله: في شرح المنتهى، وكذا في الإِقناع.
ظاهره، أميعت أوْ لا.
(وما لا يؤكل من الطير والبهائم مما فوقَ الهر خِلقةً) أي في الخلقة (نجس)
فدخل فيما لا يؤكل من الطير سِباعُها: كالعُقَاب، والصَّقْر، والحِدَأةِ،
والبُومة، وما يأكل الجِيفَ منها كنَسْرٍ، ورَخَمٍ، وعقْعَقٍ، وغُرابِ
بَيْنٍ، وأبْقَعَ. (1)
ودخل فيما لا يؤكل من البهائم: الفيلُ، والبغل، والحمار، وسباعُها مما فوق
الهرّ: كالأسد، والنمر، والذئب، والفهد، والكلب، وابن آوى، والدّبّ،
والقرد؛ وما تولد بين مأكول وغيره كالسِّمْعِ ولد الضَّبْعِ من الذّئب؛
(وما دونها) أي الهرة أو مثلها (2) (في الخلقة) طاهر وذلك (كا) لنِّمْسِ،
والنَسْنَاسِ، وابن عِرْسِ، والقُنْفذِ، و (الحيّة) ولم أرها لغيره (3)
(والفأر) صرح بذلك كلِّه، إلا الحيّة، في شرح المنتهى.
(والمسكر غير المائع) كجوزة الطيب (فطاهر).
(وكلُّ ميتةٍ نجسِةٌ) طاهرةً في الحياة أوْ لا (غيرَ ميتةِ الآدميّ) فإنها
طاهرة، لأنه إذا نَجُسَ بالموت لم يطهر بالغَسْل كالحيوانات التي تَنْجُس
بالموت.
__________
(1) غراب البين الأبقع، أو الأحمر المنقار والرجلين. وأما الأسود فإنه
الحاتِم لأنه يحتِمُ بالفراق (القاموس - بين) ومقصوده أن هذا كان اعتقاد
أهل الجاهلية.
(2) (أو مثلها) ساقط من (ف).
(3) أي لم يَرَ غير صاحب (دليل الطالب) من الحنابلة، ذكر الحية في
الطاهرات.
(1/100)
وحكم أجزاء الآدمي وأبعاضِهِ حكمُ
جُمْلَتِهِ.
(و) غيرَ ميتةِ (السمك) وسائر حيواناتِ البحر مما لا يعيش إلا في الماء،
لأنها لو كانت نجسة لم يُبَحْ أكلها.
(و) كذا الجرادُ (وما لا نفْسَ) أي لا دَمَ (له سائلةٌ كالعقربِ،
والخُنْفُساء، والبَقّ، والقَمْل، والبَرَاغيث،) والعنكبوت، والصراصر، إن
لم تكن متولِّدة من النجاسة، طاهر.
(وما أُكِلَ لحمه، ولم يكن أكثر علفه النجاسة فبوله، ورَوْثُهُ، وقَيْئُه،
ومَذْيُهُ، وَمنيُّه،، وَوَدْيُهُ، ولبنه، طاهر.)
وأما ما كان أكثر عَلَفِه النجاسة، قَبْل حَبْسِهِ ثلاثاً، فبوله ولبنه
وبيضه نجس.
(وما) ذكر من البول وغيره، إذا كان مما (لا يؤكل) كالهر والفأر (نَجسٌ).
ولا يُعْفَى عن يسير شيءٍ منها، لأن الأصل، عدم العفو عن النجاسة إلا ما
خَصَّه الدليل.
(إلا منيَّ الآدميّ) فطاهر. قال في الإِقناع: "ولو خرجَ بعد استجمارٍ"
انتهى. والمراد بالاستجمار ما استوفى الشروط، (ولَبَنَهُ) أي الآدميّ
(فطاهرٌ).
(والقيح) نجس (والدم) نجس، إلاَّ دَمَ الشهيد عليه (1)، فإنه طاهر.
(والصديد نجس).
(ولكن يعفى في الصلاة عن يسيرٍ) لا كثيرٍ (منه) أي من الدم والقيح والصديد،
ولو من غير مصلٍّ، لأن الإِنسانَ غالباً لا يَسْلمُ منه. وهو قول جماعةٍ من
الصحابةِ والتابعينَ فمن بعدهم، ولأنَّهُ يشقّ التحرُّز
__________
(1) أي ما دام على الشهيد. فإن انفصل عنه فنجس (شرح النتهى).
(1/101)
منه، فعفي عن يسيره، كأثر الاستجمار.
وفُهِمَ من قوله: في الصلاة، أنه لا يعفى في المائع والمطعوم عن شيء منه،
ولو لم يدركْهُ الطَّرْف، كالذي يَعْلَقُ بأرجل الذباب. صرح به في
الإِقناع.
وقدْرُ المعفوّ عنه الذي (لم ينقض) الوضوء (إذا كان من حيوانٍ طاهرٍ في
الحياةِ) آدميًّا كان، أو غيرَه يؤكَلُ، كالإِبل، والبقرَ أوْ لا كالهرّ،
بخلافِ الحيوان النجسِ كالكلبِ، والبغل، والحمار، فلا يعفى عن شيء مما ذكر
منه (ولو) كان (من دَمِ حائضٍ) أو نفساءَ أو مستحاضةٍ.
(وُيضَمُّ يسيرٌ) نجسٌ يعفى عن يسيره (متفرقٌ بثوب) واحد، كما لو كان بثوبٍ
بقعٌ من دمٍ أو قيحٍ. فإن كان يصير بضمّه كثيراً مُنِع من الصلاة فيه (لا)
إن كان في (أكثر) من ثوبٍ، فإنه لا يضم، ويكون لكل ثوبٍ حكمٌ بنفسه.
قال في شرح الإِقناع: "ولو كانت النجاسة في شيء صفيقٍ قد نَفَذَتْ فيه من
الجانبين، فهي نجاسة واحدة. وإن لم تتصل، بل كان بينهما شيء لم يصبه الدم،
فهما نجاستان إذا بَلَغا لو جمعا (1) قدراً لا يعفى عنه لم يعف عنها،
كجانبي الثوب" انتهى
ويعفى عن نجاسةٍ بعينٍ.
والبلغَمُ ولو أزرقَ طاهر.
(وطينُ شارع ظُنَّتْ نجاسَتُهُ) طاهرٌ. قال في الرعاية: "وطينُ الشوارعِ
طاهرٌ إن جُهِلَ حالُه. أومأ إليه أحمد" انتهى. قال في الإِقناع: "ويعفى عن
يسيرِ طينِ شارعٍ تحققت نجاست".
ويعفى عن يسيرِ سَلَسِ بَوْلٍ، مع كمال التحفُّظ.
__________
(1) (ب، ص): "لِوَجْهِهَا" والصواب "لو جِمُعَا" كما في (ف).
(1/102)
(وعَرَقٌ ورِيقٌ من) حيوان (طاهر) مأكولٍ
أو غير مأكولٍ (طاهرٌ).
(ولو أكلِ هرٌّ ونحوه) من الحيوانات الطاهرة كالنَّمس والفأْرِ والقُنْفُذِ
(أو) أكل (طفلٌ نجاسةً، ثم شَرِبَ من مائِعٍ لم يَضُرَّه) (1) ولو قَبْلَ
أن يغيب.
قال في المبدع: "ودَلَّ أنه لا يُعفى عن نجاسةٍ بيدها أو رِجْلها. نص عليه
أحمد".
(ولا يكره) استعمال (سُؤْرِ) بضم السين والهمزة (2) (حيوان طاهر. وهو فضلةُ
طعامِهِ وشرابِهِ.)
تتمّة: إذا وقع في المائع هرٌّ ونحوه مما ينضمّ دُبُرُه، وخرج حيًّا، لم
يؤثٍّر ذلك. وكذا لو وقع في جامدٍ، وهو أي الجامِد، ما يمنع انتقال النجاسة
فيه لكثافته.
وإن مات حيوان ينجس بالموت، أو وَقَع ميتاً رطباً في دقيق، ألقي وما حولَه
واستُعْمِل الباقي. وإن اختلط ولم ينضبط حرم الكلّ. نقله صالح وغيره.
__________
(1) ف: "لم يضُرّ".
(2) أي: وبالهمزة. وهمزته ساكنة.
(1/103)
باب الحَيْض
هو دمُ طبيعةٍ وجِبِلَّةٍ، يخرج مع الصحة، من غير سبب ولادةٍ، في أوقات
معلومة.
(لا حيض قبل تمامِ تسعِ سنين) فمن رأت دماً قبل بلوغ هذا السن لا يكون
حيضاً. قال في الشرح: "لا نعلم في ذلك خلافاً".
(ولا) حيض (بعد خمسين سنة) لقول عائشة رضي الله عنها: "إذا بلغت المرأةُ
خمسينَ سنةً خرجتْ من حد الحيض". وروي عنها رضي الله عنها أنها قالت: لن
ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين.
(ولا) حيض (مع حملٍ) فلا تترك الصلاة لما تراه.
ولا يُمْنَعُ وطؤها، إن خاف العنت.
وتغتسل عند انقطاعه، استحباباً.
[أقل الحيض وأكثره وغالبه]
(وأقل الحيض يومٌ وليلةٌ)، قال في شرح الإِقناع: "والمراد: مقدار يوم
وليلة، أي أربع وعشرون ساعةً، فلو انقطع الدم لأقل منه فهو دم فساد".
(وأكثره خمسةَ عشرَ يوماً) بلياليهن.
(1/104)
(وغالِبُهُ) أي الحيض (ستٌّ) من الأيام (أو
سبع) من الأيام (1) (وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً) لما روى
الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، واحتجّ به، (عن عليٍّ رضي الله عنه، أن
امرأة جاءته، وقد طلّقها زوجها، فزعمت أنها حاضت في شهرٍ ثلاثَ حِيَضٍ،
فقال عليٌّ لِشُرَيْحٍ: قُلْ فيها. فقال شريح: إن جاءت ببيِّنَةٍ من
بِطَانَةِ أهلِها، ممن يُرْضَى دينه وأمانَتُه، فشهدت بذلك، وإلا فهي
كاذبة. فقال عليّ: قالُونْ" (2) أي: جَيّدٌ، بالروميّة. وهذا لا يقوله إلا
توقيفاً. وهو قول صحابيٍّ انتشر، ولم يُعلَمْ خلافُه. قال الإِمام أحمد: لا
يُخْتَلَفُ أن العدَّة يصحُّ أن تنقضي في شهر، إذا قامَتْ بِهِ البيّنة.
(وغالِبُهُ) أي الطُّهْرُ بين الحيضتين (بقيَّةُ الشهر) بعد القدر الذي
تجلسه، فمن كانت تَحيض في كل شهرٍ ستًّا أو سبعاً فالغالب أن طُهْرَها
ثلاثةٌ وعشرون يوماً، أو أربعة وعشرون يوماً، لأنَّ غالب النِّساءِ
يَحِضْنَ في كل شهر حيضةً.
(ولا حدّ لأكثره) أي لأكثرِ الطهر بين الحيضتين، لأنه لم يَرِدْ لأكثره
تحديدٌ من الشرع، ولأنَ من النساءِ من تطهرُ الشهرَ والثلاثةَ والسنةَ
وأكثرَ من ذلك، ومنهن من لا تحيضُ أصلاً.
[ما يحرم بالحيض]
(ويحرم بالحيضِ) أي بوجوده (أشياءٌ):
(منها) وهو الأول: (الوطء في الفَرْجِ) لقولِهِ تعالى: {فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} إلا
لمن به شَبَقٌ،
__________
(1) لو قال في الموضعين: "من الليالي" لكان أولى من حيث اللغة. والمراد
الأيام بلياليها.
(2) هكذا ذكر هنا وفي المغني وشرح المنتهى دون عَزْوٍ إلى مصدر معين.
(1/105)
بشرط أن لا تندفع شهوته بدون الوطء في
الفرج، ويخافَ تَشَقُّقَ أُنْثَيَيْهِ إن لم يَطأْ، وأنْ لا يجد غيرَ
زوجتِهِ الحائضِ، بأن لا يقدرَ على مَهْرِ حرَّةٍ، ولا ثمنِ أمةٍ.
(و) منها (الطلاق) وهو الثاني: وهو طلاقُ بِدْعَةٍ، لما فيه من تَطْويلِ
العدّة. ويقع.
(و) منها (الصلاة) وهو الثالث: أي فِعْلُها، فلا يجوز لها فعل شيءٍ منها
فرضاً ولا نفلاً.
(ومنها) (الصوم) وهو الرابع: أي فعلُ الصوم. لكن تقضي الصومَ، إجماعاً، كذا
في شرح المنتهى.
(و) منها (الطواف) وهو الخامس: أي صحةُ فعله، لقيام المانع بها. والفرضُ
والنفلُ في ذلك سواء.
(و) منها (قراءة القرآن) وهو السادس: لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم
-:"لا تقرأ الحائضُ، ولا الجُنُبُ، شيئاً من القرآن" رواه أبو داود (1).
وقال الشيخ: إذا ظنَّتْ نسيانَه وجبتْ.
(و) منها (مسُّ المصحف) وهو السابع: وفاقاً، لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.
(و) منها (اللبثُ في المسجد) وهو الثامن: لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا
أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا لجُنُبِ" (2) رواهُ أبو داود.
وكذا تُمْنَعُ من (المرور فيه) أي المسجد (إن خافت تلويثَه.) قال في رواية
ابن إبراهيم: تَمُرُّ ولا تَقْعُد. وهو التاسع.
__________
(1) والترمذي. كما في شرح المنتهى. وهو حديث ضعيف. لكن صحّ عن عمر من قوله
(إرواء الغليل 1/ 206)
(2) حديث "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" رواه أبو داود والبيهقي، وصححه ابن
خزيمة والشوكاني. وضعفه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (الإرواء 1/ 212)
(1/106)
[ما يوجبه الحيض]
(ويوجب الحيض) خمسة أشياء:
الأول: (الغسل) عند انقطاع دم الحيض، كذا في شرح المنتهى.
(و) الثاني مما يوجبه الحيض: (البلوغُ) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يقْبَلُ الله صلاةَ حائضٍ إلا بِخمارٍ" (1) رواه أحمد.
(و) الثالث مما يوجبه الحيض: (الكفارةُ بالوطءِ فيه، ولو) كان الواطئُ
(مكرهاً) على الوطء، (أو ناسياً) للحيض، (أو جاهلَ الحيضِ والتحريمَ).
وتجزئ الكفارةُ إن أعطاها إلى مسكينٍ واحد، كنذرٍ مطلقٍ، وتسقط بعجزه.
(وهي) أي كفارة الوطء في الحيض (دينارٌ، أو نصفهُ، على التخيير) فإن أخرج
ديناراً فهو المقدار الواجب.
قال في شرح المنتهى: فإنْ قيل: كيف يخيَّر بين شيءٍ ونصفِه؟ قلنا: كما
يخيَّر المسافر بين القصر والإِتمام. انتهى.
ولا فرق بين كون الوطء في أوله أو آخره.
(وكذا هي) أي وكالرجل المرأةُ في وجوب الكفارة عليها (إن طاوعت) الواطئَ
على الوطء.
والرابع: الاعتداد به.
والخامس: الحكم ببراءَةِ الرَّحِمِ في الاعتداد به، إذ العلة في مشروعية
العدة في الأصل العلمُ ببراءة الرحم.
(ولا يباح بعد انقطاعه) أي دمِ الحيض (وقبل غُسلِها، أو تيمُّمِها
__________
(1) حديث "لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار" رواه أبو داود والترمذي وابن
ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين (إرواء 1/
214).
(1/107)
غير الصوم) لأن وجوبَ الغسل لا يَمْنَعُ
فعله، كالجنب (و) غيرُ (الطلاقِ) لأن تحريمه لتطويلِ العدة بالحيض، وقد زال
ذلك. (و) غيرُ (اللبثِ بوضوءٍ في المسجد.)
وفي الكافي: يزول بانقطاعه أربعة أشياء: سقوط فرض الصلاة، ومنع صحة الطهارة
له، وتحريمُ الصلاة، والطلاق.
(وانقطاعُ مبتدأُ (الدَّمِ) مضافٌ إليه أي دَمُ الحيض والنفاس (بأنْ لا
تتغيَّر قطنةٌ احتشت بها في زمنِ) متعلق بانقطاع (الحيضِ) مضاف إليه (طهرٌ)
خبر المبتدأ. والمعنى: وإن طهرتْ أثناءَ عادَتِها طهراً خالصاً لا تتغير
معه القطنةُ إذا احتَشَتْها، ولو أقلَّ مدةٍ، فهي طاهرٌ، تغتسل وتصلي وتفعل
ما تفعلُهُ الطاهرات، لأن الله تعالى وَصَفَ الحيض بكونه أذًى، فإذا ذَهَب
الأذى وجب زوال الحيض.
(وتقضي الحائض و) كذلك (النفساءُ الصومَ، لا الصلاةَ) لأنَّه يَشُقُّ
لتكرُّرِهِ وطول مُدَّته.
فإن أحبت القضاء فظاهرُ نقلِ الأثرمِ المنعُ. قال في الفروع: "ويتوجه
احتمالٌ: يكره، لكونه (1) بدعةً". كما رواه الأثرم عن عكرمة. ولعل المراد:
إلاَّ ركعتي الطواف، لأنها نسكٌ لا آخِرَ لوقته. فيعايا بها. كذا قال في
المبدع.
فصل [في المبتدأة]
المبتدأة بصفرةٍ أو كدرةٍ تجلس بمجرّد ما تراه أقلَّ الحيض، ثم تغتسل،
وتصلي. فإذا انقطع ولم يجاوزْ أكثَرَه اغتسلت أيضاً. تفعلُه
__________
(1) (ب، ص): لكنه بدعة. والتصويب من (ف).
(1/108)
ثلاثاً. فإن لم يختلف صار عادة. وتعيد صوم
فرض ونحوه كالطواف والاعتكاف الواجبين إذا وقعا فيه، لا إن أَيِستْ قبل
تكراره، أو لم يعد. ويحرم وطؤها قبل تكراره زَمَنَ الدم الزائد على اليوم
والليلة.
[المستحاضة ومن حَدَثُه دائم]
(ومن جاوز دمها خمسة عشر يوماً فهي مستحاضة) لأن دمها لا يصلح أن يكون
حيضاً، لمجاوزته أكثره، فتجلس أقلّ الحيض من كل شهرٍ حتى يتكرر في ثلاثة
أشهرٍ فتجلسُ من مثل أولِ وقتِ ابتدائِها من كل شهر ستًّا أو سبعاً،
بِتَحَرٍّ إن علمت وقت ابتداءِ الدَّمِ بها، أو (تجلس من) أول (كل شهرٍ)
هلاليٍّ إن جهلت وقت ابتداءِ الدم بها (ستًّا أو سبعاً) بتحرٍّ. هذا كله
(حيث لا تمييز) فإن كان هناك تمييزٌ بأن كان بعضُه ثخيناً، أو أسودَ، أو
مُنْتِناً، وصلح حيضاً، بأن لم ينقص عن يومٍ وليلةٍ، ولم يزد على خمسةَ
عَشَرَ يوماً، تجلسُه، أي تَدَعُ زمنه الصومَ ونَحْوَهُ مما تشترط له
الطهارة، (ثم تغتسلُ وتصومُ وتصلِّي بعد غَسْلِ المحلِّ) لِإزالةِ ما عليه
من الدم (وتعصيبِهِ) تعصيباً يمنع الخارجَ حسب الإِمكانِ، من حشوٍ بقطنٍ،
وتشدُّهُ بخرقةٍ طاهرةٍ.
وتَسْتَثْفِر المستحاضةُ إن كان دمها كثيراً، بخرقةٍ مشقوقةِ الطرفين،
تشدهما على جنبها ووسطها على الفرج.
ولا يلزمها إعادة الغُسْلِ والعَصْبِ لكل صلاة إن لم تفرط.
(وتتوضأ في وقت كل صلاةٍ) إن خرج شيء. قال في شرح المنتهى: "وعُلِمَ مما
تقدم أنه إذا لم يخرج شيء لم يجب وضوء".
(وتنوي بوضوئها الاستباحةَ) دون رفع الحدث، لمنافاة وجودِهِ نية رفعِهِ
(1). وسواء انتقضت طهارتها بخروج الوقت، أو طُرُوءِ حدَثٍ آخر.
__________
(1) في الأصول: لمنافاة وجود نية رفعه. والصواب بإثبات الضمير.
(1/109)
ويرتفع الحدَثُ عمن حدثه دائم بنية
الاستباحة.
(وكذا يَفْعَلً) مِنْ غَسْلِ المحلِّ، وعصْبِهِ، والوضوء في وقت كل صلاةٍ
(كلُّ مَنْ حدثُه دائمٌ) كمن به سَلَسُ بولٍ، أو مذيٍ، أو ريحٍ، أو جرحٌ لا
يرقأُ دمه، ومن به رعافٌ دائمٌ.
وإن اعتيدَ انقطاعُ الحدثِ زمناً يتَّسع للصلاةِ المفروضَةِ، والطهارةِ،
تعيَّنَ للعبادة.
وإن عَرَضَ هذا الانقطاع، لمن عادتُهُ الاتصال، بَطَلَ وضوؤه.
ومن تمتنع قراءتُه أو يلحقه السلس قائماً، صلى قاعداً. ومن لم يلحقْهُ إلا
راكعاً، أو ساجداً، ركع وسجد، كالمكان النجس.
(ويحرم) على زوجٍ وسيّدٍ (وطء المستحاضة) من غير خوفِ العَنَتِ منه أو
منها. فإن كان أبيح، ولو وجد الطول لنكاح غيرها.
(ولا كفارة) فيه.
[النفاس]
(والنفاسُ لا حدّ لأقلِّه.) وبه قال الثوريّ والشافعيُّ.
وهو دمٌ ترخيه الرَّحِمُ، مَعَ ولادةٍ، أو قبلها بيومين أو ثلاثة.
بأمارة، وبعدها إلى تمام الأربعين من ابتداءِ خروجِ بعضِ الولدِ.
(وأكثرُهُ أربعون يوماً.)
فإن جاوزها، وصادف عادةَ حيضها، ولم يزد عن العادة، فالمجاوزُ حيضٌ. أو
زادَ، وتكرر، ولم يجاوز أكثر الحيض فالزائد حيض، لأنه دمٌ متكرر في زمن
يصلح أن يكون حيضاً، أشبه ما لو لم يكن قبلِهِ نفاسٌ.
(ويثبثُ حكمُه) أي النفاسُ (بوضعِ ما يتبين فيه خلقُ إنسانٍ) فلو وضعت
عَلَقَةً، أو مضغةً لا تخطيط فيها، لم يثبتْ لها بذلك حكم النفاس.
(1/110)
(فإن تخلَّلَ الأربعين نَقَاءٌ فهو طُهْرٌ)
ولو كان أقل من يومٍ كالنقاءِ زمن عادة الحيض، (لكن يُكْرَهُ وطؤها فيه)
لأنه لا يؤمن من العود في زمن الوطء، فيكون وطؤُها في نفاسٍ.
(ومن ولدت ولدين فأكثر فأول مدة النفاس من الأول) لأنه دمٌ خرج عقب
الولادة، فكان نفاساً.
(فـ) ــــعلى هذا (لو كان بينهما أربعون يوماً) فأكثر (فلا نفاسَ للثاني)
نصّ عليه، لأن الولد الثاني تبعٌ للأول، فلم يعتبر في آخر النفاس، كما لم
يعتبر في أوله.
(وفي وطء النفساءِ ما في وطء الحائض) من وجوب الكفارة بالوطء فيه.
[قطع الجماع والحيض بالدواء]
(ويجوز للرجلِ شُرْبُ دواءٍ مباح) لا محرّم (يمنع الجماعَ) ككافور ونحوِه.
(وللأنثى شربه) أي الدواءِ المباح لِإلقاء نطفةٍ و (لحصولِ الحيضِ،
ولقطعِهِ) أي الحيض. قال في الإِقناع: "مع أمن الضرر".
ولا يجوز ما يقطع الحمل.
وليس لأحد أن يسقيها دواءً مباحاً لقطع الحيض بلا علمها لِإسقاط حقها
مطلقاً من النسل المقصود.
(1/111)
باب الأذَان والإقَامة
الأذان لغةً: الإِعلام، وشرعاً: إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، أو قربِهِ
لفَجْرٍ فقط. والإِقامة في الأصل مصدرُ أقامَ. وحقيقته إقامة القاعِدِ. وفي
الشرعِ إعلامٌ بالقيام إلى الصلاة، بذكرٍ مخصوص فيهما (1).
والأذانُ أفضل من الإِقامة والإِمامة.
(وهما) أي الأذان والإِقامة (فرضُ كفايةٍ) لأنهما من شعائر الإسلام (2)
الظاهرة، فكانا فرضَ كفايةٍ كالجهاد (في الحضَر) في القرى والأمصار (على
الرجال) متعلق بقوله: "فرض كفاية" وعنه (3): والرجلِ الواحدِ (الأحرارِ)
فلا يجبان على الأرِقَّاءِ.
(ويسنَّانِ للمنفرد) لما روى عُقْبَةُ بن عامر، قال: "سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: يَعْجَبُ ربُّكَ من راعي غَنَمٍ في رأسِ
الشَّظِيَّة لِلْجَبَل، يؤذِّنُ بالصلاة، ويصلّي. فيقولُ الله عز وجل:
انظُروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة، يخافُ منّي، قد غفرت لعبدي،
وأدخلته
__________
(1) (ب، ص): "فيها" والتصويب من (ف).
(2) (ب، ص): "من شعائر أعلام الإِسلام .. " والصواب ما في (ف) بحذف "أعلام"
لأن الشعائر هي الأعلام.
(3) أي في الرواية عن الإِمام أحمد.
(1/112)
الجنة. " رواه النسائي (1).
(و) يسنَّانِ (في السفر).
(ويكرهان) أي الأذانُ والإِقامة (للنساءِ) والخناثى. (ولو) كان الأذان
والإِقامة من النساء والخناثى (بلا رفعِ صوت).
قال في الفروع: ويتوجَّهُ في التحريم (2) جهراً الخلافُ في قراءةٍ وتلبيةٍ.
انتهى.
(ولا يصحّانِ) أي الأذان والإِقامة (إلا مرتَّبَيْنِ) لأنَّهما ذكرٌ
مُعْتَدٌ به، فلا يجوز الإِخلال بِنَظْمِهِ كأركان الصلاة.
(متواليين عرفاً) لأن المقصود منهما الإِعلام، ولا يحصل إلا بالموالاة.
(وأن يكونا) أي الأذان والإِقامة (من واحدٍ) فلو أتى واحد ببعضِهِ،
وكَمَّله آخر، لم يُعتدَّ به، ولو كان ذلك لعذرٍ، بأن مات أو جن أو نحوه،
من شَرَعَ في الأذان أو الإِقامة فكمّله الثاني.
وإن نكَّسهما، أو فرَّق بينهما بسكوتٍ طويلٍ، ولو بنومٍ أو إغماء أو جنونٍ
أو بكلامٍ محرَّمٍ وإن كان يسيراً، أو كثيراً مباحاً، لم يعتدّ به.
(بنيةٍ منه) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
[شروط الأذان وسننه وآدابه]
(وشُرِطَ) بالبناء للمفعول، في المؤذّن الذي يعتدّ بأذانه، ستة شروط:
الأول: (كونه مسلماً) لاشتراط النية فيه، وهي لا تصحُّ من كافرٍ.
__________
(1) رواه أيضاً أبو داود في كتاب السفر من سننه، وأحمد. وإسناده صحيح.
(2) المراد بالتحريم تكبيرة الإحرام.
(1/113)
الثاني: كونه (ذكراً) قال في الفروع: ولا
يعتدّ بأذان امرأةٍ اتفاقاً، وخنثى.
الثالث: كونه (عاقلاً) فلا يصح من مجنون، كسائر العبادات.
الرابع: كونه (مميزاً) فلا يشترط أن يكون المؤذن بالغاً.
الخامس: كونه (ناطقاً).
السادس: كونه (عدلاً ولو ظاهراً) فلا يعتدّ بأذان ظاهرِ الفسقِ، لأنه - صلى
الله عليه وسلم -: "وصف المؤذنين بالأمانة" (1) والفاسق غير أمينٍ.
قال في الشرح: "فأما مستور الحال فيصح أذانه بغير خلاف علمناه".
(ولا يصحّان) أي الأذانُ والإِقامةُ (قبلَ الوقت) لأن الأذان شُرِع
للِإعلام بدخول الوقت، وهو حث على الصلاة، فلم يصحّ في وقتٍ لا تصحُّ فيه
الصلاة. والإِقامةُ شرعتُ للإِعلام بالقيامِ للصلاةِ، فلم تصحّ في وقت لا
تصح فيه الصلاة (إلا أذانَ الفجر، فيصحُّ بعد نصف الليل) لأن وقتَ الفجر
يدخلُ على الناس، وفيهم الجُنبُ والنائم، فاستُحِبَّ تقديمُ أذانِهِ حتّى
يتهيأوا لها، فيدركوا فضيلة أول الوقت.
(ورفعُ الصوتِ) بالأذان (ركنٌ) ليحصل السماعُ (ما لم يؤذِّن لحاضِرٍ)
فبقدْرِ ما يُسْمِعُه. قال أبو المعالي: رفعُ الصوت بحيث يسمَعُ من تقومُ
به الجماعَةُ ركن.
(وسُنَّ) بالبناء للمفعول (كونًهُ) أي المؤذن (صَيِّتاً) أي رفيعَ الصوت،
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار أبا محذورة للأذان لكونِهِ
صَيِّتاً، ولأنه أبلغ في الإِعلام المقصودِ بالأذان.
وَسُنَّ أيضاً كونه (أميناً) لأنه يؤذن على موضع عالٍ فلا يُؤْمَنُ منه
النظر إلى العورات.
__________
(1) بقوله "الإِمام ضامن، والمؤذن مؤتمن" رواه الشافعي والترمذي من حديث
أبي هريرة. وهو صحيح (الإِرواء 1/ 232)
(1/114)
وسُنَّ أيضاً كونُهُ (عالماً بالوقت)
ليتحرّاه، فيؤذَنَ في أوله. ولأنه إذا لم يكن عالماً بالوقت لا يُؤْمَن منه
الخطأ. واشترطه أبو المعالي.
وسُنَّ أيضاً كونه (متطهراً) من الحدثين الأكبر والأصغر.
والإِقامة آكدُ من الأذان، لأنها أقرب إلى الصلاة.
وسن أيضاً كونه (قائماً فيهما) أي في الأذان والإِقامة، أما في الأذان
فَلِمَا رَوَى أبو قتادةَ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ لبلالٍ
قُمْ فأذّن" (1) وكان مؤذنو رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذنونَ
قياماً. وأمَّا في الإِقامة، فلأن المقيمَ يدعو الناس إلى القيامِ إلى
الصلاة، والداعي إلى شيءٍ أوْلى بالمبادرة إلى ما يدعو إليه غيرَه، ولأنها
أحَدُ الأذانَيْنِ، فشُرِع لها القيام كالآخر. فيكرهان قاعداً لِغَيْرِ
مسافرٍ ومعذور.
(ولكن لا يكره أذانُ المُحْدِث) حدثاً أصغرَ كقراءَةِ القرآن. ويكره أذان
جُنُبِ للخلافِ في صحته. (بل) تُكْرَهَ (إقامته) أي المحدث حدثاً أصغر،
لَلفصل بينها وبين الصلاة (وُيسَنُّ الأذانُ أوَّلَ الوقتِ) ليصلي المستعجل
(2).
(و) يسن (الترسّل فيه) أي في الأذان، أي يتمهل المؤذّن، ويتأنَّى فيهِ،
مِنْ قولِهِم: جاء فلانٌ على رِسْلِه، أيْ على مَهْلِهِ.
ويسن أن يَحْدُرَ الإِقامة.
(و) يسن (أن يكون) الأذان (على عُلوٍ) أي على موضعٍ عالٍ، كالمنارة،
ونحوِها، لأنه أبلغ في الإِعلام.
ويسنُّ أن يكون المؤذن (رافعاً وجْهَهُ) إلى السماءِ في حال أذانِهِ.
__________
(1) حديث "قُمْ فأذِّن" رواه البخارى ومسلم (الإِرواء 1/ 241).
(2) (ف): "المتعجل".
(1/115)
قال في الإِنصاف: يرفع وجهَهُ إلى السماء
في الأذان كله على الصحيح من المذهب. انتهى. وقيل: عند الشهادتين. وقيل:
عند كلمة الإِخلاص.
ويسن أن يكون (جاعلاً سَبَّابَتَيْهِ في) صماخ (أُذُنَيْهِ) لأمره - صلى
الله عليه وسلم - بلالاً أن يجعل إصبَعَيْهِ في أذنيه.
ويسن أن يكون (مستقبلَ القبلة)، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع
أهل العلم على أن من السنّة أن يستقبل القبلة بالأذان كله. وذلك لأنّ مؤذني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة. فإنْ أخلَّ
باستقبال القبلة كره له ذلك وصح. انتهى.
و (يلتفت) برأسِهِ وعُنقِهِ وصدره (يميناً لحيَّ على الصلاة، وشمالاً لحيَّ
على الفلاح).
(ولا يزيل قدميه). قال في حاشية المنتهى: قوله: ولا يزيل قدميه، أي سواء
كان على منارةٍ أو غيرِها، أو على الأرض. قال في الإِنصاف: وهو المذهب،
وعليه الأصحاب، وجزم به أكثرهم. وقال القاضي والمَجْدُ وَجَمْعٌ: (ما لم
يكن بمنارةٍ) ونحوِها.
(و) يسن (أن يقول بعد حَيْعَلَةِ أذان الفجر) وفاقاً لمالكٍ والشافعيِّ،
والحيعلة قولُ: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح: (الصلاةُ خيرٌ من النوم.
مرتين).
(ويسمَّى) قول: الصلاة خيرٌ من النوم (التثويبَ) لأنه من ثاب -بالمثلثة -
إذا رجع، لأن المؤذن دعا إلى الصلاة بالحيعلتين، ثم دعا إليها بالتثويب.
وقيل: سمّي به لما فيه من الدعاء.
وظاهره أنه يقوله ولو أذّن قبل الفجر.
ويكره في غيرها، وبين الأذان والإِقامة.
(1/116)
(ويسن أن يتولى الأذانَ والإِقامةَ واحدٌ)
أي أن يتولى الإِقامة من يتولى الأذان (ما لم يشقَّ) ذلك على المؤذن، مثلَ
أن يؤذن في منارة، أو مكان بعيد عن المسجد، فإنه يقيم في المسجد، لئلا
تفوته بعض الصلاة. لكن لا يقيم إلا بإذن الإِمام. قال في الإِنصاف: وهو
المذهب، وهو من المفردات.
(ومَنْ جمَع) بين الصلاتين (أو قضَى فوائتَ، أذَّن للأولى) من المجموعتين
أو الفوائت (وأقام للكل) أي لكل صلاة.
ولا فرق في ذلك بين كون الجمع تقديماً أو تأخيراً.
[إجابة المؤذن]
(وسنَّ) للمؤذن، و (لمن سمع المؤذنَ، أو) سمع (المقيمَ) وللمقيمِ (أن يقول
مثلَهُ) ولو ثانياً، وثالثاً (1)، ولو كان السامعُ في طوافٍ أو قراءةٍ، أو
كان السامع امرأةً (إلا في الحيعلة، فيقولُ) مجيب المؤذن والمقيم: (لا حولَ
ولا قوةَ إلا بالله) هذا مستثنًى من قوله: مثلَه، يعني أنّ السامعَ يجيب
المؤذنَ والمقيمَ، والمؤذَنُ والمقيمُ (2) يجيبُ نفسَه، بأن يقول مثل ما
يقول، إلا إذا قال المؤذن أو المقيم: حيَّ على الصلاة. حيَّ على الفلاح.
فإنه هُوَ والسامعُ يقولان: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليّ العظيم.
(و) إلا (في التثويب) وهو قول المؤذن في أذأن الفجر: الصلاة خير من النوم،
فإن سامعه يقول: (صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ) بكسر الراء، (وفي لفظ الإِقامة)
فإنّ سامع المقيم يقول عند ذلك: (أَقَامَهَا الله وَأَدَامَهَا.)
__________
(1) أي ولو سمع أذانا ثانياً وأذاناً ثالثاً، فتستحب إجابتهما أيضاً.
(2) سقط من (ص): "والمؤذِّنُ والمقيمُ".
(1/117)
وتكون الإِجابة عَقِبَ كلّ كلمة.
ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله: إظهارُ العجزِ، وطلبُ المعونة منه في كل
الأمور. وهو حقيقة العبودية.
وقال الهيثم: أصْلُ: لا حولَ، من حال الشيءُ إذا تحرّك. تقول: لا حركةَ ولا
استطاعةَ إلا بالله.
وقال ابن مسعود: معناه لا حولَ عن معصيةِ الله إلا بِعِصْمَةِ الله، ولا
قوةَ على طاعَتِهِ إلا بمعونته. قال الخطّابي: هذا أَحْسَنُ ما جاء فيه.
وعبَّر عنها الجوهريُّ بالحَوْقَلَة. أَخَذَ الحاءَ من حول، والقافَ من
قوة، واللامَ من اسم الله تعالى، وعَبَّرَ عن: حيَّ على الصلاة، وحيَّ على
الفلاح، بالحيعلة، أَخَذَ الحاءَ والياء من حيّ، والعينَ واللامَ من عَلَى.
(ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا فرغ، ويقول: اللهمَّ ربَّ
هذه الدعوةِ التامَّةِ والصلاةِ القائمةِ آتِ محمداً (1) الوسيلة والفضيلة،
وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدتَه) لِما روى عبد الله بن عمر مرفوعاً:
"إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عَلَيَّ، فإنَّ مَنْ
صلَّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليهِ بها عشراً. ثُمَّ سَلُوا الله ليَ
الوسيلة، فإنّها منزلةٌ في الجنة، لا ينبغي أن تكونَ إلا لِعَبْدٍ مِنْ
عبادِ الله، وَأَرْجُو أنْ أكُونَ أَنَا هُوَ. فمَنْ سَألَ الله لي
الوسيلةَ حَلَّتْ لَهُ الشفاعة" رواه مسلم (2).
والحكمةُ في سؤالِ ذلكَ، مع كونه واجِبَ الوقوع بوعد الله تعالى، إظهارُ
كَرامَتِهِ وعِظَمِ منزلته.
__________
(1) في (ص): "آت سيّدَنَا محمداً". وقد حذفنا الزائد تَبَعاً لـ (ف، ب)، إذ
ليس هذا اللفظ في الأدعية المأثورة.
(2) وأما نصّ ما يقوله سامع الأذان، فقد رواه البخاري ومسلم "من قال حين
يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة .. الخ".
(1/118)
(ثم يدعو هنا) قال عليه الصلاة والسلام:
"الدعاء لا يرد بين الأذان والإِقامة" (1) (وعند الإِقامة) فَعَلَهُ
الإِمام أحمدُ، ورفَعَ يديه.
(ويحرم بعد الأذان الخروج من المسجد، بلا عذر أو نية رجوع) إلى المسجد. قال
الشيخ: إلاَّ أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت، فلا يكره الخروج. قال في
شرح المنتهى، عن الإِنصاف: قلت: الظاهر أن هذا مراد من أطلق. انتهى.
__________
(1) حديث "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" رواه أحمد وغيره، وحسنه
الترمذي (شرح المنتهى 1/ 131).
(1/119)
باب [شُروط الصَّلَاة]
شروط الصلاة ما تتوقف عليه صحة الصلاة. وكذا سائر العبادات والعقود، فإن
صحتها تتوقف على شروطها. ومحل ذلك في العبادات إن لم يكن عذر، وليست منها.
بل تجب لها قبلها وتَستمر فيها.
قال المنقح: إلا النية (1). (وهي) أي شروط الصلاة (تسعة)، فرضاً كانت
الصلاة أو نفلاً.
الأول: (الإِسلام).
(و) الثاني: (العقل).
(و) الثالث: (التمييز).
وهذه الثلاثة مشروطةٌ في كلّ عبادة، إلا التمييز في الحج، فإنه يصحّ ممن لم
يميّز، ولو أنه ابن ساعة. وُيحْرِمُ عنه وليّه.
والرابع: ما أشار إليه بقوله (وكذا الطهارة مع القدرة) عليها.
(الخامس: دخول الوقت) للصلاة المؤقتة. قال عمر رضي الله
__________
(1) المنقح: هو صاحب التنقيح المشبع، وهو علاء الدين المرداوي كما في
المدخل لابن بدران ص 225. وقوله: إلا النية أي فإنها شرط ولا تجب قبل
الصلاة بل يستحب قرنها بالتكبير. أما الأركان فتتوقف عليها صحة الصلاة،
ولكنها من أجزائها (عبد الغني).
(1/120)
عنه: الصلاة لها وقت شَرَطَهُ الله تعالى
لها، لا تصح إلا به (1).
[مواقيت الصلاة]
(فوقت الظهر من الزوال) يعني أن ابتداءَ وقت صلاة الظهر من الزوال (إلى أن
يصير ظلُّ كل شيءٍ مثلَه سوى ظلَّ الزوال)، بأن يُنْظَر ظلُّ المنتصبِ الذي
زالت عليه الشمس، ويزادَ عليه بقدر طول المنتصب، فإذا بلغ الظلُّ ذلك
المقدارَ فقد خرج وقت الظهر نصًّا (2).
والأفضل تعجبلُها، إلاَّ مع حرٍّ، مطلقاً، حتّى ينكسر الحرّ، وإلاّ" مع
غيمٍ لمصلٍّ جماعةً، لقرب وقت العصر (3).
(ثم يليه) أي يلي وقتَ الظهر (الوقتُ المختارُ للعصر) وهي الوسطى (حتى
يصيرَ ظلُّ كل شيءٍ مثليه، سوى ظلِّ الزوال) أي غيرَ ظلِّ الشاخِصِ الذي
زالتْ عليه الشمس إن كانَ.
(ثم هو) أي وقتُ العصر بعد خروج وقت الاختيار (وقتُ ضرورةٍ إلى الغروب) وهو
سقوط قرصِ الشمس.
وتعجيلها (4) أفضلُ مع غيمٍ ودونَه.
(ثم يليه) أي يلي وقتَ الضرورةِ للعصرِ (وقتُ المغربِ حتى يغيبَ الشفقُ
الأحمرُ).
والأفضلُ تعجيلُها، أي المغرب، إلا ليلةَ جمعٍ لمحرمٍ قَصَدَها، إن لم
يوافِها وقتَ الغروب (5)، وفي غيمٍ لمصلٍّ جماعةً فيسن
__________
(1) قول عمر: "الصلاة لها وقت .. الخ" جاء في المغني (1/ 388) ان الأموي
رواه في المغازي.
(2) أي هذا منقول بنصه عن الإِمام أحمد.
(3) أي فتؤخر إلى قريبٍ من وقت العصر، ليخرج إليهما خروجاً واحداً، خشية
المطر والريح (شرح المنتهى).
(4) أي العصر.
(5) أي الأفضل تعجيل المغرب إلا لمتلبّس بإحرام الحج، نَفَر من عرفة وقصد
جمعاً، وجمع هي =
(1/121)
تأخيرها، وإلّا في جَمْعٍ إن كان أرفق.
(ثم يليه) أي وقتَ المغربِ (الوقتُ المختارُ للعشاء). ويمتدُّ وقتُها
المختارُ (إلى ثلث الليل) الأوّل.
وصلاتها آخرَ الثلثِ الأولِ من الليلِ أفضلُ. ومحلُّ ذلك ما لم يؤخِّر
المغرب. قاله في الفروع.
ويكره إن شقَّ على المأمومين أو بعضهم. والنوم قبلها، والحديث بعدَها إلا
يسيراً، وإلا لشغلٍ، ومع أهلٍ.
(ثم هو وقتُ ضرورةٍ إلى طلوع الفجر) الثاني، وهو البياض المعترض، بالمشرق،
ولا ظلمةَ بعدَه، وهو الفجر الصادق.
(ثم يليه) أي يلي وقتَ العشاء (وقتُ الفجر).
ويمتدّ (إلى شروق الشمس).
وتعجيلها مطلقاً أفضل، لأنه قد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبي
بكرٍ وعمرَ وعثمانَ أنهم كانوا يغلّسون بالفجر (1). ومحالٌ أن يتركوا
الأفضل، وهم النهاية في إتيان الفضائل.
(ويدرَك الوقتُ بـ) وجودِ (تكبيرةِ الإِحرام) يأتي بها في وقت تلك الصلاة،
ولو آخرَ وقتِ ثانيةٍ في جمع تأخيرٍ.
(ويحرُم تأخير الصلاة عن وقت الجَوَاز.
ويجوز تأخيرُ فعلِها في الوقت، مع العزمِ عليه) قال في الإِقناع
__________
= المزدلفة، فيسن حينئذ تأخيرها ليصليها مع العشاء، ما لم يصل مزدلفة وقت
غروب الشمس، فيصليها لوقتها ولا يؤخرها (شرح المنتهى 134/ 1).
(1) في مصنف عبد الرزاق: قالت أم سلمة "كنَّ نساءً يشهدن مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - فينصرفن متلفعاتٍ بمروطهنَّ ما يعرفن من الغَلَس" وروته
عائشة أيضاً مثله عند سعيد بن منصور وروى عبد الرزاق عن ابن الزبير تغليس
عمر. (كنز العمال 8/ 85)
وأما تغليس أبي بكر وعثمان فلم نجد أحداً أشار إليه، إلا ما نقله في المغني
(1/ 394) من قول ابن المنذر.
(1/122)
وشرحِهِ: وله، أي لمن وجبت عليه صلاة،
تأخيرُها عن أوَّلِ وقتِ وجوبها، لفعله عليه الصلاة والسلام في اليوم
الثاني من فرض الصلاة، بشرط العَزْمِ على فعلِها فيهِ، أي في الوقتِ كقضاءِ
رمضانَ ونحوهِ مما وقْتُه موسَّعٌ، ما لمْ يظنَّ مانعاً منه، كموتٍ وقتلٍ
وحيضٍ، فيجب عليه أن يبادر بالصلاة قبل ذلك.
وكذا من عَدِمَ سترةً إذا أعيرَ سترةً أوّلَ الوقتِ فقط. انتهى.
(والصلاة أولَ الوقت أفضل) فيما يسنُّ تعجيلُه.
(وتَحْصُل الفضيلة) أي فضيلةُ التعجيل، لما يَتَعَجَّلُ له (بالتأهُّب أولَ
الوقت)، بأن يشتغِل بأسبابِ الصلاةِ، من طهارةٍ ونحوها، إذا دَخَلَ الوقت.
[ترتيب الصلاة المقضية]
(ويجب قَضاءُ الصلاةِ الفائتةِ) قليلةً أو كثيرةً (مرتَّبَةً) نصّ عليه
الإِمام أحمدُ في مواضع، لما روي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ
الأحزابِ صلَّى المغربَ، فلما فرغَ قال: هلْ عَلِم أحدٌ مِنكُمْ أني صليتُ
العَصرَ؟ قالوا: يا رسول الله ما صليتَها. فأمَرَ المؤذنَ فأقام الصلاةَ.
فصلَّى العصر. ثم أعاد المغرب" رواه الإِمام أحمد (1). (فوراً) إلا إذا حضر
من عليه فائتةٌ لصلاة عيدٍ، فيؤخر الفائِتَةَ، حتى ينصرفَ من مصلاَّهُ لئلا
يقتدي به غيره.
وإنما يجب فوراً ما لم يتضرر في بدنِهِ، أو مالِهِ، أو معيشةٍ يحتاجها.
(ولا يصح النفل المطلق) ممن عليه فائتةٌ (إذَنْ) أي في الوقتِ
__________
(1) رواية أحمد هذه من طريق ابن الهيعة، وهو ضعيف لسوء حفظه (الإِرواء).
(1/123)
الذي أبيح له فيه تأخيرُ الفائتةِ، ككونه
حَضَر لصلاة عيدٍ، أو يتضرَّرُ في بدنِهِ، أو نحوِه، لتحريمِهِ إذَنْ.
ومفهومه أنه يصح النفل المقيَّدُ كالرواتِبِ والوتر، لأنها تَتْبَعُ
الفرائضَ، فلَها شَبَهٌ بها.
(ويسقط الترتيبُ بالنسيانِ) قالَ في الإِقناع وشرحه: وإن نسي الترتيبَ بين
الفوائِتِ حالَ قضائِها، بأن كان عليه ظهرٌ وعصرٌ مثلاً، فنسي الظهر حتى
فَرَغَ من العَصْرِ، أو نسيَ الترتيب بين حاضرةٍ وفائتةٍ، حتى فرغ من
الحاضرة، سقط وجوبه، أي الترتيب. وما تقدَّم في الحديث إعادتُهُ محمولةٌ
على أنه ذكر صلاةَ العَصْرِ في أثنائِها، بدليل أنَّهُ عقبَ سلامِهِ، كما
تدلُّ عليه الفاء وجمعاً بين الأخْبار.
(و) يسقط الترتيبُ (بضيق الوقتِ، ولو للاختيار) قال في الإِقناع وشرحه: فإن
خشي فَوَاتَ الحاضرةِ، أو خروجَ وقتِ الاختيار، سقَطَ وجوبُه، أي ما ذكر من
الفور والترتيب، فيصلي الحاضرة إذا بقي من الوقت قدرُ فعلها، ثم يقضي
الفائتَةَ. وتصح البُدَاءَةُ بغير الحاضرة مع ضيق الوقتِ. ويأثَمُ ولا
تصحُّ نافلةٌ ولو راتبةً، مع ضيق الوقت، فلا تنعقد، لتحريمها، كوقت النهي.
[ستر العورة]
(السادس) من شروط الصلاة: (ستر العورة مع القدرة)، ويجبُ، حتى في خلوةٍ،
وظلمةٍ، وعن نفسِهِ، لا من أسْفَلَ (بشيءٍ لا يصف البشرة) أي لونَها من
بياضٍ، أو حمرة، أو سوادٍ، لا أنْ لا يَصِفَ حَجْمَ العُضْوِ لأنه لا يمكن
التحرّز عنه.
ويكفي الستر بغير منسوجٍ، كورَقٍ، وجِلْدٍ، ونبات، ولو مع وجود ثوب.
(1/124)
(فعورةُ الذكرِ البالغِ عشراً) أي تمّ له
عشرُ سنين (و) عورة (الحرة المميِّزة) أي التي تمّ لها سبعُ سنين (و) عورة
الأمَةِ ولو مُبَعَّضَةً) وهي التي بعضُها حرٌّ وبعضها رقيق، وأُمَّ الولد
(ما بين السرة والركبة).
قال في حاشية المنتهى: وعُلِمَ منه أن السرة والركبة ليستا من العورة.
(وعورة ابن سبعٍ إلى عشْرٍ الفَرْجانِ).
ولا فرق في حكم عورةِ الذَّكَرِ بين أن يكونَ حرًّا أو عبداً أو مبغَّضاً
أو مكاتباً. وعلم مما تقدم أن من دونَ السبع ليس لعورته حُكْم، لأن حكم
الطفوليّةِ منجرٌّ على المولود إلى أن يتمَّ له سبعُ سنين، فينتقل حكمها
إلى حكم التمييز (والحرة البالغة كلها عورةٌ في الصلاةِ) حتى ظفرُها
وشعرُها (إلا وجهَهَا) والوجْهُ والكفّانِ من الحرةِ البالغةِ عورةٌ خارج
الصلاةِ باعتبار النظر كبقية بدنها (1).
(وشُرِطَ في فَرْضِ الرجل البالغِ سترُ) جميعِ (أَحدِ عاتِقَيْهِ) مع
سَتْرِ العورةَ (بشيءٍ من اللباس) (2) سواء كان من الثوب الذي سَتَر عورتَه
به، أم من غيره، إذا كان قادراً على ذلك، ولو وَصَفَ البشرة.
(ومن صلَّى في مغصوب) ولو بعضُه، ثوباً أو بقعةً (أو) صلى في ثوبِ (حرير)
كلُّه أو غالِبُة، حيث حَرُمَ الحرير (عالماً) بأن ما صلى به أو فيه مغصوب،
(ذاكراً) لذلك وقت العبادة (لم تصحّ) صلاتُه.
(ويصلِّي) من لم يقدر على سترةٍ مباحةً (عرياناً مع) وجود ثوبِ (غصبٍ)
ووجهه أنّ الثوبَ المغصوبَ يحرُم استعماله بكلِّ حالٍ في حال الضرورة
وغيرها.
__________
(1) ظاهر كلامه في المنتهى وشرحه أن الوجه والكفين ليسا بعورة في الصلاة
ولا خارجها.
(2) لحديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه
منه شيء" رواه الشيخان.
(1/125)
(و) يصلي (في) ثوب (حريرٍ لعدمٍ) أي لعدمِ
غيرِهِ إذا كان يملك التصرفَ فيه، ولو عاريةً، لأنه مأذونٌ في لبسِهِ في
بعض الأحوال، كالحكَّةِ، والجَرَبِ، وضرورةِ البَرْد، أو عدمِ سترةٍ غيرِه،
(ولا يعيدُ) لإِباحةِ لُبْسِهِ إذنْ.
(و) يصلي (في) ثوبِ (نجسٍ لعدمٍ) أي لعدمِ غَيْرِهِ، وذلك لأنَّ سترَ
العورَةِ آكدُ من إزالةِ اَلنجاسَةِ لتعلق حقِّ الآدميّ به في سَتْر
عورتِهِ ووجوبِ السَّتْرِ في الصلاةِ وغيرِها، فكان تقديمُ السَّتْرِ أولى
من أن يصلي عرياناً.
(ويعيد) لأنه قادرٌ على كلِّ من حالتي الصلاة عرياناً ولبس الثوبِ
النَّجِسِ فيها على تقديرِ تَرْكَ الحالة الأخرى، وقد قَدم حالةَ التزاحُمِ
آكَدَهُما، فإذا زال التزاحُمُ بوجوده ثوباً طاهراً، أَوْجَبْنا (1) عليه
الإِعادةَ استدراكاً للخَلَلِ الحاصِلِ بتركِ الشَّرطِ الذي كان مقدوراً
عليه من وجهٍ. ويفارق من حُبِسَ في المكانِ النجسِ في عدمِ الإِعادة لأن
المحبوسَ عاجزٌ عن الانتقال عن الحالة التي هو عليهَا من كل وجهٍ، كمن عدم
السترَةَ بكل حالٍ، فإنه يصلّي عُرْياناً، ولا إعادة عليه.
ولا يصح نفلُ آبقٍ (2).
(ويحرم على الذكورِ) والخناثى (لا الإِناث، لُبْسُ منسوجٍ ومُمَوّهٍ بذهبٍ
أو فضّةٍ). قال في الرعاية: وما نُسِج بذهبِ، أو فضة، أو مُوِّهَ، أو
طُلِيَ، أو كُفِّتَ، أو طُعِّمَ بأحدهما، حرم مطلقاً. انتهى. إلا أن
يستحيلَ لونُه ولم يحصُلْ مِنْة شيء بعرضه على النار.
(و) يحرم على غير أنثى، حتى كافر (لُبْس ما كلُّهُ أو غالبه حريرٌ)
__________
(1) في (ب، ص، ف): "أو جنباً" وهو خطأ واضح.
(2) الآبق العبد الهارب من سَيِّده. وإنما لم يصحّ نفله لأن زمنه مغصوب
بخلاف الفرض فإن زمنه مستثنًى شرعاً (شرح المنتهى).
(1/126)
بلا ضرورة، ولو بطانة، وافتراشهُ،
واستنادهُ إليه، وتعليقُه، وسَتْرُ جدُرٍ بِهِ، غيرَ الكعبةِ زادها الله
تعظيماً. قال ابن عبد القويّ: وَيدْخُلُ في ذلك الدَّواةُ وَسِلْكُ
المَسْبَحَةِ، كما يفعَلُهُ بعض جَهَلَةِ المُتَعَبِّدَة. انتهى.
(ويباحُ ما سدِّيَ بالحرير وأُلِحْمَ بِغَيْرِهِ) كوبَرٍ وصوفٍ وكَتّانٍ
ونحوه (أو كان الحريرُ وغَيْرُه في الظهورِ سيان) (1) فإنه لا يحرم لأن
الحرير ليس بأغلبَ.
ويباح من الحريرِ كيسُ مصحَفٍ، وأزْرارٌ، وخياطةٌ به، وحَشْوُ جِبابٍ
وفُرْشٍ به، وعَلَمُ ثوبٍ، ولبَنَةُ جَيْبٍ، وهو الزِّيقُ، ورقاعٌ، وسجف
فراءٍ لا فوق أربعِ أصابعَ مضمومةٍ.
(السابع) من شروط صحة الصلاة: (اجتناب النجاسة) حيث لم يُعْفَ عنها (لبدنه
وثوبِهِ وبقعتِهِ مع القدرة) فتصحُّ من حاملٍ مستجمراً، أو حيواناً طاهراً
كالهرّ.
(فإن حُبِسَ ببقعة نجسةٍ) لا يمكنه الخروج منها (وصلى، صحّتْ) صلاتُهُ،
(لكن يومئ، بالنجاسة الرطبة غايةَ ما يمكنه، ويجلس على قدميه) ويسجدُ
بالأرض، وجوباً إن كانت النجاسة يابسةً، تقديماً لركن السجودِ، لأنه مقصود
في نفسه، ومُجْمَعٌ على فرضيّته، وعلى عدم سقوطِهِ، بخلاف ملاقاةِ النجاسة.
(وإن مسّ ثوبُه ثَوباً نجساً أو حائطاً) نجساً (لم يستند إليه، أو صلَّى
على) محلٍّ (طاهر) من بساطٍ أو حصيرٍ أو نحوِهما (طرفُهُ متنجِّسٌ) ولو
تحرَّكَ بحركته من غير متعلّقٍ يَنْجَرُّ به، أو كانَ تحت قدمِهِ حبلٌ
مشدودٌ في نجاسةٍ، وما يصلي عليه منه طاهر، (أو سقطتْ عليه النجاسة) التي
لم يُعْفَ عنها (فزالتْ) سريعاً (أو أزالها سريعاً صحت) الصلاة.
__________
(1) كذا الأصول. والصواب لغة أن يقول (سِيّين) لأنه مثنّى واقع خبراً
لِكانَ.
(1/127)
(وتبطل) الصلاة (إن عَجَزَ عن إزالتها في
الحال) لإِفضاء ذلك إلى أحد أمرين: إما استصحابِ النجاسة في الصلاة زمناً
طويلاً، وإمّا أن يعمل فيها عملاً كثيراً. وكل من ذلك مبطل للصلاة، (أو
نسيَها) أو جَهِلَ عينها أو حكمها (ثم عَلِمَ) أنها كانت في الصلاة بعد أن
صلَّاها جاهلاً وجودَها في الصلاة، فإن صلاتَه لا تصحُّ في هذه الصور كلها،
لأنّ اجتناب النجاسة في الصلاة شَرْط، فلم يسقط بالنِّسيانِ ولا بالجهلِ،
كطهارة الحدث.
[المواضع المنهي عنها]
(ولا تصح الصلاة) فرضاً ولا نفلاً (في الأرضِ المغصوبة).
(وكذا) لا تصحُّ الصلاة في (المقبَرَةِ) قديمةً كانت أو حديثة، تكرَّرَ
نبشها أوْ لا.
ولا يضرُّ قبرانِ، ولا ما دُفِنَ بدارِهِ، ولو زادَ على ثلاثة قبور.
وتصحُّ صلاة جنازة فيها.
(و) لا تصح الصلاة أيضاً في (المَجْزَرَةِ) وهي المكان المًعَدُّ للذبح.
(والمزبلة) أي مَرْمَى الزبالة، ولو طاهرة.
(والحشِّ) وهو ما أُعِدَّ لقضاء الحاجة، فيُمْنع من الصلاة داخلَ بابِهِ،
وموضع الكنيفِ وغيرِه سواءٌ.
(وأعطانِ الإِبل) وهي ما تقيم فيها وتأوي إليها.
(وقارِعَةِ الطريق) وهو ما كثر سلوكه، سواء كان فيه سالكٌ أوْ لَا.
ولا بأس بطريق الأبيات القليلة ولا بما علا عن جادة الطريق يمنةً ويسرةً،
نصًّا.
(1/128)
(والحمامِ) وما يتبعه في البيع، فداخلُه
وخارجُه وأَتُّونُهُ، ونحوهم (1) سواء.
(وأسطحة هذه) الأماكن (مثلُها)، فإن أسطحة مواضعِ النهي كهي عند أحمد، لأن
الهواء تابعٌ لِلْقَرارِ، بدليل أن الجُنُبَ يمنع من اللبث على سطح المسجد،
ويَحْنَثُ بدخول سطح الدار التي حلف لا يدخلها.
(ولا يصح الفرْضُ في الكعبةِ).
(والحِجْرُ منها) وقدره سِتَّةُ أذرعٍ وشيء.
(ولا على ظهرِهَا، إلا إذا) وقف على منْتَهاها بحيث (لم يبق وراءه شيءٌ)
منها، أو خارِجَها وسجد فيها، فإن صلاة الفرض كذلك صحيحة.
(ويصح النذر فيها، وعليها) إذا كان بين يديه شيء منها. كذا في الإِقناع.
(وكذا) يصح (النفل، بل يُسَنُّ) التنفّل (فيها).
والأفضلُ وِجاهَه إذا دخل. ولو صلى لغير وِجاهِهِ إذا دخل جاز.
[استقبال القبلة]
(الثامن) من شروط صحة الصلاة: (استقبالُ القبلة مع القدرة) فلا يجب في حالِ
الْتِحَامِ الحَرْبِ، وهَرَبِ من سيلٍ، أو نارٍ، أو سَبُعٍ، أو صُلِبَ لغير
القبلة (2)، ونحو ذلك.
(فإن لم يجدْ) المصلي (من يخبره عنها) أي عن القبلة (بقينٍ صلَّى
بالاجتهاد).
(فإن أخطأ) اجتهادُه (فلا إعادة).
__________
(1) كذا في الأصول، وصوابه لغةً "ونحوها".
(2) (ب، ص): "لغير استقبالِ القبلة" فحذفتُ استئناسا بـ (ف).
(1/129)
ومن صلى بالاجتهاد فأخبره فيها ثقةٌ بالخطأ
يقيناً لزمه أن يترك اجتهاده ويعملَ بالخبر.
[النية]
(التاسع) من شروط صحة الصلاة: (النَيّةُ) وهي لغةً: القصدُ، وشَرْعاً:
العَزْم على فعلِ الشيء. ويزاد في عبادة: تقرُّباً إلى الله تعالى.
(ولا تسقط بحالٍ) لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإِخلاص عمل القلب، وهو مَحْضُ
النية، وذلك بأن يقصد بعمله أنه لله تعالى وحده. قال سيدي عبد القادر رضي
الله عنه: هي قبل الصلاة شرطٌ، وفيها ركنٌ، ولا يمنعُ صحتَها قَصْدُ
تعليمها، أو خلاصٍ من خصمٍ، أو إدمانُ سَهَرٍ.
(ومحلها) أي النية (القلبُ) لأنها من عمله.
(وحقيقتُها العزم على فعلٍ الشيء).
(وشرطها) أي النية: (الإِسلام، والعقل، والتمييز).
(وزَمَنُها) أي النية: (أوّلُ العبادة، أو قبلَها بيسير) لا قبلَ دخولِ
وقتِ أداءِ المكتوبة، أو راتبة.
(والأفضل قَرْنُها) أي النية (بالتكبير) أي تكبيرةِ الإِحرام، لتكونَ النية
مقارنةً للعبادة، ولأن في ذلك خروجاً من الخلاف.
(وشُرِطَ مع نية الصلاة) أي نية كون العبادة صلاةً (تعيينُ ما يصليه من
ظهرٍ، أو عصرٍ،) أو جمعةٍ، أو مغربٍ، أو عشاءٍ، أو صبحٍ، أو منذورةٍ، (أو)
نفلٍ مؤقَّتٍ، وذلك كـ (ــوتر)، وتراويحَ، (أو راتبةٍ)، أو غيرِ راتبةٍ
كاستخارةٍ. فلا بدّ من التعيينِ في هذا كلِّه لتتميز تلك الصلاة عن غيرها.
(وإلّا) أي وإن لم تكن الصلاة معيَّنة، كالنفلِ المطلقِ، وصلاةِ
(1/130)
الليل (أجزأته نية الصلاة) لعدم التعيين
فيها.
(ولا يشترط تعيينُ كونِ الصلاة حاضرةً) لأنه لا يختلف المذهبُ أنه لو
صلاّها ينويها أداءً فبان وقتُها قد خَرَجَ أنَّ صلاتَه صحيحةٌ. وتقع قضاء
(أو) نواها (قضاءً) فبانَ فِعْلُها في الوقت، وقعتْ أداءً، (أو فرضاً) في
فرضٍ، فلا يُعتبر أن يقول: أصلي الظهر فرضاً، ولا معادةً في المعادة، كما
في مختصر المقنع.
و (يشترط نية الإِمامة للِإمام، والائتمام للمأموم) فإن اعتقد كلٌّ أنه
إمامُ الآخر أو مأمومُه، فصلاتهما فاسدة، أوْ شكَّ في كونه إماماً أو
مأموماً لم تصحّ صلاة واحِد منهما.
(وتصح نية المفارقة من كلٍّ منهما) أي من الإِمام والمأموم (لـ) وجود (عذر)
له (يبيح تركَ الجماعة) كتطويل إمامٍ، ومرضٍ، وغلَبَةِ نُعاسٍ، أو غلبةِ
شيءٍ يفسد صلاته، أو خوفٍ على أهلٍ أو مالٍ، أو خوفِ فوتِ رفقة، أو خَرَجَ
من الصف مغلوباً، صحّ انفراده.
فيتمّ صلاتَه منفرداً إن استفادَ بمفارقَتِهِ تعجيلَ لُحوقِهِ لحاجتِهِ قبل
فراغ إمامِهِ. فإن زالَ العُذْرُ وهو في الصلاةِ، فله الدخولُ مع الإِمام
فيما بقي. قال في الفروع: وإن انتقل مأمومٌ أو إمامٌ منفرداً جاز لعذرٍ،
خلافاً لأبي حنيفة.
(ويقرأ مأمومٌ فارَقَ) إمامَه (في قيامٍ) قبلَ أن يقرَأَ الفاتِحَةَ، (أو
يُكْمِلُ) على قراءة إمامه إن كان قرأ بعضَ الفاتحة (وبعدَ) قراءةِ
(الفاتحةِ) كلِّها (له) أي المأموم (الركوعُ في الحالِ) لأنّ قراءةَ
الإِمام قراءةٌ للمأموم.
فإنْ ظنَّ المأمومُ المفارِقُ لِإمامِهِ في صلاةِ سِرٍّ أنَّ إمامَه قرأ
الفاتحة، لم يجب عليه أن يقرأ.
(1/131)
وإن فارَقَهُ في ثانيةِ جمعةٍ أتمَّ جمعةً.
وإن فارَقَهُ في الأولى يتمُّها نفلاً". ثم يصلي الظهر.
(ومن أحرم بفرض) كظهرٍ (ثم قَلَبَهُ نفلاً) بِأن فسخَ نية الفرضية، دون نية
الصلاة (صحّ) سواء صلى الأكثرَ، كثلاثٍ من ظهرٍ، أو اثنتين من مغربِ، أوْ
لا، وسواءٌ كان انتقالُهُ لغرضٍ صحيحٍ مثلَ أنْ يُحْرِمَ منفرداً، ثَم
تقامَ الجماعةُ ويريدَ الصلاةَ جماعةً، أو لم يكن له غرض صحيح ووجه ذلكَ أن
النفلَ يدخُلُ في نيّةِ الفرْضِ، أَشْبَهَ ما لو أَحرَمَ بفرض فبان قبل
وقته. وكره لغير غرض صحيح. (إن اتَّسَعَ الوقتُ) له ولغيره. (وإلاَّ)
يَتَّسِع الوقت للنفل والفرض (لم يصحّ) النفل (وبطل فرضه).
(1/132)
|