الشيخ: سبق لنا قبل ذلك أن صوم رمضان يجب
بواحد من أمور ثلاثة إما رؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين أو أن يكون
ليلة الثلاثين غيم أو قترٌ وأن الصواب أنه لا يجب الصوم إن كان هناك
غيمٌ أو قتر بل إن هذا حرام وقلنا إننا ندرس هذا الآن يعني في عصرنا
هذا دراسة نظرية أما الدراسة العميلة فهذا الأمر راجع إلى ولاة الأمور
إذا ثبت عندهم دخول الشهر بأي طريقة رأوها وجب علينا اتباعهم لئلا نشق
عصا المسلمين وذلك لأن الشارع له نظر عظيم في عدم الاختلاف أرأيتم
المصلي الآن إذا كان مسبوقاً ودخل مع الإمام في الركعة الثانية تختلف
صلاته اختلافاً عظيماً لسبب وجوب متابعة الإمام تجده مثلاً يجلس التشهد
الأول للإمام وهو غير محل جلوس له ويقوم إذا قام الإمام للركعة الرابعة
وهو محل جلوس له فالدين الإسلامي له نظر عظيم في اجتماع الكلمة لأن
الأمة إذا تفرقت انشق العصا وكما قلنا فيما سبق إن انشقاق العصا ليس
يأتي دفعة واحدة وإنما يكون شيئاً فشيئاً يكون بالأول بالكلام ثم يكون
بالسهام وكم من كلمة أوقدت سعيراً عظيماً وهذا هو المشاهد والواقع يشهد
له وراقبوا البلدان لتنظروا فيها كيف تكون كلمة توقد نيراناً عظيمة ثم
تجد الذين انغمسوا في ذلك الآن يتمنون الخلاص ولا يلقونه، إنسان كلمني
بالهاتف من بلاد ما يقول حرية المسلمين في أسبانيا أحسن من حريتهم في
بلادنا يقول بلادنا يجبرونا على أن نلبس ثوباً معيناً وألا نلبس القميص
وألا نتخذ اللحى وفي أسبانيا البس ما شئت واعف لحيتك وأذن بالصلاة
ويجتمع الناس لها كل ذلك من أجل الخلاف على ولاة الأمور لأن ولاة
الأمور في الواقع هم الذين بيدهم السلطة وهل من المعقول أن بيضة تلاطم
حجرا أو أن شخصاًَ يقابل القنابل بسكين المطبخ؟ ليس بصحيح هذا والإنسان
لا يحكم على الشيء بمقتضى نار الغيرة ولكن ينظر للمصالح والمفاسد وما
يترتب على ذلك من أذى له ولغيره في المستقبل بل وأذى للدعوة التي كان
ينشدها وللدين
الذي كان يريد أن يقيمه فالمسألة ليست هينة
لكن لو أتى الأمر على وجهه لحصل الخير والهدوء وطابت نفوس الولاة
وقالوا نعم هؤلاء يروننا شيئا ويروننا سلطة وتنازلوا عن بعض ما يريدون
وهذا شيء مجرب لذلك نرى أن مقابلة الشيء بالعنف لا يزيد الأمر إلا شدة
وأن أول الشر يكون بكلمة يظنها الإنسان بسيطة يقول هذا من الصدع بالحق
ويقول هذا من إنكار المنكر المعلن يجب إنكاره علنا ًوما أشبه ذلك دون
أن ينظر في العواقب وكما قال الله عز وجل في القرآن الكريم (وإذا جاءهم
أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) ثم فسدت الأمور إذا جاءهم الأمن
قالوا يا ناس اطمئنوا ما عندكم شيء ولا خوف ثم أفسدوا استعداد الناس
لمواجهة عدوهم لأنه أذاعوا أن الأمر أمن وأن الأمر هين بينما أن ولاة
الأمور يستعدون للأمر وعندهم خوف من العدو ولكن هؤلاء ثبطوا الناس أو
الخوف كذلك جعلوا يذيعونه قال الله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ) عليه الصلاة والسلام في حياته وإلى سنته بعد مماته وإلى
أولي الأمر منهم وهنا أتى العطف بحرف الجر يعني لم يجعله تابعاًَ محضا
(إلى الرسول وإلى ولي الأمر) بخلاف الطاعة يعني هنا مسألة سياسية قد
يكون عند ولاة الأمور ما ليس عند هؤلاء (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ) وأصل الاستنباط استخراج الماء من باطن الأرض
والباطن ليس ظاهراً وهؤلاء الذين يستنبطون عندهم ما ليس عند هؤلاء
الذين يأخذون بالظاهر لذلك نقول: نحن نتكلم في مسألة الهلال وثبوت
الصوم بالنسبة لوقتنا الحاضر على أنها مسألة نظرية أما عمليا فالمرجع
في ذلك إلى ولاة الأمور إذا أثبتوا دخول الشهر أو خروجه بما يرونه
طريقاً شرعياً فإننا نتبعهم والحمد لله ليس علينا بأس ونحن نتحدث عن
بلادنا ولله الحمد بلادنا في هذه الأمور ترتكز على الطريقة الشرعية
تماماً (صوموا لرؤيته وأفطروا لرويته) حتى إنهم
أحياناً قد تكون الشهادة خلاف الواقع لكن
نظرا لشدة تمسكهم بظاهر السنة (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) يأخذون
بهذا ويجعلون ذلك في ذمة الشاهد فعلى كل حال مثل هذه الأمور لا ينبغي
للإنسان أن يخرج عن الجماعة نعم لو فرضنا أن إنساناً في البر وحده ورأى
الهلال وليس عنده في هذا إشكال ولا يرى مخالفة الجماعة ولو خروجاً على
ما كان عليه الإمام فصام أو أفطر بناءً على رؤيته فهذا هو الذي يسعه
عند الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إذا رأيتموه فصوموا
وإذا رأيتموه فأفطروا) وهذا رآه ولا يحصل بذلك مخالفة الجماعة ولا
الشذوذ عما يراه ولاة الأمر لكن إنسان في وسط البلد مخالف تجده مثلاً
رأى هلال شوال وتيقن أنه رأى هلال شوال ولكنه لم يثبت عند المحاكم فخرج
إلى السوق معه طعام يأكله أمام الناس يعني أني مفطر وأن اليوم يوم عيد
الفطر نقول: هل هذا يليق؟ لا نقول إذا كان لا تطيب نفسك بصومه بناء على
رؤيتك فأفطر سراً أما أن تعلن مخالفة الجماعة ما يمكن ولولي الأمر أن
يعزر مثل هذا ويؤدبه على ما فعل لأن المسألة ليس كل من شاء حكم لنفسه
ولم يبالِ بأمر الجماعة.
السائل: بعض طلبة العلم الصغار يقولون نحن لانتبع الذين يستنبطون في
العلم، لأنا نخشى الله عز وجل ولأن المسالة مبنية على الأدلة والله
سبحانه وتعالى يقول (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ويقولون إن لديهم الأدلة الواضحة من القران
والسنة على إنكار المنكر، وهذا أمر يتعلق بديننا ونحن لا نتبع الناس
فنكون مقلدين فبماذا تجيبون بارك الله فيكم؟
الشيخ: نقول بارك الله لهم في نيتهم لكن
أخطأوا المنهج الآن لو وضعت يدك على عينك تشوف نصف الناس وهؤلاء نظروا
إلى النصوص من جانب وتركوها من جانب آخر فالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر طبقات أي إذا نهيت عن منكر فلا يخلو من أحوال إما أن ينتقل
الناس إلى منكر أعظم فهذا بالإجماع أنه لا يجوز يجب السكوت عن المنكر
هذا دفعاً لما هو أنكر منه وأعظم منه وهذا بنص كتاب الله (وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) مع أن سب آلهة المشركين واجب أو على الأقل
مطلوب وإذا كان سبهم يقتضي سب إلهنا عز وجل المنزه عن كل عيب ونقص فإنه
يحرم لأنه يترتب على سب آلهتهم سب الله وهو أعظم ولو أنك نهيت إنساناً
عن شرب الدخان وشرب الدخان محرم لكن تعلم إذا قلت يا فلان اتق الله
واترك الدخان قال والله صحيح أن الدخان مؤذٍ ومضر وليس فيه لذة فذهب
وجاء بجرة خمر وشرب منها لأنك نهيته عن هذا فقال هذا أهون هل يجوز هذا
وإلا ما يجوز؟ لا يجوز ولهذا انظر إلى فقه العلماء هذا شيخ الإسلام
رحمه الله مر بقوم من التتر يشربون الخمر وربما يلعبون القمار ومعه
صاحب له فقال ليش ما نهيتهم؟ قال هؤلاء لو نهيناهم لذهبوا يقتلون الناس
ويقعون في أعراضهم وتلهيهم بما هم عليه من المنكر أهون من كونهم يذهبون
إلى هذا.
ولهذا لو تراجع كلام ابن القيم رحمه الله
في أعلام الموقعين يكون جيدا فالمنكر إذا كان يزول إلى ماهو أنكر منه
فإنه لا يجوز إنكاره درءاً لأعلى المفسدتين بأدناهما، ونحن لا نقول: لا
تنكروا المنكر لكن لا تهاجموا ولاة الأمور لأن هذا ما ينفع فولاة
الأمور ما ينفع فيهم المهاجم لأن الشيطان يدخل في مخيلتهم أشياء قد لا
تكون طرأت على بالك أو أنها طرأت على بالك لأن بعض الذين ينكرون المنكر
والله أعلم بالنيات قد يكون مقصودهم أن يتولوا السلطة ما ندري؟ الله
أعلم نبرأ إلى الله من هذا الشيء لكن أنكر المنكر مثلاً البنوك حرام
فهل مثلا من العقل أن تهاجم الدولة ليش تسمح لها وهي حرام؟ أو من العقل
أن تقول للناس يا أيها الناس احذروا هذه البنوك يحرم عليكم أن تودعوا
فيها، لا تعاملوها، اهجروها، قاطعوها أيهما أنفع للمجتمع؟ الثاني أنفع
للمجتمع والأغاني مثلا في الإذاعات وغير الإذاعات موجودة هل مثلاً من
الحكمة أن تهاجم وزارة الإعلام تقول فَعَلت وتركت وما أشبه ذلك أم أن
تقول يا أيها الناس احذروا هذه المعازف فإنها حرام ولا يغرنكم انتهاك
الناس لها ولا كثرة استعمالها ولا كثرة بثها في الإذاعات فإن هذا لا
يوجب تحليل ما حرم الله وتحذرهم وتبين الأدلة الدالة على المنع أيها
أنفع للناس؟ لا شك أنه الثاني وأنا لست أقول في هذا اسكتوا عن الجهات
المسؤولة لكن ناصحوها إما بطريق مباشر أو غير مباشر فإن حصل الهُدى فهو
للجميع وإن لم يحصل فأنت سلمت وبرئت ذمتك هذا الذي نقوله ومن زعم أننا
نريد بذلك أن يبقى المنكر منكراً ويسكت عنه هذا ليس بصحيح، بعض السلف
الذين يدندن حولهم الناس يقول لي بعضهم أن هذا الرجل الذي يدنون حوله
إنه إمام في العقيدة الأشعرية حتى وصف لي بعضهم بأنه أشعري جلد ولم نر
أحداً تكلم على عقيدته وقال هذا أشعري أبدا لكن لأنه قال كلمة ربما
أنها تكون في صالح بعض الدعاة صار يدندن حولها ثم نقول: السلف لهم
اجتهادات لا في
العبادات ولا في غيرها أليس بعض السلف يقوم
الليل كله؟ وهذا وهو غير مصيب أليس بعض السلف يقولون إذا دخلت في صلاتي
فأتوا فاقطعوا رجلي حتى لا أحس بها؟ يعني معناه أنه لا يتصور الواقع مع
إقباله على الصلاة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول أنا أجهز جيشي
وأنا في الصلاة أو ليس النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته يسمع بكاء
الصبي ويتصوره ويعرف كيف يحصل لأمه ثم يوجز في صلاته؟ والله ليسوا
خيراً من الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء مجتهدون يخطئون ويصيبون
ولعلك قد مر بك في صحيح البخاري قصة أسامة مع الذين كلموه في شأن عثمان
ماذا قال لهم وهم في عهد الصحابة الحق لا يقاس بالرجال إطلاقاً عندنا
نصوص من القرآن والسنة مبينة موضحة والحمد لله فالشريعة الإسلامية كلها
مبنية على شيئين تحصيل المصالح أو بعضها بقدر الإمكان وإعدام المفاسد
أو تقليلها بقدر الإمكان هذا الأساس الذي بنيت عليه الشريعة الإسلامية
ما بعث الله الرسل إلا ليصلحوا الناس في دين الله وفي معاملة عباد الله
فيجب أن يكون لدينا عقول نوازن بين الأشياء فالآن لو فرضنا أن لك ابناً
أخطأ عليك خطيئة وانتهت القضية وحصلت المفسدة هل من المصلحة أن تداويه
بهجره وطرده من البيت؟ والأمر قد انقضى ولا سيما في هذا الزمن أنك لو
طرته من البيت أين يذهب؟ هل يأتي يبكي عند رأسك ويقبل قدميك ويقول يا
أبي اسمح لي؟ إنما يذهب مع صاحبه والله أعلم أين يتجهون؟ فالإنسان يجب
أن ينظر للمصالح أنت لا تريد أن تشفي غليلك من هذا الأمر المنكر أو أن
تبرده هذه الغيرة الفائرة أنت تريد أن تصلح عباد الله امشِ على شرع
الله وأنت في حل.
السائل: يا شيخ ما ضابط هذا المصالح والمفاسد؟
الشيخ: الإنسان يعرفها بالواقع، المصالح
والمفاسد تكون بالنتيجة فالإنسان ينظر للنتيجة هي التي تزن الأشياء
لأنني قد أقول إن هذه مصلحة والثاني يقول هذه غير مصلحة وربما يقع
النزاع ولا سيما إذا كان الإنسان يدين الله بهذا الشيء وعازم عليه وما
عنده فيه إشكال لكن أنت انظر للنتيجة يعني هاتِ لي أي ثورة من الثورات
صار الناس فيها أصلح من ذي قبل؟ ما تستطيع أبدا فأنت انظر للمصالح
والمفاسد والأمة الإسلامية قبل أن تختلف كانت مهيبة يخافها الناس من كل
جانب ونصروا بالرعب مسيرة شهر ولما تفرقوا صار بعضهم يقتل بعضاً يعني
انشغلوا بقتال بعضهم بعضاً عن قتال الكفار ولا أدعي أني أنا الحاكم على
المصالح أو المفاسد أنا أقول انظر للواقع.
السائل: ذكرنا أن هذا الطريق غير صحيح في الإنكار لكن ما موقفنا يا شيخ
ممن تبنى هذا الرأي؟
الشيخ: موقفنا ممن تبنوا هذا الرأي أن نسأل
الله لهم الهداية والبصيرة ولكن لا يجوز أن يكون بيننا وبينهم عداء لأن
العداوة ليست بين المسلمين لكن نناصحهم ونبين للناس أن هذه الطريق غير
صحيحة حتى لا يغتر الناس بهم لأن العامة عندهم غيرة عارمة لاسيما في
الوقت الحاضر والحمد لله فيظنون أن مثل هذه الطرق أنها سليمة ونبين
أنها غير سليمة ونبين النتائج التي حصلت فقد حصلت مفاسد كثيرة ولم يحدث
شيء على مايريد هؤلاء لكن لو كانت المسألة بهدوء ومشورة وسلوك الطرق
التي توصل إلى المقصود حصل خيرٌ كثير فالمهم أنا أوصيكم باعتباركم طلبة
علم وباعتبار أنكم شباب مقبل على خير إن شاء الله أن تلتزموا دائماً
بالحكمة وأن لا تخطوا خطوة مثل هذه الخطوة العظيمة إلا وأنتم تعرفون
أين موطيء قدمكم حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وأنا أجزم والعلم عند الله
أن الذين تورطوا في هذه المسألة في بلاد ما يتمنون أن الأمر لم يكن بكل
قلوبهم لأنهم تجرؤا على محارم واضحة قتلوا الأبرياء قتلوا المعاهدين
قتلوا المستأمنين بأي طريقة هذه؟ من أحل هذا؟ سبحان الله بيننا وبينكم
كتاب الله وسنة رسوله.
فصلٌ
القارئ: وصومه واجب بالنص والإجماع.
الشيخ: الكلام هذا مختصر جداً مع أنه مهم
جداً يقول المؤلف إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم والدليل
لأنه ثبت ذلك اليوم من رمضان وصومه واجب بالنص والإجماع صوم رمضان ولكن
متى يدخل رمضان هل إذا رؤي في بلد يثبت في جميع البلاد؟ هذا موضع خلاف
بين العلماء منهم من قال: لا يثبت في جميع البلاد بل من رآه ثبت الحكم
في حقه ومن لم يره لم يثبت الحكم في حقه واستدلوا لذلك بقوله تعالى:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهذه جملة شرطية تفيد
اختصاص الحكم بمن شهد فيخرج بمنطوقها المفهوم وهو من لم يشهد فإنه لا
يجب عليه الصوم والدليل الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا
رأيتموه فصوموا) وفي لفظ (صوموا لرؤيته) (وإذا رأيتموه فأفطروا) وهؤلاء
لم يروه فقوله (إذا رأيتموه) منطوقه وجوب الصوم عند الرؤية ومفهومه عدم
الوجوب إذا انتفت الرؤية.
ثالثاً: القياس الصحيح على التوقيت اليومي
فإنه بالإجماع أن لكل جهة من الأرض حكمها في التوقيت اليومي وأنه إذا
طلع الفجر على قوم لزمهم الإمساك وإذا غربت الشمس على قومٍ حل لهم
الفطر وإن كانت البلاد الأخرى لم تكن كذلك وهذا بالإجماع ولم يعارض فيه
أحد مع أن فيه عموماً كعموم (إذا رأيتموه فصوموا) وهو قول النبي عليه
الصلاة والسلام (إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر
النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)
ومعلومٌ أن هذا الحكم يختص بمن تحقق فيه هذا الشيء ومن لا فلا ولهذا
كان القول الراجح بلا شك ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
أنه إذا اختلفت مطالع الهلال فلكل قومٍ مطلعهم قال واختلاف المطالع
ثابت باتفاق أهل المعرفة وعلى هذا فما توافق في مطلع الهلال ومغربه
فالحكم واحد وإن تباعدت البلاد وإذا اختلف المطلع فإنه يختلف فيه الحكم
وهذا أقرب مايكون إلى القواعد وعرفتم أيضاً أنه موافق للكتاب والسنة
والقياس الصحيح وفي المسالة قول آخر ذهب إليه المؤلف وهو أنه إذا رُؤي
في أقصى المشرق لزم أقصى المغرب أن يصوموا وإذا رؤي في أقصى المغرب لزم
أهل المشرق أن يصوموا مع أن هذا يختلف فيه المطالع وكذلك بالنسبة
للشمال والجنوب وهذا هو المذهب واستدلوا بعموم قوله (إذا رأيتموه
فصوموا) وقالوا إن الخطاب للمسلمين عموماً فإذا رآه واحد منهم لزم
الجميع.
والقول الثالث في المسألة أن الناس يرجعون
إلى عمل السلطة والولاية فإذا كانت الولاية واحدة فإذا ثبت في جهة منها
لزم كل من تحت هذه الولاية ولو تباعدت الأقطار وإلا فلا وهذا الذي عليه
العمل الآن، العمل الآن حسب الولايات مثلاً هذه المنطقة يحكمها ناس
وهذه المنطقة يحكمها ناس يجعلون كل منطقة لها حكمها لئلا يحصل الخلاف
والنزاع وهذا وإن كان فيه وجهة نظر من جهة الاتفاق وعدم الاختلاف بين
أمة واحدة محكومة بحكم واحد لكنه من الناحية النظرية ليس بجيد لأنه
مثلاً إذا كانت الحدود بين دولتين وليس بين الدولتين إلا هذا الحد الذي
يكون خمسة أذرع فمثلاً هل من المعقول أن تراه هذه الدولة ثم نقول:
الدولة التي بيننا وبينها خمسة أذرع لايلزمكم الحكم هذا بعيد لكن من
ناحية أن الناس ينضوون تحت ولاية واحدة ولا يختلفون له وجه نظر وهذا هو
الذي عليه العمل على أنه مع الأسف الشديد أن بعض الحكومات تجعل العمل
تابع للسياسة فإذا كانت العلاقات جيدة بين دولة وأخرى صاروا تبعاً لها
وإذا كانت العلاقة رديئة أصبح لكل أهل بلد مطالعهم وهذا تلاعب بالشرع
هذا لا يجوز إطلاقاً فإما أن يقال نعمل بالولاية ومن كان تحت ولاية
واحدة فلهم حكم واحد إن صام الناس صاموا وإن أفطر الناس أفطروا وإما أن
نقول: بأن رؤية الواحد رؤية للجميع أما التلاعب بدين الله فهذا لا يجوز
بقي علينا من كانوا في بلاد الغرب وليس هناك دولة مسلمة تراعي هذا
الأمر وتراقب القمر فمن يتبعون؟ أقرب ما يكون للنظر أن يتبعوا أقرب
البلاد إليهم إذا كانوا يحكمون بالرؤية لأن هذا هو المعقول ومن العلماء
من قال إنهم يتبعون مكة لأن مكة أم القرى كما سماها الله عز وجل فمتى
ثبت في مكة لزم الناس الذين ليس لهم دولة مستقلة إسلامية لزم الناس
اتباعها صوماً وفطراً ولكن الأقرب الأول أن يتبع أقرب البلاد الإسلامية
إلى هذه البلاد الغربية إلا إذا كان للجالية المسلمة في هذه البلاد
الكافرة إذا كان لهم
رابطة تربطهم فإنهم يتبعون الرابطة ولا
يشذون عنها لأنها تعتبر بمنزلة الإمام.
السائل: إذا كانت يا شيخ الرابطة هذه لا تعتمد على الرؤية وإنما على
الحساب فماذا نصنع؟
الشيخ: لكن هل إذا قلنا إن الحساب لا عبرة به هل ممكن أن نعتمد على
الرؤية هناك في تلك البلاد؟ إذا كان يمكن بحيث يخرج أناس مرضيون في
نظرهم وأمانتهم فنعم لا نعتمد رأي الرابطة ما دامت تحكم بالحساب أما
إذا تعذر فقد سبق لنا أن بعض العلماء يقول (فإن غم عليكم فاقدروا له)
أنه من التقدير الذي هو حساب منازل القضاء.
القارئ: ومن رأى الهلال فردت شهادته لزمه الصوم لقوله عليه الصلاة
والسلام (صوموا لرؤيته) فإن أفطر يومئذٍ بجماع فعليه القضاء والكفارة
لأنه أفطر يوماً من رمضان بجماع تام فلزمته كفارة كما لو قبلت شهادته.
ولا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين الحديث عبد الرحمن بن زيد، ولا أنها
شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم يقبل فيه الواحد كسائر
الشهور ولا تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين لذلك ولا يفطر إذا رآه وحده
لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما
فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال ما
حملك على هذا؟ قال لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال الآخر: أنا صائم
قال ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال: للذي أفطر
لولا مكان هذا لأوجعت رأسك رواه سعيد.
الشيخ: هذه المسألة اختلف فيها العلماء
فالمشهور كما قاله المؤلف إذا رأى وحده هلال شوال وجب عليه الصوم لأن
هلال شوال لا يثبت إلا برؤية شاهدين وما دام لم يثبت شرعاً فإنه يجب
عليه أن يصوم وقيل له أن يفطر سراً والأقرب أن لا يفطر سراً لاحتمال
الوهم في رؤيته مخالفة الجماعة مفسدة ظاهرة فلا ينبغي له أن يخالف
الجماعة بأمر يحتمل فيه الوهم وهذا أقرب إلى الصواب ولأنه أحوط بخلاف
ما ذكرناه في أول الفصل بالنسبة للصوم لأنه إذا صام يوماً والناس لم
يصوموا لا يضره.
القارئ: ولأنه محكوم به من رمضان أشبه الذي قبله فإذا صام الناس بشهادة
اثنين ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا لقول النبي صلى الله عليه
وسلم (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ثم أفطروا) حديث حسن.
الشيخ: المؤلف رحمه الله أحياناً يتعجب الانسان منه (فإن غم عليكم
فأكملوا العدة ثلاثين) هذا في الصحيحين أو أحدهما وكان ينبغي له أن
يستدل به لأنه أحسن من هذا اللفظ الذي ساقه.
القارئ: وإن صاموا لأجل الغيم فلم يروا الهلال لم يفطروا لأنهم إنما
صاموا احتياطاً للصوم فيجب الصوم في آخره احتياطا وإن صاموا بشهادة
واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان أحدهما لا يفطرون لقول النبي صلى الله
عليه وسلم (وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا) ولأنه فطر يستند إلى شهادة
واحد فلم يجز كما لو شهد بهلال شوال.
والثاني يفطرون لأن الصوم ثبت فوجب الفطر باستكمال العدة تبعاً وقد
يثبت تبعاً ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء أصلا
ويثبت بها الولادة ثم يثبت النسب للفراش على وجه التبع للولادة.
الشيخ: وهذا هو الأقرب فالصواب أنه إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً
أفطروا سواءً رأوا الهلال أو لم يروه لأنه يثبت تبعاً ما يثبت
استقلالاً.
السائل: قول عمر في الأثر السابق (لولا مكان هذا لأوجعتك) ما فهمت هذا؟
الشيخ: يحتمل المراد المكان الذي هم فيه
احتراماً له كما قال للرجلين الذين رفعا صوتهما عند قبر النبي عليه
الصلاة والسلام (لولا أنكما في مسجد الرسول ولستما من أهل هذا البلد
لأوجعتكما ولضربتكما) يحتمل لولا صاحبك فتركت ذلك إكراماً لصاحبك وهذا
أقرب إلى اللفظ.
السائل: شهادة الصبي هل تقبل في باب الصيام؟
الشيخ: لا تقبل لا بد أن يكون بالغا عاقلاً.
فصلٌ
القارئ: ومن كان أسيراً أو في موضع لا يمكنه معرفة الشهور بالخبر
فاشتبهت عليه فإنه يصوم شهراً بالاجتهاد لأنه اشتبه عليه وقت العبادة
فوجب العمل بالتحري كمن اشتبه عليه وقت الصلاة فإن لم ينكشف الحال
فصومه صحيح لأنه أدى فرضه باجتهاده أشبه المصلي يوم الغيم وإن انكشف
الحال فبان أنه وافق الشهر أجزأه لأنه أصاب في اجتهاده وإن وافق بعده
أجزأه لأنه وقع قضاء لما وجب عليه فصح كما لو علم وإن بان قبله لم
يجزئه لأنه صام قبل الخطاب أشبه المصلي قبل الوقت وإن صام بغير اجتهاد
أو غلب على ظنه أن الشهر لم يدخل فصام لم يجزئه وإن وافق، لأنه صام مع
الشك فأشبه المصلي شاكاً في أول الوقت.
الشيخ: إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعلم دخول الشهر فإنه يتحرى ويصوم
لقول الله تبارك وتعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا) وقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ومن القواعد
المعروفة إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن فهذا يرجع إلى غلبة ظنه
ثم لا يخرج إما أن يوافق الشهر وإما أن يكون بعده وإما أن يكون قبله
هذه ثلاث حالات لا يكون سواها فإن وافق الشهر فصومه صحيح وإن كان بعده
فصومه صحيح لكنه يكون قضاءً وإن كان قبله فصومه غير صحيح لأنه صام قبل
الوقت كمن صلى قبل الوقت ويحتمل أن يكون صومه صحيحاً لأنه أدى ما يجب
عليه فبرئت ذمته وهذا أقرب إلى يسر الشريعة وسهولتها أما إذا بقيت
الحال على ما هي عليه فإن صومه صحيح لكن كلامنا إذا بان الأمر على
خلافه.
فصل
القارئ: ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني
إلى غروب الشمس لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
الشيخ: قول المؤلف (الفجر الثاني) يفيد أن هناك فجراً أول وهو كذلك وقد
ذكر العلماء أن بين الفجرين ثلاثة فروق:
الفرق الأول: أن الفجر الأول يكون مستطيلاً في الأفق كذنب الذئب وأما
الفجر الثاني فيكون معترضاً في الأفق يعني يمتد من الشمال إلى الجنوب
وأما ذاك فيمتد من الشرق إلى الغرب.
الفرق الثاني أن الفجر الأول يكون ما بينه وما بين الأفق مظلم يعني
كأنه نور مقطوع وأما الفجر الثاني فيكون ما بينه وبين الأفق مضيئاً.
والفرق الثالث أن الفجر الأول ينطمس بعد ذلك يعني أنه يرجع الجو مظلما
وأما الفجر الثاني فلا يرجع الجو مظلماً بعده بل لا يزال الضوء منتشراً
حتى تطلع الشمس فهذه ثلاثة فروق بين الفجر الثاني والفجر الأول أما
مقدار ما بينهما فيختلف أحياناً يكون بينهما نصف ساعة وأحياناً يكون
بينهما ساعة إلا ربع على حسب الظواهر الكونية الأفقية.
القارئ: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان
بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) حديث حسن.
الشيخ: قول المؤلف (حديث حسن) فيه نظر إذا
كان قد رواه مسلم وقوله في الحديث (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال)
لأن بلالاً رضي الله عنه يؤذن عند قرب الفجر وبيَّن الرسول عليه الصلاة
والسلام لماذا يؤذن؟ فقال (ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم) القائم الذي
يصلي يرجعه حتى يتسحر والنائم يوقظه ثم قال عليه الصلاة والسلام (فكلوا
واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) هذا غير السياق الذي ذكره المؤلف (فإنه
لا يؤذن حتى يطلع الفجر) أما اللفظ الذي ساقه المؤلف فيقول (ولا الفجر
المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) المستطيل الذي يكون طولاً في
السماء والمستطير الذي يكون عرضاً يشبه جناح الطائر لأن الطائر إذا
أراد أن يطير يفرد جناحيه فلهذا سماه مستطيراً.
القارئ: وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس أفطر الصائم)
متفق عليه ويجوز الأكل والشرب إلى الفجر للآية والخبر.
وإن جامع قبل الفجر ثم أصبح جُنباً صح صومه لأن الله تعالى لما أذن في
المباشرة إلى الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يصوم جُنبا وقد روت عائشة
وأم سلمة رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جُنباً
من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم) متفق عليه.
الشيخ: أراد المؤلف أن يبين أن الإنسان
يجوز له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى أن يطلع الفجر لأن الله قال
(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فقال (يَتَبَيَّنَ) ولم
يقل حتى يطلع حتى (يَتَبَيَّنَ) ولا يكون إشكال فيه (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وإذا كان يجوز أن يجامع حتى يطلع الفجر
لزم من ذلك أن يطلع الفجر وهو على جنابة، هذا وجه الدلالة من القرآن
أما السنة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح ُ جُنبا منً جماع
أهله ويصوم وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) وقولها (من غير احتلام) هذا من باب التأكيد وإلا فإن النبي
صلى الله عليه وسلم لا يحتلم لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه ومن كان
كذلك فإنه لا يمكن أن يحتلم لأنه لو احتلم لكان الفعل محرماً حيث أنه
يدرك ذلك بقلبه وهو صلى الله عليه وسلم لا ينام ولذلك قال العلماء إن
من خصائصه أنه لا يحتلم.
السائل: أحسن الله إليكم ما الجواب عما ذكره ابن كثير رحمه الله في
احتلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث فصل فقال إن أريد بالاحتلام تلاعب
الشيطان فهذا ممتنع في حقه عليه الصلاة والسلام وإن أريد خروج الفائض
من جسده من الماء فهذا يقع منه؟
الشيخ: والله ما أعرف هذا المعروف عن العلماء أنه من خصائص الرسول أنه
لا يحتلم والاحتلام معروف أن الإنسان يرى في المنام مثل ما قالت أم
سليم ترى في منامها ما يرى الرجل، والتفصيل هذا ما مر علينا والمعروف
أنه لا يحتلم مطلقاً.
السائل: بارك الله فيك بعض الناس يترك جزءاً يسيراً من الليل لكي يتحقق
أنه صام النهار كله؟
الشيخ: لا هذا القول ضعيف جداً لأنه قال
(حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ولو كان يجب أن يمسك جزءً من الليل لقال حتى
يقرب.
السائل: أحسن الله إليك، طلوع الفجر الثاني هل هو محدد بالتوقيت أم
يأخذ فترة من الزمن؟
الشيخ: إذا رأيت المشرق مضيئاً فقد أقبل النهار كما جاء في الحديث
والتقاويم فيها تقديم خاصة في صلاة الفجر فيها تقديم خمسة دقائق على
الأقل.
القارئ: وإن أصبح وفي فيه طعام أو شراب فلفظه لم يفسد صومه وإن طلع
الفجر وهو يجامع فاستدام فعليه القضاء والكفارة لأن استدامة الجماع
جماع وإن نزع فكذلك في اختيار ابن حامد والقاضي لأن النزع جماع
كالإيلاج وقال أبو حفص لا قضاء عليه ولا كفارة لأنه تارك للجماع وما
عُلِّق على فعل شيء لا يتعلق على تركه.
الشيخ: الصواب بلا ريب ما ذهب إليه أبو حفص رحمه الله وأنه ليس عليه
إثم ولا قضاء هو فعل ما يباح له جامع قبل أن يطلع الفجر ثم طلع الفجر
ومن حين طلوعه نزع وأخرج ذكره من فرج امرأته فكيف نقول: إن عليه الإثم
والقضاء والكفارة أو على الأقل نقول: عليه القضاء والكفارة؟ الصحيح أنه
ليس عليه شيء لأنه فعل فعلاً مأذوناً فيه وما ترتب على المأذون فليس
بمضمون فإن قال قائل لماذا يتأخر لماذا لم يتقدم حتى ينهي جماعه قبل
طلوع الفجر؟ قلنا لأن الله أذن له بذلك وهو حر وربما لا يطرأ عليه إلا
في ذلك الوقت أو ربما يكون قادم من سفر أو ما أشبه ذلك من الأحوال
فالصحيح أنه لا شيء عليه لا قضاء ولا كفارة ولا إثم أما لو استمر بعد
أن تبين له الفجر فلا شك أنه آثم وأنه منتهك لحرمة اليوم فتلزمه
الكفارة لأنه جامع في يوم الصوم فلزمه القضاء.
القارئ: وإن أكل شاكاًَ في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل
وإن أكل شاكاً في غروب الشمس بطل صومه لأن الأصل بقاء النهار.
الشيخ: إن أكل شاكاً في طلوع الفجر فصومه
صحيح لأن الله قال: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) والشاك لم يتبين له
لكن لو تبين أنه بعد طلوع الفجر فهل عليه القضاء؟ الصحيح أنه لا قضاء
عليه وربما يذكره المؤلف لكن هذا التعليق على الكلام هنا لا بأس به
فالصحيح أنه لا قضاء عليه لأنه فعل ما هو مأذون فيه فله أن يأكل ويشرب
حتى يتبين له الفجر وهذا لم يتبين له فأكل أوشرب ثم تبين بعد ذلك أنه
في النهار نقول: لا قضاء عليه ولا أثم ولا كفارة إن كان مجامعاً، وأما
إذا أكل شاكاً في غروب الشمس فإنه حرام عليه لأنه لا يجوز أن يفطر حتى
يتيقن أن الشمس غربت والشك ليس بيقين فإذا أكل أو شرب ويقول والله ما
أعرف هل غابت الشمس أم لا؟ نقول: هذا حرام عليك لا تأكل ولا تشرب حتى
تتبين غروب الشمس فإن غلب على ظنه أن الشمس غربت دون أن يتيقن فالمذهب
لا يجوز أن يفطر حتى يتيقن والصحيح أنه يجوز أن يفطر وأنه لا قضاء عليه
ولو تبين أنه في النهار لما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي
الله عنهما (أن الناس أفطروا في يوم غيم على عهد الرسول صلى الله عليه
وسلم ثم طلعت الشمس ولم يؤمروا بالقضاء) وهذا دليل على أنه لا قضاء
عليهم إذ لو كان القضاء من شرع الله لبينه الرسول عليه الصلاة والسلام
ولو بينه لحفظه الله ونقل إلينا لأن الشريعة محفوظة فلما لم يكن شيء من
ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقضاء وأنه لا قضاء
عليهم ووقعت هذه المسألة في زمن عمر رضي الله عنه مرتين فمرة قال:
اقضوا يوماً مكانه الخطب سهل ومرةً قال: إننا لم نتجانف لإثم فلا قضاء
علينا لكن السنة حاكمة على كل أحد وهو أنه لا قضاء عليهم لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقضاء
السائل: من جامع في نهار رمضان هل يلزمه الإمساك عن الأكل والشرب؟
الشيخ: إذا كان ممن يباح له الفطر كالمسافر
فلا يلزمه الإمساك وإذا كان ممن لا يباح له فيجب عليه الإمساك ودليل
هذا أن فعله هذا محرم فلا يستبيح به الواجب.
السائل: أليس الجماع مفسد ومن المفطرات؟
الشيخ: يفسد صومه ولا يأكل ولا يشرب لأن هذا الوقت محترم في حقه ولم
يكن في الشرع ما يدل على أن حرمته زالت بخلاف ما إذا كان مسافراً.
السائل: بارك الله فيكم علام نحمل فعل بعض الصحابة ومنهم أبو بكر رضي
الله عنه فقد صح عنهم أنهم كانوا يأكلون حتى يرتفع؟
الشيخ: هذا الفعل اجتهاد لكن بين أيدينا كلام الله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ) وما بعد الغايه مخالف لما قبله.
السائل: ومن قال خيط الفجر هو النهار؟
الشيخ: الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بأنه بياض النهار والنهار ما
يتم طلوعه إلا بطلوع الشمس.
باب النية في الصوم
القارئ: لا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل
لكل يوم لما روت حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من لم يبيت
الصيام من الليل فلا صيام له) رواه أبو داود ولأنه صوم مفروض فاعتبرت
فيه النية من الليل لكل يوم كالقضاء ونحوه وعنه تجزئه النية في أول
رمضان لجميعه لأنه عبادة واحدة والأول المذهب لأن كل يوم عبادة منفردة
لا يتصل بالآخر ولا يفسد أحدهما بفساد الآخر فأشبه أيام القضاء.
الشيخ: الصحيح الرواية الثانية أنه تجزئه
نية واحدة من أول الشهر ما لم يوجد مبيح للفطر في أثناء الشهر فلا بد
من استئناف النية فمثلاً إنسان سافر في أثناء رمضان انقطعت النية فإذا
أراد أن يصوم بعد أن أفطر قلنا لابد من تجديد النية أما وليس هناك ما
يبيح الفطر ولم يفطر فإنه تجزئه النية الأولى لأنك لو سألت كل إنسان
حين دخل رمضان أتريد أن تصوم كل الشهر؟ لقال نعم وبناءً على ذلك يظهر
أثر الخلاف في المثال فلو أن رجلاً نام قبل غروب الشمس اليوم ونحن في
رمضان وبقي نائما ًحتى طلع الفجر من الغد فصومه على المذهب غير صحيح
لأنه لم ينو من الليل كل يوم بليلته وعلى القول الثاني صومه صحيح وهو
الصحيح.
القارئ: وفي أي وقت من الليل نوى أجزأه للخبر ولأن الليل محل النوم
فتخصيص النية بجزء منه يفوت الصوم ومن أكل أو شرب بعد النية لم تبطل
نيته لأن إباحة الأكل والشرب إلى الفجر دليل على أن نيته لم تفسد به.
الشيخ: هذا صحيح وهو خلاف ما يقوله العامة فالعامة يقولون إذا انتهيت
من السحور وعقدت النية فإنه لا يمكن أن تأكل وهذا غير صحيح ما دام
الليل باقياً فلك أن تأكل ولو نويت الصوم فلو أن الإنسان تسحر وانتهى
من سحوره وعزم على أنه لن يأكل ولن يشرب ثم بدا له بعد ذلك وقبل الفجر
فله أن يأكل ويشرب لأن الحكم منوط بطلوع الفجر.
فصل
القارئ: ويجب تعيين النية لكل صومِ يومٍ واجب وهو أن يعتقد أنه صائمٌ
غداً من رمضان أو من كفارته أو من نذره وعنه لا يجب تعيين النية لرمضان
لأنه يراد للتمييز وزمن رمضان متعين له لا يحتمل سواه والأولى أصح لأنه
صوم واجب فافتقر إلى التعيين كالقضاء فلو نوى ليلة الشك إن كان غداً من
رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل أو نوى نفلاً أو أطلق النية صح عند من لم
يوجب التعيين لأنه نوى الصوم ونيته كافية ولا يصح عند من أوجبه لأنه لم
يجزم به والنية عزم جازم.
الشيخ: الصواب في هذه المسألة إذا قال إن
كان غداً من رمضان فصومه فرض وإلا فنفل أنه ينعقد لقوله النبي صلى الله
عليه وسلم لضباعة بنت الزبير (فإن لك على ربك ما استثنيتي) وهذا في
العبادة وكما علمتم أنه يجوز الاستثناء في الدعاء أيضاً. فالصواب جواز
ذلك وعلى هذا فإذا كان ليلة الثلاثين من شعبان وخاف الإنسان أن يثبت
الشهر فلينم على هذه النية فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر وعلم أن
هذا اليوم من رمضان فنيته صحيحة وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله وأما إذا نوى نفلاً وعين فإنه لا يجزئه عن الفريضة
وقول المؤلف رحمه الله إنه يجزيء عند من لم يشترط التعيين فيه نظر لأن
هذا لم ينو صوماً مطلقاً بل نوى نفلاً وفرق بين الصوم المطلق وصوم
النفل لأن النفل عين أنه نفل فكيف يجزيء عن الفريضة؟ أما لو نوى صوماً
مطلقاً أنه صائم ولا في قلبه نوع الفريضة عن رمضان أوغيره فهذا نعم عند
من يرى أنه لا يشترط التعيين يكون صومه صحيحاً لكن الظاهر أنه لا بد من
التعيين لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما
لكل أمريء ما نوى).
القارئ: وإن نوى إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإلا فلا لم يصح على
الروايتين لأنه شك في النية لأصل الصوم. ولا يفتقر مع التعيين إلى نية
الفرض لأنه لا يكون رمضان إلا فرضا وقال ابن حامد يحتاج إلى ذلك لأن
رمضان للصبي نفل.
الشيخ: الصواب أنه يتجه لرمضان ولا يشترط أن ينوي الفرض لأن رمضان لا
يقع إلا فرضاً والإنسان يعرف نفسه ليس بصبي سيعرف نفسه أنه بالغ.
القارئ: ومن نوى الخروج من صوم الفرض أبطله لأن النية شرط فى جميعه
فإذا قطعها في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية فيفسد الكل لفوات الشرط.
الشيخ: يقول إن نوى الخروج من صوم الفرض
أبطله يعني بطل الصوم لكن لو نوى أن يكون نفلاً وهو لم يأكل ولم يشرب
ولم يفعل مفطراً انعقد على أنه نفل ولهذا عبر بعضهم قال من نوى الفطر
فكمن لم ينو ولم يعبر بقوله أفطر لأنه إذا قال أفطر معناه أنه لا يمكن
أن يبني آخر اليوم على أوله فإذا قال كمن لم ينو صار لو نوى النفل في
آخر اليوم أجزأه وهذا هو الواقع فإذا نوى الإفطار من الفرض ثم لم يأكل
ولم يشرب ونوى أن يكون نفلاً أجزأه لأن النفل يصح بنية من أثناء
النهار.
السائل: لونذر صيام يوم معين لكن حدثته نفسه أن يقطع الصيام وليس بعزم؟
الشيخ: الصحيح أن التردد لا يبطل النية لأن الأصل بقاء ما كان على ما
كان عليه حتى يعزم على الفصل أما التردد هل يفطر أو لا يفطر؟ الصحيح
أنه لا يفطر وأما إذا عزم على فعل محظور عزم أن يأكل وعدل عن هذا الفعل
فإنه لا يفطر لأنه إنما أراد فعل المحظور ولم يفعله وهذا حتى المشهور
من المذهب أنه إذا عزم على فعل المحظور ولم يفعله فإنه لا تبطل عبادته
كما لو نوى أن يتكلم في أثناء الصلاة ولكن لم يتكلم. مثال ذلك رجل يصلي
وسمع قرع الباب وألح المستأذن في القرع فهم المصلي أن يبطل صلاته لأجل
أن يرد عليه يعني هم أن يكلمه ولكنه لم يفعل فصلاته صحيحة الحاصل أن
التردد في النية لا يضر على القول الراجح والعزم على فعل محظور لا يبطل
العبادة قبل فعله لأن بطلان العبادة مرتب على فعل المحظور ولم يفعله.
فصلٌ
القارئ: ويصح صوم التطوع بنية من النهار لما روت عائشة رضي الله عنها
قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال (هل عندكم
شيء؟) قلنا لا قال (إني إذاً صائم) رواه مسلم.
الشيخ: الخلاصة الآن أن العزم على إبطال
العبادة يبطلها سواءً في الصيام أو غيره والعزم على فعل المحظور في
العبادة لا يبطلها حتى يفعل والتردد في النية هل يقطعهما أو لا؟ الصحيح
أنه لا يبطلها لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى ينتقل منه.
فصل
القارئ: ولأن في تجويز ذلك تكثيراً للصيام لأنه قد تعرض له النية من
النهار فجاز كما سومح في ترك القيام والاستقبال في النافلة لذلك.
الشيخ: إذاً التطوع يجزيء في أثناء النهار والدليل أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما سأل هل عندكم شيء؟ قالوا لا قال (إني إذاً صائم) و
(إذاً) ظرفٌ للحال يعني من الآن أكون صائماً فدل ذلك على أنه يصح أن
يصوم النفل من أثناء النهار ولكن يثاب على اليوم كاملاً أولا يثاب إلا
من النية؟ في هذا قولان للعلماء منهم من قال إذا صححنا صومه وجب أن
يكون له ثواب ذلك اليوم كله لأنه ليس هناك صومٌ يكون نصف نهار ومنهم من
قال بل لا يثاب إلا من النية وعللوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (إنما الأعمال بالنيات) وإذا كانت الأعمال بالنيات فما سبق النية
ليس منوياً فلا يثاب عليه وهذا هو الصحيح وينبني على ذلك إذا كان صوم
النفل مما عُيِّن فإنه وإن صح الصوم لا يجزيء عن المعين مثاله: رجل في
أثناء اليوم الثالث عشر من الشهر نوى أن يصوم الأيام البيض فعقد النية
من نصف النهار فهل يجزئه هذا عن صوم اليوم الثالث عشر؟ على الخلاف إن
قلنا إنه يثاب من أول النهار أجزأه وإن قلنا لا يثاب إلا من النية لم
يجزئه لأن هذا لم يصم ثلاثة أيام من النهار بل صام يومين ونصف يوم أما
ما ليس معين كالنفل المطلق فهذا وإن أثيب ثواب نصف اليوم لم يضره (فمن
يعمل مثقال ذرة خيراً يره).
السائل: قبل غروب الشمس أفطر فهل يثاب على ما مضى من اليوم؟
الشيخ: لا يثاب لأنه أفسد العبادة.
القارئ: وفي أي وقت نوى من النهار أجزأه في
ظاهر كلام الخرقي لأنه نوى (في) النهار أشبه ما قبل الزوال واختار
القاضي أنه لا يجزيء بنية بعد الزوال لأن النية لم تصحب العبادة في
معظمها أشبه ما لو نوى مع الغروب قال أحمد من نوى التطوع من النهار كتب
له بقية يومه وإذا جَمَّع من الليل كان له يومه.
الشيخ: واذا أجمع أي عزم لأن الإجماع في اللغة العزم، وكلام الخرقي
وكلام القاضي أصحهما كلام الخرقي وأنه يصح ولو بعد الزوال ثم الثواب
ذكرناه قبل قليل لكن الإمام أحمد قال من نوى التطوع من نهار كتب له
بقية يومه أي أنه يثاب على ذلك من النية كتب له بقية يومه يعني من حين
نوى وإذا أجمع من الليل كان له يومه.
القارئ: فظاهر هذا أنه إنما يحكم له بالصيام من وقت النية لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى)
وقال أبو الخطاب يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من أول النهار لأن
صوم بعضه لا يصح.
الشيخ: يعني فإذا كان الشرع قد صحح الصوم من أثناء النهار لزم أن ينسحب
الحكم على أوله لأن صوم بعض يوم لا يصح شرعاً لكن ما قاله الإمام أحمد
أقيس وأقرب للصواب إنه إنما يثاب من وقت النية (إنما لكل أمريء مانوى).
باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة
القارئ: يحرم على الصائم الأكل والشرب للآية والخبر فإذا أكل أو شرب
مختاراً ذاكراً لصومه أبطله لأنه فعل ما ينافي الصوم لغير عذر سواءً
كان غذاءً أو غير غذاء كالحصاة والنواة لأنه أكل وإن استعط أفسد صومه
لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة (وبالغ في الاستنشاق إلا
أن تكون صائماً) رواه أبو داود وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ
فيه بحيث يدخل إلى خياشيمه.
الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله يحرم على
الصائم الأكل والشرب للآية وهي قوله تعالى (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) والخبر
حديث أبي هريرة (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه
الله وسقاه) وكذلك الحديث القدسي يقول الله تعالى (يدع طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي) ثم قال (إن أكل أو شرب ذاكراً لصومه مختاراً بطل)
الذاكر ضده الناسي والمختار ضده المكره بقي قيد ثالث ليته جاء به
عالماً وضده الجاهل، وقوله (سواء كان غذاءً أو غير غذاء) المأكول
والمشروب ثلاثة أقسام قسم نافع وقسم ضار وقسم لا نافع ولا ضار وكلها
تفطر فالنافع كالتمر والخبز والماء والعصير وما أشبه ذلك والضار كالخمر
والدخان والحشيش وما أشبهه والذي ليس فيه نفع ولا ضرر كما مثل به
المؤلف كالحصاة وخرزة السبحة وما أشبهها هذه ليست بها نفع ولا ضرر ومع
ذلك تفطر الصائم إذاً كل ما دخل جوفه فإنه مفطر على أي حال كان فان قال
قائل أرأيتم لو أن الطبيب نزّل الآلة الكاشفة على المعدة (المنظار) فهل
تفطر أو لا؟ نقول: إن كان فيها مادة دواء يمكن أن يستقر في المعدة
فإنها تفطر أما إذا كان مجرد آلة فهذا الآلة لن تبقى في المعدة سوف
تسحب لأنه بمجرد ما ينظر إلى المعدة ويكشف عليها يطلع الآلة لكن إن كان
فيها مادة دهنت بها لتسهيل دخولها فإنها تفطر.
فائدة: حديث أبي داود (بالغ في الاستنشاق
إلا أن تكون صائماً) صحيح أو حسن ثم إن المبالغة في الاستنشاق يشكو بعض
الناس أنه إذا بالغ تأثر واحتقن الماء في خياشيمه وآلمته الخياشيم فمثل
هذا لا يلزم ويقال يكفي أن تدخل الماء في منخريك يعني ليس بلازم أن
تشفطه لأن بعض الناس حسب ما نسأل يقول إنه يشق عليه إذا دخل الماء إلى
خياشيمه بقي فيها ثم آلمه فنقول: الواجب إدخال الماء في المنخرين فقط
وما زاد على ذلك فهو سنة ما لم يكن في ذلك ضرر فإن كان فيه ضرر فإنه
يكون ممنوعاً منه لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً).
القارئ: وإن أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان أو إلى دماغه مثل أن
احتقن أو داوى جائفة بما يصل جوفه أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بما
يصل جوفه أو قطر في أذنه فوصل إلى دماغه أو داوى مأمومة بما يصل إليه
أفطر لأنه إذا بطل بالسعوط دل على أنه يبطل بكل واصل من أي موضع كان
ولأن الدماغ أحد الجوفين فأبطل الصوم ما يصل إليه كالآخر.
الشيخ: هذه مسائل ينبغي أن نذكر كل مسألة وحدها:
أولاً يقول إن أوصل إلى جوفه شيئاً من أي
موضع كان استثنى الفقهاء رحمهم الله الإحليل يعني الذكر فقالوا إذا
أوصل إلى جوفه شيئاً عن طريق الذكر فإنه لا يفطر وذلك لأن البول يخرج
من المثانة رشحاً وإذا كان يخرج منها رشحاً فإنه إذا أدخل شيئاً من
ذكره لم يدخل إلى جوفه ولكن الصحيح خلاف ما قاله المؤلف وخلاف المذهب
أيضاً وهو أنه لا يفطر بشيء من ذلك وضرب لهذا أمثلة وكذلك إذا وصل إلى
دماغه مثلُ أن احتقن فإذا احتقن فكلام المؤلف يدل على أنه يفطر لأن
الحقنة وصلت إلى جوفه عن طريق الدبر والصحيح أنه لا يفطر لأن هذا لا
يسمى أكلاً ولا شرباً ولا يعطي الجسم ما يعطيه الأكل الشرب فلا يشمله
النص لا لفظاً ولا معنى لا لفظاً لأنه ليس بأكل ولا شرب ولا معنى لأنه
لايحصل به ما يحصل من الأكل والشرب كذلك يقول (أو دواى جائفة) الجائفة
هي الجرح الذي يصل إلى الجوف كالبطن مثلاً إنسان انخرق بطنه فصار
يداويه بدواء يقول المؤلف إنه يفطر بذلك والصحيح أنه لا يفطر لأن هذا
ليس بأكل ولا شرب ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب (أو طعن نفسه أو
طعنه غيره بإذنه بما يصل جوفه) إنسان طعن نفسه بسكين مع البطن فدخلت
السكين إلى الجوف يقول المؤلف إنه يفطر والصحيح أنه لا يفطر لأنه ليس
أكلاً ولا شرباًَ ولا بمعني الاكل والشرب وقوله (طعنه غيره بإذنه) هل
يجوز للغير أن يطعنه إذا أذن له؟ لو قال يا فلان جزاك الله خيراً خذ
هذه السكين اطعن بطني يجوز أولا؟ لا لا يجوز بل يجب عليه أن يمنعه من
ذلك حتى لو رآه يريد أن يطعن نفسه وهو قادر على منعه وجب عليه أن يمنعه
لأن هذا من باب إنكار المنكر ومن باب إنقاذ المعصوم لكن الفقهاء رحمهم
الله يذكرون المسائل في كل باب بحسبه لو جاءت هذه في الجنايات لقالوا
إنه يحرم ولا يجوز لكن الكلام على أنه هل يحصل الفطر بذلك أو لا؟
الصحيح لا أما كلام المؤلف فنعم.
(أو قطر في أذنه فوصل إلى دماغه) فإنه يفطر
أيضاً لأن الدماغ أحد الجوفين لكنه الجوف الأعلى والمعدة الجوف الأسفل
فإذا قطر في أذنه فوصل إلى دماغه فإنه يفطر والصحيح أنه لا يفطر لأن
هذا ليس أكلاً ولا شرباً ولا بمعنى الأكل والشرب ولا يصل إلى مكان
الأكل والشرب (لأنه إذا بطل بالسعوط دل على أنه يبطل بكل واصل من أي
موضع كان أو داوى مأمومة بما يصل إليه أفطر) المأمومة هي الجرح الذي في
الرأس ووصل إلى أم الدماغ وأم الدماغ في جوف الرأس فإذا دواى المأمومة
ووصل إلى الدماغ فإنه يفطر بناء على القياس الذي ذكره المؤلف أنه جوف
فما وصل إليه فهو كالواصل إلى المعدة وهذا قياس ليس بصحيح فالصواب أنه
لا يفطر بذلك وقوله (أفطر بالسعوط) ما هو السعوط؟ السعوط من الأنف
فيقال في الجواب عن هذا
أولاً أن السعوط ورد في النص ما يدل على أنه طريقٌ يحصل به الفطر وهو
حديث لقيط بن صبرة (بالغ في الاستشناق إلا أن تكون صائماً).
ثانياً أن السعوط إذا أدخل من الأنف شيء فإنه يصل إلى المعدة ويتغذى به
الإنسان.
ثالثاً: أنه مما جرت العادة بإيصال الطعام منه إلى المعدة جرت به
العادة وهومنفذ واضح يصل إلى المعدة فقياس ما سواه عليه قياس مع الفارق
والقياس مع الفارق لا عبرة به.
القارئ: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر لأن العين منفذ لذلك يجد
المكتحل مرارة الكحل في حلقه ويخرج أجزاؤه في نخاعته وإن شك في وصوله
لكونه يسيراً كالميل ونحوه لم يفطر نص عليه وإن أقطر في إحليله شيئاً
أو أدخل ميلاً لم يبطل صومه لأن ما يصل المثانة لا يصل إلى الجوف ولا
منفذ بينهما إنما يخرج البول رشحا فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئاًَ
وإن ابتلع ما بين أسنانه أفطر لأنه واصل من خارج يمكن التحرز عنه فأشبه
اللقمة.
الشيخ: المسألة الأولى إن اكتحل فوصل الكحل
إلى حلقه فإنه يفطر والصحيح أنه لا يفطر بالكحل ولو وصل إلى حلقه ولو
نزل إلى معدته وذلك لأن العين ليست منفذاً وقول المؤلف إنها منفذ فيه
نظر حتى لو قدر أن الكحل يسري في العروق حتى يصل إلى الحلق فإن هذا ليس
منفذاً معتاداً للأكل والشرب فليس أكلاً ولا شرباًَ ولا بمعنى الأكل
والشرب ثم يقال ينتقض عليكم بما ذكرتموه أن الإنسان لو وطيء على حنظل
والحنظل معروف فإنه إذا فُقيء الحنظل يجد طعمه في حلقه يدخل مع المسام
حتى يصل إلى الحلق ومع ذلك يقولون إنه لا يفطر لأن الرِّجل ليست منفذاً
معتاداً فيقال والعين أيضاً ليست منفذا معتاداً وعلى هذا فيجوز للصائم
أن يكتحل ولو بما يصل إلى حلقه ولا شيء عليه لكن إذا وصل إلى حلقه وأحس
بطعمه ووصل الطعم إلى الفم فإنه يجب عليه أن يتفله فإن لم يفعل وابتلعه
صار مفطراًُ بذلك، بقي عندنا لو أن إنساناً أُدخل في معدته الكشاف كشاف
دقيق يسمى بلغة الطب "منظار" لو أدخل في معدته منظار وهو صائم هل يفطر
أو لا؟ في هذا تفصيل إن كان في هذا المنظار أدوية لتسهيل مروره فإنه
يفطر لأن هذا الدواء سوف يباشر المعدة وهو قد دخل من الفم وإن لم يكن
فيه شيء فإنه لا يفطر لأن هذا المنظار سوف يخرج لن يبقى في المعدة
ولئلا يقال ما الفرق بينه وبين الخرز لو ابتلع خرزا فإنه يفطر فما
الفرق بينهما؟ نقول: الفرق أن هذا سوف يخرج من المعدة فلا يبقى فيها،
على كل حال متى ما صحبه شيء صار مفطرا فلا يجوز استعماله للصائم في
رمضان ويؤخر إلى الليل وإلا فالأمر واسع وإذا ابتلع ما بين أسنانه سواء
عن طريق الخلال أو عن طريق اللسان يعني حاول بلسانه أن يخرج ما بين
أسنانه وابتلعه أو عن طريق الخلال فإنه يفطر لأنه ابتلع طعاماً ولو كان
قليلا لكن ذكر الفقهاء مسألة هنا في مسألة ابتلاع ما بين الأسنان قالوا
إذا أخرجه بالخلال فلا يبتلعه حتى في غير الصيام وإن أخرجه بلسانه
ابتلعه اذا
لم يكن صائماً ولا يظهر لي وجه التفريق بين
هذا وهذا والأولى أن لا يبتلعه إذا كان يخشى أن يكون قد تلوث بأوساخ
الأسنان ومن هنا نعلم أن الإنسان لو ابتلع ما بين أسنانه من لحم الإبل
انتقض وضوؤه مع أنه شيء يسير لأنه يسمى أكلاً وإن كان يسيراً.
السائل: وإن استنشق بخوراً فما الحكم؟
الشيخ: إذا استنشق بخورا فإنه إن كان يصل إلى جوفه فلا يجوز لأنه في
معنى الشرب لأنه أجزاء ولهذا لو استنشق طيبا وشم طيباً فإنه لا يفطر
لأنه ليس له أجزاء تتصاعد وتدخل في الجوف.
السائل: ما حكم استخدام بخاخ الربو للمريض؟
الشيخ: بعض الناس يصاب بضيق التنفس فيضخ بمضخة لكن قالوا إن هذه ما تصل
إلى المعدة وإنما تفتح القنوات الهوائية فقط وقد صدرت فتوى من دار
الإفتاء أنها لا تفطر وهو الذي نفتي به لكن هناك شيء أظنه كلبسات هذا
الغبار يدخل في الجوف فلا يستعمل إلا إذا كان الإنسان مريضاً فإنه يفطر
ويستعمله فإن كان يرجى زوال هذا المرض ينتظر حتى يزول وإن كان لا يرجى
أطعم عن كل يوم مسكين.
السائل: في مسألة البخور لو نظرنا إلى العلة التي ذكرها النبي عليه
الصلاة والسلام وهو أنه (يدع طعامه وشرابه وشهوته) والبخور ليس طعاما
ولا شرابا لأن الإنسان لا يتغذى أو يشبع أو يروى إذا شم البخور؟
الشيخ: ليس بشرط أن يكون شراباً نافعاً ولهذا لو أنه ابتلع حصاة أو
خرزة فإنه يفطر فإذا أدخلت أي شيء ولو كان لا ينتفع به الجسم لو بلع
الإنسان الخرزة السبحة ما فيها نفع إطلاقاً تخرج كما هي صار مفطراً.
السائل: أحسن الله إليك لكن دلالة الأحاديث على مثل هذه المسألة
الفرعية من أي وجه؟
الشيخ: العموم فهذه تعتبر طعاماً أو شراباًَ لكنها هي لا تنفع ليس بشرط
أن ينتفع وإلا كان نقول يجوز للإنسان أن يبلع الأشياء التي ما لها غذاء
مثل العلوك وغيرها.
فصلٌ
القارئ: وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع
ريقه وغربلة الدقيق وغبار الطريق والذبابة تدخل في حلقه لا يفطِّره لأن
التحرز منه لا يدخل تحت الوسع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
الشيخ: الذي لا يمكن التحرز منه ولم يقصده الإنسان فهذا لا يضر أما لو
تقصده فينظر إذا دخل من أنفه ووصل إلى جوفه فإنه يفطِّر فلو أن إنساناً
مثلاً يغربل الدقيق وجعل يستنشقه عمداً حتى وصل إلى جوفه فإنه يفطر
بذلك لأنه تعمد إدخال هذه الأجزاء من الدقيق إلى جوفه أما إذا كان لا
يمكن التحرز منه فإنه لا يضر.
القارئ: وإن جمع ريقه ثم ابتلعه لم يفطر لأنه يصل من معدته أشبه ما لو
لم يجمعه وفيه وجه أخر أنه يفطره لإمكان التحرز منه.
الشيخ: الصحيح أنه لا يفطِّره لأنه لم يُدخِل شيئاً من الخارج بل هذا
ريقه جمعه وابتلعه، وإن كان الفم له حكم الظاهر لأن الفم حكمه حكم
الظاهر ولذلك لو أنه تمضمض بالماء فإنه لا يضره ولهذا تجب المضمضة في
الوضوء وفي الغسل لأنه في حكم الظاهر.
القارئ: وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان إحداهما يفطر لأنها من غير
الفم أشبه القيء والثانية لا يفطر لأنها لا تصل من خارج وهي معتادة في
الفم أشبه الريق.
الشيخ: النخامة الصحيح أنه لا يفطر بها
لأنها لم تدخل من خارج بل هي من البدن ولكن لا يجوز أن يبتلع النخامة
إذا وصلت إلى فمه لأنها مستقذرة وقد نص الفقهاء رحمهم الله على أن بلع
النخامة إذا وصلت إلى الفم حرام لاستقذارها واستهجانها وربما تحمل
إمراضاً تتأثر بها المعدة فلذلك نقول إنه يحرم ولكن الكلام على أنها هل
تفطر أولا؟ الصحيح أنها لا تفطر وهذا في النخامة التي تصل إلى الفم
فأما النخامة التي تنزل من الخياشيم إلى الحلق فهذه لا تفطر قولاً
واحداً لأنها لم تصل إلى شيء في حكم الظاهر فلم تدخل إلى البدن من خارج
فلا تفطر حتى على المشهور من المذهب وما يفعله بعض الموسوسين الذين
يشددون على أنفسهم إذا أحس بالنخامة من خياشيمه إلى حلقه جعل يحاول
إخراجها فهذا غلط يقال أولاً أن هذا لا يضرك وثانيا أن هذا من باب
التشديد والتنطع بالعبادة والتشديد والتنطع بالعبادة مما نهي عنه.
القارئ: ومن أخرج ريقه من فمه ثم ابتلعه أو بلع ريق غيره أفطر لأنه
بلعه من غير فمه أشبه ما لو بلع ماءً.
الشيخ: هذا صحيح إذا أخرج الريق إلى الشفتين ثم عاد فابتلعه فهذا يفطر
لأنه انفصل من الفم وكذلك لو أخرج السواك بعد أن تسوك ثم أعاده مرة
ثانية إلى الفم وفيه ريق ثم امتصه في فمه وبلع الريق فإنه يفطر.
القارئ: ومن أخرج درهماً من فمه ثم أدخله وبلع ريقه لم يفطر لأنه لا
يتحقق ابتلاع البلل الذي كان عليه ولذلك لا يفطر بابتلاع ريقه بعد
المضمضة والتسوك بالعود الرطب ولا بإخراج لسانه ثم إعادته.
الشيخ: من أخرج درهما من فيه ثم أدخله وبلع
ريقه لم يفطر لأنه لا يتحقق ابتلاع البلل والدرهم هي النقود من الفضة
هذا إنسان وضع في فمه درهماً ثم أخرجه ثم أعاده في فمه مرة ثانية وهذا
ربما يستعمله بعض الناس لتنظيف الدرهم ربما يكون فيه وسخ فيدخله في فمه
ويحركه بلسانه من أجل أن يتنظف فهذا الرجل أخرج الدرهم فوجد أنه ما زال
فيه وسخاً فأدخله ثانية فهذا لا يفطر لأنه كما قال المؤلف لا يتقين
انفصال شيءٍ من الريق دخل إلى الجوف كما أن الرجل لو تمضمض فإنه لا
يلزمه أن يتفل ريقه كما يفعله بعض الموسوسين بل نقول إذا توضأت ومججت
الماء فلا تكلف نفسك بعدها حتى لو أحسست بطعم الماء في فمك فإنه لا
يضرك وهذا هو ظاهر هدي الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح أنهم لا
يتكلفون ولا يتنطعون في دين الله يقول المؤلف (ولذلك لا يفطر بابتلاع
ريقه بعد المضمضة والتسوك بالعود الرطب) التسوك بالعود الرطب بشرط ألا
يكون له طعم فإنه لا يضره لأنه وإن كان رطباً ليس جافاً لا يتحقق
الإنسان أن هذه الرطوبة انفصلت من السواك ودخلت في جوفه أما لو كان له
طعم وابتلع الطعم فإنه يفطر لأننا نتحقق أن جزءاً منه دخل في جوفه يقول
رحمه الله (ولا بإخراج لسانه ثم اعادته) انسان أخرج لسانه وهو رطب عليه
الريق ثم أعاده ولنفرض أنه جمع ريقه على لسانه ثم أخرجه ثم رده لماذا
لايفطر؟ لأنه لم ينفصل بخلاف الذي أخرج ريقه إلى ما بين شفتيه ثم أعاده
فهذا فارق محله ودخل من خارج فيكون مفطراً.
القارئ: ولو سال فمه دما أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر لأن الفم
في حكم الظاهر وإن أخرجه ثم ابتلع ريقه ومعه شيء من النجس أفطر وإلا
فلا.
الشيخ: عندنا بالمخطوطة (منجس) نسخة
والمسألة هذه يقول (إذا سال فمه دماً) وهذا يحصل لبعض الناس تكون لثته
رديئة إذا تسوك خرج الدم فهنا يجب أن تنتبه لهذا إذا حصل فلا تبتلعه
لأن الدم ليس مما يخرج من الفم ليس معتاداً ًفإن بلعته وأنت عالم
بالحكم فإنه سوف يأتينا إن شاء الله أنه من شروط المفطرات العلم فإنك
تفطر ولكن هل يجوز أن يبتلع الإنسان هذا الدم؟ لا ولو كان غير صائم
لعموم قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وكذلك
أيضاً (لو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر) القلس ما يخرج من المعدة
عند التجشي مثلاً إنسان تجشى فخرج منه قلس وهو ما دون ملئ الفم ثم
ابتلعه فإنه يفطر لأن هذا القلس وصل إلى الفم والفم في حكم الظاهر ثم
عاد إلى الجوف فيفطر بذلك وكذلك القيء والقيء ما كان ملء الفم أو أكثر
فمثلاً إنسان خرج منه قيء يعني أحس باضطراب المعدة حتى خرج ما فيها أو
بعضه ثم ما بقي ابتلعه فإنه يفطر ووجه ذلك ظاهر أن هذا الطعام أو
الشراب خرج إلى ما كان في حكم الظاهر وهو الفم ثم عاد إلى المعدة فكان
مفطراً، (وإن أخرجه ثم ابتلع ريقه ومعه شيء من المنجس أفطر وإلا فلا)
إن أخرجه ضد إزدرده يعني أخرج هذا القيء أو القلس أو الدم ثم ابتلع
ريقه فإن كان معه شيء من القلس أو القيء أو الدم أفطر وإن لم يختلط به
شيء فإنه لا يفطر وهذا واضح وقول المؤلف (من المنجس) يدل على أن دم
الآدمي وقيئه وقلسه نجس وهذه فيها خلاف بين العلماء وليس هناك دليل على
نجاسة دم الآدمي إلا ما خرج من السبيل القبل أو الدبر وليس هناك دليل
أيضاً على نجاسة القيء ومن المعلوم أن القيء يكثر مع الناس ولو كان
نجساً لكان مما تتوافر الدواعي على نقل تطهيره ومن المعلوم أيضاًَ أن
الأطفال الصغار يتقيئون بين أيدي أمهاتهم ولم يرد عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه أمر بغسل قيئه لكن البول أمر بغسله وبين حكمه وسكوته عن
القيء دليل على أنه ليس بنجس ومن
المعلوم أن القاعدة العامة عندنا أن الأصل
في الأشياء الطهارة فلا ينجس شيء منها إلا بدليل والأصل في الأشياء
الحل فلا يحرم شيء منها الا بدليل إلا العبادات فالأصل فيها الحظر
والمنع إلا بدليل مشروعية والله أعلم.
فصلٌ
القارئ: ومن استقاء عمداً أفطر ومن ذرعه فلا شيء عليه لما روى أبو
هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ذرعه القيء
فلا قضاء عليه).
الشيخ: عندي بالمخطوطة (فليس عليه قضاء) نسخة.
القارئ: ومن استقاء عمداً فليقض) حديث حسن وإن حجّم أو إحتّجم أفطر
لقوله صلى الله عليه وسلم (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه عن النبي صلى
الله عليه وسلم أحد عشر نفسا وقال أحمد حديث ثوبان وشداد بن أوس
صحيحان.
الشيخ: هذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله شيئين مما يحصل بهما الفطر
الأول القيء وهو معروف والثاني الحجامة.
أما القيء فقد قسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين قسم غلب وقسم
طُلب فما غلب فإنه لا يفطر لأنه بغير اختيار الإنسان وما طلب فإنه يفطر
أما الأول وهو ماغلب فإنه لا يفطر فعلته ظاهره وهو أن الإنسان لم يختره
ولم يرده ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وأما الثاني فوجهه أنه إذا طلب
القيء فقاء خلت معدته من الطعام فلحقه الضعف الذي قد لا يستطيع أن يكمل
صومه إلا بمشقة فكان من رحمة الله تعالى أن جعل القيء عمداً مفطراً
وإذا كان مفطراً قلنا إن كان الصوم واجباً حرم الاستقاء وإن كان نفلاً
جاز الاستقاء وقلنا له كل واشرب حفاظاً على صحته فتبين بذلك أن الفطر
بالقيء المتعمد هو وجه النظر والقياس.
وأما الحجامة فنقول إذا حجم الإنسان فإنه
سوف يكون باختياره أو احتجم أي طلب من يحجمه فسيكون أيضا باختياره
ولهذا لم يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم كما قسم القيء بل قال (أفطر
الحاجم والمحجوم) والحديث صححه الإمام أحمد وغيره ولا معارض له على وجه
صحيح وفي حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهومحرم
واحتجم وهو صائم) وفيه كلام للعلماء فليس معارضاً صحيحاً ونقول أما فطر
المحجوم فظاهر مناسبته للحكمة والغاية الحميدة التي جاءت بها الشريعة
لأن المحجوم سينزف منه دمٌ كثير ومعلوم أن هذا يضعف البدن ويرهق البدن
فمن رحمة الله بعباده أن من احتجم أفطر وحينئذ نقول إن كان احتجامه
لضرورة جاز في الفرض والنفل ونقول له الآن كل واشرب وإن كان لغير ضرورة
حرم في الفرض وجاز في النفل ونقول لمن كان متنفلا وأراد أن يحتجم احتجم
ولكن كل واشرب لأنك أفطرت من أجل أن تعيد للبدن قوته فكان هذا مناسباً
تماماً للحكمة لكن ما هي الحكمة في الحاجم؟ الحاجم لم يخرج منه دم قال
بعض أهل العلم إن هذا تعبد ما ندري لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(أفطر الحاجم) وقلنا سمعاً وطاعة وعلى العين والرأس أما ما الحكمة؟
فعقولنا أقصر من أن تدرك جميع حكم الله ولا ندري لكننا نتعبد لله بذلك
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الحكمة أن الحاجم حسب الطريقة
المعروفة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لابد أن يمص القارورة التي
يحجم بها وعند المص لا بد أن يصعد إليه شيء من دم الإنسان من غير أن
يشعر بدخوله لكن تعمد أن يمص وهو يعرف أنه لا بد أن يجتذب نفسه شيئاً
من الدم وإذا وصل إلى معدته شيء من الدم أو غير الدم فإنه يفطر فإن
كانت هذه العلة مستقيمة فذاك وإن لم تكن العلة مستقيمة فالعلة طاعة
الله ورسوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ) ونحن
عبيد مربوبون إذا قال ربنا شيئاً وإذا قال
رسوله شيئاً قلنا سمعاً وطاعة ربما يكون تعبد الإنسان بما لا يعقل
حكمته أبلغ من تعبده بما يعقل حكمته لأنه إذا تعبد ما يعقل حكمته حمله
على التعبد بذلك السمع والعقل إذا كان يعقل حكمته واذا كان لا يعقل صار
أشد انقياداً وذلاً للشرع لأنه يتعبد لله بما لا يعقل معناه لا يتعبد
إلا لمجرد السمع والطاعة إذاً هذان نوعان مما يفطر وهما القيء عمداً لا
بد أن تقيد والثاني الحجامة ولكن يسأل بعض الناس إذا هاجت كبده أي
معدته فهل عليه أن يمسكها وهل له أن يستقيء حتى يستريح؟ لأنه أحياناًُ
تموج وتهيج المعدة ويحب الإنسان أن يستقيئ فهل نقول يلزمك أن تمسكها
وتردها إذا كان صومك فرضاً أو نقول إذا هاجت وماجت فاستخرجها حتى لا
تكون ضرراً عليك؟ الجواب إذا كان هناك ضرر لا شك أنا نقول استخرجها
وأفطر ولكن إذا كان ما فيه ضرر فهنا نقول لا تستخرجها ولا تردها إن
غلبتك فدعها وإن سكنت فلا تستخرجها وقال بعض العلماء القول بالإفطار
بالقيء والحجامة قولٌ على خلاف القياس فلا يعمل به لأن الإفطار بما دخل
لا بما خرج كما أن الوضوء مما خرج لا مما دخل سبحان الله من أين جاءت
القواعد هذه؟ فالوضوء مما خرج لا مما دخل لئلا ينتقض الوضوء بلحم الإبل
لأن لحم الإبل داخل وهنا قالوا الفطر بما دخل لا بما خرج لئلا يبطل
الصوم بالحجامة والقيء فنقول عفا الله عنكم إننا لا يمكن أن نعارض قول
الله ورسوله بمثل هذه التعليلات العليلة ومن أين أخذتم هذه القواعد؟
أمن الكتاب؟ أو من السنة؟ أو من الإجماع؟ من قال هذا؟ نقض الوضوء بما
جعله الشرع ناقضاً سواء كان داخلا أو خارجا والإفطار بما جعله الشارع
مفطراً سواءً داخلاً أم خارجاً هذا الصواب أما أن نقعد قواعد ليس لها
إلا مجرد طرد في أكثر المسائل هذا ليس بصحيح.
صحيح أن أكثر ما ينقض إذا خرج لا ما دخل
لكن إذا جاءت السنة لابد أن نقول بها وكذلك في مسألة الفطر أن الأكثر
مما دخل لا مما خرج لكن مع ذلك يفطر ثم نقول لهم ما تقولون لو استمنى
فأمنى أيفطر أم لا؟ وهو مما خرج المهم على كل حال أنه لا يمكن لإنسان
عارض الكتاب والسنة إلا وجدت في قوله خللاً أول خلل المخالفة ثم النقض
بالعلل والحكم التي هو يقر بها على كل حال الصحيح أن من استقاء عمداً
أفطر ومن غلبه القيء فلا يفطر وأن من حجم أو احتجم فانه يفطر.
فائدة: شيخ الإسلام رحمه الله له رسالة صغيرة اسمها حقيقة الصيام مفيدة
جداً لطالب العلم لو رجعتم إليها استفدتم إن شاء الله.
فصلٌ
القارئ: وتحرم المباشرة للآية فإن باشر فيما دون الفرج أو قبل أو لمس
فأنزل فسد صومه فإن لم ينزل لم يفسد لما روي عن عمر رضي الله عنه قال
قلت يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم قال (أرأيت
لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟) قلت لا بأس قال (فمه؟) رواه أبو داود،
شبه القبلة بالمضمضة لأنها من مقدمات الشهوة والمضمضة إذا لم يكن معها
نزول الماء لم يفطر كذلك القبلة.
الشيخ: عندنا بالمخطوطة (لكونها من
مقدماته) نسخة، هذه المسألة يقول تحرم عليه المباشرة للآية الحكم
التحريم والدليل الآية فلننظر هل الآية تدل على التحريم ننظر يقول الله
تعالى (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إلى آخر الآية، لكن المباشرة التي في القرآن
والملامسة التي في القرآن لا تكون إلا للجماع كل مواضع ذكر المباشرة في
القرآن والملامسة في القرآن للجماع فقوله (بَاشِرُوهُنَّ) أي جامعوهنّ
كما يدل على ذلك سبب نزول الآية أنه الجماع وعلى هذا فلا دليل في الآية
على ما قال ثم ظاهر كلامه رحمه الله أن المباشرة حرام لمن تحرك شهوته
ولمن لا تحرك هذا أيضاً ليس بصحيح ويدل عليه حديث عمر حيث قال رضي الله
عنه للنبي صلى الله عليه وسلم (صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم
قال أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم قلت فلا بأس قال فمه؟) يعني فما الذي
يجعلك تفطر مثلاً أو نقول مه بمعنى كف عن السؤال فبين الرسول عليه
الصلاة والسلام أن ذلك لا بأس به كما لو تمضمض الإنسان فإنه لا يفطر
كذلك لو قبل فإنه لا يفطر ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن قبلة
الصائم فأشار إلى أم سلمة وبينت أنه كان يقبل فقيل يا رسول الله أنت
غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال إني لأعلمك بالله وأتقاكم
له) أو كلمة نحوها فهذا دليل على جواز القبلة للصائم حتى وإن كان بشهوة
حتى ولو أمذى على القول الصحيح لأن الله تعالى وسَّع على العباد
والإنسان ولا سيما الشاب قد لا يستطيع أن يبقى من طلوع الفجر إلى غروب
الشمس يستمتع بأهله لكن إذا عرف الإنسان من نفسه أنه سريع الإنزال
وشديد المحبة لأهله فهنا نقول اترك التقبيل لأن هذا عرضة إلى إفساد
الصوم وهي وسيلة قريبة كثير من الناس ليس سريع الإنزال أو قوي الشهوة
أو ليس شديد المحبة لأهله فلا يحصل الإنزال بسرعة فالصواب إذاً أن
القبلة حلال سواء كانت بشهوة
أوبغير شهوة ودليل ذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يستفصل عمر رضي الله عنه هل أنت فعلت ذلك بشهوة أم لا؟ بل
ظاهر حديث عمر صنعتُ شيئاً عظيماً أنها كانت بشهوة.
القارئ: ولو احتلم لم يفسد صومه لأنه يخرج من غير اختياره.
الشيخ: أفاد المؤلف رحمه الله بأن ما يحصل للصائم بغير اختياره من
المفطرات لا يفسد الصوم وهو كذلك فلو احتلم الإنسان وهو نائم صائم فلا
شيء عليه حتى لو فرض أنه نام على تفكير يفكر في الجماع وانتشر ذكره
ونام على هذه الحال فإنه لا يفطر لأنه حين إنزال المني ليس مختاراً
لذلك.
القارئ: وإن جامع ليلاً فأنزل نهاراً لم يفطر لأن مجرد الإنزال لا يفطر
كالاحتلام وإن كرر النظر فأنزل فسد صومه لأنه إنزال عن فعل في الصوم
أمكن التحرز عنه أشبه الإنزال باللمس وإن صرف بصره فأنزل لم يفطر لأنه
لا يمكن التحرز عنه وإن أنزل بالفكر لم يفطر لذلك وإن استمنى بيده
فأنزل أفطر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه القبلة وسواء في هذا كله المني
والمذي لأنه خارج تخلله الشهوة انضم إلى المباشرة به فأفطر به كالمني
إلا في تكرار النظر فلا يفطر إلا بإنزال المني في ظاهر كلامه لأنه ليس
بمباشرة.
الشيخ: خلاصة هذه الجمل أنه إذا أنزل عن
فعل وهو يقظان فسد صومه سواء كان الفعل بيده أو بتدحرجه على الأرض أو
ما أشبه ذلك وإذا أنزل بغير فعل فإنه لا يفسد صومه مثل أن يفكر فينزل
فإنه لا يفسد صومه لأنه لا فعل منه وإذا أنزل بنظر فإن كان بنظرة واحدة
وصرف بصره فإنه لا يفطر وإن كان بتكرار النظر فإنه يفطر والمذي
كالإنزال إلا في تكرار النظر فإنه إذا أمذى به فإنه لا يفطر بخلاف
الإمناء والصحيح أنه لا يفطر بالمذي مطلقا وأن الإنسان لو باشر زوجته
بتقبل أو ضم أو ما أشبه ذلك فأنزل مذياً فإنه لا يفطر. لعدم وجود
الدليل على ذلك بقي أن يقال والمني أيضاً لا يفطر به حتى ولو كان بفعله
لأنه ليس هناك دليل على ذلك؟ فيقال نعم هو ليس هناك دليل واضح في هذه
المسألة لكن قد يستدل على ذلك بقوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي
(إنه ترك طعامه وشاربه وشهوته من أجلي)، والمني شهوة بدليل قول النبي
صلى الله عليه وسلم (وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي
أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أراءيتم لو وضعها في حرام أكان
عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) ومعلوم أن الذي يوضع هو
المني ففي هذا الحديث والذي قبله إذا ضم بعضهما إلى بعض ما يدل على أن
إنزال المني إذا كان من فعله فإنه يفطر وأما قول المؤلف (فإن جامع
ليلاً فأنزل نهارا) فمراده بذلك المني الذي كان من الجماع الأول وأما
إذا أنزل نهاراً بفعل جديد فعلى ما سمعتم لكن ربما يجامع الإنسان ويخرج
المني لكن لايتكامل خروجه ثم يبقى شيء يخرج بعد طلوع الفجر.
السائل: إذا تبرع الصائم بالدم فهل هو كالحجامة؟
الشيخ: أحسنت هذا سؤال جيد يقول إذا تبرع
الإنسان بدمه وهو صائم فهل هو كالمحجوم؟ الجواب نعم إذا أخذ منه كثير
بقدر دم الحجامة بحيث يضعف به البدن فإنه يفطر وحينئذ نقول إذا كان
الصوم واجباًُ فإنه لا يجوز أن يأذن بسحبه منه إلا إذا كان الثاني
مضطراً فحينئذ نقول لا بأس أن يسحب منك وافطر أما إذا كان نفلاً فالأمر
واسع وإذا كان الثاني غير مضطر فإنه لا يسحب منه ينتظر إلى الليل.
السائل: بالنسبة للدكتور الذي يسحب الدم؟
الشيخ: هذا سؤال جيد يقول بالنسبة للدكتور الذي يسحب الدم هل نقول هو
كالحاجم يفطر؟ على الراجح لا يفطر أما على المذهب فإنه يفطر فلأنهم
يقولون إن إخراج الدم بغير الحجامة لا يفطر حتى لو أخرج الإنسان أكثر
من دم الحجامة فإنه لا يفطر لأنهم يرون أن المسالة تعبدية فيقتصر على
ما جاء به النص وأما على رأي شيخ الإسلام فشيخ الإسلام يطرد القاعدة
يقول حتى الحاجم لو حجم بآلة بدون مص فإنه لا يفطر كذلك الطبيب.
السائل: بارك الله فيكم ما يؤخذ للحرارة لو أخذه الصائم كتحميله من
أسفل فهل تفطر؟
الشيخ: الصحيح أنها لا تفطر بناءً على أن الحقنة لا تفطر فالحقنة على
قاعدة المذهب تفطر لأن الحقنة عند أهل المذهب مفطرة.
السائل: من ذرعه القيء وهو يصلي هل يخرج من الصلاة أو يمسكها في سره أو
ماذا يفعل؟
الشيخ: هو إذا كان لا يمكن فليخرج من الصلاة خصوصاً على قول من يرى أن
القيء إذا كان كثيراً نقض الوضوء فهذا لابد من الخروج وهو أيضاً لو بقي
يلوث المسجد فيتعدى ضرره.
السائل: ما رأيكم في حديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة
بالحجامة؟
الشيخ: حديث أبي سعيد أنه أذن فيها لا يدل على هذا وحتى هذا الحديث
يكون ضعيفاً لأن حديث أوس وشداد أصح منه على كل حال أنا أحلتكم على
رسالة حقيقة الصيام لشيخ الإسلام ففيها فوائد جمة ما تجدونها في غيرها.
السائل: عرفنا أن الحجامة تفطر ولكن ما حكمها على الصائم؟
الشيخ: محرمة على الصائم الفرض إلا للضرورة
يعني أحياناً يهيج الدم بالإنسان حتى يغمى فحينئذ لا بأس عليه أن
يحتجم.
مسألة: سبق لنا أن الإمذاء لا يفطر به الصائم ولو حصل عن تقبيل أو
مباشرة ونحو ذلك لعدم الدليل والقاعدة أن ما ثبت بدليل لا ينقض إلا
بدليل فهذا الرجل صائم يعني بمقتضى الشريعة فلا يمكن أن نفسده إلا
بدليل وسبق لنا أن الإمناء يفطر به الصائم كما هو قول جمهور الأمة
والمذاهب الأربعة وذكرنا الدليل وأن دلالته خفية وأنها مركبة من
دليلين.
فصلٌ
القارئ: وما فعل من هذا ناسياً لم يفطره لما روى أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه
فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه وفي لفظ (فلا يفطر فإنما هو رزق
رزقه الله تعالى) فنص على الأكل والشرب وقسنا عليه سائر ما ذكرناه.
الشيخ: هذا دليل خاص في أن من فعل مفطراً
ناسياً فلا شيء عليه ولدينا دليل عام وهو قوله تبارك وتعالى (رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله تعالى قد
فعلت وقال صلى الله عليه وسلم (إنما أطعمه الله وسقاه) يؤخذ منه فائدة
عظيمة وهي أن الناسي لا يضاف فعله إليه ولو فعله إنما ذلك من عند الله
عز وجل ويقول المؤلف رحمه الله وقسنا عليه سائر ما ذكرناه بقي عليه
واحد لم يذكره وهوالجماع وسيأتينا إن شاء الله قول المؤلف فيه ولكن
القول الصحيح أن الجماع كغيره وأن الإنسان لو جامع زوجته ناسياً فإنه
لا قضاء عليه ولا كفارة عليه لعموم الأدلة وإنما خص النبي صلى الله
عليه وسلم الأكل والشرب لأنه أكثر فنصف الناس ليس عندهم زوجات ومن
عندهم زوجات فأكثر مايكون لديهم هو الأكل والشرب فتخصيصه بذلك لأنه
الغالب وإلا فلو أن الإنسان نسي وجامع زوجته فإنه لا شيء عليه وقال
بعضهم بل عليه الكفارة والقضاء لأن النسيان في الجماع نادر ولأنه لو
نسي لم تنس زوجته فيقال قد يكون صائماً تطوعاً وزوجته مفطرة فلا تظن
أنه صائم ولكن هذا لا يفيد لأن صوم التطوع ليس فيه كفارة ولكن على كلام
الفقهاء يبطل صومه والصحيح أن القاعدة مطردة كل محظور فعله الإنسان
ناسياً فإنه لا يضره لا بإفساد العبادة ولا بالكفارة المرتبة على ذلك
الفعل.
القارئ: وإن فعله مكرها لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم (من ذرعه
القيء فليس عليه قضاء) فنقيس عليه ماعداه.
الشيخ: هذا دليل خاص لكنه دليل بقياس وإذا أردنا أن نجعل المسألة من
باب القياس فالأولى أن نأتي بالآية (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فإنه إذا كان يعذر بالإكراه على
الكفر فما دونه من باب أولى.
القارئ: وإن فعله وهو نائم لم يفطر لأنه
أبلغ في العذر من الناسي.
الشيخ: هذا أيضا كذلك لو فعله وهو نائم فإنه لا يفطر يعني لو قبل زوجته
وهو نائم وأنزل أو ما أشبه ذلك فإنه لا يفطر بهذا لأن النائم لا ينسب
إليه فعل بدليل قوله تبارك وتعالى في أصحاب الكهف (وَنُقَلِّبُهُمْ
ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) فأضاف تقليبهم إليه مع أنهم هم
الذين يتقلبون لكنهم لما كانوا نائمين لم ينسب الفعل إليهم فان قال
قائل ما تقولون فيما لو انقلب نائم على طفل فقتله؟ الجواب عليه الدية
والكفارة وذلك لأن قتل النفس لعظمه لا يشترط به القصد.
القارئ: وإن فعله جاهلاً بتحريمه أفطر لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (أفطر الحاجم والمحجوم) في حق رجلين رآهما يفعلان ذلك مع جهلهما
بالتحريم ولأنه نوع جهل فلم يعذر به كالجهل بالوقت وذكر أبو الخطاب أنه
لا يفطر لأن الجهل عذر يمنع التأثم فيمنع الفطر كالنسيان.
الشيخ: هذا كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا
فعل هذه المفطرات جاهلاً فإنه لا يعذر فيفسد صومه وعليه القضاء واستدل
بحديث (أفطر الحاجم والمحجوم) وهما لا يعلمان أن الحجامة مفطرة ومع ذلك
قال (أفطر الحاجم والمحجوم) وقد أورد ابن القيم هذا الحديث على شيخه
الذي يقول إنه لا يفطر مع الجهل ولا يفسد صومه مع الجهل فقال إن الرسول
عليه الصلاة والسلام لم يقل أفطرتما فاقضيا فهو لم يخاطبهما وإنما ذكر
حكماً عاماً فمراده الجنس لا الشخص ثم هذان الرجلان نُظر في فعلهما إذا
انطبقت عليه الأدلة بأنه يجب عليهما القضاء أو أن صومهما فسد عملنا به
وإلا فلا وهذا الذي قاله الشيخ رحمه الله جواب سديد لأن الرسول لم يوجه
الخطاب إليهما ويقول أفطرتما إنما قال (أفطر الحاجم والمحجوم) ثم ينظر
في انطباق هذا الحكم على هذين الرجلين إذا كانا جاهلين فعندنا أدلة تدل
على أن الجهل يعذر به فالصواب أن الجهل يعذر به فلو فعل واحداً من هذه
المفطرات جاهلاً فإنه معذور لدينا أدلة عامة وأدلة خاصة الأدلة العامة
(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وقوله
(َلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الخاصة عدي بن حاتم رضي الله عنه كان يريد أن
يصوم وكان يقرأ الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)
فجعل تحت وسادته عقالين وهو الخيط الذي تربط به يد الناقة أحدهما أسود
والثاني أبيض وجعل يأكل ويشرب وينظر إلى العقالين فلما تبين له أحدهما
من الأخر أمسك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له (إن
وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود) لأن الخيط الأبيض والأسود
هما النهار والليل وهذه الوسادة تحتها الليل والنهار قاله النبي عليه
الصلاة والسلام من باب المداعبة فالرسول يعلم أنه لم يضع الليل
والنهار تحت الوسادة ولم يأمره بالقضاء
وهذا جهل بالحكم حيث فهم من الآية ما لم يقصد بها وأما قول المؤلف رحمه
الله انظر إلى التعليل والقياس يقول ولأنه نوع جهل فلم يعترف به كالجهل
بالوقت فقاس المختلف فيه على المختلف فيه والقياس من شرطه أن يكون
الأصل المقيس عليه متفقاً عليه بين الخصمين وهذا غير متفق عليه فنحن
نقول الجهل بالوقت أيضا عذر يمنع الصائم من فساد الصوم ودليل ذلك ما
رواه البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت أفطرنا في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس فهؤلاء أفطروا
جهلاً بالوقت ولم ينقل أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرهم بالقضاء
ولو كان القضاء من شرع الله لأمرهم به ولنقل لأنه شريعة لابد أن تبقى
فلما انتفى ذلك علم أن القضاء ليس بواجب وأما قول هشام بن عروة لما سئل
عن القضاء قال أو بدٌ من قضاء؟ يعني لا بد أن يقضوا فهذا رأيه وعروة
أبوه أفقه منه قال لا قضاء ومعلوم أنه إذا تنازع رجلان في مسألة
فالمرجع إلى الكتاب والسنة فالصواب أنه إذا أكل جاهلاً بالوقت سواء من
أخر الليل أو من أوله فإن صومه صحيح ولا يلزمه القضاء حتى في الجماع
ولهذا لو جامع ظناً منه أن الليل باقٍ فتبين أنه في نهار فصومه صحيح
ولا شيء عليه ومن جهل بوجوب القضاء وهو يدري أن هذا مفطر وأن هذا حرام
لكن لم يعلم أنه يلزمه القضاء فهل يلزمه؟ نعم يلزمه وكذلك لو جامع في
نهار رمضان وهو ممن يجب عليه الصوم ولم يعلم أنه يلزمه الكفارة فإن
الكفارة لاتسقط عنه لأن الجهل بالعقوبة ليس عذرا بل العذر هو الجهل
بالحكم ودليل ذلك قصة المجامع فإن المجامع لم يعلم بما يلزمه من
الكفارة ومع ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة.
القارئ: وإن تمضمض أو استنشق فدخل الماء
حلقه لم يفطر لأنه واصل بغير اختياره ولا تعديه فأشبه الذباب الداخل
حلقه وإن بالغ فيهما فوصل الماء ففيه وجهان أحدهما لا يفطر لأنه بغير
اختياره والثاني يفطر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه لقيط بن
صبره حفظاً للصوم فدل على أنه يفطره ولأنه تولد بسبب منهي عنه فأشبه
الإنزال عن مباشرة وإن زاد على الثلاث فيهما فوصل الماء فعلى الوجهين
وإن أكل يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع
أفطر لما روي عن حنظلة قال (كنا بالمدينة في رمضان وفي السماء سحاب
فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر بعض الناس ثم طلعت الشمس فقال عمر من
أفطر فليقض يوماً مكانه) رواه سعيد بن منصور بنحوه ولأنه أكل ذاكراً
مختارا فأفطر كما لو أكل يظن أن اليوم من شعبان فبان من رمضان.
الشيخ: ما ذكره رحمه الله في مسالة المبالغة الصحيح أنه لا يفطر لأن
المبالغ ما تعمد أن ينزل الماء إلى جوفه ولكن الماء تهرب فنزل إلى جوفه
كما أنه لو تمضمض تمضمضاًَ ليس شرعياً ليس عن وضوء ثم نزل الماء من هذه
المضمضة إلى جوفه فإنه لا يفطر.
وأما ما ذكره رحمه الله في مسألة الوقت إذا
أكل يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع أفطر
فهذا فيه نظر والصواب أنه لا يفطر في المسألتين وذلك لأنه فعل ما أُذن
له فيه أما من أكل ولم يتبين له طلوع الفجر ثم تبين فإنه أكل بأمر الله
لقوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ) فكيف نقول لشخص فعل
ما أمره الله به وأباحه له إنك مسيء فاقض، هذا بعيد مع أنه داخل في
عموم ما سبق (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا) وحديث عدي بن حاتم أيضاً يدل عليه لأن عدي بن حاتم أكل
بلا شك بعد أن طلع الفجر وارتفع وأما الثاني فأسأل الله أن يعفو عن
المؤلف أتى بأثر عمر وترك المرفوع حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنهما رواه البخاري (أنهم أفطروا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم ثم طلعت الشمس ولم يؤمروا بالقضاء) ثم إنه أيضاً ترك أثراً
عن عمر ربما يكون أصح من الذي رواه سعيد وهو أنه رضي الله عنه لما
سألوه أنقضي؟ قال إنا لم نتجانف لإثم وهذا الجواب قاعدة من قواعد
الشريعة يعني أننا فعلنا ما أحل لنا ومن فعل ما أحل له فإنه لا يؤثم
ولا يلزم بقضاء فيكون في هذه المسألة عن عمر روايتان رواية أمرهم
بالقضاء ورواية لم يأمرهم بالقضاء وبين لهم أنهم لم يتجانفوا لإثم فإما
أن تحمل رواية القضاء على الاحتياط وإما أن تحمل على أن هذا سنة وليس
بواجب أن عمر يرى أنه سنة وليس بواجب وعلى كل حال فرأي عمر رضي الله
عنه نأخذ بما وافق السنة وهو أنه لا قضاء وهذا هو الصحيح وحينئذ نقول
من شرط الفطر بالمفطرات عموماً حتى في الجماع شروط ثلاثة:
العلم وضده الجهل وسواءً كان الجهل في
الوقت أو الجهل في المفطر هل يفطر أو لا؟ والثاني الذكر وضده النسيان
والثالث الإرادة وضده الإكراه أوعدم الإرادة كالذي يطير إلى أنفه شيء
من الغبار أوالدخان أوما أشبه ذلك هذه الشروط الثلاثة هي التي تشترط
لإلزام الصائم بالقضاء في الواجب وإفساد الصوم سواءً كان واجباً أو
نفلاً فإذا تخلف واحد من هذه الشروط فالصوم صحيح ولايترتب عليه شيء لا
قضاء ولا كفارة.
السائل: متى يعذر بالجهل؟
الشيخ: الواجب تركه لا يعذر به الإنسان بدليل أن الرسول صلي الله عليه
وسلم لم يعذر المسيء في صلاته وهو جاهل قال (صلِّ فإنك لم تصلِ) فترك
الواجب لا بد من فعله ما دام الطلب قائماً يعني في وقت الصلاة أما إذا
فات الوقت فهذا ينظر هل صاحبنا مفرِّط او غير مفرِّط؟ وكلامنا الذي
ذكرناه في الشروط الثلاثة إنما هو في فعل المحرم الممنوع انتبه لهذا
أرأيت لو سهى بالصلاة أو نسي الصلاة فإنه يصليها إذا ذكرها ولا تسقط
عنه.
السائل: أحسن الله اليكم ذكرنا في مسالة (ولأنه نوع جهل فلا يعذر به
كالجهل بالوقت) وقلنا إن المؤلف قاس مختلفا فيه على مختلفٍ فيه، هل
المؤلف حين ما قال كالجهل بالوقت يقصد وقت الصيام أووقت الصلاة؟
الشيخ: لا مقصوده وقت الصيام ولذلك جاء بالمسألتين التي ذكرنا لو أكل
يظن أن الفجر لم يطلع فتبين أنه طالع يجب عليه القضاء وكذلك لو ظن أن
الشمس غربت يجب عليه القضاء.
السائل: ما الفرق بين من بالغ في الاستنشاق فدخل الماء إلى حلقه وبين
من باشر فأنزل وهو لم يرد الإنزال؟
الشيخ: هذا إيراد جيد لكن قلنا من يعلم أنه سريع الإنزال يمنع لكن
الإنسان ما يعلم إلا أنه في هذه المرة حصل الإنزال هذا لا يفطر أما
عندما يعرف أنه ينزل بمجرد ما أنه تقوى شهوته فهذا يمنع من أن يباشر
لكن الاستنشاق ليس كل استنشاق يصل الماء إلى الحلق.
السائل: الجاهل الذي قلنا إنه إذا كان
مفرطاً أو غير مفرط في الواجب قد يعيش الرجل بين العلماء ويعمل العمل
ولا يدري أنه على حق ولا يعلم أنه على غير الحق إلا بعد سنوات هل هذا
مفرط؟
الشيخ: الظاهر أنه مفرط لأن هذا الفعل الذي خالف فيه سيكون مشهوراً بين
الناس.
السائل: وإذا كان ليس مشهوراً بين الناس كرفع القدمين في أثناء السجود
بعض الناس استمر على هذه الحال سنوات؟
الشيخ: ربما نقول إن هذا لم يفرط وأنه لا يلزمه إلا قضاء الصلاة
الحاضرة فقط لكن لو كان قد سمع أن رفع أحد الأعضاء يبطل السجود ولكن
قال (لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) يعني
بعض الناس ياخذ الآية هذه يأخذها دليلاً في كل شيء يقول لا تسألوا.
ولا بد أن نعرف ما سبق أنه لا يُفطِّر شيء مما سبق إلا بثلاثة شروط
العلم وضده الجهل والذكر وضده النسيان والثالث الاختيار وضده ما كان
إكراها أو عن غير قصد.
هذه الشروط بينا فيما سبق أنه دل عليها الكتاب والسنة بأدلة عامة وأدلة
خاصة وبناءً على ذلك مادام الأمر واضح والحمد لله في كتاب الله وسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمر أسهل من أن نرجع إلى التفاصيل في
بعض كتب العلماء ونقول هذه القاعدة قاعدة عريضة مأخوذة من القرآن
والسنة الصحيحه.
وإذا شككنا في شيء هل يدخل في المفطرات أو
لا؟ فالأصل أنه غير مفطر لأن الصوم ثبت بدليل شرعي فلا يمكن أن ينقض
إلا بدليل شرعي مثلاً الإبرة توخز في المريض اختلف الناس فيها ولا سيما
عند أول ظهروها فنقول عند الاختلاف بدون مستند شرعي في هذه المسالة
نأخذ بالأصل وهو أن الأصل صحة الصوم إلا بدليل واضح على الإفساد وهذه
مسألة مهمة لطالب العلم ولا يقول الإنسان إننا لو فتحنا هذا الباب
لتساهل الناس نقول نحن نبين الشرع والعمل على غيرنا يجب أيضاً أن نبين
للناس الشرع فلو سألك سائل مثلا قال إنه جامع زوجته يظن أن الفجر لم
يطلع فتبين أنه طالع ماذا نقول له؟ لا شيء عليه.
ولو سألك سائل في مكة في رمضان أنه جامع زوجته اليوم ماذا تقول له؟ إذا
كان متعمداً أفطر لكن إن كان الصوم واجبا عليه فإنه يقضي ويكفر وإن لم
يكن واجباً أفطر ولا أثم عليه إلا القضاء والأول يلزمه الإمساك بقية
اليوم والثاني لا يلزمه لأن الصوم في حقه ليس بواجب.
فصلٌ
القارئ: وعلى من أفطر القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم (من استقاء
فليقض) ولأن القضاء يجب مع العذر فمع عدمه أولى وعليه إمساك سائر يومه
لأنه أمر به في جميع النهار فمخالفته في بعضه لا تبيح المخالفة في
الباقي.
الشيخ: وهذا فيمن أفطر بلا عذر أما من أفطر بعذر فله أن يأكل بقية يومه
مثاله لو أفطر إنسان لإنقاذ معصوم في رمضان فهل يلزمه أن يمسك بقية
اليوم؟ لا لا يلزمه لأن هذه البقية لا تنفعه ولأن هذا الرجل قد أُذن له
بانتهاك حرمة هذا اليوم بل إن هذا اليوم لا حرمة له في حقه لأنه اضطر
للفطر فإذاً لا حرمة لباقي اليوم ومثل ذلك على القول الراجح من قدم من
السفر مفطراًَ فإنه لا يلزمه إمساك بقية اليوم.
القارئ: ولو قامت البينة بالرؤية بعد فطره فعليه القضاء والإمساك لذلك.
الشيخ: يعني لو قامت البينة في أثناء
النهار وهو مفطر لزمه الإمساك ولزمه القضاء أيضاً أولاً لأنه لم ينو من
أول النهار وثانياً لأنه أكل وشرب في أول النهار وأما لزوم الإمساك
فلأنه ثبت أن هذا اليوم من رمضان وقال شيخ الإسلام إنه لا يلزمه القضاء
وإنما يلزمه الإمساك لأنه قبل أن يعلم بدخول الشهر كان جاهلاً معذوراً
وأما النية فالنية تتبع العلم وهو لم يعلم ولوعلم قبل أن يطلع الفجر
قلنا انو لكنه لم يعلم فالنية تتبع العلم إذ غير المعلوم لا تمكن نيته
فيرى رحمه الله أنه يمسك ولا يقضي بل قال لو لم يعلم بدخول الشهر إلا
بعد غروب الشمس فإنه لا يلزمه قضاء هذا اليوم لأنه أكل وشرب وجامع من
غير علم فيحسب له هذا اليوم مع أنه لم يصمه لوجود مانع وهو الجهل لكن
الأحوط أن يقضي لأن هذا الرجل ليس كمن أفطر لعذر في رمضان فإنه حينما
كان يأكل ويشرب في أول النهار يعتقد أنه من شعبان وهو فرق بين إنسان
أكل أو شربا ناسياً أو جاهلاً وهو يعتقد أن هذا اليوم من رمضان وإنسان
آخر لم يعلم به فأرى بناءً على هذا الفرق وإن كان فرقاً ليس له إلا قدم
واحد أرى أنه من أجل هذا الفرق أن يحتاط فيقضي ويمسك لأن الإمساك ما
فيه إشكال حتى عند شيخ الإسلام ابن تيميه يجب الإمساك.
القارئ: ولا تجب الكفارة بغير الجماع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يأمر بها المحتجم ولا المستقيء ولأن الإيجاب من الشرع ولم يرد بها إلا
في الجماع وليس غيره في معناه لأنه أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك
الغير والكفارة العظمى في الحج ويفسده دون سائر محظوراته ويتعلق به
اثنا عشر حكما.
الشيخ: أي في الجماع وبعضهم أوصلها إلى
أربعمائة حكم والجماع هو تغييب الحشفة في الفرج لكن تتبع هذا الأمر فيه
كلفة ومشقة والمهم أن تعرف الحكم في كل بابٍ على حدة وإن أمكن أن
تجمعها فهذا طيب وما قاله رحمه الله من أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع
هو الحق خلافاً لمن قال تجب الكفارة بإلامناء أو بالفطر عمداً ولو
بالأكل والشرب فإن هذه كلها أقوال لا دليل عليها إنما تجب الكفارة
بالجماع خاصة في نهار رمضان لمن كان الصوم واجباً عليه فقولنا في نهار
رمضان يخرج ما لو جامع في قضاء رمضان يعني إنسان عليه أيام من رمضان
وكان يقضيها فجامع فليس عليه كفارة لأن جماعه ليس في نهار رمضان وقولنا
والصوم واجب عليه يخرج من جامع في سفر أو جامع في مرض فإنه ليس عليه
كفارة لأن الصوم ليس واجباً عليه في هذه الحال.
فصلٌ
القارئ: ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة لما
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء فقال يا رسول الله وقعت على
امرأتي وأنا صائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل تجد رقبة
تعتقها؟) قال لا، قال (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال لا،
قال (فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟) قال: لا، قال فسكت النبي صلى الله
عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي رسول الله بفرق تمر فقال (أين السائل
خذ هذا فتصدق به) فقال الرجل أفعلى أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما
بين لابيتها يريد الحرتين أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي فضحك رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه فقال (أطعمه أهلك) متفق عليه.
الشيخ: هذا الحديث فيه بيان حكم من جامع
وفيه فوائد منها صراحة الصحابة رضي الله عنهم في السؤال عن الدين وأنهم
لا يمنعهم الحياء عن التفقه في دين الله ومنها أن الصحابة من أحرص
الناس على معرفة الحق بل هم أحرص الناس ولهذا جاء يسأل في هذا المكان
مع وجود الناس ويقول هلكت وأهلكت كما في ألفاظ الحديث الأخرى ومنها أن
الرجل كان عالماً بدليل أنه قال هلكت وإن كان فيه احتمال أنه أخبر بعد
أن حدث قومه أو أحداً من الناس يعلم بأنه جامع زوجته فقال هلكت ولكن
الأصل عدم ذلك وسواء أخبر أو لم يخبر، وعندنا قاعدة عامة وهي أن من
تناول مفطراً جاهلاً فلا شيء عليه وفيه أيضا أن كفارة الجماع في نهار
رمضان كفارة مغلظة لأنها عتق رقبة أوصيام شهرين متتابعين أوإطعام ستين
مسكين ولا يوجد لها نظير في الكفارات إلا كفارة الظهار ومنها أن كفارته
على الترتيب والذي يبدأ به أولاً عتق الرقبة فإن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين فإن لم يجد فإطعام ستين مسكين ومنها أنه لا فرق بين أن يجامع
في يوم أوفي يومين أو ثلاثة أو أربعة هذه تحتاج إلى مناقشة وجهه أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصله لم يقل هل جامعت قبل اليوم؟ ولو
كان الحكم يختلف لاستفصل لأن الأمر ليس بهين افرض أن هذا الرجل كان
حديث عهد بعرس ليس الصحابي أعني غيره حديث عهد بعرس وكان يجامع زوجته
كل يوم في رمضان كم يجب عليه من شهر؟ يجب عليه إذا قلنا تتكرر بتكرر
الأيام يجب عليه ستون شهراً وإلا فشهران وإذا كان الحكم يختلف هذا
الاختلاف المتباين كان لابد أن يستفصل المسؤول عن ذلك فيقول هل جامعتها
قبل هذا اليوم أو لا؟ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم وهو وجه في مذهب
الإمام أحمد رحمه الله لكننا لا نفتي به وإن كنا نرى أنه من حيث النظر
قوي لكن لا نفتي به لأن الإنسان الشاب حديث العرس يأنس بهذه الفتوى
يعني يجامع زوجته كل يوم أو في اليوم مرتين كل شهر رمضان ويقول الأمر
سهل، صيام شهريين متتابعين أو
بعد يتكاسل يقول والله ما قدرت أنا موظف
ومشغول فيطعم ستين مسكيناً فالمسألة وإن كانت من حيث النظر قوية لكن
النظر شيء والإفتاء شيء آخر وهذا من فقه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وهو حق وسياسة حكيمة إذا خشيت من الناس أن يتتابعوا على
أمر محرم فلا بأس أن تعاملهم بالأغلظ لأنه إذا كان فاعل المحرم يعزر
ويحدث له عقوبة فكيف إذا أردنا أن نمنعه من أن يفعل المحرم لذلك نرى أن
الفتوى في ذلك غير وجيهة وإن كانت قوية في النظر لئلا يتتايع الناس في
هذا الأمر العظيم فإن عمر كان يعلم أن طلاق الثلاث واحدة وأن الرجل إذا
قال أنتي طالق أنتي طالق أنتي طالق فهي واحدة وكانت كذلك في أول عهده
في سنتين من عهده لكن لما رأى الناس تتايعوا في هذا الأمر وهلكوا فيه
وتجرؤوا على المحرم ألزمهم بما ألزموا به أنفسهم لأن القائل أنتي طالق
أنتي طالق أنتي طالق ماذا يريد؟ يريد البينونة فألزمهم رضي الله عنه
بذلك ومنعهم من الرجوع ولذلك قال (أرى الناس قد تتايعوا في أمر كانت
لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم) إذاً هو رأي اتخذه عمر
سياسة لمنع الناس من هذا الفعل المحرم والتعجل فيما جعل الله لهم فيه
أناة وكذلك بيع أمهات الأولاد كان جائزاً في عهد الرسول عليه الصلاة
والسلام وعهد أبي بكر تباع أم الولد لكن لما رأى عمر أن الناس لن
ينتهوا عن هذا وأنهم يفرقون بين السرية وأولادها الصغار ينكسر قلبها
ويفزع الصغار فمنع بيع أمهات الأولاد سياسة وفي عهد الرسول (لما حذر
الرسول عليه الصلاة والسلام من التفريق بين المرأة وولدها) التزم الناس
بهذا وصاروا لا يفرقون بين أمهات الأولاد وأولادهم إلا إذا كبروا
واستقل الولد تباع لكن عمر رأى المنع مطلقاً لأن الناس تهاونوا في هذا
الأمر فكان هذا سياسية فهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن يلاحظها في
الفتوى ومثلاً النقاب جائز من حيث هو نقاب وكان النساء في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم ينتقبنَ
ولا إشكال في هذا ولانقول هو حرام وهو
موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مقر له لكن إذا علمنا أن
القول في إباحته يفضي إلى شر وفتنة وأن غالب النساء لم تتقيد بما يجب
أن تتقيد به وأنها تخرج عينها مكحولة من أحسن كحل وهي عين جميلة فاتنة
ثم قد تأتي بالملصقات التي تلصق على العين لتجميلها فالتي عينها غير
جميلة الآن بدأنا يستعملن اللاصقات فتكتحل وتوسع النقاب وما تجعله على
قدر النظر هذا أول شهر أو أول سنة وفي السنة الثانية توسعه قليلاً حتى
يظهر الحاجبان والوجنتان وهذا هو الواقع الآن بدأت بعض النساء نسأل
الله العافية والسلامة يتلثمن ويقلن هذا مثل النقاب وغداً يكشفنّ فمثل
هذا إذا امتنع الإنسان من الافتاء بجوازه وقال أنا لا أفتي بجوازه فهذا
ليس فيه بأس وهو لم يقل أنا أقول إنه حرام أولا أقول إنه حرام أقول لا
أفتي بجوازه وهذا يدل على أنه يراه جائزاً لكن لا يفتي به نظراً
للمصلحة وحماية الناس من الفتنة والتسيب في مثل هذه الأمور نحن الآن
بصدد الحديث على حديث أبي هريرة رضي الله عنه فنقول هذا الحديث يدل
بظاهره أنه لا فرق بين من جامع في يوم أو في أكثر من يوم لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يستفصل مع كون الأمر صعباً شديداً وأما الذين يقولون
إنه يجب عليه أن يكفر عن كل يومٍ كفارة فعللوا ذلك بعلة جيدة قالوا لأن
كل يوم عبادة مفردة لا سيما إذا قلنا إنه يجب أن ينوي لكل يوم نية في
رمضان فقالوا إن كل يوم منفرد ولهذا لو فسد صوم اليوم لم يفسد صوم أمس
مما يدل على أن كل يوم عبادة مستقلة وهذا لا شك أنه تعليل قوي وإذا أخذ
به الإنسان حماية للناس من التسيب والتلاعب فلا حرج عليه في ذلك إن شاء
الله أولاً لقوة تعليله وقد تكون قوة هذا التعليل مقابلة لقوة ظاهر
الحديث حديث أبي هريرة فيقال الآن عندنا علة قوية مع ظاهر النص فهل
نغلب هذه أو هذه؟ محل نظر لكن الوجه الأول أولى أنه لا فرق إلا أنه لا
حرج أن نأخذ بهذا
القول وأن كل يوم له كفارة مستقلة بخلاف من
قتل أنفساً فإن من قتل أنفساً لابد لكل نفسٍ من كفارة فلو أن رجلاً حصل
عليه حادث وهو فيه مفرط أو معتدي ومات معه عشرة لزمه أن يعتق عشرة رقاب
فإن لم يجد صام عشرين شهراً ولا نقول هنا بالتداخل لأن كل نفس لا تجني
على نفس أخرى وكل نفس مستقلة وفي الحديث أيضاً من الفوائد تسهيل الشرع
على العباد لقوله صلى الله عليه وسلم (هل تجد رقبة تعتقها؟ قال لا قال
فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا قال فهل تجد إطعام ستين
مسكيناً؟ قال لا) وهذا لاشك أنه تيسير على المكلف إذا لم يستطع فإنه
ينزل إلى ما دون ذلك فإن لم يستطع إطعام ستين مسكيناً ماذا يكون أمره؟
قال بعض العلماء إنها تسقط عنه لأنه لا واجب مع العجزوقد قال الله
تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) وقال بعض
العلماء تكون في ذمته ديناً متى وجد أطعم لأنه بمنزلة الدين والذي يظهر
أنها تسقط ما لم يحصل على ذلك في وقته وحينه فإنه يلزمه أن يكفر فلو
مثلاً لزمته الكفارة اليوم فوجد الإطعام في أخر النهار أو من الغد فهذا
لا نقول إنه معدم بل نقول يلزمه والدليل على هذا أنه لما قال هذا الرجل
لا أستطيع وجاء التمر أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به ولو
سقطت لم يأمره وفيه أيضاً دليلٌ على إعطاء ولي الأمر ما يتصدق به على
الفقراء وكان هذا من عادة الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك
من كان أكثر مساساً بالناس وأعرف بالناس فإن إعطاؤه أو الاستنارة برائه
مفيد ويؤخذ من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب
من سؤاله ومن قوله في الأخير أين السائل؟ وهو كذلك فالرسول عليه الصلاة
والسلام لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه فإن الله أطلعه من الغيب
على من لم يطلع به غيره ومن فوائد هذا الحديث ما نعود إليه ثانية صراحة
الصحابة وأن الإنسان يذكر وصفه على أي حال كان لما قال تصدق به قال
أعلى
أفقر مني؟ وكثير من الناس يتستر ولاشك أن
التستر خير قال الله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ) لكن هذا في سؤال الناس لا يسألون الناس إلحافاً أما في
بيان حالهم عند الحاجة فلا بأس وفيه أيضاً جواز الحلف على غلبة الظن
يؤخذ من قوله (فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني) لأن هذا الرجل
لم يذهب إلى كل بيت يسألهم بلا شك لكن هذا غالب ظنه فحلف على غالب ظنه
فإن قال قائل إذا كان هذا الرجل ليس عنده أي تمر أو أية حبة أو أي ثوب
زائد على ما يلبس هل يوجد أحد أفقر منه؟ نعم الفقير المدين يكون مثله
في مصروفاته اليومية وعليه دين فيكون أفقر وأيضاً قد ورد اليمين على
غلبة الظن فإن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله بن سهل وعبد
الرحمن بن سهل قال لهم (تحلفون خمسين يميناً على من قتل صاحبكم) في قصة
القسامة ومعلوم أنهم لم يروا ولم يشهدوا لهذا قالوا لم نر ولم نشهد
فكيف نحلف؟ لكن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم اليمين يدل على
جواز ذلك ومما يستفاد من هذا الحديث حسن خلق الرسول عليه الصلاة
والسلام لأنه ضحك وهذا يدل على انبساطه من هذا الرجل لو كان عندي لقلت
ما تشكر نعمة الله ما تخاف الله وماذا يدريك أنه ما في البلد أهل بيت
أفقرمنك؟ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم الناس وهو على خلق عظيم
فضحك منبسطا منشرحاً صدره عليه الصلاة والسلام ضحك حتى بدت أنيابه
والأنياب هي ما وراء الرباعيات والأسنان هي الثنايا ثم الرباعيات ثم
الأنياب ثم قال (أطعمه أهلك) سبحان الله دليل على أن الإنسان يكون أهل
لكفارته لأنه قال (أطعمه أهلك) هكذا استدل بعض العلماء وقالوا إن
الفقير إذا وجبت عليه كفارة فأعطاه إنسان ما يكفر فله أن يأخذها إذا
كان فقيراً لكن هذا القول فيه نظر والاستدلال بهذا الحديث له فيه نظر
أيضاً لأن أهل هذا الرجل لا يبلغون ستين مسكيناً إما بالتأكيد أو بغلبة
الظن ولم يستفسر النبي صلى
الله عليه وسلم أن أهله يجدون لكن لما رآه
النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً علم أنه لا يستطيع أن يؤدي الكفارة
وسقطت عنه وهو يريد أن يطعم أهله وفيه أيضاً هذه الغنيمة التي رجع بها
هذا الرجل كأنك تتصور أن هذا الرجل خرج من امرأته وهو يقول سأذهب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وربما يكون قلبه يرجف خوفاً ولهذا وردت
أحاديث فيها ألفاظ فيها نظر كونه جاء ينتف شعره ويشق ثوبه وما أشبه ذلك
هذه كلها ألفاظ لا أظنها تصح لكن لاشك أن الرجل جاء خائفاًَ فزعاً وأنه
خرج من أهله على هذه الحال ومع ذلك رجع إليهم بطعام بتمر سبحان الله
هكذا ينبغي أن ندعو الناس لكن يجب أن نعرف الفرق بين رجل جاء تائباً
نادماً يطلب الخلاص هذا نعامله بما تقتضيه حاله ونلين له في القول
ونيسرله الأمر وهذا من خلق الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أمرنا أن
نقتدي به.
القارئ: وسواء في هذا وطء الزوجة والأجنبية والحية والميتة والآدمية
والبهمية والقبل والدبر لأنه وطء في فرج موجب لغسل أشبه وطء الزوجة
ولأنه إذا وجب التكفير بالوطء في المحل المملوك ففيما عداه أولى ويحتمل
أن لا تجب الكفارة بوطء البهيمة لأنه محل لا يجب بالحد بالوطء فيه أشبه
غير الفرج.
الشيخ: وهذا القول أقرب إلى الصواب لأن هذا الفرج لا يباح بحال وكما
قال المؤلف رحمه الله لا يجب حد الزنا بالوطء فيه وأيضاً على القول
الراجح لا يجب الغسل إذا وطأ بهيمة ما لم ينزل لقول النبي صلى الله
عليه وسلم (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ومعلوم أن البهيمة ليس
لها ختان فالصواب أن وطء البهيمة وإن كان بعض الناس والعياذ بالله قد
قلبت طبيعتهم ويتلذذ به لكنها لا توجب شيئاً إلا أن واطيء البهيمة يعزر
وتقتل البهيمة قتلاً لا تذكى ذكاة تقتل وترمى للكلاب فإن كانت ملكاً
للواطيء فقد تلفت عليه وإن كانت لغيره وجب عليه ضمانها ولا تؤكل.
القارئ: وفي الجماع دون الفرج إذا أنزل
روايتان إحداهما تجب به الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يستفصل السائل عن الوقاع والثانية لا تجب لأنه مباشرة (لا يفطر) بغير
إنزال.
الشيخ: عندي بالمخطوطة (لا تفطر) نسخة.
القارئ: فأشبه القبلة ولا يصح قياسه على الوطء في الفرج لما بينهما من
الفرق وإنما لم يستفصله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه فهم منه الوقاع
في الفرج بدليل ترك الاستفصال عن الإنزال.
الشيخ: وهذا هو الصحيح أن الإيقاع بدون إنزال لا يوجب الكفارة.
القارئ: وتجب الكفارة على الناسي والمكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يستفصل السائل عن حاله وعن أحمد: كل أمرٍ غلب عليه الصائم فليس عليه
قضاءٌ ولا غيره فيدخل فيه الإكراه والنسيان لقول النبي صلى الله عليه
وسلم (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي،
وقياساً على سائر المفطرات وقال ابن عقيل إن كان الإكراه إلجاء مثل أن
استدخل ذكره وهو نائم أو مغلوب على نفسه فلا كفارة عليه لأنه لا فعل له
وفي فساد صومه احتمالان وإن كان بالوعيد ونحوه فعليه القضاء لأن
الانتشار من فعله ولا كفارة عليه لعذره.
الشيخ: والصواب في هذه المسألة أنه إذا كان
ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه لعموم الأدلة السابقة ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الجاهل الذي أكل بعد طلوع الفجر
بالقضاء ولم يلزم الناس جميعاً الذين أفطروا قبل غروب الشمس بالقضاء
وقال (من أكل أو شرب وهو ناسي فليتم صومه) ولا فرق كلاهما محظور
وكلاهما مفطر لكن ربما يقول قائل النسيان في الجماع بعيد لأنه ليس
كالأكل والشرب ولأنه متعلق بطرف أخر والطرف الأخر ينبهه فالنسيان
غيروارد وأما الجهل يقع ولكن إذا كان جاهلاً بوجوب الكفارة عالماً
بتحريم الجماع فهل تلزمه الكفارة؟ نعم تلزمه لأنه انتهك المحرم عن علم
ولأن الرجل الذي جاء يستفتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن
يعلم بالكفارة بل سأل عنها وهكذا جميع الأشياء التي فيها حد أو كفارة
إذا كان الإنسان عالماً بها وجاهلاً بالعقوبة والكفارة فإنه لا يعذر
فلو زنى ثيب وقال إنه لايدري أن عليه الرجم ولكن يدري أن الزنى حرام
انتهكه فعليه الرجم وأما قوله في تعليل وجوب الكفارة ولو كان عن جهل أو
إكراه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل فيقال إن الرجل صرح بما
يدل على أنه كان عالماً لأنه يقول هلكت وهذا يدل على أنه كان عالماً
ولم يقل أخبروني أني هلكت حتى نقول إنه علم بعد الوقاع ثم إن مثل هذا
يرد كثيراً يذكر السلف الصالح أن من فعل كذا فعليه كذا فيظن بعض الناس
بهذه العبارة العموم وهي نعم عامة لكنها مقيدة بألا يوجد مانع يمنع
الوجوب بأدلة أخرى وهذا يقع حتى في كلام الفقهاء رحمهم الله يقول إذا
جامع قبل التحلل الأول فسد حجه ولزمه كذا وكذا هذا حكم لكن هل الحكم لا
يكون له موانع؟ بلى وهذه المسألة ينبغي أن نتفطن لها وهوأن الرسول علم
من حال هذا الرجل أنه كان عالماً وأنه جاء يريد التخلص مما وقع منه
لقوله إني هلكت وخلاصة الكلام الآن أن الجماع كغيره من المفطرات إذا
وقع من جاهل أو ناسٍ أو مكره يعني
غير مريد فإنه لا يفطر به وليس عليه
الكفارة.
السائل: بالنسبة للكفارة بوطيء الدبر كاللواط والميت هل تجب؟
الشيخ: نعم إذا فرض أنه يشتهي هذا الشيء إنسان وحصل منه الوقاع وهي
ميتة فعليه الكفارة.
السائل: من فعل محرم وهو يعلم أنه محرم لكن لا يعلم أنه مخرج من الملة؟
الشيخ: نعم يخرج من الملة يعني من ترك الصلاة وهو لا يعلم أنه يخرج من
الملة لكن يعلم أنه حرام خرج من الملة.
فصلٌ
القارئ: في وجوب الكفارة على المرأة روايتان إحداهما تجب لأنها إحدى
المتواطئين فلزمتها الكفارة كالرجل والثانية لا تلزمها لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يأمر امرأة المواقع بكفارة ولأنه حق مال يتعلق
بالوطء من بين جنسه فاختص بالرجل كالمهر.
الشيخ: والصواب أن عليها الكفارة إذا كانت مختارة عالمة وأما كون
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر وجوبها على المرأة فلأن المرأة لم
تقر ولم تأتِ تستفتي فيحتمل أنها كانت نائمة أو ناسية أو جاهلة أو
مكرهة فأمرها عند الرسول عليه الصلاة والسلام مجهول وهو إنما أفتى من
جاء يستفتي والعلة الموجبة للكفارة على الرجل موجودة في المرأة فإن
التلذذ وانتهاك حرمة الصوم هو موجود في المرأة أيضاً فالصواب الذي يكاد
يكون مقطوعاً به أن المرأة إذا كانت مختارة فعليها الكفارة كالرجل
تماماً.
القارئ: فإن كانت ناسية أو مكرهة فلا كفارة عليها رواية واحدة لأنها
تعذر بالعذر في الوطء ولذلك لا تحد إذا أكرهت على الزنا بخلاف الرجل
والحكم في فساد صومها كالحكم في الرجل المعذور.
الشيخ: الآن عفوا عن المرأة إذا كانت مكرهة
أو ناسية وهذا يمكن أن يخرّج من هذا القول القول بأن الرجل أيضاً يعفى
عنه وهو تخريج قريب والصحيح العفو عنهم جميعاً أن المرأة إذا كانت
جاهلة أو ناسية أو مكرهة فلا شيء عليها أما قوله إذا أكرهت على الزنى
فإنها لا تحد والرجل إذا أكره على الزنا فإنه يحد فهذا أيضاً فيه نظر
والصواب أن الرجل وإن أكره على الزنا فلا حد عليه لعموم الأدلة وقولهم
إنه لا يمكن أن يجامع إلا بانتشار ولا انتشار إلا عن إرادة وهذا يدل
على تعذر صورة الإكراه نقول هذا غير صحيح بل إذا هيئ لإنسان امرأة شابة
جميلة وزينت وطيبت ومكيجت وهو شاب وقيل لابد أن تجامعها وإلا قتلناك ثم
دنا منها هل يمكن أن ينتشر ذكره أو لا؟ يمكن فقوله إنه لا يمكن إكراه
الرجل على الجماع فيه نظر والواجب في مثل هذه الأمور أن الإنسان ينظر
للواقع وأما الفروض الذهنية فهي غير واردة في الأمور الشرعية صحيح أن
إكراهه بعيد خصوصاً أن الإنسان إذا كان عنده خوفٌ من الله عز وجل ربما
لا يستطيع أن يجامع لعدم انتشار ذكره لكن النفوس مجبولة على أنه إذا
حصل مثل هذا التهييء للإنسان الشاب أن يفعل والخلاصة أن المكره على
الزنى من رجل أو امرأة ليس عليه حد لعموم الأدلة.
القارئ: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان لعدم حرمة الزمان.
الشيخ: حتى في القضاء ليس فيه كفارة لكن إذا وجدت شروط الإفطار صار
مفطراً فعليه القضاء.
فصلٌ
القارئ: ومن لزمه الإمساك في رمضان فعليه الكفارة بالوطء وإن كان
مفطراً لأنه وطء حرم لحرمة رمضان فوجبت به الكفارة كوطء الصائم.
الشيخ: مثال ذلك لو قدم الإنسان مفطراً من سفر وجامع زوجته فإنه تجب
عليه الكفارة لأنه يلزمه الإمساك وهذا بناء على القول بلزوم الإمساك
أما على القول الراجح أنه إذا قدم مفطراً فإنه لا يلزمه الإمساك فإنه
إذا جامع في هذه الحال لا كفارة عليه.
القارئ: ومن جامع وهو صحيح مقيم ثم مرض أو
جنّ أو سافر لم تسقط الكفارة عنه لأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان
بجماع تامٍ فوجبت الكفارة وجوباً مستمراً كما لو لم يطرأ عذر.
الشيخ: هذا صحيح لأنه لو جامع في رمضان وهو مقيم ثم سافر فالمسافر له
أن يفطر ولو كان سفره في أثناء النهارفهل نقول في هذه الحال لا كفارة
عليه لأنه أخر النهار قد أبيح له الفطر أو نقول إن عليه الكفارة؟ نقول
عليه الكفارة لأنه حين الوطء كان صائماً صوماً واجباً في رمضان.
القارئ: وإن وطيء ثم وطيء قبل التكفير في يوم واحد فعليه كفارة واحدة
بلا خلاف لأنها عبادة تكرر الوطء فيها قبل التكفير فلم تجب أكثر من
كفارة كالحج وإن كان ذلك في يومين ففيه وجهان أحدهما تجزئه كفارة واحدة
لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا كالحدود وكالتي
قبلها والثاني تلزمه كفارتان اختاره القاضي لأنه أفسد صوم يومين بجماع
فوجبت كفارتان كما لو كانا في رمضانين فإن كفر عن الأول فعليه في
الثاني كفارة وجهاً واحداً لأنه تكرر السبب بعد استيفاء حكم الأول فوجب
أن يثبت للثاني حكمه كسائر الكفارات.
الشيخ: إذا كفر ثم أعاد الوطء فعليه أن
يكفر للوطء الثاني سواءً أكانا في يوم واحد أو في أيام وسبق لنا مسائل
مهمة في مسألة الجماع أولاً المرأة هل عليها كفارة؟ قلنا إن الصحيح أن
عليها كفارة لأن الرجال والنساء سواء ما لم يوجد دليل يفرق بينهما
والإجابة عن حديث المجامع سهلة لأن المرأة لم تحضر ولم تقر وربما تكون
في حال تعذر فيها فهي في الحقيقة مسكوت عنها وليس مسقطاً عنها الكفارة
وفرق بين المسكوت عنها وبين المسقط عنه الكفارة لو قال الرسول لا كفارة
عن امرأتك قلنا نعم لكن هي مسكوت عنها لأن قضيتها لا ترى وربما يشير
قوله هلكت وأهلكت ربما يشير هذا إلى أنه أكرهها وإلا لقال هلكت وهلكت
امرأتي وعلى كل حال القول الراجح بلا شك هو أن المرأة عليها الكفارة
إذا كانت مطاوعة وسبق لنا أنه إذا تكرر الجماع في يوم قبل التكفير لزمه
كفارة واحدة بالاتفاق وإذا تكرر في يومين قبل التكفير ففيه وجهان
ورجحنا من حيث النظر أنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة ولكننا لا نفتي بذلك
نظراً لسد باب التهاون في هذا الأمر لأنه قد يهون على الإنسان أن يجامع
زوجته كل يوم في رمضان ويؤدي كفارة واحدة هذه مسائل ينبغي للطالب أن
يتفطن لها لأنه ربما يأتيه إنسان مثلاً ذكر له أنه كان يجامع كل يوم أو
عشرة أيام مثلاً ولم يكفر وأنه تائب ونادم ونعرف أنه رجل من أهل
الرجولة فهذا ربما نفتيه سراً بأن يكفيه كفارة واحدة كما كان العلماء
يفعلون هذا رحمهم الله يفتون بالمسائل التي يخافون من إنزلاق الناس
فيها يفتون فيها سراً كعبد السلام بن تيميه جد شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله كان يفتي بأن الطلاق الثلاث واحدة لكن كان يفتي به سراً كما
نقله عنه حفيده وأصل هذه الأمور أن العلم يقصد به شيء وراء العلم وهو
تربية الناس وإقامتهم على الحق وأنه مهما أمكن التربية إذا لم تخالف
الشرع فاسلكها فلو أن أحداً مثلاً يقول إن ستر الوجه ليس بواجب بمقتضى
الدليل عندي قلنا لك
رأيك ولا نلزمك برأينا لكن هل من المصلحة
أن تنشر هذا الرأي في قوم ملتزمين بتغطية الوجه؟ ليس من المصلحة لست
ترى أن كشف الوجه واجباً حتى تقول سأبينه ليقوم الناس بالواجب ترى أنه
مباح وربما ترى في ضميرك أنه مباح وتركه أفضل إذاً كيف تنشر للناس ما
يوجب التهاون في هذا الأمر؟ فهذه المسائل انتبهوا لها بارك الله فيكم
ربوا الناس مادام الناس الآن متمسكين بلزوم تغطية الوجه وليس عندهم في
هذا إشكال وليس كشفه واجب حتى نقول نبين للناس دعهم على ما هم عليه
لأنهم إذا كشفوا وجوههم صاروا آثمين عند بعض العلماء وليس آثمين عندك
أنت الذي تبيح كشف الوجه بل هم فاعلون للأفضل لكن لو كشفوا الوجه صاروا
عند من يرى وجوب ستره صاروا آثمين فكيف توقع الناس بالإثم وهم في سلامة
منه.
فصل
القارئ: والكفارة عتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتبعين فمن لم
يستطع فإطعام ستين مسكيناً للخبر وعنه أنها على التخيير بين الثلاثة
لما روي عن أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو (يطعم) ستين
مسكيناً. رواه مسلم ومالك في الموطأ.
الشيخ: (أو إطعام) نسخة بالمخطوطة أنسب للسياق الذي قبلها (أو صيام
شهرين).
القارئ: وأو للتخير والأول المذهب لأن الحديث الأول أصح وهو متضمن
للزيادة.
الشيخ: ثم يقال إن الأول متضمن للزيادة وهو (هل تجد؟ هل تستطيع؟)
ثانياً أن هذا لا ينافي الترتيب وكون (أو) تأتي لا ينافي الترتيب إذ أن
المعنى أو صيام شهرين متتابعين إن لم يجد رقبة والحديث واحد رواه أبو
هريرة فيحمل هذا على الأول يقيناً وتكون الكفارة على الترتيب.
القارئ: وإن عجز عن الأصناف كلها سقطت لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أخبره بحاجته إليها بأكلها ويحتمل
أن لا تسقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه المكتل وأمره
بالتكفير بعد إخباره بعجزه والأول أولى لأن الإسقاط أخر الأمرين فيجب
تقديمه.
الشيخ: وهذا هو الصحيح أنه عند العجز تسقط وهو الموافق أيضاً للقاعدة
العامة (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) وللقاعدة التي
أخذها أيضاً العلماء من هذه الآية أنه لا واجب مع العجز ولا محرم مع
الضرورة إذا كانت الضرورة تندفع به وهاتان قاعدتان مهمتان لا واجب مع
العجز دليلها (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) ولا
محرم مع الضرورة إذا كان تندفع به دليلها قوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)
ويصوم يوماً مكان اليوم الذي أفسده لأنه أفسد يوماً فيجب عليه قضاؤه
فلو شرع في الصلاة ثم أفسدها فإنه يقضيها أما لو كان لم يصم من الأول
فلا قضاء عليه لأنه تعمد ترك هذا اليوم.
السائل: رجل إذا جاء رمضان يصوم ويصلي وإذا فات رمضان ترك الصلاة
واستمر على هذا سنوات ثم تاب وكان في رمضان يجامع زوجته فلما تاب التزم
بالواجبات والسنن واستقام هل تجب عليه الكفارة؟
الشيخ: من المعلوم أننا لانلزمه بقضاء الصلاة لأنه كان يتركها عمدا ومن
المعلوم أيضا أن هذا لم يترك الصلاة تركا مطلقا ومن المعلوم أيضا أنه
يفسد صيامه بالجماع فهل نقول بالقول الثاني الذي ذكره المؤلف رحمه الله
بتداخل كفارات الأيام وأنه يجزئه كفارة واحدة بناءً على أن هذا لو
ألزمناه بأن يكفر عن كل يومٍ كفارة ربما يرتد ويقول لو استقمت لزمني
هذا الأمر فهل من حسن التربية أن نأخذ بالقول الثاني الذي له وجهة من
النظر، كما أسلفنا فيما سبق لو أنه استفتاني وعرفت أن الرجل تاب توبةً
نصوحة لقلت يكفيك كفارة واحدة ولكن لا تخبر الناس بذلك.
باب القضاء
القارئ: يجوز تفريق قضاء رمضان لقول الله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) وهذا مطلق يتناول التفريق وروى الأثرم بإسناده عن
محمد بن المنكدر أنه قال (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
عن تقطيع قضاء رمضان فقال لو كان على أحدكم دينٌ فقضاه من الدرهم
والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضياً دينه؟ قالوا
نعم يا رسول الله قال فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم) رواه الدارقطني.
الشيخ: هذا مرسل لأنه رواه محمد بن المنكدر يقول بلغني، والأمر كما قال
رحمه الله إنه يجوز لمن عليه قضاء أن يقضي متتابعاً ومتفرقاً لقول الله
تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يقل فشهرٌ من شهورٍ أخر
قال (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهذا يشمل المتفرق والمتتابع
ولأن عائشة رضي الله قالت كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن
أقضيه إلا في شعبان وهذا يدل على أنها لو قضته يوماً ثم يوماً مفطرة
أنه لا بأس به وهو كذلك.
القارئ: والمتتابع أحسن لأنه أشبه بالأداء وأبعد من الخلاف.
الشيخ: العلة التتابع أفضل لأنه أشبه بالأداء فإن رمضان كان متتابعاً
وأسلم من خلاف من قال يجب القضاء فوراً وهو قول ضعيف لا يعول عليه
ولأنه أسبق إلى الخيرات لأن القضاء خير وكلما قدمت فهو خير ولأنه أسرع
في إبراء الذمة ولأنه أحوط فإن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت ثم
يبقى هذا الصوم ديناً في ذمته وقد يصوم الولي وقد لا يصوم وقد يطعم وقد
يتأخر بالإطعام فعلى كل حال التتابع لاشك أنه أفضل وأحسن.
القارئ: ويجوز له تأخيره ما لم يأتِ رمضانٌ آخر لأن عائشة رضي الله
عنها قالت (لقدكان يكون علي الصيام من رمضان فلا أقضيه حتى يجئ شعبان)
متفقٌ عليه ولا يجوز تأخيره لغير عذرٍ أكثر من ذلك لأنه لو جاز ذلك
لأخرته عائشة ولأن تأخيره غير مؤقتٍ إلحاقاً له بالمندوبات.
الشيخ: ودليل ذلك أولاً أثر عائشة فواضح
حيث قالت فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان وأما الثاني فلأننا إذا
قلنا بجواز تأخيره إلى ما بعد رمضان لألحقناه بالنوافل إذا لم يكن له
حد صار يجوز تأخيره إلى الأبد وهذا إلحاقٌ له بالنوافل يعني يجعله كأنه
نافلة وتعليلٌ ثالث ولأن رمضان الثاني بمنزلة خروج وقت الصلاة ولا يجوز
تأخير الصلاة عن وقتها إلى وقت آخر لأن القضاء مابين رمضانين ثم يأتي
شهرٌ آخر له متعلقاته.
القارئ: فإن أخره لعذرٍ فلا شئ عليه لأن فطر رمضان يباح للعذر فغيره
أولى وسواءٌ مات أو لم يمت لأنه لم يفرط في الصوم فلم يلزمه شئ كما لو
مات في رمضان.
الشيخ: هذه مسألة مهمة إذا أخره لعذر فإنه لا شئ عليه لا إطعاماً ولا
قضاء فلو أن إنساناً مرض في رمضان مرضاً يرجى برؤه ثم استمر به المرض
حتى مات فلاشئ عليه لا يصوم عنه وليه ولا يطعم عنه لماذا؟ لأنه لم
يستطيع الصوم وقولنا يرجي برؤه احترازاً مما لو جاءه رمضان وهو لا يرجى
برؤه هذا ليس فرضه الصيام وإنما فرضه الإطعام فيطعم عنه وينتهي أمره في
رمضان وهذه مسألة قد يغلط فيها بعض الطلبة قد يظن أن المسألة الأولى
كالمسألة الثانية ولكن بينهما فرق لأن فرض المريض في المسألة الأولى
الصوم أن يصوم بدل ما ترك ولم يستطيع بعد ذلك فسقط عنه كما لو مات في
رمضان أو مات في شعبان وأما الثانية ففرضه الإطعام أصلا يعني هذا الذي
لا يرجى برؤه في رمضان فلاصوم عليه أصلا وإنما يجب عليه الإطعام فنطعم
عنه في نفس الشهر وينتهي أمره.
القارئ: وإن أمكنه القضاء فلم يقض حتى جاء رمضان آخر قضى وأطعم عن كل
يومٍ مسكينا لأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله
عنهم.
الشيخ: عندي بالمخطوطة (وإن أمكنه الصيام)
نسخة، رمضان مما زيد فيه الألف والنون وما زيد فيه الألف والنون سواء
كان علما أم صفة فإنه يشترط العلمية أو الوصفية وليس مجرد زيادة الألف
والنون مانعا من الصرف حتى تنضم إليه العلمية أو الوصفية ولهذا لو جاءك
إنسان في آخر شعبان وقال أنا أدعوك إلى زيارتي فقلت إن شاء الله بعد
رمضانٍ قال إن شاء الله من يوم نفطر قلت من يوم نفطر من رمضانٍ فجاءك
بعد العيد قال أوف أقول له أنا ما عينت قلت بعد رمضانٍ نعم لكن هذا من
باب التورية ولاسيما في مخاطبة العوام ويمينك على مايصدقك به صاحبك فهل
تجوز هذه التورية؟ إذا لم يكن ظالماً فتجوز على رأي بعض العلماء وكذلك
إذا كان لمصلحة ومثل ذلك إذا قال متى تزورني؟ قلت بعد غدٍ وبعد غدٍ
يمتد إلى يوم القيامة فمثل هذه الأشياء يتخلص بها الإنسان لأن بعض
الناس يكرر ويلزم وهذا ممكن ترضيه فيما بعد تقول يا أخي إني أقول لك
بعد غدٍ وتقول له في نفس الوقت بعد غدٍ إلى يوم القيامة حتى يزول ما في
قلبه لئلا يقول أنت خدعتني أو ما أشبه ذلك.
القارئ: ولأن تأخير القضاء عن وقته إذا لم يوجب قضاءً أوجب كفارة
كالشيخ الهرم.
الشيخ: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء
إذا أخره إلى رمضان الثاني بلا عذر ثم قضاه فمنهم من يرى أنه يلزمه
كفارة إطعام مسكين مع كل يوم بناءً على هذه الآثار التي أشار إليها
المؤلف رحمه الله تعالى ومنهم من يقول لا إطعام عليه لعموم قول الله
تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يذكر شيئاً ولم يصح عن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شئ ولعل إفتاء هؤلاء الثلاثة إنما
كان من باب الاحتياط أو من باب التعزير أو ما أشبه ذلك وأما إثبات حكمٍ
شرعيٍ بها مع وجود عمومٍ في القرآن وتركٍ في السنة فلا يمكن أن نلزم
عباد الله بمثل هذا ولكن لاشك أن الاحتياط أن يطعم وأما إلزام الناس
بذلك فلا وكثيرٌ من الناس الذين يسألون الآن يرون أن الإطعام أثقل
عليهم من القضاء ولهذا تجدهم يفرحون إذا قلت لهم لا يجب عليكم إلا
الصيام ويسألون عن هذا الإطعام وأما القياس فهو قياسٌ مع الفارق وهو
مما يدلنا على أن الإنسان يجب أن يستدل قبل أن يعتقد انظر إلى القياس
(ولأن تأخير القضاء عن وقته إذا لم يوجب قضاءً أوجب كفارة) وهذا أوجب
قضاء وأيضا القياس على الهرم غلط لأن الهرم يكفر في وقت الأداء ما فيه
تأخير ولكن كما قلت لكم سابقا إن الإنسان إذا اعتقد أولاً صار يحاول أن
يثبت ما اعتقد ولو على وجهٍ مستكره فالصواب أن يقال الآثار على العين
والرأس لكن هل قالوا ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل الاحتياط وكف
النفس عن ذلك في المستقبل؟ وأما القياس على الهرم فهو قياسٌ بعيد.
القارئ: وإن فرط فيه حتى مات قبل رمضانٍ آخر أُطعِم عنه عن كل يوم
مسكين لأن ذلك يروى عن ابن عمر.
الشيخ: لم يذكر المؤلف أن يصام عنه مع أنه
فرط ولم يقض بلا عذر وإنما لم يذكره لأن المشهور من المذهب أنه لا يقضى
عن الميت إلا صوم النذر فقط، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما
روته عائشة وهو صحيح (من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليه) هذا في النذر
لكن لا دليل على التخصيص ويا سبحان الله كيف يخصص الحديث في النذر مع
أن النذر وقوعه نادر وصيام رمضان وقوعه كثير ما أكثر الذي يموت قبل أن
يقضي رمضان وما أقل الذي يكون عليه نذر فيقضى عنه وحملنا الحديث على
أمرٍ نادر مع وجود أمرٍ أكثر بكثير ليس بصواب فالصواب أنه يقضى عنه
ولكن لا على سبيل الوجوب لأننا لو قلنا يجب على الولي أن يصوم لزم من
ذلك تأثيمه بالترك وقد قال الله تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى) إذاً فنطعم عنه إذا قال الولي إنني لن أصوم قلنا أطعم من
تركته، وإذا لم يكن له تركة قلنا إن تبرع أحدٌ بالإطعام عنه فمشكور
ومثاب وإن لم يفعل أحد سقط عنه لأنه لم يجد شئاً.
القارئ: وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضانٌ آخر فكفارةٌ واحدةٌ عن كل
يومٍ يجزئه نص عليه لأن الكفارة الواحدة أزالت تفريطه فصار كالميت من
غير تفريط قال أبو الخطاب عليه لكل يومٍ فقيران لأن كل واحدٍ يقتضي
كفارة فإذا اجتمعا وجب بهما كفارتان كما لو فرط في يومين.
الشيخ: وكأن أبا الخطاب رحمه الله قاس الإطعام على الصيام فإنه كما
تقدم قريباً إذا أخره إلى رمضان آخر بدون عذر لزمه الصوم والكفارة
فكذلك إذا أخر الكفارة إذا مات فعليه الكفارة فيكون عليه كفارتان ولكن
الصحيح أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة.
القارئ: ويجوز لمن عليه قضاء رمضان التطوع بالصوم لأنها عبادة تتعلق
بوقتٍ موسعٍ فجاز التطوع بها في وقتها قبل فعلها كالصلاة وعنه لا يجوز
لأنها عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يجز التطوع بها قبل فرضها كالحج
والأول أصح لأن الحج يجب على الفور بخلاف الصيام.
الشيخ: يجوز لمن عليه قضاء رمضان التطوع
بالصوم قبل القضاء ما لم يبق على رمضان الثاني بقدر ما عليه من الفرض
فإن بقي على رمضان الثاني بقدر ما عليه من الفرض لم يصح التطوع لأن
الوقت الباقي للفريضة فلا يمكن أن تحل محلها النافلة لكن يستثنى من ذلك
صوم ستة أيامٍ من شوال فإنه لو صامها يصح الصوم لكنه لا ينال الأجر
المرتب عليها وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان ثم
أتبعه بستٍ من شوال فكأنما صام الدهر) وذلك لأن الرسول عليه الصلاة
والسلام قال (من صام رمضان ثم أتبعه) ومن عليه قضاء لا يصح أن يقال إنه
صام رمضان ثم إنه إذا قدرنا أنه عليه خمسة عشرة يوماً من رمضان وصام
الستة أيام من شوال كم صام، صام واحداً وعشرين يوما ولم يصم شهراً وستة
أيام وإنما جُعل صوم الشهر والستة أيام بمنزلة صيام الدهر لأن صوم
رمضان بعشرة أشهر وصوم ستة أيامٍ من شوال بشهرين وهذا الذي تطوع بها
قبل أن يتم رمضان لم يحصل له هذا الشئ وبقي أن يقال القول الراجح كما
قدم المؤلف رحمه الله أنه يجوز أن يتطوع الإنسان بالصوم قبل قضاء رمضان
لكن أيهما أولى؟ الأولى القضاء لأن القضاء واجب والتطوع ليس بواجب ومن
الحكمة أن يقدم الإنسان الواجب قبل التطوع لأن التطوع لو مات لم يكن
لازماً له في ذمته والفرض يكون لازماً فلاشك أن من الحكمة أن يقدم
الواجب على التطوع وقول المؤلف رحمه الله في التعليل (لأنها عبادة دخل
في جبرانها المال فلم يجب التطوع بها قبل فعلها كالحج) وعندي بالمخطوطة
(قبل فعلها) لكن ما عندكم أيضا صحيح وهذا تعليلٌ عليل أن نقول دخل في
جبرانها المال لأن الصوم الأصل في جبرانه القضاء قضاء الصوم لا المال
ولا يجب المال إلا للإنسان الذي ليس عليه صوم يعني لا يمكن أن يجمع بين
الصوم والمال أبداً إلا على الرأي القول الضعيف فيمن أخر القضاء بلا
عذر وإلا فلا يمكن وأما جبران الجماع في نهار رمضان فهو من أجل الجماع
ومن أجل انتهاك الزمن
أيضا ولهذا لو جامع في القضاء لم يجب عليه
كفارة فالمهم أن مثل هذه الأقيسة أقيسةٌ ضعيفة جداً لا ينبغي للإنسان
أن يعتمد على مثلها.
القارئ: ولا يكره قضاؤه في عشر ذي الحجة لأن عمر كان يستحب القضاء فيها
ولأنها أيام عبادةٍ فلم يكره القضاء فيها كعشر المحرم وعنه يكره لأن
علياً كرهه ولأن العبادة فيها أحب الأعمال إلى الله تعالى فاستحب
توفيرها على التطوع.
الشيخ: أما كراهة علي فيعارض استحباب عمر وعمر أقرب للصواب من علي رضي
الله عنهما جميعا وأما قوله إن العبادة فيها أحب الأعمال إلى الله
فيقال والفرض أحب إلى الله من النفل وعلى هذا فالحديث يؤيد رأي عمر رضي
الله عنه أن يقضيها في هذه الأيام ولكن هل يتقصد أن يقضيها في هذه
الأيام أو المبادرة بها أفضل من تأخيرها إلى هذه الأيام؟ الثاني أولى
لأن المبادرة فيها قضاء الواجب فلو قال قائل هل الأفضل أن أقضي ما علي
من رمضان في شوال أو أنتظر عشر ذي الحجة؟ قلنا في شوال للمبادرة إلى
الخير ولو فرض أن الإنسان صار له عذر إلى آخر يوم من ذي القعدة فحينئذٍ
يمكن أن يسأل هل ترون أن أصوم عشر ذي الحجة تطوعاً أو قضاءً ماذا نقول؟
نقول قضاءً أفضل أولاً لأثر عمر وثانياً لما فيه من المبادرة إلى الخير
وثالثاً أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل كما قال الله تعالى في
الحديث القدسي (ما تقرب إليّ عبدي بشئٍ أحب إليّ مما افترضته عليه).
السائل: في قضاء رمضان لو أفطر الإنسان في القضاء فهل يحق له ذلك؟
الشيخ: لا يجوز أن يفطر في قضاء رمضان بغير عذرٍ شرعي لأن كل من دخل في
فرضٍ وجب عليه إتمامه وكل من دخل في نفلٍ لم يجب عليه إتمامه إلا الحج
والعمرة.
السائل: لو كان عليه قضاء أيام قضاها في شوال هل يدخل فيها الأجر
والثواب؟
الشيخ: نعم يعني لو أتم القضاء في شوال والست في آخر شوال فلا بأس.
باب ما يستحب وما
يكره
القارئ: ينبغي للصائم أن يحرس صومه عن الكذب والغيبة والشتم والمعاصي
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا كان يوم صوم أحدكم
فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤٌ صائم) متفقٌ
عليه.
الشيخ: في تعبير من المؤلف بقوله روي نظرٌ ظاهر جداً لأنه قال الحديث
متفقٌ عليه ومثل هذا لا يقال فيه روي بل يقال ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم لكن مر علينا الكثير من هذا ومر علينا أنه يجزم بالحديث وهو
ضعيف جداً وهذا قد يتساهل فيه بعض الناس وقوله عليه الصلاة والسلام (إن
سابه أحدٌ أو قاتله) قاتله بالسلاح وإلا بالمضاربة؟ الثاني لأنه إذا
قاتله بالسلاح يدافع عن نفسه بالسلاح كما قال الرسول عليه الصلاة
والسلام فيمن استفتاه (رجلٌ جاء يأخذ مالي؟ قال لا تعطه قال إن قاتلني؟
قال قاتله قال أرأيت إن قتلني؟ قال فأنت شهيد وإن قتلته؟ قال فهو في
النار) وقوله (فليقل إني صائم) ظاهر الحديث سواء كان الصوم فرضاً أم
نفلاً فإن كان فرضاً فالغالب أنه لا رياء فيه لأن الناس كلهم صائمون
وإن كان نفلاً فهل يقوله أو يقال هذا رياء فلا يقوله؟ من العلماء من
قال إنه يقوله ومنهم من قال إنه لا يقوله لئلا يدخله الرياء والصواب
أنه يقوله لاسيما إذا كان هذا اليوم مما يسن صومه لعله ينشطه أن يصوم
هذا اليوم مثل يوم الإثنين أو الخميس أو الأيام البيض ولكننا نقول
يقوله مطلقاً يقول إني صائم وفائدة هذا القول أولاً توبيخ هذا الذي
أراد أن يسبه أو يقاتله وثانياً بيان أنه قادرٌ على مقابلته لكنه ترك
الأمر لله عز وجل وثالثاً أن هذا أدعى إلى الكف عنه لأن المعتدي إذا
علم أنه إنما تركه أو ترك مقاتلته لهذه العبادة فسوف يخجل ويمتنع فكان
أمر النبي صلى الله عليه وسلم هو الأمر المطابق للحكمة تماماً.
القارئ: ويستحب للصائم السُحور لما روى
أنسٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تسحروا فإن في السُحور بركة)
متفقٌ عليه ويستحب تأخير السُحور وتعجيل الإفطار لما روى أبو ذر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تزال أمتي بخير ما أخروا السُحور
وعجلوا الفطور) من المسند.
الشيخ: في إسناده ابن لهيعة يكتب حديثه وعلى كل حال هو مختلط فمن روى
عنه قبل الاختلاط فحديثه حسن وإلى الصحة أقرب ومن روى بعد الاختلاط
فحديثه فيه نظر ولكن هناك حديث سهل بن سعد في الصحيحين (لا يزال الناس
بخير ما عجلوا الفطر) ولكن المؤلف جاء بهذا لأنه جمع بين الفطر
والسُحور على كل حال في هذا دليل على رأفة الله تعالى بالخلق ورحمته
إياهم وتيسيره عليهم ألا يتعجل الإنسان بالسُحور بل يؤخره حتى يعلم أنه
يدركه قبل أن يطلع الفجر لا بزمنٍ كثير ولكن على التحري والفطور أيضاً
ينبغي أن يعجل من حين أن تغرب الشمس ويغيب قرنها الأعلى تفطر حتى ولو
كنت ترى شعاعها أو ترى النور جيداً أفطر فإن هذا أفضل قال الله تعالى
في الحديث القدسي (أحب عبادي إليّ أعجلهم فطرا) وهذه من الرحمة وبهذا
نعرف خطأ أولئك الموسوسين الذين يقولون أمسك قبل طلوع الفجر بخمس دقائق
وفعلاً يوقتون أذانهم على هذا أي على وقتٍ قبل أن يطلع الفجر بخمس
دقائق وهذا غلط عظيم غلطٌ من وجهين من جهة الصيام ومن جهة الصلاة أما
من جهة الصيام فلأنهم يحرمون عباد الله ما أحل الله لهم لأن الله أحل
لنا أن نأكل ونشرب حتى يتبين الفجر والنبي صلى الله عليه وسلم قال
(كلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتومٍ فإنه لا يؤذن حتى يطلع
الفجر) ثانياً من جهة الصلاة ربما يكون بعض الناس حينذاك قد تطهر وتهيأ
للصلاة ومن حين أن يؤذن يقوم ويؤدي الفريضة أو يؤدي الراتبة ثم الفريضة
وهذا خطر عظيم لأنه لو كبر للإحرام قبل الوقت بدقيقةٍ واحدة فصلاته
نافلة لا تجزيء عن الفريضة وهذا خطر ومادام الله عز وجل يسر لنا
(حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) والرسول قال (حتى
تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) يقال له أصبحت
أصبحت ثم يذهب يؤذن
المسألة فيها سعة والحمد لله ولكن بعض الناس يضيق ما وسع الله فيضيق
على نفسه وعلى عباد الله وحدثني رجلٌ ثقة عن مؤذنٍ أعمى لا يؤذن ولو
أذن الناس يقول لأنه إذا طلع الفجر شممت ريحة ويقول إنه جُرب ولوحظ أنه
إذا أذن رأوا الفجر، وهذا أيضاً ثبت طباً من جهة الفلك أن نور الفجر
سبحان الله العظيم يرسل أشياء مثل الغازات وأشياء خفية مايدركها إلا
مثل ذاك الرجل الذي شمه قوي واستحب بعض الأطباء أنك عند طلوع الفجر
تفتح النوافذ حتى يدخل إليها ذلك الذي يأتي مع الشمس والفجر ولله في
خلقه شؤون.
السائل: لماذا لا يكون مؤذن البلد واحداً مثلاً كما في بعض البلدان
يجعلون مؤذناً واحداً يؤذن في مكان ثم ينقل إلى سائر المساجد عن طريق
مكبرات الصوت؟
الشيخ: هذا بارك الله فيك من قبل كان الناس يعتمدون على أذان الجامع
قبل اليوم والبلد ما اتسعت لا يؤذنون حتى يؤذن الجامع ولا يؤذنون
للمغرب حتى يؤذن أيضاً وأنا أدركت وغيري أدرك منكم كان المدفع بالأول
للغروب عند الصرحية على الصنقر يسمونها الصنقر وكان الريس رحمه الله
إذا غابت الشمس وهو في المنارة قبل أن يأتي الكهرب يشير لهم بخرقة
حمراء فيطلق المدفع وبعد أن جاء الكهرب صار فيه لمبة حمراء إذا غابت
الشمس ولعها ثم أطلق المدفع كانت المسألة ممكنة والآن ما يمكن - اللهم
إلا إن وضعنا هنا محطة إذاعة في كل بلد فإذا دخل الوقت يؤذن والروادي
مفتوحة في كل الجهات يمكن.
القارئ: ويستحب أن يفطر على رطب فإن لم يجد فعلى تمرات فإن لم يجد فعلى
الماء لما روى أنسٌ قال (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات
قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسواتٍ من ماء) وهذا
حديثٌ حسن.
الشيخ: يفعل هذا عليه الصلاة والسلام
تحقيقاً للفطر وإلا فقد يكون الإنسان لا يشتهي أن يأكل تمراً أو أن
يشرب ماءً ولكن تحقيقاً للفطر ينبغي أن يفعل كما فعل النبي صلى الله
عليه وسلم وليبادر بذلك وهل يقدم الطعام سوى التمر على الشراب؟ الجواب
لا لأن بإمكان الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأخذ خبزاً إن كان عنده
وعلى هذا فلو كان عند الإنسان طعاماً وليس عنده تمر قلنا أفطر على ماء
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث (فإن لم يكن فليفطر على
ماءٍ فإنه طهور) وإذا لم يجد شيئاً كمسافر غابت عليه الشمس وهو صائم
وليس معه شئ فعند العامة يمص أصبعه ويفطر واختار بعض العامة أن يبل
غترته بريقه ثم يفصلها ثم يمصها ويكون هذا أفطر على ريقه وكل هذا لا
أصل له فنقول إذا لم تجد شيئاً تأكله أو تشربه فانوِ بقلبك أنك أفطرت.
القارئ: ولا بأس بالسواك لأن عامر بن ربيعة قال (رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم) وهذا حديثٌ حسن.
الشيخ: نعم ذكره البخاري تعليقاً وقول
المؤلف لا بأس بالسواك الظاهر أنه أراد بذلك دفع من يقول إنه مكروه
وإلا فالأصل أن السواك سنة لاشك فيه لكن هل يسن في أول النهار وآخره؟
الصحيح أنه يسن في أول النهار وآخره للصائم لعموم الأحاديث الواردة في
فضل السواك مثل قوله صلى الله عليه وسلم (السواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ
للرب) ومثل قوله (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) و
(مع كل وضوء) وهذه أدلة عامة لم يستثن منها شئ مع كثرة الصيام من
الرسول عليه الصلاة والسلام ومن المسلمين في عهده وذهب بعض أهل العلم
إلى أنه لا يسن للصائم بعد الزوال أن يتسوك لأنه يذهب رائحة خلوف فم
الصائم لأن فم الصائم في آخر النهار تكون رائحته كريهة لما يخرج من
البخار من المعدة الخالية من الطعام والشراب قالوا فيكره أن يتسوك لأنه
يزيل بذلك أثر عبادةٍ تعبد لله بها فهو كغسل دم الشهيد إذا قتل فإن
الشهيد إذا قتل يدفن في ثيابه ودمه ولا يغسل لأن دمه يبقى فيه يخرج يوم
القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك فيقال في هذا
أولاً لا قياس في العبادات وثانياً هذا القياس مخالف لظاهر النصوص فلا
يعول عليه وثالثاً من قال إن الإنسان يسن له إذا حصل أثر من العبادة أن
يبقي هذا الأثر ولو كان مستكرهاً في النفوس من قال هذا؟ ولو كان كذلك
لقلنا للحاج الأشعث الأغبر إذا حللت من إحرامك فلا تزل هذا الشعث
والغبر لأنه أثر عبادة ولم يقل به أحدٌ من أهل العلم فالصواب أن السواك
باقٍ على سنيته للصائم أول النهار وآخر النهار ولكن إذا كان للسواك طعم
فإن الصائم لا يبتلعه لأنه إذا ابتلعه فقد أدخل جوفه شيئاً طارئاً عليه
فيكون بذلك مفطراً أما إذا كان لا طعم له فلا بأس أن يبتلع ريقه ولو
كان السواك في فمه ولا يضر.
القارئ: وهل يكره بالعود الرطْب على
روايتين إحداهما لا يكره لأنه يروى عن عمر وعليٍ وابن عمر والأخرى يكره
لأنه لا يؤمن من أن يتحلل منه أجزاءٌ تفطره.
الشيخ: الصحيح أنه لا فرق بين الرطب واليابس لكن الرطب إذا كان له طعمٌ
فإنه لا يبتلع طعمه.
فصلٌ
القارئ: وتكره القبلة لمن تحرك شهوته لأنه لا يأمن إفضاءها إلى فساد
صومه
الشيخ: عندي بالمخطوطة (من إفضائها) نسخة.
القارئ: ومن لا تحرك شهوته فيه روايتان إحداهما يكره لأنه لا يأمن حدوث
شهوة.
الشيخ: أنا عندي في المخطوطة بالتاء (تكره) يعني القبلة وهي أصح إذ أن
الضمير إذا عاد إلى مؤنث ولو كان مجازياً وجب تأنيث الفعل معه.
القارئ: والأخرى لا تكره (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو
صائم) متفق عليه لما كان أملك لإربه وقد روي عن أبي هريرة أن رجلاً سأل
النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له فأتاه آخر فسأله
فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب رواه أبو داود.
الشيخ: هذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه
فمنهم من قال إنه ضعيف ومنهم من قال إنه حسن أما أن يصل لدرجة الصحة
ففيه نظر والثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يقبل
وهو صائم وسئل عن ذلك وكانت عنده أم سلمة فقال للسائل سل هذه فأخبرته
(أن النبي صلى الله عليه كان يباشر وهو صائم ويقبل وهو صائم فقال يا
رسول الله إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك فقال والله إني لأعلمكم
بالله وأخشاكم له) وهذه إحالة على فعل الرسول عليه الصلاة والسلام تدل
على أن لنا به أسوة والصواب أن القبلة جائزة حتى لمن تحرك شهوته ولا
دليل على المنع والأصل الحل إلا من عرف من نفسه سرعة الإنزال فإنه لا
يقبل خوفاً من فساد صومه وقياساً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم
للقيط بن صبرة (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فالصواب أنها
جائزة ولا بأس بها والأصل الحل ولم يحرم الله علينا إلا الجماع
(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) والمباشرة كلها في القرآن هي الجماع
(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) إلى
أن قال (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ) فإن خاف الإمذاء فقط؟ إن قلنا بأنه يفطر بالإمذاء حرمت
القبلة وإن قلنا لا يفطر به وهو الصحيح لم تحرم لأنها ستؤدي إلى فعلٍ
جائز.
السائل: بعضهم إذا دعي لصلاة المغرب في الجماعة قبل أن يفطر احتج
بتعجيل الفطر وبأنه لا صلاة مع حضرة الطعام؟
الشيخ: نقول صدقت جائز ما فيه شيء إذا كان مشتاقاً له كان ابن عمر يأكل
ويتعشى ويسمع صوت الإمام ولو فاتت صلاة الجماعة معذور لكن يمكن هذا
يكون نادراً من الناس.
السائل: لو أكل الصائم في النهار علكاً؟
الشيخ: هذا أولاً نحن ننهى عنه لا لأنه
حرام فالعلك للصائم لا يفطر ما لم يكن له طعمٌ يجري بريقه لكننا لا
نحبذ هذا أولاً لإساءة الظن به فمن يدري أن الذي في فمه علك أو تمرة
مثلاً؟ وثانياً لئلا يقتدي به من لا يعرف الحكم فيظن أن الأكل للصائم
لا بأس به أما إنسان في بيته مثلاً وأكل لباناً لأجل أن يخفف بطنه فهذا
لا بأس به.
السائل: الحجر هل يجوزوضعه للصائم في الفم؟
الشيخ: لا هذا ربما إذا أدخل الحجر في فمه وله طعم ثم جمع الريق عليه
ابتلع ريقه وفيه طعم أما إذا لم يكن فيه طعم إطلاقاً فلا بأس لكنني أظن
أن الإنسان يمكن أن يجمع ريقه بدون أن يضع في فمه حجراً.
السائل: بارك الله فيكم على القول بالتفريق كما في حديث أبي داود بين
الشيخ والشاب يحتمل أن هذا الشاب عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه
أقرب إلى الإمناء؟
الشيخ: لوصح الحديث لقلنا إنه ينزل على هذا بمعنى أن الشاب قريب أن
يحصل منه الإنزال إذا قبل زوجته ويكون فيه فائدة عظيمة لوصح وهو اختلاف
الفتوى بحسب حال المستفتي وهذه مسألة مهمة جداً ولها أمثلة كثيرة ذكر
ابن القيم جملة منها في إعلام الموقعين أن الفتوى تختلف بحسب اختلاف
الأحوال والأزمان.
القارئ: والحكم في اللمس وتكرار النظر كالحكم في القبلة لأنهما في
معناها ويكره أن يذوق الطعام فإن فعل فلم يصل إلى حلقه شئ لم يضره وإن
وصل شئٌ فطره.
الشيخ: قوله يكره ذوق الطعام لم يستثنِ المؤلف شيئاً لكن ينبغي أن
يستثنى منه ما إذا ذاقه لحاجة كامرأةٍ في المطبخ تريد أن تذوق الطعام
ما مدى كثرة الملح أو ما أشبه هذا فإذا كان لحاجة فلا بأس أما إذا كان
يعبث أومن أجل أن يتلذذ بطعم الطعام في فمه فهذا يكره.
القارئ: ويكره مضغ العلك القوي الذي لا
يتحلل منه شئ فأما ما يتحلل منه أجزاءٌ يجد طعمها في حلقه فلا يحل مضغه
إلا أن لا يبلع ريقه فإن بلعه فوجد طعمه في حلقه فطرَّه، وإن وجد طعم
ما لا يتحلل منه شئٌ في حلقه ففيه وجهان أحدهما يفطره كالكحل والثاني
لا يفطره لأن مجرد الطعم لا يفطر كمن لطخ باطن قدميه بالحنظل فوجد
مرارته في حلقه لم يفطره.
الشيخ: يقولون إنه إن لطخ الإنسان باطن قدمه به أحس بطعمه في حلقه لأنه
قوي المرارة ثم إن بعض الناس يستعمله من أجل تليين الطبيعة إذا كان فيه
يبوسة في الخارج منه فإن هذا يلين الطبيعة بمنزلة المسهل وهذا حسب
التجربة وهذه المسألة التي ذكرها المؤلف تدلنا على أن القول الصحيح في
مسألة الكحل أوالتقطير في الإذن إذا وصل الحلق فإنه لا يفطر لأن العلة
واحدة هم يعللون مسألة الحنظل إذا لطخ به باطن القدم يقولون لا يفطر
لأن القدم ليس منفذاً معتاداً فيقال وكذلك العين والأذن، ليست منفذاً
معتاداً ولا أحد يحاول أن يوصل الطعام إلى المعدة من طريق العين أو
الأذن.
القارئ: ويكره الغوص في الماء لئلا يدخل مسامعه فإن دخل فهو كالداخل من
المبالغة في الاستنشاق لأنه حصل بفعل مكروه فأما الغسل فلا بأس به لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً ثم يغتسل.
الشيخ: الغوص في الماء معناه أن يكون
الإنسان عنده بركة أو بحر أو نهر فيسبح فيه ويغوص يقول المؤلف إنه يكره
والكراهة حكم شرعي تحتاج إلى دليل شرعي أو تعليل صحيح تشهد له النصوص
بالصحة وإذا رجعنا إلى هذه المسألة لم نجد دليلاً وإذا نظرنا إلى
التعليل وجدنا أنه عليل لأنه يقول لأنه يدخل مسامعه أين المسامع؟ لعله
يريد مسامه هي عندي مسامعه أيضاً لكن المسامع كما تعلمون لا تجمع لأن
الإنسان ليس عنده إلا مسمعان الأذن اليمنى والأذن اليسرى والمسام قد
تكون أقرب يعني مسام البدن لكن لنجعلها مسامعه فيقال إذا دخل إلى
مسامعه هل يصل إلى حلقه؟ لا وقياسه على الاستنشاق قياسٌ ضعيف لأن
الاستنشاق من قبل الأنف منفذٌ عادي قريب بخلاف ما يدخل في الأذن
فالصواب إذاً أنه لا يكره للصائم أن يغوص في الماء لكن يخشى في غوصه من
أن يدخل الماء إلى أنفه فيقال وإذا دخل إلى أنفه وهو لم يقصد فلا حرج
عليه.
فصلٌ
القارئ: ويكره الوصال وهو أن يصوم يومين لا يفطر بينهما لما روى أنسٌ
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تواصلوا قالوا إنك تواصل قال إني
لست كأحدكم إني أطعم وأسقى) متفقٌ عليه فإن أخر فطره إلى السحر جاز لما
روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تواصلوا
فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) أخرجه البخاري.
الشيخ: عندي بالمخطوطة (إلى السحر) وعلى كل
حال المعنى واحد لأن (حتى السحر) بمعنى (إلى السحر) قال تعالى (حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي إلى مطلع الفجر والوصال كما قال المؤلف رحمه
الله أن يصوم يومين لا يفطر بينهما وهو مكروه ما لم يتضرر به الإنسان
فإن تضرر كان حراماً لأن الله تعالى قال (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) وقد استدل عمرو بن العاص رضي
الله عنه بهذه الآية على جواز التيمم خوفاً من أذى البرد فإن النبي صلى
الله عليه وسلم بعثه في سرية فأجنب فتيمم في ليلةٍ باردة فلما رجعوا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (أصليت بأصحابك وأنت جنب) قال يا
رسول الله ذكرت قول الله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) فتيممت فضحك النبي صلى الله عليه وسلم
حتى بدت نواجذه أو أنيابه فأقره على استدلاله مع أنه لن يموت في الغالب
من البرد لكن يتضرر به فدل هذا على أن كل ما فيه ضرر على البدن فهو
حرام فالوصال مكروه ما لم يكن فيه ضرر فإن كان فيه ضرر كان حراماً ثم
ذكر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه (نهى عن الوصال) ولكن الصحابة
ظنوا أن نهيه إياهم رأفةً بهم لا اختياراً للأفضل فواصلوا فتركهم النبي
عليه الصلاة والسلام يواصلون حتى رؤي الهلال فقال (لو تأخر الهلال
لزدتكم) كالمنكل لهم يعني جعل تركهم يواصلون حتى يعلموا أن الوصال لا
خير فيه فمثلاً لو كان الوصال من أول الشهر وتأخر عشرين يوماً فإنهم
ينكلون عن هذا ولن يعودوا إلى الوصال ولما نهاهم عن الوصال أوردوا عليه
إشكالاً قالوا إنك تواصل يعني فنحن لا نعصيك أسوة وليس يريدوا أن
يقولوا لم تنه عما تفعل؟ أبداً ما أرادوا هذا إطلاقاً يعني لو أرادوا
هذا كان فيه توبيخٌ للرسول صلى الله عليه وسلم وهم لم يريدوه بل أرادوا
أنهم يواصلون أسوةٌ بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم (إني لست
كأحدٍ منكم إني أطعم
وأسقى) وهنا يقع الإشكال كيف يطعم ويسقى؟
لأنه إذا كان يطعم ويسقى فلا وصال إذ أن الوصال أن لا يأكل الإنسان ولا
يشرب ولا يأتي مفطراً بين اليومين فأكثر فإذا كان النبي صلى الله عليه
وسلم يطعم ويسقى فإنه لم يواصل في الحقيقة؟ أجاب بعضهم عن هذا بأنه
يطعم ويسقى من طعام وشراب الجنة وطعام وشراب الجنة لا يقاس بطعام وشراب
الدنيا وهذا أيضاً فيه نظر لأن طعام وشراب الجنة إن كان يغذي فهو بمعنى
طعام وشراب الدنيا وإن كان لا يغذي فإنه لا يغني شيئاً في الوصال فبطل
هذا الجواب وأحسن ما قيل فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لشدة
اتصال قلبه بربه ينسى الحاجة إلى الطعام والشراب ومثل هذا اليقين الذي
يحصل للرسول عليه الصلاة والسلام لا يحصل لأحدٍ من الخلق ولهذا قال
(لست كأحدٍ منكم) فإن قال قائل تلهي الإنسان أو انشغاله بمحبوبه يؤدي
إلى نسيان نفسه من الطعام والشراب؟ قلنا نعم وقد قال الشاعر
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
يعني أنها إذا اشتغلت بأحاديثك نسيت الطعام
والشراب وهذا شئٌ مجرب حتى الإنسان مثلاً إذا جلس إلى صديقه الذي هو
صديقه حقيقة فإنه يبقى ساعات لا يدري أنه فاتت كل هذه الساعات تروح
الساعة كأنها دقيقة واليوم كأنه ساعة ولا يهمه وهذا الجواب هو الجواب
الذي لا يرد عليه شئ وخلاصة الأمر أن الوصال مكروهٌ ما لم يتضرر به
الإنسان فإن تضرر به الإنسان فإنه محرم ثانياً أن الأصل هو التأسي
بالرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم
بدليل أنه قال (لست كهيأتكم) حتى تتأسوا بي فهم أيضاً من كلام المؤلف
الذي استدل له بالحديث الصحيح أن من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر
كأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال إن كان ولا بد فإلى السحر لا بد أن
تتسحروا ولكن إذا سألنا سائل أيهما أفضل أن أواصل إلى السحر أو أن أعجل
بالفطر؟ الثاني أفضل وهذا مما يؤيد ماكنا قلناه ونقوله إن الشيء قد
يُقرُّ وهو عبادة لكن لا يشرع فهنا الوصال أقره الرسول صلى الله عليه
وسلم إلى متى؟ إلى السحر لكن لم يشرعه بل قال (إنه لا يزال الناس بخيرٍ
ما عجلوا الفطر)
باب صوم التطوع
القارئ: وهو مستحب لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الله تعالى (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي
به الصيام جُنة والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من
ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه)
متفقٌ عليه
الشيخ: صوم التطوع من باب إضافة الشئ إلى
نوعه يعني الصوم من هذا النوع والتطوع ما سوى الفريضة اصطلاحاً عند
العلماء وأصله فعل الطاعة ولو واجبة حتى المصلي فريضةً أو الصائم فريضة
يقال له متطوع لكنه اصطلاحاً وعرفاً عند الفقهاء هو ما عدا الفريضة، من
نعمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل لكل عبادة من العبادات الخمس فريضةً
وتطوعاً لأن التطوع تجبر به الفرائض يوم القيامة وما منا أحد إلا وفي
فرائضه نقص وهذا النقص يجبر بالتطوع من جنس العبادة فلا تجبر الصدقة
بتطوع الصلاة ولا الصلاة بتطوع الصدقة ولكن الصلاة تجبر بصلاة التطوع
والزكاة تجبر بالصدقة.
الصوم له تطوع وهو ماعدا صوم رمضان فكله
تطوع وهو سنة وسيأتي إن شاء الله تفصيله واستدل المؤلف بهذا بالحديث
القدسي وهو قوله تبارك وتعالى (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي
وأنا أجزي به) كل عمل ابن آدم له فسر بلفظٍ آخر (الحسنة بعشرة أمثالها
إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجزي بدون حساب
إذا كانت الأعمال الحسنة بعشرة أمثالها فهذا الحسنة بثوابٍ لا يعلمه
إلا الله ثوابٍ على الله تعالى هو يجزي به وما أعظم الثواب إذا كان من
أكرم الأكرمين سبحانة وتعالى وقوله (فإنه لي) إذا قال قائل وبقية
العبادات لمن؟ لله فكيف قال لي؟ نقول لأن الصوم أخلص ما يكون في
العبادات إذ أنه سرٌ بين العبد وبين ربه يكون عندك في المجلس عشرة رجال
منهم رجلٌ صائم لا تدري هل هو صائم أم لا؟ لكن الله يدري والصلاة لا
يمكن أن يقوم الإنسان بتطوع إلا وهو يشاهد لأنها أفعال وأقوال وكذلك
الصدقة وكذلك الحج وبقية الأعمال لا بد أن ترى ولكن الصيام سرٌ بين
العبد وبين ربه فهو أعظم ما يكون إخلاصه فإذا كان خالصاً لله ما فيه
رياء كما قال بعض السلف الصيام لا رياء فيه لأنه أمرٌ خفي إلا إن تسلط
الإنسان على نفسه وقال للناس أنا أصوم أصوم يوم وراء يوم هذا صار فيه
رياء لكن إذا كان بينه وبين ربه كان لا رياء فيه لأنه لا يرى وقوله
(الصيام جُنة) الجُنة بضم الجيم ما يستتر به عن الأعداء وهي مثل التُرس
والتُرس مثل الطشت والطشت مثل الصحن هذه يأخذها المقاتل إذا أحد أهوى
إليه بسيفٍ أو بسهم جعل هذا بينه وبين ما أهوي به عليه فهو جُنة يقي
فكيف كان الصوم جُنة؟ نقول هو جُنةٌ للمتقين من الأعمال السيئة لقول
الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور
والعمل له والجهل فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه) إذاً هو جٌنة يقي الإنسان من
الأعمال السيئة إذا حفظ صومه وهو جُنة أيضاً من النار يوم القيامة لأن
في الجنة باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون فصار جُنةً في الدنيا
وجُنةً في الآخرة ثم أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (والذي نفس
محمدٍ بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) خُلوُفه ما
يخرج من فمه من نتن ورائحةٍ كريهة ولا سيما في آخر يوم الصوم هذه
مكروهة في مشام الناس لكنها عند الله أطيب من ريح المسك لأنها ناشئةٌ
عن طاعته كدم الشهيد عليه يخرج يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون
الدم والريح ريح المسك (للصائم فرحتان فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح
بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) فرحتان يفرحهما فرحةٌ في الدنيا وفرحةٌ
في الآخرة فرحة الدنيا إذا أفطر فرح بفطره فرح بفطره لأنه أدى فريضةً
من فرائض الله أو طاعةً من طاعاته أو فرح بفطره لأنه أحل له ما كان
ممنوعاً منه أو الأمران؟ الأمران فالنفس بطبيعتها تفرح إذا أحل لها ما
حرم عليها من قبل والنفس الزكية تفرح إذا قضت الفريضة أو تقربت إلى
الله بالتطوع فالإنسان إذا أفطر يفرح أولاً أنه أتم طاعةَ لله وثانياً
أنه أبيح له ما كان حراماً أما فرحه إذا لقي ربه فيفرح بصومه أي بأنه
صام لأنه يجد الثواب عند الله ليس كالأعمال الأخرى الحسنة بعشرة
أمثالها بل هو ثوابٌ عظيم لا يقدر قدرَه إلا الله عز وجل.
السائل: بعض الناس يقول بأن في هذا الحديث إثبات الشم لله تعالى فهل
هذا صحيح؟
الشيخ: يحتمل أنه يدل على إثبات الشم لله ولا غرابة كما أن الله يسمع
ويبصر ويتكلم ويحتمل أنه يقول (أنه أطيب عند الله من ريح المسك)
باعتبار مشامنا نحن لأن المسك هو أعلى ما يكون في شمنا.
السائل: بارك الله فيك مارأيكم لو قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لا
يأكل ويشرب من جهة نفسه فهو مواصل لكن يطعم أي يطعمه الله عز وجل
ويسقيه بحيث لا يشعر بالجوع والعطش؟
الشيخ: لا ما يصلح هذا المعنى.
السائل: الإنسان يرى رؤية أنه يأكل أو يشرب وهو صائم ويجد أثر ذلك هل
يمكن أن يحمل عليه؟
الشيخ: في المنام صحيح لأنه ورد لكن هذا يرد للرسول ولغيره فلا يصلح أن
يقول (لست كهيأتكم) يعني يوجد ناس يعني حسبما نسمع من القصص وأقول لكم
قصة رجل وكان في البلد امرأة فقيرة جارة له وكان يعطيها كل يوم قدحاً
من اللبن ثم إن هذا الرجل صاحب أسفار وفي أحد أسفاره انقطع به السير
وعطش عطشاً عظيماً ونام تحت شجرة وإذا بهذه العجوز التي كان يعطيها
تأتي إليه بقدحه الذي كان يسقيها فشرب اللبن وقام نشيطاً وشربه في
المنام ممكن.
السائل: قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (كل عمل ابن
آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصيام) هذا يدل أن مختلف فليست
الحسنة بعشرة أمثالها بل أعظم كيف نقول من صام رمضان ثم أتبعه بست من
شوال فكأنما صام الدهر لأن الحسنة بعشرة أمثالها؟
الشيخ: لا فالعلماء قالوا للتقدير فقط يعني لماذا جعله كصيام الدهر
وأما فضل الصوم نفسه فعلى ما على ماهو عليه يعني الإنسان إذا صام يوماً
فأجره ليس الحسنة بعشر أمثالها لكن هذه الأيام الستة وثلاثين صارت
كأنها إثنا عشر شهراً ويعطى أجر إثنا عشر شهراً بغير تقدير.
السائل: من نوى الوصال إلى السحر فرأى نفسه لا يستطيع فأكل أو شرب فهل
يفسد صومه كله؟
الشيخ: رجل نوى الوصال إلى السحر ثم جاع في أثناء الليل فأفطر وأكل
وشرب هل يفسد صوم النهار؟ لايفسده واضح هذا.
السائل: بالنسبة لحديث أبي هريرة (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه
فإنما أطعمه الله وسقاه) نسب الإطعام والسقي إلى الله عز وجل مع أن
الإطعام والشرب كان حقيقة؟
الشيخ: هذا لأن فعل الناسي لا ينسب إليه
أنساه الله تعالى ليمن عليه بالطعام والشراب الطعام حقيقة كتمر سكري
وماء عذب، وأفضله ما روى عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوما)
متفقٌ عليه.
القارئ: وأفضله ماروى عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر
يوماً).
الشيخ: هذا أفضل الصيام يعني هذا أفضل من أن يصوم الدهر كله الأفضل أن
يصوم يوماً وهذا لله ويفطر يوماً وهذا لنفسه فلله عليه حق وللنفس عليه
حق فيعطي كل ذي حقٍ حقه وفي الحديث دليل على تفاضل الأعمال عند الله عز
وجل لقوله (أحب) لأن أحب اسم تفضيل وفيه دليل أيضاً على إثبات المحبة
أن الله يحب عز وجل وهذا تكرر عندنا كثيراً وبينا أن هذا مذهب أهل
السنة والجماعة وفيه أيضاً أن صيام التطوع مشروع لمن سبق كما أنه واجبٌ
على من سبق لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لكن لو قال قائل أنا لو صمت يوماً وأفطرت
يوماً صار عندي كسل عن طلب العلم وإن أفطرت صار هذا أقوي فأيهما يقدم؟
الثاني لأن طلب العلم لأن طلب العلم أفضل من جميع العبادات التي يتطوع
بها.
القارئ: ويستحب صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر لما روى أبو هريرة قال
(أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث صيامِ ثلاثة أيامٍ من كل شهر
وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام) متفقٌ عليه.
الشيخ: صيامِ ويصح صيامُ على أنها خبر
لمبتدأ محذوف وصيامِ على البدلية، الشاهد قوله (ثلاثة أيام من كل شهر)
ويستفاد من قوله (ركعتي الضحى) استحباب المداومة على ركعتي الضحى وهذه
المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله منهم من قال إن ركعتي الضحى
ليستا بسنة ومنهم من قال إنها سنة دون المداومة عليها ومنهم من قال
إنها سنة مع المداومة عليها ومنهم من فصَّل فقال من له قيامٌ من الليل
فالأفضل أن لا يداوم ومن لا قيام له كأبي هريرة فالأفضل أن يداوم وهذا
اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لكن لو قيل إن المداومة عليها
سنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يصبح على كل سلامة من الناس صدقة
كل يومٍ تطلع فيه الشمس) ثم قال (ويجزيء من ذلك ركعتان) لو قيل إنها
بناءً على هذا الحديث تسن كل يوم لكان له وجه لأن هذا قول من الرسول
عليه الصلاة والسلام ومن الذي يجزم بأنه أدى الصدقة عن جميع أعضائه لا
أحد إلا أن يشاء الله لكن نقول إذاً صلِّ ركعتين تكفيك عن صدقة كل عضو.
القارئ: ويستحب أن يجعلها أيام البيض لما روى أبو ذرٍ قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (يا أباذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم
ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) وهذا حديثٌ حسن.
الشيخ: صيام أيام البيض هذا من باب إضافة
الموصوف إلى الصفة والتقدير أيام الليالي البيض وسميت هذه الليالي
الثلاث بيضاً لابيضاضها بنور القمر ومن لم يدرك الكهرباء عرف ميزة هذه
الثلاث للإضاءة وفيها أيضاً فائدة صحية ذكرها أهل العلم وقال إن
الإنسان بدنه كالقمر في هيجان الدم وأنه إذا صام في هذه الأيام الثلاثة
عاد هيجان الدم طبيعياً فإن قال قائل هل يحصل صيام ثلاثة أيام من كل
شهر التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم (صيام ثلاثة أيام من كل
شهر صوم الدهر كله) هل يحصل فيما لو فرقها؟ الجواب نعم يحصل وهل يحصل
فيما لو صامها أول الشهر؟ الجواب نعم، قالت عائشة رضي الله عنها فيما
صح عنها (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا
يبالي أصامها في أول الشهر أو وسطه أو آخره) لكن تسن في الأيام الثلاثة
كما نقول تسن صلاة الضحى والأفضل في آخر الضحى مثلاً.
القارئ: ويستحب صومُ الإثنين والخميس لما روى أسامة أن النبي صلى الله
عليه وسلم (كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس) رواه أبو داود فسئل عن
ذلك فقال (إن أعمال الناس تعرض يوم الإثنين والخميس).
الشيخ: ويوم الإثنين أوكد من يوم الخميس لأن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن صوم يوم الإثنين قال (ذاك يومٌ ولدت فيه وبعثت فيه أو أنزل عليّ
فيه) وفي آخر الحديث (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) يقوله النبي عليه
الصلاة والسلام وفي هذا دليل على أن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم
تعرض على الله عز وجل لأن الله تعالى رب العالمين تعرض عليه لبيان كمال
سلطانه وملكه عز وجل كما تعرض أعمال الرعية على ملوكها وإلا فهو عالمٌ
بذلك جل وعلا قبل أن تعرض عليه بل عالمٌ بذلك قبل أن يعملها العباد
وإنما ذلك لبيان كمال سلطانه تبارك وتعالى وملكه.
القارئ: ويستحب الصيام في المحرم لما روى
أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصيام بعد شهر
رمضان شهر الله المحرم) رواه مسلم وهذا حديثٌ حسن.
الشيخ: يشطب على عبارة (وهذا حديثٌ حسن) وما أحسن عبارة المؤلف رحمه
الله حيث قال يستحب الصيام في المحرم أي في الشهر المحرم الذي هو أول
شهور السنة الهجرية لأنه لا يسن صيامه كاملاً خلافاً لبعض العلماء
الذين قالوا إنه يسن صيامه كاملاً لحديث عائشة رضي الله عنها (ما صام
النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان) وقالت أكثر ما
يصوم من الشهور شهر شعبان فإكثار الصيام في شعبان أوكد من إكثاره في
المحرم لكن ما صيم في المحرم فهو أفضل من غيره من بقية الشهور.
القارئ: ويستحب صيام عشر ذي الحجة لما روى ابن عباسٍ قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ما من أياٍم العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من
هذه الأيام قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه
وماله فلم يرجع بشيءٍ من ذلك) وهذا حديث حسن صحيح.
الشيخ: إذا قال قائل إنه لم يذكر الصيام قلنا هو داخل في العمل الصالح
لاشك وهو أفضل الأعمال الصالحة وإن قال قائل إن عائشة نفت أنه يصوم
العشر قالت ما رأيته صائم العشر قط قلنا إن نفيها هذا معارضٌ بحديث
حفصة أنه كان لا يدع صيامها أي العشر والمثبت مقدمٌ على النافي لا سيما
إذا كان له أصل يشهد له وهو هذا الحديث (ما من أيام العمل الصالح فيهن
أحب إلى الله من هذه الأيام العشر).
السائل: أفلا يكون الصيام في العشر من ذي الحجة أفضل من الصيام في
المحرم؟
الشيخ: ربما نقول هذا لكن ما دام ورد حديث صريح في أفضل الصيام يكون
الصيام وإن كان فاضلاً في العشر من ذي الحجة لكنه في محرم أفضل لأنه
لفظ صريح.
السائل: قد تقرر بأن الحسنة بعشرة أمثالها
والحديث قيد أن من صام رمضان وأتبعه بست من شوال معلوم أن من صام غير
شوال فالحسنة بعشرة أمثالها يكون أيضاً شهرين؟
الشيخ: لا هذا يجاب عنه بأن ثواب الست تلحق بثواب رمضان ومعلوم أن ثواب
الفرض أفضل أو يجاب عنه بأن الحسنة بعشرة أمثالها لا تساوي الحسنة
بعشرة أمثالها بالنسبة للست لأن الست بالنسبة لرمضان كالراتبة بالنسبة
للصلوات وفضل الرواتب أكثر من فضل النفل المطلق.
القارئ: وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وهو التاسع من ذي الحجة وصوم
عاشوراء كفارة سنة وهو العاشر من المحرم لما روى أبو قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر
السنة التي قبله والسنة التي بعده) وقال في صيام يوم عاشوراء (إني
أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده) رواه مسلم، ولا يستحب لمن
بعرفة أن يصوم ليتقوى على الدعاء لما روى ابن عمر قال حججت مع النبي
صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ومع أبي بكرٍ فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه
ومع عثمان فلم يصمه فأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه) حديثٌ حسن.
الشيخ: يقال يوم عرفة للحاج لا يسن صيامه لأنه ثبت أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يصمه وقد قال الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة والحكمة من ذلك أن يتقوى على الدعاء
والذكر لأن أفضل دعاء يوم عرفة ما كان في آخر النهار وأشد ما يكون
الصائم كسلاً في آخر النهار ولا سيما مع طول النهار وشدة الحر فلهذا
ينهى عن الصيام يوم عرفة بعرفة وأما من قال إن الحديث عام (صوم عرفة
يكفر السنة التي قبله والتي بعده) فيقال لهم هذا هدي النبي عليه الصلاة
والسلام أنه لا يصومه ولم يأمر أحداً بصومه وإنما رغب فيه على سبيل
العموم ومن المعلوم أن العام يدخله التخصيص.
القارئ: ومن صام شهر رمضان وأتبعه بستٍ من
شوال وإن فرقها فكأنما صام الدهر لما روى أبو أيوبَ قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من صام شهر رمضان وأتبعه بستٍ من شوال فكأنما صام
الدهر كله) رواه مسلم.
الشيخ: سبق لنا أن النفل قبل القضاء فيه روايتان رواية بالجواز ورواية
بالمنع وهو المذهب وأما صيام الست من شوال فلا بد أن تكون بعد القضاء
وقبله لا تصح لأن الحديث (ثم أتبعه).
فصلٌ
القارئ: ويكره إفراد الجمعة بالصيام لما روى أبو هريرة قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم
يوماً قبله أو يوماً بعده) متفقٌ عليه وإفراد يوم السبت بالصوم لما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما
افترض عليكم) وهذا حديثٌ حسنٌ (صحيح).
الشيخ: (صحيح) ليست عندي بالمخطوطة.
القارئ: فإن صامهما معاً لم يكره لحديث أبي هريرة ويكره إفراد أعياد
الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها والتشبه بأهلها ويكره صوم الدهر لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له فكيف بمن صام الدهر؟ قال
(لا صام ولا أفطر) حديثٌ حسن ولأنه يشبه التبتل المنهي عنه ويكره إفراد
رجب بالصوم لما فيه من تشبهه برمضان وقد روي عن خرشة قال رأيت عمر رأيت
عمر يضرب أكف الناس حتى يضعوها في الطعام يعني في رجب ويقول إنما هو
شهرٌ كانت الجاهلية تعظمه ثم يقول صوموا منه وأفطروا وروى سعيد ومنصور
أوله بمعناه ولم يقل فيه (صوموا منه وأفطروا).
الشيخ: هذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله
الأيام التي يكره صومها أولاً يوم الجمعة يكره صومه يعني إفراده إفراد
يوم الجمعة وأيضاً يزاد قيدٌ آخر إفراد يوم الجمعة لكونه يوم الجمعة
أما لو أفرد يوم الجمعة لأنه لا يتفرغ إلا في هذا اليوم فلا بأس لأنه
لم يفرد يوم الجمعة لأنه يوم الجمعة ولكن لأنه لا فراغ له إلا في هذا
اليوم ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا تخصوا يوم
الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام) أخرجه مسلم، ودليل المسألة قول النبي
صلى الله عليه وسلم (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله
أو يوماً بعده) وحينئذٍ نسأل لماذا لا نحمل النهي على التحريم؟ فالرسول
أكد النهي (لا يصومن) فلماذا لا نقول إنه حرام؟ نقول لأن الرسول عليه
الصلاة والسلام أباح صومه إذا ضم إليه يومٌ قبله أو يومٌ بعده ولو كان
صومه حراماً ما صار حلالاً بالضم كصوم يوم العيد مثلاً فإنه لا يجوز
صومه ولو ضم إليه يوماً آخر قبله أو بعده فإن قال قائل ما هي الحكمة من
النهي عن صوم يوم الجمعة مع أنه يومٌ فاضل فهو عيد الأسبوع؟ قلنا لكونه
عيد الأسبوع نهي عن صومه وليتفرغ الناس فيه للعبادة لأن يوم الجمعة له
عبادات خاصة فمن أجل أن يتفرغوا فيه نهي عن إفراده وكذلك يكره إفراد
يوم السبت بالصوم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا
تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) وهذا حديثٌ حسن وإنما يكره
إفراده لأن النبي صلى الله عليه وعلى وسلم قال في صوم يوم الجمعة (إلا
أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) ولأنه دخل على إحدى أمهات
المؤمنين وهي صائمة يوم الجمعة (فقال لها أصمتي أمس؟ قالت لا قال
أتصومين غداً؟ قالت لا قال فأفطري) فدل ذلك على أن صوم يوم السبت إذا
ضم إليه يوم الجمعة ليس بمكروه ولا منهياً عنه وهذا الحديث الذي أشار
إليه المؤلف قال بعض العلماء إنه منسوخ لحديث أبي هريرة وحديث أم
المؤمنين رضي الله عنها
وقيل إنه شاذ لمخالفته الحديث الصحيح فلا
يعتمد ولهذا اختلف العلماء في صوم يوم السبت أي في إفراده والصحيح ما
ذهب إليه المؤلف لأنه قولٌ وسط وهو أنه يكره إفراده ولا يكره جمعه إلى
يوم الجمعة وكذلك أيضاً قال المؤلف إن صامهما لم يكره لحديث أبي هريرة
ويكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها والتشبه بأهلها،
فيكره أن يفرد أعياد الكفار بصوم وبناءً على ذلك يكره إفراد يوم الأحد
لأن يوم الأحد عيد للنصارى هو جمعتهم فيكره إفراده لأن فيه نوعا من
التشبه به بتعظيم هذا اليوم والعجيب أن بعضهم قال يسن صومه لأن أيام
الأعياد في الشريعة الإسلامية منهيٌ عن صومها فتكون أعياد الكفار على
العكس مأموراً بصومها ولكن ينبغي أن يقال كذلك إن خيف من ذلك أي من
إفراد صومها أن يفتتن الكفار والناس بالصوم ويقولون إنه صيم لأنه يومٌ
معظم فهنا الكراهة قوية جدا ومتوجهة وإن كان الناس لا يعلمون شيئاً كما
كنا من قبل لا نعرف أن عيد النصارى هو يوم الأحد ولا نهتم بهذا فلا بأس
لأنه يومٌ من الأيام لم يرد النهي عنه والعلة مفقودة في قومٍ لا يدرون
عن أعياد الكفار.
إذاً أعياد رأس السنة للكفار يكره أن يصومها لأن في ذلك نوعاً من
تعظيمها فيكره إفرادها.
ويكره صوم الدهر ولو قال ولو قيل بتحريمه لكان له وجه لأنه قل أن يصوم
أحدٌ الدهر كله إلا ويضيع شيئاً من شرائع الله لكن المذهب أنه يكره أن
يصوم الدهر كله ومعلومٌ أن هذا يستثنى منه الأيام التي يحرم صومها فإن
صومها حرام مثل يوم العيدين وأيام التشريق والصحيح أن أقل أحواله
الكراهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا صام من صام الأبد) ولأن عبد
الله بن عمرو بن العاص لما طلب أن يزده في الصيام قال (لا أفضل من ذلك)
وهو صوم يومٍ وفطر يوم.
والخامس إفراد رجب بالصوم فإنه يكره لأن
رجب كأحد الأشهر الأربعة الحرم ليس له عبادة خاصة لا صوم ولا صلاة ولا
غيرها لكنه كالأشهر الحرم لأنه واحدٌ منها يحرم فيه ما يحرم فيها والذي
يحرم فيها هو ابتداء القتال للكفار فهو حرام في الأشهر الحرم على القول
الراجح لكن إذا كان امتداداً لقتالٍ سابق فلا بأس أو خيف هجوم الكفار
فلا بأس أن نبدأه أما بدون سبب فإن الله سبحانه وتعالى حرم القتال في
الأشهر الحرم وكانوا في الجاهلية يعظمون رجب ويؤدون فيه العمرة ولهذا
صار محرماً القتال فيه ويوجد الآن مع الأسف مخلفات من الجاهلية في
المسلمين فإن من الناس الآن من يعظم رجب ومن يذهب ويعتمر فيه ومن يذهب
إلى المدينة ويزور المسجد النبوي يسمونها الرجبية يعني من أول الشهر
أما ليلة سبعٍ وعشرين فالمشهور عندهم أنها ليلة المعراج فيحتفلون بها
ولكن هذا ليس بصحيح لم يثبت أن ليلة سبعٍ وعشرين من شهر رجب ليلة
المعراج ولو ثبت أنها ليلة المعراج لكان فيها فضل لرسول الله صلى الله
عليه وسلم انتهى في وقته ولهذا مرت ليلة سبع وعشرين من رجب كم سنة
بعدها مرت تقريباً ثلاث عشرة سنة ولم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم
لها احتفالاً ولا أقام ذلك الصحابة رضي الله عنهم كما قلت لا يصح أن
الرسول عليه الصلاة والسلام عرج به ليلة سبع وعشرين من رجب وإن الظاهر
والله أعلم أنه عرج به في ربيعٍ الأول لأن ربيعاً الأول هو الذي ابتدأ
الوحي فيه ولأنه هو الذي فرضت فيه الصلاة وفرض الصلاة إنما كان ليلة
المعراج فأقرب ما يكون هو ربيع الأول على أن المسألة ليست بذاك فلم
يثبت أنها في ربيع الأول ولا في غيره لأنه فيما سبق كانوا لا يعتنون
بالتاريخ وأول مااعتنوا بالتاريخ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وكان عمر رضي الله عنه يضرب أكف الناس ليضعوها في الطعام لأن ولايته
كانت حزماً وقوة رضي الله عنه فإذا رأى أحداً صام في رجب ضرب يده وفي
بعض النسخ (حتى يضعه) وعندي
(حتى يضعوها) على الأول معناه أنه هو الذي
يباشر فيمسك يد الرجل ويدخلها في الطعام وهذا من قوته رضي الله عنه في
دين الله.
القارئ: وقال أصحابنا يكره صوم يوم الشك وهو اليوم الذي يشك فيه هل هو
من شعبان أو من رمضان إذا كان صحواً ويحتمل أنه محرمٌ لقول عمار (من
صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)
والمعصية حرام، رواه أبو داود والترمذي بنحوه وصححه، وكذلك استقبال
رمضان باليوم واليومين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتقدمن أحدكم
رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه)
متفقٌ عليه، وما وافق من هذا كلِه عادةً فلا بأس بصومه لهذا الحديث وقد
دل هذا الحديث بمفهومه على جواز التقدم بأكثر من يومين وقد روي عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا كان النصف من شعبان
فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) وهذا حديثٌ (حسن).
الشيخ: في نسخة بالمخطوطة (صحيح).
القارئ: فيحمل الأول على الجواز وهذا على نفي الفضيلة جمعاً بينهما.
الشيخ: فيكون معناه فأمسكوا عن الصيام أي
على وجه الأفضلية، نرجع إلى تتبع المسائل هذه قال أصحابنا يكره صيام
يوم الشك وهو الذي يشك فيه هل هو من شعبان أم من رمضان؟ إذا كان صحواً
التفسير ليوم الشك بأنه يشك هل هو من رمضان أم من شعبان صحيح لكن قوله
(إذا كان صحواً) غير صحيح لأنه إذا كان الجو صاحياً وترآء الناس الهلال
ولم يروه هذا ليس فيه شك أن الليلة من شعبان وإنما يكون الشك إذا كان
هناك غيمٌ أو قتر فإذا كان هناك غيمٌ أو قتر فإنه يُنهى أن يصوم الناس
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا رأيتموه فصوموا) إذا رأيتموه
ونحن لم نره والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الجو يكون غائماً
أحياناً وصحواً أحياناً ولهذا قال عمار بن ياسر (من صام اليوم الذي يشك
فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) وقول المؤلف رحمه الله
يحتمل أنه محرم واستدل بأثر عمار بن ياسر وهو مرفوعٌ حكماً كما هو
اصطلاح المحدثين ولكنه محمول على من صامه احتياطاً فإنه يحرم عليه
لتعدي حدود الله لأن الرسول إنما أمر بالصوم إذا رأيناه فإذا صامه قبل
الرؤية فقد تنطع في دين الله وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم (هلك المتنطعون) وكذلك استقبال رمضان باليوم واليومين لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن
يكون رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه) هذا أيضاً من المكروهات وقيل من
المحرمات فإذا بقي عن رمضان يوم أو يومان و (أو) هنا إما أن تكون
للتنويع أو للشك أما للشك فاليوم الثامن والعشرين يحتمل أنه قبل رمضان
بيوم أويومين فيكون ابتداء النهي من ثمانية وعشرين يحتمل أن يكون تسعة
وعشرين وأن الليلة من رمضان فيكون هذا الرجل قد صام صوماً يحتمل أن
يكون احتياطاً لرمضان فيدخل في عداد المتنطعين ثم ذكر المؤلف رحمه الله
الحديث الثاني في النهي عن الصيام من منتصف شعبان وجمع بينه وبين حديث
النهي عن تقدم رمضان بصوم
يومٍ أو يومين بأن الأول النهي عن الصيام
من منتصف شعبان للأفضلية يعني لا تصم على وجه الأفضلية وإن صمت فلا شيء
عليك وأما النهي عن تقدم رمضان بصوم يومٍ أو يومين فعلى الكراهة وذهب
بعض العلماء إلى أنه على التحريم وأن الصوم بعد منتصف شعبان وإلى أن
يبقى على رمضان يومٌ أو يومان على سبيل الكراهة لأن حديث النهي عن
الصوم من منتصف شعبان ورد بصيغة النهي (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)
فعندنا الآن جمعان الجمع الأول للمؤلف وهو أن النهي عن تقدم رمضان
بيومٍ أو يومين للكراهة والأمر بالإمساك عن الصوم من منتصف شعبان
للأفضلية.
الثاني أن النهي عن الصوم قبل رمضان بيومٍ أو يومين للتحريم والنهي عن
الصوم من منتصف شعبان إلى أن يكون بينه وبين رمضان يومٌ أو يومان هذا
للكراهة والقول الثالث أن حديث النهي عن صوم رمضان عن الصوم بعد منتصف
شعبان حديثٌ شاذ فلا عمل عليه فعلى هذا يكون الصوم مباحاً ويبقى على
الأصل وعلة كونه شاذاً أنه مخالفٌ لحديث الصحيحين حديث أبي هريرة أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ أو يومين)
فمفهومه أن تقدمه بأكثر من ذلك لا بأس به فهذه أقوالٌ ثلاثة في هذه
المسألة.
السائل: عفى الله عنكم كثيراً ما يرد عندنا في النصوص أن نقول إن هذا
الفعل من العبادة جائزٌ لا مستحب مع أنه إن فعله يثاب عليها إذا أثيب
ألا تعد في حقه هو أنها مستحبةً؟
الشيخ: لا، يقال إتباع السنة أولى من فعلها كالذي يعيد الصلاة بعد وجود
الماء وقد صلاها بالتيمم نقول الأول أصاب السنة فهو أفضل من الذي صار
له الأجر مرتين.
السائل: من قام بصيام داود على الواقع وبدأ بيوم الخميس سنقع في النهي
عن إفراد صيام مثلاً يوم السبت؟
الشيخ: نحن قلنا لكم قبل قليل المنهي عنه
أن تخصصه بالصوم أما إذا كان هناك سبب مثل أن يكون الإنسان لا يتفرغ
إلا في يوم السبت أو الجمعة أو كان هناك سبب بأن كان بقي عليه من صيام
ثلاثة أيام من الشهر يومٌ واحد ولم يبق في الشهر إلا يوم السبت أو
الجمعة.
السائل: حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان إلا
قليلاً هل يقوي تضعيف حديث أبي هريرة ويرفع أمر الصيام بعد منتصف شعبان
من مجرد الإباحة إلى الاستحباب؟
الشيخ: ربما يستدل به لذلك وربما يقال إن هناك فرقاً بين أن يبتدئ
الصيام من منتصف شعبان أو أن يبدأه من أوله فإذا ابتدأه من أوله فهو
استمرارٌ في الصوم.
السائل: بارك الله فيكم كيف الجمع بين النهي عن صيام أيام العيد للكفار
وبين صيام عاشوراء؟
الشيخ: الجمع هو أن الرسول صام عاشوراء وأمر الناس بصيامه وقال لليهود
نحن أحق بموسى منكم فهذا ثبت فيه النص فيتبع.
فصلٌ
القارئ: ويحرم صوم العيدين عن فرضٍ أو تطوع فإن صامهما فقد عصى ولم
يجزئاه عن فرض لما روى أبو عبيدٍ مولى ابن أزهر قال شهدت العيد مع عمر
بن الخطاب فقال (هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
صيامهما يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون من نسككم) متفقٌ
عليه.
الشيخ: هذا الفصل في بيان ما يحرم صومه من
أيام السنة فمنها العيدان عيد الفطر وعيد الأضحى لأن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن صومهما وقوله رحمه الله يحرم صوم العيدين عن فرضٍ أو
عن تطوع يعني عام فإن صامهما عصى ولم يجزئاه أما كونه عاصياً فظاهر
لأنه ارتكب النهي وأما كونه لا يجزئانه عن الفريضة فلقول النبي صلى
الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود وهذا
عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله بل عليه نهي الله ورسوله ثم ذكر
أثر عمر رضي الله عنه وبين أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
نهى عن صيام يوم الفطر من الصوم ليكون حاجزاً بيناً بين ما يجب صومه
وما لا يجب لأنه لو وصل صيام رمضان بصيام يوم العيد لم يتبين الشهر مما
بعده وهو يشبه النهي عن تقدم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، أما الثاني
فعلله بأنه يومٌ نأكل فيه من النسك ولو صام الإنسان لفات هذا الأمر
وهذا مما يدل على وجوب الأكل من الأضحية لأنه إذا حرم الصوم من أجل
الأكل دل ذلك أن الأكل واجب وإليه ذهب الكثير من أهل العلم وبه نعرف أن
أولئك الذين يرسلون الدراهم للأضحية في أي مكان من العالم أنهم على خطأ
لأنهم لم يقيموا هذه الشعيرة العظيمة التي تشوف الشارع إلى أن تكون في
البلاد الإسلامية كلها ولأن الذين يرسلون هذه الدراهم ليضحى بها أمرهم
مشكل من الذي يتولى ذبحها؟ وهل يسمي أو لا يسمي؟ ثم إذا اجتمعت دراهم
كثيرة فمن الذي يستطيع أن يشهد بأن أضحيته ذبحت في أيام الذبح قد تكون
من الزحمة والكثرة لا تذبح الا بعد أيام الذبح؟ ثم لو فرض أنها لم تكثر
تلك الكثرة العظيمة فمن الذي يضمن أن توجد المواشي في ذلك المكان حتى
تستوعب كل ما أرسل إليها لكن بعض الناس تكون عندهم عاطفة بدون تأمل
وبدون تعقل والشرع له نظر أن تكون الأضاحى في البيوت إظهاراً لشعائر
الله عز وجل.
القارئ: ولا يجوز صيام أيام التشريق لما
روى نبيشة الهذلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق
أيام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله عز وجل) رواه مسلم.
الشيخ: يعني كأن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن وضعها الشرعي أن
تكون أيام أكل وشرب وذكرٍ لله والأكل والشرب يقوي الإنسان على ذكر الله
عز وجل فهذا موضوع أيام التشريق وهي ثلاثة أيام من بعد عيد الأضحى أما
رمضان فليس فيه أيام تشريق والتشريق هنا بمعنى وضع اللحم في الشمس
وكانوا فيما سبق يشرحون اللحم ويضعون عليه الملح ثم ينشرونه في الشمس
من أجل أن ييبس فيدخرونه عندهم كل السنة أو أقل أو أكثر حسب ما عندهم
من اللحم المهم أن التشريق هو وضع اللحم في الشمس مأخوذ من شروق الشمس
حتى ييبس ويمكن ادخاره فهذه الأيام لا يجوز صومها لأنها وضعت شرعاً
للأكل والشرب والذكر والصوم يمنع من هذا الأكل والشرب ويكسل البدن عن
ذكر الله عز وجل.
القارئ: وفي صيامها للفرض روايتان إحداهما يحرم لهذا الحديث والثانية
يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا (لم يرخص في أيام التشريق
أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري وقسنا على صوم المتعة كل
فرضٍ لأنه في معناه.
الشيخ: إذاً أيام التشريق لا يجوز صومها
تطوعاً وهل يجوز أن تصام عن فريضة؟ في ذلك قولان لأهل العلم وهذان
القولان إذا قلنا بجواز صومهما في الفريضة فهل يجوز لكل فرض كالنذر
مثلاً وقضاء رمضان أو خاصة فيمن لم يجد الهدي ممن أحرم بمتعةٍ أو قران
ولم يجد الهدي؟ حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم يدل على أنه لم يرخص
في صومها إلا لمن لم يجد الهدي ومعلومٌ أن التخصيص يختص بالصورة التي
وقع فيها التخصيص وإذا قلنا إن النص ورد بتحريم صيام أيام التشريق ثم
جاء هذا الترخيص فيختص بالصورة التي فيها التخصيص وهي صيام من لم يجد
الهدي كما قالت عائشة وابن عمر مثال ذلك رجل حج متمتعاً أو حج قارناً
فعليه هدي فإن لم يجد صام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةً إذا رجع وأما قول
المؤلف رحمه الله إنه يجوز صيام الفرض فيها في غير من لم يجد هدي فهذا
غير صحيح والقياس لم يتم وذلك لأن الصيام عن دم المتعة خصه الله تعالى
في الحج وهذا مفقودٌ فيما سواه من الفرض إذ أن ما سواه من الفرض يمكن
أن تصومه في أي وقت لكن الأيام الثلاثة قال الله تعالى (فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) وأيام التشريق من أيام الحج فالصواب
أنه يحرم صوم أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي وأيضاً شرط آخر لمن لم
يجد الهدي في صيام الثلاثة التي في الحج وليس في صيام السبعة فلو أن
الإنسان الذي لم يجد الهدي صام الثلاثة أيام قبل الطلوع يعني قبل يوم
عرفة ثم شرع في صوم السبعة في أيام التشريق فصومه محرم ولا يصح فمن ثم
نعلم أنه لا بد من قيدين أن يكون صومها لمن لم يجد هدي من المتمتعين
والقارنين والشرط الثاني أن تكون للأيام الثلاثة التي في الحج.
فصلٌ
القارئ: ومن دخل في صيام تطوعٍ فله الخروج
منه ولا قضاء عليه وعنه عليه القضاء لأنها عبادةٌ فلزمت بالشروع كالحج
والأول المذهب لما روت عائشة رضي الله عنها قالت (قلت يا رسول الله
أهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْر وقد خبأت لك شيئا قال ماهو؟ قلت حيس قال
هاتيه فجئت فأكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما) رواه مسلم ولأن كل صومٍ لو
أتمه كان تطوعا لا يلزمه إتمامه وإن خرج منه لم يلزمه قضاؤه كما لو
اعتقده من رمضان فبان من شعبان.
الشيخ: من شرع في صوم تطوع فهل له أن يفطر
بلا عذر أو لا يجوز إلا بعذر؟ من العلماء من قال إنه لا يجوز إلا بعذر
قياساً على الحج والعمرة لأن الله تعالى قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهذا الأمر قبل أن ينزل فرض الحج لأنه كان في
غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ووجوب الحج إنما كان في
التاسعة أو العاشرة فمن العلماء من قال كل عبادة ولو تطوعاً شرع فيها
فإنه لا يجوز الخروج منها إلا بعذر والصواب أنه يجوز الخروج من صوم
التطوع بلا عذر لكن يكره إلا لغرضٍ صحيح وقلنا يكره لأن الله تعالى قال
(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ولأن فيه عزوفاً عن إتمام العبادة
وهروباً من إتمامها فلا ينبغي للإنسان أن يخرج حتى من النفل إلا لسببٍ
شرعي ولغرضٍ صحيح وأما حديث عائشة فلعل النبي صلى الله عليه وسلم كان
مشتهياً للطعام ويريد أن يعطي نفسه حظها ولهذا قال لقد كنت أصبحت
صائماً صياماً شرعياً ولكن لننظر هل القياس على الحج والعمرة صحيح؟ فإن
قلنا إنه صحيح وقلنا يجب على من شرع في تطوعٍ أن يتمه وأجاب عن الحديث
بأن معنى قوله (فلقد أصبحت صائماً) أي صوماً لغوياً والصوم اللغوي
بمعنى الإمساك مطلقاً سواء كان عبادة أو غير عبادة، الجواب أننا لا
نسلم ذلك أما الحج والعمرة فإن ما اختص بلزوم الإتمام في النفل لأنهما
يشبهان الجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله إذا شرع فيه لا يجوز
له العدول عنه يلزم الإتمام ويدل لهذا أن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد
قوله (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
وهذا إشارةٌ إلى أن الحج والعمرة من الجهاد في سبيل الله ويؤيد ذلك
ويرشحه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (يا رسول الله هل على النساء
جهاد؟ قال عليهن جهادٌ لا قتال فيه الحج
والعمرة) وعلى هذا فلا يصح قياس بقية
العبادات على الحج والعمرة وأما الحديث فنقول حمله على المعنى اللغوي
خلاف الأصل وخلاف القاعدة التي اتفق عليها الأصوليون وهي أن الحقيقة
تحمل على ما يقصده المتكلم فما جاء في لسان الشارع من الألفاظ يحمل على
الحقيقة الشرعية ولا بد وهذا هو الأصل وعليه يكون قول الرسول صلى الله
عليه (أصبحت صائماً) أي صياماً شرعياً.
السائل: رجل عليه صيام كفارة وتعمد أن يؤخر هذه الكفارة كي يتخللها عيد
الأضحى وأيام التشريق حتى يستريح بعض الشئ فهل التصرف هذا صحيح؟
الشيخ: لا يجوز هذا فهذا من باب التحيل على إسقاط واجب وهو التتابع ولا
يحل له ذلك وينبغي إذا أفطر يوم العيد أو أيام التشريق ينبغي أن نلزمه
بالاستئناف معاملةً له بنقيض قصده.
السائل: أيام التشريق إن وافقت عادة تصام كاثنين وخميس هل تصام؟
الشيخ: لا لا يصوم أبد إلا من لم يجد الهدي من المتمتعين أو القارنين.
السائل: حديث أبي هريرة (أن عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي) قلنا
إنه (لي) يعني أكثر موافقة الإخلاص هل نقول إن الصائم تطوع يعني الأفضل
أنه لا يسيّر على أحد أو لا يزور أحداً حتى لا يدعى إلى طعام فينكشف
أنه صائم؟
الشيخ: ينظر للمصلحة قد يكون أنه من المصلحة أن صائم التطوع يظهر صيامه
ليقتدي به إخوانه وقد يكون من المصلحة ألا يظهره والأصل في العبادات
كلها أن إخفاءها أولى هذا الأصل ما لم يوجد مصلحة أو دليل.
القارئ: وإن كان الصوم مكروها فالفطر منه مستحب لما روي عن جويرية بنت
الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة
فقال (أصمتي أمس؟ قالت لا قال أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت لا قال
فأفطري) أخرجه البخاري ومسلم.
الشيخ: في هذا الحديث دليلٌ واضح على أن صوم يوم السبت إذا ضم إليه
غيره فإنه لا بأس به لأنه مكروه إفراده لكن نصصت على السبت لأن بعض
الإخوان من المعاصرين قال لا يجوز صومه مطلقاً إلا في الفرض.
القارئ: وسائر التطوعات من الصلاة
والاعتكاف وغيرهما كالصوم إلا الحج والعمرة وعنه أن الصلاة أشد فلا
يقطعها ومال إليها أبو إسحق الجوزجاني لأن الصلاة ذات إحلالٍ وإحرام
فأشبهت الحج والمذهب الأول لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة
والحج والعمرة يخالفان غيرهما لأنه يمضي في فاسدهما فلا يصح القياس
عليهما.
الشيخ: الصحيح أن الصلاة وغيرها سواء وأنه لا ينبغي الخروج من التطوع
إلا لغرضٍ صحيح وأما بدون غرض فلا ينصرف عن ربه عز وجل وقد شرع في
طاعته.
القارئ: ومن دخل في واجبٍ كقضاءٍ أو نذرٍ غير معينٍ أو كفارة لم يجز له
الخروج منه لأنه تعين بدخوله فيه فصار كالمتعين فإن خرج منه لم يلزمه
أكثر مما كان عليه.
الشيخ: من دخل في واجب كقضاء رمضان ونذرٍ غير معين أو كفارة لم يجز له
الخروج منها والمعين من باب أولى نذرٌ غير معين مثل أن يقول لله عليّ
أن أصوم يوماً ثم شرع في الصوم نقول لا يجوز أن تخرج منه لأن هذا واجب
وقد شرعت فيه فيلزمك إتمامه وأما المعين فمثل أن يقول لله عليّ نذرأن
أصوم يوم الاثنين القادم فشرع في الصوم يوم الاثنين هذا لا يحل له أن
يقطعه لأنه واجبٌ من وجهين من جهة التعيين ومن جهة الفرضية لأنه واجب
عليه بالنذر وكذلك أيضاً لو لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليه من
رمضان السابق فهنا تكون أيام متعينة للقضاء فلا يجوز الخروج فإذا كان
لا يجوز الخروج في الموسع فالمضيق من باب أولى.
فصل
القارئ: ويستحب تحري ليلة القدر لقول الله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وهي في رمضان لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل
فيها القرآن وأنه أنزله في شهر رمضان فيدل على أنها في رمضان.
الشيخ: يقول يستحب تحري ليلة القدر يتحراها
من أجل أن يقوم فيها لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (من قام
ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فتختص ليلة
القدر من العبادات بالقيام وأما ما يفعله بعض الناس الآن في مكة أو
قريباً من مكة أو بعيداً منها يتحرونها بأداء العمرة فيها فهذا بدعة
يكون الإنسان إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة إذا تقصد تعيين هذه
الليلة لأن أي إنسان يتعبد لله تعالى بعبادة يضعها في وقت لم يضعها
الشرع فيه فهو مبتدع بصفة العبادة وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام
لم يحثنا على شئٍ في ليلة القدر إلا على القيام فإن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يدع لأمته شيئاً يقربهم إلى الله إلا دلهم عليه ولو كان
غيرها من الأعمال الصالحة يشرع فيها لبينه الرسول عليه الصلاة والسلام
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) ثم إن هذه الليلة سميت ليلة القدر إما
لشرفها وهي شريفة لا شك وإما لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة لقول
الله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:4) أي يفصل
ويبين كل أمرٍ من أمر الله عز وجل وشؤونه سبحانه وتعالى في عباده
(حَكِيمٍ) مبنيٍ على الحكمة فهل يمكن أن نقول إنها سميت ليلة القدر
للوجهين جميعاً؟ نعم نقول سميت ليلة القدر لشرفها وعلو قدرها وسميت
ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة وهي كما قال المؤلف في
رمضان قطعاً ودليل ذلك قول الله في القرآن الكريم (إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) و (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) فيؤخذ من مجموع الدليلين أنها في رمضان قطعاً وهذا يسميه
العلماء الاستدلال المركب يعني أن الحكم يؤخذ من دليلين مركبين ونظير
ذلك قول العلماء رحمهم الله أقل مدة الحمل التي يعيش فيها بعد وضعه ستة
أشهر إستدلالاً بقوله تعالى
(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً) وفي آيةٍ أخرى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) وفصاله يعني
انفصاله عن أمه وتمام رضاعه فإذا أضفت الآيتين بعضهما إلى بعض صارت
النتيجة أن أقل الحمل ستة أشهر والفصال في عامين وهذا يرد كثيراً ومن
ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الخروج عن
الأئمة إنه لا يجوز (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله
برهان) ثم سألوه لما ذكر أن بعض الأئمة يكون فيه كذا وكذا قالوا (أفلا
ننابذهم؟ قال لا ما صلوا) فجعل المانع من قتالهم ومنابذتهم هي الصلاة
وهو لم يجز منابذتهم وقتالهم إلا بالكفر البواح فينتج من هذا أن ترك
الصلاة كفر بواح وهذا حكمٌ مركب من دليلين وله نظائر لمن تأمل فتبين
بهذا أن ليلة القدر في رمضان وبه يتبين أيضاً ضعف قول من يقول إن ليلة
القدر ليلة النصف من شعبان فإن هذا لا أصل له لأنه معارضٌ للقرآن
الكريم وما عارض القرآن فهو باطل ثم هل هي في أول رمضان أو في آخره؟
كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأول من رمضان تحرياً
لليلة القدر ثم اعتكف العشر الأوسط ثم رأى في المنام ما يدل على أنها
في العشر الأواخر حين رآها صلى الله عليه وسلم ورأى أنه يسجد في
صبيحتها في ماءٍ وطين فأمطرت السماء ليلة إحدى وعشرين فصلى النبي صلى
الله عليه وسلم الفجر في الطين حتى رأوا على جبهته أثر الماء والطين ثم
قال (من كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر) فصارت الآن في العشر
الأواخر ولا تكون في الأوسط ولا تكون في الأول من الشهر بل تكون في
العشر الأواخر منه ثم إن جماعة من الصحابة أُروا ليلة القدر أُروها في
السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أرى رؤياكم قد تواطأت في
السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) لكن هذا
الحديث خاصٌ بتلك السنة فقط أما في عموم السنوات فهي من ليلة إحدى
وعشرين إلى آخر الشهر كل هذه الليالي تتحرى فيها
والدليل على هذا أن النبي عليه الصلاة
والسلام بقي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى مات ولو كانت انحصرت في
السبع الأواخر ما كلف الأمة ولا كلف نفسه أن يعتكف جميع العشر لكنها في
تلك السنة التي رأوها في السبع الأواخر قال من كان متحريها يعني في تلك
السنة فليتحراها في السبع الأواخر، وقوله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أولاً ليس لنا أن نسأل لماذا خصت ألف شهر؟
لأن التقدير في الأجور والعبادات لا مدخل للعقل فيه فلا يحل لنا أن
نسأل لماذا اختصت بكونها خيراً من ألف شهر هذا علمه عند الله ولا يجوز
السؤال عنه، والخيرية هنا هل هي في العمل بمعنى أن العمل فيها يساوي
العمل في ألف شهر أو في الخير والبركة أو في أي شيء؟ نقول هي خيرٌ من
كل خيرٍ يكون في ألف شهر.
القارئ: وأرجأه الوتر من ليالي العشر الأواخر لقول الرسول صلى الله
عليه وسلم (من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) وفي لفظ
(فاطلبوها في العشر الأواخر في الوتر منها) متفقٌ عليها.
الشيخ: الحديث الأول ذكرنا أنه في سنةٍ خاصة والحديث الثاني عام.
القارئ: وقال أبي بن كعب إنها ليلة سبعٍ وعشرين أخبرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنها ليلةُ صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع وأمارتها
تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء ليس لها شعاع فعددنا وحفظنا، هذا
الحديث صحيح أخرجه مسلم إلى قوله ((شعاع)) فهذا أصح علاماتها.
الشيخ: لكن لو قال قائل هذه العلامة لا تكون إلا بعد انتهائها لأن الله
قال (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) فما الفائدة أن يذكر لنا
علامة بعد فوات المعلم؟ نقول الفائدة أن الإنسان يزداد سروراً
واستبشاراً إذا كان وفق في تلك الليلة للقيام ولا شك أنه إذا قيل
للإنسان بعد فعله أصبت سيسر وإذا قيل لم تصب فإنه لا يسر وفيه أيضاً
علامات أخرى ذكر منها ما يأتي في الحديث.
القارئ: وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنها ليلةٌ بلْجة سمْحة لا حارةٌ ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها
بيضاء لا شعاع لها من المسند.
الشيخ: (بلجة سمحة) البلج معروف هو ضياء الوجه يقال أبلج أي وجهه مضئ
والسمحة واضحة يعني أنها سهلة يجد الإنسان فيها اطمئناناً وسروراً
وانبساطاً وانشراح صدر هذا هو معناها وأما قوله لا حارة ولا باردة هذا
في زمن يكون ما قبلها وما بعدها حاراً نسبياً أو بارداً نسبياً لكن لو
وقعت في الشتاء فستكون باردة أو في الصيف فستكون حارة لكن بالنسبة لما
قبلها وما بعدها تكون في زمن الشتاء أدفأ مما قبلها وبعدها وفي زمن
الصيف أبرد مما قبلها وبعدها أما أن تكون كأنك في وسط الربيع وهي في
قلب الشتاء فأظن أن هذا ليس مراداً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم إذ لو كان مراداً وبقيت الليالي العشرة كلها باردة لكان لكانت
ليلة القدر في هذه السنة لا توجد إذا كانت كل الليالي باردة بناءً على
أن هذا هو حال الجو معناها ما فيه فلو قلنا إنها لا حارة ولا باردة
وصار وقت الشتاء في قلب الشتاء وصارت الليالي كلها باردة معناها لن
توجد ليلة القدر وكذلك بالعكس إذا كان الجو حاراً لكن أراد النبي والله
أعلم أنها بالنسبة لما قبلها في زمن الشتاء تكون أدفأ وفي زمن الصيف
تكون أبرد هذا الظاهر والله أعلم إذا صح الحديث.
القارئ: وروى أبو سعيدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (قد
أُريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماءٍ وطين)
قال أبو سعيد فأمطرت تلك الليلة وكان المسجد على عريشٍ فوكف المسجد
فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف علينا وعلى جبهته
وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين) متفقٌ عليه.
الشيخ: هذا أيضاً مما يدل على أنها في
العشر الأواخر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً العشر الأوسط
ثم أرُي ليلة القدر لكنه أنسيها وسبب نسيانها أنه خرج صلى الله عليه
وسلم فتلاح رجلان أي تنازعا في أمرٍ بينهما فنسيها النبي عليه الصلاة
والسلام وكان هذا خيراً أن نسيها لأنه لو عينها بليلة بعينها لم ينشط
الناس على قيام العشر كلها ولقالوا نقتصر على هذه الليلة ولما عرف
الإنسان الحريص من غير الحريص لأن قيام ليلة يسهل على كل أحد لكن قيام
عشر ليال فيه صعوبة لا أحد يصبر عليه إلا من كان حريصاً على نيل الأجر
والثواب فكان في هذا حكمة.
السائل: ليلة القدر هل لها علامات معينة للدخول في ذات الليلة في حين
معين بالليل؟
الشيخ: كل الليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ولم يصح ما يذكر من
انفتاح السماء أو ظهور ضوء.
السائل: إذا رأى الأنسان في صبيحة ليلة القدر علامة مثلاً ظهرت الشمس
بلا شعاع فهل يكون هذا مسوغ لأن يتكاسل بقية الأيام؟
الشيخ: هذا سؤال جيد يقول إذا عرف أن ليلة القدر قد مضت حين رأى الشمس
بيضاء ليس لها شعاع فهل معناه أن يدع هذا بقية العشر؟ لا أنا أخشى أن
يحرم الأجر بتكاسله وأرجو أن يكون قيام الليالي بعدها كالتطوع بعد
الفريضة يعني يكمل به أجر إدراكها.
السائل: بماذا يحصل القيام؟
الشيخ: القيام يحصل بما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام لما قالوا يا
رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا قال (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب
له قيام ليلة) فنقول إذا قمت مع الإمام في أول الليل وفي آخر الليل إن
كان يأتي في آخر الليل حتى ينصرف فقد حصلت على الأجر.
فإن قال قائل ما تقولون فيما إذا كان
المسجد فيه إمامان يتناوبان فهل تجعلون كل إمامٍ صلاته منفردة عن الآخر
بمعنى أن من شهد الصلاة مع الإمام الأول في أول الليل وانصرف الإمام ثم
جاء الثاني في آخر الليل فمن أدرك الأول حتى انصرف فقد قام الليل كله
ومن أدرك الثاني حتى انصرف فقد قام الليل كله؟ الظاهر لا لأن هذين
الإمامين قاما في هذا المسجد بالتناوب فهما كإمامٍ واحد وعلى هذا فلا
بد من أن يقوم مع الأول والثاني وإلا فلا يحصل له أجر.
السائل: تخصيص ليلة السابع والعشرين بإحيائها فبعض ناس يحيون فقط ليلة
السابع والعشرين؟
الشيخ: يجوز للإنسان أن لا يقوم كل العشر لأن قيام العشر تطوع لكن قل
هل يدرك ليلة القدر من اقتصر على ليلة سبع وعشرين؟ لأن كثيراً من
العامة الآن إذا كانت ليلة سبع وعشرين غصت المساجد بهم وقبلها وبعدها
لا يحضر ولا نصف الذين حضروا ليلة سبع وعشرين نقول هذا غلط أولاً
الصحيح أن ليلة القدر تتنقل قد تكون هذا العام في سبع وعشرين وفي العام
التالي في ثلاث وعشرين وثانياً أن هذا الرجل لا يدري هل يصيب أو يدرك
الأجر الذي كان يريده في قيام ليلة القدر أو لا يدركه لكن يقع هذا من
الكسل.
السائل: هناك من يقول إن القيامين المتصلين في ليلة واحدة هو بدعة وليس
بسنة ما تعليقكم عليه؟
الشيخ: الذين يقولون إن الفصل بين القيام
الأول والثاني وتبديل الإمام الأول بالثاني بدعة عليهم الدليل لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل قال (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم
الصبح صلى واحدة فأوترت ما صلى) ولم يقيد أمته بشئٍ معين وكان السلف
الصالح يصلون أربعاً ثم يستريحون ثم يصلون أربعاً ثم يستريحون ثم يصلون
ثلاثاً فيمن يقتصر على إحدى عشرة، فالصحيح أنه ليس ببدعة لأن الذين
يفعلون هذا لا يقصدون التعبد لكن يقصدون راحة الناس لأن الناس لو جمعت
عليهم كل الركعات لتعبوا وملوا وأما كون الأئمة تتبادل فهذا في نفسي
منه شئ لكن لا أستطيع أن أقول هو بدعة وأقول ما دام الإمام قادراً
ونشيطاً على أن يصلي في أول الليل وآخره فهذا هو الأحسن والأفضل.
السائل: أحسن الله إليكم (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ) فهل من يقوم ليلة القدر في المسجد الحرام ستكون له خير من مائة
ألف ليلة القدر في أي مكان سواه؟
الشيخ: العلماء يقولون رحمهم الله إن الأعمال الصلحة تضاعف في كل مكانٍ
وزمانٍ فاضل فمن صلى في مكة ليلة القدر صار كمن صلى مائة ألف ليلة قدر
كما نقول في الجمعة من صلى جمعة فهو كمن صلى مائة ألف جمعة أو أفضل.
السائل: هل يجوز ختم القرآن في هذه الليلة الواحدة إن استطاع الإنسان؟
الشيخ: كان بعض السلف يختم القرآن في رمضان خاصة كل ليلة ولكن الأفضل
ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يختمه في ثلاثة أيام.
القارئ: والحديثان يدلان على أنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر لأن
كل واحدٍ منهما يدل على وجود علامتها في ليلة فينبغي أن تجهد في ليالي
الوتر من العشر كله.
الشيخ: نسخة بالمخطوطة (يتهجد).
القارئ: ويكثر من الدعاء لعله يوافقها ويدعو بما روي عن عائشة أنها
قالت (يارسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال قولي اللهم إنك عفوٌ تحب
العفو فاعفُ عني) رواه الترمذي وقال حديثٌ صحيح.
الشيخ: العفوُّ من أسماء الله عز وجل وهو
المتجاوز عن سيئات عباده ثم إن قرن بالمغفرة صار في مقابل ترك الواجب
والمغفرة في مقابل المحرم وإن ذكر وحده صار شاملاً لترك الواجب وفعل
المحرم كما أن المغفرة إذا ذكرت وحدها شملت النوعين جميعاً لكن إذا
قُرنا فالعفوُّ في مقابل ترك الواجب والغفور في مقابل فعل المحرم وانظر
إلى كون الإنسان يجتهد في العمل الصالح ثم يطلب العفو وهذا غاية الذل
والانكسار بين يدي الله عز وجل اللهم اعف عنا.