تعليقات
ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة كتاب الشفعة
القارئ: وهي استحقاق انتزاع الإنسان حصة شركيه من مشتريها بمثل ثمنها.
الشيخ: قول المؤلف رحمه الله (وهي استحقاق)
فيه نظر الصواب وهي انتزاع حصة شركيه صورتها أن زيداً وعمرو شريكان في أرض
باع أحدهما نصيبه على خالد فهنا طرف ثالث وهو خالد فللآخر الذي لم يبع أن
ينتزع نصيب شريكه ممن اشتراه قهراً أو اختياراً، الحكمة فيها هو لدفع الأذى
عن الشريك فإذا قال قائل دفع الأذى عن الشريك يعارضه ضرر المشتري لأن
المشتري اشترى فكيف ندفع ضرر شخص بضرر شخصٍ آخر؟ الجواب نقول أيهما أسبق في
الملك هل المشتري الحادث أو الشريك السابق؟ الجواب الشريك السابق
والسَّبْقُ له حق فلذلك كانت الحكمة أن يُمَكَّنَ الشريك الذي لم يبع من
انتزاع الشقص المبيع ممن اشتراه قهراً عليه والمشتري ليس عليه ضرر لأنه سوف
يُعْطَى الثمن الذي اشترى به قليلاً كان أو كثيراً فلو فُرِضَ أن أحد
الشريكين باع نصيبه بمائة ألف وهو لا يساوي إلا خمسين ألف فهل يأخذه الشريك
بما يساوي خمسين ألفاً أو بالثمن الذي وقع عليه العقد؟ الجواب الثاني أي
بالثمن الذي وقع عليه العقد وحينئذ لا ضرر على المشتري إطلاقاً إلا أننا
فوتنا رغبته لدفع ضرر الشريك السابق، فالشفعة لا شك أنها من حكمة الشريعة
لأن الشريك الذي لم يبع ربما يكون المشتري الجديد غُصَةً في حلقه ويتأذى به
وربما يبيع نصيبه من أجل هذا الشريك الجديد فكان مقتضى الحكمة إثبات
الشفعة.
القارئ: وهي ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى جابر قال (قضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شِرْكٍ لم يقسم رَبْعَةٍ أو حائط لا
يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم
يستأذنه فهو أحق به) رواه مسلم وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة.
الشيخ: قوله (قضى) أي حكم أو شرع بالشفعة
وسواء قلنا قضى بمعنى حكم أو أنه شرع فقضائه صلى الله عليه وسلم لا شك أنه
شرع وقوله (في كل شِرْكٍ) أي في كل مُشترَك لم يُقْسَم فإن قُسِمَ فلا
شفعة، وقوله (رَبْعَةٍ أو حَائِطٍ) الرَّبْعَة هي الدور ونحوها والحائط
البستان وما أشبهه، قوله (لا يحل له) أي للبائع (أن يبيع حتى يستأذن شريكه
فإن شاء أخذ وإن شاء ترك) يعني إذا أراد الشريك أن يبيع نصيبه فلا يحل أن
يبيعه حتى يستأذن من شريكه ويقول هل لك نظر فأنا أريد أن بيع نصيبي فهل لك
نظر، فإن قال لا نظر لي، فقد أَعْذَرَ وإن قال لي نظر ولكن أَتْرُكُكَ حتى
يقف السوم فإذا وقف السوم أخذته فعلى ما قاله له، وظاهر الحديث أنه إذا أذن
في بيعه فإنه تسقط الشفعة لأنه أذن فإذا أذن فلا حق له أن يأخذه بالشفعة
ولكن أهل العلم يقولون أنه لو أذن فإنه لا تسقط الشفعة لأن إذنه سابق على
استحقاقه إذ لا يستحق الشفعة إلا حيث تم البيع فإذا أَذِنَ فقد قَدَّم
الشيء قَبْلَ وجود سببه وتقديم الشيء قَبْلَ وجود سببه لا عبرة به، ولأن
الإنسان قد يكون الشيء رخيص عنده فإذا بِيعَ صار غالياً عنده فأخذ بالشفعة،
فإن باعه ولم يستأذنه فهو أحق به وإن استأذنه وأَذِنَ فلا حق له وهذا ما
يدل عليه الحديث، ثم قال المؤلف (وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في
الجملة) يعني في أغلب الصور وقد ذكر لنا بعض أهل العلم أن الفقهاء إذا
قالوا بالجملة فالمعنى في جميع الصور وإذا قالوا في الجملة فالمعنى في غالب
الصور.
القارئ: ولا تثبت إلا بشروط سبعة:
أحدها أن يكون المبيع أرضاً للخبر ولأن
الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك بخلاف غيره فأما غير الأرض فنوعان
أحدهما البناء والغراس فإذا بيعا مع الأرض ثبتت الشفعة فيه لأنه يدخل في
قوله حائط وهو البستان المحوط ولأنه يراد للتأبيد فهو كالأرض وإن بيع
منفرداً فلا شفعة فيه لأنه ينقل ويحول وعن أحمد رضي الله عنه أن فيه شفعة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم) ولأن في الأخذ بها
رفع ضرر الشركة فأشبه الأرض والمذهب الأول لأن هذا مما لا يتباقى ضرره
فأشبه المكيل وفي سياق الخبر ما يدل على أنه أراد الأرض بقوله فإذا طرقت
الطرق فلا شفعة النوع الثاني الزرع والثمرة الظاهرة والحيوان وسائر
المبيعات فلا شفعة فيه تبعاً ولا أصلا لأنها لا تدخل في البيع تبعاً فلا
تدخل في الشفعة تبعاً وعن أحمد رضي الله عنه أن الشفعة في كل ما لا ينقسم
كالحجر والسيف والحيوان وما في معناه ووجه الروايتين ما ذكرناه.
الشيخ: الرواية الأخيرة عن أحمد هي الصحيحة
لعموم قوله (في كل ما لم يقسم) أي الشفعة فيما لم يقسم و (ما) اسم موصول
والأسماء الموصولة تفيد العموم ولأن الضرر في غير الأرض حاصل بالنسبة
للشريك، أرأيت لو أن رجلين اشتركا في سيارة فباع أحدهما نصيبه من هذه
السيارة على رجل سيء الخُلُق أيتضرر الشريك أو لا يتضرر؟ الجواب يتضرر
فالضرر حاصل في الأرض وفيما يُنْقَل فالصواب أن الحديث عام وأن كل شيء فيه
شفعة حتى لو كان بينك وبين شخص قلم وباع نصيبه من القلم فلك أن تُشَفِّعَ
على القول الراجح أو كان بينكما كتاب مثلاً فباع نصيبه منه فلك أن
تُشَفِّعَ لأن الضرر حاصلٌ بهذا كما يَحْصُلُ في الأرض، وأما قول النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فهذا
الحكم ينطبق على بعض أفراد العموم ولا يقتضي التخصيص إذا قلنا فيما لم يقسم
من كل شيء فالسيارات وما أشبهها من المنقولات ليس فيها طرق ولا حدود والأرض
فيها طرق وحدود وتفريع حكم يتعلق ببعض العام لا يقتضي التخصيص كما قال
العلماء في قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ
فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) فكلمة (بعولتهن) تقتضي
أن من لا رجعة لها لا تتربص ثلاثة قروء مع أنَّ لفظ (المطلقات) عام لكن
العلماء قالوا إن المطلقة عليها العدة سواءٌ كان زوجها له المراجعة أو لا،
وعليه فالصواب أن الشفعة ثابتة في كل مشترك من الأراضي والنخيل والزروع
وغيرها.
فصل
القارئ: الشرط الثاني أن يكون المبيع
مشاعاً لما روى جابر قال (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفعة فيما لم
يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري ولأن الشفعة
ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك وما يحتاج إلى
إحداثه من المرافق ولا يوجد هذا في المقسوم.
الشيخ: هذا صحيح فالمشترك إذا قُسِمَ زالت الشركة فيه، فعلى هذا لا شفعة
للجار لأن الجار نصيبه متميز عن نصيب جاره فإذا باع الجار ملكه على شخص
فليس لجاره أن يُشَفِّعَ وهذه المسألة ربما تأتي وفيها ثلاثة أقوال الأول
أن الجار له الشفعة مطلقاً والثاني ليس له الشفعة مطلقاً والثالث أنه إن
شَارَكَ جاره في شيء من منافع المُلْكِ فله الشفعة وإلا فلا.
فصل
القارئ: الشرط الثالث أن يكون مما تجب قسمته عند الطلب فأما مالا تجب قسمته
كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا شفعة فيه لما روي عن عثمان رضي
الله عنه أنه قال لا شفعة في بئر ولا نخل ولأن إثبات الشفعة إنما كان لدفع
الضرر الذي يلحق بالمقاسمة وهذا لا يوجد فيما لا يقسم وعن أحمد رضي الله
عنه أن الشفعة تثبت فيه لعموم الخبر ولأنه عقار مشترك فثبتت فيه الشفعة
كالذي يمكن قسمته والمذهب الأول.
الشيخ: هذا من غرائب العلم أن نقول إن ما
تجب قسمته فيه الشفعة وما لا فلا، والذي تجب قسمته هو الذي إذا قُسِمَ لا
يتضرر أحد من الشركاء فيه كالأرض الواسعة الكبيرة إذا قسمت لا يتضرر أحد
بخلاف الأرض الصغيرة فإنها إذا قسمت لم تصلح للبناء فمثلاً رجلان بينهما
أرض قدرها عشرة أمتار في عشرة أمتار فهذه لو قسمت لتضرر الطرفان أما لو كان
بينهما أرض قدرها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف متر فهذه لو قسمت فلا ضرر
والفقهاء يقولون رحمهم الله إن الأرض التي تجب قسمتها عند الطلب فيها شفعة
وأما التي لا تجب فليس فيها شفعة. وهنا نسأل أيهما أولى بالشفعة؟ الجواب
الثاني أولى بالشفعة لأن الشفعة في الأرض الكبيرة إذا تضرر الشريك الذي لم
يبع فله أن يطلب المقاسمة وتقسم فرضاً على المشتري وأما في الأرض التي لا
تجب قسمتها إذا تضرر الشريك الذي لم يبع وطلب القسمة فإنه لا يُجاب إلى
طلبه فإما أن تباع الأرض كلها وإما أن تبقى كلها، ولا شك أن الشرع لا يمكن
أن يفرق بين متماثلين بل هذه المسألة ليست بين متماثلين بل هي بين متباينين
أحدهما أحق بالحكم من الآخر فالصواب أن الشفعة واجبة فيما تجب قسمته وفيما
لا تجب.
القارئ: فأما الطريق في درب مملوك فإن لم يكن للدار طريق سواها فلا شفعة
فيها لأنه يضر بالمشتري لكون داره تبقى بلا طريق وإن كان لها غيرها ويمكن
قسمتها بحيث يحصل لكل واحد منهم طريق ففيها الشفعة لوجود المقتضي لها وعدم
الضرر في الأخذ بها وإن لم يمكن قسمتها خرج فيها روايتان كغيرها.
السائل: هل يمكن بيع الغِراس بدون الأرض والعكس؟
الشيخ: يمكن ذلك ومثاله أنا أملك أرضاً وأتاني رجل وغارسته فله أن يغرس
نخلاً في أرضي وله نصف النخل مثلاً لكن ليس له حقٌ في الأرض والنخل بيني
وبينه فيمكن أن يبيع نصيبه ويمكن أن يجئ شخص ما ويشتري مني الأرض التي فيها
شجر مثلاً وأَسْتثْنِي من البيع الشجر فيكون له الأرض ولي الشجر.
فصل
القارئ: الشرط الرابع أن يكون الشقص
منتقلاً بعوض فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه لأنه انتقل بغير بدل
أشبه الموروث والمنتقل بعوض نوعان أحدهما ما عوضه المال كالمبيع ففيه
الشفعة بالإجماع والخبر ورد فيه الثاني ما عوضه غير المال كالصداق وعوض
الخلع والصلح عن دم العمد وما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير فلا شفعة فيه في
ظاهر المذهب لأنه انتقل بغير مال أشبه الموهوب ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل
العوض أشبه الموروث وقال ابن حامد فيه الشفعة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع
فعلى قوله يأخذ الشقص بقيمته لأن أخذه بمهر المثل يفضي إلى تقويم البضع في
حق الأجانب ذكره القاضي وقال الشريف يأخذه بمهر المثل لأنه ملكه ببدل لا
مثل له فيجب الرجوع إلى قيمته كما لو اشتراه بعرض ولا تجب الشفعة بالرد
بالعيب ولا الفسخ بالخيار أو الاختلاف لأنه فسخ للعقد وليس بعقد ولا برجوع
الزوج في الصداق أو نصفه قبل الدخول لذلك ولا بالإقالة إذا قلنا هي فسخ
لذلك.
الشيخ: اشترط المؤلف شرطاً رابعاً وهو أن
يكون انتقال الشقص الذي فيه الشفعة بعوض مالي والعوض المالي كالمبيع، سواء
كان هذا العوض المالي عيناً أو منفعة فالمبيع عوضه إما عين أو منفعة
كالإجارة فتثبت فيه الشفعة أما إذا انتقل بغير عوض أو بعوض غير مالي فلا
شفعة فيه، مثاله إذا انتقل بغير عوض، أن يهب الشريك لشخص نصيبه مِن هذا
الملك فإنه لا شفعة للشريك لعدم إمكان التقويم وهذا على ما ذكره الفقهاء
رحمهم الله قالوا لأنه انتقل بغير عوض أشبه الموروث لكن في هذا نظر لأننا
نقول إذا انتقل بهبة فإنه يُقَوَّمُ وتُقَدَّرُ قيمته فيقال كم يساوي هذا
الشقص الذي وهبه الشريك فإذا قالوا يساوي كذا وكذا قلنا للشريك خذه بقيمته
وأعطي الموهوب له هذه القيمة، وليس في هذا ضرر لا على الموهوب له ولا على
الواهب لأن الواهب تخلى عنه وأخرجه عن ملكه والموهوب له حصل له عوض هذا
الموهوب وكذلك إذا انتقل الشقص بغير عوض بأن أوصى به لفلان فمات فانتقل
بالوصية إلى فلان فالحكم فيه كالحكم في الهبة فالمذهب ليس فيه شفعة والصحيح
أن فيه شفعة، فإذا انتقل الشقص إلى وقف بأن يُوقِفَ الشريك نصيبه على
المساجد أو على طلبة العلم أو على طبع الكتب وما أشبه ذلك فهل فيه شفعة؟
الجواب نقول الشقص الآن انتقل إلى غير معين بغير عوض فاجتمع فيه أمران
الأول كونه بغير عوض والثاني كونه إلى غير معين فهذا قد يتوقف فيه الإنسان
لأن الشريك الأول لن يزاحمه أحد في الشركة لأن المال مشاع بين الفقراء أو
طلبة العلم أو ما أشبه ذلك وقد يقال إنه تجب فيه الشفعة ويُقَدَّرُ هذا
الوقف الذي وُقِّفَ على طلبة العلم أو على الفقراء ويُشْتَرَى بقيمته مكان
آخر وعليه فنقول يُرْجَعُ في هذا إلى رأي القاضي فينظر ما هو الأصلح، وإذا
كان عوضه غير مالي كالصداق فالمذهب أنه لا شفعة فيه مثل أن يتزوج امرأة
ويُصْدِقَهَا نصيبه من هذا الملك فيتزوجها ويدخل بها ويثبت لها هذا النصيب
فالمذهب أنه ليس
فيه شفعة لأن عوضه ليس ماليّاً فَعِوضُ
الصَّدَاق هو الاستمتاع بالزوجة فهو غير مالي والقول الثاني في المسألة أن
فيه الشفعة وذلك بأن يُقَدَّر هذا الصَّدَاق بقيمته وتعطى الزوجة قيمة
الشقص وهذا القول أقرب إلى الصواب لأنه انتقل إلى شخص معين ولأنه يخشى من
الأذية للشريك من هذه المرأة أو من أوليائها أو من زوجها، والخلاصة أنه إذا
انتقل الشقص بأي عوض كان فإن الشفعة فيه تامة فما انتقل بعوض فإنه يُعطَى
المشتري ذلك العوض وما انتقل بغير بعوض أو بعوض غير مالي فإنه تُقدَّر
قيمته وتعطى مَنْ انتقل إليه ويَضُمُّه الشَّريك إلى نصيبه.
مسألة: إذا وهب شخصٌ لآخر شقصاً قيمته عشرة آلاف ريال فأثابه الآخر بخمسة
آلاف فالهبة التي فيها الثواب يقول العلماء أن حكمها حكم البيع، مثاله لو
باع عليه الشقص الذي يساوي عشرة آلاف ريال بخمسة آلاف فحاباه فيه لأنه
صديقه أو قريبه فللشريك أن يأخذه بالثمن الذي استقر عليه العقد، وليس هناك
ضرر على الموهوب له فهو بَذَلَ خمسة آلاف وأُعطِي خمسة آلاف بدلها.
السائل: لو أن الشريك باع نصيبه ولَمَّا رأى أن شريكه سوف يُشَفِّعُ
تَرَاجَعَ عن البيع، فهل يُمَكَّنُ من ذلك أو لا؟
الشيخ: لا يُمَكَّنُ من ذلك مادام أن العقد قد تم بين البائع والمشتري إلا
إذا كان ذلك في مجلس الخيار فلا بأس أما بعد التفرق فقد تم البيع.
السائل: هل الشفعة لا تثبت إلا فيما هو مملوك لشخصين أو أنها تثبت حتى فيما
يستحقانه استحقاقاً؟
الشيخ: لا، لابد أن يكون مملوكاً لأن الاستحقاق قد يتخلف.
السائل: هل الشفعة تثبت في الإجارة؟
الشيخ: المذهب أنها لا تثبت لأنه لم ينتقل المُلك والقول الثاني أن الإجارة
إذا كانت مدة يسيرة كشهر أو نصف شهر فلا شفعة لأنه إن قُدِّرَ ضررٌ فهو
يسير وإن كانت دائمة أو طويلة ففيها الشفعة وهذا القول هو الصحيح.
فصل
القارئ: الشرط الخامس الطلب بها على الفور
ساعة العلم فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة قال أحمد الشفعة بالمواثبة
ساعة يعلم لما روي عن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (الشفعة كحل العقال) رواه ابن ماجه ولأن إثباتها على التراخي يضر
بالمشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ولا يتصرف فيه بعمارة خوفاً من
أخذ المبيع وضياع عمله وقال ابن حامد تتقدر بالمجلس وإن طال لأنه كله في
حكم حالة العقد بدليل صحة العقد بوجود القبض لما يشترط قبضه فيه وعن أحمد
أنه على التراخي ما لم توجد منه دلالة على الرضى كقوله بعني أو صالحني على
مال أو قاسمني لأنه حق لا ضرر في تأخيره أشبه القصاص والمذهب الأول.
الشيخ: المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الشفعة على الفور واستدلوا بحديث (الشفعة كحل العقال) لكن
هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به وقوله (كحل العقال) يعني كحل الإنسان
عقال ناقته فتقوم، ولكنَّ هذا الحديث ضعيف فلا عمل عليه.
القول الثاني: أنها تختص بالمجلس.
والقول الثالث: أنها حق للشفيع لا يسقط إلا
بما يدل على إسقاطه من قول أو فعل وهذا هو القول الراجح فالراجح أن الشفعة
حق للشفيع لا تسقط إلا بما يدل على إسقاطها من قول أو عمل فأما القول وذلك
بأن يقول إني أسقطت الشفعة في نصيب شريكي الذي باعه، وأما العمل وذلك بأن
يرى المشتري يتصرف فيما اشتراه وهو ساكت لم يقل انتظر حتى أنظر في أمري
أَأُشَفِّعُ أم لا لأن إقراره على ذلك يدل على رضاه أما قوله (بعني أو
صالحني على مال أو قاسمني) فهذه ينظر فيها فقوله (قاسمني) لا شك أنها تدل
على الرضى فإذا قال يا فلان إن شريكي باع عليك نصيبه فقاسمني أي نتقاسم أنا
وإياك فهذا لا شك أنه راضٍ لأن طلب القسمة يدل على أنه راضٍ بالبيع ولا
يريد الشفعة، أما إذا قال (صالحني) فهل هذا يدل على الرضى؟ الجواب قد نقول
إن هذا لا يدل على الرضى لأنه قد يطلب المصالحة خوفاً من المحاكمة وهذا
يفعله كثير من الناس الذين لهم الحقوق يطلبون المصالحة لئلا تحصل المحاكمة
فليس ذلك دليلاً واضحاً على أنه راضٍ بذلك وكذلك قوله (بعني) فربما يقول
بعني ويريد بذلك كفّاً للنزاع أو يقول أنت اشتريته بعشرة آلاف ريال وأنا
سأعطيك إحدى عشر ألف، فليس هذا دليل على الرضى لكن في المقاسمة الأمر فيها
واضح أنها دليل على الرضى، فإذا قال قائل إذا وجد لفظ يحتمل أنه راضٍ ومسقط
للشفعة ويحتمل عدم الرضى فما هو الأصل؟ الجواب الأصل عدم إسقاطها وأن حقه
ثابت فهذا هو الأصل.
القارئ: لكن إن أخره لعذر مثل أن يعلم ليلاً فيؤخره إلى الصباح أو لحاجة
إلى أكل أو شرب أو طهارة أو إغلاق باب أو خروج من الحمام أو خروج لصلاة أو
نحو هذا لم تبطل شفعته لأن العادة البداءة بهذه الأِشياء إلا أن يكون
حاضراً عنده فيترك المطالبة فتبطل شفعته لأنه لا ضرر عليه في الطلب بها.
الشيخ: في الوقت الحاضر مثل هذه الأشياء لا
تكون عذراً لأن هناك الهاتف فيمكن أن يتصل على الذي اشترى الشقص ويقول يا
فلان سمعت أن شريكي قد باع عليك نصيبه وأنا مُشَفِّعٌ، لكن إذا كان لا يعرف
رقمه فهو معذور ولكن هذا بناءً على القول بالفورية وأما إذا قلنا بالتراخي
وأن الإنسان له مهلة يراجع فيها نفسه وينظر هل من المصلحة أن يأخذه بالشفعة
أو لا فالأمر واضح.
القارئ: وإن لقيه الشفيع فبدأه بالسلام لم تبطل شفعته لأن البداءة بالسلام
سنة وكذلك إن دعا له فقال بارك الله لك في صفقة يمينك لاحتمال أن يكون دعا
له في صفقته لأنها أوصلته إلى شفعته.
الشيخ: قوله (لاحتمال أن يكون دعا له في صفقته لأنها أوصلته إلى شفعته)
نقول هذا مثل قول بعض العلماء إنه ينبغي للإنسان إذا رأى أحداً من أهل
الذمة أن يقول أكثر الله مالك وولدك وذلك لكي تكثر الجزية، وهذا الذي قال
بارك الله لك في صفقتك نجد أن أول ما يتبادر للذهن أنه أقر أن يكون الشقص
ملكاً للذي اشتراه لا أنه أراد أن يبارك الله لك في صفقتك لأني سوف آخذه
بالشفعة، وعلى كل حال فما كُنَّا في شكٍ منه هل هو دالٌ على الرضى أو لا،
فالأصل فيه عدم الرضى.
القارئ: وإن أخر الطلب لمرض أو حبس أو غيبة
لم يمكنه فيه التوكيل ولا الإشهاد فهو على شفعته لأنه تركه لعذر وإن قدر
على إشهاد من تقبل شهادته فلم يفعل ولم يسر في طلبها بغير عذر بطلت شفعته
لأنه قد يترك الطلب زهداً أو للعذر فإذا أمكنه تبيين ذلك بالإشهاد فلم يفعل
بطلت شفعته كتركه الطلب في حضوره وإن لم يشهد وسارع عقيب علمه ففيه وجهان
أحدهما تبطل لأن السير قد يكون لطلبها أو لغيره فوجب بيان ذلك بالإشهاد كما
لو لم يسر والثاني لا تبطل لأن سيره عقيب علمه ظاهر في طلبها فاكتفي به
كالذي في البلد وإن أشهد ثم أخر القدوم لم تبطل شفعته لأن عليه في العجلة
ضرراً لانقطاع حوائجه وقال القاضي تبطل إن تركه مع الإمكان وإن كان له عذر
فقدر على التوكيل فلم يفعل ففيه وجهان أحدهما تبطل شفعته لأنه تارك للطلب
مع إمكانه فأشبه الحاضر والثاني لا تبطل لأنه إن كان بجعل ففيه غرم وإن كان
بغيره ففيه منة وقد لا يثق به وإن أخر المطالبة بعد قدومه وإشهاده ففيه
وجهان بناءً على تأخير السير لطلبها.
الشيخ: كل ما ذكره المؤلف هنا مبني على القول بالفورية أما على القول بأنها
على التراخي وأن الشريك له أن يُمْهَلَ حتى يراجع نفسه فقد يكون الشريك ليس
عنده مال فَأخَّرَ الطلب لينظر هل يجد مَنْ يقرضه أو لا، وقد يكون الشريك
عنده مال لكن أَخَّرَ لينظر هل الشقص بيع بثمن المثل أو بأكثر فَيَتَروَّى،
فالحق له في ثبوت الشفعة فلا يمكن سقوطه ولا إسقاطه إلا بما يدل على ذلك من
قول أو فعل.
السائل: هل تثبت الشفعة في الشقص إذا وُقِّف على جهة معينة؟
الشيخ: إذا كان على معين فهو مثل البيع فللشريك الحق ويُعطى الموقوف عليه
قيمة الشقص.
السائل: إذا باع الشريك نصيبه وقال لشركائه هل لكم فيه نظر فلم يجيبوه
فباعه وحابا المشتري لأنه صديقه مثلاً فأرخص له في السعر، فهل له أن يكتب
في عقد البيع خلاف الثمن الذي وقع عليه العقد؟
الشيخ: لا يجوز لأن هذه حيلة، فهو يُظْهِرَ
للشريك أنه باع الشقص على هذا المشتري بثمن كثير حتى يَصُدَّ شريكه عن
الأخذ بالشفعة فهذا لا يجوز لأنه حيلة على إسقاط حقٍ أثبته الشرع لهذا
الشريك.
السائل: إذا مات الشفيع قبل أن يبدي رأيه في حقه في الشفعة فما العمل؟
الشيخ: ينتقل الحق للورثة لأن الورثة يملكون التركة بجميع حقوقها.
فصل
القارئ: فإن ترك الطلب لعدم علمه بالبيع أو لكون المخبر لا يقبل خبره أو
لإظهار المشتري أن الثمن أكثر مما هو أو أنه اشترى البعض أو اشترى بغير
النقد الذي اشترى به أو أنه اشتراه لغيره أو أنه اشتراه لنفسه وكان كاذباً
فهو على شفعته ولو عفا عن الشفعة لذلك لم تسقط لأنه قد لا يرضاه بالثمن
الذي أظهره أو لأنه لا يقدر على النقد وقد يرضى مشاركة من نسب إليه البيع
دون من هو له في الحقيقة فلم يكن ذلك رضى منه بالبيع والواقع وإن أظهر
الثمن قليلاً فترك الشفعة وكان كثيراً سقطت لأن من لا يرضى بالقليل لا يرضى
بأكثر منه فإن ادعى أنه لم يصدق المخبر وهو ممن يقبل خبره الديني سقطت
شفعته رجلاً كان أو امرأة إذا كان يعرف حاله لأن هذا من باب الإخبار وقد
أخبره من يجب تصديقه وإن لم يكن المخبر كذلك فالقول قوله.
الشيخ: قوله (فالقول قوله) وجه ذلك أن هذا إنما أسقطها بناءً على عدم ثبوت
البيع فيما إذا كان المخبر فاسقاً أو مجهولاً عند الشريك وهذا كله مبني على
أن المطالبة بالشفعة على الفور.
فصل
القارئ: فإن باع الشفيع حصته عالماً بالبيع
بطلت شفعته لأنها ثبتت لإزالة ضرر الشركة وقد زال ببيعه وإن باع قبل العلم
فكذلك عند القاضي لذلك ولأنه لم يبق له ملك يستحق به وقال أبو الخطاب لا
تسقط لأنها ثبتت بوجود ملكه حين البيع وبيعه قبل العلم لا يدل على الرضى
فلا تسقط وله أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه ولمشتريه أن يأخذ
الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه لأنه كان مالكاً حين البيع الثاني ملكاً
صحيحا فثبتت له الشفعة وعلى قول القاضي للمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري
الثاني وإن باع الشفيع البعض احتمل سقوط الشفعة لأنها استحقت بجميعه وقد
ذهب بعضه فسقط الكل ويحتمل أن لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به
الشفعة في جميع المبيع.
الشيخ: قوله (وإن باع الشفيع البعض ... ) نقول الاحتمال الثاني أصح، أما
إذا باعه فالصحيح أنها تسقط مثال ذلك زيد وعمرو شريكان في أرض فباع عمرو
على خالد ثم بعد بيع عمرو على خالد باع زيد على محمد، فهل نقول إن له
الشفعة أو نقول إنه لمَّا باع انتقل الملك عنه ولا يثبت للثاني شفعة لأن
ملكه إياه بعد أن بِيعَ الأول؟ الصحيح الثاني وهو أنه إذا باع الشريك الذي
يستحق الشفعة نصيبه قبل أن يأخذ بالشفعة فإنه لا شيء له ويبقى الملك بين
الشريكين المشتري الأول الذي اشتراه من الشريك الأول والمشتري الثاني الذي
اشتراه من الشريك الثاني.
فصل
القارئ: الشرط السادس أن يأخذ جميع المبيع
فإن عفى عن البعض أو لم يطلبه سقطت شفعته لأن في أخذ البعض تفريقاً لصفقة
المشتري وفيه إضرار به وإنما ثبتت الشفعة على وجه يرجع المشتري بماله من
غير ضرر به فمتى سقط بعضها سقطت كلها كالقصاص فإن كان المبيع شقصين من
أرضين فله أخذ أحدهما لأنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر فجرى مجرى
الشريكين ويحتمل أن لا يملك ذلك لأن فيه تفريق صفقة المشتري أشبه الأرض
الواحدة وإن كان البائع أو المشتري اثنين من أرض أو أرضين فله أخذ نصيب
أحدهما لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان فهما عقدان فكان له الأخذ
بأحدهما كما لو كانا متفرقين.
الشيخ: قوله (لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان فهما عقدان فله الأخذ
بأحدهما) نقول ولأنه قد يرضى بالثاني دون شريكه فلو أن زيداً وعمرواً
شريكان في الأرض وباع عمرو على شخصين فللشفيع أن يأخذ من أحدهما دون الآخر
لأنه لا ضرر عليهما وهو قد لا يرضى بمشاركة أحد المشتريين ويرضى بمشاركة
الشريك الآخر.
فصل
القارئ: فإن كان للشقص شفعاء فالشفعة بينهم على قدر حصصهم في الملك في ظاهر
المذهب لأنه حق يستحق بسبب الملك فيسقط على قدره كالأجرة والثمرة وعنه أنها
بينهم بالسوية اختارها ابن عقيل لأن كل واحد منهم يأخذ الكل لو انفرد فإذا
اجتمعوا تساووا كسراية العتق فإن عفى بعضهم توفر نصيبه على شركائه وليس لهم
أخذ البعض لأن فيه تفريق صفقة المشتري.
الشيخ: الصحيح الأول خلاف ما اختاره ابن عقيل رحمه الله وأن لكل واحد منهم
الشفعة بقدر نصيبه فصاحب النصف له نصف المبيع الذي فيه الشفعة وصاحب الثلث
له الثلث وصاحب السدس له السدس وهكذا.
القارئ: وإن جعل بعضهم حصته لبعض شركائه أو
لأجنبي لم يصح وكانت لجميعهم لأنه عفو وليس بهبة وإن حضر بعض الشركاء وحده
فليس له إلا أخذ الجميع لئلا تتبعض صفقة المشتري فإن ترك الطلب انتظاراً
لشركائه ففيه وجهان أحدهما تسقط شفعته لتركه طلبها مع إمكانه والثاني لا
تسقط لأن له عذراً وهو الضرر الذي يلزمه بأخذ صاحبيه منه فإن أخذ الجميع ثم
حضر الثاني قاسمه فإذا حضر الثالث قاسمهما وما حدث من النماء المنفصل في يد
الأول فهو له لأنه حدث في ملكه وإن أراد الثاني الاقتصار على قدر حقه فله
ذلك لأنه لا تتبعض الصفقة على المشتري إنما هو تارك بعض حقه لشريكه فإذا
قدم الثالث فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني وهو التسع فيضمه إلى ما في يد
الأول وهو الثلثان تصير سبعة أتساع يقتسمانها نصفين لكل واحد منهما ثلاث
أتساع ونصف تسع وللثاني تسعان ولو ورث اثنان داراً فمات أحدهما عن ابنين
فباع أحدهما نصيبه فالشفعة بين أخيه وعمه لأنهما شريكان للبائع فاشتركا في
شفعته كما لو ملكا بسبب واحد.
فصل
القارئ: وإن كان المشتري شريكاً فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر لأنهما
تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو كان الشريك أجنبيا فإن أسقط
المشتري شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل لم يملك ذلك لأن ملكه استقر على قدر
حقه فلم يسقط بإسقاطه وإن كان المبيع شقصاً وسيفاً صفقة واحدة فللشفيع أخذ
الشقص بحصته من الثمن نص عليه ويحتمل أن لا يجوز لئلا تتشقص صفقة المشتري
والصحيح الأول لأن المشتري أضر بنفسه حيث جمع في العقدين فيما فيه شفعة
ومالا شفعة فيه.
الشيخ: وهناك قول ثالث وهو أن الشفعة في
الجميع وهذا هو الصواب، وقول المؤلف رحمه الله (شِقصاً وسيفاً) إنما عبَّر
بذلك تقليداً لغيره لأن أول من قال هذه العبارة مثَّل بالسيف وإلا لو قيل
شقصاً وسيارة فيصح أو قال شقصاً وباباً يصح والمقصود أنه جمع بين ما فيه
الشفعة ومالا شفعة فيه فهذا هو المقصود وإذا قلنا بالقول الراجح أن الشفعة
في الجميع فلا إشكال.
السائل: لو كان للشقص نماء منفصل فلمن يكون؟
الشيخ: النماء المنفصل قبل الأخذ بالشفعة يكون للمشتري لأنه نماء ملكه ولا
يُزال ملك المشتري إلا بالتشفيع.
السائل: ما هي صورة أن يكون المشتري شريكاً؟
الشيخ: هذه المسألة لا تتصور إلا إذا كانوا ثلاثة فإذا باع الثالث نصيبه
على الثاني صار الآن الثاني شريكاً بالأصل وصار شفيعاً كذلك.
فصل
القارئ: الشرط السابع أن يكون الشفيع قادراً على الثمن لأن أخذ المبيع من
غير دفع الثمن إضرار بالمشتري وإن عرض رهناً أو ضميناً أو عوضاً عن الثمن
لم يلزمه قبوله لأن في تأخير الحق ضرراً وإن أخذ بالشفعة لم يلزم تسليم
الشقص حتى يتسلم الثمن فإن تعذر تسليمه قال أحمد يصبر يوماً أو يومين أو
بقدر ما يرى الحاكم فأما أكثر فلا فعلى هذا إن أحضر الثمن وإلا فسخ الحاكم
الأخذ ورده إلى المشتري فإن أفلس بعد الأخذ خير المشتري بين الشقص وبين أن
يضرب مع الغرماء كالبائع المختار.
فصل
القارئ: ويأخذ بالثمن الذي استقر العقد
عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر (فهو أحق به بالثمن) رواه
أبو إسحاق الجوزجاني ولأنه استحقه بالبيع فكان عليه الثمن كالمشتري فإن كان
الثمن مثليّاً كالأثمان والحبوب والأدهان وجب مثله وإن كن غير ذلك وجب
قيمته لما ذكرنا في الغصب وتعتبر قيمته حين وجوب الشفعة كما يأخذ بالثمن
الذي وجب بالشفعة فإن حط بعض الثمن عن المشتري أو زيد عليه في مدة الخيار
لحق العقد ويأخذه الشفيع بما استقر عليه العقد لأن زمن الخيار كحالة العقد
وما وجد بعد ذلك من حط أو زيادة لم تلزم في حق الشفيع لأنه ابتداء هبة
فأشبه غيره من الهبات وإن كان الثمن مؤجلاً أخذ به الشفيع إن كان مليَّا
وإلا أقام ضميناً مليَّا وأخذ به لأنه تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته
والتأجيل من صفته.
الشيخ: الشفيع يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد قليلاً كان أو كثيراً
وسواء كان أكثر من قيمة المثل أو أقل أو مساوياً له وكذلك إذا كان مؤجلاً
يأخذه بأجله وإذا كان من نقد معين فإنه يأخذه بهذا النقد المعين وكل هذا
دفعاً لضرر المشتري.
القارئ: فإن كان الثمن عبداً فأخذ الشفيع
بقيمته ثم وجد به البائع عيباً فأخذ أرشه وكان الشفيع أخذ بقيمته سليماً لم
يرجع عليه بشيء لأن الأرش دخل في القيمة وإن أخذ بقيمته معيباً رجع عليه
بالأرش الذي أخذه البائع من المشتري لأن البيع استقر بعبد سليم وإن رد
البائع العبد قبل أخذ الشفيع انفسخ العقد ولا شفعة لزوال السبب قبل الأخذ
ولأن في الأخذ بالشفعة إسقاط حق البائع من استرجاع المبيع وفيه ضرر ولا
يزال الضرر بالضرر وإن رده بعد أخذ الشفيع رجع بقيمة الشقص وإن أخذه الشفيع
بقيمة العبد فإن كانتا مختلفتين رجع صاحب الأكثر على الآخر بتمام القيمة
لأن الشفيع يأخذ بما استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص
وإن أصدق امرأة شقصاً وقلنا تجب الشفعة فيه فطلق الزوج قبل الدخول والأخذ
بالشفعة ففيه وجهان أحدهما لا شفعة لما ذكرنا والثاني يقدم حق الشفيع لأن
حقه أسبق لأنه ثبت بالعقد وحق الزوج بالطلاق بخلاف البائع فإن حقه ثبت
بالعيب القديم.
فصل
القارئ: فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر
الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه العاقد فهو أعلم بالثمن ولأن
المبيع ملكه فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة وإن قال المشتري لا
أعلم قدر الثمن فالقول قوله لأنه أعلم بنفسه فإن حلف سقطت الشفعة لأنه لا
يمكن الأخذ بغير ثمن ولا يمكن أن يدفع إليه مالا يدعيه إلا أن يفعل ذلك
تحيلاً على إسقاطها فلا تسقط ويؤخذ الشقص بقيمته لأن الغالب بيعه بقيمته
وإن ادعى عليه أنك فعلته تحيلاً فأنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر وإن
كان الثمن عرضاً فاختلفا في قيمته رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجوداً وإن
كان معدوماً فالقول قول المشتري في قيمته وإن اختلفا في الغراس والبناء في
الشقص فقال المشتري أنا أحدثته وقال الشفيع كان قديما فالقول قول المشتري
مع يمينه ولو قال اشتريت نصيبك فلي فيه الشفعة وأنكر ذلك فقال بل اتهبته أو
ورثته فالقول قوله مع يمنيه.
الشيخ: القاعدة في هذا أن القول قول الغارم وهي قاعدة عامة إذا اختلف اثنان
في شيء فالقول قول الغارم لأن من أراد التغريم فهو مدعي والغارم مدعى عليه
فهذه القاعدة دائماً يتكلم بها الفقهاء فيقولون لأنه غارم، فهنا إذا اختلف
المشتري والشفيع في الثمن فقال المشتري اشتريته بألف وقال الشفيع بل
بثمانمائة وليس هناك بينة فالقول قول المشتري لأنه غارم ولو قلنا إن القول
قول الشفيع وقلنا هي بثمانمائة لخسر المشتري فيقال للشفيع إما أن تقبله بما
قاله المشتري وإلا سقطت الشفعة.
السائل: الشفيع إذا كان حاضراً عند البيع فهل حضوره يسقط الشفعة؟
الشيخ: لا، لا يسقطها إلا إذا قلنا بأنها على الفور فإنه بمجرد أن يقول
الشريك بعت عليك كذا وكذا ويقول المشتري قبلت، نقول يجب على الشريك الثاني
الآن أن يقول أخذت بالشفعة وإلا فلا شفعة له.
فصل
القارئ: فإن ادعى عليه الشراء فقال اشتريته
لفلان سئل المقر له فإن صدقه فهو له وإن كذبه فهو للمشتري ويؤخذ بالشفعة في
الحالين وإن كان المقر له غائباً أخذه الشفيع بإذن الحاكم والغائب على حجته
إذا قدم لأننا لو وقفنا الأمر إلى حضور المقر له كان ذلك إسقاطاً للشفعة
لأن كل مشترٍ يدعي أنه لغائب وإن قال اشتريته لابني الطفل فهو كالغائب في
أحد الوجهين وفي الآخر لا تجب الشفعة لأن الملك ثبت للطفل ولا يثبت في ماله
حق بإقرار وليه عليه.
الشيخ: قوله (لأن الملك ثبت للطفل ... ) نقول هذا التعليل عليل لأن أصل
الملك ما ثبت إلا بإقرار وليه فإذا ثبت بإقرار وليه فالشفعة تابعة له.
القارئ: فأما إن ادعى عليه الشفعة في شقص فقال هذا لفلان الغائب أو الطفل
فلا شفعة فيه لأنه قد ثبت لهما فإقراره بذلك إقرار على غيره فلا يقبل.
فصل
القارئ: إذا اختلف البائع والمشتري فقال البائع الثمن ألفان وقال المشتري
هو ألف فأقام البائع بينة بدعواه ثبتت وللشفيع أخذه بألف لأن المشتري يقر
أنه لا يستحق أكثر منها وأن البائع ظلمه فلا يرجع بما ظلمه على غيره فإن
قال المشتري غلطت والثمن ألفان لم يقبل لأنه رجوع عن إقراره فلم يقبل كما
لو أقر لأجنبي وإن لم يكن بينة تحالفا وليس للشفيع أخذه بما حلف عليه
المشتري لأن فيه إلزاماً للعقد في حق البائع بخلاف ما حلف عليه فإن بذل ما
حلف عليه البائع فله الأخذ لأن البائع مقر له بأنه يستحق الشفعة به ولا ضرر
على المشتري فيه.
الشيخ: هذه مسائل تصورها صعب وفائدتها قليلة وإذا كان كذلك فلمنشي عليها
مِشْيَةَ العَجِل.
فصل
القارئ: وإن أقر البائع بالبيع وأنكره
المشتري ففيه وجهان أحدهما لا تثبت الشفعة لأن الشراء لم يثبت فلا تثبت
الشفعة التابعة له ولأن البائع إن أقر بقبض الثمن لم يُمْكِنْ الشفيع دفعه
إلى أحد لأنه لا مدعي له ولا يمكن الأخذ بغير ثمن وإن لم يقر البائع بقبضه
فعلى من يرجع الشفيع بالعهدة والثاني تثبت الشفعة لأن البائع مقر بحق
للمشتري والشفيع فإذا لم يقبل المشتري قبل الشفيع وثبت حقه ويأخذ الشقص من
البائع ويدفع إليه الثمن وإن لم يكن أقر بقبضه فالعهدة عليه لأن الأخذ منه
وإن أقر بقبض الثمن عرضناه على المشتري فإن قبله دفع إليه وإلا أقر في يد
الشفيع في أحد الوجوه وفي الآخر يؤخذ إلى بيت المال والثالث يقال له إما أن
تقبض وإما تبرئ وأصل هذا إذا أقر بمال في يده لرجل فلم يعترف به.
الشيخ: إذا قال شخص هذه الساعة لفلان فقال الآخر أبداً هي ليست لي فهنا
ماذا نصنع؟ الجواب الصحيح أنها لا تكون لهذا المنكر وأنها تبقى لِلمُقِر
لأنه لا مدعي لها الآن وذاك ينكر أنها لها والقول الثاني في المسألة أنها
ترجع إلى بيت المال لأنها صارت الآن لا يدعيها أحد فالذي هي بيده يقول هي
ليست لي بل لفلان والآخر يقول ليست لي فيكون مالكها مجهولاً فتجعل في بيت
المال.
فصل
القارئ: وإذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع لم يخل من خمسة أضرب:
أحدها تصرف بالبيع وما تستحق به الشفعة فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد
الثاني وبين فسخه ويأخذ بالعقد الأول لأنه شفيع في العقدين فملك الأخذ بما
شاء منهما فإن أخذه بالثاني دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه وإن أخذه
بالأول دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشترى به وأخذ الشقص ويرجع الثاني
على الأول بما أعطاه ثمناً وإن كان ثَمَّ ثالث رجع الثالث على الثاني.
الثاني تصرف برد أو إقالة فللشفيع فسخ الإقالة والرد ويأخذ الشقص لأن حقه
أسبق منهما ولا يمكنه الأخذ معهما.
الثالث وهبه أو وقفه أو رهنه أو أجره ونحوه
فعن أحمد رضي الله عنه تسقط الشفعة لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب له
أو الموقوف عليه بالكلية وفيه ضرر بخلاف البيع لأنه يوجب رد العوض إلى غير
المالك وحرمان المالك وقال أبو بكر تجب الشفعة لأن حق الشفيع أسبق فلا يملك
المشتري التصرف بما يسقط حقه ولأنه ملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به فلأن
يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى فعلى هذا تفسخ هذه العقود ويأخذ الشقص
ويدفع الثمن إلى المشتري.
الشيخ: قول المؤلف (إذا تصرف المشتري) يعني
مشتري الشقص فعلى خمسة أضرب، مثاله شريكان في ملك باع أحدهما نصيبه على شخص
وهذا الشخص تصرف فذكر المؤلف الآن الأقسام، التصرف الأول أن يبيعه المشتري
فللشفيع أن يأخذ بأحد البيعين إما أن يأخذ بالأول أو بالثاني فهو على
الخيار وبأيهما يأخذ فيما يُظن؟ الجواب بأقلهما والمؤلف يقول رحمه الله
(فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد الثاني وبين فسخه ويأخذ بالعقد الأول
لأنه شفيع في العقدين فملك الأخذ بما شاء منهما فإن أخذه بالثاني دفع إلى
المشتري الثاني مثل ثمنه) هذا معلوم لأنه أخذه بالثاني فيدفع إلى المشتري
الثاني مثل ثمنه وتكون العهدة على المشتري الثاني لأنه هو قبيله وقد سلمه
الثمن فالعهدة على الثاني ومعنى العهدة أنه لو ظهر أن هذا المبيع بيعه باطل
أو أنه ملك لغيره فَمَن الذي يُطَالَبُ؟ نقول يُطَالَبُ المشتري الثاني لأن
الشفيع أخذ بالبيع الثاني، ثم قال المؤلف رحمه الله (وإن أخذه بالأول دفع
إلى المشتري الأول مثل الذي اشترى به وأخذ الشقص ويرجع الثاني على الأول
بما أعطاه ثمناً وإن كان ثَمَّ ثالث رجع الثالث على الثاني) وعليه إذاً
نقول إذا تصرف المشتري ببيع فللشفيع أن يأخذه بأحد البيعين وإن بِيعَ بعد
ذلك مرة أخرى وثانية وثالثة فله أن يأخذ بما شاء فإن أخذ بالأول فالعهدة
على الأول والآخرون كُلٌّ يرجع على الثاني بما أعطاه وإن أخذ بالأخير صارت
العهدة على الأخير ولو كانوا عشرة فإن العهدة تكون على الأخير ثم هذا
الأخير يرجع على من أعطاه فيأخذ الثمن من الشفيع وينتهي الأمر وعليه إذا
أخذ بالأخير فالأمر سهل لأنه سيأخذ بالثمن ويأخذ الشقص وينتهي كل شيء ثم
قال المؤلف (الثاني تصرف برد أو إقالة فللشفيع فسخ الإقالة والرد ويأخذ
الشقص لأن حق أسبق منهما ولا يمكنه الأخذ معهما) تصرف برد يعني أن المشتري
من الشريك رد البيع إما لغبن أو غير ذلك أو إقالة والإقالة هي فسخ العقد،
فهل
يأخذ الشفيع أو يقال إن الشقص الآن رجع إلى
شريكه؟ يقول المؤلف إنه يأخذه الشفيع لأن حقه سابق على الفسخ أو الإقالة ثم
قال المؤلف (الثالث وهبه أو وقفه أو رهنه أو آجره ونحوه فعن أحمد رضي الله
عنه تسقط الشفعة لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب له والموقوف عليه
بالكلية وفيه ضرر بخلاف البيع) الصواب في هذه العقود التي ذكرها المؤلف
رحمه الله التفصيل إذا وقفه سقطت الشفعة لأنه انتقل إلى الثاني الموقوف
عليه على وجه لا شفعة فيه وذلك لأن الشريك لو وَقَّفَ نصيبه فليس للشفيع أن
يُشَفِّعَ وهذا المشتري لمَّا اشتراه وَقَّفهُ فقال هو وقْفٌ لله على
المساكين فحينئذ لا يرجع الشفيع لكي يبطل الوقف لأنه انتقل عن ملك المشتري
على وجه لا شفعة فيه فتسقط الشفعة وكذلك لو وهبه فلو وهبه شخصاً آخر سقطت
الشفعة لأنه انتقل على وجهٍ لا شفعة فيه لأنه لا شفعة في الموهوب وسبق لنا
الخلاف في هذه المسألة وأن له الشفعة في الهبة وتقدَّر قيمة الشقص الموهوب
بما يساوي عرفاً، وكذلك إذا رهنه فإن الراجح أنه لا تسقط الشفعة لأن الرهن
لا يزيل الملك والمشتري قد يوفي الثمن فيبطل الرهن وقد لا يوفي فنقول لك
الشفعة ويبقى مرهوناً وإذا صار بيعٌ بعد ذلك أخذ الشفيع بأي البيعين شاء
وقوله (أو آجره) نقول هذا أيضاً من بابِ أولى إذا آجره فإن الشفعة لا تسقط
مثال ذلك إنسان شريك لآخر في عمارة فباع نصيبه على شخص وخرج ثم إن الشخص
المشتري آجر نصيبه من هذه العمارة فإن الشفعة لا تسقط، ولكن لمن تكون
الأجرة هل هي للمشتري أم للشفيع؟ الجواب أن يقال ما مضى قبل الشفعة فهو
للمشتري الذي أجره وما كان بعد الشفعة فهو للشفيع ويقسم بالقسط فقد يمضي
مثلاً ثلاثة أشهر تساوي في الأجرة خمسة أشهر لأنه وقت موسم وقد يمضي ثلاثة
أشهر ولا تساوي إلا نصف الأجرة فتقدَّر على حسب ما يقوله أهل الخبرة.
القارئ: الرابع بنى أو غرس ويتصور ذلك بأن
يكون الشفيع غائبا فقاسم المشتري وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم
فقاسمه أو أظهر ثمناً كثيراً أو نحوه فترك الشفيع الشفعة وقاسمه فبنى وغرس
ثم أخذ الشفيع بالشفعة فإن اختار المشتري أخذ بنائه وغراسه لم يمنع منه
لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر ولا ضمان النقص لأنه غير متعد
ويحتمل كلام الخرقي أن يلزمه تسوية الحفر لأنه فعله في ملك غيره لتخليص
ملكه فأشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها وإن لم يقلعه فللشفيع
الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه وبين أن يقلعه ويضمن
نقصه لأن النبي صلى الله عليه وسلم (قال لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن
ماجة ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك.
الخامس زرع الأرض فالزرع يبقى لصحابه حتى يستحصد لأنه زرعه بحق فوجب إبقاؤه
له كما لو باع الأرض المزروعة.
فصل
القارئ: وإن نما المبيع نماء متصلاً كغراس كبر وطلع زاد قبل التأبير أخذه
الشفيع بزيادته لأنها تتبع الأصل في الملك كما تتبعه في الرد وإن كان نماء
منفصلاً كالغلة والطلع المؤبر والثمرة الظاهرة فهي للمشتري لأنها حدثت في
ملكه وليست تابعة للأصل وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ لأن أخذ الشفيع شراء
ثان فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معاً أخذ الشفيع الأصل
بحصته من الثمن كالشقص والسيف.
الشيخ: هذا الفصل فيما إذا نما المبيع الذي فيه الشفعة، فإن كان منفصلاً
فالنماء المنفصل للمشتري لأنه نماء ملكه وإن كان متصلاً كزيادة الشجرة وما
أشبه ذلك فالمذهب أنها تابعة للأصل والصواب أنها للمشتري فتقدَّر قيمة هذا
الشجر حين الشراء ثم تقدر قيمته حين الأخذ بالشفعة فما بين القيمتين فهو
للمشتري لأنه حصل النماء بفعله فكيف نقول ليس لك!! حق فالصواب أن النماء
المتصل كالمنفصل تماماً بمعنى أنه يكون لمن نما على ملكه.
فصل
القارئ: وإن تلف بعض المبيع فهو من ضمان
المشتري لأنه ملكه تلف في يده وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن ويأخذ
أنقاضه لأنه تعذر أخذ البعض فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه آدمي وقال ابن
حامد إن تلف بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن أو
يترك لأن في أخذه بالبعض إضراراً بالمشتري فلم يملكه كما لو أخذ البعض مع
بقاء الجميع.
الشيخ: القول الأول أصح وأنه لا فرق أن يكون بفعل الله أو بفعل آدمي.
فصل
القارئ: ويملك الشفيع الأخذ بغير حاكم لأنه حق ثبت بالإجماع فلم يفتقر إلى
الحاكم كالرد بالعين.
الشيخ: هذا التعليل أشار به المؤلف رحمه الله إلى قاعدة وهي أنه لا يحتاج
إلى الحاكم إلا في الأمور المختلف فيها لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف أما
الشيء المتفق عليه فلا حاجة إلى حاكم لأنه ثابت كالخيار مثلاً، واختار شيخ
الإسلام رحمه الله أن ما يحتاج إلى الحاكم إذا تصالح الرجلان فيه على الفسخ
أو ما أشبه ذلك بغير حاكم فلهما ذلك، وعلى هذا نحتاج إلى الحاكم بشرطين أن
تكون المسألة خلافية وأن لا يتراضى المتنازعان فإن كانت المسألة إجماعية
فلا حاجة للحاكم وإن كانت خلافية وتراضى المتنازعان فلا حاجة للحاكم.
القارئ: ويأخذه من المشتري فإن كان في يد البائع فامتنع المشتري من قبضه
أخذه من البائع لأنه يملك أخذه فملكه كما لو كان في يد المشتري وقال القاضي
يجبر المشتري على القبض ثم يأخذه الشفيع لأن أخذه من البائع يفوت به
التسليم المستحق ولا يثبت للمشتري خيار لأنه يؤخذ منه قهرا ولا للشفيع بعد
التملك لأنه يأخذه قهرا وذلك ينافي الاختيار ويملك الرد بالعيب لأنه مشتر
ثان فملك ذلك كالأول وإن خرج مستحقاً رجع بالعهدة على المشتري لأنه أخذه
منه على أنه ملكه فرجع عليه كما لو اشتراه منه ويرجع المشتري على البائع.
الشيخ: قوله (مستحقاً) يعني ليس ملكاً
للبائع فالشفيع يرجع على المشتري لأنه مَلَكَهُ مِنْ قِبَلِهِ والمشتري
يرجع على البائع.
السائل: إذا شَفَّعَ الشريك في شقص شريكه وبعد أن تم ذلك حصلت جائحة أتت
على الشقص والشريك لم يسلِّم المال بعدُ لشريكه فهل له الخيار في الرجوع عن
البيع؟
الشيخ: لا، ليس له خيار لأنه ملَكَ الأصل والفرع يعني ملك الأصل والثمرة،
والضمان يكون على المُشَفِّع أما المشتري فليس عليه شيء لأنه خرج عن ملكه.
فصل
القارئ: وإذا أذن الشريك في البيع لم تسقط شفعته لأنه إسقاط حق قبل وجوبه
فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له وعن أحمد رضي الله عنه أنه قال ما هو
ببعيد أن لا تكون له شفعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل له أن
يبيع حتى يؤذن شريكه فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم يفهم منه
أنه إذا باعه بإذنه لا حق له وإن دل في البيع أو توكل أو ضمن العهدة أو جعل
له الخيار فاختار إمضاء البيع فهو على شفعته.
الشيخ: الفقهاء يقولون إن له حق في الشفعة لأنه أسقط الحق قبل وجوبه فلا
يسقط ولكن الحديث يدل على أنه إذا أذن له في بيعه فليس له أن يأخذ بالشفعة،
مثال ذلك رجلان شريكان في أرض فجاء الشريك إلى شركيه وقال يا فلان أنا أريد
أن أبيع الأرض وهي تُسَامُ بكذا وكذا فهل لك فيها نظر فقال الشريك لا نظر
لي فيها. ثم تم البيع على ذلك فالمذهب يقولون للشريك أن يُشَفِّع لأنه أسقط
الشفعة قبل وجوبها إذ أن الشفعة لا تجب إلا إذا ثبت البيع، لكن ظاهر الحديث
أن شفعته تسقط لأنه أسقطها بعد وجود سبب الملك وهو السوم ورضى البائع
بالثمن وما يدل عليه الحديث لا شك أنه أولى.
فصل
القارئ: وإذا كان في البيع محاباة أخذ
الشفيع بها لأنه بيع صحيح فلا يمنع الشفعة فيه كونه مسترخصا وإن كان البائع
مريضاً والمحاباة لأجنبي فيما دون الثلث أخذ الشفيع بها لأنها صحيحة نافذة
وسواء كان الشفيع وارثاً أو لم يكن لأن المحاباة إنما وقعت للأجنبي فأشبه
ما لو وصى لغريم وارثه ويحتمل أن لا يملك الوارث الشفعة هاهنا لإفضائه إلى
جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة وإن كانت محاباة المريض
لوارثه أو لأجنبي بزيادة على الثلث بطلت كلها في حق الوارث والزيادة على
الثلث في حق الأجنبي وصح البيع في الباقي وثبت للمشتري الخيار لتفريق صفقته
وللشفيع الأخذ على ذلك الوجه.
فصل
القارئ: إذا مات الشفيع قبل الطلب بطلت شفعته نص عليه لأنه حق فسخ لا لفوات
جزء فلم يورث كرجوع الأب في هبته ويتخرج أن يورث لأنه خيار ثبت لدفع الضرر
عن المال فيورث كالرد بالعيب فإن مات بعد الطلب لم يسقط لأنها تقررت بالطلب
بحيث لم يسقط بتأخيره بخلاف ما قبله فإن ترك بعض الورثة حقه توفر على
شركائه في الميراث كالشفعاء في الأصل.
الشيخ: الصحيح أنه إذا مات الشفيع قبل الطلب فللورثة المطالبة لأن الملك
انتقل إلى الورثة على صفته في المُوَرِّثِ، فيقال للورثة أتريدونها بالشفعة
أو لا؟ فإن قال بعضهم أنا أريدها وقال الآخر لا أريدها فإنها تعطى من
يريدها بجميع السهم ومن لا يريدها لا يجبر.
فصل
القارئ: وإن كان بعض العقار وقفاً وبعضه طِلْقاً فبيع الطِّلق فذكر القاضي
أنه لا شفعة لصاحب الوقف لأنه ملك غير تام فلا يستفيد به ملكاً تاما وقال
أبو الخطاب هذا ينبني على الرواتين في ملك الوقف إن قلنا هو مملوك فلصاحبه
الشفعة لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك فأشبه الطلق وإن قلنا ليس بمملوك
فلا شفعة له لعدم ملكه.
الشيخ: الصحيح أنه يملك ذلك، ولكن هل يكون
ملكاً لمستحق الوقف أو يكون تابعاً للوقف؟ مثال ذلك أرض مشتركة بين شخصين
نصفها وقفٌ لزيد ونصفها حر لعمرو فباع عمرو نصيبه فهل لزيد الذي له الوقف
أن يأخذ بالشفعة؟ المذهب أنه ليس له ذلك والصواب أن له ذلك بل لو قيل إنه
أولى من الشريك الطِّلق لكان أولى لأن صاحب الوقف لا يمكن أن يبيعه وصاحب
الطِّلق يمكن أن يبيعه فلو تجدد ملكٌ على الشقص بأن اشتراه آخر من الشريك
الأول فللشريك الثاني أن يبيع شقصه إذا رأى من الشريك الجديد ما يكره لأنه
يملك ملكاً تاماً لا وقفاً لكن إذا كان وقفاً فإنه لا يستطيع بيعه وعلى هذا
فنقول إن الشفعة تثبت في شركة الوقف ولكن هل تكون تابعة للوقف أو لا؟
الجواب نقول هذا على حسب الآخذ بالشفعة إن نواها تبعاً للوقف فهي تبعه وإن
لم ينوها فهي ملك له، فإن قيل هل الأفضل والأولى أن ينوها للوقف أو لا؟
نقول في هذا تفصيل إذا كان شراؤها لا يضر بالمستحقين للوقف بأن كان
المَغَلُّ كبيراً وقيمة الأرض قليلة فالأولى أن يجعلها تبعاً للوقف لأن هذا
من مصلحة الجميع وإن كانت قيمتها تستهلك جميع المَغَل بحيث يحرم أصحاب
الوقف من الوقف فلا يضمها للوقف بل تكون له.
السائل: كلمة (رضي الله عنه) المعروف أنها تطلق على الصحابة، لكن بعض أهل
العلم يستخدمها عند ذكر التابعين أو الأئمة المشهورين فما رأيكم في ذلك؟
الشيخ: جرت عادة بعض أهل العلم أن الأئمة المشهورين يُعبِّرون عند ذكرهم
بهذا فيقول رضي الله عنه، لكن الأولى أن لا يُخرج عن الاصطلاح العام وذلك
بأن يُجعل الترضي للصحابة والترحم أو العفو لمن عداهم فهذا هو الأولى.
السائل: ما هو وجه الدلالة من حديث (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن ... الخ)
في سقوط حق الشفعة بالإذن؟
الشيخ: وجه الدلالة أنه قال (فإن باع ولم يؤذنه) فمفهومه أنه إن باعه وقد
أذن له فلا حق له في الشفعة.
السائل: لو وقَّفَ الأرض لمدة عشر سنوات
فهل له أن يأخذ أرضه بعد هذه المدة؟
الشيخ: هذا لا يصح، لكن ليجعلها عُمْرة فيقول هي لك ما بقيت، وأما أن
يُوقِفْهَا مدة معينة فلا لأن الوقف لازم ولهذا يقولون أن الوقف من جنس
العتق فلا يملك الرجوع فيه.
فصل
القارئ: ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه لأن فيه إلزام البيع بغير رضى
المتبايعين وإسقاط حقهما من الخيار وقيل يؤخذ بالشفعة لأن الملك انتقل فإن
كان الخيار للمشتري وحدة فللشفيع الأخذ لأنه يملك الأخذ من المشتري قهراً
ويحتمل أن لا يملكه لأن فيه إلزام البيع في حق المشتري بغير رضاه.
السائل: ما هي صورة هذه المسألة؟
الشيخ: صورتها إذا قال الشريك لشخص بعتك نصيبي من هذه الأرض ولك الخيار
ثلاثة أيام، ثم علم الشريك فهل له أن يأخذ بالشفعة أو لا؟ فيها قولان.
فصل
القارئ: وللصغير الشفعة ولوليه الأخذ بها إن رأى الحظ فيها فإذا أخذ بها لم
يملك الصغير إبطالها بعد بلوغه كما لو اشترى له داراً وإن تركها مع الحظ
فيها لم تسقط وملك الصغير الأخذ بها إذا بلغ وإن تركها الولي للحظ في تركها
أو لإعسار الصبي سقطت في قول ابن حامد لأنه فعل ما تعين عليه فعله فلم يجز
نقضه كالرد بالعيب وظاهر كلام الخرقي أنها لا تسقط لأن للشفيع الأخذ مع
الحظ وعدمه فملك طلبها عند إمكانه كالغائب إذا قدم والمجنون كالصبي لأنه
محجور عليه وإذا باع الولي لأحد الأيتام نصيباً فله الأخذ بها للآخر وإن
كان الولي شريكاً لم يملك الأخذ بها إن كان وصياً لأنه متهم وإن كان أباً
فله الأخذ لأن له أن يشتري لنفسه من مال ولده وهل لرب المال الشفعة على
المضارب فيما يشتريه على وجهين بناءً على شرائه منه لنفسه.
فصل
القارئ: ولا شفعة لكافر على مسلم لما روى
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا شفعة لنصراني) رواه الطبراني في
الصغير ولأنه معنى يختص العقار فلم يثبت للكافر على المسلم كالاستعلاء
وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي وللذمي على الذمي للخبر والمعنى.
الشيخ: هذه المسألة اختلف فيها العلماء فمنهم مَنْ قال إن الكافر ليس له
الشفعة على المسلم، مثال ذلك رجلان شريكان في أرض أحدهما مسلم والثاني كافر
فباع المسلم نصيبه على مسلم فهل للكافر أن يأخذ الشقص بالشفعة؟ الجواب يقول
المؤلف أنه لا يأخذه بالشفعة واستدل بحديث (لا شفعة لنصراني) لكنه حديث
ضعيف والمذهب كذلك أنه لا يأخذ واستدلوا بقوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ولكن نقول الآية
أيضاً لا دلالة فيها لأن هذا إنما يكون يوم القيامة قال الله تعالى
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وذهب بعض أهل العلم
إلى أن للكافر الأخذ بالشفعة وقالوا إن هذا من حقوق المُلْكِ لا من حقوق
المَالِكِ والمُلْكُ لا فرق فيه بين أن يكون المالك مسلماً أو كافراً كما
أن الكافر لو باع شيئاً على مسلم فله الخيار ماداما في المجلس فله أن يفسخ
العقد، فهو من باب حقوق المُلك لا من باب حقوق المَالِكِ، والذي نرى في هذه
المسألة أنه يُرجع في هذا إلى نظر الحاكم فإن خاف الحاكم أنه إذا أخذه
الكافر بالشفعة من المسلم يكون في هذا سبباً لاستعلاء الكفار على المسلمين
فليمنعهم، وإن خاف مفسدة بأن يقول الكافر لماذا تأخذونه بالشفعة لو بيع
عليَّ ولا آخذه بالشفعة لو بيع على المسلم، فصار بذلك فتنة فلا شك أنه
يُمكَّنُ الكافر من الأخذ بالشفعة.
باب
إحياء الموات
القارئ: وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك وهي نوعان أحدهما ما لم
يجر عليه ملك فهذا يملك بالإحياء لما روى جابر بن عبد الله قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) رواه أحمد والترمذي
وصححه. ولا يفتقر إلى إذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن
كالصيد.
الشيخ: قوله رحمه الله (لا يفتقر إلى إذن الإمام) بمعنى أن الإنسان إذا
أحيا أرضاً ميتة ليست ملكاً لأحد فهي له سواء رُخِّصَ له من قِبَلِ الحكومة
أو لم يُرَخَّص فليس هذا بشرط، ثم قال المؤلف (للخبر) والخبر هنا في الواقع
ليس بصريح لأن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (من أحيا أرضاً ميتة فهي
له) يحتمل أنه قاله تشريعاً أو تنظيماً بمعنى أنه قال للناس أحيوا الأرض
فمن أحيا فهي له أو قال ذلك على وجه التشريع فإذا دار الأمر بين هذا وهذا
فإننا نجعله تشريعاً لأن هذا هو الأصل فيكون عموم قوله (من أحيا أرضاً ميتة
فهي له) شاملاً لما إذا أحياها بإذن الإمام وبغير إذنه لكن لو أن الإمام
فرض أن لا يملك أحدٌ ما أحياه إلا بإذنه فلا بأس إذا رأى في هذا مصلحة لأنه
إذا فرض هذا تمكن من ضبط الأراضي وتمليك الناس لها وإذا لم يفرض هذا تضارب
الناس أي تضاربوا معنوياً فصار هذا يحي هذه الأرض فيقول هي لي وذاك يقول لا
أنا قد أحييتها من قبل، وما أشبه ذلك فإذا أمر ولي الأمر أن لا يحي أحداً
أرضاً إلا بإذنه وإعطاء الرخصة فليعمل به ويكون هذا من باب المصلحة العامة
وأما قوله (ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن كالصيد) فيقال الصيد لا يمكن
أن تكون فيه منازعة لأن الصيد يصيده الإنسان ويأكله في الحال فلا يصح هذا
القياس في الواقع.
القارئ: الثاني ما جرى عليه ملك وباد أهله
ولم يعرف له مالك ففيه روايتان إحداهما يملك بالأحياء للخبر ولما روى طاووس
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم بعد)
رواه أبو عبيد في الأموال ولأنه في دار الإسلام فيملك كاللقطة والثانية لا
يملك لأنه إما لمسلم أو لذمي أو بيت المال فلم يجز إحياؤه كما لو تعين
مالكه.
الشيخ: هذا الخلاف يمكن الانفصال عنه بأن يقال يملك بالأحياء بإذن الإمام
لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف فإذا تقدم أحد إلى أرض داثرة قد باد أهلها
وارتحلوا عن هذا المكان ومَلَّكَهُ ولي الأمر فإنه يملكها ولا شك في هذا.
القارئ: ويجوز إحياء ما قرب من العامر إذا لم يتعلق بمصالحه للخبر والمعنى
وعنه لا يملك لأنه لا يخلوا من مصلحة فأشبه ما تعلق بمصالحه والمذهب الأول.
فصل
القارئ: وما تعلقت به مصلحة العامر كحريم البئر وفناء الطريق ومسيل الماء
لا يملك بالإحياء ولا يجوز لغير مالك العامر إحياؤه لأنه تباع للعامر مملوك
لصاحبه ولأن تجويز إحيائه إبطال للملك في العامر على أهله وكذلك ما بين
العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأنه ليس
بموات وتجويز إحيائه تضييق على الناس في أملاكهم وطرقهم وهذا لا يجوز.
الشيخ: لو فُرِضَ مثلاً أن حول البلد مكانُ رعي للبهائم فإنه لا يجوز
إحياؤه لأن في هذا تضييق على أهل البلد وكذلك مجاري الأودية فكل ما يتعلق
بمصالح البلد لا يجوز إحياؤه ولكن عمل الناس اليوم على خلاف هذا ولذلك
أحييت أماكن كانت مرعى للمواشي فيما سبق وجرى عليها الملك والتمليك.
السائل: بعض الأملاك يُعْرَفُ أصحابها وجارهم يعرف أن أصحابها العائلة
الفلانية لكن لم يستطيعوا أن يثبتوا ذلك بأوراق رسمية وهو يقول لهم اثبتوا
لأجل أن أشترى منكم هذه الأملاك، فهل له أن يتقدم لأخذها من قِبَل الدولة
وهو يعلم أن أصحابها لن يستطيعوا إثبات ملكيتهم لها؟
الشيخ: إذا علم أنها مملوكة لهم فلا يجوز
له أن يتقدم بطلبه، إلا إذا وافقوا هم وقالوا مادامت المسألة ليس فيها
إثبات فنحن نصالحك على قدر معلوم يتفقون معه عليه ثم هو يطالب الدولة.
فصل
القارئ: ويجوز الإحياء من كل يملك المال للخبر ولأنه فعل يملك به فجاز ممن
يملك المال كالصيد ويملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام لذلك وقال ابن حامد
لا يملك فيها بالإحياء لخبر طاووس وليس للمسلم إحياء أرض في بلد صولح
الكفار على المقام فيه لأن الموات تابع للبلد فلم يجز تملكه عليهم كالعامر.
فصل
القارئ: وفي صفة الإحياء روايتان إحداهما أن يعمر الأرض لما يريدها له
ويرجع في ذلك إلى العرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم
يبين فحمل على المتعارف.
الشيخ: قوله (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين) الأولى
أن يقال لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أطلق الإحياء ولم يقيد أو
يقال أجمل الإحياء ولم يبين لأن الإطلاق يقابله التقييد.
القارئ: فإن كان يريدها للسكنى فإحياؤها بحائط جرت عادتهم بالبناء به وتسقف
فإنها لا تصلح للسكنى إلا بذلك وإن أرادها حظيرة لغنم أو حطب فبحائط جرت
العادة بمثله وإن أرادها للزرع فبسوق الماء إليها من نهر أو بئر ولا يعتبر
حرثها لأنه يتكرر كل عام فأشبه السكنى ولا يحصل الإحياء به لذلك وإن كانت
أرضاً يكفيها المطر فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع إما بقلع أشجارها أو
أحجارها أو تنقيتها ونحو ذلك مما يعد إحياء وإن كانت من أرض البطائح
فإحياؤها بحبس الماء عنها لأن إحياءها بذلك ولا يعتبر في الإحياء للسكنى
نصب الأبواب لأن السكنى ممكنة بدونه والرواية الثانية التحويط إحياء لكل
أرض لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أحاط حائطاً على أرض
فهي له) رواه أبو داود ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء كما لو أرادها
حظيرة.
الشيخ: الصواب في هذا أن الذي ورد به النص
أنه إحياء فهو إحياء كالحائط وما لم يرد به النص يرجع فيه إلى عرف الناس.
فصل
القارئ: وإذا أحياها ملكها بما فيها من المعادن والأحجار لأنه يملك الأرض
بجميع أجزئها وطبقاتها وهذا منها وإن ظهر فيها معدن جار كالقير والنفط
والماء ففيه روايتان إحداهما لا يملكه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار) رواه الخلال وكذلك الحكم في
الكلأ والشجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا حمى في الأراك) والثانية
يملك ذلك كله لأنه نماء ملكه فملكه كشعر غنمه.
الشيخ: العرف الآن خلاف هذا فالمعادن الجارية لا تملك بل تتبع الدولة ويكون
استغلالها تبعاً لبيت المال.
فصل
القارئ: ومن حفر بئراً في موات ملك حريمها والمنصوص عن أحمد رضي الله عنه
أن حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب ومن سبق إلى بئر عادية
فاحتفرها فحريمها خمسون ذراعاً من كل جانب لما روي عن سعيد بن المسيب أنه
قال السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعا والبديء خمسة وعشرون ذراعاً
رواه أبو عبيد في الأموال وروى الخلال والدارقطني عن النبي صلى الله عليه
وسلم نحوه وقال القاضي حريمها ما تحتاج إليه في ترقية الماء منها كقدر مدار
الثور إن كان بدولاب وقدر طول البئر إن كان بالسواني وحمل التحديد في
الحديث وكلام أحمد رضي الله عنه على المجاز والظاهر خلافه فإنه قد يحتاج
إلى حريمها لغير ترقية الماء لموفق الماشية وعطن الإبل ونحوه.
الشيخ: إذا حفر بئراً ووصل إلى الماء فهو
يملك البئر ويملك حريمها وهو ما قَرُبَ منها فإن كانت منشأة حديثاً فحريمها
خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب وإن كانت قديمة ودفنتها الرياح ثم حفرها ملك
خمسين ذرعاً من كل جانب ومن المعلوم أن الدائرة كلما توسعت كبرت فيكون
المبتدأة أقل حظاً من المعادة وتعليل ذلك أن المعادة قد ملك صاحبها الأول
خمسة وعشرين من كل جانب فإذا حفرت الثانية استحق الحافر الثاني خمسة وعشرين
ذراعاً فيملك خمسين ذراعاً والحديث الذي ذكره المؤلف لو كان مرفوعاً إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم متصلاً لقلنا على العين والرأس والله أعلم
بحكمته لكنه عن سعيد بن المسيب ففيه انقطاع وإذا قُدِّرَ صحته فيحتمل أن
يكون هذا من باب الاجتهاد، وإذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن البئر البدية
أشق من البئر المعادة فالحافر للبئر البدية عمل عملاً أكثر وأشق من حافر
البئر المعادة هذا من وجه فيقتضي على الأقل تساويهما، ثانياً إذا قلنا
بأننا نعطي الحافر المعادة الحريم مرتين فإن خمسة وعشرين ذراعاً من وراء
الخمسة والعشرين الذراع السابقة تقتضي أنها ضعفها مرتين أو ثلاثة فيمكن أن
نقول إننا نعطيه على حفرها ثانيةً مقدار مساحة الخمسة والعشرين الأولى ولا
نعطيه خمسة وعشرين جديدة من وراء الخمسة وعشرين الأولى وعلى كل حال هذا
الأثر لابد من تحريره، ثم قال رحمه الله والقاضي حريمها ما تحتاج إليه في
ترقية الماء منها كقدر مدار الثور إذا كان بدولاب) وقد وصفنا فيما سبق
الدولاب فالثور يدور به فمقدار مداره هو الحريم، وإن كان السقي بالسواني
فمقدار الحريم بطول الرشا والرشا يكون طول البئر ولكن ينبغي أن يقال إن
كانت هذه البئر لسقي المواشي ونحوه فإن حريمها يكون بمقدار طول الرشا
ومقدار مدار الثور ومقدار ما يحتاج إليه أوسط الناس في سقي الماشية ونحو
ذلك.
السائل: في بعض الآبار يكون ورود الإبل
عليها كثير فقد لا يكفيها ما يذكره الفقهاء من تحديد الحريم؟
الشيخ: هذا يكون حسب الحاجة فإذا قدرنا أن البئر عميقة فإنها تعطى حريماً
أكثر وفي الوقت الحاضر السواني ليست موجودة والدواليب ليست موجودة فالآن
الموجود هو المكائن والدينموات فكل وقت له ما جرت به العادة.
القارئ: وأما العين المستخرجة فحريمها ما يحتاج إليه صاحبها ويستضر بتملكه
عليه وإن كثر وحريم النهر ما يحتاج إليه لطرح كرايته وطريق شاويه وما يستضر
صاحبه بتملكه عليه وإن كثر.
الشيخ: العين المستخرجة هي التي تجري لأن الذي سبق ذكره هو البئر وهو راكد
لأن الماء في قعره أما العين فهي التي يجري الماء فيها وكان يوجد في السابق
في بلادنا عيون فيحفر الساقي ثم يجري الماء لكن الآن انقطعت لأن الماء نزل،
وقوله (كرايته) هو ما يحتاج فيه إلى تنظيف النهر فقد يسقط في النهر أحجار
أو قثاء فيمنع جريه فيحتاج إلى أن ينظف لكي يكون الجري قويّاً.
مسألة: حول حديث سعيد بن المسيب في حريم البئر، إذا تبين أن الحديث ضعيف لا
تقوم به الحجة فيرجع في تحريم حريم البئر إلى اجتهاد الإمام كما ذكر
الفقهاء في نظائر هذه المسألة أن المرجع فيها إلى اجتهاد الإمام كالخراج
والجزية وما أشبهها من المسائل فإذا تبين أن هذا الأثر أو هذا الحديث ضعيف
لا تقوم به حجة فإنه يرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام وإذا نظرنا إلى
الاجتهاد قلنا يجب أن يكون حريم البدية أوسع من حريم العادية أو على الأقل
مساوياً له أما الرجل يأتي إلى بئر عادية ليس فيها إلا تراب سهل الإخراج
فنقول له لك خمسين ذراع مع أن الخمس وعشرين ذراع السابقة حصلت بفعل غيره
ونأتي للرجل الذي وصل إلى الماء في البئر البدية بمشقة وتعب ونقول ليس لك
إلا خمسة وعشرون ذرعاً وعلى كل حال الحمد لله كفى الله المؤمنين القتال
مادام أن هذا الحديث لا يصح فيرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام.
فصل
القارئ: ومن تحجر مواتاً وشرع في إحيائه
ولم يتم فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من سبق إلي ما لم يسبق
إليه مسلم فهو أحق به) رواه أبو داود فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به
لأن صاحب الحق آثره به فإن مات انتقل إلى وارثه لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم (من ترك حقاً أو مالاً فهو لورثته) وإن باعه لم يصح لأنه لم
يملكه فلم يصح بيعه كحق الشفعة ويحتمل جواز بيعه لأنه صار أحق به.
الشيخ: هذه مسألة مهمة فهذا إنسان شرع في
إحياء الأرض لكنه لم يتمه أو منحت له الأرض لكنه لم يُحْيِهَا إذا قلنا بأن
تمليك الإمام ليس بإحياء أما إذا قلنا أنه إحياء فالأمر واضح والمهم أنه
صار أحق بهذه الأرض من غيره إما لكونه تحجرها تَحَجُّراً لا يملكها به أو
شرع في إحيائها ولم يتم أو منح إياها من قِبَلِ ولي الأمر وعلى القول بإن
المنحة ليست تمليكاً، فهل يجوز أن يأخذ عوضاً ويتنازل عنها لغيره؟ الجواب
المذهب أنه لا يجوز لأن من شرط البيع أن يكون البائع مالكاً للشيء وهذا لم
يملك وإذا كان لم يملك فكيف يجوز أن يبيعه وهو ليس ملكاً له، والقول الثاني
ما ذكره الموفق ابن قدامة فقال (يحتمل جواز بيعه لأنه صار أحق به) فكأن هذا
البيع ليس بيعاً لعين الأرض ولكنه تنازل عن حقه بعوض فيقول أنا الآن شرعت
في إحياء الأرض ولم يتم أو مُنحتُ إياها ولم يكن ذلك إحياء فأتنازل عن حقي
لفلان بعوض، فابن قدامة رحمه الله يقول يحتمل الجواز ولكن إذا نظرنا إلى
المسألة فإننا نقول إذا نزَّلنا هذا على القواعد فإنه لا بأس أن يتنازل
الإنسان عن حقه لغيره بعوض أو مجاناً لأن الحق له وهذا هو الصحيح لكن يبقى
النظر هل في ذلك ضرر على الآخرين لأنه قد يكون هناك جماعة مقدمين وأحق من
هذا الأخير والأول لم يبع في الغالب إلا لأنه مستغني عن الأرض فإذا استغنى
عنها فليتنازل عنها ويترك أمرها لولي الأمر فيمنحها لمن هو أحق بها وهذه
النقطة هي التي توجب أن نقول إنه لا يجوز أن يتنازل بعوض لأنه عدوان على
الآخرين الذين قدموا طلباً فكانوا أحق بها والأول الذي أراد أن يتنازل عنها
بعوض هو مستغني عنها وإذا كان كذلك فليرد الأمر إلى أهله، فإن قال قائل فإن
منحه إياها مجاناً فهل يجوز أو لا؟ نقول إذا رجعنا إلى التعليل وجدنا أن
ذلك لا يجوز أيضاً ونقول له إذا استغنيت عنها فرُدَّها إلى الحكومة، ومن
هذا الباب البنك العقاري الآن فإنه يتقدم الناس إليه كثيراً بطلب
التسليف ويبقى سنة أو سنتين ما وصلهم الدور
فيأتي شخصٌ ما لآخر ويقول له أعطني اسمك بمائة ألف ريال فيقول لا بأس ويكون
هذا قد وصله الدور فهذا نقول فيه مثل ما قلنا في الأرض أنه إذا كان
مستغنياً عن البناء أو قد بنى وانتهى ثم وصله الدور وهو لا يريد السلفة
فالواجب عليه أن يتنازل للحكومة ولا يحق له أن يتنازل لا بعوض ولا بغير عوض
ونقول له إن كنت في حاجة فأنت صاحب حاجة قد وصلك الدور واستحققت المال وإن
لم تكن في حاجة فدع المال، فإن قال أنا سأتنازل بعوض أو بغير عوض ولا أطالب
مرة أخرى إذا فاتني الدور؟ نقول هذا لا بأس به لكن بقي شيء مهم وهو إشعار
الحكومة بهذا التنازل فإذا سمحوا فلا بأس وإن لم يسمحوا فلا.
مسألة: إذا كان الشخص يريد أن يشتري أرضاً يبني عليها لكن في الوقت الحاضر
لم تحصل له الأرض التي أراد فاشترى أرضاً لا يريدها من أجل أن يقدمها على
البنك ويظهر أسمه ويقول أنه مادام بين التقديم وظهور الاسم مدة فربما يحصل
على الأرض التي يريدها فالظاهر أن هذا لا بأس به وأظن أن الحكومة لا تمانع
في هذا.
السائل: ما هو الراجح في مسألة التنازل عن الأرض إذا أحياها الإنسان ولم
يتم ذلك فهل له أن يتنازل عنها بعوض؟
الشيخ: القول الراجح هو ما ذهب إليه المؤلف من أن الإنسان إذا تنازل عن أرض
شرع في إحيائها ولم يتم فتنازل بعوض فالصحيح أن ذلك جائز.
القارئ: فإن بادر إليه غيره فأحياه لم يملكه في أحد الوجهين لمفهوم قوله
عليه السلام (من سبق إلى ما لم يسبق إليه المسلم فهو أحق به) ولأن الحق
المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع مع المشتري والثاني يملكه لأنه أحيا
أرضاً ميتة فيدخل في عموم الحديث ولأن الإحياء يملك به فقدم على التحجر
الذي لا يملك به.
الشيخ: الصواب أن الثاني لا يملكه لكن إن
علم عدوانه على المتحجر فلا شيء له فيما أنفق وإن كان لا يدري أنها
مُتَحَجَّرةٌ فإنه في هذه الحال يُصلَحُ بينهما ويقال للثاني لك ما أنفقت
أو يُقوَّم تقويماً والفرق بينهما أننا إذا قلنا لك ما أنفقت فإننا نعطي
الثاني ما أنفقه قليلاً كان أم كثيراً، وإذا قلت بالتقويم قَوَّمْنَا الأرض
قبل إدخال التعديل عليها كم تساوي وقَوَّمْنَاهَا بعده فما بين القيمتين
فهو للثاني.
القارئ: وإن شرع في الإحياء وترك قال له السلطان إما أن تعمر وإما أن ترفع
يديك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك فلم يمكن منه كالوقوف في طريق ضيق فإن
سأل الإمهال أمهل مدة قريبة كالشهرين ونحوهما فإن انقضت ولم يعمر فلغيره
إحياؤها وتملكها كسائر الموات.
فصل
القارئ: وإذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون كالملح وعيون
الماء والكبريت والكحل والقار ومعادن الذهب والفضة والحديد ومقالع الطين
ونحوها لم يجز لأحد إحياؤها ولا تملك بالإحياء فعن أبيض بن حمال أنه وفد
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح فقطعه له فلما أن ولى قال رجل
من المجلس أتدري ما أقطعت له إنما أقطعته الماء العد قال فانتزعه منه قال
وسأله عما يحمى من الأراك فقال (ما لم تنله أخفاف الإبل) رواه أبو داود
والترمذي.
الشيخ: قوله (ما يحمى من الأراك) يعني الشيء البعيد والأراك هو شجر
المساويك فما لم تبلغه الإبل بأن كان بعيداً فإنه يُمْلَكُ وما كان قريباً
فلا يملك لأن الناس فيه سواء وكل أحد يحتاجه.
القارئ: ولأن هذا مما يحتاج إليه فلو ملك بالاحتجار ضاق على الناس وغلت
أسعاره وكذلك ما نضب عنه الماء من الجزائر عند الأنهار الكبار قال أحمد رضي
الله عنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه أباح الجزائر وأنا آخذ به يعني ما
ينبت فيها ولأن البناء فيها يرد الماء إلى الجانب الآخر فيضر بأهله ولأنها
منبت الكلاء والحطب فأشبهت المعادن.
فصل
القارئ: وكل بئر ينتفع بها المسلمون أو عين
نابعة فليس لأحد إحتجارها لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة ومن حفر بئراً لغير
قصد التملك إما لينتفع بها المسلمون أو ينتفع بها مدة ثم يتركها لم يملكها
وكان أحق بها حتى يرحل عنها ثم تكون للمسلمين ومن حفر بئراً للتملك فلم
يظهر ماؤها لم تملك به لأنه ما تم إحياؤها وكان كالمتحجر الشارع في
الإحياء.
فصل
القارئ: وإن أحيا أرض فظهر فيها معدن ملكه لأنه لم يضيق على الناس به ولأنه
للذي أخرجه وإن كان في الموات أرضاً يمكن فيها إحداث معدن ظاهر كشط البحر
إذا حصل فيه ماؤه صار ملحا ملكه بالإحياء لأنه توسيع على المسلمين لا
تضييق.
السائل: في مسألة تنازل الإنسان عن دوره في السلفة من البنك العقاري لو أن
هذا الذي وصله الدور ونزل اسمه في البنك ولم يكن مستعداً للبناء إما لسفره
أو لارتباطه بشيء آخر فقال لرجل سأتنازل لك عن اسمي وتأخذ المال ثم إذا جاء
دورك ونزل اسمك آخذ منك ما أعطيتك، فهل في هذا بأس؟
الشيخ: هذه المسألة قد يقال إنها من باب التبادل فقد يقال إن هذا الذي
تنازل محتاج لكن منعه من الاستعداد ما يمنعه وتبادل مع صاحبه فهذه في نظري
أهون ولعلها إن شاء الله جائزة.
السائل: إذا وجد الإنسان في الأرض التي أحياها معدناً جارياً فهل يملكه؟
الشيخ: لا يملكه لأن الجاري كالماء لا يملك.
السائل: بعض الناس إذا نقل من البيت وفيه هاتف فإنه يبيع الرقم لجاره فهل
هذا جائز؟
الشيخ: هذا يرجع إلى الوزارة إذا أجازت فلا بأس لا سيما مع توفر الأرقام.
فصل
القارئ: ومن سبق إلى معدن ظاهر وهو الذي
يوصل إلى ما فيه من غير مؤونة كالماء والملح والنفط أو باطن لا يوصل إلى ما
فيه إلا بالعمل كمعادن الذهب والحديد كان أحق به للخبر فإن أقام بعد قضاء
حاجته منع منه لأنه يضيق على الناس بغير نفع فأشبه الوقوف في مشرعة ماء لا
يستقي منها وإن طال مقامه للأخذ ففيه وجهان أحدهما لا يمنع لأنه سبق فكان
أحق كحالة الابتداء والثاني يمنع لأنه يضر كالمتحجر فإن سبق إليه اثنان
يضيق المكان عنهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه وقال بعض
أصحابنا إن كانا يأخذان للتجارة هايأه الإمام بينهما.
الشيخ: (هايأه) يعني قال لأحدهما لك يوم الأحد مثلاً وللثاني يوم الاثنين
فيقسم بينهما بالزمن هذا معنى المهايأة.
القارئ: وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه أربعة أوجه أحدها يُهَايأ بينهما
والثاني يقرع بينهما والثالث يقدم الإمام من يرى منهما والرابع ينصب الإمام
من يأخذ لهما ويقسم بينهما.
فصل
القارئ: ومن شرع في حفر معدن ولم يبلغ النيل به فهو أحق به كالشارع في
الإحياء ولا يملكه وإن بلغ النيل لأن الإحياء العمارة وهذا تخريب فلا يملك
به ولأنه يحتاج في كل جزء إلى عمل فلا يملك منه إلا ما أخذ لكن يكون أحق به
مادام يأخذ وإن حفره إنسان من جانب آخر فوصل إلى النيل لم يكن له منعه لأنه
لم يملكه.
السائل: ما معنى (النَّيْل)؟
الشيخ: (النَّيْل) الظاهر أنه العمق الذي فيه المعدن.
فصل
القارئ: ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق والواسعة للبيع
الشراء لاتفاق أهل الأمصار عليه من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير
إضرار فلا يمنع منه كالاجتياز ومن سبق إليه كان أحق به لقول النبي صلى الله
عليه وسلم (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة لأن
الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره وليس له أن يبني دكة ولا غيرها لأنها
تضيق ويعثر بها العابر.
الشيخ: ومثل ذلك أيضاً لو وضع أحجاراً حوله
بدون بناء فإنه يَعثُر بها العابر، يجب ملاحظة أن هذه المسألة إنما هي في
الشوارع الواسعة حتى لا تضيق، ويمتنع كذلك أن يبني بناء كدكة يعني أحجاراً
يرصفها ويبنيها وكذلك أيضاً ليس له أن يُحَوِّطُ عليها بأحجار تؤذي المارة
وربما يعثرون بها.
القارئ: فإن قام وترك متاعه لم يجز لغيره أن يقعد لأن يده لم تزل وإن أطال
القعود ففيه وجهان سبق توجيههما وإن سبق إليه اثنان ففيه وجهان أحدهما يقرع
بينهما لتساويهما والثاني يقدم الإمام أحدهما لأن له نظراً واجتهاداً.
الشيخ: أما المسألة الأولى إذا أطال القعود فالصواب أن له ذلك مادام سبق
إليه وهذا هو الذي جرى عليه العمل الآن فتجد الرجل مثلاُ في الأماكن
الواسعة يبيع البطيخ أو غيره يبقى على ما هو عليه ولا يعارضه أحد وأما إذا
سبق اثنان فيقول المؤلف (ففيه وجهان أحدهما يقرع بينهما لتساويهما والثاني
يقدم الإمام أحدهما لأن له نظراً واجتهاداً) من المعلوم أن الإمام لا يتولى
هذا إنما يتولاه الآن البلدية فهي نائبة عن الإمام ولكن القول بالقرعة أولى
بلا شك، أولاً لأنه أقرب إلى العدل فالإمام قد يحابي أحداً من الناس
وثانياً أنه لا يجعل في قلب الآخر شيئاً على الذي قدمه الإمام، لكن لو
فُرِضَ أن من مصلحة السوق العامة أن يُقدَّم أحدهما فهنا للإمام أن يتدخل،
مثل أن يكون هذا المكان استراتيجيّاً كما يقولون وأحد السَّابِقَينِ قوي
يمكن أن يملأ هذا الفراغ والثاني ضعيف لا يمكن أن يملأ هذا الفراغ فهنا
نقول يُقدِّم الإمام من يراه أنفع للسوق، والقرعة في الحقيقة هنا لا تَرِدُ
لأن القرعة إنما تكون عند التساوي والآن لا سواء والخلاصة أن الصواب في هذه
المسألة هي القرعة ما لم يتميز أحدهما بمصلحة للسوق فيقدَّم بحسب نظر
الإمام.
فصل
القارئ: في القطائع وهي ضربان إقطاع إرفاق
وهي مقاعد الأسواق والرحاب فللإمام اقطاعها لمن يجلس فيها فيصير كالسابق
إليها إلا أنه أحق بها وإن نقل متاعه لأن للإمام النظر والاجتهاد فإذا
أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.
الشيخ: صورة المسألة أن يمنح الإمام هذه القطعة من الأرض فيقول هذه لفلان،
ومعلومٌ أنه يجب على الإمام أن يراعي المصالح في ذلك فلا يراعي الأشخاص
فإذا رأى المصلحة أن يُقْطِعَ إقطاعَ إرفاق لهذا الرجل فهو له ولا أحد
يزاحمه فيه سواء طال أم قصر.
القارئ: الضرب الثاني موات الأرض فللإمام إقطاعها لمن يحيها لما روى وائل
بن حجر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسل معاوية أن أعطه
إياها أو أعلمها إياه) رواه الترمذي وصححه (وأقطع بلال بن الحارث المزني
وأبيض بن حمال المازني وأقطع الزبير حضر فرسه) رواه أبو داود. وأقطع أبو
بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقطعه الإمام
شيئاً لم يملكه لكن يصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه ولا يقطع من ذلك إلا
ما قدر على إحيائه لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق فلما كان
زمن عمر قال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجره على
الناس فخذ ما قدرت على عمارته ودع باقيه رواه أبو عبيد في الأموال.
الشيخ: فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي تقتضيه المصلحة أن الإمام
لا يُقْطِعُ أحداً إلا إذا كان يقدر على إحيائه، أما بعض الناس تجده
يُقطِعُ الشخص مثلاً ثلاثين كيلو أو أربعين كيلو فهذا لا يجوز لأن الغالب
أنه لا يقدر على إحيائه وإذا كان لا يقدر على إحيائه تجده يُقطِّعه ويبيعه
وهذا أيضاً لا يجوز ولكن يُقْطِعُ ما يمكن إحياؤه فإن كان في المباني أعطاه
مثلاً مكان أربع عمارات أو خمس بِحَسَبِ حاله من القدرة وعدم القدرة.
السائل: هل لمن أُقطع إقطاعاً أن يبيعه؟
الشيخ: هذا ينبني على أنه هل يملكه أو لا؟ والمسألة فيها الخلاف فبعض
العلماء يقول إذا أَقْطَعَهُ الإمام مَلَكَهُ والمذهب أنه لا يملكه فإذا
كان لا يملكه انبنى على ذلك هل يجوز أن يتنازل عن حقه وتقديمه أو لا يجوز؟
الجواب عرفنا فيما سبق المذهب وهو أن ذلك لا يجوز والصحيح الجواز إذا لم
يتضمن ضرراً على الآخرين وعمل الناس الآن على أن الإقطاع بمنزلة الإحياء
ولهذا تجده يبيعه ويخرج عليه صكوك شرعية من مكاتب العدل.
السائل: إذا أحيا شخص أرضاً مواتاً ثم مات هذا الشخص فهل تعود هذه الأرض
مواتاً كما كانت؟
الشيخ: لا يمكن أن ترجع مواتاً لأنه إذا أحياها ملكها فهي حية إلى يوم
القيامة حتى لو مات هذا الشخص فهي تبقى حية.
السائل: ما معنى قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم (أقطع الزبير حُضْرَ
فرسه)؟
الشيخ: حُضْرَ الفرس يعني مقدار عَدْوُه إلى أن يقف والفرس له طاقة فيختلف
بحسب عَدْو الفرس.
فصل
القارئ: وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة لما ذكرنا في إحيائها قال
أصحابنا وكذلك المعادن الباطنة لأنها في معناها ويحتمل جواز إقطاعها لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها
وغوريها رواه أبو داود ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن فجاز إقطاعه
كالموات.
فائدة: ذكر الشيخ أن في النسخة التي معه بيان لمعنى (القبلية) ومعنى
(جَلْسِيِّهَا) و (غَوْرِيِّها) فقال: الْقبِلِيَّةِ بلاد معروفة بالحجاز
وجَلْسِيِّهَا وغَوْرِيِّهَا أي مرتفعها ومنخفضها.
فصل في الحمى
القارئ: لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتاً
يمنع الناس الرعي فيه لما روى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول (لا حمى إلا لله ولرسوله) متفق عليه ورواه أبو داود وقال
(الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار) وللإمام أن يحمي مكاناً لترعى
فيه خيل المجاهدين ونَعَمُ الجزية وإبل الصدقة وضوال الناس التي يقوم
بحفظها لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين ولأن عمر
وعثمان رضي الله عنهما حميا وأشتهر في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً وقال
عمر رضي الله عنه والله لولا ما أحمل عليه في سبيل لله ما حميت من الأرض
شبراً في شبر رواه أبو عبيد وليس له أن يحمي قدراً يضيق به على الناس لأنه
إنما جاز للمصلحة فلا يجوز ذلك بضرر أكثر منها.
الشيخ: الحمى يقع كثيراً فقد تكون بعض الأراضي رياضاً طيبة تنبت العشب
والكلأ فيستولي عليها بعض الناس ويحميها ومعنى حمايته إياها أن يمنع الناس
من رعيها أو حَشِّها فهذا لا يجوز لأن الناس شركاء في ثلاث والأرض لله عز
وجل إلا أن ذلك يجوز بشروط ثلاثة:
أولاً أن يكون ذلك من الإمام.
والشرط الثاني أن يكون ذلك لمرعى دواب المسلمين.
والشرط الثالث أن لا يضر الناس بحيث لا يكون لهم مرعاً إلا هذا المكان.
فإذا تمت هذه الشروط الثلاثة جاز الحِمَى
وإلا فلا يجوز وبهذا نعرف نظر الشريعة إلى المصالح العامة أكثر من نظرها
إلى المصالح الخاصة وهذا كما هو الثابت في شرع الله فهو الثابت في قدر الله
فمراعاة المصالح العامة شرعاً وقدراً ظاهر جداً ففي الشريعة كما عرفنا أن
مراعاة المصالح العامة مقدم فيمنع من إحداث ضرر في الطريق أو من التضييق
على المسلمين ومن الحمى إلا بهذه الشروط الثلاثة، وكذلك في القدر فقد
يُنْزِلُ الله أمطاراً عظيمة والإنسان الذي قد يَصُّبُ عليه السقف فيضره
الماء ضرراً بيِّناً، لكن هل نقول هذا الضرر الجزئي بالنسبة للمصالح العامة
تكون الحكمة في منع المطر أو في وجوده؟ الجواب في وجود المطر ولا شك.
القارئ: وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا يملك
بالإحياء لأن ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم نص فلم يجز نقضه بالاجتهاد
وما حماه غيره من الأئمة جاز لغيره من الأئمة تغييره في أحد الوجهين وفي
الآخر ليس له ذلك لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد والأول أولى لأن الاجتهاد
في حماها في تلك المدة دون غيرها ولهذا ملك الحامي لها تغييرها.
الشيخ: قوله (لأن الاجتهاد في حماها في تلك المدة دون غيرها) نقول وأيضاً
ربما تتغير المصالح فقد يحميه الإمام الأول لمصلحة ثم تكون المصلحة أن
يُحْمَى غيره من جهة أخرى فالصواب أن ما حماه غير النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم فللإمام الثاني أن يغيره لأن الحِمَى تبع للمصلحة وحمى الأول إياه
من باب الاجتهاد والاجتهاد يتغير أما ما حماه النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم فإنه يبقى لأن حِمَاُه إياه صلى الله عليه وسلم كالحكم به وحكم النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا ينقض.
القارئ: وإن أحياه إنسان ملكه لأن حمى الأئمة اجتهاد وملك الأرض بإحيائها
نص فيقدم على الاجتهاد.
الشيخ: قوله (وإن أحياه إنسان ملكه) نقول
هو مَلَكَهُ لا شك في هذا لكن إذا رأى الإمام أخذه منه لئلا يتجرأ الناس
على انتهاك أحكام الإمام فله ذلك ويكون هذا من باب التعزير.
باب أحكام المياه
القارئ: وهي ضربان مباح وغيره.
الشيخ: قوله (وغيره) ليس معناه الحرام بل المراد المملوك فضد المباح هنا
المملوك.
القارئ: فغير المباح ما ينبع في أرض مملوكة فصاحبه أحق به لأنه يملكه في
رواية وفي الأخرى لا يملكه إلا أنه ليس لغيره دخول أرضه بغير إذنه وما فضل
عن حاجته لزمه بذله لسقي ماشية غيره لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته)
ولا يلزمه الحبل والدلو لأنه يتلف بالاستعمال فيتضرر به فأشبه بقية ماله
وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره فيه روايتان إحداهما لا يلزمه لأن الزرع
لا حرمة له في نفسه والثانية يلزمه لما روى إياس بن عبد (أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء) رواه أبو داود وإن لم يفضل عنه شيء لم
يلزمه بذله لأن الوعيد على منع الفضل يدل على جواز منع غيره ولأن ما يحتاج
إليه يستضر ببذله فلم يجب بذله كحبله ودلوه.
السائل: ذكر المؤلف في الرواية الثانية أنه يلزم بذل فضل الماء لما روى
إياس بن عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع فضل الماء) ما وجه
الدلالة من الحديث على وجوب بذل فضل الماء؟
الشيخ: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء فمعنى ذلك أنه
يجب بذله بدون بيع.
السائل: إذا حفر الإنسان بئراً وتعب في حفرها ربما أنفق أموال في حفرها فهل
يجب عليه أن يبذل فضل الماء وهل له أن يأخذ عوضاً عن هذا الماء؟
الشيخ: يجب عليه أن يبذل فضل الماء ولا
يأخذ عوضاً عنه لأنه إنما غَرِمَ لملكه ولكن إذا تأذى من إتيان الناس
بالماشية فإنه له أن يمنعهم أما إذا لم يكن يتأذى فالماء ماء الله عز وجل
ولست أنت الذي أجريته في الأرض وأما لو أخرجه وصبه في البركة فله أن يبيعه
لأنه مَلَكَه بالحيازة كما أنه لا يمنع الكلأ أي العشب الذي في أرضه لكن لو
أنه حصده ثم باعه فلا بأس.
السائل: ألا يعتبر الحفر حيازة؟
الشيخ: لا يعتبر حيازة لأن الحيازة هي أن يستخرج الماء.
السائل: كيف إذاً جعل للبئر حريم من جوانبها؟
الشيخ: نعم جعل ذلك لئلا يضايقه أحد فيحفر.
السائل: إذاً نقول إذا وصل من حفر هذه الحفرة إلى الماء جاز لغيره أن يأخذ
من هذا الماء؟
الشيخ: يجوز بشرط أن لا يكون هناك ضرر.
السائل: ما ذكرناه من الأحكام هل المقصود بها إذا كان الحَفْرُ في ملكه أم
أن المقصود إذا حفر في ملك غيره؟
الشيخ: المقصود إذا كان الحفر في ملكه أما إذا كان في غير ملكه فإنه يكون
قد حفرها لغيره.
القارئ: الضرب الثاني الماء النابع في
الموات فمن سبق إلى شيء منه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من
سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وإن أراد أن يسقي أرضاً وكان
الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه جاز أن يسقي كيف شاء لأنه لا ضرر فيه
على أحد وإن كان نهراً صغيرا أو من مياه الأمطار بدئ بمن في أول النهر
فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب ثم يرسل إلى الذي يليه كذلك إلى الآخِرِ
لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه بلغه أن رسول الله صلى
الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مَهْزورٍ ومُذَينيب (يمسك حتى يبلغ
الكعبين ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل) أخرجه مالك في الموطأ وعن عبد الله بن
الزبير أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها فقال
النبي صلى الله عليه وسلم (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب
الأنصاري فقال أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
قال يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر) متفق عليه وشراج الحرة
مسايل الماء جمع شرج وهو النهر الصغير ولأن السابق إلى أول النهر كالسابق
إلى أول المشرعة وإن كانت أرض الأول بعضها أنزل من بعض سقى كل واحدة على
حدتها.
الشيخ: صورة المسألة إذا كان أناس لهم
أملاك على جانب الوادي فالسابق بالإحياء أحق من غيره فيسقي ما زرعه حتى يصل
إلى الكعب أي أنه يجعل سداً في طريق الوادي حتى يسقي زرعه فإذا وصل إلى
الكعب أطلقت الماء للذي بعده هكذا حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وفي قصة الأنصاري رضي الله عنه وعفا عنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام (أن
كان ابن عمتك) يقصد الزبير بن العوام لأنه ابن صفية بنت عبد المطلب فهو ابن
عمته فكأنه يقول إنك حكمت له لأنه ابن عمتك وهذه كلمة عظيمة فيها اتهام
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حكمه ولكن النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم عامله بما تقتضيه حاله فإن الرجل غضب والإنسان إذا غضب لا يدري ما
يقول لأن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فلا يعي ما يقول ولهذا
إذا كان الغضب شديداً لم يترتب على قول الغاضب شيء لا طلاق ولا فسق ولا كفر
لأنه غير مُرِيد فهو كالمُلجَأ والمُكْرَه وأما حكم النبي صلى الله عليه
وسلم الثاني فقيل أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أذن للزبير في الأول أن
يسقي السقي الكافي ولو لم يصل إلى الكعب ثم لما قال الأنصاري هذا الكلام
احتفظ للزبير بحقه وجعله يسقي حتى يصل إلى الكعب كأنه في الأول عليه الصلاة
والسلام حابا الأنصاري لأن الزبير ابن عمته ومن باب الإدلال عليه فأمره أن
يسقي دون أن يرتفع الماء فلما قال الأنصاري هذا احتفظ النبي صلى الله عليه
وسلم للزبير بحقه وأمره أن يسقي إلي الكعب والجدر المذكور في حديث الزبير
هي الفواصل التي تُجعل بين حياض الماء وقد قاسوه فوجدوه يصل إلى الكعب كما
في الحديث الأول الذي في الموطأ.
القارئ: فإن أراد إنسان إحياء أرض على النهر بحيث إذا سقاها يستضر أهل
الأرض الشاربة منه منع منه لأن من ملك أرضاً كانت له حقوقها ومرافقها
واستحقاق السقي من هذا النهر من حقوقها فلا يملك غيره إبطاله
فصل
القارئ: فإن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها وكان بينهم على
ما اتفقوا عليه عند استخرجها فإن اتفقوا على سقي أرضهم منها بالمهأيأت جاز
وإن أرادوا قسمته بنصب حجر أو خشبة مستوية في مصطدم الماء فيها نقبان على
قدر حق كل واحد منهما جاز وتخرج حصة كل واحد منهما في ساقية منفردة.
الشيخ: صورة المسألة اشترك جماعة في حفر بئر فأخرج أحدهم نصف المؤونة
والثاني الثلث والثالث السدس فالماء الذي يخرج من هذه البئر يكون بينهم على
قدر أملاكهم وذلك بأن نضع حاجزاً خشبة أو صَبَّة مثلاً ويثقب فيها ثقوب
فيكون لصاحب النصف ثلاثة ثقوب ولصاحب الثلث ثقبان ولصاحب السدس ثقب واحد
ويتفرع من هذه الثقوب مجاري على أملاكهم فصاحب النصف يصرف إليه ما يخرج من
ثلاثة ثقوب وصاحب الثلث يصرف إليه ما يخرج من ثقبين وصاحب السدس يصرف إليه
ما يخرج من ثقب واحد ولكن لابد أن تتساوى هذه الثقوب بحيث لا يكون بعضها
أوسع من بعض، فإن قال قائل أرأيتم لو وضعنا لصاحب النصف ثقباً واسعاً
ولصاحب الثلث ثقباً واسعاً أقل سعة من الأول ولصاحب السدس ثقباً واحداً أقل
من الأول فهل يجوز؟ نقول نسأل أهل الخبرة في ذلك فإن كانت تختلف كمية الماء
التي تخرج من هذا الثقب الواحد الواسع والتي تخرج من الثلاثة ثقوب متساوية
فلا بأس وإن كانت تختلف لأن الثقب الواسع سيندفع منه من الماء أكثر من
الثلاثة ثقوب في الغالب لأن الثقوب الثلاثة تكون ضيقة والماء يحتاج إلى
اندفاع قوي فهنا نمنع من ذلك والمهم أن نرجع في ذلك إلى أهل الخبرة إذا قال
أهل الخبرة أنه لا فرق بين الثلاثة ثقوب أن الثقب الواسع بقدرها فلا بأس
وإلا فلا.
القارئ: وإن أراد أحدهما أن يسقي بنصيبه
أرضاً لا حق لها في الشرب منه فله ذلك لأن الماء لا حق لغيره فيه فكان له
التصرف فيه كيف شاء كما لو انفرد بالعين وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه
يجعل لهذه الأرض رسماً في الشرب منه فمنع منه كما لو كان له داران
متلاصقتان في دربين أراد فتح إحداهما إلى الأخرى.
الشيخ: الصحيح أن ذلك جائز وعليه لا يصح الأصل الذي ذكره المؤلف ولا الفرع
المقيس عليه.
القارئ: وليس لأحدهما فتح ساقية في جانب النهر قبل المقسم يأخذ حقه فيها
ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء ولا غير ذلك لأن حريم النهر
مشترك فلم يملك التصرف فيه بغير إذن شريكه.
فصل
القارئ: ومن سبق إلى مباح كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين وثمر الشجر
المباح والبلح وما ينبذه الناس رغبة عنه فهو أحق به للخبر فإن استبق إليه
اثنان قسم بينهما لأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في المملوك به كما لو
ابتاعاه.
السائل: إذا كان هناك نهر جارٍ وفي أوله مزرعة كبيرة وفي آخره مزرعة آخرى
فإذا سقى الأول صاحب المزرعة الكبيرة أخذ كل الماء تقريباً ولا يبقى للثاني
ماء يسقي منه فكيف نقسم الماء بينهما؟
الشيخ: يعطى الأول حقه كاملاً إلا إذا سمح.
السائل: ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير والأنصاري هل هو
حكم ملزم أم يجوز للمزارعين يتصالحوا على غير ذلك؟
الشيخ: الحق لهم فإذا سَمَحَ من له الحق أن يقتصر على أقل مما يجب له فلا
بأس.
السائل: هل لهم أن يتصالحوا على أن لكل واحد منهم زمن معين يسقي فيه؟
الشيخ: لا بأس في ذلك فيكون مهأيأت، لكن في الحقيقة هذا فيه جهالة خصوصاً
إذا كان الوادي من الأمطار لأنه لا يُدْرَى أيأتي المطر في زمن هذا دون
الآخر أو لا، فيكون فيه جهالة عظيمة أما النهر إذا كان واسعاً كبيراً
معروفاً فأمره واضح.
السائل: تمثيل المؤلف للمباح بالسنبل الذي ينتثر من الحصادين هل معنى هذا
أنه يجوز أخذه بدون أذنهم؟
الشيخ: نعم لأن الحصادين لا يريدونه لا
سيما في زمن الرخاء والغناء وكان الناس يفعلون هذا عندنا فيأخذون السنبل
والتمر الذي يتساقط عند الجذاذ وهذا عرف مطرد أنهم تركوه رغبة عنه ولهذا
إذا كانوا يريدون أن يأخذوه حرصوا على أن يأخذوه قبل.
|