نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الإقَرار
وهو الاعتراف بالحق. مأخوذ من المَقَرّ، وهو المكانُ، كأن المُقرّ يجعل الحق في موضعه.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}.
(لا يصحُّ الإِقرار إلا من مكلف) فلا يصحّ من صغير ومجنونٍ (مختارٍ) فلا يصح من مُكْرَهٍ عليه (ولو) كان المقرُّ (هازلاً. بلفظٍ أو كتابةٍ، لا بإشارةٍ، إلا من أخرس) إن كانت الإِشارة معلومة.
(لكن لو أقر صغيرٌ أو قنٌّ أُذِنَ لهما في تِجارةٍ في قدر ما أُذِن لهما) أي الصغير والقن (فيه صحّ.) قال أحمد في رواية مهنا، في اليتيم إذا أَذِنَ له، يعني: وليّه، في التجارة، وهو يعقل البيع والشراء، فبيعه وشراؤه جائز، وإن أقرّ أنه اقتضى شيئاً من مالِهِ جاز بقدر ما أذن له فيه وليه.
(ومن أُكرِه ليقرَّ بدرهمٍ فأقرّ بدينارٍ) صح ولزمه، (أو) أُكرِهَ (ليقرّ لزيد فأقر لعمرٍو، صحّ ولزمه) مثل أن يكره على الإِقرار بطلاقِ امرأة معينةٍ فيقرّ بطلاقِ غيرها، أو على الإِقرار بدنانيرَ، فيقرّ بدراهم، فيصحُّ

(2/496)


إقراره، لأنه أقرَّ بما لم يكره عليه، فصحّ كما لو أقر به ابتداء.
(وليس الإِقرار بإنشاءِ تمليكٍ) بل هو إخبارٌ عما في نفس الأمر.
إذا علمت ذلك (فيصحّ) إقرار الإِنسان لغيره (حتى مع إضافة الملك لنفسه، كقوله كتابي هذا لزيدٍ) قال في الفروع: ويصح مع إضافة الملك إليه. انتهى.
(ويصح إقرار المريض بمالٍ لغير وارثٍ) لأنه غير متَّهمٍ في حقه.
قال في شرح المقنع: قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يحفظ عنه من أهل العلم أن إقرار المريض في مرضه لغير وارثٍ جائز.
(ويكونُ) المقَرُّ به للأجنبي (من رأسِ المال) أي مال المقر.
(و) يصح إقرار المريض أيضاً (بأخذِ دينٍ من غير وارثٍ) لأن ذلك إقرار لمن لا يتهم في حقه فقبل (لا إن أقرّ لوارثٍ، إلا ببيّنةٍ) قال في المنتهى وشرحه: وإن أقرّ المريض بمالٍ لوارثٍ لم يقبل إقراره بذلك إلا ببينة أو إجازة من الورثة، لأنه إيصال لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته، فلم يصحّ بغير رِضَا بقيَّة الورثة، كهبته. ولأنه محجور عليه في حقه، فلم يصحّ الإقرار له. انتهى.
(والاعتبار يكون من أقرّ له وارثاً أوْ لا) أي غير وارث (حالة الإقرار) لأنه قولٌ تعتبر فيه التهمة، فاعتُبرت حالة وجودهِ دون غيرها. فلو أقرّ لوارثٍ فصار عند الموت غيرَ وارثٍ، كما لو أقرَّ لأخيه من أبيه بشيء، فحَدَثَ لَهُ أخ شقيقٌ، لم يلزم إقراره. وإن أقرَّ لغيرِ وارثٍ لزم ولو صار المقَرُّ له وارثاً للمقِرّ (لا الموت، عكس الوصية) فإن الاعتبار يكون من وصّى له وارثاً أوْ لا، عند الموت.
(وإن كذّب المقَرُّ له المقِرَّ بطل الإِقرار) لأنه أقرَّ لمن لم يصدّقه، فبطل لذلك. (وكان للمقِرّ أن يتصرف فيما أَقَرّ به بما شاء) قال

(2/497)


في المنتهى: ومن أقرّ لمكلفٍ بمالٍ في يده، ولو بِرِقِّ نفسه، أو كان المقَرّ به قنًّا فكذَّبَهُ المقَرُّ لَهُ بطل. ويُقَرُّ بيد المُقِرّ، ولا يقبل عود مقرٍّ له إلى دعواه. وإن عاد المقِرّ فادّعاه لنفسه، أو أنه لثالث، قبل. انتهى.

فصل
(والإقرار) ممن يصح إقراره (لقنِّ غيرِه إقرارٌ لسيّده) لأنه هو الجهة التي يصحّ لها الإِقرار، فتعيَّنَ جعلُ المال له. وحينئذ يلزم المقِرَّ ما أقرّ به بتصديق السيد، ويبطل بردّه.
(و) الإقرار (لمسجد أو مقبرةٍ أو طريقٍ ونحوه) كثغر وقنطرة (يصح.) وفي الأصح: (ولو أطلقَ) بأن لم يعيِّن سبباً، كغلّةِ وقفٍ، ونحو ذلك. لأن ذلك إقرار ممن يصح إقراره، فلزمه كما لو عيّن السبب.
(و) الإِقرار (لدارٍ أو بهيمةٍ لا يصحّ إلا إن عيَّنَ السبب) من غصب أو استئجار.
(و) يصحّ (لحملٍ) أي حمل الآدمية بمالٍ، وإن لم يَعْزُهُ إلى سببٍ، لأنه يجوز أن يملك بوجهٍ صحيح، فصح له الإِقرار المطلق، كالطفل.
(فـ) إن (وُلِدَ ميتاً أو لم يكن) في بطنِها (حملٌ بَطَلَ) إقراره لأنه إقرار لمن لا يصحّ أن يملك.
وإن ولدت أمُّ الحمل حيًّا وميتاً، فللحيّ جميع المقَرِّ به. قال في الإنصاف: بلا نزاعٍ. انتهى، وذلك لفواتِ شرطِهِ في الميت.
(و) إن ولدت (حيًّا فأكثر فله بالسوية) وإن كان ذكراً وأنثى، لأنه لا مزيّةَ لأحدهما على صاحبه، كما لو أقرّ لرجلٍ وامرأةٍ بمالٍ، ما لم يعز إقراره إلى سبب يوجِبُ تفاضُلاً، كإرث ووصية يقتضيانه، فيعمل به.

(2/498)


(وإن أقرّ رجل، أو) أقرت (امرأة بزوجية الآخر، فَسَكَت) صحّ، وورثه، لأنه إذا صح الإِقرار ثبتت الزوجية، فوجَبَ أن يرث، لقيام الزوجية بينهما، (أو جَحَدَ) يعني: أنه لو أقر أحَدُهما بزوجيةِ الآخر فجحده (ثم صدّقه صحّ) أيضاً (وورثه) لأن الإقرار حَصَل من الميّت، والتصديق قد وجد من المقَرِّ له في حياته، ولا يضر جحده قبل إقراره، كالمدّعى عليه يجحد ثم يقر بالحقّ (لا إن بقي) الجاحد (على تكذيبِهِ حتى ماتَ) المقِرِّ، لأنه متهم في تصديقه بعد موته.

(2/499)


(ما يحصل به الإِقرار) أي اللفظ الذي يحصل به الإقرار (وما) إذا وَصَل بإقراره مَا (يغيّره)، أى الإقرار
(من ادُّعي عليه بألفٍ) مثلاً، (فقال) في جوابه: (نعم، أو) قال: (صدقت، أو) قال: (أنا مقرٌّ)، أو قال: أنا مقرٌّ به، أو قال: إني مقرٌّ بدعواك، (أو) قال: مُقِرّ، فقط، أو قال المدعى عليه في جواب الدعوى: (خُذْها، أو: اتَّزِنْها، أو: اقبضْها،) أو: أحرِزْها، أو قال: هي صحاحٌ؛ أو قال: كأني جاحِدٌ لك؟ أو: كأني جحدتُك حقَّك؟ (فقد أقرّ) له، لوقوع ذلك عقب الدعوى.
(لا إن قال) مدعى عليه في جوابه: (أنا أُقِرُّ) فإنه لا يكون إقراراً، (أو) قال: أنا (لا أنكر) لأنه لا يلزم من عدم الإِنكار الإِقرار، فإنَّ بينهما قسماً آخر، وهو السكوت عنهما؛ أو قال في جوابه: يجوز أن يكونَ محقًّا؛ (أو) قال: (خُذْ)، لاحتمال أن يكون مراده: خذ الجواب مني؛ (أو قال: اتَّزِنْ) أو: أَحْرِزْ، (أو) قال (افتح كُمَّك) لاحتمال أن يكون ذلك لشيء غير المدَّعى به. (و) قولُ المدعى عليه: (بلى، في جواب: أليْسَ لي عليك كذا؟ إقرارٌ) بلا خلافٍ، (لا) قولُ: (نعم، إلا من عامّيّ).
وإن قال: أليس عليك ألف، فقال: بلى، فقد أقرّ، لا: نعم.
(وإن قال) إنسان لآخر: (اقض ديني عليكَ ألفاً.) فقال: نعم؛ أو قال له: اشترِ ثوبي هذا، فقال: نعم؛ أو قال له: اعطني ثوبي هذا.

(2/500)


فقال: نعم؛ أو سلِّم إليَّ فرسي هذه، فقال: نعم؛ أو: أعطني ألفاً من الذي عليك، فقال: نعم؛ (أو) قال له: (هل لي، أو: لي عليك ألفٌ، فقال: نعم) فقد أقر له، لأن نعم تصديق.
(أو قال: أمهلني يوماً، أو: حتى أفتح الصندوق،) فقد أقرّ له، لأن طلب الإمهال يقتضي أن الحقّ عليه.
(أو قال: له عليّ ألفٌ إن شاء الله) فقد أقرّ له، لأنه وصل إقراره بما يرفعه كله، ويصرفه إلى غير الإِقرار، فلزمه ما أقرّ به، وبطل ما وصله به.
(أو) قال: له عليّ ألف لا تلزمني (إلا أن يشاء الله) فقد أقرّ له بالألف، لأنّه علّق رفع الإقرار على أمرٍ لا يعلم به، فلم يرتفع.
(أو) قال: له علي ألف لا تلزمني إلا أن يشاء (زيدٌ، فقد أقرّ) له بالألف.
(وإن علق) الإقرار (بشرطٍ لم يصحّ، سواء قدّم الشرط، كإن شاءَ زيدٌ فله) أي فلعمرٍو (عليّ دينارٌ) أو: إن جاء رأسُ الشَّهر فله عليّ كذا، أو: إن قدم زيدٌ فلعمرٍو عليَّ كذا، (أو أخّره) أي الشرط، (كـ) قوله: (له) أي لزيدٍ (عليَّ دينار إن شاءَ زيدٌ، أو قدم الحاجّ)، أو جاء المطر، فإنّ إقراره لا يصح، لما بين الإخبار والمعلَّق على شرط مستقبلٍ من التنافي.
ويستثنى من ذلك صورةٌ أشار إليها بقوله: (إلا إن قال له: إذا جاء وقتُ كذا فله عليّ دينارٌ، فيلزمه في الحال) لأنه قد بدأ بالإقرار فعمل به، (1) وقوله إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المَحِلّ، فلا يبطل الإِقرار بأمر محتمل. (فإن فسره) أي فسر قوله: إذا جاء وقتُ كذا (بأجلٍ، أو وصيّةٍ، قُبِلَ) ذلك (منه بيمينه) لأن ذلك لا يعلم إلا منه، ويحتمله لفظه.
__________
(1) قوله "لأنه بدأ بالإقرار" مشكل، وعبارته في شرح المنتهى "له علي دينار إذا جاء وقت كذا" بتقديم الإقرار، وهي الصواب.

(2/501)


(ومن ادُّعِيَ عليه بدينارٍ، فقال: إن شهد به زيد، فهو صادق، لم يكن مقراً) لأن ذلك وعد بالتصديق على الشهادة، لا تصديقٌ في الأصح.

فصل (فيما إذا وصل بإقراره ما يغيّره)
فمن ذلك: (إذا قال) إنسان عن آخر: (له عليَّ من ثمن خمرٍ ألفٌ، لم يلزمه شيءٌ) لأنه أقرَّ بثمنِ خمرٍ، وقدَّره بالألف، فلا يلزمه، لأن ثمن الخمر لا يجب. (وإن قال: له عليّ ألفٌ من ثمنِ خمرٍ)، أو: له علي ألفٌ من ثمنِ مبيعٍ لم أقبِضهُ، (لزمه الألف) لأن ما يذكره بعد قوله له علي الألف رفعٌ لجميع ما أقرَّ به، فلا يقبل، كاستثناء الكل (1).

[الاستثناء في الإِقرار]
(ويصح استثناءُ النصفِ فأقلَّ) من النصف، (فيلزمه) أي يلزَمُ الإِنسانَ المقرَّ لِإنسانٍ (عشرةٌ في قوله: له علي عشرةٌ إلا ستّة،) فيلزمه (2)؛ (وخمسةٌ في) قوله: (ليس لك علي عشرة إلا خمسة) قاله في المنتهى.
ويشترط لصحة الاستثناء ما. أشار إليه بقوله: (بشرط أن لا يسكت) المستثني بين ذكره المستثنى والمستثنى منه (ما) أي زماناً (يمكنه الكلامُ فيه؛)
__________
(1) وفي وجه للقاضي، ذكره في المغني: يقبل، لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل، كما لو عزاه إلى سبب صحيح.
(2) وهذا من مفردات المذهب. وأما قول الحنفية والمالكية والشافعية فإنه يلزمه ما أقرّ به فقط، ففي قوله: له عليّ مائة إلا تسعة وتسعين، يلزمه واحد فقط. واحتجوا بنحو قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} قالوا: والغاوون أكثر العباد.

(2/502)


وأن لا يأتي بينهما بكلام أجنبيّ؛
(و) يشترط لصحة الاستثناء أيضاً (أن يكون) المستثنى (من الجنس والنوع) أي من جنسِ المستثنى منه، لأن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظُ بموضوعِهِ، وغيرُ ذلك لا يتناوَله اللفظ، لأنه ليس موضوعاً له.
(فـ"له عليّ هؤلاءِ العبيدُ العشرةُ إلا واحداً") استثناء (صحيح) لأنه مما يتناوله اللفظُ بموضوعِهِ، (ويلزمه تسعة.)
وُيرجَع في تعيين المستثنى إليه، لأن الحكم بقوله، وهو أعلم بمراده. فإن ماتوا، أو قُتِلوا، أو غُصِبوا، إلا واحداً، فقال: هو المستثنى، قُبِلَ ذلك منه بيمينه.
ولا يصحّ الاستثناءُ من غيرِ الجنس ولو كان عيناً من فضّةٍ، أو فضةً من عينٍ، أو فلوساً من عينٍ، أو فضةٍ، ولا من غير النوع الذي أقرّ به.
(و) (1) إذا قال: (له على مائة درهم إلا ديناراً) أو إلا ثوباً؛ (تلزمه المائة) (2).
(و) إذا قال: اله هذه الدارُ إلاَّ هذا البيت، قُبِل) منه ذلك، حيث لا بيّنة بما يخالف ذلك. (ولو كان) البيتُ (أكثَرَها) أي أكثرَ الدارِ، (لا إن قال: له إلاّ ثلثيها، ونحوه) كما لو قال: إلا ثلاثةَ أرباعِهَا، لأن المقَرّ به شائعٌ وهو أكثر من النصف، فوجب أن لا يقبل.
(و) إن قال: (له الدار ثلثاها، أو) قال: له الدار (عارية، أو) قال: له الدار (هبة، عمل بالثاني) وهو قوله: ثلثاها، أو عارية، أو هبة، الذي هو بدل من [الأول]. ولا يكون إقراراً بالدار، لأنه رَفَع بآخِرِ كلامه
__________
(1) المقام يقتضي أن يقولها الشارح (بالفاء) تفريعاً على القاعدة التي ذكرها. ولكن لم يتمكن من تبديلها لأنها في أصل المتن.
(2) وفي رواية: يصح استثناء أحد النقدين من الآخر.

(2/503)


ما دخل في أوله. وهو بدلُ اشتمالٍ لأن الأول مشتمِلٌ على الثاني. وقوله: له الدار [يدل على الملك]. وقوله: هبةٌ بدل اشتمال من الملك، فقد أبدل من الملك بعض ما اشتمل عليه، وهو الهبة، فكأنه قال [مَلَك] الدار هبة. ويعتبر فيها شرط الهبة. قاله في المنتهى (1).

فصل
(ومن باع) شيئاً، (أو وهب) شيئاً (أو أعتق عبداً، ثم أقرّ به) أي بما باعه أو وهبَه أو أعتقَهُ (لغيرِهِ، لم يقبل) قولُهُ على المشتري، ولا على الموهوب لَهُ، ولا على العبد الذي أعتقه، لأنه أقرّ على غيره.
ولا ينفسَخُ البيع ولا الهبة ولا يبطل العتق.
(ويغرمه) أي يلزمه غرامته (للمقَرِّ له) لأنه فوّته عليه بالبيع أو الهبة أو العتق.
(وإن قال) شخصٌ: (غصبتُ هذا العبدَ من زيدٍ، لا بل من عمرٍو (، لزمه دَفْعُه إلى زيدٍ لإقراره به. ولم يقبل رجوعه عن إقراره به الأول، لأنه حقٌّ لآدميّ. ويغرم قيمته لعمرٍو، لأنه حالَ بينه وبين ملكه، لإقراره به لغيره، فلزمه ضمانه كما لو أتلفه، ولأنه أضرب عن الأول، وأثبته للثاني، فلا يقبل إضرابه بالنسبة للأوّل، لأنه إنكار بعد إقرار، ويقبل إضرابه بالنسبة للثاني، لأنه لا دافع له. فإذا تعذر تسليمه إليه من أجل تعلّق حقّ الأول به، تعيّن دفعُ القيمةِ إليه.
(أو) قال: (مِلْكُهُ لعمرٍو وغصبتُهُ من زيد، فهو لزيد) لإِقراره له باليد، (ويغرم قيمتَهُ لعمرٍو) لإِقراره بالملك له، ووجودِ الحيلولة بالإقرار باليد لزيد.
__________
(1) في الأصول كلها ببعض اختلاف أفسد المعنى، فأصلحنا ما بين المعقوفات كما في شرح المنتهى 584/ 3

(2/504)


(أو) قال: (غصبته من زيدٍ، وملكه لعمرو، فهو لزيد) لأنه قد أقر بالغصب منه، (ولا يغرم لعمرٍو شيئاً) لأنه إنّما شهد بالملك أشبه ما لو شهد له بمالٍ في يد غيره.
وإن قال: غصبتُهُ من أحدهما، لزمه تعيينه، ويحلف للآخر.
وإن قال: لا أعلمه، فصدّقاه، انتزع من يده وكانا خصمين فيه. وإن كذّباه حلف لهما يميناً واحدة.
(ومن خلّف ابنين ومائتين، فادَّعى شخصٌ مائة دينار على الميّت، فصدّقه أحدهما) أي أحد الابنين، (وأنكر) الابن (الآخر، لزم) الابنُ (المقرَّ نصفُها) أي نصفُ المائة المدّعى بها أنها دين على الميت، لأنه مقرّ على أبيهِ بدينٍ، ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه. ولأنه يقرُّ على نفسِهِ، وأخيه فلا يقبل إقراره على أخيه، ويقبل على نفسه (إلا أن يكونَ) المقرُّ بالدين (عدلاً، ويشهد) لربّ الدين بالمائة، (ويحلف مَعَهُ المدّعي) أي ربّ الدين، (فيأخذُهُا) أي المائة التي شهد له بها أحد الابنين، (وتكون) المائة (الباقيةُ بين الابنين) وإنما لزمَ المقرَّ بالدين نصفُ المائة لأنه يرث نصف التركة، فيلزمه نصف الدين، لأنه بقدر ميراثه. ولو لزمه جميعُ الدين، ككونه ضامناً لأبيه، لم تقبل شهادته على أخيه، لكونه يدفع بشهادته عن نفسه ضرراً.

(2/505)


باب الإقرَار بالمجمَل
بضم الميم الأولى وفتح الثانية.
وهو ما احتمل أمرين فأكثَرَ على السواء.
(إذا قال: له عليّ شيء وشيء، أو:) له (كذا وكذا)، أو: له شيءٌ شيءٌ، أو: له كذا كذا، صح الإقرار، و (قيل له) أي قال له الحاكم: (فسره) لأنه يلزمه تفسيرُهُ، لأن الحكم بالمجهول لا يصح. (فإن أبى) التفسير (حُبِسَ حتى يفسّر) لأن التفسير حقٌّ عليه، فإذا امتنع منه حبس عليه، كالمال (ويقبل) منه تفسيره بحدّ قذفٍ عليه للمُقَرَّ له، وبحقِّ شفعةٍ، و (بأقلِّ مُتَمَوَّلٍ) لأنه الشيءُ المقَرُّ به (1)، لا بميتةٍ نجسةٍ، وردِّ سلامٍ، وتشميتِ عاطسٍ، وعيادةِ مريضٍ، وإجابةِ دعوةٍ، ونحوِ ذلك، ولا بغير متَموّلٍ كقِشْرِ جوْزةٍ، وحبَّةِ بُرٍّ أو شعير، أو نواة.
(فإن ماتَ) المقِرُّ بالمُجْمَلِ (قبل التفسير لم يؤاخذ وارثه بشيءٍ) ولو خلّف تركة. قاله في المنتهى. وفي الفروع: إن مات ولم يفسّره فوارِثُهُ كهو، إن تَرَك تركةً. وجزَمَ به في الإِقناع.
(و) من قال عن إنسان: (له على مالٌ عظيمٌ، أو) قال: مال (خطيرٌ، أو) قال: مالٌ (كثيرٌ، أو) قال: مال (جليلٌ، أو) قال: مال
__________
(1) في شرح المنتهى 589/ 3: لأن الشيء يصدق على أقل مال.

(2/506)


(نفيسٌ) أو عزيزٌ، أو زاد: عند الله، بأن قال: عظيمٌ عند الله، أو خطيرٌ عند الله، أو كثير عند الله، أو جليل عند الله، أو نفيس عند الله، (أو عزيزٌ عند الله، أو قال: عندي، قُبِلَ تفسيرُهُ) ذلك (بأقلّ متموَّلٍ) لأنّ العظيمَ والخطيرُ والكثيرَ والجليلَ والنفيسَ والعزيزَ لا حدّ له في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف. وتختلف الناسُ فيه، فمنهم من يعظّم القليل، ومنهم من يعظّم الكثير، فلم يثبت في ذلك حدٌّ يُرجَع إلى تفسيره به، ولأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير جليل نفيس (1)، فيقبل تفسيره بأقلِّ متموّلٍ لذلك.
(و: له عليّ دراهمُ كثيرةٌ، قُبِل بثلاثة) فأكثر من الدراهم.
وكذا لو قال: دراهم عظيمة، أو وافرة، لأن الكثيرة والعظيمة والوافرة لا حدّ لها في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف، وتختلف أحوال الناس فيها فالثلاثة أكثرُ مما دونها وأقل مما فوقها، ولأن الثلاثة أقلُّ الجمع، وهي اليقين.
(و: له عليّ كذا كذا (2) درهمٌ -بالرفع أو النصب- لزمه درهم) أما مع الرفع فلأن تقديره مع عدم التكرير: شيء هو درهم، فيجعلُ الدرهم بدلاً من كذا، والتكرير للتأكيد، ولا يقتضي الزيادة، كأنه قال: شيء شيء هو درهم، أو شيئان هما درهم، لأنه قد ذكر شيئين، ثم أبدل منهما درهماً. وأما مع النصب فلأنه تمييزُ لما قبله، والتمييز مفسِّر. وقال بعض النحاةِ هو منصوب على القطع، كأنه قَطَع ما ابتدأ به وأقر بدرهم.
(وإن قال بالجرّ) أي جرِّ درهم، (أو وقف عليه، لزمه بعضُ درهمٍ، ويفسّره) لأن الدرهم مخفوض بالإِضافة فيكون المعنى عليّ بعضِ درهم.
__________
(1) أي ولو عند البعض. كذا في شرح المنتهى.
(2) في (ب، ص): "كذا وكذا" فحذفنا الواو تبعا لـ (ف) وهو الصواب.

(2/507)


وإن كرّر يُحْتَمَل أنه أضاف جزأ إلى جزء ثم أضاف الجزء الأخير إلى درهم. (و) إن قال عن إنسان: (له عليّ ألفٌ ودرهم، أو) قال: له على (ألفٌ ودينار، أو) قال: له عليَّ (ألفٌ وثوبٌ)، أو قال: له ألفٌ وفرسٌ، أو: ألفٌ وعبدٌ، أو: ألفٌ ومدُّ بُرٌّ، أو ألفٌ وتفاحَةٌ، أو قال: له درهمٌ وألف، أو دينارٌ وألف، أو ثوب وألف، (أو:) له (ألفٌ إلا ديناراً، كان المبهم) في جميع هذه الصور (من جنس المعيّن) الذي ذكر معه، لأن العَرَبَ تكتفي بتفسيرِ إحدى الجملتين عن الأخرى، قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} ومعلوم أنه أراد تسع سنين، فاكتُفي بذكْرِها في الأول.

فصل
(إذا قال) إنسان عن آخر: (له عليّ ما بين درهمٍ وعشرةٍ لزمه) له (ثمانية) أي ثمانيةُ دراهم لأنَّ ذلكَ ما بينَهُما، وكذا إذا عرّفها بأل، بأن قال: ما بين الدِّرْهَمِ والعَشَرَة. (و) إن قال: له على (من درهم إلى عشرةٍ)، لزمه تسعةٌ لأنه جَعَل العشَرَةَ غايةً، وابتداءُ الغايةِ يدخل في المغيّا بخلافِ انتهاءِ الغاية. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1). (أو) قال: له عليّ (ما بين درهمٍ إلى عشرةٍ، لزمه تسعة) كما تقدم من أن انتهاء الغاية لا يدخل. وإنْ أرادَ مجموعَ الأعداد لزمه خمسة وخمسون.
(و) من قال عن غيره: (له) عليّ (درهمٌ قبله درهم وبعده درهم، أو) قال: له عليّ (درهم ودرهم ودرهم، لزمه ثلاثة) دراهم.
(وكذا) يلزمه ثلاثة دراهم إذا قال: له عندي (درهم درهم درهم.
__________
(1) في الأصول (وأتموا الصيام إلى الليل).

(2/508)


فإن أراد) بقوله: درهم درهم درهم (التأكيدَ، فعلى ما أراد) أي قُبِل منه ذلك.
(و) إن قال: (له) عليّ (درهمٌ بل دينار، لزماه) لأن الثاني غيرُ الأول. وكلاهُما مقَرٌّ به. والإضراب لا يصحّ لأنه رجوعٌ عن إقرارٍ بحقِّ آدميِّ.
(و: له درهمٌ في دينارٍ، لزمه درهم. فإن قال: أردت العطف،) أي: أردتُ درهماً وديناراً. (أو) قال: أردْتُ (معنى معَ) أي درهماً مع دينارٍ (لزماه) أي الدرهم والدينار.
(و) من قال عن إنسان: (له) عليّ (درهم في عشرة) ولم يُرِد شيئاً، بل أطلق لفظه (لزمه درهم) لأنه أقرّ بالدرهم، وجعَلَ العشرةَ محلاً له، فلا يلزمه سواه، (ما لم يخالفْه عُرْفٌ) أي عرفُ البلد التي بها المقر (فيلزمه مقتضاه) أي مقتضى عرف تلك البلد في الأصح، (أو) ما لم (يُرِدِ الحساب، ولو كان جاهلاً به) أي بالحساب في الأصح، (فيلزمه عشرة) أي عشرة دراهم، مضروبةُ الدِّرهمِ في عشرةٍ، لأن ذلك هو المصطلح عليه عند الحُسّاب، (أو) لم (يرد الجميع) بأن يريد درهماً مع عشرة، لأن كثيراً من العوامّ يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى، ولو كان حاسباً في الأصح (فيلزمه أحد عشر) درهماً.
(و) من قال عن إنسان: (له) عندي (تمرٌ في جراب، أو): له عندي (سكّينٌ في قراب، أو): له عندي (ثوبٌ في منديل)، أو: له عندي عبدٌ عليه عمامة، أو دابة عليها سرج، أو فصٌ في خاتم، أو جراب فيه تمر، أو قرابٌ فيه سيف، أو منديل فيه ثوب، أو سرجٌ على دابة، أو عمامةٌ على عبد، أو زيتٌ في زق ونحوه (ليس بإقرارٍ بالثاني) والحاصل من ذلك أن من أقرّ بشيءٍ وجعله مظروفاً، كقوله له عندي تمر

(2/509)


في جراب، أو جعله ظرفاً كقوله له عندي جراب فيه تمر، لا يكون مقرُّا بالثاني منه في الأصح، لأنهما شيئان متغايران. وإقراره به لم يتناول الثاني، وإنما جعله ظرفاً أو مظروفاً، ولا يلزم من ذلك أن يكون الظرفُ والمظروف للمقر أو لغيره. ومع الاحتمال لا يكون مقراً بهما، لأن الإِقرار لا يثبت إلاَّ مع التحقيق.
(و) إن قال: (له) عندي (خاتمٌ فيه فصٌّ، أو) قال: عندي (سيف بقرابٍ)، فهو (إقرار بهما) والفرق بين هذه الصورة وبين قوله: له عندي جرابٌ فيه تمر ونحو ذلك، أن الفص جزء من أجزاء الخاتم، فيكون مقراً بهما، كما لو قال: له عندي ثوب فيه عَلَمٌ. فأما الجراب ونحوه فإنه غير الذي هو فيه.
(وإقراره) أي إقرارُ الإنسان (بشجرةٍ ليس إقراراً بأرْضها، فـ) يتفرع على هذا أنه (لا يملك غَرْسَ مكانِها لو ذهبتْ، ولا أجْرَةَ) على ربّها (ما بقيت.) قال في الفروع: وليس لربّ الأرض قلعُها، وثمرتها للمقَرِّ له. وفي الانتصار احتمال، كالبيع (1). قال أحمد فيمن أُقِرَّ له بها: فهي بأصلها. فيحتمل أنه أراد أرضها، ويحتمل: لا. وعلى الوجهين يخرّج هل له إعادة غيرها أوْ لا. والثاني اختاره أبو إسحاق. قال أبو الوفا: والبيع مثله. كذا قال. وروايةُ مهنًا: هي له بأرضِها. فإن مات أو سقطت لم يكن له موضعها، انتهى كلامه. وصرح في المنتهى والإِقناع بما في المتن.
(و) من قال عن إنسان: (له على درهم أو دينار)، أو: له عندي عبد أو أمة، (يلزمه أحدهما. ويعيِّنُه) يعني يلزمه تعيينه. كسائر المُجْمَلات.
__________
(1) أي احتمال، كما قالوه في البيع، فلا تكون السمرة للمقرّ له إلا إذا ظهرت بعد الإِقرار. وهذا بعيد جداً. (عبد الغني).

(2/510)